তাসাউউফ: ইসলামে আধ্যাত্মিক বিপ্লব
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
জনগুলি
تصدير
مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه
التصوف والفلسفة
التجربة الصوفية
الوعي الصوفي
أصل كلمتي صوفي ومتصوف وتعريفاتهما
تعريفات التصوف والصوفي
نشأة التصوف الإسلامي والعوامل التي أثرت فيه
النظريات التي قيلت في أصل التصوف
العوامل التي ساعدت على نشأة الزهد في الإسلام
অজানা পৃষ্ঠা
مصادر التصوف الإسلامي
أدوار التصوف ومدارسه
الثورة الروحية في التصوف
طريقة استنباط معاني القرآن
الحقيقة والشريعة
الطريقة والحقيقة
الطريقة ومجاهدة النفس
ثورة الصوفية على علم الكلام والفلسفة
ثورة التصوف في مجال التوحيد
التوحيد والفناء الصوفي
অজানা পৃষ্ঠা
وحدة الشهود ووحدة الوجود
وحدة الوجود في مذهب ابن عربي
وحدة الوجود والتجربة الصوفية
ثورة التصوف في مجال الحب الإلهي
المحبة الإلهية في التصوف البحت
النظريات الفلسفية في المحبة الإلهية
المحبة الإلهية والأخلاق الصوفية
المحبة الإلهية والمعرفة
لغة الحب الإلهي وأسلوبها الرمزي
ثورة التصوف في مجال المعرفة
অজানা পৃষ্ঠা
ثورة التصوف في مجال الذكر
الذكر وأحوال الجذب والإشراق
الحياة الصوفية في ظل المرشدين وأصحاب الفرق
المشاهدة والإشراق
الولاية في التصوف الإسلامي
خاتم الأولياء
مراجع
تصدير
مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه
التصوف والفلسفة
অজানা পৃষ্ঠা
التجربة الصوفية
الوعي الصوفي
أصل كلمتي صوفي ومتصوف وتعريفاتهما
تعريفات التصوف والصوفي
نشأة التصوف الإسلامي والعوامل التي أثرت فيه
النظريات التي قيلت في أصل التصوف
العوامل التي ساعدت على نشأة الزهد في الإسلام
مصادر التصوف الإسلامي
أدوار التصوف ومدارسه
الثورة الروحية في التصوف
অজানা পৃষ্ঠা
طريقة استنباط معاني القرآن
الحقيقة والشريعة
الطريقة والحقيقة
الطريقة ومجاهدة النفس
ثورة الصوفية على علم الكلام والفلسفة
ثورة التصوف في مجال التوحيد
التوحيد والفناء الصوفي
وحدة الشهود ووحدة الوجود
وحدة الوجود في مذهب ابن عربي
وحدة الوجود والتجربة الصوفية
অজানা পৃষ্ঠা
ثورة التصوف في مجال الحب الإلهي
المحبة الإلهية في التصوف البحت
النظريات الفلسفية في المحبة الإلهية
المحبة الإلهية والأخلاق الصوفية
المحبة الإلهية والمعرفة
لغة الحب الإلهي وأسلوبها الرمزي
ثورة التصوف في مجال المعرفة
ثورة التصوف في مجال الذكر
الذكر وأحوال الجذب والإشراق
الحياة الصوفية في ظل المرشدين وأصحاب الفرق
অজানা পৃষ্ঠা
المشاهدة والإشراق
الولاية في التصوف الإسلامي
خاتم الأولياء
مراجع
التصوف
التصوف
الثورة الروحية في الإسلام
تأليف
أبو العلا عفيفي
تصدير
অজানা পৃষ্ঠা
منذ زمن بعيد وأنا أعمل في ميدان الفلسفة الإسلامية قارئا أو كاتبا أو محاضرا، أسجل ما عن لي من ملاحظات على التيارات الفكرية والروحية التي اضطرب بها ذلك الخضم العظيم، وأرقب الجهود المتنوعة التي بذلها كبار المفكرين والروحانيين الإسلاميين في سبيل التوفيق بين دينهم والعناصر الثقافية المتعددة التي تسربت إليه.
وقد صحبت خلال هذه الحقبة الطويلة أنواعا مختلفة من المفكرين الإسلاميين كما صحبت الصوفية المتفلسفين منهم وغير المتفلسفين: وعرفت منهم من له أصالة وابتكار وتجديد، ومن جمد على التقليد لا يتعداه، كما عرفت منهم المخلص الصادق، والدخيل الزائف، وظهر لي ذلك الميدان الواسع في صورة معرض عام تعرض فيه الآراء والنظريات والاتجاهات بشتى أنواعها.
ولكني لم أر جزءا من أجزاء هذا الميدان الفلسفي الروحي أكثر خصبا وإشراقا، ولا أعمق تأثيرا في توجيه الحياة الروحية في الإسلام؛ من التصوف الذي يلتقي فيه هذا الدين مع غيره من الديانات العالمية الكبرى.
وليس لباحث في دين من الأديان أن يقول الكلمة الفاصلة فيه معتمدا على أصوله ونصوصه الأولى وحدها، بل لا بد له - وهو يرسم الصورة الشاملة لهذا الدين - من أن يجمع في صورته هذه بين الأصول والنصوص وبين التفسيرات والتأويلات التي وضعها عليها كبار رجال هذا الدين الذين قضوا حياتهم في ظله وأسهموا في توجيهه وتطوره، وكانوا مراكز فعل وانفعال في البيئات المختلفة التي انتشر فيها؛ ولهذا اختلفت الصور وتعددت للدين الواحد، تبعا لاختلاف وتعدد المرايا التي تنعكس عليها جهود هؤلاء المفسرين والمئولين، وقد خضع الإسلام في تاريخه الطويل لما خضعت له الأديان العالمية الكبرى من ضروب الدرس والفهم والتفسير والتأويل، وظهرت فيه - بفضل ذلك - اتجاهات ونظريات في العقائد والعبادات والمعاملات بنيت عليها مذاهب في الفلسفة والفقه، ومدارس في الكلام والتصوف، وبين هذه المذاهب والمدارس ما بينها من التعارض والتناقض أحيانا. فالفلاسفة لهم تصورهم الخاص للعالم وللدين والألوهية، والصلة بين الله والعالم، وللفقهاء نظرتهم الخاصة إلى العبادات والمعاملات، والصلة بين العبد وربه، وبين الناس بعضهم مع بعض.
وللمتكلمين فهمم الخاص لأمهات العقائد الإيمانية وطرق الدفاع عنها، وللصوفية موقفهم الخاص من هذه المسائل جميعا، ولا تختلف كل واحدة من هذه الطوائف عن غيرها من الطوائف الأخرى وحسب، بل يختلف أفراد كل طائفة فيما بينهم: فإن الفلاسفة ليسوا سواء، والمتكلمون والصوفية ليسوا بمثابة واحدة، وإن كانت هنالك خصائص عامة في المنزع والمنهج يتفق فيها أفراد كل طائفة.
ولكن الجميع ينتمون إلى الإسلام ويتكلمون باسمه ويصورون الإسلام لغيرهم كما تصوروه هم أنفسهم، وهم في كل هذا مجتهدون، إن أخطئوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران، ومن حقهم علينا أن ندين لهم بالفضل والشكر وأن نحاول أن نتفهم آراءهم وندرك مراميهم ونضعهم في سجل التراث الفكري الإسلامي أولا، والتراث الفكري العالمي بعد ذلك، وألا نسارع فنتهم هذا بالكفر وذلك بالزندقة وثالثا بالابتداع لا لسبب سوى أنه قال بمقالة خالف فيها «الأشعري» إذا كان متكلما أو قال بما قال به «ابن سينا» إذا كان فيلسوفا، فإن الرمي بالكفر والإلحاد والزندقة - إلا في حالة من تقطع الأدلة بثبوت كفره أو إلحاده أو زندقته - سلاح العاجز الجاهل الذي يسيء إلى دينه وإلى المسلمين أكثر مما يحسن إليه وإليهم.
والحقيقة أنه ليس في فهم مسائل الدين وتأويلها ما يصح أن نسميه صادقا أو كاذبا، ما دام قائما على أساس من الكتاب والسنة، وما دام المتأول لا يخرج بالنص عن المعاني التي جرى بها العرف في اللسان العربي. بل أقصى ما يجب أن توصف به تأويلات المتأولين هو أنها حرفية ضيقة، أو متحررة واسعة، أو أنها أكثر عمقا في الروحانية أو أنسب لموضوعها وهكذا، وإلا فأي الفهمين صواب وأيهما خطأ في تفسير قوله تعالى:
يد الله فوق أيديهم
وقوله:
الرحمن على العرش استوى : فهم «اليد» بمعنى اليد، والاستواء بمعنى الجلوس، والعرش بمعنى سرير الملك، أم فهم اليد بمعنى القدرة أو النعمة، والاستواء بمعنى الاستيلاء، والعرش بمعنى الملك؟ وأي الرأيين خطأ وأيهما صواب في مسألة خلق القرآن وقدمه، أهو القول بأنه مخلوق لأنه مؤلف من ألفاظ وحروف، أم القول بأنه قديم لأنه كلام الله وكلام الله صفة قديمة؟ وأي التعريفين صواب وأيهما خطأ: «الصلاة أفعال وأقوال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم» كما يقول الفقهاء، أو «الصلاة مناجاة قلبية بين العبد والرب» كما يقول الصوفية؟ وأي النظرين صادق وأيهما كاذب: النظر إلى الله باعتباره معبودا، أم النظر إليه باعتباره محبوبا أولا ومعبودا ثانيا؛ لأن العبادة فرع المحبة؟
অজানা পৃষ্ঠা
المسألة إذن ليست مسألة صدق وكذب، أو صواب وخطأ، بل هي مسألة عمق أو ضحالة في درجة الروحانية التي تظهر في فهم الإسلام وتعاليمه كما نراهما مفصلين في التراث العقلي والروحي الذي خلفه المسلمون. •••
ولما كان التصوف في نظري أروع صفحة تتجلى فيها روحانية الإسلام، وتفسيرا عميقا لهذا الدين فيه إشباع للعاطفة وتغذية للقلب، في مقابلة التفسير العقلي الجاف الذي وضعه المتكلمون والفلاسفة، والتفسير الصوري القاصر الذي وضعه الفقهاء، كتبت هذه الصفحات لأبرز فيها بعض معالم الصورة التي يتلخص فيها موقف الصوفية من الدين والله والعالم: ذلك الموقف الذي رضيه الصوفية واطمأنوا إليه وطالبوا به أنفسهم ولم يطالبوا به غيرهم، وسميت هذا الموقف «الثورة الروحية في الإسلام» لأن التصوف كان انقلابا عارما على الأوضاع والمفاهيم الإسلامية كما حددها الفقهاء والمتكلمون والفلاسفة، وهو الذي بث في تعاليم الإسلام روحا جديدة أدرك مغزاها من أدركه، وأساء فهمها من أساءه.
ولست أدعي أنني عالجت في هذه الصفحات التصوف برمته من ناحية موضوعاته أو تاريخه، فإنني لم أتجاوز في العرض متصوفة القرن السابع إلا قليلا، ولم أذكر شيئا عن الطرق الصوفية ومشايخها، وكان معظمهم من كبار الروحانيين، وذلك لأني لا أرى في تصوفهم الكثير مما زادوا فيه على الصوفية السابقين عليهم، ولم أعرض للنواحي التاريخية المتصلة بترجمات الصوفية إلا في أضيق الحدود. أما تفاصيل سيرهم فقد أغفلتها إغفالا تاما.
ولم أذكر من الصوفية إلا من كانت لهم صلة بالمسائل التي أثرتها وناقشتها، ولكني كنت حريصا أن أذكر أكبر عدد من كبار المشايخ في القرنين الثالث والرابع اللذين يمثلان التصوف الإسلامي البحت في أرقى مظاهره وأصفاها؛ ولذا جاء الجزء الأكبر من مادة الكتاب متصلا بتصوف هؤلاء أكثر من اتصاله بغيرهم.
وبعد، فهذه محاولة لفهم التصوف وحياة الصوفية في الإسلام كما استطعت أن أستجلبها من أقوالهم، وعرض عام للصورة التي يظهر فيها اختلافهم عن غيرهم من طوائف طالبي الحقيقة كما يسميهم الغزالي، في فهمهم لهذه الحقيقة ومنهجهم في الوصول إليها، وقد يذهب بعض الباحثين إلى غير ما ذهبت إليه من تأويل لبعض أقوال الصوفية أو تخريج لها أو تعليق عليها أو في استخلاص هذه النظرية أو تلك منها، فقد ذكرت من قبل أن باب الاجتهاد في هذا النحو من البحث لا يزال مفتوحا، وإنني أرحب بالمعارضة ولا أرى فيها بأسا ما دامت حجج المعارض نزيهة قوية سليمة مدعمة بالأسانيد، والتدعيم بالأسانيد المستمدة من القرآن والحديث وأقوال الصوفية أنفسهم كان ألزم ما التزمناه في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه
التصوف ظاهرة عالمية
من الناس أفراد يتمثل فيهم النضج العقلي والروحي في أعلى مراتبه، أو قل تتمثل فيهم الإنسانية في أعلى مراتبها وأطوارها إذا اعتبرنا جوهر الإنسان وحقيقته عقله وروحه، وقد اختلفت الأسماء التي أطلقت على هؤلاء الأفراد في العصور المختلفة، ولكنهم جميعا يدخلون تحت مقولة عامة هي التي نسميها «الإنسان الكامل»، ومهما تكن المظاهر المختلفة التي يظهر فيها نضجهم الروحي، والوسائل المتباينة التي يتخذونها في التعبير عنه، بل مهما يكن من اختلافهم فيما يختلف فيه أفراد الناس عامة من حيث المشارب والنزعات والبيئة واللغة والدين، فإنهم يشتركون جميعا في صفة واحدة عامة تتمثل في موقفهم من الوجود وحقيقته: ذلك أن لكل إنسان - بما هو إنسان - موقفا خاصا من حقيقة الوجود، أو فلسفة خاصة في طبيعة الوجود، أدرك ذلك من نفسه أم لم يدركه، وعرف أن له من أجل ذلك فلسفة في الحياة أم لم يعرف. ذلك الموقف الواحد العام الذي يشترك فيه هؤلاء القوم الذين نتحدث عنهم يتلخص في أنهم ينكرون إنكارا باتا أن «الحقيقة» هي ذلك العالم الواقع المحسوس؛ لأن الواقع المحسوس الذي يتشبث به غيرهم ممن هم أقل منهم نضجا في العقل والروح ويكادون يقدسونه، لا يشبع في طائفتنا نزعاتهم الروحية العالية، ولا يروي فيهم غلة الشوق إلى معرفة «الحقيقة» المجردة التي تصبو نفوسهم إلى معرفتها والاتصال بها. فهم يحاولون - على حد قول خصومهم - أن ينكروا الوجود لكي يصلوا إلى الوجود؛ أي ينكروا الوجود الظاهر لكي يصلوا إلى حقيقة الوجود.
نجد هؤلاء القوم في الشرق والغرب، في العالم القديم والمتوسط والحديث بين أهل الديانات الوثنية القديمة وأهل الديانات السماوية، وكأنهم جميعا صبوا من حيث روحانيتهم في قالب واحد، واستمدوا تلك الروحانية من نبع واحد، بل كأن قبسا من نور غير نور هذا العالم يسري في كيانهم، وينير السبيل أمامهم لنيل مطلبهم، وهذه الظاهرة طالما استرعت أنظار القدماء وأشارت إليها مذاهب اللاهوت بأساليب مختلفة. ففلاسفة اليهود - وعلى رأسهم فيلون الإسكندري - يرون أن مصدر الوحي والنبوة واحد في جميع العصور هو ما أطلقوا عليه اسم «الكلمة الإلهية»، وكلمنت أحد كبار رجال اللاهوت المسيحي يصف «الكلمة الإلهية» (المسيح) بأنها القوة العاقلة التي كانت في الوجود قبل أن تتجسد في الصورة الناسوتية (صورة المسيح) وأنها مصدر الحياة والوجود في الكون، كما أنها مصدر الوحي والإلهام والمعرفة، وأنها هي التي تكلمت بلسان موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء، ونطقت بلسان فلاسفة اليونان وأوحت إليهم بحكمتهم، ويصف بعض متصوفة المسلمين كابن عربي «الحقيقة المحمدية» بمثل ما وصف به فيلون وكلمنت «الكلمة الإلهية»، فيعدها منبع الفيض الروحي والعلم الباطن، وكذلك يتصور الشيعة انتقال العلم الباطن بواسطة نوع من الوراثة الروحية عن أصل واحد.
فإن دلت هذه الآراء على شيء فإنما تدل على اقتناع قائليها بأن ثمة طائفة من الظواهر الروحية فوق الطور البشري العادي، وأنها متفقة في خصائصها ومميزاتها، ثم رد هذه الظواهر إلى أصل واحد يظهر في كل من أفراد «الإنسان الكامل» بحسب ما توحي به بيئته ودينه وثقافته، كأن هؤلاء الأفراد الذي يلهمون ويوحى إليهم ويتصلون بعالم الحقيقة عن طريق الوحي والإلهام، فرد واحد يتجدد ظهوره مع دورات الزمن، أو كأنهم روح واحدة تتقمص في كل زمان صورة جديدة من صور «الإنسان الكامل».
অজানা পৃষ্ঠা
من هذا الصنف الملهم المتصل بالعالم الروحي طائفة الصوفية، لا صوفية الإسلام فحسب، بل صوفية كل دين. أما الهدف الذي يهدفون إليه ويكرسون حياتهم له، فهو الوصول إلى الحقيقة، أو الاتصال بها عن طريق حالة روحية خاصة يدركونها فيها إدراكا ذوقيا مباشرا. في هذا المطلب تتمثل الحياة عندهم ومن أجله يبذلون كل عزيز لديهم بما في ذلك أرواحهم، ولسنا بحاجة إلى ذكر أمثلة من تاريخ الاضطهاد الديني الذي لاقى فيه أولئك الذين حملوا الشعلة المقدسة ضروب العنت والاضطهاد من معاصريهم، بل لاقوا حتفهم شنقا أو صلبا أو إحراقا، فإن تاريخ الإنسانية حافل بالكثير من هذه الأمثلة.
أما الدليل القاطع على صدق نزعتهم فاستمساكهم بمبادئهم وتشبثهم برسالاتهم رغم أساليب الاضطهاد والتعذيب والسخرية، وأمام عواصف الإنذار والتهديد، وإن تلمسنا دليلا آخر على صدقهم، فاتفاقهم في غاياتهم وأساليبهم رغم اختلاف ديارهم وأجناسهم وأديانهم، وفيما أثر عنهم من التجارب الروحية التي تختلف في تفاصيلها وأشكالها وصورها، وتتفق في جوهرها ونتائجها، دليل ثالث لا بد لنا من تقدير وزنه قبل أن نقول الكلمة الفاصلة عن النشاط الروحي عند الإنسان وصلته بذلك العالم غير المادي وغير المحسوس.
والواقع أن كل إنسان قد أحب يوما ما ذلك «الوجود المحجوب» الذي يطلقون عليه اسم «الحقيقة»؛ ذلك لأن الحقيقة شيء أولع الإنسان بالاهتداء إليه منذ أن بدأ يفكر في نفسه وفي العالم المحيط به ليتعرف أسبابه وأسراره ومبدأه ومصيره، ولكن هذا الحب المتأصل في النفس الإنسانية، الذي من شأنه أن يدفع بصاحبه نحو البحث عن الحقيقة لمعرفتها والاتصال بها - كما تدفعه غريزة الجوع دفعا إلى البحث عن الطعام - قد تعوقه العوائق عن الوصول إلى غايته فيضعف أو يموت، ولكنه إن مات في بعض النفوس فقد يظل يضطرب في نفوس أخرى مع اختلاف أصحابها اختلافا بينا في طرق حبهم للحقيقة، وفي المجالي التي يشاهدونها فيها. فقد يرى بعضهم الحقيقة على نحو ما رأى «دانتي» الشاعر الإيطالي محبوبته «بياترس» شيئا يمت إلى هذا العالم بصلة، ولكنه يكشف لنا عن عالم آخر، وقد يراها الشاعر في حلمه الشعري، والمتدين الورع في محرابه، والصوفي في قلبه، ورجل الفن في جمال الكون وهكذا.
ولكن مهما اختلفت الأساليب التي عبر بها طلاب الحقيقة، ومهما تباينت الأسماء التي يسمونها بها، فإن الصوفية وحدهم هم الذين يذكرون صراحة أنهم شاهدوها وجها لوجه واتصلوا بها، وفي دعواهم هذه نغمة من اليقين وصدق الإيمان. أما غيرهم - في نظرهم - فقد أخفقوا وباءوا بالفشل.
والبحث عن حقيقة لا مادية ولا متغيرة، وأزلية غير حادثة، وواحدة غير متكثرة، قديم قدم الفلسفة، بل قدم العقل الإنساني؛ ذلك أن العالم المحسوس حافل بالظواهر المتكثرة المتغيرة، وطالب الحقيقة المطلقة يطلبها واحدة غير متكثرة، وثابتة غير متغيرة، والعالم المحسوس حافل بالأحداث المعلولة، وطالب الحقيقة يطلبها غنية في ذاتها غير معلولة لغيرها، والعالم المحسوس متناه محدود بحدود الزمان والمكان، وطالب الحقيقة يطلبها وجودا لا متناهيا خارجا عن حدود الزمان والمكان؛ لهذا كله تجاوز العقل البشري في طلبه للحقيقة كل مقولات العالم المحسوس، وأخذ نفسه بالبحث عن عالم آخر يستطيع أن يطبق عليه مقولات مضادة، وظهر ذلك التجاوز عن العالم المحسوس في جميع أدوار تطور الفكر البشري من غير استثناء، واتخذ لنفسه صورا شتى كانت بدائية في أول الأمر، ثم رقت وتعقدت بمرور الزمن وتطور الحضارة وتعقدها، وكان منها الفلسفي والديني كما كان منها الصوفي ذو النزعة الدينية.
التصوف والفلسفة
من بين الأساليب المتعددة التي حاولت الإنسانية أن تشبع بها رغبتها في معرفة «الحقيقة» أسلوبان هامان لا يزالان يتنازعان قصب السبق في مضمار الحياة الروحية وما يكتنفها من أسرار، وهما أسلوبا الفلسفة والتصوف.
وإذا كان غرضنا أن نرسم صورة لمعراج النفس نحو هدفها الأعلى ونبين - على الأقل - بعض الطرق التي سلكها رواد الحقيقة للوصول إليها، كان لزاما علينا أن نوضح الفروق الجوهرية التي يتميز بها كل من التصوف والفلسفة، والوسائل التي اصطنعاها في الوصول إلى غايتهما المشتركة، والأدوات النفسية التي اتخذاها عمادا لهما في تحقيق غرضهما، ثم نقدر بعد كل هذا النتائج التي حصلها الفلاسفة والصوفية بهذه الأدوات والوسائل ليتبين لنا مدى قرب كل من الفريقين أو بعده من الهدف الذي نصب نفسه للوصول إليه، ولكن هذه مسائل يحتاج تفصيلها إلى كتاب برمته؛ ولهذا سنلجأ في عرضها هنا إلى الإيجاز وسنقصر همنا على معالجة النواحي التي تكفي في بيان أن المعراج الروحي الحقيقي إلى عالم الحقيقة هو المعراج الصوفي لا الفلسفي.
التصوف في جوهره «حال» أو «تجربة روحية» خاصة يعانيها الصوفي، ولتلك الحال من الصفات والخصائص ما يكفي في تمييزها عن غيرها مما تعانيه النفس الإنسانية من أحوال أخرى، وفي هذا القدر وحده ما يكفي للقول بأن التصوف ليس فلسفة إذا قصدنا بالفلسفة البحث العقلي النظري في طبيعة الوجود بقصد الوصول إلى نظرية عامة خالية من التناقض عن حقيقته أو حقيقة أي جزء من أجزائه، وليس للصوفي - من حيث هو صوفي - أن يتفلسف بأن يتخذ من تجربته الروحية أساسا لنظرية ميتافيزيقية في طبيعة الوجود؛ لأن النظرية الميتافيزيقية «دعوى» يقال لها إنها صادقة أو كاذبة ويطالب صاحبها بالدليل على صدقها وسلامتها من التناقض، فينبغي ألا يكون أساسها «تجربة» شخصية أو «حالا» معينة يعانيها فرد بعينه؛ لأن مثل هذه الحال لا يقال فيها إنها صادقة أو كاذبة ولا يطالب صاحبها بإقامة الدليل عليها، بل الناس في أمره بين شيئين؛ إما أن يصدقوا ما يخبرهم به أو يضربوا بكلامه عرض الحائط.
ولكن بعض الفلاسفة كانوا متصوفة أيضا كأفلاطون وأفلوطين من القدماء وأسبنوزا من المحدثين، وبعض الصوفية كابن عربي والسهروردي الحلبي وابن سبعين، هل نذهب في تعليل ذلك إلى ما ذهب إليه بعض النقاد من أن أمثال هؤلاء الفلاسفة المتصوفين والصوفية المتفلسفين كان لهم بالفطرة «مزاج أفلاطوني»: أي مزاج فلسفي شعري، وأن تصوفهم كان نتيجة لتفاعل ذلك المزاج مع الدين؟ أم نذهب إلى عكس ذلك؛ أي إلى أن مزاجهم - مزاجهم الأفلاطوني - كان نتيجة للتفاعل بين نزعتين فيهم؛ إحداهما عقلية والأخرى صوفية؛ وعلى الرأي الأول يكون تصوفهم نتيجة لعمل فلسفي خاص في الدين، وهو المزاج الذي يسمونه بالمزاج الأفلاطوني، وعلى الثاني تكون فلسفة المتصوفة نتيجة لمحاولة العقل تفسير التجربة الصوفية وما تكشفه لصاحبها من الحقائق، ويلزم من هذا أن التجربة الصوفية سابقة في وجودها على حركة العقل التفسيرية هذه، ونحن أميل إلى الأخذ بالرأي الثاني؛ لأنه تؤيده الوقائع التاريخية المستخلصة من حياة الصوفية أنفسهم: وضع أفلوطين فلسفة عقلية أولا، فلما تصوف تجاوز حدود هذه الفلسفة وحاول أن يخضع فلسفته لتصوفه لا تصوفه لفلسفته؛ أي حاول أن يجعل من تصوفه تأييدا لفلسفته ومن فلسفته تفسيرا لما شاهده في «حاله»، وكذلك فعل ابن عربي، وكذلك رأى الغزالي أن «العلم» وحده لا يجعل من العالم صوفيا، وأن جميع ما حصله من العلوم - بما في ذلك علم التصوف نفسه - لا يغني فتيلا في تحصيل حالات الصوفية والوصول إلى معارفهم، وأنه - لكي يتذوق مذاق القوم - لا بد أن يسلك طريقهم ويجاهد مجاهداتهم، وفي هذا يقول في الصوفية بعد أن درس كتبهم ووقف على أقوالهم:
অজানা পৃষ্ঠা
وظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم «الإنسان» حال الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان، وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكران. فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا. فعلمت يقينا أنهم (أي الصوفية) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلت ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك.
1
هذه شهادة صريحة من الغزالي بأن التصوف في صميمه «تجربة روحية» وأنه شيء مختلف تمام الاختلاف عن العلم وعن الفلسفة: لا يكتسب بهما ولا يستند إليهما، وأنه ليس نتيجة لعمل مزاج فلسفي خاص في المسائل الدينية؛ أي ليس وليدا لعمل عقل ذي مزاج فلسفي خاص هو «المزاج الأفلاطوني» على حد تعبيرهم، بل هو وليد العمل والمجاهدة النفسية، أو السلوك المرسوم في الطريق الصوفي. فإذا كان للصوفي فلسفة كانت هذه الفلسفة تأييدا لمشاهداته الصوفية وتجاربه وليست شيئا مستقلا عنها. هذا إذن فرق جوهري وأساسي بين طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة من حيث هما طريقان لمعرفة الوجود المطلق أو الوجود الحق. هذا عالم وذلك عالم آخر. التصوف تجربة تتجه فيها «الإرادة» الإنسانية نحو موضوعها الذي تتعشقه وتفنى فيه، فتعرفه النفس عن طريق الاتحاد به معرفة ذوقية كما سبق أن قلنا، وكما سنوضحه في الفصل الذي عقدناه في المعرفة الصوفية. فالصوفي يعرف «المطلق» اللامتناهي بقدر ما يتجلى له ذلك المطلق في قلبه، ومعرفته له وشهوده إياه واتحاده به شيء واحد، أو هي تعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة. أما الفلسفة فعمل من أعمال العقل المقيد بمقولاته، العاجز عن أن يتحرر من الحبالات التي نصبها حول نفسه؛ ليتخبط فيها ولا يرى لنفسه خلاصا منها. يحاول الفيلسوف إدراك اللامتناهي بأدوات لا تعرف إلا المقيد المتناهي، ويطبق مقولات هذا العالم على عالم ليس من طبيعته الخضوع لهذه المقولات. هذا هو السر في فشل «ما بعد الطبيعة» كما أدركه الفيلسوف «كانت». •••
ينفرد التصوف من بين جميع الأساليب التي حاول الإنسان أن يشبع بها رغبته في معرفة الحقيقة بأنه لا يفترض وجود «حقيقة مطلقة» وحسب، بل حقيقة مطلقة يمكن معرفتها والاتصال بها، فهو ينكر أن المعرفة الإنسانية قاصرة على معطيات الحس أو على نتائج أساليب الفكر، أو على تكشف ما ينطوي عليه العقل من معلومات، فإن هذا تحديد لمدى النشاط الروحي عند الإنسان، وتخطيط ناقص لميدان الحياة الروحية؛ ولهذا وجب أن نتلمس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطقهم، في ذلك القبس الإلهي الذي ينير صدورهم، وفي ذلك الشهود الذي يتحدثون عنه والمعرفة التي يتذوقونها: لا أقول التي يدركونها عقلا أو التي يستطيعون التعبير عنها، فإن الإدراك العقلي والقدرة على التعبير من أعمال العقل، ونحن بإزاء أمور فوق طور العقل.
في الحياة الصوفية وحدها يعرف الصوفي الحقيقية الوجودية في ذاتها، كما يعرف صلته بها ؛ لأنه يحمل قبسا من نورها في قلبه، وشبيه الشيء منجذب إليه، والفرع دائم الحنين إلى أصله، وبينما يهيم الفيلسوف في ميدان العقل لا يبرحه، يتجاوز الصوفي ميدان العقل إلى ميدان الوجدان والإرادة أو ميدان الحرية المطلقة، وبينما يظل الأول يدور في دائرته المغلقة يناقش ويجادل ويعترض ويفترض، ولا يصل - إن وصل - إلا إلى فكرة عن الحقيقة لا حياة فيها ولا روح، حقيقة صورية محضة لا تتصل بنفسه بصلة، يحيا الثاني حياة روحية خصبة يشعر فيها بالسعادة العظمى، لا من جراء معرفته بالحقيقة فحسب، بل من أجل اتصاله بها وشعوره بالاتحاد معها، وهنا ينطق بلغته الخاصة محاولا التعبير عما في نفسه، وإن كان أكثر ما ينطق به من قبيل الرمز الحائر والأسلوب الغامض الذي لا يفهمه إلا من تذوق أحواله، وفي هذا يقول قائلهم في لهجة المطمئن الواثق: «ذق مذاق القوم ثم انظر ماذا ترى. إن علومنا ذوقية محضة وعلينا أن ندلك على الطريق وليس علينا إدراك النتائج. قد أتيناك فاعلين لا قائلين ولا مفكرين، فدع عنك ثقتك العمياء في الحس والعقل ودع عنك غفلتك، واعلم أن الفلسفة إن علمتك شيئا فقد علمتك نهاية الشوط الذي تستطيع أن تجري فيه في ميدان العقل، ولكنها لا تخبرك بشيء عن الميادين الأخرى التي في استطاعتك أن تجري فيها.» هذا تعبير آخر عن نفس المعاني التي ضمنها الغزالي عبارته التي اقتبسناها آنفا.
التجربة الصوفية
إن المحور الذي يدور حوله بحث الباحثين في الحياة الصوفية هو «التجربة الصوفية» التي أطلق عليها الصوفية أنفسهم اسم «الحال» ووصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يتصل فيها العبد بربه، أو يتصل فيها المتناهي باللامتناهي، كما وصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يحصل لهم فيها الإشراق، ويفيض عليهم فيها العلم الذوقي، وليست هذه الحال من أحوال العقل الواعي، وإلا كانت خاضعة للعقل وقوانينه، وإنما هي حالة من حالات الوجود الباطن المتحفز للإعلان عن نفسه في كل ضروب النشاط الروحي. بعبارة أخرى هي حال من أحوال «الإرادة» بمعنى مطلق النزوع لا بمعنى الاختيار ، واتصال الإرادة المتناهية بالإرادة اللامتناهية، وانمحاؤها فيها هو ما عبر عنه الصوفية تعبيرا دقيقا باسم الفناء في الله.
وقد اعتبر صوفية المسلمين الإرادة - لا العقل - جوهر الإلهية، كما اعتبروا الإرادة - لا العقل - جوهر الإنسان. فالإرادة عندهم نقطة الابتداء من جهة، ونقطة الانتهاء من جهة أخرى؛ إذ بالإرادة وحدها يثبتون وجودهم وعن طريق الإرادة وحدها يتصلون بمطلوبهم أو يصلون إلى مطلوبهم وهو الله. فالصوفي لا يقول كما قال ديكارت: «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود.» بل يقول: «أنا أريد، وإذن فأنا موجود.» ولكن إرادته - في نظره - ليست على الحقيقة الإرادة الإنسانية المتناهية، بل الإرادة الإلهية المطلقة؛ لأنه فان في الله، متحقق (في حاله) بوحدته الذاتية معه، يرى كل ما يجري في نفسه وفي الكون الذي حوله مظهرا من مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله ولا مريد في الحقيقة إلا هو.
بل إن «المعرفة» التي أطلق عليها متصوفة المسلمين اسم «الذوق» ليست هي الأخرى عملا من أعمال العقل الواعي ولا مظهرا من مظاهره، بل هي مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، مظهر من مظاهر الاتصال الروحي الذي هو أشبه بالاتصال البدني؛ ولهذا لا تخضع المعرفة الذوقية لمقولات العقل ولغته ومنطقه، بل لها لغتها الخاصة ومنطقها، والصوفية لا يترددون في القول بأن العقل ومقولاته حجب كثيفة تحول بين الإنسان وعالم الحقيقة، وأنه لا بد لمن ينشد المعرفة الذوقية الخالصة من أن يتجرد عن العقل وأساليبه وحيله ويتحقق بمقام الإرادة الصرفة. يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه «فصوص الحكم» في شرح هذه المسألة:
فمن أراد العثور على هذه الحكمة، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ويكن حيوانا مطلقا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين. فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته، وعلامته علامتان: الواحدة هذا الكشف، والعلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد النطق بما رآه لم يقدر.
অজানা পৃষ্ঠা
1
وليس المراد بالتحقق بالحيوانية سوى التحقق بالإرادة؛ إذ الإرادة (بمعنى مطلق النزوع) هي أهم صفات الحيوان؛ فابن عربي لا يعارض القدماء في اعتبار «النطق» فصلا منوعا للإنسان يميزه عما عداه من أنواع الحيوان المشتركة معه في الجنس، ولكنه يأبى أن يعتبر العلم الذوقي وليد تلك القوة الخاصة (قوة النطق) في الإنسان، بل على العكس من ذلك يعتبر قوة الإرادة - التي يرمز لها بالحيوانية - مصدر ذلك العلم وأداته. ثم إنه يشير بعد ذلك إلى علامتين هامتين من العلامات الأربع التي عدها ويليم جيمس مميزات للتجربة الصوفية: أعني حالة القابلية الصرفة
Absolute Passivity
وحالة الخرس
Ineffability ، والحالة الأولى هي التي يسميها ابن عربي حالة الكشف؛ لأن الكشف حالة قابلية محضة لا أثر للفعل فيها. على أنه لا يقصد بالقابلية المحضة أو الانفعال الصرف ركودا أو تعطيلا في النشاط الروحي عند الصوفي، وإنما يريد انعدام الفاعلية من جانب العقل. أما الناحية الأخرى، وهي ناحية الإرادة، فالنشاط الروحي فيها - في التجربة الصوفية - أقوى وأعنف ما يكون إذ الصوفي في معاناته لتجربته في حالة تعمل فيها النفس بجمعيتها لا بجزء منها، ومن هنا جاء ذلك الاستغراق الروحي، وذلك الشمول الغامر الذي أطلق عليه الصوفية اسم الفناء والجذب والوجد، ويجب ألا يتسرب إلى الذهن بحال أن ابن عربي يقصد بعبارته السابقة أن الحيوان لخضوعه في حياته للإرادة دون العقل، يشارك الإنسان في قدرته على الإدراك الذوقي والعلم بحقائق الأشياء علما مباشرا، وإنما يريد أن يؤكد انعدام الفاعلية العقلية في التجربة الصوفية، ذلك الانعدام الذي نشاهده أكثر ما نشاهده في الحيوان؛ لذلك اتخذ الحيوان مثالا، وتكلم عن التحقق بالحيوانية.
ولما كانت «التجربة الصوفية» عملا من أعمال الإرادة والوجدان لا العقل ظهرت في أخص وأعلى مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، وهو «الحب»، لا الحب المادي الذي يهدف إلى إشباع شهوة أو حاسة، بل الحب بأعمق وأتم معانيه: أعني الإفصاح عن أقوى النزعات الروحية في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه؛ ولهذا اصطنع الصوفية على اختلاف مللهم وأجناسهم وأوطانهم لغة الحب للتعبير عن أحوالهم وأذواقهم التي لا يستطيع العقل إدراكها، ولا اللغة التعبير عنها، وأبدعوا في اصطناع هذه اللغة أيما إبداع، فزخرت لغة التصوف بكنوز من الشعر الخالد في الحب الإلهي، ولشعراء الفرس من الصوفية أمثال؛ جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري، وبعض شعراء الصوفية العرب أمثال ابن الفارض وابن عربي، في رياض الحب الإلهي أناشيد تهتز لسماعها قلوب العاشقين ممن يدركون إشاراتهم ومراميهم.
في التجربة الصوفية تتحدد الإرادة الإنسانية مع العاطفة في الرغبة الملحة التي تدفع بالنفس دفعا إلى تجاوز عالم الحس والعقل إلى عالم تتصل فيه عن طريق الحب إلى محبوبها الأول الذي تدركه النفس بالذوق كما يقول الصوفية، أو تدركه في النفس حاسة متعالية كونية
Cosmic Transcendental Sense
كما يسميها علماء النفس الحديثون. أما أن هذه الحاسة «كونية»؛ فلأنها تدرك الوجود في كليته وإطلاقه ولا يحجبها عن هذا الإدراك الصفات المشخصة للأشياء، وهي الصفات التي ترجع من جهة إلى عمل الحواس الظاهرة، ومن جهة أخرى إلى الأساليب العقلية لإدراكه، وأما أنها متعالية وفوق الطبيعة؛ فلأنها تتجاوز بطريقة لا يعرف كنهها حدود العالم الطبيعي وقيوده إلى عالم تنمحي فيه صفات الذاتية الفردية مثل «الأنا» وال «ني» وال «ي» (ياء المتكلم) وهي ما يجعل الإنسان ذلك الكائن المتناهي المحدود. ولم يهتد علم النفس القديم ولا الحديث، كما لم يهتد الصوفية أنفسهم إلى معرفة كنه هذه الحاسة الغريبة، ولا إلى موضعها من الحياة الروحية، وإن وصفها الجميع - أو بالأحرى وصفوا مظاهرها ووظائفها - بصفات متقاربة، فهي تعقل نوعا ما من التعقل، ومع ذلك ليست هي العقل الذي نعرفه، وهي تنزع نحو موضوعها وتتعشقه إلى درجة الفناء فيه؛ أي إن فيها عنصري الإرادة والوجدان كما قلنا، ولكنها مع ذلك ليست الإرادة التي نعرفها، ولا هي واحدة من العواطف التي لنا عهد بها. فهي حاسة عاقلة مريدة وجدانية مختلفة تمام الاختلاف عن الحواس والقوى العقلية الأخرى التي ندرك عملها في حياتنا الشاعرة، وهي وإن كانت موجودة في كل إنسان بالقوة، فإنها لا توجد في كل إنسان بالفعل، ولم يحدثنا عن وجودها سوى ذلك الصنف من الناس الذين بلغت فيهم الحياة الروحية أوج كمالها، وتلعب العاطفة دورا له خطورته في «التجربة الصوفية»، وإلى عنصر العاطفة فيها ترجع مظاهر الشمول والاستغراق والفناء، وما إلى ذلك من الصفات التي تتمثل في وحدة الطالب والمطلوب، أو المحب والمحبوب. فالتصوف كالفن لا وجود له بدون العاطفة الجامحة. وإذا حصرنا النشاط الروحي في الإنسان في اتجاهين كما يقولون: اتجاه نحو حب الحقيقة، واتجاه نحو معرفتها، كان التصوف هو الميدان الوحيد الذي يلتقي فيه الاتجاهان على أتم وجه؛ لأنه يمثل تعطش الروح إلى الاتصال بالله، وفي هذا الاتصال يجتمع الحب والمعرفة في تجربة واحدة.
وقد أطلق الصوفية على هذه الحاسة المتعالية اسم «القلب، والسر، وعين البصيرة»، وما إلى ذلك من الأسماء التي لا تعدو أن تكون رموزا لحقيقة واحدة نفترض وجودها ولا ندري من كنهها شيئا. فلنسمها إذن باسم واحد هو القلب (إذ لا عبرة بالأسماء)، ولنحاول أن نعرف كل ما يمكن أن نعرفه عنها وعن صفاتها وخصائصها من أقوال الصوفية أنفسهم، ولنتذكر دائما أننا ونحن نكتب عن الصوفية وأحوالهم الغريبة وأطوارهم العجيبة، إنما نرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم، ونحاول أن نقف - كلما أمكننا الوقوف - على البواعث التي تدفعهم إلى سفرهم، وأن نتعرف الشعاب والدروب التي يسلكونها، والزاد الذي يتزودون به، واللغة التي يصفون بها الطريق، والغاية التي يصلون إليها. كل ذلك من غير ادعاء من جانبنا أننا نسير في ركبهم أو أننا نعرف دخائل أسرارهم أو نترجم عن حقيقة أحوالهم، فإن المترجم عن أحوال الصوفية هو الذي يعاني ما يعانون ويجرب ما يجربون من الأحوال والأذواق.
অজানা পৃষ্ঠা
الوعي الصوفي
لا بد أن نعترف إذن بأن للصوفية نشاطا روحيا خاصا يعلن عن نفسه في صورة ما نسميه «التجربة الصوفية» وبأن هذا النشاط الروحي ليس واحدا من أضرب النشاط العقلي المعروفة، ولكنه شيء فوق الوعي العقلي، وإن شئت فسمه وعيا ساميا.
ويبدأ هذا الوعي في الوقت الذي تستيقظ فيه النفس؛ أي في الوقت الذي تخرج فيه النفس عن مألوف عادتها: أي عن الحال التي اصطلحنا على تسميتها «بالحال العقلية الطبيعية»: بأن يتحول فيها مركز الشعور من المراتب الدنيا إلى المراتب العليا، ثم يتحول تبعا لذلك مركز الاهتمام من «الذات» إلى موضوع جديد تجد النفس في الوصول إليه واللحاق به، وهذا التحول في مجرى الحياة الروحية هو الذي اصطلح متصوفة الإسلام على تسميته «بالتوبة» ولكنهم لا يقصدون بها الإقلاع عن الذنوب، أو التحول المفاجئ من عقيدة، أو من دين إلى دين، وإنما يقصدون بها شيئا آخر أبعد وأعمق من هذا كله، بل شيئا هو أساس هذا كله، وهو التجرد عن النفس أو التخلص من النفس - والنفس هنا اسم مرادف لجميع الشهوات والرغبات البدنية - والإنابة التامة إلى الله.
وإذا كان خروج الإنسان إلى هذه العالم يسمى ميلادا طبيعيا، فخروج الصوفي إلى العالم الروحي الذي يتحكم فيه وعيه السامي يسمى ميلادا روحيا، وإذا كان من خصائص التوبة في أية صورة من صورها أنها تصطبغ عادة بصبغة وجدانية عميقة ومفاجئة، فمن خصائص التوبة الصوفية أن يصحبها أعنف حالة وجدانية معروفة: إذ يصحبها ذلك الشوق الملح نحو الله، وشعور ديني عميق وحساسية دينية قوية.
والتوبة بمعنى التحول في الموقف الديني من عقيدة إلى عقيدة في الدين الواحد، أو من دين إلى آخر، أو التوبة بمعنى التصميم والعزم الصادق على الإقلاع عن الذنوب والآثام، قد تكون وثيقة الصلة بالتوبة الصوفية وخطوة سابقة عليها، وتاريخ التصوف الإسلامي وغير الإسلامي حافل بأسماء الرجال والنساء الذين هرعوا إلى الطريق الصوفي إثر أزمة نفسية حادة انتهت بهم إلى توبة من النوع الأول، ثم أسلمتهم إلى التوبة الصوفية.
على أن القاعدة غير مطردة في هذا الشعور الصوفي: كيف يجيء ومتى يجيء. فبينما نراه - وذلك في أغلب الأحيان - يأتي عقب أزمة نفسية حادة وفترة غم شديد واضطراب عظيم يحصل من تحول الحياة الروحية عن عالمها العادي المألوف إلى عالم جديد غير عادي وغير مألوف، نراه في بعض الأحيان يعرض فجأة في حالة هدوء تام، ومن غير أن يصحبه أو يسبقه ذلك الصراع النفسي الذي أشرنا إليه، ومن الصوفية من هم وسط بين هذين الطرفين، فإن التحول في مجرى حياتهم النفسية يحدث على فترات يتعاقب عليها اللذة والألم، فمن قبض شديد إلى بسط، ومن غم شديد إلى فرح، ومن خوف شديد إلى رجاء، ومن ظمأ شديد إلى الاتصال بالخلق إلى ظمأ أشد منه إلى الاتصال بالخالق، ومن أظهر الأمثلة على النوع الأول توبة أبي حامد الغزالي، استمع إليه وهو يصف أزمته النفسية وحيرته واضطرابه وهو موزع الفكر بين عالمين قبل أن يستقر له قرار في الطريق الصوفي. يقول:
فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فينفرها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل.
1
وهكذا استمر النزاع محتدما في نفس الغزالي وانتهى آخر الأمر إلى غم شديد ومرض مقعد وحبسة في اللسان. ثم هدأت العاصفة، وانخرط الغزالي في سلك الصوفية، وخلا خلوتهم وراض نفسه برياضاتهم، فاستيقظ فيه الشعور وانكشفت له أحوال القوم، ونزلت الطمأنينة إلى قلبه بعد الحيرة الطويلة.
وقريب من الغزالي في هذا الصدد القديس أوغسطين الذي عبر عن هذه التجربة بعبارته الشعرية المعروفة، وهي أنه وقف بين عالمين قويين يجتذبانه: الجمال الإلهي الذي يجذبه نحو الله، وثقل المادة الجسمانية الذي يجذبه بعيدا عنه.
অজানা পৃষ্ঠা
ويبدو من دراسة الحياة الروحية لكثير من الصوفية أن هذه الحال الخاصة التي تعرض لهم فتدفع بهم إلى الطريق الصوفي هي حال شعور غامر يهجم على القلب ويستولي عليه، وأنها أشبه بنوع من الفيض يأتي من خارج النفس، منها بتطور داخلي في النفس ذاتها، وفي هذه الحال تبدو «الحقيقة» في شيء من التناقض، فيشاهدها الداخل في الطريق أزلية وحادثة، واحدة ومتكثرة، في هذا العالم ومتجاوزة له، مطلقة ومقيدة، وليس لهذا التناقض من سبب في نظرنا سوى أن السالك لا يزال في أول مرحلة من مراحل معراجه الروحي، ينظر بعين إلى الوجود الخارجي المحيط به، المتعلق به قلبه نوعا ما من التعلق، وبالعين الأخرى إلى العالم الروحي الذي هو على وشك الدخول فيه. فلما لم يصف له الشهود لتوزع نفسه بين العالمين، شاهد الأزلي المحدث، والمطلق المقيد، ولكن هذا التناقض سرعان ما يختفي عندما يترقى الصوفي في سلم معراجه، فيلمح «الحقيقة» كما تلمح العين رواسي الجبال بعد انقشاع الضباب عنها. يقول أفلوطين الإسكندري: «من شاهد هذا المشهد أدرك معنى ما أقول، وعرف أن للنفس عند ذاك حياة أخرى.»
2
ولكن الصوفية ينقسمون في شهودهم «الحقيقة» إلى طائفتين؛ الأولى ترى الحق في مجالي الجمال الخارجي، أو في مجلى جمالي خاص، ومن هؤلاء ابن عربي وابن الفارض الذي يقول:
جلت في تجليها الوجود لناظري
ففي كل مرئى أراها برؤية
3
والثانية تشهد الحق الباطن في النفس. فبينما يتجلى الحق للأولين في صورة الجمال المطلق، ينجلي للآخرين في صورة الإله المحبوب، ويغلب هذا الشهود الثاني على الصوفية والوجدانيين أصحاب العواطف القوية الجامحة، ولعل أبا يزيد البسطامي والحلاج والشبلي ورابعة العدوية كانوا من هذا الطراز، وأهم مظهر لهذا الشهود شعور ممزوج بلذة بالغة في شدتها وألم بالغ في حدته. أما الألم فنتيجة لتمزيق حجاب النفس «الأنا» والخروج من قيودها الزمانية، وأما اللذة فنتيجة لذلك الحب العميق الذي لا يسبر غوره. •••
هذا، وسنعالج في فصول تالية من فصول هذا الكتاب بعض مظاهر الحياة الصوفية في الإسلام مع الإشارة إلى أهم المسائل التي أثرناها في هذه المقدمة.
أصل كلمتي صوفي ومتصوف وتعريفاتهما
للكلام في هذا الموضوع شقان كما يدل عليه العنوان: الأول بحث تاريخي فيلولوجي في أصل كلمتي «تصوف» و«صوفي» وفي أي عصر من العصور ظهرتا وانتشرتا في الإسلام، والثاني في التعريفات التي وضعها الصوفية أنفسهم لهذين الاصطلاحين؛ أي في المعاني التي اعتبروها مقومات للحياة الصوفية. فالشق الأول دراسة للفظين، والثاني دراسة لمفهوميهما ، وليس للشق الأول - على الرغم من الجهد الذي بذله المؤلفون قديما وحديثا في دراسته - أهمية ولا قيمة كبيرة إلا بمقدار ما يلقي من الضوء على بعض جوانب الشق الثاني. أما «التعريفات» التي وضعها كبار الصوفية - لا سيما الأوائل منهم - للتصوف والصوفي فهي في صميم دراسة التصوف وجوهرها، وإذا تتبعناها تتبعا زمنيا وحللناها تحليلا دقيقا، ظهر لنا التصوف في صورة جلية، ووضح تطوره خلال التغيرات الكثيرة التي اكتنفته في البلاد الإسلامية التي ظهر فيها، والمؤثرات الإسلامية وغير الإسلامية التي أثرت فيه؛ لهذا آثرنا أن نعالج كل شق من شقي هذا البحث معالجة مستقلة، تاركين للقارئ ملاحظة ما بينهما من ترابط وما قد يكون للشق الأول من أثر في إيضاح بعض جوانب الثاني. (1) الأصل التاريخي والاشتقاقي لكلمتي تصوف وصوفي
অজানা পৃষ্ঠা
ذهب جمهور المؤلفين في التصوف إلى أن هاتين الكلمتين من الكلمات المستحدثة في الملة الإسلامية وأن البغداديين هم الذين استحدثوهما، ولم يشذ عن هذا الاجتماع - فيما نعلم - إلا أبو نصر السراج صاحب كتاب اللمع
1
الذي يذهب إلى أن اسم الصوفي أقدم من البغداديين.
وقد استدل القائلون بأن اسم «الصوفي» مستحدث بأنه لم يكن من الألقاب التي أطلقت على الصحابة في عهد الرسول؛ فإنهم لم يميزهم عن غيرهم سوى صحبة الرسول، وكذلك لم يتسم أهل الجيل الثاني باسم سوى «التابعين»؛ وذلك لأن الإقبال على الدين والزهد في الدنيا في هذين الجيلين كانا عامين بين المسلمين، فلم تكن هناك حاجة إلى اسم خاص يمتاز به الرجل التقي.
ولكن لما فشا الإقبال على الدنيا - كما يقول ابن خلدون - وجنح الناس إلى متاع هذه الحياة، دعت الحاجة إلى وجود صفة يمتاز بها بعض الخواص الذين كانت لهم عناية بأمر الدين، وكذلك اشتدت هذه الحاجة لما ظهرت الفرق الإسلامية وادعى أصحاب كل فرقة أنهم على حق وأن فيهم العباد والزهاد. هنالك ظهرت هذه التسمية وانفرد بها المقبلون على العبادة واشتهر هذا الاسم قبل المائتين.
يقول ابن تيمية في رسالة «الصوفية والفقراء»: «أما لفظ الصوفي فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة الأولى، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام ابن حنبل (المتوفى سنة 241) وأبي سليمان الداراني (المتوفى سنة 235) وغيرهما. فقد روي أن ابن حنبل كان يسأل الحارث المحاسبي (المتوفى سنة 242) في بعض المسائل ويقول: ما تقول فيها يا صوفي؟»
وظاهر من عبارة ابن تيمية أنه يشير إلى انتشار اسم الصوفية لا إلى أول زمن استعماله.
ويقول الأستاذ ماسنيون في المقال الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية عن مادة «تصوف» ما خلاصته: أن التلقيب بالصوفي مفردا ظهر في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وسمي به جابر بن حيان الكوفي صاحب الكيمياء الذي كان يدعو إلى مذهب خاص في الزهد، وأبو هاشم الكوفي (الصوفي). أما كلمة الصوفية بالجمع فظهرت حوالي سنة 199 هجرية، وكانت تدل في ذلك الوقت على أصحاب مذهب يكاد يكون شيعيا من مذاهب التصوف ظهر في الكوفة، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته. توفي عبدك في بغداد سنة 210.
ونستنتج من عبارة ماسنيون أن كلمة «الصوفي» كانت قاصرة في أول الأمر على الكوفة، ومما يؤيد هذا أن الكلمة لم تكن مستعملة استعمالا عاما لكل مسلم سلك طريق التصوف: فإنها لم تطلق على فرقة من الصوفية ظهرت في أواخر القرن الثالث في نيسابور وتسمت باسم «الملامتية» تمييزا لها عن الصوفية من أهل العراق والشام.
وقد كان من الطبيعي أن يظهر اسم «الصوفي» أول ما ظهر في الكوفة سواء أكان أول من تسمى به جابر بن حيان أو أبا هاشم الصوفي؛ لأن أول مدرسة عرفت في التصوف الإسلامي ظهرت في مدينتي البصرة والكوفة، وقد كانت الكوفة آرامية الثقافة متأثرة بالثقافة المانوية التي ظهرت في تصوف الكوفيين في مسألة الحب الإلهي، بينما كانت البصرة هندية الثقافة وقد ظهر أثر هذه الثقافة في تصوفها في ناحيته العملية.
অজানা পৃষ্ঠা
أما عن الأصل اللغوي لكلمة «الصوفي» فقد تضاربت فيه الأقوال قديما وحديثا، وذهب فيه المؤلفون كل مذهب ممكن: وذكروا أن الكلمة مشتقة من الأصل «ص و ف» أو «ص ف و» أو «ص ف ف»، فنسبوها إلى الصوف وإلى الصفاء وإلى الصف، وإلى الصفة (صفة مسجد الرسول بالمدينة)، وإلى الصفة، وإلى رجل اسمه «صوفة»، وإلى صوفة القفا، وإلى الصوفانة وهي نبتة تنبت في الصحراء، وإلى الكلمة اليونانية «سوفيا».
يقول أبو نصر السراج الطوسي المتوفى سنة 378 وهو صاحب كتاب «اللمع» أقدم كتاب عربي في التصوف: «إذا سأل سائل فقال: قد نسبت أصحاب الحديث إلى الحديث، ونسبت الفقهاء إلى الفقه، فلم قلت الصوفية ولم تنسبهم إلى حال ولا إلى علم، ولم تضف إليهم حالا كما أضفت الزهد إلى الزهاد والتوكل إلى المتوكلين والصبر إلى الصابرين؟ فيقال له: لأن الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع، ولم يترسموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم؛ وذلك لأنهم معدن جميع العلوم ومحل جميع الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة سالفا ومستأنفا، وهم مع الله في الانتقال من حال إلى حال، مستجلبين للزيادة. فلما كانوا في الحقيقة كذلك، لم يكونوا مستحقين اسما دون اسم. فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالا دون حال، ولا أضفتهم إلى علم دون علم لأني لو أضفت إليهم في كل وقت حالا ما وجدت الأغلب عليهم من الأحوال والأخلاق والعلوم والأعمال وسميتهم بذلك، ولكان يلزم أن أسميهم في كل وقت باسم آخر، وكنت أضيف إليهم في كل وقت حالا دون حال على حسب ما يكون الأغلب عليهم. فلما لم يكن ذلك، نسبتهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأن لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام، وشعار الأولياء والأصفياء، ويكثر في ذلك الروايات والأخبار. فلما أضفتهم إلى ظاهر اللبسة كان ذلك اسما مجملا عاما مخبرا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق الشريفة المحمودة، ألا ترى أن الله تعالى ذكر طائفة من خواص أصحاب عيسى عليه السلام فنسبهم إلى ظاهرة اللبسة فقال عز وجل:
إذ قال الحواريون ، وكانوا يلبسون البياض، فنسبهم إلى ذلك ولم ينسبهم إلى نوع من العلوم والأعمال والأحوال التي كانوا بها مترسمين. فكذلك الصوفية عندي، والله أعلم، نسبوا إلى ظاهر اللباس ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم الأخرى والأحوال التي هم بها مترسمون؛ لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المتنسكين.»
2
فالصوفية في نظر السراج إنما سموا صوفية نسبة إلى اللباس الذي اتخذوا منه شعارا ورمزا، وهو لباس الصوف، ولم ينسبوا إلى علم من العلوم كالفقه والحديث والتفسير، ولا إلى حال من الأحوال كالحزن أو القبض أو البسط؛ وذلك لأنهم ليس لهم علم خاص ينتسبون إليه، ولا حال خاصة يقيمون عليها، بل هم في ترق مستمر في الأحوال، وليست حال من أحوالهم بأولى من حال أخرى. أما أنهم نسبوا أنفسهم إلى ذلك الشعار الصوفي، فذلك لأنه كان دائما دأب الأنبياء والصالحين كما تدل على ذلك الأخبار والروايات، فقد أثر عن عيسى عليه السلام أنه كان يلبس الصوف تعبدا، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
لبس الصوف تواضعا وبعدا عن الرياء وزهدا في الدنيا، ورد في مرثية عمر بن الخطاب لرسول الله قوله: «ولبست الصوف وركبت الحمار وأردفت خلفك»،
3
وقد ورد في الحلية لأبي نعيم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
অজানা পৃষ্ঠা
واسى أهل الصفة ولم يكن عندهم غير جباب الصوف،
4
إلى غير ذلك من الأخبار، ويتناول أبو بكر محمد بن إسحق الكلاباذي المتوفى سنة 380 الموضوع من ناحية أخرى وإن كان ينتهي إلى النتيجة التي انتهى إليه السراج، فيقول:
قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها، وقال بشر بن الحارث (الملقب بالحافي، مات ببغداد سنة 227): الصوفي من صفا قلبه لله، وقال بعضهم: الصوفي من صفت لله معاملته فصفت له من الله عز وجل كرامته، وقال قوم: سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل، لارتفاع هممهم إليه وإقبالهم بقلوبهم عليه ووقوفهم بسرائرهم بين يديه، وقال قوم: سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم: إنما سموا صوفية للبسهم الصوف، وأما نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم؛ وذلك أنهم قوم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الإخوان وساحوا في البلاد وأجاعوا الأكباد وأعروا الأجساد، لم يأخذوا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه من ستر عورة وسد جوعة، فلخروجهم من الأوطان سموا غرباء، ولكثرة أسفارهم سموا سياحين، ومن لبسهم وزيهم سموا صوفية لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه وحسن منظره وإنما لبسوا لستر العورة فتحروا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف.
5
ذكر الكلاباذي أن «الصوفي» نسب إلى الصفاء والصفة والصف والصوف، ثم اختار النسبة الأخيرة. أما النسبة إلى الصفة ففيها خروج على اللغة لأنها يجب أن تكون الصفي لا الصوفي، وأهل الصفة جماعة من فقراء المهاجرين أخرجوا من ديارهم فآووا إلى صفة مسجد الرسول بالمدينة، وصفهم أبو هريرة فقال: «يخرجون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين، وكان لباسهم الصوف حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه ريح الضأن إذا أصابه المطر»، وقيل إن فيهم نزلت الآية:
فيه (أي في مسجد الرسول) رجال يحبون أن يتطهروا ، وبالإضافة إلى بطلان نسبة الصوفي إلى أهل الصفة على أساس لغوي، لا نرى ما يسوغ هذه النسبة على أساس آخر، وهو أن أهل الصفة كانوا من أوائل المهاجرين حين لم يكن للتصوف وجود بمعناه الحقيقي، وإن كان هذا لم يمنع صاحب الحلية من أن يذكر أسماء كثيرين منهم ويدخلهم في عداد الصوفية، ولم يمنع عبد الرحمن السلمي أن يكتب فيهم كتابا خاصا يظهر أنه ضاع أصله.
أما النسبة إلى الصفاء فصفائي أو صفاوي لا صوفي، وإن كان من الواضح أن الذي أغرى بعض الصوفية بهذه النسبة هو أن الطريق الصوفي أساسه تصفية النفس وتطهيرها من أدران البدن وشهواته، فعقدوا المقارنة بين الصوفي والصفاء.
والنسبة إلى الصف - أي الصف الأول بين يدي الله - صفي لا صوفي.
অজানা পৃষ্ঠা
لهذا يرى الكلاباذي أن المستقيم من هذه الاشتقاقات كلها هو اشتقاق «الصوفي» من الصوف، وأن الاشتقاقات الأخرى تشير إلى صفات الصوفي الظاهرة أو الباطنة ولكن لا أساس لها من اللغة.
أما القشيري المتوفى سنة 465 فيقول :
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر أنه كاللقب، فأما من قال إنه من الصوف، وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف، ومن قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد الرسول، فالنسبة إلى الصفة لا يجيء على نحو الصوفي، ومن قال إنه من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة، وقول من قال إنه مشتق من «الصف» فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة مع الله تعالى، فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.
6
وأبرز ما في عبارة القشيري قوله «والأظهر أنه كاللقب» أي إنه يعتبر اسم الصوفي اسما جامدا أو لقبا أطلق على هذه الطائفة لتمييزها عمن عداها، فلا يسأل عن معناه أو اشتقاقه. أما نسبتهم إلى الصوف فلا يعارض فيها القشيري لصحتها لغويا، ولكنها في رأيه قول ضعيف؛ لأن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف.
هذا وقد ذكرت نسب أخرى أبعد احتمالا من التي ذكرناها، وأقل أهمية كالقول بأن الصوفي اسم منسوب إلى «صوفة» وهو الغوث بن مر، كان هو وقومه من سدنة الكعبة القدماء، أو أنه منسوب إلى صوفة القفا وهي الشعرات النابتة في مؤخر الرأس، أو إلى «الصوفانة» وهي بقلة تنبت في الصحراء لأن الصوفية كانوا يجتزئون بها.
وقد انفرد البيروني (المتوفى سنة 440) من بين الكتاب العرب بقوله إن هناك صلة بين اسم الصوفي والكلمة اليونانية «سوفيا»، وأخذ بهذا الرأي الأستاذ جوزيف فون هامر الذي يقول إن كلمة صوفي مأخوذة من كلمة «جمنوسوفيست»
Gymnosophist
ومعناها الحكيم العاري، وهو لفظ يوناني أطلقه اليونان على بعض حكماء الهنود القدماء الذين اشتهروا بحياة التأمل والعبادة، وليس للأستاذ فون هامر دليل سوى تقارب اللفظين في النطق. •••
ظهر من كل ما تقدم أن اسم «الصوفي» مشتق من الصوف، وأن كلمة «تصوف» معناها لبس الصوف أو تقلد شعار الصوفية: وعلى هذا انعقد إجماع جمهور الباحثين قديما وحديثا، يؤيد ذلك اللغة والعرف فإننا نقرأ أن فلانا لبس الصوف أو لبس عباءة أو لبس المسوح أو لبس الشعر أو لبس المدرعة بمعنى أنه تزهد أو سلك طريق الصوفية. (2) تعريفات التصوف والصوفي
অজানা পৃষ্ঠা
أجمع الصوفية في كل العصور على أن تجاربهم الروحية أمور تستعصي على الوصف وتعلو على التعبير، وآثر الكثيرون منهم الصمت فلم يحاولوا أن يضعوا لها تفسيرا أو تعليلا، وإنما وصفوا ما أدركوه أو شاهدوه أو كشف لهم عنه من الأحوال بأنها أمور «ذوقية» أو «وجدانية» لا تفي اللغة بالتعبير عنها أو ترجمتها بالألفاظ.
ولكن هذا لم يقف حائلا دون محاولة بعضهم وضع تعريفات للتصوف والصوفي: أي للتصوف من حيث هو ظاهرة روحية خاصة، أو حياة يحياها الصوفي، وللصوفي من حيث هو إنسان يحيا هذه الحياة، وليست هذه التعريفات تعريفات لفظية لكلمتي «التصوف» و«الصوفي»، وإنما هي تعبيرات عن مضمون «الحالة الصوفية»، وإشارات إلى ما يعتبره كل صوفي مقوما لحياته الروحية أو صفة أساسية جوهرية في هذه الحياة؛ ولهذا كانت هذه التعريفات «شخصية» إلى أبعد حد. من أجل هذا اختلفت تعريفات الصوفية للتصوف؛ لأن كلا منهم يعبر عن جانب من الحياة الروحية قد يشاركه في الإحساس به غيره من الصوفية وقد لا يشاركه، ومن أجل هذا أيضا استحال أن نستخلص من جملة التعريفات الكثيرة التي أوردناها في هذا الفصل معنى واحدا عاما يمكن أن نعتبره صفة نوعية مميزة للتصوف: بل هي على العكس أشبه بالمرايا المختلفة التي تنعكس عليها نفوس الصوفية في لحظات اتصالهم بالله، والمعروف أن هذا الاتصال لا يتم لهم جميعا على نمط واحد أو بطريقة واحدة.
وقد كنا نطمع بعد دراسة خمسة وستين تعريفا للتصوف أن نجد معنى عاما مشتركا ينتظمها جميعا، ولكنا لم نظفر بهذا المعنى على وجه التحديد، ووصلنا إلى معنى قريب منه يمكن أن يقال إن الغالبية العظمى من التعريفات تتفق عليه، وهو أن التصوف في أساسه وجوهره «فقد ووجود»: «فقد» لأنية العبد، و«وجود» له بالله أو في الله؛ أي فناء عن الذات المشخصة وأوصافها وآثارها، وبقاء في الله . أو أنه - بعبارة أخرى - «الجذبة في الله».
على أن التعريفات التي وضعت للتصوف ليس كلها تعريفات له من حيث هو تجربة روحية، فإن بعضها تعريفات له من حيث هو طريق موصل إلى الله، وفي النوع الأول ترد كلمات تعبر عن معان هي في صميم الحياة الروحية، كالوجد والجذب والإشراق والحب والمعرفة والفناء والبقاء وصفاء النفس ونحو ذلك، وهذا النوع غالب في تعريفات صوفية القرنين الثالث والرابع ابتداء من ذي النون المصري، ويتصل بهذا النوع طائفة من التعريفات تشير إلى بعض أخلاق الصوفية كالزهد في الدنيا وكراهيتها وترك حظوظها، وقطع العلائق بالخلق، والتوكل على الله والورع والأدب والتحلي بصفات العبودية المحضة، والإيثار وبذل النفس والفتوة، والتسليم والتمسك بظاهر الشرع مع التحقق بباطنه، وترك الدعاوى والنظر إلى الأعمال بعين النقص والتقصير، والعصمة عن رؤية الكون واستقامة الأحوال ونحو ذلك.
أما النوع الثاني الذي يعرف التصوف من حيث هو طريق إلى الله، فهو إشارات إلى الجانب العملي الحياة الصوفية وما يجب أن يقوم به الصوفي من ضروب العبادات والمجاهدات والرياضيات. •••
وإننا لا نجد تعريفا للتصوف قبل نهاية القرن الثاني الهجري؛ أي قبل معروف الكرخي المتوفى سنة 200. أما مرحلة الزهد السابق على هذا العهد فقد أكثر رجالها من الكلام عن الدنيا والزهد فيها، وعن النفس ومحاربتها، والمعاصي وضرورة تجنبها، والآخرة ونعيمها وعذابها، إلى غير ذلك مما هو متصل بالجانب العملي من الطريق الصوفي، ولنذكر بعض الأمثلة من أقوال رجال هذا العصر التي تعبر عن موقفهم من الحياة الصوفية وإن لم تكن كلها تعريفات للتصوف بالمعنى الصحيح: (1)
قيل للحسن البصري (المتوفى سنة 110): إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: «وهل رأيتم فقيها قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل» (طبقات الشعراني، ج1، ص26). هذا وصف للفقيه الحقيقي - أو بمعنى آخر الفقيه الصوفي - في نظر الحسن البصري. فالفقيه الحقيقي ليس هو العالم بالفقه، بل هو الذي يعيش وفقا لتعاليم الشريعة من زهد في الدنيا، ومداومة للعبادة وبصر بأمور الدين وإدراك للمغازي الروحية التي تنطوي عليها العبادات. (2)
يقول داود الطائي (المتوفى سنة 165) في وصية لرجل طلب منه أن يوصيه: «صم عن الدنيا واجعل فطرك الموت، وفر من الناس كفرارك من السبع» (رسالة القشيري، ص12). (3)
يقول الفضيل بن عياض (المتوفى سنة 187): «لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي ولا أحاسب عليها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه» (القشيري، ص9).
في هذه الأقوال وما شاكلها ما يشير إلى أن مفهوم التصوف عند هؤلاء الزهاد كان الزهد في الدنيا وتحقيرها، والإقبال التام على العبادة.
অজানা পৃষ্ঠা