بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وبعد،
فيقول البائس الفقير محمد المرعشي المدعو بساجقلي زاده، أكرمه الله سبحانه بالفوز والسعادة.
أعلموا معاشر الطلبة- أصلح الله أموركم ومد أعماركم وأحيا بكم رسوم الدين وهدى بكم قوما آخرين- أنه كان يوجد في كل قرن من القرون الماضية من هذه الأمة طائفة من العلماء المؤلفين والأعلام المحققين وخلا الآن من أمثالهم الجوانب، وخلف الأسود في غاباتها الأرانب، أترون أن ذا من خواص الأزمنة، وغلبة البلادة على طباع أواخر هذه
1 / 79
الأمة، بل المنقول من سيرهم والمتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة وهي مسائلها المشهورة. قال في الكشاف: اعلم أن متن كل علم طبقات العلماء فيه متدانية إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطي يسيرة، وإنما الذي تباينت فيه الرتب وعظم التفاضل والتفاوت إلى أن عد ألف بواحد، ما في العلوم من غوامض الأسرار ومحاسن النكت، انتهي مختصرا.
فسأل إلى تجاويف صدورهم من كل فن جدول، فصار ملتقى الجداول بحرا، وما زالوا يزيدون إلى الفنون فوائد، فأنشئوا شروحا لها وأدرجوا تلك الفوائد، ومتونا طويلة وجعلوا للشروح حواشي دقيقة، حتى صار لبعض المتون حاشية على شرحه، ونظم أصحابهم كثيرا من تلك المتون والشروح والحواشي في سلك المذاكرة، فثقل الحمل وطالت المسافة حين قل الزاد وهزلت الراحلة، فآل أمر الطلبة إلى أن تركوا
1 / 80
بعض الفنون المعتبرة رأسا ومن بعضها ثلثا أو نصفا، والباقي يريدون تناوله أولًا مع الشروح والحواشي، فلا [ت] فرغ أذهانهم من تخيل المباحث المتشعبة والاحتمالات المشتتة والأقوال المضطربة لفهم المسائل المشهورة، وجمعها في الخزانة، وهذا خلاف ما عليه السلف قال في ""تعليم المتعلم": كان المشايخ يحتارون للمبتدئ صغارات المبسوطة لأنه أقرب إلى الفهم والضبط وأبعد من الملالة وأكثر وقوعا بين الناس، انتهى.
ولا يفهمون كثيرا من الحواشي فتذهب فطنتهم لما في "تعليم المتعلم": ينبغي أن يجتهد المتعلم في الفهم فإذا تهاون ولم يفهم مرة أو مرتين يعتاد ذلك فلا يفهم الكلام اليسير، وفيه أيضا: لا يكتب المتعلم شيئا لا يفهمه فإنه يفهم الكلام اليسير، وفيه أيضا: لا يكتب المتعلم شيئا لا يفهمه فإنه يورث كلالة الطبع ويذهب الفطنة.
أقول: فما ظنك باستماعه لما لا يفهم؟ ! نعم ينبغي الاشتغال بحاشية
1 / 81
بعض الفنون بعد فهم أصول مسائله وإحاطتها، ويغلط بعض الطلبة في ترتيب الفنون والقدر اللائق من السعي لكل فن، فيشرع في بعض الفنون قبل تحصيل ما يتوقف فهمه عليه. وقد لا يهتم لفهم فن [ت] شتد الحاجة إليه، ويطيل البحث فيما لا يكثر الاحتياج إليه، وأمثال هذه التدبيرات الردية مدار تنزلهم وعدم وصولهم إلى مقاصدهم، فأردت أن أنبئكم معاشر الطلبة بخير من ذلك، وأدلكم على تجارة تنجيكم عما يرديكم بإنشاء رسالة تتضمن: مقدمة ومقصدين وتذييلًا وخاتمة.
المقدمة: في تعداد الفنون النافعة وتقسيمها إلى شرعي وغير شرعي، وتقسيم أحكام الاشتغال بالفنون.
- المقصد الأول في التعريفات الفنون النافعة وبيان التدبيرات الردية.
- المقصد الثاني في بيان الترتيب اللائق للمبتدئ في الاشتغال بتلك الفنون وبيان مراتب العلوم.
1 / 82
والتذييل في مدح القرآن. والخاتمة فيما يتعلق بالفلسفة.
وسميتها "ترتيب العلوم" إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
1 / 83
"المقدمة"
أما المقدمة ففيها [فصول]
الفصل "الأول": (في تعداد الفنون النافعة نفعا يعتد به)
منها بعض العلوم العربية: وهو علم اللغة والتصريف والاشتقاق والخط العربي والنحو والعروض والقافية والبلاغة والمحاضرات.
ومنها بعض العلوم العقلية: وهو علم الميزان والمناظرة ومبادئ علم الكلام والرياضيات- أعني الهندسة والحساب والهيئة- ومنها العلوم المأخوذة من الكتاب والسنة: وهي علم العقائد والأخلاق والموعظة وعلم الفقه وأصوله.
ومنها العلم اللدني. ومنها [علوم] القرآن: وهي علم نظمه وتجويده ووقفه وابتدائه ومرسوم مصاحفه وقراءته وتفسيره.
1 / 84
ومنها علوم الحديث: وهي علم متنع ومعانيه وأحواله من القوة والضعف بحسب اختلاف نقلته ويسمى علم أحواله: "علم أصول الحديث".
ومنها علم التشريح وعلم الطب وعلم الفراسة وعلم تعبير الرؤيا وعلم اللغة الفارسية وكيفية تراكيبها.
فتم تعداد الفنون النافعة، إذ ما عدا المذكورات، إما مضر كالفلسفة والسحر وعلم أحكام النجوم، أولا ينفع علمه نفعا يعتد به ولا يضر جهله كما ذكر في الإحياء أن النبي ﷺ مر برجل والناس مجتمعون عليه فقال ﵇: "ماهذا؟ " فقالوا: رجل علامة، فقال ﵇: "بماذا؟ " قالوا: بالشعر وأنساب العرب، فقال ﵇: "علم لا ينفع وجهل لا يضر"
الفصل "الثاني": (في فوائد العلوم المذكورة)
اعلم أن لكل من المذكورات فائدة ولتلك الفائدة فائدة أخرى إلى أن ينتهي إلى الفوز بسعادة الدارين. كما قال في "شرح المواقف": غاية
1 / 85
فوائد [علم] الكلام هي الفوز بسعادة الدارين فهي منتهي الأغراض وغاية الغايات.
أقول لكن العلوم الشرعية أقرب إلى ذلك الفوز من العلوم الآلية.
واعلم أن كل منفعة تترتب على فعل تسمى فائدة من حيث ترتبها عليه، وغاية من حيث أنها على طرف الفعل ونهايته، وغرضا من حيث أن الفاعل فعل ذلك الفعل لأجل حصوله، وكتبت كلامًا طويلًا متعلقا بالفائدة لكن [ي] تركته عند التبييض خوفا من الإملال.
الفصل "الثالث": (في تقسيم العلم إلى شرعي وغير شرعي)
ويطلق على العلم الشرعي العلك الديني لاتحاد الدين والشريعة بالذات.
اعلم أن العلم الشرعي يجيء على ثلاثة معان:
الأول: ما ذكر في "الأحياء" أن العلوم تنقسم إلى شرعية وغير شرعية- أعني بالشرعية ما يستفاد من الأنبياء صلوات الله عليهم- ولا يرشد إليه العقل مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع من غير الأنبياء مثل [اللغة]، انتهى.
1 / 86
أفاد أن ما نطق به النبي إن كان شيئا من هذه الثلاثة لا يعد علمًا شرعيا وبالجملة إن العلم الشرعي [على ما ذكره] ما لا يعلم إلا من الشارع.
- والمعني الثاني: ما يستفاد من الشارع أو يستمد منه المستفاد من الشارع مختصا به، أي لا يستمد منه غير المستفاد من الشارع. وهذا المعنى أشار إليه خسروا في "حاشية تفسير البيضاوي"، وهذا المعنى أعم من الأول لأنه لم يقيد بقوله ولا يرشد [إلى أخره]، وزيد فيه ما يستمد منه إذ يدخل فيه علم أصول الفقه ولا يدخل في المعنى الأول، وأما العربية فلا تدخل في شيء من هذين المعنيين إذ لا يختص مدارها بالعلوم الشرعية.
- والمعنى الثالث: [ما] قاله ابن الحجر في "شرح الأربعين": وجب كون المنطق علمًا شرعيا، إذ هو ما صدر من الشارع أو توقف عليه الصادر من الشارع توقف وجود كعلم الكلام أو توقف كمال كعلم النحو والمنطق، انتهى. فلم يعتبر الاختصاص المعتبر سابقا في المعنى الثاني، فيدخل في هذا المعنى جميع العلوم الآلية وإنما لا يدخل مثل الطب والتشريح.
ومعنى توقف الوجود ما ذكره شارح المواقف: لولا ثبوت الصانع [بصفاته] لم يتصور علم التفسير والحديث ولا علم الفقه وأصوله، انتهى.
يشعر كلام ابن الحجر أن علم الكلام غير صادر عن الشارع مع أن
1 / 87
المسائل الاعتقادية كلها مما صرح به الشارع أو أشار إليه، لكن بعضها يستقل فيه العقل وهو ثبوت الصانع بصفاته بالنظر إلى المصنوعات، وثبوت نبوة النبي بالنظر إلى المعجزة، فمراده من علم الكلام هو هذا الباب فقط، ولما أرشد إليه العقل لا يعد مستفادًا من الشارع وإن نطق به الشارع كما عرفت في المعنى الأول.
الفصل "الرابع": (اشتراك أسماء العلوم بين المعاني الثلاثة)
اعلم أن أسماء العلوم كالنحو والصرف والمعاني والفقه وغيرها مشتركة بين المعاني الثلاثة، وهي المسائل وإدراكاتها والملكة الحاصلة من تكرر تلك الإدراكات. وتلك الملكة هي القدرة على استحضار كل مسألة كلية من مسائل العلوم متى يرد عليك جزئي من حزئيات موضوع تلك المسألة. وفائدة ذلك الاستحضار استنباط حال ذلك الجزئي من ذلك الكلي، فإن يرد عليه زيد في "ضرب زيد"، فتستحضر كل فاعل مرفوع فتفكر في نفسك أن زيدًا هنا فاعل وكل فاعل مرفوع فتعرف أن زيدا مرفوع وتسمى هذه الملكة ملكة الاستحضار، ثم إنه بتكرر تلك الاستنباطات تحصل ملكة الاستنباط، وهي القدرة على استنباط أحكام الجزئيات من المسائل الكلية كما عرفت مثاله.
والملكة الثانية هي ملكة المطالعة، فلابد لحصول ملكة المطالعة من معرفة القواعد الكلية ثم من تكرر معرفتها، - أعني تكرر تذكرها-، ثم
1 / 88
من استنباط أحكام بعض جزئيات موضوعاتها منها، ثم من تكرر تلك الاستنباطات. وتختلف مراتب الأشخاص في تلك الملكة.
وعلم إن إضافة لفظ العلم إلى النحو والصرف والفقه وغيرها من أسماء العلوم من قبيل شجر الأراك. وأسماء العلوم هي المضافات إليها.
الفصل "الخامس": (في أحكام العلوم)
وهي على ما ذكره ابن نجيم في "الأشباه": فرض عين وفرض كفاية ومندوب وحرام ومكروه ومباح. أقول: مدار هذا التقسيم انقسام المعلوم كذلك، إذ قيل أن العلم تابع للمعلوم، وهنا نظر لأن من المعلوم ما يكون واجبا فعلمه واجب. قال في "تعليم المتعلم": إن ما يتوسل به إلى إقامة الواجب يكون واجبًا، انتهى.
أقول فأهم العلوم ما هو فرض عين على المكلف قبل كل شيء. وهو علم التوحيد والصفات، ثم ما فرض عليه عينًا بعد ذلك في كل وقت
1 / 89
كمعرفة فرائض الأخلاق ومحرماتها، ثم ما فرض عليه عينًا في بعض الأوقات كعلم الصلاة والصوم وعند بلوغ المرء إلى وقت افتراضها ثم ما فرض عليه على الكفاية عند عدم وجود القائم به، ثم مستحبات العلوم، ومن مستحبات العلوم تحصيل فروض الكفاية عند وجود القائم بها.
وستعرف تفصيل ذلك إن شاء الله سبحانه فيفترض هذا الترتيب في تحصيل العلوم، ومن أخطأ الترتيب فقد ظلم إنه لا يفلح الظالمون.
الفصل "السادس": (حكم العلم كحكم المعلوم)
[اعلم] أن حكم العلم كحكم المعلوم فإن كان المعلوم فرضا أو واجبا أو سنة فعلمه كذلك إذا توقف المعلوم على ذلك العلم، وإنما قيدنا به لأنه إذا لم يتوقف [عليه] لا يكون حكم العلم حكم المعلوم، فإن تجويد القرآن قدر ما يخلص عن اللحن الجلي فرض عين، لكن العلم المدون المسمى بعلم التجويد ليس بفرض كفاية كما صرح به على
1 / 90
القاري، وسبب ذلك أن تجويد القرآن لا يتوقف على معرفة ذلك الفن بل يمكن تحصيله بمشافهة الشيخ المجود.
وإن كان المعلوم حراما قطعيا أو مكروها تحريميا أو تنزيهيًا، فعلمه كذلك إن لم يكن المرء ولا غيره مظنة وقوعه في ذلك المعلوم، ولذا قال في "المدارك" عند قوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ في الآية دليل على أن تعلم السحر واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية، انتهى.
الفصل "السابع": (إذا كان مظنة الوقوع في الحرام أو المكروه)
وإن كان المرء مظنة الوقوع في الحرام القطعي أو المكروه التحريمي أو التنزيهي، فيفرض عليه معرفة طريق التجنب عن الأول، ويجب عليه معرفة طريق التجنب عن الثاني، ويستحب معرفة طريق التجنب عن الثالث، لأن التجنب عن الأول فرض وعن الثاني واجب وعن الثالث مستحب، ولما وقف معرفة طريق التجنب عن شيء على معرفة ذات ذلك الشيء، لما قال في "تعليم المتعلم"- في بيان محرمات الأخلاق- ولا يمكن التحرز عنها إلا بعلمها وعلم ما يضادها، فيفترض على كل إنسان علمها، انتهى.
يفترض عليه معرفة الأول أي الحرام القطعي، ويجب معرفة الثاني،
1 / 91
ويستحب معرفة الثالث. كأن وقع المرء بين السحرة والفلاسفة وخاف أن يفعل السحر أو يعتقد الفلسفة، فإنه يفترض عليه (ح) معرفة السحر والفلسفة لتجنب عنهما.
وهكذا إذا باشر التجارة فإنه مظنة الوقوع في الربا فيفترض عليه معرفة طريقة التجنب عن الربا وهي تتوقف على معرفة نفس الربا. وكذا كل من باشرا أمرًا يخاف أن يقع في محرماته أو مكروهاته. وكذا من له عضو سليم يفترض عليه ويجب معرفة محرمات ومكروهات [يخاف] أن يفعلها به فاعرف.
الفصل" الثامن": (حكم علم الحرام والمكروه إذا فشا بين الناس)
وإن كان مظنة الوقوع في الحرام أو المكروه كثير من الناس، فعلم ذلك الحرام أو المكروه تحريما أو تنزيها فرض كفاية أو واجب كفاية أو مستحب كفاية على من لم يكن مظنة الوقوع فيها. وفرض عين أو واجب عين أو مستحب عين على من كان مظنة الوقوع فيها. فإن علمه البعض في بدة فيها مظنة الوقوع سواء كان ذلك العالم مظنة الوقوع [أولا] يسقط عن
1 / 92
الباقين الذين ليسوا بمظنة الوقوع، لا عن الباقين الذين هم مظنة الوقوع، فإن جهله أهل تلك البلدة جميعًا أثموا في ترك الأولين وأساءوا في ترك الثالث، مثال ذلك أنه إذا باشر التجارة كثير من أهل بلدة فمعرفة محرمات التجارة ومعرفة طريق التجنب عنها فرض عين على المتجرين وفرض كفاية على غير المتجرين فإن قام بع واحد من المتجرين أو غير المتجرين يسقط عن الباقين الغير المتجرين لا عن الباقين المتجرين، فإنه فرض عين على كل واحد منهم فاعرف.
وأما إن كان مظنة الوقوع في الحرام أو المكروه قليل من الناس نادر فعلهم ذلك الحرام أو المكروه ليس بفرض كفاية ولا واجب كفاية على أحد، بل فرض عين أو واجب عين أو مستحب عين على ذلك المظنة لما قاله قول أحمد في "حاشية الخيالي": فرض الكفاية هو القيام بما يحتاج إليه عامة
1 / 93
الخلق من جهة المعاش والمعاد، انتهى. وكلام الغزالي في الإحياء يشعر بذلك. ولعل وجه ذلك أن في التكليف بالقيام بما يحتاج إليه قليل من الناس حرجا عظينا، ومعرفة مقدار الكثرة والقلة هنا موكول إلى عرف الناس والله أعلم.
الفصل "التاسع": (حكم من يخشى على نفسه الغواية من تعلم المحرمات)
وإن كان [ما] خيف أن يقع كثير من الناس فيه من المحرمات لا يؤمن من أن يجر من يعلمه إلى الغواية مثل السحر وشبهات الفلاسفة والفرق الضالة فلا يحوز أن يقوم به إلا من يأمن من نفسه أن يفعل السحر أو يقع في شبهات الفلاسفة والفرق الضالة، كما صرح به الغزالي في جواز الاشتغال بمجادلات الفرق وسننقله في بيان علم الكلام. وشرطه السبكي في جواز الاشتغال بالفلسفة. وبالجملة أن من لا يأمن من إصابة الضرر له عند مباشرة دفع ضرر الغير لا يجب عليه مباشرة دفعه، ثم إن كان الضرر دينيا فلا تجوز تلك المباشرة.
1 / 94
الفصل "العاشر": (في فرض العين من العلوم)
وهو علم ما كلفه الله عبده في الحال الذي هو فيه. وما كلفه ثلاثة أنواع: اعتقاد وفعل وترك. كذا في التترخانية.
قيل فرض العين من العلوم علم الحال ومعناه علم ما كلفه الله عبده في الحال الذي هو فيه، فعلم الحال معرفة مسائل الإيمان وما فرض من الأخلاق والأفعال، وما حرم منهما، وتفصيل ذلك ما قال في التتارخانية:
إذا بلغ الإنسان في ضحوة النهار يجب عليه معرفة الله تعالى بصفاته بالنظر والاستدلال وتعلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما، ثم إن عاش إلى وقت الظهر يجب عليه [أن يعلم] الطهارة قبل تعلم صلاة الظهر، ثم تعلم الصلاة وعلم جرًا إلى آخره، ثم إن عاش إلى شهر رمضان يجب عليه [تعلم] كيفية الصوم وما يقوم به وما يفسده، فإن استفاد مالًا يجب عليه تعلم كيفية الزكاة ونصابها، وإن بلغ استطاعة الحج وجب عليه تعلم المسافرة إلى مكة وإحرام الحج ومناسكه في مواطنها، هذا إن عاش إلى أشهر الحج،
1 / 95
وهكذا التدريج إلى علم سائر الأفعال الواجبة التي هي فرض عين. وأما الترك فيجب بحسب ما يتجدد من الحال ويختلف باختلاف الأشخاص، ألا ترى كيف يحرم التكلم بالفواحش والنظر إلى السوءات للصحيح، ولا يجب ذلك على الأبكم والأعمى إلى هنا كلامه.
قوله: إذا بلغ يفهم منه أنه لا يجب عليه معرفة الله تعالى قبل البلوغ، وهذا قول كثير من مشايخنا. وقال الشيخ أبو منصور في الصبي العاقل: إنه يجب عليه معرفة الله تعالى، وهو قول كثير من مشايخ العراق، كذا قاله على القاري في ذيل شرح الفقه الأكبر.
قوله بالنظر والاستدلال: يريد النظر إلى خلق السماوات والأرض والاستدلال الإجمالي بحيث تطمئن نفسه، ولا يريد أدلة أهل الكلام لأن ذلك فرض كفاية لا فرض عين.
قوله: وتعلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما، فيه نظر، إذ لا يجب تعلم الكلمتين بل تعلم معناهما ومضمونهما بأي طريق كان، ويدخل في الاعتقاد برسالة النبي ﷺ اعتقاد حقيقة جميع ما جاء به.
1 / 96
قوله: ثم إن عاش إلى وقت الظهر يجب إلخ ...، يفهم منه أنه لا يجب عليه شيء من العلوم غير الإيمان إلا أن عاش إلى وقت الظهر، وفيه نظر، لما في "تعليم المتعلم". وكذلك: أي كما يفترض على المكلف علم ما يقع في حاله، يفترض عليه علم أحوال القلب من التوكل والإنابة والخشية والرضاء فإنه واقع في جميع الأحوال، انتهى.
قوله: وهكذا التدريج إلى علم سائر الأفعال الواجبة التي هي فرض عين كما إذا أجنب يجب عليه معرفة كيفية الغسل، وإذا تزوج يجب عليه معرفة حقوق الزوجية.
قوله: وأما الترك، أي ترك شيء فيجب بحسب ما يتجدد من الحال، فمن باشر التجارة يجب عليه ترك الربا أو التحرز عنه، فيجب عليه علم التحرز عنه ولا يجب في حال عدم مباشرته لها، قال في "تعليم المتعلم": وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علم التحرز عن الحرام فيه، انتهى. ثم اعلم أن من فروض العين الاستدلال العقلي على وجود الصانع ووحدته وسائر صفاته المتواترة كما أشار إليه المنقول عن التتارخانية. وأما سمعيات أركان الإيمان فظني أنه لا يفترض الاستدلال العقلي عليها. يومي إلى ذلك ما
1 / 97
في "تعليم المتعلم": ويعرف الله بالدليل، فإن إيمان المقلد وإن كان صحيحا عندنا لكن يكون أثما بترك الاستدلال، انتهى.
وأما الاستدلال الشرعي، أعني به أن تؤخذ العقائد من الشرع، أما بمطابقة الكتاب والسنة، أو بإخبار علماء الشريعة أنها مما أخبر به الشارع ففرض عين البتة، سواء كان"ـت) العقائد مما يستقل فيه العقل كوجود الصانع بصفاته التي تعرف بالنظر إلى المصنوعات أو مما [لا] يستقل فيه العقل لما قال في شرح المواقف: إن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليعتد بها وإن كانت مما يستقل فيه العقل، انتهى.
الفصل "الحادي عشر": (العاقل البالغ لا يعذر بالجهل بخالقه)
إن العاقل البالغ لا يعذر بالجهل بخالقه وإن لم يبلغ إليه خبره من جهة الرسول. قال على القاري في ذيل الفقه الأكبر، ذكر الحاكم
1 / 98