ومضى في القراءة، سبحان الوهاب، إذا كان صوت سامي سجودا، فصوت مأمون ركوعا ورجاء ودعاء. وصوت كليهما إيمان أو فناء في حروف الكلمة الربانية التي يرتلانها، وكأن كلا منهما أصبح حرفا من الكلمة، أو كلمة من الجملة، أو جملة من الآية، أو آية من السورة.
7
كانت رتيبة تراقب ولديها، وتشهد بقلب الأم وعين البشر هذه المعالم العجيبة التي ينفردان بها عن سائر من عرفت من البشر.
وكلما شبا ازدادت هذه المعالم قوة ووضوحا. كان سامي هادئ السمات، مطمئن القسمات، واثقا في تصرفاته وفي خطواته، خاشعا في غير مذلة، هادئا في غير ضعف. وكان مأمون دائما مأخوذا بأخيه، معجبا به، يطيعه طاعة أب لا أخ لا يكبره بأكثر من سنتين. وشيء آخر كان يذهل الأم هو تلك القوة الجسدية التي يتمتع بها سامي، تلك القوة التي بهرتها في طفولته الباكرة. فقد مشى قبل السن التي يمشي فيها أترابه، وليست تنسى يوم كانت جالسة تريد أن تقوم إلى المكواة الحديدية الثقيلة. وكان سامي جالسا بجوارها، ورآها وهي تمد عينيها إلى المكواة، ولاحظ أنها أوقدت نار وابور الجاز، ووضعت عليه تلك القطعة من الصفيح التي تضعها عادة تحت المكواة، وفوجئت رتيبة بالطفل الصغير يقوم من جلسته، وقد أدرك ما تريد من نظرتها، ومما أوقدت من نار. قام الفتى وحمل المكواة، وقفزت مشفقة أن يقع الطفل من ثقل الحديد، ويأخذها الدهش البالغ أن الطفل حمل المكواة، وكأنه يحمل لعبة من لعب الأطفال، ويقدمها إلى أمه، ويجلس إلى جوارها وكأنه ما صنع شيئا.
وكان مما تلاحظه أنه لم يحاول أن يتفاخر بهذه القوة مطلقا، وكأنه لا يعرفها في نفسه.
وكان الأطفال في ملعبهم إذا تعاركوا ابتعد عنهم، وكأنه يخشاهم، إلا مرة واحدة، وكان أخوه مأمون يلعب مع أصحابه، فإذا بأحدهم يعدو عليه ويضربه ويوقع به، وسامي متباعد لا يحاول أن يتدخل، حتى إذا أمعن الصديق في عدوانه، وارتمى فوق مأمون، وراح يكيل له الضربات، تقدم سامي في هدوء وفي ثقة، وقد فرغ صبره الطويل، وفوجئ الأطفال جميعا بسامي يرفع الطفل، وكأنه يرفع قطعة من القماش المتهرئ، ويلقي به بعيدا، ثم يحمل أخاه إلى البيت. ومنذ ذلك اليوم لم يحاول أي طفل أن يعارض سامي أو مأمون، والأطفال في الملعب لا يخشون الآباء، فكلهم في مراحل الطفولة سواسية، لا تقف مناصب الآباء أمام أعينهم، فهم لا يدرون عن هذه المناصب شيئا، وهي لا تعنيهم في قليل أو كثير. •••
كبر الأخوان وانتظما في سلك الدراسة الابتدائية، وكان بالقرية مدرسة ابتدائية. وكان كلاهما نابغة في فصله، وكان كلاهما حبيبا إلى المدرسين والتلاميذ معا، ولكن سامي مع السنين لاحظ أن شيئا ما في عيون التلاميذ والمدرسين جميعا غير الحب. لم يدركه سامي أول الأمر، ثم شعر كأنما هو طائف من خوف، ولم يدر سامي مأتى هذا الطائف ولا مبعثه، حتى كان يوما جالسا بالفصل وحده، وسمع اثنين من المدرسين يتحدثان من خارج الحجرة وهما لا يعلمان أنه بها. - عجيب شأن سامي ومأمون. - تقصد ابني العمدة. - ألا تعجب معي؟ - كأنهما ابنا قطب من أقطاب الله الصالحين. - كلاهما مثال نادر في الأدب والهدوء مع ذكاء غير طبيعي. - أتراهما يعرفان ماذا يفعل أبوهما؟ - مطلقا. - لا بد أنهما لا يعرفان، لا يمكن أن يكونا على علم بما يصنعه أبوهما بأهل القرية من رعب وقهر وظلم وجبروت. - على فكرة، هل عرفت أنه رفع الإتاوة؟ - حقا؟! - وحاول فرهود أن يحتج فأحرق له قمحه، وهدده أن يفقد بهائمه. - وبعد؟ - رضخ طبعا وقدم الإتاوة كما قررها العمدة. - طيب اسكت وحياة والدك لا يسمعنا أحدهما، وينقل إلى أبيه حديثنا. - أعوذ بالله لا قدر الله! إن أطفالي ما زالوا صغارا إذا قتلت أنا لن يجدوا أحدا بعدي.
وأدرك سامي في مكمنه الهول الراعد الذي سيدخله إلى نفس الأستاذين إذا هما علما أنه سمع ما سمع، فاختفى تحت الدرج، وحين سمع أصوات الطلبة القادمين تظاهر لزملائه، وكأنه يبحث عن قلم سقط منه، حتى إذا دخل المدرس وجده جالسا في مكانه، وهجس في نفس الأستاذ هاجس. - سامي. - نعم يا أستاذ. - لم أرك تدخل الفصل مع إخوانك. - بل كنت معهم. - حسنا.
واطمأن الأستاذ إلى ما في صوت سامي من نبرة طبيعية. •••
تأكد سامي أن المكان خال به وبأخيه، وقص عليه ما سمع من الأستاذين، وقال مأمون: وبعد؟ - ما رأيك؟ - ما رأيك أنت؟ - الآن عرفت سر هذه النظرات في عيون الزملاء والمدرسين. - وماذا نفعل؟ - أنا وأنت لم نسئ إلى أحد، فلماذا نحتمل كراهية الناس لنا؟ - إنه أبونا. - ألا نخبر أمنا؟
অজানা পৃষ্ঠা