طارق من السماء
طارق من السماء
طارق من السماء
طارق من السماء
تأليف
ثروت أباظة
طارق من السماء
1
كانت ولادة لم يشهد التاريخ لها مثيلا، القلوب واجفة، والنفوس هالعة، والعيون زائغة، والأم تكتم صرخات الوالدات التي تطلقها كل أم تلد لتعلن إلى العالم قدوم إنسان جديد إلى الحياة. وعملية الولادة تقوم بها جدة الطفل القادم، فمجيء القابلة إعلان، وهم يحرصون على الكتمان غاية الكتمان.
الصمت يضرب بخيامه على المنزل جميعا؛ فالحديث همس، والخطى تلمس الأرض لمسا، ولا تجرؤ أن تطأها وطئا.
وحول البيت رجال شداد غلاظ يتسمعون ويراقبون، فهم يعلمون أن موعد الولادة قد حان، فإن يكن أهل بيت الوليد يتكتمون في يوم مولده خبر الولادة، فإن مقدمات الولادة هيهات لها أن تتخفى في قرية كل نبأ فيها معلن، وكل همسة صيحة، وكل حركة خبرها ذائع شائع. فكيف لأم حامل أن تخفي حملها؟!
إنها قرية نائية عن الدنيا، وتكاد تبتعد عن الزمان، من قرى الصعيد القاصية من أرض مصر، أسماها الذين نزلوا بها في أول نشأتها بني عمران، وليس فيها من العمران شيء، جهلها التقدم الذي عرفه العالم، وظلت على حالها من يوم نشأتها منذ قبل الميلاد إلى يوم ميلاد الطفل الجديد، تكاد لإغراقها في الجمود إذا الأرض دارت بها لم تدر.
أما الطفل الذي يجيء اليوم فأبوه إبراهيم آدم، نال أبوه ثأر ابنه وهدان الذي قتلته أسرة حمدان لتثأر هي أيضا لقتيل لها اتهموا فيه وهدان، واضطر آدم أن يقتل سليم حمدان ليرفع رأسه في القرية، وما كاد يرفعه حتى قتلته أسرة وهدان، ولم يستطع إبراهيم أن يسكت عن ثأر أبيه فسارع إلى زعيم أسرة حمدان فقتله.
وقبل أن تقتل أسرة حمدان إبراهيم عاجلته السماء بموت رباني فوت على أسرة حمدان ثأرها، فأقسم رجال الأسرة أن يقتلوا وليد إبراهيم المنتظر إن كان رجلا، وهكذا تحلق رجال أسرة حمدان حول بيت إبراهيم ينتظرون الولادة بآذان مرهفة، وعيون طلعة تكاد تخترق الجدران اختراقا.
فكان لا بد لأسرة إبراهيم أن تعيش الأيام السابقة على الولادة منعزلة عن العالم تجهز لليوم الموعود سرا.
وكان لا بد للولادة نفسها أن تتم في هذا الصمت المطبق الذي تمت به. وقد كانت كل خشيتهم أن يعلن المولود الجديد ما تجاهد أمه في كتمانه، وما تبذله من ألم يفوق طاقة البشر في سبيل هذا الكتمان.
وولد الطفل، وقبل أن يطلق الصرخات التي يلقيها كل طفل في وجه الحياة، سارعت أخته عزيزة، ووضعت يدها على فمه، فحرمته أن يعلن الحياة بقدومه.
تمت الولادة في صمت كما أراد لها بيت إبراهيم آدم، ولكنهم كانوا يعرفون أن ما يسترونه اليوم، وما قد يخفونه يومين آخرين أو ثلاثة لا بد أن ينكشف، ولكنهم كانوا قد أعدوا للأمر عدته. •••
في الموهن الأخير من الليل خرجت عزيزة تحمل أخاها، وهي تضع يدا لها على فمه، وتلفه باليد الأخرى بخمارها الذي يغطي رأسها، ويغطي أخاها في آن معا.
وركبت عزيزة مركبا صغيرا أعدته منذ أيام، وأخفته في الأحراش الكثيفة التي تحيط بترعة الرادين. وجرت المركب في الماء مجرى وانيا هامسا، كأنه وشوشة أمواج لشاطئ؛ فقد كانت عزيزة تلمس الماء بمجدافيها لمسا هينا لا يعلو لها صوت، حتى إذا بلغت مشارف قرية التمرة أرسلت مركبها، وتلفتت حواليها في حذر وخشية، ونزلت إلى الشاطئ. وفي الخص الذي أقامته في الصباح وجدت الحمار حيث تركته، فركبته وهي تحتضن أخاها في حدب حريصة دائما ألا يصدر عنه بكاء يفضح هربها به.
الليل ستار، والناس بعد نيام، فلا بأس عليها أن تخترق شوارع القرية، وهي آمنة بعض الأمن، وكان بيت العمدة في جوف القرية والطريق إليه يخترق الكثير من الدروب. وكلما أوغلت في الطريق اقتربت من الأمن، حتى بلغت بيت العمدة، وقلبها يوشك أن يقف من الخوف.
وطرقت الباب طرقا رقيقا، فكأنها طارق من السماء مرة واثنتين وثلاثا، ثم انفتح الباب، واستقبلها العمدة. - هل أتيت به؟ حسنا! - هل أدخل؟ - بل انتظري. - ماذا؟ - إن زوجتي سافرت إلى أسوان عند أختي منذ اتفقنا بعد أن أعلنت هنا أنها حامل. - إذن. - إذن لا بد أن نسافر بالطفل إلى أسوان لتعود به زوجتي، ونعلن أمره إلى الناس. - ولكن الطفل يحتاج إلى رضاعة. - ادخلي فأرضعيه، هل معك ما ترضعينه به؟ - نعم. - إذن فأرضعيه، وأسرعي حتى أنادي سائق السيارة ونسافر.
وسرعان ما أخذت السيارة طريقها إلى أسوان، وكان الفجر يرسل أشعته الأولى إلى الطريق.
وصلت السيارة إلى أسوان، والنهار يملأ الدنيا، وقال العمدة لعزيزة: ابقي حيث أنت. - لماذا؟ - لآتي بزوجتي ونعود. - ألا تعرف أختها بالأمر؟ - بل تعرف. - فما لي لا أنزل بالطفل حتى أرضعه وأريحه بعض الشيء، ونعود به وقتما تشاء، فلم يعد في الأمر عجلة. - معك حق .. انزلي.
وجاءت الأم المزيفة، واستقبلت ركب ابنها الذي لم تلده، ورفعت عن وجهه الدثار، وأشرق وجهها بابتسامة عريضة. - بسم الله ما شاء الله! حلو هو كالقمر ... وقال العمدة: أريني ابني هذا الذي لم أنجبه ... سبحان الخلاق العظيم في وجهه سمو! وسارعت زوجته قائلة: واسمه سامي، إن شاء الله!
ثم نظرت إلى أخته. - هل ستبقين معه؟ - إذا أردت. - حسنا، ولكن هل سبق لك أن رعيت طفلا؟ - الحقيقة لا. - إذن؟! - هل تريدين له من ترضعه؟ - يا ليت. - أعرف في بني عمران أما فقدت رضيعها، وهي فقيرة، وأستطيع أن آتي بها لترعاه وترضعه. - على بركة الله، ولكنني أحببتك لماذا لا تبقين مع المرضعة وتساعدينها في رعاية سامي. - وأنا والله أحببتك يا ست هانم منذ رأيتك أول مرة حين اتفقنا على إحضار الطفل لك. وما أحب إلي أن أبقى في بيتك. فنحن لم يعد لنا في بني عمران شيء يستحق أن نبقى إلى جانبه. الفدانان سيزرعهما خالي ... المهم أنني أحب أن أبقى معك ومع المحروس سامي.
وعاد الركب الذي خرج متخفيا من التمرة في باكر الصباح، وبلغ بيت العمدة قبل أن تغرب الشمس، وأعلن عن عودته بالزغاريد وبالدفوف وبالمزمار.
لقد أنجب العمدة ولدا بعد أن ظل عشر سنوات محروما من النسل.
وكما استطاعت عزيزة أن تهرب بالطفل، استطاعت أن تدبر لأمها مهربا، ولكن بطريقة مختلفة كل الاختلاف. فقد أدركت أن أمها بعد الولادة التي لم يعرف بأمرها أحد أصبحت هيئتها غير تلك التي يعرفها عنها المترصدون لها. وإمعانا في التنكر ألبست أمها ملابس خالها، وخرجت بها بعد غروب الشمس بقليل، حتى ليرى الرائي فيها جسما، ولا يستطيع أن يتبين وجها. وجازت الحيلة، وبلغت الأم مأمنها لترضع وليدها الذي أصبح ابن العمدة، أصبح اسمه سامي زين الرفاعي، فاسم العمدة زين، واسم أسرته الرفاعي.
ولكن الأم تعلم أن الذي ترضعه هو وليدها، وهي بهذا قريرة العين هانئة، وليكن اسم أبيه بعد ذلك ما يكون، ما دام قد نجا من أعداء أبيه، وكتبت له الحياة.
2
عاشت رتيبة أم سامي عيشة هانئة في بيت العمدة قريبة غاية القرب من زوجته حميدة، وكانت عزيزة في البيت هي مديرته التي تقوم بكل شأنه. وسرعان ما أصحبت الأم وابنتها صديقتين لأهل القرية جميعا، وقد اتفقت الأم وابنتها أن ينتسبا إلى قرية المهاجرة، التي تدخل في إطار محافظة المنيا البعيدة كل البعد عن محافظة أسوان. ولم يحاول أحد من نساء القرية ولا من رجالها أن يستقصي أمرهما، فما دار بذهن أحد أنهما تكذبان. واستقر الحال على هذا ومضت الأيام رخاء. رتيبة ترضع وليدها، وحميدة ربة البيت تقربها إليها في حب وحدب وعطف، وهما تقضيان وقتهما في أحاديث لا تنفد، وتمدهما سيدات القرية بمدد من أسباب الحديث لا ينقطع.
والعمدة أصبح لا يرى زوجته إلا وفي رفقتها رتيبة، ولم تستطع رتيبة أن تغفل النظرات الراغبة التي كانت تطل في إصرار من عيني العمدة زين الرفاعي. وكان كيانها يضطرب أشد الاضطراب حين تلح عليها هذه النظرات، فقد كانت تخشى كل الخشية أن يتجاوز العمدة النظرات التي تصدر عنه على رغم أنفه إلى محاولات أخرى تفسد عليها هذه الحياة الهانئة التي تحياها، والتي لم تكن تتمنى خيرا منها. وماذا يمكن أن تأمل أم ابنها مهدد بالثأر أكثر من هذه الحياة التي تحياها مع ابنها وابنتها في ظلال كريمة من عطف الست حميدة. وقد كانت رتيبة تحمل لها مع الاعتراف بالفضل حبا لا ينتهي مداه، فقد كانت أخلاق حميدة رضية سلسلة لا عنف بها ولا كبر. وكانت طيبة عن سجية مواتية في غير افتعال ولا من. وقد أحبت سامي حب أم لوليدها حقا، وكانت رتيبة من الذكاء والفطنة بحيث لم تذكرها قط بأن سامي ربيبها وليس وليدها. ولم يجر هذا على لسانها، حتى ولو كانتا في مأمن كامل من العيون والآذان.
وكانت رتيبة تحرص دائما أن تضع الطفل في حجر أمه في غير أوقات الرضاع، آملة أن يعمق احتضان حميدة له مشاعر الأمومة الفطرية التي لم تعرفها حميدة؛ فهي لم تكن له أما. فلا هي حملته، ولا ولدته، ولا أرضعته، وهي مع ذلك هي أمام العالم أجمع أمه.
ومع الأيام أوشكت حميدة أن تنسى أنها ليست أمه، بل وأوشك زين الرفاعي أن ينسى أنه ليس أباه. لم يكن ينغص حياة رتيبة إلا هذه النظرات الهاربة من عيني العمدة، والتي كانت تتقيها بالتجاهل التام. وكان ينغصها أيضا ما تقوله لها النسوة إذا جلسن إليها بعيدا عن حميدة؛ فقد عرفت رتيبة أن العمدة ظالم جبار، جشع غاية الجشع في معاملته للناس، نهاز للفرص في جمع المال. وكانت رتيبة تدهش مما يفعله العمدة. أيكون جميع المال غاية في ذاته؟! لمن يجمعه؟! لطفل هو يعلم حق العلم أنه ليس ابنه، ولا هو أباه؟ كاذب ذلك الذي يقول إن الإنسان يحرص على المال من أجل أبنائه. إنما هو النهم في جمع المال، مرض قائم بذاته يصيب الإنسان فيخرب نفسه، حتى وإن لم يكن له ولد. وما الولد عند هؤلاء إلا حجة منهارة لا صحة لها. وإن جازت هذه الكذبة على الناس الذي يشهدون سعادة زين الرفاعي في جمع المال، فما كانت هذه الكذبة لتجوز على رتيبة التي ولدت سامي، والتي تعرف من سره ما لا يعرفه في القرية أحد. •••
كانت حجرة رتيبة في جناح من البيت قصي، وكانت عزيزة تبيت معها فيها. وما كان أحد يعرف أن عزيزة ابنتها، وهكذا قضى الله على رتيبة أن تكون أمومتها - وهي أمومة شرعية - مستورة مستترة عن الجميع، لا يعرفها أحد من البيت الذي تعيش فيه، أو من القرية التي تحتوي هذا البيت.
وفي يوم بينما كانت الشمس ترسل شواظا من نار على القرية، وفي فترة الظهيرة التي لا يطيق أحد فيها أن يترك السقف الذي يحميه من سعير الحر، وكانت رتيبة وابنتها عزيزة تنالان قسطا من الراحة في فترة القيلولة، وكان العمدة في حجرته مع زوجته. وكان سامي في سريره بالغرفة المجاورة لهما.
بلغ أذن رتيبة صوت طرق واهن على شباك حجرتها، وتعجبت؛ فهي لم تتعود أن يطرق أحد شباكها. بل ولم تتصور أن أحدا يجرؤ أن يطرق شباكا في بيت العمدة بهذه الطريقة الهامسة. صمتت حينا فتوالى الطرق. أيقظت عزيزة، وساد الصمت لحظات، ثم عاد الطرق وسمعتاه معا ... ما هذا؟ - من؟
قالتاها معا وجاءهما صوت مرتعد. - أنا؟ - أنت من؟ - أنا صميدة.
وقالت رتيبة وصوتها في طريقه إلى الارتفاع: صميدة؟! صميدة من؟ - أنا في عرضك، اخفضي صوتك ... أنا صميدة الدلهوني. - ماذا تريد؟ - أنا واقع في عرضك يا ست رتيبة. - من أين تعرفني أيها الرجل؟ - من سيرتك في البلدة، الجميع يمتدحك. وأنت أقرب واحدة من الست حرم العمدة. - ماذا تريد؟ - أختي. - ما لها أختك؟ - يريد العمدة أن يزوجها غصبا عنها. - والعمدة ما شأنه بأختك؟ - الرجل الذي يريد الزواج منها دفع له مبلغا كبيرا. - مبلغا كبيرا! من هذا الرجل. - الشيخ دهشور الملواني، سمعنا أنه دفع له ثلاثمائة جنيه. - وأختك لا تريده؟ - إنه رجل عجوز تخطى السبعين من عمره وأختي في السادسة عشرة من عمرها. وابن عمها خطيبها منذ هما أطفال. أختي ستموت مني يا ست رتيبة، أنا في عرضك. - وماذا يستطيع العمدة أن يعمل؟ زوجها لابن عمها، ولن يستطيع العمدة أن يصنع شيئا. - ست رتيبة! ألا تعرفين ماذا يستطيع العمدة أن يعمل؟
وجدت رتيبة الفرصة مواتية لتتأكد مما يرويه لها النسوة عن العمدة. - ومن أين لي أن أدري؟ - لك الآن معنا فترة ليست قصيرة ولا تدرين. - أنت تعرف أنني لا أترك بيت العمدة ، ولا أزور أحدا من نسوان البلد. - ولكن نسوان البلد جميعا يزرن بيت العمدة، ويأنسن إليك، ولا بد أنهن قلن لك ماذا يستطيع العمدة أن يعمل! - كلام نسوان لا أصدقه. - إن لم أزوج أختي من دهشور الملواني، فمعنى هذا أن تقتل أختي صبيحة، ويقتل ابن عمها شملول القط، ثم أقتل أنا. - ماذا تقول؟ - ما سمعت يا ست رتيبة. - هل يعقل هذا؟ - أتريدينني أن أفهم أن الست حميدة وأنت لا تعرفان شيئا عن رجال العمدة القتلة؟ - أتتصور أننا نعرف؟ - أما أنت فنعم، يخيل إلي أنك تعرفين. - وافرض، فهل أجرؤ أن أقول هذا لزوجته؟ - طبعا لا. - إذن ففيم مجيئك إلي؟ - كلمي العمدة نفسه. - هل أجرؤ؟ - إنك مرضعة ولده. وهو يعلم أن الست حميدة تحبك كل الحب، وقد يخشى أن تكشفي للست حميدة ما يحاول أن يستره عليها. - أنا أكلم العمدة؟! - حياة أختي بين يديك يا ست رتيبة. - نحاول يا صميدة، امش أنت الآن، واترك لي الموضوع. - أمرك.
قالت لها عزيزة: ماذا تنوين أن تفعلي؟ - والله لا أدري يا بنتي. - الرجل وضع أمله فيك. - سأرى. •••
صحا العمدة من نومه، وذهب إلى حجرة ولده يتناول قهوته هناك، وترك زوجته في سريرها بين نائمة ومتيقظة. كانت رتيبة جالسة على الأريكة، وسامي في حضنها يحرك أطرافه في جذل بعد أن رضع وارتوى. رنا زين الرفاعي إلى جمال رتيبة، كان يرى في وجهها نورا وإشراقا، ورأى في عينيها وهي تنظر إلى سامي نظرات ساجية هانئة، ووجد نفسه ينظر إليها كامرأة بعد أن كانت عنده مرضعة سامي. طويلة القامة، موفورة الجسم في غير استرخاء هادئة السمات تشعر من يراها بالطمأنينة.
نظر إليها لحظات، ثم قال لها: هل رضع؟
وقالت في سعادة: ألا ترى سعادته؟ - أعطيه لي. - تفضل.
وحمل سامي وقامت هي واقفة، فقال لها: بل اجلسي مكانك يا ست رتيبة.
وجلست وراح هو يناغي سامي، ويداعب وجهه، وانتهزت هي الفرصة. - سيدي العمدة. - نعم يا ست رتيبة. - قصدتني امرأة برجاء عندك. - من هي؟ - طلبت إلي ألا أذكر اسمها عندك. - وماذا تريد؟ - أن تتزوج صبيحة من ابن عمها شملول القط.
وانقلب وجهه الضاحك إلى أنواء عاتية من الغضب والسخط، وصاح دون أن يرتفع صوته: من تلك التي طلبت منك هذا؟ - لا تغضب يا سيدي العمدة، كأني لم أقل شيئا. - هل عرفت حميدة شيئا عن هذا الموضوع؟ - لا وشرفك. - إذا عرفت فستكونين أنت التي قلت لها. - لن تعرف. - ولا أسمع شيئا عن هذا الزواج منك. - أمرك. - خذي الولد. - أمرك.
وأعطاها الولد، وخرج دون أن يشرب قهوته. •••
مشاعر شتى متباينة داخلت قلب رتيبة. هذه النظرات الجائحة أرهبت جوانبها. وهذا الوجه الحديدي الملامح الذي ارتمى على جبين العمدة. وهذه الأنياب المكشرة ... ما هذا؟ أيمكن للإنسان أن يكون عدة آدميين في كيان واحد. ألقت إلى وجه ابنها نظرات فارغة ساهمة تحمل في طواياها حيرة ورعبا من المستقبل. وما لبثت أن فكرت في ابنها هذا الذي يبتسم في سعادة غامرة، ماذا يحمل لك الغد مع أب هذه سماته، تنقلب إلى خوالج ذئب، وهذه خلته ينشب في أرواح الآدميين في قريته يدا فراسة تعتصر دماءهم في غير رحمة ولا مهادنة.
تائهة هي حائرة خائفة، يثقل على قلبها أن رجاءها في شأن صبيحة قد خاب. ما لهذه الدنيا تجور على أبنائها، وما لقوم كأن أكبادهم من فولاذ جامد.
وقبل أن تفيق سمعت في البيت ضجيجا وأصواتا متسارعة، وانقضت عليها ابنتها عزيزة. - أمي.
وذعرت رتيبة في هلع آخذ، وقد أخطأت ابنتها في ندائها، وأوشكت أن تكشف المستور من علاقتها بها، ولم تملك نفسها أن صاحت بها في غير وعي. - اخرسي.
وفي لمحة تنبهت عزيزة إلى خطئها، وتلفتت حولها، وعادت تقول في بهرها لا تزال: الحقي يا أمة رتيبة. - هل جننت؟ - جاءت سليمة، لم يسمع أحد، أسرعي إلى الست حميدة إنها في حالة سيئة.
وهمت رتيبة في جد. - ما لها ألف سلامة لها، ماذا بها؟
كانت حميدة شاحبة اللون لاهثة تصيح: هواء ... هواء.
وقالت لها رتيبة: ألف سلامة يا ست حميدة. - صدري يا رتيبة، كأن يدا تقطع فيه بسكاكين حادة . - بعد الشر عنك، العمدة ... أين العمدة؟
وما لبث العمدة أن دخل وقبل أن يسمع شيئا صاحت به رتيبة: نريد طبيبا من البندر فورا ... فورا يا حضرة العمدة. •••
وجاء الطبيب وأعلن: إنها أزمة قلبية.
3
الليالي الحالمة والأيام المشرقة المعطرة بأريج الحب منذ هما طفلان في مرح الصبا الغض، ويدها في يده، وهو يذهب بها إلى كتاب القرية ثم إلى مدرستها، وكانت تعطيه يدها في بلاهة الطفولة ونصاعتها، ومع مرور السنين أحست أن يده بدأت تضغط على يدها، ثم تواتر الضغط، وأحست يدها أن جديدا لا تدريه يشب بين يدها ويده. شيئا ثالثا استشعرت له في قلبها وجيبا غريبا على القلب البريء، ثم سمعت من لقاء يدها بيده حديثا حلوا ونغما ذا أغاريد، ومعاني كلها عذب، فهي نشيد وكلها طروب، فهي رقص ودفوف وناي وعود.
وفجأة قال أخوها صميدة: منذ الغد لا مدرسة لك يا صبيحة.
وانعقد لسانها ... أيكون قد سمع همس يده إلى يدها؟! أتكون الأناشيد العذاب قد بلغت أذنيه؟! لم تجادل، فقد خشيت أن تطالعها من أخيها الحقيقة. انطوت على أسى، وصمتت على قلب واله، وأطرقت رأسها في تخاشع، وإن كانت في نفسها ثورة عارمة. وفي الصباح جاء شملول ليصحبها إلى المدرسة وفاجأه أخوها. - كفى ما تعلمت.
وقال شملول وكأنما مسته جمرة: كيف؟! - أنا أخوها. - وأنا ابن عمها. - أنا صاحب الولاية عليها. - لم أقل شيئا، ولكنها ما زالت صغيرة، ماذا تعمل في البيت؟ - كما تعمل بنات القرية، تساعد في عمل البيت. - إنها ما زالت في الرابعة عشرة. - كان يجب أن تبقى في البيت منذ سنتين. - صميدة. - نعم يا شملول. - أنا أخطب إليك أختك. - أجننت، إنك قلت منذ لحظة إنها في الرابعة عشرة. - أتزوجها عندما تبلغ السادسة عشرة. - أسألها.
ورأى صميدة في عينيها السعادة أعلى صوتا من الحديث.
وقال صميدة لشملول: أوافق.
وقال صميدة: نقرأ الفاتحة غدا في جمع من الرجال. •••
وحين بلغت السادسة عشرة انقض عليهم دهشور بسنواته السبعين وأمواله وأفدنته العشرة، وقدرته على رشوة العمدة. وحاول صميدة محاولته تلك ، وبدلا من أن يعود إلى رتيبة يسألها عن شفاعتها بلغته الأنباء عن مرض حميدة، وبينما هو جالس إلى أخته التي أصبحت كعود جف عنه الماء. وهي مطرقة تحاذر أن يرى أخوها ما علا وجهها من قترة وعبوس. دق الباب وقامت صبيحة إليه تمشي، وكأن بالأرض أشواكا أو جمرات، وفتحت الباب، ودخل محمود القط وراءه أخوه الأصغر شملول. ولم يلق أحد منهما السلام، وإنما صاح محمود في همس: صميدة. - أهلا يا محمود ... أهلا يا شملول.
وأكمل محمود: اسمع يا صميدة! ماذا لك في هذا البلد؟ - ألا تعرف؟ - أرضك؟ - حياتي. - أشتريها منك. - ماذا تقول؟ - أشتري أرضك وخذ أختك وأخي واذهبوا إلى مصر، وأرض الله واسعة، ولا الذل الذي نحن فيه.
وبهت صميدة لحظات، وأعمل ما سمعه في ذهنه، وكأنما يريد أن ينال مزيدا من الوقت ليفكر، وجد نفسه يقول في صوت ذاهل: ماذا تقول؟ - إن لك ولأختك أربعة أفدنة وعشرين قيراطا، ولكما هذا البيت، وكلها ثمنها معروف. هذا هو، واجمعوا ملابسكم، وتوكلوا على الله. كان الإشراق يعود إلى وجه صبيحة طوال الفترة التي تسمع فيها هذا الحديث، وكأنه صعود الشمس إلى سمتها في السماء. وأطرق صميدة هنيهات، ثم رفع رأسه إلى محمود. - أتظن العمدة سيسكت عنك؟ - بل لن يسكت، لقد بعت أرضي أنا أيضا بما فيها أرضك، بعتها كلها. - لمن؟ - ألا تدري لمن؟ - لعوض أبو عوف؟ - طبعا، إنه يكره دهشور الملواني ويكره العمدة. - إذن؟ - سافروا أنتم الليلة إلى مصر وهو مشغول بمرض زوجته. - وأنت؟! - سأبقى يومين أو ثلاثة حتى أبيع بيتكم وبيتنا. - والله لا بأس. - وقع هذه العقود ... الأرض باسم عوض أبو عوف، والبيت باسمي حتى أتصرف فيه.
ووقع صميدة وصاح محمود: ألف مبروك، هيا لا تضيعوا وقتا، اسمع يا صميدة، خذ هذا ثمن أرضي، أبقه معك. - لماذا؟ - لو حاول العمدة أن يرغمني على دفع مبلغ له يجدني لا أملك شيئا. - معقول ... هات المبلغ، ولكن لا تتأخر. إذا لم تبع البيتين في يوم أو يومين دعهما، ولهما عودة. - توكلوا على الله، انزلوا على بيت مسعود الصاحب، أو اجعلوه يعرف عنوانكم. مع السلامة! •••
ورأت حقول التمرة ثلاثة نفر يشقون ظلمات الليل، وكأنهم قطعة منه يتركون وراءهم ذكريات أعمارهم، وماضي أيامهم، وملاعب طفولتهم، ورفات آبائهم وأجدادهم، ومع دمعة في عيونهم كانت تتراءى لهم في ظلمات الليل أضواء أمل في الغد. وإشراقات مستقبل يرجون الله أن يكون هانئا سعيدا.
4
أطال المرض مكوثه في قلب حميدة. وكان البيت جميعه مشغولا بها، حتى العمدة لم يكن يجلس مع الناس في السلاملك إلا ساعة أو بعض الساعة، ثم يرتد إلى داخل بيته يراقب حميدة. فمهما يكن جبارا صلب المشاعر، إلا أنه مع ذلك يظل إنسانا.
وبينما زين الرفاعي جالس بالخارج مع بعض زواره من أعيان التمرة قدم إليه خطاب، وفي محياه جهامة لا تخطئها العين، وعلى شاربيه الكثيفين غضبه. - أريدك في كلمتين يا حضرة العمدة.
وكان الجالسون جميعا يعلمون ما صنعه شملول وصميدة ومحمود، ولكنهم كانوا يحاذرون أن يعرضوا لهذا الحديث حتى لا يثيروا من العمدة ثائرا الله وحده يعلم ماذا هو مدمر في اشتعاله.
وقام العمدة وأدرك الجالسون ما سيلقيه خطاب إلى أذن العمدة، فقام بعضهم يلوذ بالفرار من الإعصار المنتظر، وأقام بعض آخرون وقد تغلب حب الاستطلاع في نفوسهم على الخشية.
وعاد العمدة وهو كظيم يحاول أن يضع على وجهه قناعا من الجمود، فتخونه عروق نافرة، ونأمات نابضة، ونظرات ملتهبة. ولا يقول العمدة شيئا. •••
كان محمود جالسا في بيته متنمرا؛ فقد كان لا ينام الليل متربصا بما قد يصنعه العمدة، حتى إذا لاحت تباشير الصباح كان يختبئ من القرية في مكان مستور وينام.
كان في ليلته تلك جالسا يصنع لنفسه كوب شاي يعينه على السهر، فإذا هو يسمع حفيف ثوب يحاول أن يتخافت، فتحصن وتطلع وانتظر. وفجأة فتح الباب، وانطلق الرصاص، فسارع محمود يجيب الرصاص برصاص، واحتدمت المعركة. وأدرك رجال العمدة أنهم لو استمروا في المعركة، فإنها قد تدور عليهم دوائرها، فأمرهم خطاب أن يتوقفوا، واستداروا قافلين إلى حيث جاءوا. وانتظر محمود حتى أشرقت الشمس، وقام إلى ملابسه جميعها، فوضعها في جوال، وأخذ سمته إلى القاهرة. فليذهب بيته وبيت ابن عمه بددا، ولينج هو بحياته.
لم يحاول حتى أن يمر بعوض أبو عوف ليبيعه البيتين، أو يوكله في بيعهما.
انتظر القطار، وركبه إلى القاهرة، وليدبرها كريم قيوم على عباده.
بلغ صوت الرصاص آذان حميدة وجزعت، وأدرك زين أن أوامره تنفذ، فأجابها حين سألت: لا بد أنهم الخفراء يريدون أن أعرف أنهم ساهرون على الأمن. - الخفراء يطلقون رصاصة أو اثنتين. - لعل أحدهم قد أخذه الحماس.
وصمتت حميدة غير راغبة في اتصال الحوار. •••
عرف العمدة أن المهمة التي كلف بها خطاب لم تنجح، فأصدر أوامره أن يصبح البيتان مخزنين لمحاصيله، حتى لا يفكر أحد في شرائهما.
5
لم يمض طويل وقت حتى لاقت حميدة ربها، وأصبحت رتيبة مشرفة على البيت. وسارت الأيام في طريقها على عادتها، فما تعنى الأيام بمن يموت ومن يقيم، وإنما هي تمضي في طريقها. وقليلا ما تمضي حتى وجدت رتيبة نفسها في مواجهة توقعتها منذ وقت طويل، وأعدت لها عدتها. - يا ست رتيبة أنت الآن مسئولة عن سامي، ولا يستطيع أحد أن يحل مكانك. - أعرف ذلك. - وأنا رجل أحتاج إلى زوجة وأخشى إن أتيت بأخرى أن تضيق بالولد أو تضيقي أنت بها. - لا بأس أن تجرب. - ولماذا لا تتزوجينني؟ - الحقيقة أنني لا أفكر في الزواج مطلقا. - هل أنت على استعداد أن تتركي سامي.
ودون أن تفكر فزعت قائلة: لا ... إلا هذا.
وفي دهشة باغتته لحظة ثم ... - نعم أعرف أنك تحبين الولد، ولكن لم أتصور أنك تحبينه إلى هذا الحد.
وعادت رتيبة إلى ثباتها. - لقد حملته أكثر مما حملته أمه وأرضعته ولا أعرف لنفسي الآن عملا آخر، إلا أن أكون المسئولة عنه.
وصمت زين قليلا، ثم قال وقد أدرك أنه أصبح يملك الموقف: فإذا جاءت سيدة أخرى، فإنني لا أستطيع أن أحميك منها أو أحمي سامي.
وأطرقت وقد أوشكت على الهزيمة. - إنك العمدة ... ولست مثل أي عمدة، إنك تحكم بلدك بيد من حديد، أتعجز عن أن تحكم امرأة في بيتك.
وفهم زين كل ما ترمي إليه، ولكنه قال: إنني عمدة في خارج بيتي، ولكنني في البيت زوج، ولا يستطيع زوج مهما يكن عمدة أن يفرض مرضعة على زوجته في بيته. - ولماذا لا تحسن الاختيار؟ - قد تكون قبل الزواج هادئة حليمة، ثم تنقلب بعد الزواج جبارة طاغية، وأنت تعرفين المرأة إذا وجدت ابن غيرها هو موضع الرعاية في بيتها، حينئذ ستعمل أول ما تعمل أن تخرجك أنت من البيت؛ لأنك تؤثرين الطفل عليها، ثم هي بعد ذلك تنفرد ...
وقاطعته رتيبة: نعم ... نعم أعرف. - إذن؟
وأطرقت، لقد تركت بيتها وبلدتها من أجل ابنها هذا، وهي لا تحب هذا الرجل، وهي تكره خلقه كل الكراهية. فالظلم هو الذي قتل زوجها، وشتت شملها، وأخرجها من بين أهلها وذويها ليرمي بها إلى قوم غير قومها، وناس غير ناسها.
إنها كامرأة تدرك أن حياتها لم تصبح شيئا إلا أن تكون أما لهذا الطفل. وقد ضحت من أجله بكل حياتها الماضية، فهل ترى كتب عليها أن تضحي أيضا بحياتها الآتية؟ وأي مصير يمكن أن تنتظرها به الأيام؟ فإذا ولدت لهذا الرجل وليدا آخر، وصاحت دون أن تدري: لا.
وصاح زين: هذا جوابك؟
ورجعت إلى نفسها وأطرقت: ألا تترك لي فرصة للتفكير؟ - أنا لم أتعود أن أفعل ذلك، ولكن من أجل خاطرك سأقبل.
وفكرت، ولم تجد لنفسها مهربا، إنها الآن إذا رفضت فسيطردها هو من بيته دون أن ينتظر زوجته المقبلة لتطردها. فإذا كان يرى في مطلبه أن ينظرها انتقاصا له، فهيهات أن يرضى من أجيرته أن ترفضه زوجا، وهو بعد لن يكون حريصا على مستقبل طفل ليس ولده أكثر من حرصه على كبريائه.
إنما طلبت منه فرصة للتفكير، حتى لا تتداعى أمامه في نفس الجلسة التي طلب إليها فيها الزواج.
لم يكن هناك خيار لرتيبة، فهي بين اثنين لا ثالث لهما؛ إما أن تترك وليدها نهبا لمستقبل لا يعلمه إلا الله، وإما أن تقبل الزواج من زين الرفاعي الذي قدر الله أن يحمل وليدها اسمه، فأصبح أبا لابنها الذي ليس له بعد الله غيره.
وتزوجت رتيبة من زين بعد أن مر على وفاة حميدة ثلاثة أشهر، وحملت رتيبة في الشهر الثاني من زواجها، وما لبثت أن ولدت ولدا أسماه مأمون، وكانت رتيبة في رعب أن يحل الابن الحقيقي عند زين مكان الابن المصطنع، ولكنها أخفت رعبها ولم يناقشها زين في الأمر، فهو واثق أنها لم تعلم من أمر سامي شيئا، فهو متصور أن سامي عندها هو ابنه وابن زوجته المتوفاة حميدة.
وقد خشي أن تبوح عزيزة بالسر الدفين، فانتهز فرصة خلت به وبعزيزة غرفة. - عزيزة لا أحد الآن يعرف سر سامي إلا أنت. - نعم يا حضرة العمدة. - أخت حميدة التي كانت تعرف السر ماتت، ولم يبق الآن إلا أنت، فإذا عرف السر فجزاؤك سيكون رهيبا. - أعرف يا حضرة العمدة. - لا تلومي غير نفسك. - أتتصور يا حضرة العمدة أن أعرض نفسي لغضبك وأعرض أخي للتشريد؟ - رتيبة لا تعرف شيئا؟ - ومن أين لها أن تعرف؟ لقد أتيت بها يوم أتيت بها لترضع ابن عمدة التمرة بعد أن مات وليدها. - فليظل الأمر كذلك. - سيظل كذلك يا حضرة العمدة، ولا يمكن إلا أن يظل كذلك. •••
وحين تأكدت عزيزة أنها في خلوة بعيدة بأمها نقلت إليها هذا الحديث، ففرحت رتيبة به، وقرت به عينا، وزايلها - أو كاد - رعبها الذي داخلها أن يفوز مأمون بالأمن، وينتهي دور سامي كابن لزين، ذلك الدور الذي فرضته عليه الأقدار دون أن يكون له أي رأي في قبوله أو رفضه.
وهكذا كان البيت مكونا تكوينا عجيبا، أم تعلم أنها أم الابنين والفتاة التي تقوم بشأنهما أيضا. وأب ليس له في الثلاثة إلا ولد واحد، والأب يخفي سر ابنه المتبنى، والأم تخفي سر ابنها وابنتها.
وهكذا يستطيع الظلم والجبروت أن يطمس معالم الحياة، ويخلط نتائج الأرحام، ويخسف عن حياة الناس الشموس التي لا معنى للحياة بغير إشراقها.
وكان أمر زين أمام رتيبة عجبا، فهو في خارج بيته ذلك الجبار القاسي، يقتل وينهب الأموال في يسر وطبيعة مواتية، وهو في البيت أنيس لين العريكة، دمث الحديث، شديد الحدب على ولديه، لا يفضل واحدا منهما على الآخر. وتعجبت رتيبة ... إن تكن غريزة الأب ترغمه على حب مأمون، فأي نبضة في قلبه تجعله يرعى سامي بهذا البر، وذلك الحب والحنان، سبحانه، لا يملك أحد أن يجعل قلب هذا الرجل يلين لغير ابنه إلا الله وحده، وإن له في ذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو، إن له لغاية يطويها سبحانه في خفايا السنين.
6
بدأ سامي يذهب إلى الكتاب، ولم يمض سوى عام وبعض العام حتى لحق به مأمون.
وقليلا ما مكثا في الكتاب، فما ذهبا إليه إلا تنفيذا لرغبة أنشبت براثنها في نفسه أن يتعلم ولداه القرآن، وازداد عجب رتيبة وإن كان صدرها قد انشرح لتمكن هذه الرغبة من زوجها، وازداد يقينها أن الله يهيئ الابنين لقدر بعيد كل البعد عما يسير فيه أبوهما.
وعجب زين الرفاعي من سرعة حفظ سامي ومأمون للقرآن، واستجابة كل منهما استجابة نورانية لآيات القرآن الكريم. وكان سامي يمتاز بشيء لم يشهد له زين ولا أحد من أبناء القرية مثيلا.
فقد كان يحلو لأبيه أن يطلب إليه أن يرتل شيئا من الذكر الحكيم، وكان سامي يسارع إلى الاستجابة. وكان الأب يجد نفسه يحس في صوت ربيبه خشوعا تحف به أجواء إلهية سامقة، ولا يملك ذلك الجبار السفاح دموعه، فإذا هي تتبادر مترسلة من عينيه.
وقد كان زين يحسب أن هذه الدموع لا تطفر إلا من عينيه، وهو يرى ربيبه قد كبر، وأصبح يقرأ القرآن، إلا أنه في يوم كان يجلس بالدوار، وكان الديوان مليئا بالزوار، مكتظا بالقادمين إليه للتحية أو للسمر، أو لحاجة لهم عند العمدة. وقدم إليهم سامي ومأمون يشاركان الجمع الجلسة، ويستمعان إلى ما يدور من حديث.
وفجأة وجد زين نفسه يقول دون أن يملك زمام تفكيره أو عنان لسانه. - سامي، اقرأ لنا عشرا مما حفظته.
وعجب الجالسون أن يعرف زين الله أو يهفو إلى سماع كلماته. وتهيأ جميعهم للنفاق يعلقون به على تلاوة سامي.
وبدأ سامي يقرأ ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
اقتربت الساعة وانشق القمر ، ومضى في قراءته مرتعش الصوت بإيمان عميق عربي اللسان بين الحروف ينطقها في حب وخشوع وإخبات، يحسب سامعه أن صوته يسجد بالقراءة لمالك الملك. والصوت خفيض، ولكن الصمت حوله مرهوب يكاد كل سامع منهم يمسك أنفاسه، لا يعلو منه شهيق أو زفير. لحظات ربانية هومت على الجمع، ويمضي سامي في القراءة، فإذا القلوب كلها وجيب، والنفوس متعلقة بالسموات العلا بعيدة غاية البعد عن الأرض وما فيها، والدموع من الجمع سواجم هاملات، لا يطيق فرد منهم أن يمسكها لا تهمى، بل إن أحدا لا يحاول أن يذودها ... لقد كانت كل دمعة تسبيحة مرفوعة إلى رب العرش، وأحس الجمع إحساسا واحدا أنهم جميعا أصبحوا عند سدرة المنتهى قريبين غاية القرب من العرش، وسامي يقرأ لا يلتفت أمر الجمع حوله أنه هو في الملكوت الأعلى هناك عند الملك القدوس في الساحة العلوية التي لا يبلغها إلا ذو حظ عظيم.
وحين قال سامي: صدق الله العظيم، شمل الصمت الذاهل المكان، وتملكت الرهبة قلوب الحاضرين، فهزهم هزا، ثم علا فجأة نحيب مأمون، واندفع إلى أخيه يقبله ويحتضنه، وصحا الجمع من البهر الذي لفهم، وراحوا يحيطون بسامي تتعالى أصواتهم: ما هذا بصوت بشر، سبحان من أعطاك! ما هذا الذي ترتله؟! كأننا نسمع القرآن لأول مرة، وتوالت التعليقات، والتفت سامي إلى أخيه مأمون. - مأمون اقرأ. - بعدك؟ - نعم. - هيهات. - بل تقرأ. - أمرك.
وجلس مأمون جلسة القارئ، وبدأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .
ومضى في القراءة، سبحان الوهاب، إذا كان صوت سامي سجودا، فصوت مأمون ركوعا ورجاء ودعاء. وصوت كليهما إيمان أو فناء في حروف الكلمة الربانية التي يرتلانها، وكأن كلا منهما أصبح حرفا من الكلمة، أو كلمة من الجملة، أو جملة من الآية، أو آية من السورة.
7
كانت رتيبة تراقب ولديها، وتشهد بقلب الأم وعين البشر هذه المعالم العجيبة التي ينفردان بها عن سائر من عرفت من البشر.
وكلما شبا ازدادت هذه المعالم قوة ووضوحا. كان سامي هادئ السمات، مطمئن القسمات، واثقا في تصرفاته وفي خطواته، خاشعا في غير مذلة، هادئا في غير ضعف. وكان مأمون دائما مأخوذا بأخيه، معجبا به، يطيعه طاعة أب لا أخ لا يكبره بأكثر من سنتين. وشيء آخر كان يذهل الأم هو تلك القوة الجسدية التي يتمتع بها سامي، تلك القوة التي بهرتها في طفولته الباكرة. فقد مشى قبل السن التي يمشي فيها أترابه، وليست تنسى يوم كانت جالسة تريد أن تقوم إلى المكواة الحديدية الثقيلة. وكان سامي جالسا بجوارها، ورآها وهي تمد عينيها إلى المكواة، ولاحظ أنها أوقدت نار وابور الجاز، ووضعت عليه تلك القطعة من الصفيح التي تضعها عادة تحت المكواة، وفوجئت رتيبة بالطفل الصغير يقوم من جلسته، وقد أدرك ما تريد من نظرتها، ومما أوقدت من نار. قام الفتى وحمل المكواة، وقفزت مشفقة أن يقع الطفل من ثقل الحديد، ويأخذها الدهش البالغ أن الطفل حمل المكواة، وكأنه يحمل لعبة من لعب الأطفال، ويقدمها إلى أمه، ويجلس إلى جوارها وكأنه ما صنع شيئا.
وكان مما تلاحظه أنه لم يحاول أن يتفاخر بهذه القوة مطلقا، وكأنه لا يعرفها في نفسه.
وكان الأطفال في ملعبهم إذا تعاركوا ابتعد عنهم، وكأنه يخشاهم، إلا مرة واحدة، وكان أخوه مأمون يلعب مع أصحابه، فإذا بأحدهم يعدو عليه ويضربه ويوقع به، وسامي متباعد لا يحاول أن يتدخل، حتى إذا أمعن الصديق في عدوانه، وارتمى فوق مأمون، وراح يكيل له الضربات، تقدم سامي في هدوء وفي ثقة، وقد فرغ صبره الطويل، وفوجئ الأطفال جميعا بسامي يرفع الطفل، وكأنه يرفع قطعة من القماش المتهرئ، ويلقي به بعيدا، ثم يحمل أخاه إلى البيت. ومنذ ذلك اليوم لم يحاول أي طفل أن يعارض سامي أو مأمون، والأطفال في الملعب لا يخشون الآباء، فكلهم في مراحل الطفولة سواسية، لا تقف مناصب الآباء أمام أعينهم، فهم لا يدرون عن هذه المناصب شيئا، وهي لا تعنيهم في قليل أو كثير. •••
كبر الأخوان وانتظما في سلك الدراسة الابتدائية، وكان بالقرية مدرسة ابتدائية. وكان كلاهما نابغة في فصله، وكان كلاهما حبيبا إلى المدرسين والتلاميذ معا، ولكن سامي مع السنين لاحظ أن شيئا ما في عيون التلاميذ والمدرسين جميعا غير الحب. لم يدركه سامي أول الأمر، ثم شعر كأنما هو طائف من خوف، ولم يدر سامي مأتى هذا الطائف ولا مبعثه، حتى كان يوما جالسا بالفصل وحده، وسمع اثنين من المدرسين يتحدثان من خارج الحجرة وهما لا يعلمان أنه بها. - عجيب شأن سامي ومأمون. - تقصد ابني العمدة. - ألا تعجب معي؟ - كأنهما ابنا قطب من أقطاب الله الصالحين. - كلاهما مثال نادر في الأدب والهدوء مع ذكاء غير طبيعي. - أتراهما يعرفان ماذا يفعل أبوهما؟ - مطلقا. - لا بد أنهما لا يعرفان، لا يمكن أن يكونا على علم بما يصنعه أبوهما بأهل القرية من رعب وقهر وظلم وجبروت. - على فكرة، هل عرفت أنه رفع الإتاوة؟ - حقا؟! - وحاول فرهود أن يحتج فأحرق له قمحه، وهدده أن يفقد بهائمه. - وبعد؟ - رضخ طبعا وقدم الإتاوة كما قررها العمدة. - طيب اسكت وحياة والدك لا يسمعنا أحدهما، وينقل إلى أبيه حديثنا. - أعوذ بالله لا قدر الله! إن أطفالي ما زالوا صغارا إذا قتلت أنا لن يجدوا أحدا بعدي.
وأدرك سامي في مكمنه الهول الراعد الذي سيدخله إلى نفس الأستاذين إذا هما علما أنه سمع ما سمع، فاختفى تحت الدرج، وحين سمع أصوات الطلبة القادمين تظاهر لزملائه، وكأنه يبحث عن قلم سقط منه، حتى إذا دخل المدرس وجده جالسا في مكانه، وهجس في نفس الأستاذ هاجس. - سامي. - نعم يا أستاذ. - لم أرك تدخل الفصل مع إخوانك. - بل كنت معهم. - حسنا.
واطمأن الأستاذ إلى ما في صوت سامي من نبرة طبيعية. •••
تأكد سامي أن المكان خال به وبأخيه، وقص عليه ما سمع من الأستاذين، وقال مأمون: وبعد؟ - ما رأيك؟ - ما رأيك أنت؟ - الآن عرفت سر هذه النظرات في عيون الزملاء والمدرسين. - وماذا نفعل؟ - أنا وأنت لم نسئ إلى أحد، فلماذا نحتمل كراهية الناس لنا؟ - إنه أبونا. - ألا نخبر أمنا؟
وقال سامي بعد ريث تفكير: واحدة من اثنتين، إما أنها تعرف ولا تستطيع أن تصنع شيئا، وإما أنها لا تعرف، وحينئذ لن تستطيع أن تصنع شيئا أيضا. - أنت محق، فماذا ترى؟ - أرى أن نصبر حتى تتم هذا العام الدراسة في المدرسة الابتدائية، ونطلب إلى أبينا الذهاب إلى المركز للدراسة في الإعدادية. - وأنا ... ما زال أمامي عامان. - سأطلب من أبي أن نذهب أنا وأنت، فما دام سيفتح بيتا هناك، فمن الطبيعي أن يذهب كلانا. - معقول.
8
رحب مسعود الصاحب بأبناء بلدته، وأنزلهم أهلا، وحين تداولوا أمرهم معه أفسح لهم من الآمال ما لم يخطر لهم على بال. - توكلوا على الله، الصعيدي منا ينزل مصر لا يملك إلا صحته، ويعيش أحسن عيشة فكيف وأنتم تحملون ما تحملون من مال؟ - اسمع يا مسعود نحن لم نخرج من بلدتنا إلا هذه المرة. - أعرف ذلك. - ونحن نترك لك الأمر كله. - لنبدأ أولا بزواج صبيحة وشملول. - أترى هذا؟ - حتى يتاح لهما أن يعيشا معا، وزواجهما فرصة أن يعرفا أبناء بلدتهما، وتقول صبيحة: وكيف أتزوج قبل أن أعد المنزل؟
ويقول مسعود: سأترككم فترة صغيرة من الزمن لأهيئ لك ولزوجك المنزل.
ويقول صميدة: هل الأمر ميسور إلى هذا الحد؟
ويقول مسعود: هو أمر في غاية الصعوبة على جميع الناس إلا علينا نحن أبناء الصعيد، فنحن بيننا معاملات قوية، ومشكلة الفرد منا مشكلة الجميع. فاترك الأمر لي أدبره، ألا يكفيك حجرة بمنافعها؟
ويقول شملول: يا عم مسعود، إننا نبدأ حياة جديدة، والله وحده يعلم كم من الوقت سنقيم في هذا البيت، وأنت تعلم أننا إذا كنا اليوم نجد عطفا من أصدقائك، فسرعان ما نصبح منكم ونهتم معكم بمشاكل الآخرين، ويستعصي علينا أن نجد من يهتم بمشاكلنا، فكلما كان البيت متسعا كلما كان هذا أنسب، حجرة لا تصلح طبعا. وخاصة ومعنا الآن صميدة، ونحن ننتظر أخي محمود أيضا. - يا ابني كلامك معقول، ولكنني قدرت طبعا أن صميدة ومحمود سيعيشان في بيت آخر، إنما علينا أن نهيئ مكانا لأبنائكما، دع الأمر لي، سلام عليكم.
وحين عاد مسعود بعد ساعتين كان قد وطأ لهم كل العقبات، ووجد في روض الفرج شقتين. وما أن سمع ضيوفه هذا حتى شملهم الفرح والعجب معا، ولكن عجبهما زال حين عرفا أن العمارة لسليم الخشت، وهو من قرية الدميرة المجاورة لقريتهم، أثرى في العمل في سوق الفاكهة، وظل شديد الانتماء لقريته، والقرى المجاورة لها.
وانتقل الركب إلى البيتين الجديدين، وبدأ الجميع في الصباح يشترون الأثاث بصحبة مسعود، الذي كان على صلة وطيدة بكل متجر دخلوا إليه.
وما هي إلا ثلاثة أيام حتى كان البيتان صالحين للإقامة غاية الصلاحية، ولم يجد محمود صعوبة في الوصول إليهم.
وبات محمود ليلته مع شملول، وباتت صبيحة مع أخيها صميدة، ودعا محروس إلى الفرح بعد أسبوع من مجيء محمود، ولم يكلفهم هذا الفرح شيئا، فقد تعاون أبناء الصعيد بروض الفرج في إقامة الفرح، وعرف الجميع العروسين الجديدين، وعرف العروسان أبناء الصعيد في المنطقة.
ومر أسبوع آخر ترك فيه محروس العروسين يستمتعان بعرسهما، ثم ... - وبعد يا شملول. - نعم. - نفكر فيما نحن مقبلون عليه.
وقال صميدة: أنت رئيسنا هنا. - اسمعوا نحن قيمتنا هنا بعملنا. - طبعا. - الفلوس تذهب الآن إلى البنك ونودعها. - كلها؟! - تقريبا. - وبعد؟ - أعددت لكل منكم عملا. - لكل منا؟ - شملول سيعمل في محل سليم الخشت لبيع الفاكهة بالزمالك، حتى يتعلم هذه الحرفة.
ويقول محمود: ونعم العمل! خاصة وهو يجيد القراءة والكتابة.
ويقول محروس: وأنت يا محمود وأنت يا صميدة ستعملان معي في المقاولات. فأنا لن أجد أحدا أطمئن إليه مثلكما. وبعد وقت قليل سأجعل كلا منكما يتولى مقاولاته الخاصة به.
وهكذا استقر المقام بالقادمين، وعرف كل منهم طريقه الواضح في الحياة.
9
حين حصل سامي على الابتدائية جلس إلى أبيه جلسة عرف بها الأب أن في نفس ربيبه أمرا يريد أن ينفضه على مسامعه. ولم يعجب الأب من تلك النظرة التي اتسمت بها عينا سامي منذ فترة؛ فقد تعود عليها. كان سامي إذا جلس إلى أبيه نظر إلى السماء حذرا أن تلتقي عيناه بعيني أبيه، ولم يعد الأب يعجب، ولكنه لما يزل جاهلا ما تعنيه هذه النظرة، ولا يجد لها سببا.
منذ عرف سامي ما عرف من أمر أبيه انشطرت نفسه شطرين، فهو ابن يكن لأبيه، أو لمن يظن أنه أبوه، كل العواطف التي تجيش في نفس ابن قبل أبيه من حب وشكر وولاء. وهو كإنسان تعلقت روحه بأسباب السماء، وأحب الله حتى تفانى في هذا الحب، يرى أن ما يصنعه أبوه بالناس إجراما واعتداء على حقوق الله، وعلى إنسانية الإنسان الذي جعله الله أكرم مخلوقاته. وكان في نفسه يتساءل لماذا يمتحنه ربه هذا الامتحان العسير؟ ويمزق مشاعره هذا التمزق، والله هو العدالة المطلقة؟ وهو سبحانه المطلع على القلوب، وهو سبحانه يعلم كم يفنى سامي في حب الله اللطيف الرحمن!
وفي هذه الحيرة كان سامي يتحرى دائما إذا جلس إلى أبيه ألا ينظر إليه عينا بعين؛ فقد كان يمثل في نظره تناقضا غير منسجم مع طبيعة الأمور، كيف يكون أبا حانيا، وزوجا بارا في بيته؟! وكيف يدمر حياة الناس الذين هم مثله آباء وأزواج وأخوة وأبناء؟!
قال زين لابنه: أراك تريد أن تقول شيئا؟
وقال سامي ونظرته معلقة بالسماء لم تزل: نعم يا أبت. - فقل. - أريد أن أتلقى تعليمي الإعدادي بالمركز. - ولماذا؟ - إنني أعد نفسي لأكون صاحب شهادة عالية، وأريد منذ هذه المرحلة التي أنا فيها أن أتلقى تعليمي على أحسن المصادر المتاحة. - وترى أن المدرسة الإعدادية هنا لا تصلح لذلك؟ - إنني هناك سأكون متفرغا للدراسة، كما أنني سأكون قريبا من المكتبة، وأستطيع أن أحصل على ما أشاء من كتب، والمركز قريب على أية حال! - ولكنك بهذا ستكون وحدك! - إذا سمحت لي صحبت معي أخي مأمون، فكلانا لا يترك صاحبه، وهو أيضا هناك سيكون تعليمه خيرا من هنا. - ومعنى ذلك أن تصحبك أمك؟ - هذا إليك. - أتريد أن تتركني وحدي؟ - يا أبي أنت مشغول بعملك. - أليس من حقي أن يكون لي بيت؟ - إنك لا يمر عليك أسبوع دون أن تذهب إلى المركز مرة أو مرتين، والتليفون موجود تستطيع أن تطلبنا وقتما تشاء. - هل أنت مصمم؟ - أما أنا فمصمم، نعم، ولكن الأمر الأخير لك.
عجيبة تلك المشاعر التي كانت تداخل نفس زين من ربيبه سامي، إنه كان يحس نوعا من الرهبة، وهو يتحدث إليه، أهي رهبة المخطئ أمام النقاء، أم أن في سامي هذا سرا خفيا يفرض الإجلال على من يتحدث إليه حتى ولو كان هذا المتحدث أباه الذي إن لم يكن قد ولده، فهو الذي تلقفه وليدا وشمله برعايته، حتى أصبح هذا الفتى المهيب في هدوء، الجليل في تواضع، كان زين واثقا أنه لن يستطيع أن يرفض طلب ولده، وكل ما استطاع أن يفعله. - إذن أرسل معكما خادمة ترعى شأنكما وتتركان أمكما لي. - هذا إليك. - ولكن والدتك لن تقبل. - أحسب هذا. - فلنسألها. •••
وذهبت الأم وابناها إلى بيت استأجره لهما زين، واستقرت بهما الحياة هناك، وصحب الجميع فواز الشيمي الذي ظل يرافق سامي إلى المدرسة منذ اليوم الأول لدراسته، والذي يحبه سامي ويرعاه، حتى أصبح معروفا في بيت العمدة أنه مخصص لسامي ثم لمأمون كليهما. وقد ارتأت رتيبة أن وجود فواز معهم هام، حتى يشتري لهم مطالب البيت، وصحبت معها طبعا ابنتها عزيزة، واستقر بهم البيت الجديد في المركز، وركب لهم التليفون أيضا ففي المراكز مشكلة التليفون ليست في عسرها بالبنادر والمدن. واستطاع سامي أن يحصل على ما يشاء من كتب، وجعل أخاه مأمون يقرأ معه، فأصبح كل منهما نسيجا وحده بين التلامذة. وأحس التلاميذ أن سامي وأخاه مأمون من صنف آخر غيرهم، وساد بينهم هذا الشعور الذي يختلط فيه الإعجاب والإكبار بالغيرة والحسد والشعور بالتنقص، ولكن التلاميذ على كل حال لم يكن يبدر منهم إلا الود، وإن طفر الحقد على وجه بعضهم، فما يلبث أن يمحى ويعود أدراجه إلى خفايا الضمائر، ويستتر هناك لا يعلم أمره إلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
حصل سامي على الإعدادية بتفوق ، وانتقل إلى المرحلة الثانوية، وحاله تجاه أبيه على ما هي عليه، وحيرته من العذاب الذي ألقاه أبوه إليه كما هي، يسأل ربه كل حين: لماذا يا إلهي هذا العذاب الذي أنا فيه؟ يسأل ربه كل حين، أنت تدري يا إلهي كم أحبك، وكم أطيعك، وكم أفنى في حبي، فلماذا؟!
وفي ليلة أخذه النعاس، وهو في هذه الحال من التهجد والمساءلة، فرأى في منامه عجبا.
رأى شيخا مهيبا وجهه كله صلاح وتقوى ونور يركب البحر، ولكن مركبه فيه ليس سفينة ولا هو قارب، وإنما حوت ضخم يشق به العباب، ويأتمر بأمره، ولم يكن حين يأمره يحدثه، وإنما كان الحوت يدري ما يريد سيده، فيأتمر بأمره بصورة تلقائية لا يعرف الناس لها مثيلا.
ويظل الشيخ النوراني سائرا في البحر، وسامي معه يصاحبه، وقد اطمأنت نفسه، وأصبح في سعادة سماوية لا يحسها إلا حين يقرأ القرآن، وبينما الشيخ النوراني على حوته يشق الماء شقا. عرضت له سفينة ضخمة، فإذا هو يخطو خطوة فيصبح فوق السفينة والحوت يسير بجانبها، ولا ينظر ركاب السفينة إلى الشيخ، وكأنه ما شاركهم مركبهم، بل هم حتى لا يرون الحوت، ولا يحسون من أمره شيئا. وإذا الشيخ النوراني يصنع صنيعا يذهل له سامي ذهولا مفجعا. إن الشيخ الرباني يخرق السفينة ويتلفها، وحينئذ فقط يتنبه الركاب إلى ما حدث بمركبهم دون أن يروا الشيخ أو يشعروا به.
ويصيح به سامي: أتخرق السفينة لتغرق أهلها؟ أهذا عدل؟ أيعقل أن شخصا في عظمتك يصنع هذا الصنيع؟
وينظر إليه الرجل الرباني ولا يكلمه، وإن كان يبدو عليه أنه سمعه، ويلح سامي في استنكار ما رأى. - إنك رجل نوراني ... إنك رجل رباني ... أمعقول هذا الذي تفعله؟ وكان الشيخ قد استقر على الحوت، فنظر إلى سامي نظرة هادئة مطمئنة، وابتسم له، فكأنما أشرق عن فمه ضياء فجر، ومشى به الحوت وسامي معه لا يدري كيف يتسنى له أن يكون في رفقته.
ورسا الحوت إلى أرض مدينة، وخرج الشيخ النوراني، ومضى في طريق بين بيوت، وإذا بغلام مقبل عليه حتى إذا اقترب منه وأصبح بين يديه إذا به يضربه ضربة صاعقة فيقتله، ويحيط الهول الآخذ بسامي ويتملكه الذهول، وتكاد الدهشة أن تعقد لسانه، ولكنه جاهدها، حتى استطاع أن يصيح بالشيخ في استنكار شديد: أتقتل نفسا زكية بغير نفس؟ أهذا عمل يرضاه الله؟ أهذا معقول؟ لقد كنت أحسبك ربانيا!
ولم ينظر إليه الشيخ، وكأنه ما سمعه وصاح سامي ثانية وثالثة ورابعة. فنظر إليه الشيخ وابتسم تلك الابتسامة المشرقة بالنور، وصمت سامي.
وركب الشيخ حوته، ومضى طريقه حتى بلغا قرية نزل بها الشيخ واختفى الحوت. ورأى الشيخ جماعة كبيرة من الناس فاقترب منها، وقال في مسألة وفي اعتزاز لم يزل يحتفظ به: ألا أجد عندكم طعاما؛ فقد مسني التعب ولا أجد هنا طعاما.
فأشاح عنه الناس، وكأنهم ما سمعوا مسألته.
وانصرف الشيخ عنهم ومضى طريقه من القرية في هدوء من يعرف مقصده. وبلغ الشيخ جدارا يهم بالسقوط، فراح يصلح شأنه ويقومه، حتى أصبح ثابتا قويا.
فقال سامي: هذه أول حسنة أراك تصنعها، ولكنها أيضا عجيبة أيرفض أهل القرية إطعامك، فتصلح لهم حائطا يوشك أن ينقض؟ ألم يكن يجدر بك أن تطلب منهم أجرا جزاء ما صنعت.
ونظر إليه الرجل وابتسم، ثم رجع إلى الحوت فركبه، وبلغ صخرة رسا عندها الحوت، فنزل الرجل النوراني، وجلس عليها، وأشار إلى سامي فقدم إليه والذهول لا يزال يحيط به، وأومأ إليه الرجل، فجلس سامي، وأراد سامي أن يعود إلى استنكاره، ولكن الرجل النوراني سارع قائلا: اسمع حتى يطمئن قلبك؛ أما السفينة فهي لقوم مساكين لا حياة لهم إلا بالعمل في البحر. - أوهذا سبب يجعلك تخرقها وتغرقها؟ - بل إني أنقذها. - لا أحسب أن مع الخرق إنقاذا! - بل هو الحق، فإني أردت أن أعيبها عن عمد؛ لأن ملكا ظالما كان قادما من خلف السفينة بأسطوله، وكان يستولي على كل سفينة يجدها غصبا. وأمرني الله أن أخرق هذه السفينة، حتى يراها الملك الطاغية وكأنها ستغرق فيتركها لأصحابها المساكين. - وهل سلمت السفينة؟ - ولم يأخذها الملك اللص .
وهم سامي أن يفتح فمه، فإذا بالشيخ يقول: تريد أن تسأل عن الغلام؟ - أمعقول هذا؟! - إن أبويه مؤمنان قريبان إلى ربهما كل القرب. - أصبحت المصيبة أعظم. - بل انتظر ... إن هذا الابن كان سيرهقهما ويسيء إليهما، ويلاقيان منه الشقاء والعقوق والعدوان، فأردنا أن يهب لهما ربهما خيرا منه ابنا زكيا بارا يصل الرحم، ويكون لهما على الحياة عونا، ولا يكون عونا للحياة عليهما. - ولكن الأبوين سيحزنان لموت ابنهما فهما لا يدريان أنهما كانا سيجدان من ابنهما هذا عقوقا ونكرا. - إن حزن عام أو عامين خير من نكد الدهر كله، وما أدراني وما أدراك؟! لعل الله يكتب لهما مزيدا من الخير جزاء صبرهما على الجزع الذي أحاط بهما لموت الغلام! - أصبت و... - تريد أن تسأل عن الجدار؟ - نعم. - أتخيلت أنني أريد من الناس طعاما وأنا في حمى الله؟ - دهشت لهذا. - أنا أردت أن أمتحن كرم هؤلاء الناس، فكانوا عندما توقعت منهم بخلا وشحا. - والحائط الذي أقمته؟ - إنه لغلامين يتيمين في هذه المدينة، وإن تحته كنزا، وقد كان أبوهما رجلا صالحا، فشاء ربك في علياء سمائه أن يبلغ الفتيان أشدهما، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وإكراما لعباده المؤمنين. وأنا يا بني لا أفعل ما أفعل مختارا، فما صنعت شيئا مما صنعت عن أمري. - باركك الله أيها الشيخ الرباني! سلام عليك. - إلى أين؟ - أعود. - بل انتظر. - إذا أمرت. - فاجلس. - أمرك. - ألم تكن تسأل ربك لماذا جعلك شقيا بأبيك وأنت على ما أنت عليه من حب الله وطاعته؟ - لا أعجب الآن حين أجدك تعرف هواجس نفسي. - أعرفت الآن؟ - إن قلت نعم، عرفت أنت أنني لم أصدقك القول. - يا بني، إن عدالة السماء لا صلة لها بعدالة الأرض. إن الإنسان في دنياه هذه الضيقة لا يستطيع أن يصل إلى عدالة السماء، ولكن الإنسان حين يؤمن إيمانك يثق أن الله وهو العدالة المطلقة لا يريد بالناس إلا خيرا. وقد رأيت المركب قد خرقت، ولكن الله أنقذها من السلب. ورأيت الغلام قد مات، والموت ليس عقابا لمن مات ، وقد نقله الله إلى جواره قبل أن يسيء إلى والديه، وقبل أن يصبح جبارا شقيا، فموته إذن رحمة به وثواب لوالديه، أهذا النوع من العدالة المطلقة يعرفه البشر. والجدار حفظ به للأسرة المؤمنة كنزا أراد سبحانه أن يظهر في الوقت الذي قدر سبحانه أنه أحسن الأوقات لهما. فعدالة السماء يا بني هيهات لبشر أن يدركها، وإنما علينا فقط أن نؤمن بها، ونؤمن أنه الرحيم الرحمن اللطيف الخبير. هيه يا بني أوجدت جوابا لسؤالك؟
وصحا سامي من نومه وعيناه تفيضان بالدمع وتوضأ وصلى، ثم صلى، ثم صلى. يدعو ربه ويشكر آلاءه عليه. سبحانك ربي، فأنا إذن أثير عندك قريب منك. عبدك، أنا أعاهدك يا رب العالمين أن أكون حتى ألقاك العبد الشاكر العامل في طاعتك، أصحب أبي بمعروف، وأرد ظلمه عن الناس بكل ما أملك من الإيمان والقوة التي وهبت لي. اللهم أعني على اتباع أوامرك، وعلى رفع الظلم عن المظلوم. وعلى رد الحق إلى أصحابه إنك أنت العزيز ذو القوة المتين، اللهم لقد بلوتني لتختبرني بما يفعل أبي، اللهم أنت القائل:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، اللهم فاجعلني من أولئك الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، فقد قلت عنهم سبحانك:
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
10
ما لبثت صبيحة أن أنجبت لشملول ابنهما الأول فالثاني، وما لبث شملول أن أصبح صاحب متجر خاص به، فهو ذو ثراء عريض. ولم يمض كثير وقت حتى أصبح صميدة ومحمود من المقاولين الواسعي الثراء، وأصبحت الحياة بالنسبة للمهاجرين جميعا واضحة المعالم، بينة السمات.
ودخل ماهر ومختار ولدا شملول إلى المدرسة، وانتظما في السلك الدراسي، وسار خطواتهما الدراسية في توفيق. •••
وازداد سعار العمدة زين الرفاعي، وفشا رجاله في المنطقة جميعها يفرضون ما يشاء زين من أوامر. وكان زين ذكيا فهو يجزل العطاء لمعاونيه، ويعاملهم في كرم باذخ وإسماح .. لماذا هذا المال؟ .. لمن؟ .. لولدي سامي ومأمون .. ماذا؟ .. ماذا .. ما قلت؟ .. سامي؟! أتختلق الكذبة وتصدقها؟ وهل سامي ابنك؟ هكذا أثبته في شهادة الميلاد .. أتساوي إذن بينه وبين ابن دمك؟ .. وماذا بيدي أن أصنع؟ وكيف أفرق بينهما في المعاملة؟ .. لا أحد يعلم أن سامي ليس ابني إلا عزيزة، وقد حافظت على السر لم تخنه .. وهي تعلم سطوتي وجبروتي، ولن تفكر يوما أن تخون سري .. إذن كيف أستطيع أن أفرق في المعاملة بين سامي ومأمون؟ .. لا سبيل أمامي .. ومن أين كنت أعلم أنني سأرزق بطفل من رتيبة؟ وهل كنت أتصور حين جاءت رتيبة إلى بيتي لترضع سامي أنها ستصبح زوجتي وأم ابني الحقيقي؟ عجيب أمر رتيبة .. إنها تعامل سامي كما لو كان ابنها شأنه شأن مأمون، بل إنها أحيانا تفضل سامي في المعاملة بمقولة أنه الأكبر. إن شأن سامي هذا عجيب هو أيضا، أي سر فيه يجعلني وأنا لست أباه أشعر كأنني حقا أبوه، حتى إنني كثيرا ما أنسى أنني اصطنعته اصطناعا واستجلبته من حيث لا أدري محاولا أن أرضي غريزة الأمومة في زوجتي. وقد تلقفته طفلا في يومه الأول، ثم أنا بين يديه أحس رهبة، وتروعني من حوله هيبة لا تطالعني من أحد. وأنا رجل لم أعرف الخوف من أحد. لقيت من لقيت من كبار رجال المديرية، بل والدولة، فما استطاع أحد منهم أن يلقي في نفسي لمحة من رهبة. وأنا في منطقتي جميعا أنا الرهبة والخوف، يرتجف أشجع رجالها هلعا إذا سمع اسمي، فأي شيء في هذا الفتى الذي شهدته رضيعا وطفلا وصبيا يجعلني أخشى أن أواجهه؟ وأحاذر كل الحذر أن يعلم عني ما أشيعه من الهول والذعر في أنحاء الربوع التي تجاور بلدتي؟! وما له وهو أمامي وهو واثق كل الثقة أنني أبوه، وليس له من أب غيري. ما له لا يتولاه هو الرهب، ويتولاني أنا؟ وما له لا يخشاني، بينما أحس أنا أنني أخشاه؟ أيكون هذا لنقائه وعلمه وصدقه وثباته وإيمانه العميق بالله، ووثوقه بنفسه ثقة لا تتاح إلا لمن عرف الطريق وسار عليه؟!
كم من صادقين لقيتهم، ولكنهم لم ينالوا ما يناله سامي في نفسي من إجلال، بل إن مأمون أيضا ينال مني هذا الإجلال وهو ابن دمي، ولكنه لصيق بأخيه لا يكاد يفارقه، فهو يتشبه به في كل شيء، حتى في إشاراته ولفتاته، وحتى لقد اكتسى وجهه بهذا الوقار الذي يكسو وجه أخيه. وهو يقدس كل ما يفعله أخوه، فكأن الفارق بينهما عشر سنوات، وليس سنتين. ما شأن هذين الأخوين، وما لي أحس من كليهما رهبة تجعلهما غريبين عني؟! وأحدهما جزء مني والآخر ربيبي الذي لا يعرف لنفسه أبا غيري.
أيكون ما أصنعه من مال لأجلهما؟ .. لا .. ما أظن .. ربما خادعت نفسي، وقلت إنني أكون لولدي ثروة، ولكني أعلم في البعيد في نفسي أنني أصنع ما أصنع عن رغبة عاتية في السلطان والجبروت. والمال أساس خطير من أسس الجبروت، ونتيجة محتمة للسلطان إذا جاء من البطش والطغيان. وقد استطعت بقوتي أن أقتل في نفسي كل شفقة إلا على أهل بيتي. وما دمت قد تخلصت من ضعف الشفقة، فأنا قادر أن أصنع ما أريد لا يردني شيء.
إن رغبة السلطان الجارفة التي تموج بين أضالعي هي التي ترسلني كالإعصار في أرجاء الحياة، وليس ولدي.
أيقاوم الإنسان قدره؟ .. أيحارب الإنسان سجيته؟ .. هكذا أنا، وهكذا أحب أن أكون.
11
كان سامي قد بلغ نهاية المرحلة الثانوية، وأدى امتحان الشهادة، وفي يوم ظهور النتيجة ذهب مع مأمون ليتعرفا عليها. وكان فناء المدرسة حاشدا بالطلبة، والجلبة شديدة، والتلاميذ في حلقات منها المتسعة ومنها قليلة العدد. وسامي بين رفاق له يجري بينهم الحديث هينا وهو يسمع أكثر مما يتكلم. وفجأة رأى سامي حلقات تنضم، واثنين متماسكين في معركة عنيفة. وأنعم النظر، فإذا مأمون أحد المتعاركين وخصمه يكيل له الضربات ويهم سامي إلى أخيه، وقبل أن يصله يكون مأمون على الأرض، وقد ارتمى خصمه عليه يضربه في غير هوادة ولا رحمة، ويصل سامي إلى مكان المعركة، ولا يسأل ولا يفكر، وإنما يرفع ذلك الخصم في ثبات، ويحمله وكأنه يحمل ورقة، ويلقي به، وكأنما يلقي حصاة اعترضت طريقه، ومال على أخيه فأقامه، وهو يسأل في هدوء وكأنه لم يصنع ما جعل الطلبة متجمدين من الهول والذهول. - ماذا حدث؟
ويقول مأمون لاهثا: راح يذكر أبي بسوء دون أي سبب.
وقبل أن يجيب سامي يتصايح الطلبة: الحقوا ... أسرعوا ... منيب ... منيب.
ويلتفت سامي إلى الصائحين: من منيب؟
وتتكاثر الأصوات، وتتقاطع الكلمات، ويفهم سامي بصعوبة أن منيب هو اسم الفتى الذي ألقى به عن أخيه. - ما له؟ - مات. - ماذا؟ - مات.
ويؤخذ سامي على غرة ولا يتريث، بل سرعان ما يشق جموع الطلبة الزاحفة، وكأنه يزيح شخوصا من هباء، ويصل إلى باب المدرسة بين حيرة المشاهدين وذهولهم، ويخرج يجري في سرعة الومض حتى يصل إلى محطة السكك الحديدية، ويسأل سائق التاكسي الواقف في انتظار القادمين: ما أول قطار إلى مصر؟ - بعد دقيقتين. - لماذا لم يصل إذن إلى المحطة؟ - سلامتك يا أستاذ ها هو ذا واقف على ...
وقبل أن يكمل السائق جملته يكون سامي في القطار دون أن يشتري تذكرة، ودون أن يفكر إن كان ما في جيبه يكفي ثمنا للتذكرة أم أن ما معه لا يكفي، ويتحرك القطار. - إلى أين؟ ما هذا الذي فعلته؟ أقتل إنسانا وأهرب؟! كأني إذن أبي، ما الفارق بيني وبينه؟ لماذا نلوم الناس ونفعل فعلهم؟ ألم يكن الأجدر بي وأنا الذي أوثق أسبابي بالسماء، وأقرأ ما أقرأ أن أكون أكثر هدوءا وروية؟ نعم أعلم أنني لم أتمالك نفسي، وأنا أرى أخي يكاد يموت تحت هول الضربات، ولكن أي فارق بيني وبين الحيوان إذا أنا تركت مشاعري تتحكم في دون أن أحيطها بسياج التعقل والتفكير؟ أليس بالعقل وحده فضل الله الإنسان على سائر المخلوقات؟ فما فائدته إذن إذا لم يجعلنا نتروى عند غضب، ويعصمنا عند ثورة، ويدرأ عنا عادية المعاصي؟ وهل هناك أكبر من القتل؟ إنني كأنني قتلت الناس جميعا، ويل لي أي ويل، ويل لي من الله، فوحق الإله سبحانه إنني لا أخشى غير سخطه، وإنني وحق الإله سبحانه لا أخشى الموت، وإنما أخشى الله، فأنا كادح إليه فملاقيه سبحانه، وإنه ملق بي إلى حيث العصاة. - أكنت حين جريت وهربت عبدا ثائبا؟ - أنا لم أبدأ في إعمال العقل إلا حين تحرك القطار، أي إنسان أنا؟ بل إنني أنا الإنسان الذي قال عنه خالقه:
قتل الإنسان ما أكفره ، أنا الإنسان بكل شروره وطغواه وجبروته، إن صلاتي ونسكي وصيامي وحبي لربي، وعلمي وثقافتي، كل هذا لم يجعلني أتصرف كما ينبغي أن يتصرف العقلاء! غائب العقل كنت حين ألقيت بالفتى وغائب العقل حين جريت، وغائب العقل حين ركبت القطار. والآن ها أنا ذا أعود إلى عقلي ويعود إلي ... أفتراني أستطيع أن أنزل عند أول وقفة للقطار، وأقفل عائدا إلى حيث كنت؛ لأتحمل نصيبي من العقاب، ولأواجه آثار ما قدمت يداي. - هل أستطيع؟ - ولم لا؟ - وما لي لا أفعل؟ - إذن فهلم. - هلم.
ووقف وكان القطار سائرا، فقعد ينتظر وقوف القطار، وحين استقر به المقام ... إلى أين؟ وكيف أعود إلى قوم ثائرين؟ - وما لي لا أفعل؟ - ليس مع ثورتهم منطق. - وفيم تريد المنطق؟ - أوليس هو الحكم الطبيعي بيني وبينهم؟ - أي حكم؟ إنك قتلت وعقوبة القتل هي القتل، ففيم تريد المنطق؟ لا تخفيف في عقوبة القتل، لا تخفيف في عقوبة القتل؟ إذن أعود، وإذن أقتل .. وإذن ... وألقى عليه النوم بقوة لا قبل له بها، ولا يد له فيها. وتجلى له الشيخ النوراني صاحب الحوت. - لا تعد. - أليس من الطبيعي أن أواجه عقابي؟ - أي عقاب؟ - عقاب القاتل. - أقتلت عن عمد؟ - لا ... لا طبعا أعوذ بالله. - إذن فلست القاتل الذي يعاقب بالإعدام. - ولكنني أعلم أنني أملك قوة جسمانية خارقة وهبها الله لي، وكان ينبغي أن أتحسب حين أضطر إلى استعمالها. - هل كنت في تمام وعيك حين فعلت ما فعلت؟ - كان إنقاذ أخي هو كل ما أفكر فيه. - وقد تصرفت بما أنقذ أخاك؟ - نعم. - ولم تتصور أنك قد تقتل زميلك؟ - لا. - إذن فلا بد من مناقشة هذا جميعا قبل أن يقع بك العقاب. - مع من أناقشه؟ - مع كل الذين يسألونك. - صاحب الثأر لا يسأل. - إذن لا تعد. - ولكنني أنا أسائل نفسي. - هل كنت تريد قتله؟! - أعوذ بالله العلي العظيم . - إذن لا تعد إلا حين تعلم أنك تستطيع أن تجادل الذين سيواجهونك. - لا جدال معهم. - إذن لا تعد. - أظل هاربا؟ - وما تعلم نفس ماذا تكسب غدا. - ولكني قتلت. - عن غير عمد. - الموت شيء فظيع. - ليس كما تظن. - ألم يجعل الله منه قصاصا؟ - إن القصاص ليس في الموت نفسه، وإنما في العلم به. - إنه قصاص. - إن الساعات التي يعلم فيها القاتل أنه سيقتل جزاء ما فعل هي القصاص الحقيقي، أما الموت نفسه فشهيق لا يعقبه زفير، أو زفير لا يعقبه شهيق. إنما الموت لحظة، لمحة، ومضة لا أكثر ولا أقل. - وحزن الأهل. - أسف وتشوق، ولكنهم يعلمون أنهم جميعا لاحقون بعزيزهم. - ألا يطهرني القصاص من الخطيئة؟ ألا يجعلني احتمال العقوبة مغفورا لي عند ربي؟ - إنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وهو وحده من يعلم أين يضعها. قد يغفر لك دون أن يقع بك القصاص، وقد لا يغفر لك وإن وقع بك القصاص، وهو وحده الذي يغفر، وهو العدالة المطلقة.
12
بلغ سامي القاهرة، ونزل من القطار لا يعرف مقصدا ولا متجها، وإنما هو يسير على الرصيف، ويخرج به إلى الساحة، ويقف لحظات على سلم المحطة، وتتناوشه الأيدي والأكتاف وخطوات الآخرين الذي يعرف كل منهم طريقه ووجهته. ويزوغ منه البصر، ويعلو به وجيب قلبه، حتى ليطغى على السمع منه والبصر، وتتدافعه الأيدي في عنف يزداد في لحظة عن اللحظة السابقة، ويجد نفسه آخر الأمر قد نزل السلم، ويحاول الوقوف على الرصيف، ولكن حركة الركاب تجرفه، ويضطر آخر الأمر أن يفيق، وينتزع نفسه انتزاعا من مجرى الزحام، وينتحي من ساحة المحطة ناحية هادئة بعض الشيء.
ماذا أنا صانع؟ وإلى أين بي المسير في هذه القاهرة الضخمة، وكل علمي بها أن ساكنها ضائع فيها؟ فما خطبي أنا وأنا لم أرها إلا اليوم؟ وهل رأيت منها شيئا إلا دفاع أقدام ينتهبون الأرض بخطاهم كأن الإنسان منهم يجري وراء عمره، خاشيا أن يضيع منه في الزحام.
كل ما معي عشرون جنيها، ماذا أنا صانع بها؟ أتراني ضعت من الحياة؟ سبحان الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون
صدق الله العظيم.
إن معي إيماني بالله، ويقيني به يقيني، ومعي قوة الجسم، ومعي شجاعة القلب، ومعي ثقتي أن الله لا يضيع عباده المخلصين، وأي سلاح أقوى من هذه الأسلحة التي أتحصن بها؟!
وما لي لا أمشي في مناكبها، وأرى ماذا هي صانعة بي؟ وماذا أنا صانع فيها؟ هلم المسير.
ومشى وعبر الساحة، وخرج من الباب، وترك قدميه تختاران الطريق يتبعهما ولا يأمرهما، وقد أحس أن العقل لا عمل له الآن، وإنما النظرة وحدها هي التي تتحكم في كيانه .. وفي لحظة أحس أنه يتبع شيئا لا يدريه، وأن خطواته استقامت على طريق من الهدى لا يدري مأتاه. سارع في شارع إبراهيم، وكأن قوة عليا تحركه، والغريب في أمره أنه لم يحاول أن يتعرف معالم الطريق ولا الأسماء التي تحملها اللافتات على جانبي الشارع، إنما هو يمشي، وكأنما ولد بهذا الشارع، وكأنه يعرف كل خافية من خوافيه. وطال به الطريق وهو يحس طوله، ذاهل هو عن المكان والزمان، وإنما يمشي، ثم وقف.
ثم نظر.
لافتة كتب عليها شركة تعمير سيناء، صعد السلم، ودلف في شقة ذات بهو واسع عريض، يجلس في صدره على مكتب صغير رجل في أواسط العمر قصد إليه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام يا ابني ورحمة الله وبركاته. - أليست هذه شركة تعمير سينا؟ - نعم هي. - لا شك أنكم تريدون عمالا. - هو ما قلت. - فهل أصلح؟ - ماذا تريد أن تعمل؟ - أي عمل. - نحن لا نحتاج إلى أعمال مكاتب. - وأنا لم أقل أنني أريد عملا في مكتب. - أمعقول هذا يا بني. - ماذا تقصد؟ - إن هيئتك تدل على أنك متعلم، وعلى جانب من سعة العيش. - وحدسك صادق في النظرتين. - وتقبل أن تعمل في أعمال البناء الشاقة. - وأرحب بها. - يا ابني لن أناقشك، فلكل إنسان ظروفه، هل معك بطاقة؟ - ها هي ذي. - متى تريد أن تسافر؟ - إن كان هناك عمال سيسافرون اليوم، فما أحب إلي أن أسافر اليوم! - إذن، فأنت ستسافر اليوم. - أكرمك الله! - اقعد هنا، فأنت ستسافر بعد ساعة. •••
إذن فأنا في سيناء، في رحاب الوادي المقدس، ما أعظم هذا الذي اختاره لي الله!
نام مع العمال وسمع إلى أحاديثهم في صمت منه مطبق لا يجيب إلا إذا سأله منهم محب للاستطلاع.
وفي الصباح بدأ العمل وتوالت الأيام، حتى اكتملت أسبوعا وهو يقوم بعمله في طاعة، وفي عزم، وفي قوة واضحة تفوق عشرات الرجال.
وكان إذا انتهى يوم العمل ترك إخوانه، وراح يوغل في المسير بجانب الجبل، ونفسه ترف من الخشوع والسعادة، وترقى به إلى مدارج من النورانية الوضاءة المتألقة. وكان منذ اليوم الأول قد اختار مكانا أنس إليه، يجلس فيه وتسبح روحه طليقة، وهو يقرأ القرآن مخافتا حينا أو مجاهرا.
لم يكن يعرف الأجر المقرر له، ولم يسأل، ولكنه وجدهم يعطونه في نهاية الأسبوع الأول عشرين جنيها فرح بها كل الفرح. فالطعام يقدم إليهم مجانا، والمبيت أيضا، فهو لا ينفق شيئا.
ومضت به الحياة، وهو في سعادة أنسته منيب، ذلك القتيل الذي تركه بأعماق الصعيد وأنسته أيضا أباه ذلك الطاغية العاتي، وأنسته أمه، أو التي يظن أنها حلت مكان أمه، والتي كان يحس منها الحنان الدافق يفوح منه عبير الأم السماوي. وأنسته أخاه مأمون، وقد كانت علاقته به أقوى من أي أخوة بين أخوين؛ فقد كان يشعر أنه جزء منه لا يتجزأ.
نسي هذا جميعه في غمرة العمل عند الصباح، وقد كان يبدأ مع شروق الشمس، ونسيه أيضا في ساعات البهجة الروحية الكبرى التي كان يحسها في مسيره بجانب الجبل، وفي جلسته التي أنس إليها وأنست إليه.
ومضى عليه في عمله وفي أثباج سبحاته العلوية شهر وأربعة أيام، وكأنه في حلم يحرص أن يحلمه، وأن يطول مكوثه في رحابه.
وفي يوم طال به الجلوس في مكانه الأثير، وغابت الشمس فلم يحس لها غيابا، فالنور في داخله أعظم إشراقا من نورها. ومضت الساعات، حتى أحس كأن هاتفا يوحي إليه أن يقوم.
فنهض وأخذ طريقه الذي تعود أن يسير فيه، وهو يقلب ناظريه في كل ما يحيط به، وفجأة رأى نارا على مدرجة من الجبل عالية، فعجب من ذلك الذي يشعلها هناك، وتملكه حب التعرف، فراح يصعد الجبل يؤم النار، فهي سمته، وأحس بالجهد، ولكنه واصل الصعود دون محاولة منه للتفكير فيما يصنعه. لقد صمم أن يعرف معنى وجود النار في هذا المكان تصميما ليس له في دخيلة نفسه سبب واضح، وصعد، ونال منه الجهد كل منال، ولكنه صعد. وأخيرا بلغ النار مشتعلة هي، ولكن النور الذي يخرج منها أقوى من جذوتها، فراح ينظر إليها، ويطيل النظر مبهورا دهشا. وجلس وكان الليل باردا قارس البرودة، فنشر يديه فوقها عله أن يصيب بعض الدفء، وما هي إلا لحظة حتى ملكه النعاس، فنام في جلسته ويداه ممدودتان فوق النار تمدان كيانه بالدفء والطمأنينة.
وفجأة بدا له في المنام ذلك الشيخ النوراني. - إلام بقاؤك هنا يا سامي؟ - وما الضير في ذلك؟ - أهكذا تريد أن تقضي حياتك؟ - وهل ما زالت لي حياة بعد الذي صنعت؟ - إنك لست علام الغيوب. - أستغفر الله العظيم. - إذن فأمامك الحياة كلها. - في السجن؟ - هذا ليس من شأنك. - وهل في هذا شك؟ - إن الله وحده الذي يعرف ما الذي يخفيه الغد. - أولا تخبرني؟ - أستغفر الله العظيم! - إذن كيف أعود إلى الحياة وقد قتلت نفسا بغير نفس؟ - إنك عائد لا محالة. إن لم يكن اليوم فغدا، فهذا البناء الذي تشارك في بنائه لن يستغرق من حياتك إلا وقتا ضئيلا. - هذا حق. - عد من غدك، وانظر في أمرك. - والسجن؟ - واجه حياتك. - بما فيها أبي؟ - ربما كنت أنت خير من يواجه أباك. - أنا؟ - أنت تحفظ القرآن، وأنت عظيم الإيمان، وقد وهب الله لك قوة لا مثيل لها، فمن يواجهه إذا لم تواجهه أنت؟ - وتهمة القتل التي تلاحقني؟ - أنت لم تقتل عمدا، ولئن تسجن فترة ثم تخرج إلى الحياة خير من أن تحكم أنت على نفسك بالسجن داخل نفسك مدى الحياة. - هل أعود إذن؟ - واجه مصيرك. - وأبي؟ - وماذا عن أبيك؟ - إنه أبي. -
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون . - أومشرك هو؟ - لقد أشرك مع الله نفسه، وتأله في الأرض، وأفشى الظلم بين الناس، وأصاب منهم الأموال والأرواح. - وماذا أنا مستطيع قبله؟ - بالإيمان ستواجهه، وبالعلم. - وأخي؟ - ماذا ترى فيه؟ - إنه قطعة مني. - ففيم خشيتك؟! - سيؤازرني. - فتوكلا على الله. - إنه نعم المولى. - وإنه نعم النصير.
وصحا سامي من غفوته، ونظر إلى النار، فوجد الجذوة فيها أقوى من النور، فراح يردد كلمات الله سبحانه وتعالى:
فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين
صدق الله العظيم.
13
وصل إلى القاهرة والشمس تميل إلى الغروب، وركب السيارة العامة التي تؤدي إلى الجيزة، وكان قد عرف كيف يركبها من زميله سلمان المعسراني، الذي أشار عليه أن ينزل في شقة بعمارة بشارع رستم بالجيزة تعود صاحب البيت أن يؤجرها لطلبة الجامعات.
نزل في ميدان الجيزة منفذا تعليمات سلمان، وبدأ يسأل المارة عن شارع رستم، وراح كل واحد يدله على طريق يتضارب مع الطريق الذي دله عليه الآخر. وتلوي به السبيل، وتشابكت الشوارع والسبل، وأقبل الليل، وحل الظلام إلا قليلا من نور يتلصص من نوافذ المنازل، وفي عتمة من طريق سمع أصوات قوم تأتي إليه خافتة، ولكنها حاسمة. وكان سامي ذا سمع حاد، فاقترب قليلا، ثم رأى ثلاثة نفر ملتفين حول فتاة، وسمع أحدهم:
ستأتين معنا شئت أم أبيت.
ولم يسمع سامي إجابة.
وسمع صوتا آخر يقول: لو علا صوتك ستجدين هذه المطواة في صدرك.
واختبأ سامي، ثم ألقى النظر خفية، فرأى أحدهم ممسكا برأس الفتاة، وهي تقاوم مقاومة عاجزة. ونفض سامي الطريق بعينيه، فوجد النور المتهافت قادما من شباك يقع في الناحية التي يختبئ فيها، ووجد ما يقرب من سعة متر على طول المسافة التي تفصل بينه وبين المجرمين معتمة تماما، فالتصق بالحائط، وراح يخطو خطوات جانبية إلى المعتدين لا يرونه، حتى انقض فجأة على ذلك الذي يطوق وجه الفتاة، ورمى به إلى الأرض، وفي لمحة خاطفة كان الاثنان الآخران على الأرض مع زميلهما، وحاذر سامي أن يضرب بكل قوته، حتى لا يصل الأمر إلى جريمة أخرى؛ فقد كان وهو يخطو خطاه المتئدة المحاذرة يفكر في روية أنقذت المعتدين وأنقذته أن يرتكب جريمة أخرى.
قال للفتاة: لا تخافي. - الله يحميك. - لن أترك هؤلاء حتى أذهب بهم إلى الشرطة، أين الشرطة؟ - قريبة من هنا. - فهيا بنا. - وكيف ستثبت للشرطة؟ - تقولين الحقيقة. - وماذا يجعلهم يصدقون؟ - سيعترفون. - لن يعترفوا. - سأجعلهم يعترفون. - لن تصدق الشرطة شيئا، ولن تصدق أن شخصا واحدا تغلب على ثلاثة مجرمين، وسوف تظن أنك أنت الذي هددتهم بالسلاح. - إذن أتركهم؟ - هذا رأيي. - وحق المجتمع؟ - منهم إلى الله. - لقد قلتها، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لا بد أن أذهب إلى الشرطة. هلم أريني الطريق إلى الشرطة.
وعجبت الفتاة وهي ترى سامي ممسكا بالثلاثة، وهم مستسلمون له في غير عناد، ودون أن يستعمل سلاحهم، بل إنه أمر الذي كان ممسكا بالسلاح أن يطويه، ويضعه في جيبه ففعل. وازداد عجب الفتاة، وهي ترى المجرمين الثلاثة ينقادون لسامي، وكأنهم واقعون تحت سيطرة قوة عليا لا يملكون منها فكاكا. وسار الركب إلى قسم البوليس، وألقى سامي بحمله أمام المسئول، وأدلت الفتاة باسمها، وعرفه سامي، إنه «رشيدة مسعود النبوي»، طالبة بالسنة الأولى بكلية الآداب، وتمت كتابة المحضر. وحجز المتهمون الذين وجدوا أنفسهم يعترفون بجريمتهم دون أي مقاومة، فقد كانت نظرات سامي كافية لتجعلهم يفقدون كل سيطرة على عقولهم، وقع سامي في حيرة حين سأله المحقق عن عنوانه، إلا أنه سرعان ما قال الحقيقة عند عودته من سيناء، ومن أنه في طريقه إلى شارع رستم، وحين سأله المحقق أين نخاطبك إن أردنا شهادتك تطوعت رشيدة بالقول: خاطبوه عندنا؛ فسوف أعرف عنوانه.
وخرج سامي ورشيدة. - لا أعرف كيف أشكرك. - إنها الصدفة وحدها. - أين أنت ذاهب؟ - كما سمعت. - وهل تضمن وجود مكان بهذه الشقة؟ - علي أن أجرب. - تعال معي إلى أبي. - الآن؟ - لا بد أن يتعرف بك، ولا بد أيضا أن أروي له ما حدث، حتى يعرف فيم تأخرت. - إذن هيا.
وبلغا العمارة، كانت عمارة متوسطة الحال، وفي أواسط العمر بناها صاحبها قبل أن يدمر الحاكم الصلات بين المالك والمستأجر بتلك القوانين التي أوقفت البناء في مصر تماما. كانت رشيدة تسكن مع أبيها في الطابق الثاني من العمارة، وكان السلم معتما، ولم يستطع سامي أن يرى شيئا واضحا من ملامح رشيدة، فقد كان لقاؤهما في الظلام. وكان النور خافتا كل الخفوت في قسم الشرطة، فكان كل ما يعرف عن كيان رشيدة أنها فتاة نحيلة ذات وجه ضامر، مع أن معرفته بها كانت قد تجاوزت عدة ساعات قضاها في صحبتها.
وحين بلغا الشقة فتحت رشيدة الباب بمفتاح معها، ودخلت وأوقدت النور في البهو ورآها. فتاة صبيحة الوجه، هادئة القسمات، زكية العينين، تحكم وثاق شعر لا يثور، ولا يتمرد، تلبس فستانا جميلا في تواضع وغير بهرجة. ورأت هي فيه فتى مطمئن الملامح، حاد القسمات، فارع الطول، في عينيه سماحة حاسمة، وفي فمه هدوء الإيمان وقوته في آن واحد.
في لمحة من لحظة عرف كل منهما وجه الآخر، وصوت الأب يعلو من إحدى الحجرات: أهذا أنت يا رشيدة؟
وتجيب رشيدة في حب واحترام: نعم يا أبي. - تأخرت! تعالي.
وتقول رشيدة في صوت هادئ لسامي: تعال.
وتقصد إلى الباب المواجه لباب الدخول، وتدخل ثم تردد لسامي: تفضل.
ويسمع سامي الأب وهو يقول: من؟
وقبل أن تجيب رشيدة تضمهم جميعا غرفة مكتب يجلس في صدرها رجل واضح الطيبة، زكي الطلعة، يلبس نظارة سميكة، تدل دلالة واضحة على مقدار ما يعاني من ضعف البصر. وتقول رشيدة: أبي هذا سامي زين الرفاعي.
ويقول الأب ذاهلا: أهلا وسهلا يا ابني، تفضل، اقعد.
وقعد وتقول رشيدة: أنقذني يا أبي من هلاك محقق، كنت في طريقي إلى المكتب بعد أن سلمت أوراقا كتبتها على الآلة في شارع رستم، فإذا ثلاثة رجال ...
وراحت رشيدة تقص على أبيها في أمانة وفي إسهاب كل ما وقع لها في ليلتها تلك، وسامي يرقب وجه الأب الذي بدا له، وكأنه صفحة نقية يرتسم عليها كل ما يعتمل في نفس الأب من خوف ومن غيظ ومن إعجاب ومن سعادة. حين انتهت رشيدة من قصتها التفت الأب إلى سامي. - شكر الله لك يا بني، وكافأك أحسن ما تكون المكافأة.
وتقول رشيدة وكأنها تستدرك: يا سامي، أبي الدكتور مسعود النبوي أستاذ تاريخ بكلية الآداب. - أهلا يا أستاذنا ... أهلا وسهلا. - أهلا بك يا ابني.
ثم التفت إلى ابنته: أما زلت مصرة على العمل في مكتب الآلة الكاتبة هذا؟ - إذا لم تمنعني يا أبي، فأنا أحب أن أعمل، ولكنني أعدك أنني لن أذهب بعد اليوم إلى أحد بأوراقه. - وهل تذهبين عادة؟ - لهذا الزبون فقط فهو مقعد، وأنا أشفق عليه، وهو يعيش مما يكتبه للإذاعة، ومرتبط بمواعيد، ولكن هذا جميعه لن يجعلني أسير في الشوارع المظلمة وحدي بعد الليلة أبدا.
والتفت الدكتور إلى سامي: يا ابني لا تعجب، فأنا أعمل أستاذا متفرغا كما يقولون، وهي من أسماء الأضداد، فقد خرجت على المعاش من سنة تقريبا، ولا أحاضر إلا ثلاث محاضرات في الأسبوع، وأنا أحاول أن أكتب كتابا عن تاريخ التحضر في الشرق الأوسط، فأنا منصرف إليه. ودخلنا لا يكفي أدويتي ومراجعي ونفقاتنا، ولهذا رأت رشيدة أن تستعين على الحياة وتعينني. - أنعم بكما وأكرم، أب عظيم وابنة عظيمة. - أكرمك الله يا ابني، وأنت من أين؟ - أنا ... أنا من الصعيد، وجئت إلى مصر، وذهبت إلى سيناء، وقدمت منها الليلة بأمل البقاء هنا، وكنت في طريقي إلى شقة للطلبة سمعت عنها في شارع رستم.
وأدرك الدكتور الذكي أن هذا فقط ما يريد محدثه أن يقوله عن نفسه، فلم يسأل سؤالا واحدا يجعله يقول ما لا يريد، وإنما قال له: وهل سكنت في هذه الشقة التي تقول عنها قبل اليوم؟ - أنا لم أحضر إلى القاهرة قبل هذه المرة.
ونظر الدكتور إلى رشيدة: رشيدة، الحجرة التي كان يسكنها عبد السلام ما شأنها؟ - خالية يا أبي. - هل أخذ عبد السلام ما له فيها؟ - نعم، فقد حصل على الليسانس، وأحسب أنه لن يعود في العام القادم.
والتفت الدكتور إلى سامي: أقم بهذه الحجرة، وبها حمام أيضا، وتصلح لك.
وارتبك سامي قليلا، وهم أن يقول شيئا، ولكن الدكتور يعاجله: اسكن بها أولا، وسنتحدث عن الأجرة في الغد بعد أن تستريح اليوم من عناء السفر والعراك، وحماية ابنتي من الذئاب.
خذيه يا رشيدة إلى الغرفة، ولا أوصيك به، ففضله علينا كما تعرفين عظيم.
وصعد سامي إلى الغرفة ومعه رشيدة تحمل ملاءات نظيفة فرشتها له على السرير، وتركته بعض الوقت، وعادت له بالعشاء. واستقر به المقام بعد يوم طويل عصيب. •••
في الصباح الباكر كان سامي بمقر التليفون العمومي، وطلب منزل أبيه في البلدة مقدرا أن الإجازة الصيفية لم تنته بعد، وأن مأمون ووالدته سيكونان بالقرية.
وأجاب مأمون على التليفون، وما أن سمع صوت أخيه حتى صاح: سامي أين أنت؟ منيب لم يمت، كان مغمى عليه فقط. - أحقا؟! أحقا؟! - إننا نبحث عنك في كل مكان، أين أنت؟ - أنا في مصر. - عنوانك ... ما هو عنوانك؟ - ما أخبار نتيجتي؟ - أحرزت تسعين في المائة من الدرجات، وقدمت لك في كلية الآداب قسم التاريخ كما كنت تريد ... عنوانك؟ - تعال إلي اليوم أو غدا يا مأمون، واكتب عنواني خمسة وخمسين ميدان وجدي بالجيزة. - كلم يا سامي، كلم.
وتكلمت إليه الأسرة جميعا، وهو يكاد يطير من الفرح. وتنتهي المكالمة، ويخرج إلى أقرب جامع ويروح يصلي ركعات لا عدد لها شكرا لربه، لقد كان ينتوي أن يظل هاربا من الحياة كلها من أجل جريمة توهمها، ولم تقع.
وحين انتهى من صلاته انتحى من الجامع ركنا، وراحت الدموع تنسكب من عينيه راوية بالسعادة، وكأنما أراد أن يغمر بهذه السعادة كل جارحة من جسمه لا يكتفي بها هادرة صاخبة في القلب وحده.
عاد إلى البيت، وصعد إلى غرفته قفزا، فوجد رشيدة تنظم الحجرة. - وبعد يا ست رشيدة؟ - أين ذهبت؟ - تعالي معي. - إلى أين؟ - هل صحا الدكتور؟ - نعم. - إذن فتعالي معي.
وقصدا إلى الدكتور، وراح يقص عليه قصته جميعا، لم يخف عنه حتى ما عرفه عن أبيه من طغيان وظلم. والدكتور يسمع في هدوء لا يقاطعه، وإنما يلاحقه، وسامي يحس أن الرجل يشعر بكل خلجة في صوته أو في صدره، حتى إذا انتهى من الحديث جاءه صوت الدكتور، وكأنما يتصاعد إليه من أعماق بئر بعيد الغور. - بارك الله فيك يا بني، ووفقك في كل ما تسعى إليه.
وظلت رشيدة فاغرة فاها في دهشة بالغة، وكأنما لم تكن تتصور أن هذا الفتى الحدث يستطيع أن يدرك معاني الخير والجبروت بكل هذا الصدق والإيمان والوضوح. •••
في اليوم التالي كانت غرفة سامي تغص بأبيه وأمه ومأمون وفواز جميعا لا يصدقون عيونهم أنهم يرون سامي، ثم يقول الأب: منذ الغد أبحث لك عن شقة مفروشة تليق بك.
ويقول سامي: إن هذه الغرفة هي التي تليق بي.
ويقول الأب في غضب: ماذا تقول؟ أتريد أن تشهر بي بين الناس ويقولون إنه تارك ابنه في حجرة فوق السطح؟ - أي ناس يا أبي، إننا هنا في القاهرة، ولا أحد هنا يعرف الآخر، وهذه الحجرة تكفيني، بل وتكفي معي مأمون أيضا وفواز. - ماذا؟ - ليس من المعقول أن يتعلم كل منا في ناحية ... القاهرة تستطيع أن تعلمني وتعلم مأمون، وقد علمت العرب أجمعين.
ويلتفت زين إلى الأم: أيعجبك هذا الكلام؟
وتقول الأم في فخر: إنه خير كلام، إنه يريد أن يتعلم، ولا يريد المظاهر الفارغة، ولا يحتاج إليها. - فإن جئنا لزيارته. - نزوره ونبيت في الفندق الذي سنبيت فيه الليلة.
وأحس الأب بالخذلان، ثم التفت إلى سامي: ألا تأتي معنا حتى تنتهي الإجازة؟ - بل أنا الذي سأبقي مأمون معي وفواز، حتى تنتهي الإجازة، ثم أدخل أنا إلى الجامعة. - وفيم بقاؤكم لبداية الدراسة؟ - لأقدم لمأمون في مدرسة السعيدية القريبة من الجامعة، ونعد أنفسنا للقاهرة ونتعرف عليها ... فهي مقامنا الجديد.
وأطرق الأب قليلا، ثم قال: خذ.
وأخرج حافظته، وراح يعد، ثم أعطى سامي مبلغا من المال. ونظر سامي إلى المال، وخيل إليه أنه يقطر دما، وأوشك أن يرفض، ولكنه في لحظة رأى نورا يحيط بالمال، وأزمع أمرا ومد يده، وتناول المبلغ الذي لم يتبين عدده، وقال الأب: هذا المبلغ مائتا جنيه، وسوف أرسل لك كل شهر مثل هذا المبلغ لك ولأخيك، وأوشك سامي أن يقول هذا كثير، ثم ما لبث أن قمع الجملة، فلم تخرج، وإنما نطق بدلا منها كلمة واحدة. - شكرا.
ونظرت الأم نظرات عميقة في عيني ابنها، وكأنما تبينت ما فيهما، فقد كانت تنتظر أن يطلب إلى أبيه أن ينقص المبلغ إلى الربع أو النصف. ودهشت من هذا الشكر المستسلم الذي أبداه، حتى إذا أنعمت النظر في عيني ولدها حل الرعب مكان الدهشة، وتعالت أنفاسها، ولم تقل شيئا.
وخرج الأبوان ليسافرا، وخرج معهما فواز ليعود بحقيبة مأمون وحقيبته، وما أن خلت الغرفة بمأمون وسامي، حتى وجد كلا الأخوين نفسه مندفعا إلى أحضان أخيه، وراح كل منهما يضم الآخر، وكأنما يريد كل منهما أن يصبح جزءا من كيان الآخر. وانهمرت دموع فرح وشوق وحنين.
وحين جلسا قال مأمون: سامي، إنك تضمر شيئا؟ - نعم. - قله. - بل انتظر. - أتخفي عني؟ - لو أخفيت عن نفسي ما أخفيت عنك. - إذن؟ - هي فكرة بدت لم تتضح معالمها، لن أطلعك عليها إلا حين تصبح صالحة أن أفكر فيها. - وأنا قبلت.
14
قال الدكتور لسامي: سامي، ماذا أنت صانع في وقتك؟ - تقصد أوقات الفراغ؟ - هذا ما أقصد ... وأنت منذ الآن في فراغ، حتى تفتح الجامعة، ثم أنت بعد أن تفتح الجامعة لن تحتاج إلى وقتك كله للمذاكرة. - أعلم ذلك! - إذن؟ - قل لي أنت يا دكتور ما الذي جعلك تسألني هذا السؤال؟ - ربما كان لي في ذلك مأرب. - إنه أمر عجيب. - ومن أين العجب؟ - إنني كنت قادما إليك من أجل هذا. - كنت قادما من أجل ماذا؟ - لأبحث عن عمل لي وعمل لأخي. - ولكن كيف؟ - كيف ماذا؟ - ألا يرسل أبوكما لكما ... - إنه في الحقيقة يعطي كلا منا مبلغا كبيرا أكثر مما نحتاج إليه، ولكنني لا أريد أن أمس هذه الأموال. - تريد أن تعتمد على نفسك؟ - نعم. - وماذا أنت صانع بهذه الأموال؟ هل ستردها إلى أبيك؟ - بصورة أو بأخرى. - ونعم الأبناء أنتما! - رعاك الله! - إذن فاسمع، أنا أريدك أن تعمل معي، وتقرأ لي، فأنت لا شك قد لاحظت ضعف بصري. - ما أعظم هذه الوظيفة. - أما أخوك مأمون، فسأجعل رشيدة تعلمه الكتابة على الآلة الكاتبة، ويعمل معها في المكتب الذي تعمل به. - أعجز عن شكرك. •••
مر عام وانتصف العام الآخر، ولم يذهب سامي ولا مأمون إلى البلدة، بحجة أنهما في القاهرة يعملان، ولكن الواقع أنهما كانا لا يريدان أن يذهبا إلى القرية قبل أن يتما تعليمهما، وكان الأب كثيرا ما يزورهما في القاهرة، وكثيرا أيضا ما كانت أمهما تأتي معه.
نما حب ناعم نضير طهور بين سامي ورشيدة، لم يجرؤ أن يظهر إلا في نظرة عين تطفر، فلا يستطيع أن يكبح جماحها، أو في ابتسامة معها تلاقيها ابتسامة منه لا تطيق أن تحجبها، ويعجز عن إجابتها، وحزم أمره بعد روية وتدبر: دكتور، لي كلمة! - قلها. - أعلم أنني طالب ما أزال. - قل ما تريد ولا تطل، فأنا لم أتعود منك أن تقول كلمة إلا في موضعها. - إنني أحب رشيدة كل الحب. - وهي؟ - ما كنت لأسألها. - باركك الله! - إذا قبلت ... أكون ... - وإذا لم تقبل. - سأترك البيت، فأنا أدخل بيتك كثيرا ... - لا تكمل. ••• - ما رأيك يا رشيدة؟ - ما رأيك أنت؟ - لا أستطيع أن أقول إلا إذا عرفت مكانه منك. - أبي ... إني أحبه، وإني أقدره. •••
وجاء الأبوان، وتزوج سامي من رشيدة، وأصبح سامي يقيم مع عروسه في شقة أبيها، وترك الحجرة لمأمون. وانقضت سنوات الدراسة، ونال سامي ورشيدة ليسانس الآداب، وبقيت سنتان دراسيتان أمام مأمون ليتخرج في كلية الحقوق.
وكان على سامي أن يؤدي الخدمة العسكرية، فذهب إلى المكان العسكري الذي حدد له، وتمت الإجراءات، وبدأ سامي يبيت في المعسكر، حتى يتم توزيع القادمين على مختلف الأسلحة.
وكان الوقت صيفا، وكان سامي وزملاء له كثيرون يتحلقون حلقات في ضوء القمر . وكان سامي يستمع، بينما كل منهم يروي ما تعن له روايته، فمن حكايات ضاحكة إلى مآسي إلى قصص أخرى لا تضحك، ولا تبكي، وإنما تروى لينقطع بها الوقت، وتهون ملالته. وفي لحظة صمت الجميع كأنما لم يجد أحد منهم شيئا يقول، كان السكوت لحظة أو أقل، وإذا بواحد منهم يقول: أليس بينكم من يحفظ القرآن أو شيئا منه؟ وقال سامي: أنا أحفظه أو أحفظ الكثير منه، والحمد لله!
وسأله آخر: أتستطيع أن تجود؟
وقال سامي: أظن ذلك.
وقال آخر: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، أسمعنا أكرمك الله، وتهيأ سامي وبدأ. - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى * سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى * ونيسرك لليسرى * فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى * ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيا * قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى
صدق الله العظيم.
كان سامي حين يقرأ ينصرف بجميعه إلى آيات الله، فلم ير الذهول من حوله وصموت الكون وخشوع الكائنات جميعا، حتى كأن القمر والأنجم قد اقتربت تتسمع إلى صوت لم يسمعه الخلق من قبل. ومن كل حدب وناحية أقبل من في الثكنات مبهورين يسيرون هونا لا يصدر صوت من خطواتهم يشوب هذا الجمال الإلهي الجرس الرباني النغم.
وحين انتهى سامي من قراءته هوم الصمت المأخوذ على الجميع، وازداد القمر تألقا، وبدت الأنجم، وكأنما ترسل كل واحدة منها شعاعا فيه عطر السماء تحية للصوت المتخشع الرخيم. فلم تكن روعة الصوت وحدها هي التي أخذت بكل هذه المخلوقات، وإنما خشوع الرنين وإخباته، وكأنه متبتل يصلي في محراب، وفجأة ارتفعت أصوات الإعجاب. وقال قائد الثكنة: سبحان المعطي الوهاب، ما اسمك يا ابني؟
وذكر سامي اسمه، ورقم تجنيده، وقال القائد: أنت معي في مصر إن شاء الله. - أمرك. - وفي أي سلاح تريد أن تتم خدمتك؟ - تمنيت يا سيادة القائد لو أنني أتقنت التصويب. - ولك ما تريد بعون الله.
وهكذا أصبح سامي من خيرة الذين يصوبون.
وأتم سامي الخدمة العسكرية بأحسن ما يتاح لمثله، فكان يبيت معظم الأيام مع زوجته، ويذهب إلى الثكنة في باكر الصباح. •••
وعين سامي بمدرسة في الزمالك، وعينت رشيدة بمدرسة في الجيزة.
15
شملول وصبيحة هذان الحبيبان اللذان أبيا الظلم، وأبى معهما أهلوهم أن يستضعفوا في أرض قريتهم، فهاجروا إلى أرض الله الواسعة؛ ليجدوا مراغما كثيرا وسعة، وقد وجدوا ذلك الملجأ الفسيح عند أقاربهم في القاهرة. وانفتحت أمامهم أبواب الرزق يمثلون الإنسان حين يستكبر أن يعتو عليه إنسان مثله، ويمثل العاشقان منهما أسمى ما في الحياة من معاني الحب، تلك النسمة من نسائم الجنة التي شاء الله في عالي سمائه أن يرسلها مع آدم وحواء حين أمر بهما أن يتركا جنته الفيحاء إلى هجير الأرض.
فإذا ذلك الحب يصبح موئل البشرية وملاذها ومراحها ونداها، يرطب به سبحانه وتعالى عداوات البشر في تلك الحياة الدنيا التي تشابكت فيها المطالب وتصاخبت، فإذا أبناء آدم بعض لبعض عدو إلى يوم الدين.
حين احتجب الحب بين قابيل وهابيل قتل الأخ أخاه، وحين عاد الحب يتنفس في إحناء قابيل وارى سوأة أخيه. وهكذا بدأ الحب مع البغضاء في الأرض نسمة من نسائم الجنة لولاه لفنيت البشرية منذ عصورها الأولى، وانتهت الحياة.
شملول وصبيحة زوجان يشد كل منهما إلى الآخر منبت القرية والمهجر إلى القاهرة، ثم الزواج، فكانت بينهما مع الحب المودة كل المودة، والرحمة كل الرحمة، وسكن شملول إلى صبيحة، وأنجب لهما الزواج ماهر، ثم مختار. وكان شملول يعمل بالزمالك في متجر الفاكهة، ثم ما لبث أن أصبح صاحب المتجر جميعا، فكان يصحب ولديه إلى المدرسة الإعدادية بالزمالك، ويعود بهما في الظهيرة، وحين يعود هو إلى دكانه يتركهما بين يدي صبيحة ترقبهما في المذاكرة، ثم يصحبان التليفزيون إن راق لهما أن يصحباه أو ينزلان إلى أصدقائهما بينهم زملاء دراسة وجيران، وبينهم جيران غير زملاء.
وصبيحة حريصة دائما أن تعرف منهما في ملاينة ودون إثقال كل أبناء المدرسة وأسماء المدرسين.
وأخبرها ماهر، ثم أخبرها مختار بأسماء المدرسين الجدد الذين وفدوا إلى المدرسة، وذكر اسم سامي فيمن ذكر ولم تول الاسم أي اهتمام، وما كلمة سامي بالنسبة إليها. وكم من «سامي» في الحياة.
والعجيب أن سامي حين دخل الفصل الذي به ماهر، وسأل الطلبة عن أسمائهم، وقال ماهر: اسمه ماهر شملول القط لم يلتفت سامي إلى الاسم، على الرغم من أنه اسم ليس مثل كل الأسماء، ولكنه عبره دون التفات، وكذلك كان شأنه في فصل مختار أيضا، ومرت الأيام فلا بيت ماهر ومختار علما أن ابن الذي أخرجهم من ديارهم يدرس لابنيهما، ولا سامي يعرف أن من بين تلاميذه ذرية قوم عتا عليهم أبوه كل عتو.
وفي يوم، بينما كان سامي يدرس للفصل الذي فيه ماهر، وحين كان مواليا ظهره للفصل يكتب على السبورة تعالى إلى أذنه ضجة هامسة، فالتفت فجأة، فوجد ماهر محور هذه الضجة فاستدعاه. - تعال أنت.
فقد كان ناسيا لاسمه.
وتقدم ماهر وجلا حتى وقف إزاءه. - ما هذه الضجة؟ - لا شيء يا أستاذ. - بل هناك شيء. - أنا لا ذنب لي. - ربما، ولكن اللغط يدور حول مقعدك. - اسألهم سيادتك. - ماذا هناك يا أولاد؟
وساد صمت، فأشار سامي إلى التلميذ الجالس بجواره، ونظر إليه نظرة عميقة، ووجد الطالب نفسه يقول كل شيء. - ماهر.
وقال سامي: ماهر من؟ - ماهر هذا.
والتفت سامي إلى ماهر: هل اسمك ماهر؟ - نعم يا أستاذ.
وعاد سامي إلى التلميذ الآخر، وسأله: هه، ماذا فعل ماهر؟ - أحضر معه بعض حبات من المشمش، وراح يأكلها في الفصل. - مشمش؟! - نعم. - وبعد؟ - راح التلاميذ يطلبون منهم أن يعطيهم شيئا مما يأكل. - هذا كل ما في الأمر؟ - نعم. - لماذا تأكل المشمش في الفصل يا ماهر؟ - أكلت حبة واحدة يا أستاذ.
وقال سامي في محاولة أن يزيل الخوف عن ماهر الذي رأى علامات الرعب بادية في عينيه: هل اشتريت المشمس وأنت قادم إلى المدرسة؟
وازدرد ماهر لعابه من الخوف، وتعالت في الفصل ضجة سمع منها سامي كلمة أبوه، ولم يتبين ما يليها، فرفع يده إلى التلاميذ، وساد الصمت، والتفت إليه: ما اسمك كله يا ماهر؟ - ماهر شملول القط.
وأعاد الاسم كل ما يحيط باسم شملول من ذكريات، وتذكر قصة ذلك الفتى الذي أوقع أبوه بأهله أفدح الظلم، وشك أن يكون شملول أبو ماهر هو نفسه شملول الذي سمع قصته فيما سمع عن مظالم أبيه. وأعاد الاسم على مسامع ماهر. - ماهر شملول القط! - نعم يا أستاذ. - ما صناعة أبيك؟
وعلت أصوات التلاميذ حتى ابتلعت صوت ماهر، وهو يقول في صوت خفيض؛ فقد قالوا جميعا صناعة أبيه في أصوات مختلطة لم يتبينها سامي. - فاكهي.
وأشار سامي إلى الفصل أن يصمت، فصمت التلاميذ، وسأل ماهر: ماذا؟
وقال ماهر: فاكهي.
ولم تكن صناعة الأب ذات شأن فيما ثار بنفسه من شك حول اسم شملول. - وما لك لا ترفع صوتك؟ لا تخف يا ماهر، أنت لم تصنع شيئا يستحق منك هذا الخوف، قل لي يا ماهر: هل أبوك من مصر أم من الأرياف؟ - أنا يا أستاذ ولدت بمصر، ولكنني أعرف أن أبي من الصعيد.
وبدأ خيط من نور يخترق الشك الغامض. - ألا تعرف من أي بلدة في الصعيد؟ - أظن يا أستاذ من بلدة اسمها التمرة.
وانقطع الشك باليقين، لا شك إذن. وجلس سامي وصمت طويلا، ثم قال لماهر: لا بأس عليك يا ابني، لن أمسك بأي سوء. اهدأ ... اهدأ تماما، واذهب إلى مكانك.
وأكمل سامي الدرس، حتى إذا دق الجرس وبدأ التلاميذ يخرجون إلى الفسحة، نادى سامي تلميذه ماهر وسأله: أين دكان أبيك يا ماهر؟
وتلجلج ماهر، وهمس أحد التلاميذ إلى الآخر: «الظاهر الأستاذ يريد أن يتعشى فاكهة الليلة»، وضحك الذين سمعوا التعليق، ولم يلتفت سامي إلى ضحكهم، وانتظر حتى خلا الفصل به وبماهر، وقال له: لا تخف، أنا أريده في شيء خاص، بعيد كل البعد عنك.
واطمأن ماهر، وقال: في شارع حسن صبري يا أستاذ. - وهل يذهب أبوك بعد الظهر إلى الدكان؟ - نعم. - إذن فأخبره أنني قادم إليه اليوم، فلينتظرني. - أمرك يا أستاذ. - هل أنت وحيد أبيك؟ - بل لي أخ، وهو تلميذ هنا في السنة الثانية، واسمه مختار. - أحضره لي غدا في غرفة المدرسين لأتعرف عليه. - أمرك يا أستاذ. - مع السلامة يا بني.
16
صحب سامي رشيدة، وذهب إلى شملول. واشترت رشيدة بعض الفاكهة، وفجأة قال سامي دون أن يوجه الحديث إلى أحد بعينه من الواقفين بالدكان. - من شملول؟
وتقدم إليه فتى سمهري القامة، طيب الملامح، بادي الوسامة. - أنا شملول. - أنا سامي مدرس ابنيك: ماهر ومختار. - مرحبا، أهلا وسهلا! شرفت، هات كراسي يا درويش. وجلس ثلاثتهم أمام الدكان، وبدأ سامي: أنت من التمرة؟ - أتعرفها؟ - كل المعرفة. - لا أحسب أنك سامي الذي نعرفه. - من سامي الذي تعرفه؟ - سامي زين الرفاعي. - أيغضبك أن أكون هو؟
ويصمت شملول فترة، ويقول سامي:
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه .
ويقول شملول في استسلام: صدق الله العظيم. - اسمع يا شملول، لقد وقع عليك من أبي ظلم فادح. - إذن فأنت تعرف أنه ظلم. - الظلم الذي وقع علي من أبي أشد.
وظهرت الدهشة على ملامح شملول، وقال: عليك أنت! - الظلم الذي وقع عليك من أبي ظلم واحد، أما الظلم الذي وقع علي، فهو كل ما أوقعه بالناس من قهر، ومن اغتصاب لحقوقهم. - أوتشعر أنت بمعنى تحمل القهر؟ - أشعر كأنني أنا الذي ارتكبت كل هذه المظالم، أو أشعر كأنني أنا الذي وقعت عليه؟ - أوتريد أن تعتذر عن أفعال أبيك؟ - بل أريد شيئا أكبر من هذا. - ماذا؟!
ونظر شملول إلى رشيدة مندهشا، فأومأت برأسها أن نعم، وقال سامي: هذه زوجتي رشيدة، وهي مدرسة أيضا.
وقالت رشيدة: صدقه يا شملول. - أمعقول هذا الذي يقوله يا ست؟ - إنه يعيش في جحيم مما يصنعه أبوه بالناس. - إذن فهو ليس ابنه.
وتقول رشيدة: أنت تعرف أمه؟ - كانت أشرف الناس. - إذن فاعلم أن أخاه مأمون أيضا يعيش في جحيم مثله مما يصنعه أبوهما بالناس. - أيصدق أحد هذا؟
وتقول رشيدة: وما لك لا تصدقه. - إنه لا يدخل العقل. - ففيم تظنه قد جاء إليك وصحبني معه؟ - لا أفهم ... ربما ... ربما. - نحن في القاهرة، نبعد عن التمرة مسافات ومسافات ما كان أحراه أن يخفي أمره عنك وعن ولديك. - آمنت بالله ...
ويقول سامي: جل شأن الله. - فهل أطمع أن تعتبرني صديقا لك؟ - هذا أمر يسير، وقد تم فعلا، ولكن أيكفي هذا؟
وينعقد لسان شملول، وينفتح فمه في ذهول، ويجمع الحروف لتصبح كلمات ويقول: إلى أي طريق تسير بالحديث يا سي سامي؟ - إلى طريق الحق والنور والعدالة إن شاء الله. - إن قلبي يوشك أن يقف من الخوف. - بل قلبك سينتعش بالفرح إن شاء الله. من كان مثلك لا ينبغي أن يعرف الخوف. - ماذا تريد أن تفعل؟ - إننا كلنا سنفعل إن شاء الله. - أنا أريد أن أعيش حياتي. - وحقك الذي تركته هناك؟ - لقد مرت سنوات طوال. - مرور السنين لا يسقط الحق. - لقد أعادت إلي الحياة ما أماتته السنوات. - إن العدالة ينبغي أن تكون أساس الحياة. - أتريد أن ننتقم من أبيك؟ - أستغفر الله، ليس الثأر ولا الانتقام مما يرضى الله عنه. - أنا في حيرة مما تقول ... ماذا تريد أن تفعل؟ أو ماذا تريدنا أن نفعل؟ - أنا قادم إليك في بيتك. - أهلا بك وسهلا.
وقالت رشيدة: وأنا قادمة معه. - يا مرحبا.
وقال سامي: وسيأتي معي أخي مأمون، ونريد أن نلتقي بصبيحة، ونتعرف عليها، ثم نجلس معك أنت وصميدة ومحمود.
وقال شملول في بعض دهشة: كأنك تعرفنا جميعا. - وأعرف عن أموالكم التي في التمرة ما لا تعرفون جميعا. - أكاد لا أصدق. - اكتب هنا عنوانك.
وأعطاه ورقة، وكتب شملول عنوانه، وهو يقول: حسبتك تعرف عنواني أيضا.
ويبتسم سامي في جذل ويقول: ما كان أسهل علي أن أعرفه من ولديك.
ويضحك شملول، وهو يقول: آه صحيح ... نسيت هذا. - متى يناسبك أن تأتي؟ - الأمر إليك. - خير البر عاجله. - والأستاذ مأمون ماذا يعمل؟ - أستاذ كما ذكرت. - مدرس أيضا؟ - بل تخرج في الحقوق هذا العام. - على بركة الله. - أيناسبك أن نأتي في الغد؟ - تشرف في أي وقت. - غدا في السادسة إن شاء الله، السلام عليكم. - مع ألف سلامة.
17
اجتمع أهل التمرة جميعا، وانضمت إليهم رشيدة زوجة سامي وفوزية زوجة صميدة التي تزوجها في القاهرة، وروحية زوجة محمود التي تزوجها في القاهرة أيضا، وكان الجمع كبيرا، ولكن غرفات شملول لم تضق بهم. وقد بدأ الاجتماع بترحاب مصري صادق، حتى وإن كان القادمون يلف قدومهم الكثير من الغموض المبهم غير الواضح. ومر الشاي على الجلوس، حتى إذا انتهوا منه بدأ سامي، فتعرف على أعمال صميدة ومحمود، ثم بدأ الحديث: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقالوا جميعا: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال سامي: إن الصمت على الظلم ضعف، وأنتم قد ظلمتم. وكنتم رجالا، وأبيتم أن تذعنوا للظلم، وخرجتم من دياركم، وقدمتم إلى مصر.
وهوم الصمت على الجميع فيه كثير من الذهول، وكثير أيضا من التشوق وانتظار الحديث المقبل. - ربما تكونون الآن في خير حال، بل إنكم لا شك قد استطعتم أن تجعلوا الحياة تستقر بكم استقرارا ما كانت لتستقره في التمرة. - وترددت الحمد لله، وأكيد وأما بنعمة ربك فحدث، واستأنف سامي حديثه. - الحمد لله، ولكن أنا وأخي هذا وقع علينا الظلم، ولا نستطيع له رفعا إلا بمعونتكم.
وترددت ماذا، وكيف، وعجيبة من المستمعين، وأكمل سامي: إنكم خرجتم من التمرة، ولم تخسروا هناك إلا البيتين اللذين خرجتم منهما وبنيتم حياتكم هنا جديدة مشرقة أما نحن أنا ومأمون فنعتبر كل ظلم وقع من أبينا على إنسان كأنه وقع علينا. وأنا وأخي وزوجتي أيضا نرى أن سكوتنا على ما يصنعه أبي أمر لا يرضاه الله، بل إنه يقول إن الشرك لظلم عظيم، فالظلم العظيم إذن هو عند الله شرك.
وقال محمود: أتريد أن تحارب أباك؟
وقال سامي: معاذ الله، ما كنت لأحارب أبي.
وقال شملول: عجيب أمرك يا أستاذ سامي، ماذا تريد أن تصنع؟
وقال صميدة: لا وسيلة لك إلا محاربة الظلم.
وقال سامي في بساطة: بل هناك وسيلة أجدى وأقوم.
وصمت الجميع في سكون، وقالت روحية في حب استطلاع: كيف؟
قال سامي: منع الظلم أن يقع.
وسأل شملول: وكيف تستطيع؟
وقال سامي: بل قل كيف نستطيع، فإنني بغيركم لا أستطيع أن أصنع شيئا، إما أن تنضموا إلي أو أترك الأمر كله.
وتصايحت أصوات الجميع من نساء ورجال وتناثرت الألفاظ والجمل، واختلطت وتشابكت وركب بعضها فوق بعض، كيف؟ هل هذا معقول؟ نذهب للنار بأرجلنا، ونحن ما شأننا، أبعد أن أنقذنا الله نرجع مرة أخرى؟!
وعلت الابتسامة وجه سامي ومأمون ورشيدة، وانتظر ثلاثتهم حتى لم يجد أصحاب البيت بدا أن يصمتوا، وقال محمود: إن ما تقوله عجيب يا أستاذ سامي، إنك تأتي إلينا في مستقرنا بمصر، وتطلب إلينا أن نعود مرة أخرى للتمرة، وقد حاول أبوك أن يقتلني هناك، واغتصب بيوتنا. ونحن قانعون بما نحن فيه اليوم، فنحن نعيش حياة آمنة لا نحتاج إلى مال، ولدينا أبناؤنا، ونريد أن نربيهم، وتطلب إلينا أن نعود إلى رجل طاغية معه الرجال والسلاح. وقلبه - ولا تغضب - بلا رحمة على الإطلاق. أهذا معقول؟ - إن لم تردوا الظلم عن أهل قريتكم فمن يرده؟
ويقول صميدة: فليقع الظلم ما شاء له أن يقع، ما شأننا نحن؟!
ويقول سامي: شأنكم أنكم نجوتم من هذا الظلم، وأنكم رجال، وأنكم تملكون المال. وأنتم مسلمون والله يقول:
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون .
ويقول محمود: ولماذا لا تحاول قرية التمرة برجالها أن ترد هذا الظلم؟
ويبتسم سامي ويقول: إنهم يعيشون في جوف الهول، ولا يتصورون أن هناك طريقا لمقاومة الظلم أن يقع. وهم جهلاء وأنتم أصبتم، ونحن أصبنا شيئا من العلم، وهم فقراء وأنتم ونحن أصبنا شيئا من الغنى.
ويقول محمود: أستاذ سامي لا تؤاخذني، هذه أول مرة نراك منذ كنت طفلا، ولا نعرف عنك شيئا. وأنت تطلب منا شيئا لا يتصور أحد أن ابنا يقوم به إزاء أبيه، فكيف يمكن أن نطمئن أنك لا تجرنا إلى مكيدة يدبرها لنا - ولا مؤاخذة - أبوك؟
وقبل أن يستطرد، يقول شملول: أستاذ سامي اسكت أنت، فأنا الذي سأتكلم . محمود أنت أبعد ما تكون عن الصواب، هل تتصور أننا عظماء لدرجة أن يرسل لنا زين الرفاعي ابنيه وزوجة ابنه الأكبر ليدبروا لنا مكيدة بعد هذه السنوات الطوال التي تركنا فيها التمرة؟ ما الذي يجعله يهتم بنا كل هذا الاهتمام؟
ويقول محمود: ولماذا لا يكون الأستاذ سامي مختلفا مع أبيه، ويريد أن يستغلنا؟
ويقول صميدة: أمرك عجيب يا محمود يستغلنا فيم؟ إنك سمعته مثلما سمعناه وهو يرفض كل الرفض محاربة أبيه، وسمعته مثلما سمعناه، وهو يقول إنه يريد أن يمنع الظلم.
ويقول شملول: يا محمود نحن تجار، وصناعتنا أن نعرف الناس من سيماهم التي في وجوههم، أوجه الأستاذ سامي هذا يوحي إليك بأنه رجل يريد أن يخادعنا؟
وتقول صبيحة: أستغفر الله العظيم، وقد نسيت شيئا آخر يا محمود.
ويقول محمود، وقد بدأ يقتنع بالحجج المنهالة عليه: خيرا!
وتستطرد صبيحة: إننا على اتصال دائم بقرية التمرة، ونعرف وتعرف معنا أن العلاقة بين زين وابنيه على أحسن ما يكون.
ويقول سامي: اسمعوا أنا سأترككم لتفكروا وتتدبروا الأمر، حتى إذا اطمأنت نفوسكم تماما أرجع إليكم، وشملول يعرف كيف يجدني.
وقال محمود في حسم عجيب: بل إنك لن تقوم من مكانك هذا إلا وقد اتفقنا على كل التفاصيل.
ويقول شملول: الآن يا محمود قلت ما يجب أن يقال.
ويقول صميدة: إن الذي يراك ولا يطمئن كل الاطمئنان إلى صدقك يكون غبيا غير جدير بأن يكون إنسانا.
وتقول صبيحة: إننا كلنا معك، وإذا لم يعاونك رجالنا عاوناك نحن، ما رأيك يا روحية؟ وأنت يا فوزية؟
وتقول روحية: نحن معك يا أستاذ سامي.
وتقول فوزية: ليس آدميا من لا يقاوم الظلم.
ويضحك الجميع ويقول صميدة: أرأيت يا أستاذ سامي لم يصبح لنا بعد قولهم أن نقول شيئا.
ويقول شملول: لم يبق إلا أن نعرف علام عزمت!
ويقول سامي: لقد كان أبي يرسل لي كل شهر مائة جنيه، ويرسل مثلها إلى أخي مأمون.
وتتعالى ألفاظ الدهشة، ويستطرد سامي: لم ننفق منها على أنفسنا شيئا، فقد كنت أنا ومأمون ورشيدة نعمل إلى جانب الدراسة، كل ما جمعناه مرصود لما ننوي أن نفعل.
وتعالت أصوات تتساءل: اشتريت بكل النقود سلاحا. - سلاح وسيارة. أما السيارة فلها عملها، أما السلاح فلن نطلق منه رصاصة واحدة على إنسان.
ماذا؟ ... ماذا تقول؟ ... كيف؟ ... وما نفع السلاح إذن؟ ... ما لزومه؟
ويقول سامي في هدوء: سنرد به الظالمين عن ظلمهم.
وتتعالى «كيف؟» مرة أخرى. - أنتم جميعا تعرفون فواز الشيمي؟ - نعم. - لقد رتب لي عيونا في رجال أبي. - وإذن؟
ويقول سامي: حين نذهب جميعا إلى المركز نتكلم في التفاصيل.
ويقول محمود: جميعا؟
ويقول سامي: جميعا ... لقد رتبت كل شيء.
ويهوم الصمت على الجميع ... صمت فيه سعادة غامرة، وفيه تشوق، وتطلع إلى المستقبل ورضى عنه، واطمئنان أيضا.
18
كان من أيسر الأمور على سامي أن ينتقل إلى مدرسة المركز، فمن ذاك المدرس الذي يعمل في مدرسة بأقصى الصعيد، ولا يتمنى أن ينتقل إلى القاهرة؟! خاصة إذا كان هو نفسه من أبناء القاهرة، وهكذا تم البدل بينه وبين وصفي عبد القوي في سهولة بالغة. وكذلك كان يسيرا على رشيدة أن تطلب إجراء البدل مع تفيدة السلامية.
أما مأمون فقد اختار مكتب لطفي مصطفى المحامي ليقضي به مدة التمرين، وقد رحب به لطفي كل الترحيب، وكيف لا وهو ابن زين الرفاعي، ووجوده بالمكتب سيجعل أهالي قرية التمرة والمنطقة المحيطة بها يتدفقون على المكتب في جميع شئونهم القانونية.
أما صميدة وشملول ومحمود، فقد تركوا زوجاتهم بالقاهرة، ورجعوا إلى المركز يتجمعون تحت الراية التي رفعها سامي من نص الآية الكريمة:
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون . •••
وهش زين الرفاعي حين رأى ابنيه ومعهما رشيدة يدخلون البيت على غير توقع، وبعد غياب سنوات عن البلدة، أما أمهما رتيبة، فقد راحت تحتضن ابنيها ومعهما رشيدة، والدموع تهمى من عينيها كما لقفتهم أختهما عزيزة بشوق صادق متدفق. وحين هدأت بهم الجلسة قال زين: يا أهلا ... يا مرحبا ... لقد أصبح غريبا علي أن أراكم في البلدة.
وقالت الأم وهي تجتذب نفسا مطمئنا من أعماق أمومتها: يا أخي بركة ... البيت من غيرهما ليس بيتا.
ويضحك الأخوة الثلاثة وتقول عزيزة: أمي رتيبة لها حق، الحياة بعيدا عنكما لا تستحق أن تعاش، أظن هذه أول مرة تأتين فيها البلد يا رشيدة؟
وتبتسم رشيدة وتومئ برأسها: أن نعم، وتقول رتيبة: أهذا كلام يا أهلا بك في بيتك يا بنتي ... يا أهلا يا مرحبا ألف أهلا.
ويقول زين: ولكنني فقط أريد أن أطمئن ... أهي زيارة؟
ويبتسم مأمون ورشيدة، ويقول سامي: بل إقامة.
وتختلط الدهشة بالخوف في وجه رتيبة، ويقول زين: ماذا؟!
وتلحق به رتيبة في سرعة متوجسة: وشغلكم؟
ويضحك سامي ورشيدة ومأمون، ويقول مأمون: أتخشين أن نخرج من أعمالنا كل هذه الخشية؟ ... من يسمع هذا يحسب أنكم تعيشون من مرتباتنا.
وتقول رتيبة في جدية: الإنسان بغير عمل كارثة.
وتقول رشيدة ممعنة في إخافة حماتها: وماذا يجري إذا أنا ساعدتك في البيت وساعد سامي ومأمون عمي في ...
وتقاطعها رتيبة، وقد كادت أن تشعر بالمزاح في الحديث: يا بنتي لا قدر الله لا أنا ولا عمك نحتاج إلى مساعدة.
ويقهقه سامي ومأمون ورشيدة، ويقول سامي: لا تخافي ... إننا في أعمالنا لا نزال.
ويقول زين: أهذا معقول؟ ... أجاد أنت فيما تقول؟!
ويقول مأمون: كل الجد، سامي ورشيدة انتقلا إلى مدرسة المركز، وأنا ذهبت قبل أن أجيء إلى هنا، واتفقت أن أقضي سنوات التمرين في المحاماة بمكتب لطفي مصطفى. - متى جئتم؟
ويقول سامي: بالأمس.
وتقول الأم: وأين قضيتم ليلتكم؟
وتقول رشيدة: أنت ست عظيمة ... بيت المركز كأنه لم يترك.
وتضحك رتيبة: كنت أرسل عزيزة ومعها خادمتها سعدية ينظفانه كل أسبوع، وكأني كنت أنتظر أن تجيئوا إليه في أي لحظة.
ويقول سامي: ظللت كل هذه السنوات تنظفين البيت كل أسبوع؟!
وتقول رشيدة: بحاسة الأم.
وتقول رتيبة: الأمر لا يستأهل كل هذه الدهشة، من الطبيعي أن نحتاج إلى أشياء من المركز كل أسبوع، فما البأس أن تذهب عزيزة ومعها سعدية بالسيارة، وتمران بالمنزل تنظفانه؟
وتقول رشيدة: كنت أظن أنني سأجد مشقة كبيرة لأجعله صالحا للمبيت، فوجدته أنظف من أي بيت يسكنه أصحابه.
ويقول زين وقد خالجه بعض الدهش: ولكن ما الذي جعلكم تقررون هذا القرار، وتنتقلون إلى هنا بغير مقدمات؟!
ويبتسم سامي وهو يقول: المقدمات كانت في نفسي منذ عرفت أنني لم أرتكب جريمة، وأن زميلي منيب والحمد لله لم يصب بسوء.
ويقول زين: ياه ... أما زلت تذكر؟ - وهل أستطيع أن أنسى؟ - لقد جعلت من هذه الحكاية التافهة أمرا خطيرا.
ويطرق سامي قليلا ويقول لأبيه متوخيا ألا يتخذ موقف الواعظ: يا أبي لو كان زميلي هذا قد مات لما رأيت أنت وأمي وجهي مدى الحياة.
وذهل زين، وقالت رتيبة: بعد الشر.
وقال زين: إلى هذه الدرجة؟
وقال سامي في حسم: وأكثر.
وتقول رتيبة: ألف حمد وشكر لك يا رب.
قضى سامي ومأمون ورشيدة ثلاثة أيام بالقرية، ثم أخذوا سمتهم إلى المركز وصحبوا معهم فواز الشيمي الذي تمكن في هذه الأيام الثلاثة أن ينفذ كل ما أمره به سامي.
19
عرف فواز الشيمي فيما عرفه أن زين أعطى أمره إلى رجاله بسرقة بهائم كدواني البرقوقي. وكان رجال زين في انتظار أن يحدد لهم العمدة موعد هجومهم على بهائم الكدواني.
وقد رتب فواز أن يأتي إليه نجيب رسلان بالموعد الذي تعين لهم.
وما أن استقر سامي وزوجته وأخوه بالمركز، حتى كان قد أعد سكنا ملائما للقادمين من مصر، وقد هدأ بهم المقام في مسكنهم الجديد، وكانوا يجتمعون كل مساء في بيت سامي. ويتبادلون شتى الأحاديث، فقد كان ما ينتوون القيام به متفقا عليه، ولم يعد محتاجا لأي حديث جديد، بل إنهم شعروا أن الحديث فيما هم مقبلون عليه سيجعل اتفاقهم مائعا، فكثرة الحديث تفتر عزيمة العمل.
في إحدى الأمسيات بينما هم مجتمعون عند سامي، طرق الباب وقام إليه فواز، وفتحه، وهم ينظرون. ما لبث أن خرج فواز من الباب لحظات، ثم دخل وأقفل الباب، وقال في هدوء حازم: الموعد غدا. •••
كان رجال زين الرفاعي مدربين على أعمالهم غاية الدربة، وكان كل منهم يعرف دوره، وكان يؤديه في إتقان وبراعة، حتى أصبح كبيرهم خطاب الضبع في غير حاجة أن يعطي أوامره عند بدء العملية، بل يكتفي بجملة واحدة تعودوا أن يسمعوها في صوته الهادئ المنخفض الواثق: كل واحد منكم يعرف ما سيعمله.
ولم يكن من المحتم أن يجيب كل فرد منهم جملته، وقد يكتفي أحدهم أن يقول: توكل على الله.
أو يقول آخر: توكل.
ثم يمضي خطاب إلى غرفة السلاح في بيته، فيفتحها ويدخل كل منهم إلى سلاحه الذي يعرفه، وهم جميعا يصرون ألا يستعملوا إلا السلاح الذي مردوا عليه. وقد كان بعضهم يقول في فخر: إن بينه وبين سلاحه لغة لا يفهمها إلا هو وسلاحه.
وكانوا ستة نفر لهم عند هجومهم طقوس غير مكتوبة، وإنما هي تكونت بطول الدربة، وبكثرة العمليات، فكان لكل منهم ملبسه الذي خصصه لليالي العمل، وكان كل منهم يستبشر بملبسه هذا، فكان لا يلبسه إلا في الليلة التي يعمل فيها، حتى لا تهلكه كثرة الاستعمال. وكانوا إذا ساروا إلى مهمتهم ذهبوا إليها أزواجا، وكان كل واحد منهم يعرف رفيق عمله. وكان خطاب يخبرهم في كل مرة بمكان تجمعهم، يقصدون إليه من طرق شتى، ومن منافذ متفرقة. •••
كان كدواني البرقوقي قد تاجر في البهائم في عامه هذا، وعادت عليه التجارة بربح يتجاوز العشرة آلاف جنيه، وقد عرف زين بهذا النبأ فاستقدمه إليه. - مرحبا يا كدواني.
ولم يكن كدواني ليغبى السبب الذي استدعاه زين من أجله، ولكنه شأن الدهاة من أبناء القرى يعرف كيف يخفي مشاعره، فهو يقول لزين وكأنه مطمئن: رحب الله بك يا حضرة العمدة. - لنا زمان لم نرك. - علم الله يا حضرة العمدة كم أنا مشوق إليك. - فماذا منعك يا أخي أن تزورنا؟ هل نسيت الطريق إلى بيتنا؟ - يا حضرة العمدة نحن نعتبر بيتك بيتا لنا جميعا، والإنسان لا يمكن أن ينسى الطريق إلى بيته. - فما الذي شغلك عنا يا ترى؟ - لم تفلح زرعة القطن، فاضطررت أن أرقعها، فكنت أقضي يومي كله في الغيط، وأعود إلى البيت بعد المغرب مهدودا لا أكاد أصيب من الطعام شيئا، وأوشك أن أسأل أهل بيتي أن يحملوني إلى الفراش. - كان الله في العون! - أطال الله عمرك يا حضرة العمدة! - إذن، فالذي سمعناه ليس صحيحا. - خيرا يا حضرة العمدة، وما الذي سمعت؟ - لا داعي لقوله ما دام الأمر كذلك.
وأدرك كدواني أن الحديث قد بلغ الغاية المقصودة منه ومن الاستدعاء أيضا فهو يقول: وما البأس أن تقول يا حضرة العمدة؟ والأمر كله كلام ابن عم حديث، وها نحن أولاء نسمر. - كنت سمعت أنك - فيما يقولون - تاجرت في البهائم.
ويبتسم كدواني، وكأنه لا يعير الحديث التفاتا. - آه ... أتقصد إلى هذا؟ لا وشرفك لا تجارة ولا يحزنون ... الأمر لا يزيد على كم رأس اشتريتها وأطعمتها بضعة أشهر وبعتها. وشاء الله أن يكرمني في قرشين اشتريت بها كم بهيمة أخرى لأتاجر فيها. - أحد عشر ألف جنيه لا يقال عنها قرشان. - أنت تعرف كم يبالغ الناس يا حضرة العمدة.
ويستعيد العمدة صوته الآمر المتسلط، بعد أن ظل طوال حديثه يعمل صوتا هادئا منسابا يكاد من يسمعه يظن أنه ينبعث عن نفس طيبة شفيفة لا أثر فيها لقهر أو عدوان.
يقول العمدة في نغمته الأصيلة التي يعرف أهل القرية معنى صدورها عنه: بل أنت تعرف يا كدواني أنك إذا شربت شربة ماء في بيتك، فأنا أعرف تماما كم قطرة ماء شربت. - ليس هذا بجديد علينا يا حضرة العمدة. - فمكسبك إذن أحد عشر ألف جنيه وخمسون جنيها أيضا، حتى تفهم أنني ما زلت أعرف كم قطرة شربت في بيتك. - وإذا فرضنا يا حضرة العمدة أن ما تقوله صحيح؟ - يكون عليك أن تدفع لي خمسة آلاف جنيه. - في أي شرع هذا؟ - شرع زين الرفاعي. - ولكنه ليس شرع الله يا حضرة العمدة. - ألست أنا الذي أحمي تجارتك؟ وأنا الذي أمنع عنك اللصوص أن يسرقوا بهائمك جميعا، وأمنع الخراب أن يحل بك؟
ويقول كدواني في نفسه: وهل هناك خراب أكثر من الذي تصنعه؟ ويصمت، ولكن خاطرا عجيبا يلح عليه، كيف يستطيع اللصوص أن يجعلوا إجرامهم شرعيا له منطقه، وكيف يلبسون الباطل أثواب الحق، فتطمئن نفوسهم أن ما يصنعونه بالناس عدل لا عدوان فيه، ولا افتئات، ولا تدمير فيه لإنسانية الإنسان.
يصمت كدواني، ولكن قليلا ما يصمت، فالعمدة لا يترك للسكون فترة أن يخيم عليهما، فهو يقول في صوته الجبار: ألست أنا الذي يمنع محصولك أن يحرق أو يسرق، وبيتك أن يهدم أو يحرق أيضا؟
ويطرق كدواني، ويقول في مخادعة وفي غير اقتناع: وهل يستطيع أحد أن ينكر يا حضرة العمدة؟
ويعود العمدة إلى مواصلة جبروته:
ألا أحتاج إلى رجال لأحميك، وأحمي أهل القرية معك، وهؤلاء الرجال ألا يحتاجون أن يعيشوا وقد تركوا أعمالهم، وتفرغوا للمحافظة على أرواحكم وأموالكم. من أين أنفق عليهم؟ ومن أين ينفقون هم على عيالهم إذا كان كل واحد منكم سيربح ما طاب له الربح، ولا يدفع لنا ما نحافظ به على رأس ماله وأرباحه؟ بل إننا أيضا نحافظ على حياتك وحياة كل الذين يقومون بأعمال تعود عليهم بالربح، فلولا الرهبة التي يحسها المجرمون حولنا لقتلوكم، واستولوا على ما تحملون من أموال.
ولا يتكلم بلسانه كدواني ... ولكن ... يا بن الكلب إن أحدا لا يسرقني إلا أنت، وأحدا لن يقتلني إلا أنت، وأحدا لن يحرق زرعي أو بيتي أو بهائمي إلا أنت. إذا أنت حميتني من نفسك، فأنا في غير حاجة إلى حماية، فليس هناك مجرم إلا أنت، ولا عاتية ظالم إلا أنت.
وحرك كدواني لسانه في فمه: أمرك يا حضرة العمدة!
وفي حسم قاطع يقول زين: خمسة آلاف جنيه. - أهذا معقول يا حضرة العمدة؟
هذا هو المعقول الوحيد. - أنا لا أستطيع أن أدفع أكثر من ألفين.
وفي صوت آمر يقول زين: خمسة. - إذن فاصبر علي. - حتى متى؟ - حتى أبيع البهائم التي عندي. - ولماذا لا تبيعها الآن؟ - أخسر في بيعها كل ما ربحته، ولا أستطيع أن أدفع حتى الألفين. - متى تستطيع الدفع؟ - بعد ستة أشهر. - ماذا؟ - خمسة أشهر. - اسمع، أنا سأمهلك هذه الأشهر الخمسة، ولكنك إذا تأخرت يوما واحدا تكون الجاني على نفسك. •••
وتأخر كدواني، وتحدد الموعد . وخرج رجال العمدة، وقصدوا إلى بيت كدواني والقمر ينير لهم الطريق، فهم لا يخشون أن يراهم أحد، وكان بيت كدواني متسعا، وقد حرص منذ بدأ يتاجر في البهائم أن يسد باب الحظيرة الخارجي بالطوب، ويجعل البهائم في دخولها وخروجها تمر عبر باحة البيت، ولكن شيئا من هذا لم يقف عائقا دون رجال زين. ما هي إلا دفعة حتى كان باب البيت مفتوحا على مصراعيه، وكان كدواني وزوجته شفيعة وأبناؤهم الثلاثة سعداوي وبغدادي ونبيل جالسين إليهم، وقفوا جميعهم، ورأوا رجال زين ملثمين، ولكنهم عرفوهم جميعا فردا فردا، وكان خطاب وأعوانه يعلمون تمام العلم أن كدواني يعرفهم فما راعهم هذا ولا مر بخاطر أحدهم أن يفكر في هذا الأمر.
ودخل الرجال إلى حظيرة كدواني، وكأن البيت خال بهم، وكأنهم ما رأوا صاحب البيت ولا زوجته ولا أبناءه، وبدءوا يخرجون البهائم، ولم يجد كدواني شيئا يصنعه إلا أن دعا زوجته وأولاده أن يدخلوا أمامه إلى حجرة أخرى، وأقفل الباب على نفسه وأسرته، فقد أصبحت حياته وحياة أسرته في هذه اللحظة هي كل ما يحرص عليه، ولتذهب البهائم وثروته جميعا إلى الجحيم.
خرج خطاب في المقدمة يقود جاموسة، وتبعه الرجال الخمسة يقود كل منهم جاموستين، وما أن خرج آخرهم، حتى فوجئوا بخمسة شخوص يلبسون السواد ما يبين منهم شيء يحيطون بهم، ويطلقون الرصاص حواليهم، وكأنه مطر منهمر، ويتولى العتاة الخوف الراعد، وتتواثب البهائم في أيديهم توشك أن تقتلهم، ويقف بهم الذعر جامدين، وكأنهم تماثيل من جماد.
ويواجههم صوت لا يعرفونه ... إنه صوت شملول، ومن أين لهم أن يذكروا شملول أو صوت شملول؟ - ألقوا السلاح.
ودون تفكير يلقي الرجال الستة سلاحهم، ويطالعهم الصوت آمرا مرة أخرى. - أعيدوا البهائم إلى مكانها، وليبدأ أقربكم من البيت في إدخال ما معه، ثم يتبعه الذي يليه.
وينفذون الأمر في دقة الحريص على حياته، حتى إذا أدخلوا البهائم يقول شملول: قولوا لحضرة العمدة إنكم ستجدوننا دائما عند كل عملية تقومون بها، ويقول خطاب في صوت راعش: ماذا؟ - ما سمعت يا خطاب، أبلغ العمدة ذلك. هيا اذهبوا، وإذا التفت أحدكم خلفه قتلناه في لحظة ... اذهبوا واحذروا أن يلتفت أحدكم خلفه.
وفي مثل لمح البصر يولون الفرار.
ويجمع سامي ومأمون ومحمود وشملول ومعهم رشيدة، وهي في ملابس الرجال الأسلحة الملقاة، ويخفيهم الليل عائدين إلى المركز بالسيارة التي أعدها سامي فيما أعد حين استقر رأيه على أن يكون من أولئك الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. •••
تعود زين كلما أمر بعملية أن يجلس في غرفة خاصة بالبيت لها شباك على الطريق، ينتظر أن يأتي خطاب أو غيره من مجرميه إلى هذه النافذة، فيطرقها أربع طرقات إن كانت العملية تمت بنجاح، أو يطرقها ثلاث طرقات إذا حال دون إتمام العملية حائل.
وحين سمع زين أصوات الرصاص دهش، وانتظر بالغرفة، وكانت رتيبة تجلس معه فيها، وقد تعودت ألا تسأله عن هذه الطرقات منذ أول مرة سمعتها فيها، وسألت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من هذا الذي يطرق في مثل هذه الساعة؟ فأجابها زين في حسم قاطع، وبصوته الذي عرفته حين ينقلب زوجها من إنسان أنيس إلى شيطان مريد. - لا شأن لك.
وكانت في ليلتها تلك تدرك بحسها وبطول المعاشرة أنه ينتظر ذلك الطرق المبهم. وحين سمعت أصوات الرصاص تأكدت أن حدسها صادق.
ولم يطل بها الانتظار؛ فسرعان ما طرق النافذة ذلك الطارق ... ورأت زوجها يتسمع في اهتمام بالغ، حين انتهت الطرقات الثلاث ظل لحظات طوال يتسمع، فلم يصل إلى أذنيه إلا أصوات أقدام تبرح النافذة.
ورأت الدم يعلو وجهه، حتى أصبحت عيناه وكأنهما جمرتان ملتهبتان. وحين قاما إلى النوم أحست به طوال الليل والفراش يقلبه لا يقر له قرار، حتى نفذت إلى الحجرة خيوط الشمس الأولى، فإذا زوجها منتصب على قدميه، ودون أن يتناول إفطاره كان قد ترك البيت، وقصد إلى مجلسه في الدوار.
وما أن استقرت به الجلسة، حتى وافاه خطاب، وروى عليه ما حدث، وقبل أن يتم الحديث يصعد الدرجات القلائل كدواني خائفا يتكفى، ودون تحية يصيح: البهائم معي في الخارج يا حضرة العمدة.
وينظر إليه زين مليا ... ماذا يمكن أن يحدث لو أنه أخذ هذه البهائم؟ إن المجرم حين يحيط به التهديد يصبح أشد الناس خوفا وهلعا. كيف أضع هذه البهائم في بيتي؟ إن قوما صنعوا ما صنع هؤلاء بالأمس لا يقف دونهم شيء. هيهات أن يكونوا خمسة أو عشرة، بل لا بد أن وراءهم مددا عتيدا. وما أظنهم بالذين يغضبون من أجل كدواني، ويبذلون كل هذا الجهد الذي بذلوه لمجرد المحافظة على بهائمه، فما كدواني بالنسبة إليهم إلا فرصة اهتبلوها ليعلنوا لي عن وجودهم.
ويطرق زين ويطيل الإطراق، ثم يرفع رأسه إلى كدواني: ارجع إلى بيتك، وخذ بهائمك معك يا كدواني. - أنا لا شأن لي بما حدث يا حضرة العمدة. والله على ما أقول شهيد. - أعلم يا كدواني. - البهائم في ستين داهية. أولادي يا حضرة العمدة. - كدواني تأكد أنني أعرف أنك لا شأن لك بما حدث، وخذ مني كلمة رجل: إنني لن أمسك بما يؤذيك. - أطال الله عمرك يا حضرة العمدة! - مع السلامة يا كدواني.
وقام كدواني وهم بنزول السلالم، ثم توقف فجأة والتفت إلى العمدة مرة أخرى: ألا أترك البهائم يا حضرة العمدة؟ - بل تأخذها معك كما أحضرتها. - أمرك.
والتفت إلى السلم، ثم توقف واستدار ثالثة إلى العمدة: وإذا جاء لي فيها مشتر يا حضرة العمدة؟
وأدرك العمدة أنه يساوم على الإتاوة، ولكن زين لم يكن في حالة تسمح له بالمفاوضة الآن ... وأين سيذهب مني كدواني؟ فليبع البهائم، وإذا انتهيت من هذه البلوى التي ظهرت لي على آخر الزمن، فإن يدي تستطيع أن تعتصر منه عشرة آلاف لا خمسة ... قال زين في حسم: إذا أردت أن تبيع البهائم، فبعها يا كدواني. - و... - وحين أريد المبلغ سأقول لك ... أبق الثمن كله عندك الآن. - أمرك يا حضرة العمدة، وأين سيذهب المبلغ؟ إنه عندي تحت أمرك، أحضره عندما تشاء، أمرك يا حضرة العمدة.
وانصرف كدواني، وأمر العمدة خطاب أن ينصرف هو أيضا، وخلا به المكان. كيف عرفوا بالموعد الذي حددته لكدواني؟ أهي صدفة أم أن لهم علي عيونا راصدة؟ وكيف لي أن أعرف؟ بل لا بد لي أن أعرف، وما الذي جعلهم يعيدون البهائم إلى صاحبها؟ من هؤلاء؟ ما شأنهم؟ •••
اندلع الخبر في القرية في كل نواحيها وتناقلته الألسنة والقلوب والوجوه والفرحة تشيع في كيانهم كله.
وبدأ الناس يتساءلون: من هؤلاء؟ إنهم ليسوا لصوصا، اللصوص لا يعيدون المسروقات إلى صاحبها. وهم ليسوا من الشرطة، فالشرطة لا تترك المجرمين المتلبسين دون أن تقبض عليهم. وهم ليسوا غرباء، فهم يعرفون اسم خطاب، ويعرفون لمن يعمل. وهم ليسوا من البلد، فلو كانوا من البلد ما خفي أمرهم على رجال زين، أملائكة هم أم بشر؟ إنس هم أم هم من الجن؟
ومن أهل البلد أعيان حلا لهم أن يروا العمدة في يومهم هذا، واختلق كل منهم سببا يذهب به إلى العمدة، وكان زين قد استطاع فيما أتيح له من وقت خلا فيه بنفسه أن يجمع ما تمزق منها، وما صدعته الحادثة، وما تشتت من فكره.
وجدوا العمدة راسيا كأن شيئا لم يقع، وراح يروغ بالحديث إلى شتى مسالك ومختلف سبل. لا يجرؤ أحد من زواره أن يسأله، وفيم السؤال؟ وكيف يستطيع أحدهم أن يقيم جملة متصلة الألفاظ تؤدي المعنى الذي يراد لها أن تؤديه؟ وعزم زين على أمر وقطع فيه الرأي، واستقر به الفكر. •••
وفي بيت سامي جلسوا جميعا ينتظرون فواز الشيمي الذي ما لبث أن جاء وقدم إلى سامي مبلغا من المال هو ثمن السلاح الذي أخذوه من رجال العمدة، وسأله سامي: كم؟ - خمسمائة وخمسون. - فيم تقترحون إنفاقها؟
قال شملول: الأمر لك.
قال سامي: إذن هي من نصيب محمود ونصيبك، فقد بعتما أرضكما بأبخس الأسعار، حتى تهربوا من الظلم.
وقال محمود: ألا نبقيها معك، فقد نحتاج إليها فيما نحن مقبلون عليه.
وقالت رشيدة: أبقها أنت معك، وإن احتجنا قلنا لك.
وقال شملول: ولكن ...
ويقطع سامي النقاش: انتهى أمر هذه الفلوس، ولننظر فيما هو آت ... فواز. - نعم. - تذهب الآن فورا إلى البلدة، وتعرف ماذا هم صانعون؟ - فورا . - لن يبيت أبي وهو لا يعلم عمن هاجموا العصابة شيئا. - أمرك. - ونحن هنا سننتظر عودتك، وقد أخذنا أهبتنا للتحرك لحظة عودتك. - أمرك ... سلام عليكم. - عليكم السلام.
20
عبد الغني الريدي فلاح ماهر، تمازجت هوايته مع حرفته، وهوايته في الحياة أن يكون زرعه أحسن زرع في المنطقة. وقد استطاع بجهده أن يرتفع بملكه من أربعة أفدنة تركها له أبوه الحاج محسن الريدي إلى أحد عشر فدانا. وكان زين الرفاعي يتقاضى منه مائتي جنيه عن كل فدان يشتريه كما كان يتقاضى من البائع مثلها. وقد كانت هذه الإتاوة مقررة لا مجال فيها لمناقشة، ولم يحاول عبد الغني أن يماكس فيها، أو يتمرد عليها.
وفي عامه هذا استطاع عبد الغني الريدي أن يستنبت من ستة الأفدنة التي زرعها قطنا أربعة وخمسين قنطارا، فقد أحسن خدمة الأرض، حتى جعل الأرض والبذرة يخرجان أسرارهما الكامنة، وأنتج الفدان تسعة قناطير.
وحين استدعاه كان يدرك تماما السبب الذي يقف وراء استدعائه، وثارت به نفسه وهو في طريقه إلى دوار العمدة، وجعلته يواجه ابتسامة زين التي استقبله بها مواجهة مقطبة رافضة، تأبى حتى أن تداري ما في نفسه من سخط ورفض. - مرحبا بزين الرجال. - الله يرحب بك يا حضرة العمدة. - أين أنت يا عبد الغني؟ لي زمان لم أرك. - حضرة العمدة أنا لا أظن أنك استدعيتني لشوق ألم بك نحوي. - يا أخي الترحيب بالضيف واجب. - هذا إذا لم يكن الضيف قادما على رغم أنفه. - وهل أرغمك أحد؟ - نعم يا حضرة العمدة. - من ذاك؟ اذكر اسمه لي، وسترى أي عقاب سأنزله به. - إذن، عاقب نفسك يا حضرة العمدة. - أنا؟ - نعم أنت يا حضرة العمدة، وليس غيرك. فأنا لم أحضر لزيارتك مختارا، وإنما استدعيتني أنت وأنا أعلم ماذا يمكن أن يحل بي إذا نكصت عن استدعائك هذا، فأنا في حضوري هذا إليك لست حرا. وقد كنت أستطيع أن أداجيك وأتغنى بالشوق إليك، إلا أنني في الحقيقة لم أعد أطيق يا حضرة العمدة. - وما لك غاضبا كل هذا الغضب؟ - من تلك الحياة المفروضة علينا فرضا بقوة السلاح يا حضرة العمدة. - فماذا يقول غيرك؟ إن الله يعطيك ويرضيك وأرضك تنتج أحسن محصول، وأنت من أغنى أهل البلد. - أعرف أن هذا ما استدعيتني من أجله، إن الله سبحانه جل علاه هو العدل المطلق، وهو لا يعطي للكسول أو الخامل، وأنا يا حضرة العمدة أرضيت ربي في عملي، فأرضاني في محصولي. - أفلا تشكر الله إذن؟ - إنني أشكره وأحمده آناء الليل وأطراف النهار. - أوليس من الشكر أيضا أن تشارك غيرك فيما وهب الله لك؟ - إن الله يا حضرة العمدة غني عن العالمين، وهو سبحانه قد حدد الزكاة، وأنا أرفعها إلى ذاته العلية كما أمر بها أن ترفع لتعين الفقير والمحتاج وابن السبيل، وهو سبحانه حبب إلينا أن نتصدق وأغرانا بأن الحسنة التي يقدمها العبد منا إلى أخيه يضاعفها رب الجميع عشرة أضعاف. وهذا أمر بيني وبين الله وحده، لا يطلع عليه إلا هو. - والذي يحميك من عدوك، ويحمي مالك من السارق؟ - أنا يا حضرة العمدة ليس لي أعداء، وأنا أستطيع والحمد لله أن أحمي مالي من السارق. - أتستطيع؟! - بإذن واحد أحد. - إذن فلا حديث بيننا. - والله المستعان يا حضرة العمدة، إنه هو وحده القاهر فوق عباده. - إذن فلا تبك بعد ذلك يا عبد الغني. - وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت. - لقد فتحت على نفسك نافذة من جهنم. - إنها بفضلك مفتوحة على المنطقة كلها، ولكن النفس في كثير من الأحيان تفضل الموت على الذل يا حضرة العمدة. - وأين كانت هذه الشجاعة من قبل؟ - قد يحتمل الإنسان بعض الحين، وقد يرضى بشيء من التنازل عن حقه، ولكن الطاغية حين يسرف في طغيانه يجعل الحجر يتحرك وتدب فيه الحياة. - إذن سنلتقي يا عبد الغني. - وأنا مستعد للقاء، والله يحق الحق، ويجعل الباطل بأمره زهوقا، سلام عليكم يا حضرة العمدة.
كان هذا الحديث بعد أن جمع عبد الغني قطنه، ووضعه في مخزنه.
وقد رأى العمدة أن ينتظر حتى يحشوه في أكياس البيع ليوقع به ما انتوى أن يصنعه.
ويوم وقعت الواقعة بالعمدة على أيدي سامي وصحبه كان عبد الغني قد أوشك على الانتهاء من تعبئة القطن جميعه، كان زين ينوي أن يرسل رجاله بعد يومين؛ ليستولوا على القطن بأكياسه، ولكنه وقد نزلت به هذا القاصمة رأى رأيا آخر. - خطاب. - أمرك يا حضرة العمدة. - أنبيت ليلتنا ونحن لا ندري من هؤلاء الذين صنعوا بنا هذا الصنيع؟ - أمر سعادتك. - قطن عبد الغني. - نحمله الليلة؟! - الليلة. - أمرك. - ولكن انتظر ... لا بد في هذه المرة أن نغير الطريقة التي كنا نتبعها في السنوات الماضية كلها. - طبعا ... طبعا يا سعادة البك. - إذن فاسمع. - نعم. - ما سنتفق عليه الآن لا يعرفه أحد من الرجال إلا وقت تنفيذ العملية. - طبعا يا حضرة العمدة ... طبعا وهل تشك في هذا؟ •••
قال فواز لسامي: كما توقعت حضرتك يا سامي. - طبعا. - قطن عبد الغني الريدي. - وتوقعت هذا أيضا ... هل أنتم مستعدون؟
وقال شملول: بل انتظروا، لا بد لنا من حديث قبل أن نقوم إلى عملنا.
وقال محمود: قل. - اقعدوا وفكروا معي. •••
كان الذين يستعين بهم خطاب الضبع في تنفيذ أوامر العمدة خمسة نفر، اختارهم خطاب من البلاد المجاورة، وكانوا جميعا لصوصا صغارا. وكان لكل لص منهم نهجه ومنحاه، وضمهم خطاب، فأصبحوا جميعا أعوانا له توحد بهم الطريق.
أما سعفان أبو زغلول فهو من بلدة العسرانية، وكان متخصصا في سرقة البهائم، ولم يكن يبيعها إلا إذا عجز صاحبها أن يدفع عنها الحلوان. وقد كان هذا الحلوان قريبا كل القرب من ثمن البهائم، ولكن المعتدى عليه لا يملك إلا أن يدفع، وأمره إلى الله، وبعض الشر أهون من بعض. وكان سعفان أيضا يعمل وسيطا في السرقات التي يقوم بها غيره، وبين السارق والمسروق يظفر سعفان بجزء مما يتفقان عليه. طلبه خطاب فوجد في العمل معه دخلا ثابتا، فرحب بذلك خاصة أن خطاب سمح له أن يمارس سرقاته خارج التمرة في الأيام التي لا يعملون فيها.
أما إدريس السلاموني، فكان قاطع طريق، يسقط على فريسته في حالك الظلام ، ويجرده من كل ما معه، ثم يقيده ويتركه ملقى في مكانه. وكانت وسيلته إلى ذلك بندقية صدئة، إلا أنها بالنسبة للأعزل سلاح فتاك.
وكان فهيم سمهان من قرية الترابية، وصنعته قاتل محترف يقصد إليه كل صاحب ثأر أن يقتل لحسابه من وقع عليه الاختيار. ويقصد إليه أيضا كل من يريد أن يزيح من طريقه عائقا بشريا.
أما عمران القناوي فكان سمسارا في الأسواق، وكان هزيلا في سرقاته؛ فقد كان ينتهز فرصة غفلة من صاحب خروف أو معزة أو حتى أوزة، وقد مرن أيضا على نشل الجيوب، وهو ما يزال يسعى سعيه هذا في الأسواق بجانب عمله الضخم في عصابة زين الرفاعي.
خامس الجماعة شهيدي عبد المعين، وهو من أصدقاء خطاب، نشأ كلاهما في رحاب زين، ومرنا في باحته على كل ما كان يكلفهما به من أعمال.
كان خطاب وشهيدي وإدريس هم فقط الذين نزلوا من سيارة النقل أمام دار عبد الغني، وشهروا أسلحتهم على الرجال الذين كانوا يعبئون الأكياس القليلة الباقية من قطن عبد الغني في غرفة بيت عبد الغني، وكانوا هم أيضا ثلاثة رجال، وأصدر خطاب أمره. - اتركوا هذا، واخرجوا إلى القطن الملقى أمام البيت وضعوه في السيارة.
وأطاع الرجال العزل، وخرجوا إلى القطن الذي كان مكدسا أمام البيت، وهموا أن يحملوا أول كيس، فإذا بسامي يخرج من ورائه، ويأمر خطاب وصاحبيه أن يلقوا سلاحهم، وأردف أمره بضغطة على الزناد قذفت إلى الهواء عدة طلقات، وألقى خطاب سلاحه، وهو يصيح: سعفان.
ولكن سامي يقول له في ثبات: سعفان وفهيم وعمران مقيدون جميعا، هذه هي أسلحتهم. - وتخاذل خطاب وهو يلقي سلاحه، وتبعه شهيدي وإدريس.
وقال سامي: فك أصحابك، تجدهم خلف البيت، واركبوا السيارة إلى العمدة، وأخبروه أنه سيجدنا دائما حيث يرسلكم. - هيا ... أسرعوا.
ويصدع خطاب بالأمر، ويركبون السيارة، وينصرفون.
ولا يعرف عبد الغني، أو أحد من رجاله سامي، أو أحدا ممن معه.
وحين يحاول أن يتعرف عليهم يقول له سامي: ستعرف حين ينبغي أن تعرف، ادخل الآن إلى دارك، وأكمل عملك، ولا تخش شيئا، وتوكل على الله. •••
وسار سامي وصحبه عائدين طريقهم. وكان سامي يعلم أن عيون العصابة تسير وراءهم حيث يسيرون.
تحرى سامي أن يطيل طريقه، ويتلوى بهم حتى بلغ النهر. وفوجئ رجال زين بسامي ورفاقه يختفون في جرف النهر، واستبد بخطاب وعصابته الذهول. وأمرهم خطاب أن ينتظروا، فتريثوا بعض الحين، ثم تسارعوا إلى النهر، فوجدوا سامي قد صنع من بعض حبال شبيه جسر مما يصنعه رجال الجيش عند عبورهم للعوائق المائية. تقدم خطاب وأشار إلى أصحابه أن يتبعوه، وسار خطاب على الجسر، وخطا عليه بضع خطوات. وفي أثره تقاطر الرجال الخمسة، وحين أصبحوا جميعهم في منتصف الجسر سمعوا صوتا حاسما يقول: الآن!
فإذا بالجسر تتقطع أطرافه وإذا جميعهم في الماء. •••
حين سمع العمدة الطرقات الثلاث عرف أن السرقة فشلت مرة أخرى وركبه هم قاتل، ولكن الطارق لم يكتف بالطرق.
بل صاح: حضرة العمدة.
وتصامم زين، ولكن النداء ألح، فنظر العمدة إلى زوجته، فرأى وجهها قد كسته الجهامة. وتبين من قسماتها أنها تعرف كل شيء، واستطاعت هي أن ترى في عينيه نوعا من التساؤل، وصمتت فازدادت حيرته، وراح يقلب نظره بينها وبين الصوت الآتي له من الطارق.
لأول مرة رأته رتيبة ضعيفا حائرا، لا يدري ماذا يصنع. إنسان إذن هو بكل ضعف الإنسانية وهوانه، وليس هو ربا ولا هو إلها، ها هو ذا متخاذل أمامها، وهي سيدة بلا حول لها ولا قوة إلا شرف الدخائل، وطهر السرائر، ووضوح النفس، لا تخاف شيئا يتخفى في كيانها البشري.
وحين ألح الطارق المنادي قالت هي في صوت آمر قوي بالحق الذي أحست أنها تتجسده: انظر فيم يريدك!
وكسجين تحطم عنه القيد، قال بصوت يشرخه الرعب: انتظر، أنا قادم إليك.
وتوقف الطارق عن الطرق وعن النداء، وقصد زين إلى باب البيت، وخرج إلى سواد الليل.
21
عينان حمراوان، وبنيان تصدع، ووجه مكروب، وشارب متهدل، وعمامة منداحة على الرأس، وخوف ووجل، واستخذاء ورعب وانزواء. هكذا كان العمدة وهو جالس في صدر قاعته بدواره. وحيدا كان ليس حوله من أهل القرية أحد، تقتله الوحشة، من حجرته كما تقتله الوحشة من داخله.
من هؤلاء؟ أمن الجن هم أم من البشر؟ أم قد أرسل الله إليه ملائكة شدادا ينتقمون لكل من أصابهم في حياتهم، وفي أمنهم، وفي أموالهم؟!
أتكون هكذا نهايته، وهو الذي عتا ما عتا في البشر.
ألم يكن الموت أرحب يتوارى في طواياه من هذا الخزي؟ وكيف يكون مقامه في قريته من بعد اليوم؟
الناس جميعا يرونه مسربلا بالخزي والعار.
لقد كانت الجموع في طريقها إلى المسجد لصلاة الفجر، ولا حديث لها إلا الهوان الذي أحاط به.
ولم يعد في الربوع من لم يعرف ما حل بالطاغية من وبال.
فما بعجيب إذن أن يستقبل صباحه وحيدا تحيط به الوحشة من كل جانب وتفري صرخات الرعب كيانه جميعا.
ومن بعيد تتواتر إليه أصوات جموع ما تزال تتعالى وتقترب، حتى تصبح ضجيجا عاليا مشتدا، ثم ينفتح باب القاعة على مصراعيه، وإذا بالحجرة المترامية الأطراف تصبح مليئة بالناس. وعلى رأسهم اثنان يحملان السلاح حمل من لا ينتوي أن يستعمله، وقبل أن يفيق العمدة زين الرفاعي يجد السلاح جميعا ملقى أمامه على الأرض. ويرفع رأسه إلى من رمى بالسلاح ويرى ... ويل له من الأيام ... أي إنسان إلا هذين ... أي مخلوق من المخلوقات ... من البشر أو الجن أرحم من أن يرى هذين اللذين يراهما. ويغمض عينيه، ويطيل الإغماض ثم يفتحهما ... كونا أي اثنين آخرين ولا تكونا من أرى! ولكن الحقيقة لا تحتمل الشك. إنهما هما وليس غيرهما ... سامي ومأمون ... واقفان هما كجبلين أقامهما القدر في وجهه ... إن قلت إن سامي ليس ابني، ماذا أنا قائل عن مأمون ابن دمي ... أيكون الحق أرفع شأنا من صلة الدم؟ وسامي نفسه إنه لا يعرف لنفسه أبا غيري، بل إني نسيت من حقيقة مولده إلا أنه ابني تلقفته وهو رضيع وأرضعته من أصبحت فيما بعد زوجي وأم أخيه وأم ابني، ما هذا الذي يصنعان بي؟
وطال الصمت، والابنان ينتظران الأب أن يقول أو يسأل وهو في غمرة الذهول الصاحي لا ينطق، والناس جميعا الذين ملئوا الحجرة وما خارجها من بناء وطرق كأن على رءوسهم الطير.
كان الصمت الذي طال أعظم من كل كلام يمكن أن يقال، ما كان صمتا ذاك، بل كان حوارا عجيبا دار بينه وبين ولديه، ثم بينه وبين كل فرد من هذه الجموع.
فكلهم أصابه منه ويل وويل. من لم يصبه بالفعل والعمل أصابه بالرعب الرادع، وبالخوف يسري من جوبهم مسرى الدماء، فما يجرؤ واحد منهم أن يرفع رأسا، أو ينطق باحتجاج أو يعالن بتمرد.
وحين طال الحوار الصامت وجد زين نفسه يقول في حروف متعتعة راعشة: أنتما؟!
ويقول سامي: نعم ... نحن.
وباللسان المتصلب يقول زين: أنتما من دون الناس جميعا؟
ويقول سامي: كان لا بد أن نكون نحن من دون الناس جميعا. - ألم أكن أصنع ما صنعت من أجلكما؟
ويقول سامي: لقد كان ما صنعت وبالا على الناس أجمعين، ولكنه كان علينا أنا وأخي كارثة لا مثيل لها. - أن يقدم الناس لكما الاحترام كارثة؟
ويقول سامي: ليس الاحترام فيما يقدمه الناس من كلمات وحركات، وإنما الاحترام هو الحب في داخل القلوب، وقد جعلت الناس جميعا لا تحمل لنا إلا البغض والكراهية والاحتقار. وكان دعاؤهم في كل صلاة أن يخلصهم الله منك ومنا جميعا. فإنك مهما تحاول أن تمحق حرية الإنسان، فإنه على تمام حريته إذا ناجى ربه. وإن دعاء مظلوم يرتفع إلى السماء لا يعادله شيء من أطايب الأرض جميعا. - ألم أكن أجمع المال لكما؟!
ويقول سامي: لا يا أبت ... لقد كان أيسر المال يكفينا، وكان الحلال من مالك حسبنا ليكون سترا وعيشة راضية، ولكنك كنت تفعل ما تفعل؛ لأنك يلذ لك أن تقهر الناس، وتكسر كرامة الإنسان فيهم، وهم البشر الذين جعلهم الله سادة مخلوقاته، فجعلتهم أنت عبيد سلاحك وطغيانك وجبروتك.
وفي هوان اليائس ينظر زين إلى ابن دمه يستجدي منه الرحمة. - هذا قولك يا مأمون؟ - هو قولي يا أبت، ولا قول لي غيره. - هل أنت واثق يا بني؟ - كره الله ما تفعل يا أبي. - أهكذا علمك أخوك؟ - بل هكذا علمني ربي ورب أخي.
وأطرق زين، ثم قال وهو في إطراقه وانحنائه: وماذا أنتما فاعلان؟
ويقول سامي: ترد إلى كل صاحب حق حقه.
ويقول زين: لقد اختلط الحق بالباطل، ولم أعد أدري أي الأنصبة لي وأيها لغيري.
ويقول سامي في بساطة: فمالك جميعا خالطه الحرام فهو جميعه للناس.
وفي مرارة قاتلة يقول زين: وأنا وأمك كيف نعيش؟
فيقول مأمون: هذا واجبنا نحن.
وينظر زين إلى سامي الذي يقول: إننا نحن المسئولان عنك وعن أمنا، وليس ما اغتصبت من حقوق الناس.
وهوم الصمت مرة أخرى، فيه من الناس تنظر وارتقاب، وهو في رأس زين ضجيج وفكر يتزاحم.
وفجأة قال زين في حسم: سامي. - نعم يا أبي. - وأنت يا مأمون. - نعم يا أبي. - أما أنا فلن أبقى بعد اليوم في هذه القرية.
وساد الصمت لحظات، ثم قال: لتكن أنت العمدة يا سامي.
فقال سامي: ليس من حقك أن تعين خليفتك، فإنك لا تملك إلا أمر نفسك. - أترفض؟ - نعم أرفض. - فمن يكون العمدة؟ - هذا من حق الناس أن يقولوه. - وإن اختاروك؟ - أستعفيهم.
وتعالت أصوات. - نعم ... نعم ... نريدك أنت.
فإذا سامي يصيح فيهم: اصمتوا ... ما هذا الذي تقولون؟ لماذا تختارون ابن الظلم والقتل والرعب والجبروت أن يكون رئيسا عليكم، وأبوه هو من عانيتم منه السنين الطوال. هيهات والله لن أقبل مبايعتكم هذه، فأنتم الآن في لحظة أنا فيها أبهركم بدفعي الظلم عنكم، وما أردت بها إلا وجه الله. دعوني وقد أديت أنا وأخي رسالتنا نمضي سبيلنا، واختاروا أنتم من بينكم من ترضون عنه، فإذا ظلم واحد منكم واحدا فقط أهون ظلم فاجمعوا رأيكم وغيروه، فإنكم إن سكتم عن ظلم هين ما يلبث الظلم الغليظ أن يحيط بكم.
ويصمت القوم ويبدو الاقتناع والرضا على وجوههم، ثم يلتفت سامي إلى أبيه: أبي ... قلت إنك تريد أن تترك البلد؟ - نعم إني تاركها. - فلا شأن لك من بعد بمنصب العمدة فيها ... فهل لك مال تعيش به حيث تذهب ؟ - نعم.
ويلتفت سامي إلى الجموع: أتتركون له هذا المال؟
ويصيح الجميع: نعم.
ويقول سامي لأبيه: إذن فهو لك.
ويقول الأب: زوجتي!
وتخرج رتيبة من حجرة مجاورة. - أنا مع ولدي.
وينظر إليها زين طويلا، ثم يقول: لم أكن أنتظر إلا هذا، فما أحسب أنك تزوجتني إلا لترعي سامي الذي رضع قطرته الأولى من صدرك.
وترتسم لمحة سريعة من الدهشة على وجه رتيبة ... أيكون قد علم؟ ولكن ما البأس، الآن لا يهمني أن يعلم أو لا يعلم.
ويقوم زين عن كرسيه وهو يقول: سأركب السيارة إلى المركز، ثم تعود إليكم.
ويقول مأمون: ألا تريد شيئا يا أبي؟
وينظر إليه زين طويلا، ثم يقول: لقد وجدت في سامي أبا ... فأحبه كما لم تحببني.
ويقول سامي: بل إننا فعلنا ما فعلنا؛ لأنني ومأمون نحبك أكثر من حبنا لأي إنسان في العالم.
ويبتسم زين وهو يقول: أحب هذا الذي تصنعان؟! - ما صنعنا إلا أن جعلناك قريبا إلى الله، وكنت عنه بعيدا كل البعد.
ويطرق زين طويلا، ثم يقول: نعم ... أحسبك صادقا ... لقد كنت دائما صادقا ... وداعا إذن.
ويقول سامي: بل سنلتقي. - لن تعرف مكاني.
ويقول مأمون: سنلتقي يا أبي.
ويقول زين: لنترك الزمن يفعل ما يشاء ... كونا سلاما كما كنتما دائما.
ويقول سامي: لا نستطيع إلا أن نكون سلاما.
ويقوم زين عن كرسيه ويمشي، فتنشق الجموع عن طريق له يسير فيه وئيدا، حتى إذا بلغ الباب الخارجي وجد السيارة تنتظره فيركبها، وحين تسير السيارة تكون الأصوات كلها هائمة في صمت من ملكوت الحرية المعطرة، والقلوب كلها خاشعة للحي القيوم.
অজানা পৃষ্ঠা