তারিক ইখওয়ান সাফা
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
জনগুলি
إن إنكار القيامة العامة للموتى في نهاية الزمن يستتبع عند الغنوصيين رفض مفهوم التاريخ الدينامي الذي يسعى إلى نهاية معينة يتخلص عندها العالم من بذور الشر التي زرعها فيه الشيطان، ليغدو كاملا ونقيا كما كان عندما خرج من يد الخالق. فالعالم ليس حسنا وخيرا في أصله، بل هو شر من حيث الأساس، والتاريخ لا يسعى إلى غاية وليس له معنى، وما على الإنسان إلا الهروب من العالم ورفضه بدلا من انتظار النهاية السعيدة؛ لأن الروح الحبيسة في المادة لن تنعتق إلا عن طريق الغنوص، وما الجسد إلا ثوب نرتديه لفترة مؤقتة ثم نتخلص منه إلى الأبد. وهذا ما دعاه الغنوصيين إلى احتقار الجسد واعتبار وظائفه غير مهمة بالنسبة إلى الكائن الروحاني. قال يسوع في إنجيل توما: «إنني أعجب لهذه الثروة العظيمة [= الروح] تقيم في هذا الفقر المدقع [= الجسد].» فالجسد مصدر للألم والمعاناة، وعرضة للمرض والشيخوخة وكل أنواع الأذى. فإذا لم يكن لدينا جسد، من أين تأتينا المشكلات؟
إن الصراع ضد شهوات الجسد يقع في صميم الأخلاق الغنوصية. والغنوصيون يرون أن الأخلاق السائدة في المجتمع هي أخلاق براغماتية لمن يلتزمون بها. فالذي يعمل بقاعدة «لا تسرق» يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه إلى السرقة؛ والذي يعمل بقاعدة «لا تقتل»، يفعل ذلك لكي يحمي نفسه من القتل؛ والذي يعمل بقاعدة «لا تزن» أو «لا تشته امرأة قريبك»، يدفع عن نسائه الرجال الآخرين. إن مثل هذه النواهي الواردة في الشرائع ليست أخلاقا حقيقية، والالتزام بها لا ينشأ عن تلمس فعلي للخير الكامن في النفس الإنسانية، وإنما ينبع عن الخوف. أما الأخلاق الغنوصية فتنشأ عن الحرية التي يحققها الغنوص للإنسان، وعن اكتشافه لمصدر الخير الأسمى في داخله. فالمعرفة تحقق كمال الإنسان والكامل لا يستطيع إلا فعل الخير، لا خوفا ولا طمعا. إن الأب النوراني الأعلى لا يطلب من الإنسان إلا أن يعرفه في داخله، وعندما يعرفه يغدو حرا وكاملا وخيرا. والحر لا يرتكب الخطيئة؛ لأن من يرتكب الخطيئة هو عبد للخطيئة. إن المعرفة تسمو بقلوب المؤمنين وتجعلهم فوق العالم، وهم ليسوا عبيدا إلا للحب.
فيما عدا الغنوصية المانوية التي تحولت على يد معلمها ونبيها ماني إلى ديانة مؤسسية في أواسط القرن الثالث الميلادي، فإن الفكر الغنوصي لم يطور أيديولوجيا دينية موحدة ومنمطة، وبقيت الفرق الغنوصية أشبه بالطرق الصوفية الإسلامية التي يتبع كل منها شيخا ذا نهج خاص، على اشتراك هذه الفرق بالأفكار العامة الرئيسة. ولقد قاد تعدد المدارس الغنوصية وتوكيد معلميها على حرية الإبداع، إلى خلق تيارات فكرية غنوصية لم تنتظم أبدا في كنيسة واحدة ذات هيكلية مراتبية، تفرض عقيدة يعد الإخلال بواحد من بنودها هرطقة وخروجها عن الإيمان القويم. هذه التيارات لم تتصارع ولم يستبعد بعضها بعضا كما فعلت الفرق المسيحية أو الإسلامية من بعدها، ولم يعتبر أي منها نفسه بمثابة القيم الوحيد على الإيمان الغنوصي، بل تعاونت وأغنت بعضها بعضا، ووجدت في التنوع إثراء لفكرها المشترك. من هنا فإن الغنوصية لم تعتمد نصوصا مقدسة بعينها، ونظرت إلى نصوصها باعتبارها مقاربات للحقيقة الكلية الخافية، التي لا يمكن إدراكها إلا عن طريق تنويعات رمزية تعين المريد في تجربته الروحية الخاصة.
هذه هي الخطوط العامة للمذهب الغنوصي، عرضتها باختصار لا يفي هذا الفكر حقه ولا يتعرض لكل جوانبه، وذلك لغرض التقديم لفكر إخوان الصفاء الذي رأيت فيه تنويعا على الفكر الغنوصي ومدخلا إلى الغنوصية الإسلامية. وكما سنرى عبر فصول هذا الكتاب، فإن مذهب الإخوان يقوم على عدد من الأفكار الغنوصية الأساسية، وأهمها: (1)
إن الروح الإنسانية، أو النفس كما يفضلون تسميتها، هي شرارة من النور الإلهي الأسمى تم احتباسها في الجسد المادي. وبمصطلح الإخوان المستمد من نظريتهم في الخلق والتكوين، فإن النفس الجزئية التي تسكن الجسد الإنساني هي قوة منبعثة وفائضة عن النفس الكلية التي هي فيض فائض من العقل الكلي، الذي فاض بدوره عن الذات الإلهية. وقد أهبطت هذه النفس الجزئية إلى مركز العالم المادي، وهو الأرض، واتحدت بالأجسام الجزئية. (2)
ويتبع ذلك أن الإنسان عبارة عن جملة مجموعة من جوهرين متباينين: جسد جسماني، ونفس روحانية. فالصفات المختصة بالجسد بمجرده ، هي أنه جوهر مادي طبيعي، وهو منفسد ومتغير ومستحيل بعد الموت إلى العناصر المادية التي تكون منها. أما الصفات المختصة بالنفس بمجردها، فهي أنها جوهرة روحانية، سماوية، نورانية، حية بذاتها، فعالة في الجسد ومستعملة له إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة له وراجعة إلى عنصرها ومبدئها. (3)
إن فكاك النفس من أسر العالم المادي وسجن الجسد لن يتأتى لها إلا بمعرفتها لأصلها، وصحوها من حالة الجهل والنسيان التي آلت إليها عقب ارتباطها بالجسد، والتي يدعوها الإخوان بنوم الغفلة ورقدة الجهالة. (4)
إن النفس العارفة ترتقي عبر المراتب الروحية صعودا إلى أعلى رتبة إنسانية تهيئها للانعتاق النهائي بعد الموت. ولكن الانعتاق الحقيقي، يتحقق لها قبل ذلك في لحظة الصحو والانتباه التي تكشف البصيرة. فالبعث، على ما يقول الإخوان، هو انتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، والقيامة هي قيامة النفس من قبرها وهو الجسد، أما الجسد فيسقط ولا يقوم أبدا. (5)
إن النفوس العارفة التي فارقت أجسادها بالموت، لن ترد إليها إثر قيامة عامة للأموات، وإنما تبقى سعيدة ملتذة حرة في عالم الأفلاك، أما النفوس غير العارفة فتبقى بعد مفارقة أجسادها حبيسة في العالم المادي الأسفل. فهاتان هما الجنة والنار اللتان تدومان ما دامت السماء والأرض، فإذا حان وقت دمار العالم انسحبت منه النفس الكلية فبطلت حركته وآل إلى الفناء، وحشرت النفوس الجزئية أي اجتمعت بالنفس الكلية واتحدت معها، والنفس الكلية تلتحق بالعقل الكلي الذي يلتحق بباريه عز وجل. (6)
إن المهمة الملقاة على عاتق الإنسان الذي انفتحت بصيرته على الحقائق هي الكدح في سبيل تنقية نفسه وتطهيرها من أجل تحضيرها للانعتاق، وفي الوقت نفسه مد يد العون إلى النفوس الجاهلة والأخذ بيدها على طريق المعرفة. وهو إذ يبدأ بفهم الشريعة وتطبيقها والالتزام بما ورد فيها من أوامر ونواه، عليه أن يدرك أن الشريعة وحدها لا تحقق الانعتاق، وأنه لا بد من اقترانها بالكدح المعرفي الذي يحول النفس الغافلة إلى نفس منتبهة.
অজানা পৃষ্ঠা