وثار حنقه من جديد، ولكنه أدرك أن الطقوس قد انتهت، وتضاعف شعوره بالوحدة. وألقى على المقبرة نظرة شاملة فارتاح لأناقتها، وتراءى له بين قضبان النافذة اللبلاب والصبار والريحان التي تزركش جدار الفناء والأركان. كانت - رحمها الله - تحب الرفاهية فأعدتها للدارين، ولكن لم يبق لها إلا المقبرة. وتحرك الناس في بطء نحو الحوش، فمضى إلى الباب الخارجي ليودع المشيعين. وصافحته النساء أولا، ورغم ثياب الحداد والبكاء واللطم لم تختف من أعينهن نظرات الفجور، ولا زايلت وجوههن القحة وفلتات التهتك. وتتابع الرجال، شد حيلك وسعيكم مشكور، من تاجر مخدرات إلى بلطجي، ومن برمجي إلى قواد. وأتبعهم نظرة باردة وهو لا يشك في أنهم يبادلونه نفس العاطفة. ومع ذلك لم ينس أنه مدين لهم، وهو ما يؤكد سخطه دواما. وقال إنه قد انتهى منهم إلى الأبد ولكنه بلا نصير. وفي طريقه إلى مسكنه بشارع النبي دانيال لفحه هواء منعش معبق بأنفاس الخريف، وبدت السماء غامضة في مولد المغيب. مسكن النبي دانيال الذي شهد فترة بهيجة ناعمة من حياته، ولا أثر للراحلة في مسكنه إلا صوان كبير ونارجيلة مهملة تحت فراشها المهجور. وجلس في شرفة تطل على ملتقى النبي دانيال بسعد زغلول، يدخن سيجارة، فجذب بصره استعداد قائم في شقة على الجانب الآخر للطريق تسكنها أسرة إفرنجية، فثمة بوفيه رصت عليه القوارير وأوعية الثلج، وفي نهاية البهو تعانق رجل وامرأة بحرارة لا تناسب الوقت المبكر. وقال إنه ابتداء من اليوم سيعرف الحياة على حقيقتها. إنه وحيد بلا مال ولا عمل ولا أهل، ولم يبق له إلا أمل غريب كالحلم. إنه مطالب منذ اليوم بتأمين حياته، وهي مسئولية لم يتحملها من قبل؛ إذ نهضت بها أمه وحدها، ففرغ هو طوال الوقت لإمتاع شبابه اليافع. وأمس فقط لم يكن يفكر في الموت بحال. في مثل هذه الساعة أو قبل ذلك بقليل جاء الحنطور بأمه فغادرته معتمدة على ذراعه، وسارت في خطوات متثاقلة متخاذلة من الإعياء والضعف، وقد وهنت، وهزلت، وكبرت ثلاثين عاما فوق عمرها الحقيقي الذي لم يجاوز الخمسين. هكذا تبدت بسيمة عمران في آخر صورة لها، وهي راجعة إلى بيت ابنها، أو البيت الذي أعدته لابنها، بعد أن قضت في السجن خمس سنوات. وتأوهت قائلة: أمك انتهت يا صابر.
فحملها بين ذراعيه دون مشقة وهو يقول: كلام فارغ، ما زلت في عز الشباب.
واستلقت على فراشها قبل أن تنزع قطعة من ملابسها، ثم أمالت وجهها نحو مرآة الصوان وقالت بحسرة وهي تنهج: أمك انتهت يا صابر، من يصدق أن هذا الوجه هو وجه بسيمة عمران!
أجل. في استدارة البدر كان. ووجنة موردة كالتفاح. وأما الجسد الجسيم الهائل فلم يكن ليهتز هزة واحدة عند القهقهة، وقهقهتها كانت تهتز لها المجالس. - لعنة الله على المرض.
فقالت وهي تجفف وجهها بكمها رغم لطافة الجو: ليس المرض ولكنه السجن، والمرض جاء من السجن، أمك لم تخلق لذلك، وقالوا الكبد والضغط والقلب، الله يمرض عيشتهم، ترى ألا يمكن أن أرجع إلى ما كنت؟ - وأحسن، عندك الراحة والطب. - والمال؟
وامتعض عند ذلك فلم ينبس، فسألته: ماذا تبقى لك منه؟
لم يخل من حذر وهو يجيب: شيء لا يذكر. - كنت حكيمة عندما كتبت بيت رأس التين باسمك، وإلا صادروه فيما صادروا من مالي. - ولكني بعته عندما نفدت نقودي كما قلت لك وقتها.
فتأوهت وهي تضع راحتها على يافوخها: آه يا رأسي، ليتك أبقيت عليه، كان في يدك مال كثير، ولكنني أنا التي عودتك على الحياة الحلوة، أردت أن تعيش مثل الأكابر، وأردت أن أترك لك ثروة لا يغرقها البحر، ثم ... - ثم ضاع كل شيء في خبطة واحدة. - نعم، منهم لله، انتقام وضيع من رجل وضيع. رجل طالما تنعم بنقودي، ثم حقد علي بسبب بنت لا تساوي ثلاثة ملاليم، فتذكر فجأة الواجب والقانون والأعراض وأوقع بي ابن الزانية؛ لذلك بصقت على وجهه في المحكمة.
وطلبت سيجارة بإشارة من يدها؛ فأشعل لها سيجارة وهو يقول: الأفضل ألا تدخني الآن ، هل كنت تدخنين هناك؟ - سجائر وحشيش وأفيون، ولكني كنت قلقة عليك دائما.
ودخنت رغم تهافتها، وجففت وجهها وعنقها بيدها الأخرى: وماذا عن مستقبلك يا بني؟ - كيف لي أن أدري؟ ليس أمامي إلا أن أعمل برمجيا، أو بلطجيا، أو قوادا! - أنت! - حق أنك علمتني حياة أجمل، ولكني أخشى ألا يكون ذلك في صالحي. - أنت لم تخلق للسجون! - وماذا في الدنيا غير هذه الأعمال؟
অজানা পৃষ্ঠা