وكان لي في ذلك العهد شهرة في حل المسائل الحسابية العقلية بسرعة مدهشة، وكانت مدرسة الحساب في قسم المعلمات معلمة إنجليزية، وكان فصلا السنة الثالثة الابتدائية والثانية معلمات متقابلين في فناء صغير، وفي ذات يوم خرجت من فصلي عندما انتهت الدراسة، فنادتني المرحومة ملك حفني من فصلها، فلما ذهبت إليها عرضت علي مسألة فحللتها على السبورة، وكتبت الجواب فدهشت الطالبات، وأسرعت إحداهن وراء معلمة الحساب التي كانت قد خرجت من الفصل، وردتها إليه ثانيا، وأظهرت المعلمة دهشتها، وكل ذلك وأنا لا أكاد أعرف سبب هذه الدهشة، وأخيرا قالت لي المرحومة ملك: إن معلمة الحساب صرفت الحصة بأكملها في حل المسألة، ولم تستطع أن تأتي بالجواب المدون في كتاب الحساب، وأخيرا أكدت لهن أن الجواب المكتوب في كتاب الحساب خطأ. فلما أتيت أنا الجواب المذكور في كتاب الحساب دهشت الطالبات، ونادين المعلمة ليظهرن لها الخطأ الذي ذهبت إليه، وهكذا حللن المسألة بالطريقة التي كتبتها لهن على السبورة، ومن ذلك اليوم زادت مشاغلي، إذ كنت أحل لقسم المعلمات كل مسألة تستعصي عليهن.
نهضة تعليم البنات في مصر
في يونيه سنة 1901 نجح في الشهادة الابتدائية لأول مرة ثلاث تلميذات هن السيدات: المرحومة ملك حفني ناصف، وفيكتوريا عوض - الآن مدام هنري بك بدير مدير مخازن وزارة الصحة - وألجرابلنتر، وفي أكتوبر سنة 1901 فتح قسم المعلمات في السنية، ودخل فيه هؤلاء الثلاث في السنة الأولى، وفي يونيه سنة 1903 نجح في امتحان دبلوم معلمات السنية لأول مرة أيضا طالبتان؛ هما المرحومة السيدة ملك حفني ناصف، والسيدة الفاضلة فيكتوريا عوض، أما الثالثة فرسبت في الامتحان، وفي أكتوبر سنة 1903 عين كل من المرحومة السيدة ملك حفني ناصف والسيدة فيكتوريا عوض معلمة بالمدرسة السنية.
المرحومة الآنسة نور الهدى عبد الله.
وفي نفس هذا التاريخ دخلت أنا السنة الأولى من قسم معلمات السنية أي في أكتوبر سنة 1903، وكان قسم المعلمات يشمل ثلاث سنوات الأولى والثانية والثالثة، ومجموع تلميذات هذه السنوات الثلاث كان بالتحديد 14 طالبة، بالسنة الثالثة أربع طالبات هن السيدات: ألجرابلنتر التي رسبت في أول امتحان لدبلوم معلمات السنية، وآسيا عبد الفتاح - الآن حرم محمد بك حمدي مرتضى وكيل مديرية المنوفية - وتوحيدة صبحي - الآن حرم حضرة صاحب العزة محمد بك شفيع - وعائشة الشيمي. وبالسنة الثانية خمس طالبات هن المرحومتان السيدة فاطمة عمر شقيقة عبد العزيز باشا فهمي، وحرم عبد المجيد باشا عمر، والمرحومة السيدة نور الهدى عبد الله، والسيدات زينب بهجت، وزينب فؤاد، وهانم صالح. أما السنة الأولى فكان بها خمس طالبات أيضا؛ هن السيدات: عائشة صبحي - الآن حرم إسماعيل باشا رمزي - وبهية حسونة، ونور حسن، وأديل دياب، ونبوية موسى، على أنه لم ينجح في دبلوم معلمات السنية من هؤلاء الطالبات الأربع عشرة إلا ثمان فقط؛ اثنتان نجحتا في سنة 1904، وهما السيدتان آسيا عبد الفتاح، وتوحيدة صبحي، على أن الأخيرة منهما لم تعمل في التعليم، واثنتان في سنة 1905 هما السيدتان نور الهدى عبد الله، وزينب بهجت، والأخيرة منهما لم تعمل في التعليم أيضا، وفي سنة 1906 نجح جميع طالبات السنة الأولى اللائي ذكرتهن الآن ما عدا السيدة عائشة صبحي مع أنها كانت من المتقدمات؛ إذ كانت الثانية دائما، ولكنها تركت المدرسة في نهاية السنة الثانية، وقد كانت أمهر طالبات السنية في اللغة الإنجليزية، حتى إنها كانت تكتب في الإنشاء الإنجليزي ما يزيد عن أربع صفحات فلا تخطئ فيها مرة واحدة.
ومن العجيب أن هذا الفصل الذي كنت أنا إحدى طالباته نجح كله في دبلوم معلمات السنية، واشتغل كله أيضا بالتعليم ما عدا السيدة عائشة صبحي كما قدمت، وفي الصفحة التالية صورة تاريخية لجميع طالبات قسم المعلمات بالمدرسة السنية، ومعهن ثلاث معلمات إنجليزيات إحداهن مس كارتر، وهي الآن كبيرة مفتشات اللغة الإنجليزية بوزارة المعارف، وقد خدمت تعليم البنات في مصر 38 سنة، خدمته بإخلاص ونشاط قلما يوجدان في غيرها، فتقدم طريقة التعليم باللغة الإنجليزية يعود إلى جهودها الجبارة وإخلاصها النادر، ومس كارتر تكاد تتوقد ذكاء وعبقرية، وهي كتلة نشاط إلى الآن لم تكل قواها، ولم تتضعضع عزيمتها، بل هي الآن بنفسها مس كارتر الشابة التي كانت تدهش طالباتها باجتهادها ونشاطها النادرين.
هذا هو مجمل بسيط لنهضة تعليم البنات في مصر، ولست أتغالى إذا قلت إن قسم المعلمات في المدرسة السنية في ذلك الحين كان أقوى بكثير في اللغة الإنجليزية على الخصوص من الحاصلين على شهادة كلية الآداب، أو المعلمين العليا الآن، وكان ذلك يرجع لنشاط مس كارتر ودقتها في العمل.
لقد خرجت المرحومة فاطمة عمر من المدرسة السنية في سنة 1904 دون أن تتم دراستها لأسباب ربما شرحتها فيما بعد، وقد تركت التعليم وتزوجت ورزقت أطفالا انشغلت بحبهم انشغالا عجيبا مدهشا، وكان المظنون بعد هذا كله أن تنسى كل شيء عن التعليم، ولكنها كانت مع هذا تتكلم باللغة الإنجليزية كإحدى بناتها، وتكتب باللغة العربية بأسلوب أدق وأرقى من أسلوب النابهين من طلبة التخصص في اللغة العربية بالأزهر الشريف أو طلبة دار العلوم العليا، وكذلك السيدة عائشة صبحي، أو حضرة صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي؛ فهي تجيد اللغتين الإنجليزية والعربية إجادة يدهش لها من سمعها تتكلم اللغة الإنجليزية، أو قرأ ما تكتبه باللغة العربية هذا مع عنايتها التامة بأبنائها ومنزلها.
صورة طالبات قسم «معلمات السنية في أكتوبر سنة 1903». الجالسات من اليمين إلى اليسار: مس كارتر، والسيدات: توحيدة صبحي، نبوية موسى، ألجرابلنتر، بهية حسونة، زينب بهجت. الصف الثاني من اليمين إلى اليسار: مس هاني برن، السيدات: المرحومة نور الهدى عبد الله، عائشة الشيمي، زينب فؤاد، فاطمة عمر، نور حسن، مس ليتش. الصف الثالث من اليمين إلى اليسار: السيدات: عائشة صبحي، آسيا عبد الفتاح، هانم صالح، أديل دياب.
ومن لطائف ما أتذكره أن المعلمات الإنجليزيات كن يخالطننا مخالطة الند للند، ويلعبن معنا، وكنا مع احترامنا وحبنا لهن نترجم أسماءهن على سبيل الفكاهة والتسلية، وكان لأغلبهن أسماء لها معناها؛ فكنا نقول عن مس كارتر مثلا الست عربجي، وعن مس هاني برن مدموزيل عسل محروق، ومس ليتش الآنسة دودة، ومس بورد السيدة لوح، وكان سرورنا بمخالطة المعلمات الإنجليزيات عظيما خصوصا عندما كنا نمزح معهن فلا يغضبهن ذلك المزاح، فكنا ننادي مس بورد عن بعد يا سيدة لوح، وكانت تعرف أن هذا اسمها فتضحك ونضحك، ومن هذه المخالطة اكتسبنا قوة في اللغة الإنجليزية يندر أن توجد في طلبة العصر الحالي، وكانت الوزارة هي التي تقوم بامتحانات النقل في المدرسة السنية؛ ولهذا كانت كل معلمة تجتهد في تقوية تلميذاتها في المادة التي تدرسها خشية أن يظهر ضعفها في التدريس أمام الوزارة في آخر العام.
অজানা পৃষ্ঠা