فوافقوه على رأيه، وأعدوا الزاد والمهمات وأقلعوا لا ينحون مكانا مخصوصا، بل يسيرون إلى حيث يجدون موضعا يناسبهم للاستيطان، فيلقون فيه عصا الرحيل، ويتخذونه محلا للمقيل، فدخل نهر السين حائرا خائفا من قوة العدو البحرية هناك، على أنه حالا رأى إمكان تغلبه على هذه الصعوبة؛ إذ قد أسعده الحظ بعدم وجود قوة كافية للعدو لتصده، فاجتاز حتى جاء روان، فبلغ ذلك شارل ملك فرنسا، الملقب بالبسيط، فأخذ يجمع الجيوش ويحشد القوات تأهبا لملاقاته، على أن رولو تمكن من الاستيلاء على روان، وتوطيد قدمه فيها قبلما استطاع شارل أن يخرجه بالقوة، ومع أنها كانت حصينة، فرولو زادها منعة وحصانة، فإنه حالا شرع في ترميم الحصون وتكبيرها، وبنى بيوتا للزاد، وأقام المعاقل والأبراج من كل جهة، ومجمل القول أنه جعلها من أمكن المراكز الحربية التي يتعذر على العدو أخذها.
ثم انتشبت بينهما حرب طويلة كان فيها النصر لرولو، وذلك زاده افتخارا وتعظيما، فإنه ضايق الملك شارل حتى أركن للفرار، فتأثره من مدينة إلى مدينة، ومن ساحة إلى أخرى حتى استولى على قسم كبير من شمالي فرنسا، ونظم له حكومة مستقلة تحت إدارته رغما عن اجتهاد الملك شارل في صده وطرده، ولم يزل ينازله ويظفر به حتى حصره ضمن باريس، وعندها اضطر شارل أن يكف عن قتاله، ويسعى في الصلح والسلام معه.
فطلب رولو أن تعطى البلاد حوالي نهر السين ملكا له ولأتباعه، فلم يرد شارل أن يفلت من يده هذا القسم الكبير، بل ارتضى أن يكون إمارة مستمرة تحت سلطانه ورولو يتولاها كدوك معترفا بسيادة ملك فرنسا عليها.
فقبل رولو بذلك؛ لأنه كان قد طال عليه زمان الحرب، ومل الطعن والضرب زهاء الثلاثين سنة، وكان من شروط الصلح بينهما: أن «جسيل» ابنة شارل تعطى زوجة لرولو، وأن رولو يتنصر، ويقدم الطاعة لشارل علانية أمام الرؤساء والأعيان - كما كانت العادة في تلك الأيام - وهكذا ترتب للصلح ثلاثة شروط؛ أولها: تقديم رولو الطاعة لشارل، وثانيها: تنصره، وثالثها: اقترانه بجسيل ابنة شارل، وكلها واحد من حيث غايتها؛ أعني خضوع ذلك الأمير المقيد السلطة (أي رولو) لسيادة ذلك الملك المطلق السلطان (أي شارل).
ولما جاء وقت إتمام الشرط الأول، وغص المشهد بالأمراء والضباط والقواد؛ أنف رولو أن يخضع لحكم ذلك الشرط على العادة المألوفة في ذلك العصر، أي أن يركع أمام الملك ويضم يديه إحداهما إلى الأخرى بين يدي الملك علامة الخضوع، ويقبل رجل الملك ضمن خف ثمين، وقد شق عليه على الخصوص القيام بالقسم الأخير من هذا الشرط؛ أعني تقبيل الرجل.
على أن هذه العادة لم تكن غريبة في تلك الأيام، فإن البابا كان قد أوجبها على أحد الملوك قبل ذلك العهد بمائة سنة، ولكن تقبيلها كان يسهل على من يتنازل لها من حيث النظر إلى الصليب الموضوع عليها، والفكر بأنه قبل علامة آلام المسيح وموته لا رجلا بشرية.
أما رولو فتمنع عن تقبيل رجل الملك شارل، وعد هذا الفعل حطة في شأنه، وتنزيلا من علو قدره، ولكن ارتضى أن يقوم في ذلك أحد رجاله عوضا عنه، فتقدم ذلك الرجل إلى رجل الملك ورفعها بعنف وخشونة، بحيث كاد يقلب الملك عن مجلسه إلى الوراء، وهذا أحدث بين الحاضرين ضحكا شديدا.
ثم بعد أيام قليلة احتفل عماد رولو في كنيسة روان بغاية التجلة والإكرام، وعقد اقترانه بجسيل، واستحالت قلاقل الحروب التي كابدها نيفا وثلاثين سنة إلى سكون وراح في ظلال المسرات والأفراح، وتولى منصب الإمارة (الدوكية) باقي حياته بالأمان والسلام والحكمة والتقدم حتى صيرها من أغنى إمارات أوربا، وخلف فيها شيئا كثيرا من معدات الارتقاء للذين خلفوه بعد موته.
ويظهر أن الذي حدا رولا ورجاله على اختيار هذه المقاطعة دون غيرها إنما هو إمكان الدخول إليها من الخليج الإنكليزي على نهر السين، وكثرة غناها، وشدة خصبها؛ لأنها معدودة في كل زمان جنة فرنسا، وحينما يأتيها السياح في الوقت الحاضر ينظرون إلى حسن مواقعها، وبهجة مناظرها بعين العجب والاندهاش.
وظلت سلسلة أمراء نورماندي من رولو متصلة الحلقات إلى وليم مدة مائة وخمسين سنة بدون انقطاع، والبلاد في بحر هذا الوقت كانت ترتقي في معراج التقدم والنجاح، وتزداد غنى وثروة فضلا عن الازدياد في عدد السكان، والسير في سبيل الحضارة والعمران بقدر ما كانت تسمح به ظروف ذلك الزمان. ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن سكانها الأصليين هاجروا منها، بل ليعلم أنهم لبثوا فيها يتعاطون الفلاحة والرعاية عند أسيادهم النورديين، لكنه على تمادي الأيام اختلط النوعان أحدهما بالآخر، بحيث صار تمييزهما في الوقت الحاضر يتعسر أو يتعذر.
অজানা পৃষ্ঠা