وبعد الفراغ منها أمر وليم فرفع الكتاب والغطاء الذهبي، وإذا على المنصة سفط (صندوق صغير) يحتوي على ذخائر مقدسة - كان وليم قد جمعها سرا من الأديرة والصوامع في بلاده إلى هذا المخبأ خفية عن هارلود؛ لكي يضاف تأثيرها الرهيب إلى فعل فصول الإنجيل الشريف التي في كتاب الخدمة (ميسال)، وهذه الذخائر كانت بقايا عظام محفوظة على زعم الرهبان من رسل المسيح وقطعا خشبية صغيرة باقية من صليب يسوع أو من إكليله الشوكي، وقد ذخرت هذه الأشياء بمزيد التجلة والتكريم في خزائن الأديرة والكنائس في هاتيك الأيام، وكان لها عندهم من الاحترام والخوف ما يكاد يشب عنه طوق إدراكنا - فأجفل هارلود حينما رأى أنه فعل ما قد فعل بجهل.
وقد هاله مجرد الافتكار بأن مسئولية ما أقسم به هي أعظم بما لا يقاس مما ظنه قبل الإقسام فندم، ولكن لات ساعة مندم، وبعد ذلك ارفضت الحفلة وطفق هارلود يتأهب لمبارحة نورماندي، ووليم يظن أنه قد امتلك قلبه، واستولى على قوة إرغامه للقيام بجميع ما وعد به، ولما أزف وقت رحيله رافقه وليم إلى شاطئ البحر، وهناك شيعه بما يفوق الوصف من الإكرام، وبالغ في تزويده بالهدايا، وهكذا أقلع هارلود من نورماندي وجاء إنكلترا بسلام، ومن ساعته قام يجهز القوات، ويعد الرجال تهيئا للجلوس على العرش بنفسه، فجمع الفرق وحشد الأسلحة والمعدات الحربية، وفعل كل ما من شأنه أن يستميل إليه الأمراء والأشراف، وحاول أيضا استمالة نفس الملك إدوارد نحوه، واجتهد إقناعه بخذل وليم، فالملك إدوارد إذ كان قد أصبح الآن شيخا عاجزا كليل النظر والقوى، وأمسى الباقي في أفكاره مشغولا بالفروض الدينية، أو مشوشا بذهول هرم حال دون افتكاره بما ستصير إليه حالة الملك بعده لم يعد يبالي سواء استولى هارلود أو وليم على العرش بأكثر من أن المالك منهما يسمح له أن يموت بسلام.
وكان قبل هذا الوقت قد عزم على زيارة أورشليم، لكنه عاد أخيرا وطلب من البابا أن يسمح له لقاء هذه الزيارة ببناء كنيسة باسم القديس بولس غربي لندن على بعد بضعة أميال منها، وقد دعيت فيما بعد ذلك باسم وستمنستر تمييزا لها عن كنيسة منستر التي بنيت قبلها في وسط لندن باسم القديس بطرس، وتلك قد بنيت في ذات البقعة التي فيها الآن دير وستمنستر، وتم بناؤها في نفس الوقت الذي جرت فيه حوادث هذه المدة من تاريخنا هذا.
وأخذ الملك إدوارد يستعد لتدشينها، فدعا الجم الغفير من الأساقفة وأصحاب الرتب العالية في الكهنوت من جميع أنحاء البلاد، ولكنه قبل الشروع في التدشين أصيب بغتة بمرض، فحمل إلى غرفة في قلعته حيث انطرح متقلبا على فراش الضنى والوجع وهو يراجع بين اليقظة والغيبة آيات كتابية تهديدية كانت تخامر أفكاره، وقد كان في غاية التلهف على إجراء التدشين، فصار الإسراع فيه ليتمجد بإتمامه قبل موته، وفي اليوم التالي كان في غاية التهور والانحطاط. أما هارلود وأصحابه فكانوا بمزيد الاشتياق ليسمعوا هذا الملك المفارق يعلن ميله إليهم قبل وفاته، حتى إن مجيئهم وذهابهم ولغاطهم وضوضاء العساكر وصخب الجنود أزعجته وكدرت صفاء آخر ساعة من حياته، فأرسل إليهم أن ينتخبوا من أرادوا ملكا أو دوقا أو أميرا فلا فرق عنده، وهكذا قضى نحبه.
وإذ كان هارلود قد أحكم التدبير، وأتقن التأهب والاستعداد مال إليه عظماء المملكة وبايعوه في الحال، وكان إدغر حينئذ في قصر الملك إدوارد، ولكنه كان أصغر من أن يقوم ويطلب حقوقه الإرثية، وبالواقع كان غريبا وإن كان معدودا من سلالة الملك الإنكليزي؛ لأنه تربى خارج إنكلترا ولم يكن يستطيع حتى التكلم بالإنكليزي؛ ولذلك قبل غير متشك بهذه المظاهر حتى إنه شاهد بنفسه تتويج هارلود الذي احتفل فيه بعد موت الملك إدوارد بقليل في كنيسة القديس بولس في لندن، أما هارلود فأجازه في الحال على هذا الرضى وعدم المقاومة بشرف لقب أمير، بعد التتويج وقبل الخروج من الكنيسة، وقد منح أيضا ألقابا ورتبا لكثيرين من أهل الطمع في الوجاهة والشهرة الذين أراد استمالتهم إليه، وهكذا تراءى له أنه وطد أركان ملكه، وثبت دعائم سلطته، وكان قبل ذلك قد اقترن بأميرة إنكليزية أغنى الوريثات في ذلك العهد وشقيقة أعظم أميرين في المملكة، فهذا الزواج عظم نفوذه في إنكلترا، ومهد له الوصول إلى مبتغاه، على أن أنباء تملكه التي كانت ولا ريب قد بلغت مسامع وليم في نورماندي؛ جعلت هذا يتوقع من نكث هارلود بإحدى العهدات الثلاث نكثا بالعهدتين الباقيتين.
الفصل الثامن
التأهبات
وكان الرسول الذي جاء وليم بخبر ارتقاء هارلود إلى العرش رجلا يدعى توستغ، وهو أخو هارلود نفسه، فإنه مع كونه أخا له كان ألد أعدائه، وقلما يكون الإخوة أصدقاء في البيوت التي فيها تاج سلطة يتنازعونه، وعرش سيادة يتسابقون إليه، ومعلوم أنه لم يكن في تلك الأيام وسائل عمومية تؤدي الأنباء وتنقل الأخبار، وعليه فتوستغ علم بموت إدوارد وتتويج هارلود بواسطة رقباء أقامهم في أماكن معينة على التخوم بداعي تغيبه وقتئذ عن لندن، فلما بلغه الخبر قام يجد السير إلى روان ليقص على وليم ما جرى، ويغريه على القيام ضد أخيه ، وعندما وصل روان كان وليم في بقعة بظاهر المدينة يجرب قوسا مصنوعة له جديدا، وليس بخاف أن وليم كان رجلا كبير الجسم قوي العضلات، حتى إنه كان مشهورا بسهولة استطاعته على حمل قوس لا يقدر أحد غيره أن يحنيها، وقد كان قسم من هذه الشهرة عائدا إلى ضروب الإطراء والتبجيل التي كان يرى أهل البلاط الملوكي استعمالها نحو الملوك من باب التحرز والدهاء.
على أنه بغض النظر عن ذلك كان وليم في غاية الاستحقاق لأن يمدح على حذاقته العقلية، وقوته الجسدية، ومهارته في استعمال القسي، وهذه التي كان يجربها عندئذ كانت مصنوعة بمنتهى المرونة والقوة، وقد خرج بقواده إلى تلك البقعة لكي يمتحن قوتها ويختبر فعلها، فتآثره توستغ إلى هناك، وقص عليه الأخبار، فتأثر وليم من استماعها تأثرا بليغا حتى سقط سهم قوسه إلى الأرض، فأعطى في الحال القوس إلى أحد الأتباع وقد عبث به الذهول، فلبث برهة لا ينبس بحوجاء ولا لوجاء ويده تعقد شريطة على مقدم صدره وتحلها مدة تلك الغيبوبة، حتى استفاق وأخذ يسير الهوينا راجعا إلى المدينة، فتعقبه رجاله وكأن على رءوسهم الطير منذهلين وقائلين في نفوسهم: ماذا عسى أن تكون تلك الأخبار التي بعثته على هذا الذهول، وحملته على تأثير شديد كهذا؟
أما وليم فسار حتى دخل قلعته، وطفق يخطر في عرصتها ذهابا وإيابا ردحا من الزمان مدفوعا بعنف هياج عظيم للتأمل والافتكار، ورجاله واقفون صامتين لا يجسرون أن يكلموه حتى شاعت بين ظهرانيهم أنباء ذهوله، وأخذوا يضربون في استطلاعها أخماسا لأسداس حتى جاء القلعة أحد كبراء القواد المقدمين عند وليم، وكان يدعى فتزسبورن، وفي دخوله اعترضه على الأبواب وفي المداخل الذين كانوا جالسين هناك واستكشفوه حقيقة الأمر، علما منهم بأنه خبير بما توقع نظرا لما له عند وليم من المكانة في الثقة والاعتبار، فأجابهم: «لا أعلم شيئا بعد لكني سأعلم عن قريب» ولما دنا من وليم خاطبه: «لماذا تخفي عنا الأخبار؟ فقد شاع في المدينة أن ملك إنكلترا توفي وهارلود حنث بأقسامه لك واغتصب الملك لنفسه، أفليس ذلك صحيحا؟»
অজানা পৃষ্ঠা