تصدير
مقدمة
تمهيد
1 - الجامع الطولوني
2 - أعمال لجنة حفظ الآثار العربية في الجامع1
3 - ترجمة أحمد بن طولون
تصدير
مقدمة
تمهيد
1 - الجامع الطولوني
2 - أعمال لجنة حفظ الآثار العربية في الجامع1
3 - ترجمة أحمد بن طولون
تاريخ ووصف الجامع الطولوني
تاريخ ووصف الجامع الطولوني
تأليف
محمود عكوش
تصدير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد؛ فإني خلال مدة الاثنتين والعشرين سنة التي قضيتها في خدمة لجنة حفظ الآثار العربية تملكتني عاطفة الشغف بهذه الآثار والتعلق بها، ولا جدال في أن مصدر هذه العاطفة هو إعجابي بأعمال اللجنة واطلاعي على ما تحت إشرافها من الكنوز الثمينة؛ لذلك، كنت عند وضعي لهذا الكتاب في «تاريخ ووصف الجامع الطولوني» مدفوعا بهذه العاطفة لبذل كل مجهود لدي في انتقاء مواضيعه وترتيبها مع الإيجاز، على أمل أن أخرجه في الحلة اللائقة به باعتبار أنه العمل الأول من نوعه في المصنفات العربية.
ولحسن الحظ قد وقع الاختيار على مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة لإصداره، فوجدت في إدارتها العضد المشكور، الذي قام به حضرة الفاضل محمد أفندي نديم ملاحظ المطبعة، من همة وعناية في طبع الكتاب على هذا الوجه الحسن، أحسن الله إلى حضرات موظفيها وعمالها جميعا.
وقد تحريت في وضعه أن أرجع على قدر الطاقة - مع علمي بعجزي وقصوري - إلى كثير من الألفاظ التي كان مصطلحا عليها في العمارة العربية، فذكرت الجوائز، والأرجل، والأقواس، والبلاطات، والطاقات، وغير ذلك، وأدخلتها في سياق الكلام على أسلوب يسهل معه على القارئ إدراك المقصود منها بلا حاجة إلى الشرح المخل أو التطويل الممل.
ولم أتجاوز عن ذكر المراجع التي استندت إليها، أو اقتبست منها، فلم أقتصر على من ذكرتهم في المقدمة من كبار المؤلفين الذين عولت على أقوالهم، كما تقضي به أمانة النقل، وفي ذكر المراجع عون لمن يريد زيادة في البحث والدرس.
محمود عكوش
مقدمة
شكل 1: نموذج من كآبة الجامع القديمة «البسملة».
أقبل العلماء الأوروبيون على البحث في الآثار العربية بوادي النيل عموما، والقاهرة على وجه خاص، يدرسون تاريخها ومبانيها، حتى أصبحت جاذبا يستهوي لرؤيتها أفئدة القادمين على البلاد من أنحاء العالم.
ولا نغالي - ومرجعنا أقوال الثقات المتضلعين في علم الآثار العربية - إن أكدنا أن العالم كله بما فيه رومية لا توجد فيه مدينة قديمة تضارع القاهرة بما فيها من الآثار المنقوشة عليها التواريخ
1
والكتابات.
وفي ذلك ما يدفعنا نحن المصريين إلى الاهتمام بدرس هذه الآثار حتى لا نلام على عدم تقديرنا لها.
وقد كان خلو البلاد إلى الآن من المدارس الخاصة بعلم الآثار العربية وصدور المؤلفات بلغة فنية بحتة مما يحول دون ميل الجمهور إلى الإقبال على زيارة هذه الآثار ودراستها؛ لذلك تملكنا السرور لما وضعت وزارة المعارف نظام الرحلات العلمية الذي يسمح للأساتذة والطلبة بمشاهدة آثار العاصمة وسماع المحاضرات من بعض الأخصائيين العارفين بها.
2
والمأمول أن تتولد عن هذا النظام فوائد جمة بجانب العناية والجهود التي توجهها لجنة حفظ الآثار العربية لهذه الآثار بإذاعة المعلومات القيمة عنها بطريق الكتابة والنشر، فقد وضعت المؤلفات الجليلة ككتابي «جامع السلطان حسن» و«حفريات الفسطاط» وغيرهما، ومنشوراتها السنوية والنبذ التي تصدرها بصفة ملحقات، وهي تتضمن الفوائد الجليلة مما يجب التوسع في نشره في القاهرة والأقاليم، إلا أنه بالنظر لكثرة عدد الأجزاء الصادرة منها وتعذر اقتنائها على الأفراد وتشتت المواضيع بين صفحاتها، كل ذلك يجعلها غير كافية للقيام بحاجة الجمهور.
وقد راعت ذلك لجنة حفظ الآثار العربية، فنبهت إليه غير مرة - كما يتبين من الاطلاع على محاضر جلساتها - ورأت من الضروري وضع الرسائل المنفردة والفهارس، فأصدر المرحوم هرتس باشا كتاب «وصف جامع جانم البهلوان»،
3
ثم حالت الظروف دون الاستمرار في ذلك.
وقد رأينا أن نحاول القيام بشيء من هذا القبيل، وغرضنا أن نهدي للجمهور عن كل أثر مهم رسالة صغيرة تتضمن بحثا مكتوبا بلغة سهلة واضحة عن وصف الأثر وصفا إجماليا، وشيء من تاريخه ومميزاته الفنية، ليتمكن الجمهور المصري من الوقوف على أهمية ما هو موجود في البلاد من الآثار الباقية مما شيد الأجداد، فتنبعث في قلوبهم المحبة لها والحرص عليها ، ونكون بذلك قد حققنا رغبة طالما رددتها لجنة حفظ الآثار العربية، وشجعنا على تنفيذها حضرة صاحب المعالي جعفر ولي باشا وحضرة صاحب السعادة محمد زغلول باشا لما كانا بوزارة الأوقاف.
وكان في عزمنا ألا نخرج كثيرا عن نسق الرسالة البديعة التي كتبها المرحوم هرتس باشا عن جامع جانم البهلوان، والنبذ الأخرى التي كان يصدرها بصفة ملحقات لمجموعة اللجنة السنوية، وأن يكون اعتمادنا فيما نكتبه على مؤلفات مؤرخي العرب وغيرهم من العلماء الأخصائيين في العهد الحاضر، أمثال فان برشم وسالمون وسلادين وهرتس باشا وكوربت بك والكبتن كريسول وجاستون فييت، وغيرهم.
وبعد أن وضعنا خلاصة للرسائل الأولى باللغة الفرنسية
4
عن لنا أن نعرضها على حضرات الأساتذة سان بول جيرار والكبتن كريسول وأوجو مونريه، فأعربوا لنا عن ارتياحهم إليها، ووقعوا بذلك على النسخة الأصلية، فوجدنا في تشجيعهم ما يبرر تقديمها إلى لجنة حفظ الآثار العربية فعرضناها على جناب مسيو لاكو وحضرة صاحب السعادة مرقص سميكة باشا، ففحصاها ووقعا عليها بوجوب طبعها ونشرها بمعرفة لجنة الآثار العربية.
وكانت فاتحة هذه النبذ التي شرعت في وضعها باللغة العربية ما عن لي عن جامع أحمد بن طولون، ولم أراع في ذلك الأقدمية التاريخية للأثر؛ لأن جامع عمرو وإن كان أقدم منه تاريخا، وأنشئ قبله بنحو 244 سنة على عهد الفتح الإسلامي لمصر، إلا أنه لم يتخلف لنا شيء من مبانيه الأصلية بسبب التغييرات والتجديدات التي توالت عليه تحت حكم الدول العديدة التي تعاقبت على مصر.
أما جامع ابن طولون فإن المؤرخين يعتبرونه أهم أثر عربي في مصر بالنظر إلى أقدمية مبانيه وما بقي فيه من معالم الفن العربي من العصر القديم.
وقد عرضت النسخة الأصلية على حضرة صاحب المعالي محمد شفيق باشا فتفضل - حفظه الله - بقراءتها ولاحظ أن إخراجها كما هي موجزة يجعلها «غير وافية من جهة التاريخ ولا مشبعة المعمار فيما يخص العمارة»، وأشار بالتوسع فيها أكثر من ذلك، مع ذكر الأطوال والعروض والارتفاعات، وإلحاقها بفتوغرافيات المنارة والفسقية والبوائك والقبلة والكتابات والسقف، ومن الاطلاع الآن على هذه الرسالة يظهر أني حاولت جهدي في إبرازها على نسق يقرب مما أشار إليه حضرة صاحب المعالي محمد شفيق باشا، فإليه يرجع الفضل في ظهورها على هذه الصورة، وأرجو أن أكون بوضع هذه الرسالة قد قمت بقسط من الواجب الوطني، وحققت شيئا من الرغبة التي أبداها مجلس النواب عند فحصه لميزانية دار الآثار العربية.
ولا ننسى أن نثبت للأستاذ العلامة جناب مسيو جاستون فييت مدير دار الآثار العربية فضله في نشر هذه الرسالة تحت رعاية لجنة حفظ الآثار العربية في عهد رئيسها المفضال صاحب المعالي الأستاذ الجليل محمد نجيب الغرابلي باشا وزير الأوقاف الذي تفضل فأقر طبعها في الوقت الذي توجهت عنايته فيه إلى تنفيذ قرار البرلمان وإخراج كتاب «حفريات الفسطاط» باللغة العربية.
وقد وفقنا الله إلى هذا العمل في ظل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك ملك مصر المعظم فؤاد الأول، أطال الله أيامه وحفظ أنجاله.
محمود عكوش •••
نذكر هنا مع الشكر أن بعض الأشكال المحلاة بها هذه الرسالة هي من عمل صديقنا وزميلنا القديم مسيو ج. روسي من مهندسي اللجنة السابقين.
وقد أعارني جناب الكبتن كريسول مؤلف كتاب «الآثار الإسلامية في مصر» كثيرا من الصور الفتوغرافية التي عملت منها اللوحات التي حليت بها هذه الرسالة.
تمهيد
قدم أحمد بن طولون إلى مصر ونزل بالعسكر، ثم بنى القصر والميدان وأنشأ القطائع، وفيها شيد الجامع المشهور باسمه. (1) العسكر
كان أمراء مصر ينزلون الفسطاط منذ اختطها عمرو بن العاص بعد الفتح، حتى جاءت المسودة وهي جيوش بني العباس مع صالح بن علي وأبي عون في طلب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية لما فر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (750م)،
1
فعسكرت بظاهر الفسطاط في الصحراء التي يشرف عليها جبل يشكر، وكانت فضاء تعرف بالحمراء القصوى، وليس بها من العمائر غير عدة كنائس وديارات للنصارى،
2
فأمر أبو عون أصحابه بالبناء فيها فبنوا المحال والأسواق والدور العديدة، وبنى صالح بن علي دارا للإمارة، وفي سنة 169 هجرية (785 و86م) بنى ابنه الفضل جامعا، فنشأت في هذا المكان خطة جديدة صارت تعرف بالعسكر.
3
وكان العسكر يمتد على شاطئ النيل، والنيل وقتئذ أقرب إلى الشرق من موضعه الحالي؛ لأنه كان يجري بجانب المرتفع المشيد عليه جامع عمرو بن العاص، ثم ابتعد عنه على توالي الزمن نحو خمسمائة متر.
4
وكان العسكر يحده جنوبا كوم الجارح حيث تمتد الآن قناطر المجرى (العيون)، وشمالا شارع مراسينا إلى ميدان السيدة زينب حيث كانت قناطر السباع
5
أمام المشهد الزينبي، وغربا بين شارعي السد والديورة، وشرقا خط تصوري يمتد من مصطبة فرعون بجوار مسجد الجاولي بشارع مراسينا إلى باب السيدة نفيسة المعروف قديما بباب المجدم (راجع أيضا «خطط المقريزي»، أول، ص305، وثان، ص265).
واستمرت دار صالح بن علي منذ بنائها ينزلها الأمراء، وكانت فيما بين جامع أحمد بن طولون وكوم الجارح («الخطط» للمقريزي، جزء 2، ص264). فلما كانت سنة 146 هجرية/763 و64م ظهرت دعوة بني الحسن بن علي بمصر فاتفق جماعة ممن بايعوا لعلي بن محمد أن يسيروا إلى المسجد الجامع
6
بالفسطاط ويستولوا على بيت المال،
7
فعمدوا إليه وانتهبوه وتضاربوا بسيوفهم، وعلم أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور ذلك، فكتب إلى يزيد بن حاتم والي مصر وقتئذ يأمره بالتحول من العسكر إلى الفسطاط وأن يجعل الديوان في كنائس القصر.
8 (2) القصر والميدان
لما قدم أحمد بن طولون من العراق أميرا على مصر سنة 254ه/868م نزل دار الإمارة بالعسكر، وكان لها باب إلى الجامع، ولما ضاق عليه العسكر لكثرة أتباعه وحاشيته، ويحتمل أنه رآه غير حصين، تحول عنه واتخذ لإقامته مكانا منعزلا فسيح الأرجاء، حيث يوجد الآن ميدان صلاح الدين الذي عرف بالرميلة وقره ميدان والمنشية، وكان فضاء يمتد إلى ما وراء جامع السلطان حسن الآن، فأمر بحرث ما فيه من قبور اليهود والنصارى واختط موضعها قصرا عظيما يحميه من ورائه الشرف الذي بنيت عليه القلعة، وكان وقتئذ يكاد يكون مهجورا، وليس في وسعنا تعيين موقعه على وجه أوضح من ذلك؛ لأن أقوال أصحاب الخطط عنه لم يرد فيها إلا أنه كان تحت قبة الهواء التي صار مكانها قلعة الجبل
9 («الخطط» للمقريزي، أول ، ص313).
وحول أحمد بن طولون السهل الممتد بين هذا القصر وجبل يشكر إلى ميدان كبير يضرب فيه بالصوالجة،
10
وتأنق في بنائه تأنقا زائدا (المقريزي، ثان، ص197).
واشتهر الميدان، وغلب اسمه حتى صار القصر يعرف به، فكان من يقصد القصر إذا سئل عن ذهابه يقول: إلى الميدان.
وعمل للميدان أبوابا لكل باب اسم، وهي: باب الميدان، ومنه كان يدخل ويخرج معظم الجيش، وباب الصوالجة، وباب الخاصة، ولا يدخل منه إلا خاصة ابن طولون، وباب الجبل؛ لأنه مما يلي جبل المقطم، وباب الحرم، ولا يدخل منه إلا خادم خصي أو حرمة، وباب الدرمون؛ لأنه كان يجلس عنده حاجب أسود عظيم الخلقة يتقلد جنايات الغلمان السودان الرجالة فقط يقال له الدرمون، وباب دعناج؛ لأنه كان يجلس عنده حاجب يقال له دعناج، وباب الساج؛ لأنه عمل من خشب الساج، وباب الصلاة؛ لأنه كان في الشارع الأعظم، ومنه يخرج عند التوجه إلى الصلاة، وعرف هذا الباب أيضا بباب السباع؛ لأنه كان عليه صورة سبعين من جبس.
وكان القصر له مجلس يشرف منه ابن طولون على الميدان يوم العرض ويوم الصدقة.
واختط الميدان في شعبان سنة 256
11
هجرية/870م.
وكان الناس يدخلون من باب الصوالجة ويخرجون من باب السباع، وكان على باب السباع مجلس يشرف منه ابن طولون ليلة العيد على القطائع ليرى حركات الغلمان وتأهبهم وتصرفهم في حوائجهم، فإذا رأى في حال أحد منهم نقصا أو خللا أمر له بما يتسع به ويزيد في تجمله، وكان يشرف منه أيضا على البحر وعلى باب مدينة الفسطاط وما يلي ذلك، فكان متنزها حسنا.
12 (3) القطائع
وتقدم أحمد بن طولون إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله فاختطوا، واقتطع كل واحد قطيعة ابتنى بها، فكانت للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وبنى القواد في مواضع متفرقة، فعرف ذلك المكان بالقطائع، وعمر عمارة حسنة، وتفرقت فيه السكك والأزقة، وبنيت فيه الطواحين والحمامات والأفران، وسميت أسواقها فقيل سوق العيارين، وكان يجمع العطارين والبزازين، وسوق الفاميين، ويجمع الجزارين والبقالين والشوايين، فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في الفسطاط وأكثر وأحسن، وسوق الطباخين، ويجمع الصيارف والخبازين والحلوانيين، ولكل من الباعة سوق حسن عامر، وامتدت هذه المباني إلى العسكر والفسطاط، حتى أصبحت المدن الثلاث بلدا واحدا عامرا لاتصال مبانيها ببعضها، وكانت القطائع تمتد غربي القلعة، يحدها من الشمال خط ينطبق عليه شارع الصليبة، ومن الغرب نواحي المشهد الزينبي، ومن الجنوب العسكر.
13
ويومئذ أهملت دار الإمارة التي ابتناها صالح بن علي بالعسكر،
14
واستقر الأمر على ذلك بعد ابن طولون أيام ابنه خمارويه وولديه: حسن وهارون، وزادت العمارة بالقطائع في أيامهما، وكثرت الناس فيها حتى قتل هارون بن خمارويه بعد قتل أبيه وأخيه، وسار محمد بن سليمان الكاتب بالعساكر من العراق من قبل المكتفي بالله ووصل إلى مصر في سنة 292ه/905م، وقد ولى الطولونية عليهم شيبان بن أحمد بن طولون، فتسلم محمد بن سليمان البلد منه، وهدم القصر وقلع أساسه، وبيعت أنقاضه وخرب موضعه، حتى لم يبق له أثر.
15
وبقيت القطائع عامرة إلى أن وقعت الشدة العظمى
16
زمن الخليفة المستنصر في القرن الخامس الهجري، فخربت هي والعسكر وظاهر مصر مما يلي القرافة، ثم نقل ما في هذه الأماكن من الأنقاض وصارت فضاء وكيمانا فيما بين مصر والقاهرة، وفيما بين مصر والقرافة («خطط المقريزي»، أول، ص305)، وقد كان الاضمحلال بدأ فيها منذ أنشئت القاهرة.
وكل معلوماتنا الآن عن القصر والميدان والقطائع مستمدة مما كتبه المؤرخون؛ إذ لم يتخلف من آثار ذلك العهد غير الجامع الطولوني.
الفصل الأول
الجامع الطولوني
الجامع الطولوني هو الثالث في ترتيب المساجد الجامعة
1
التي أقيمت فيها صلاة الجمعة في مصر بعد الفتح، بناه الأمير أحمد بن طولون على جبل يشكر في الجهة الجنوبية من القاهرة بينها وبين الفسطاط في حي السيدة زينب الآن، وهو أقدم مساجد مصر بلا نزاع، بل أقدم آثارها العربية بعد مقياس النيل بجزيرة الروضة.
2
وإليه يؤدي طريقان:
الطريق الأول:
يسلك إليه من ميدان المشهد الزينبي فشارع مراسينا حتى مسجد صرغتمش بأول الصليبة حيث يوجد بجانب الوجهة القبلية من هذا المسجد سلم يوصل إلى الباب الغربي لمسجد ابن طولون، وإذا جاوز القادم من هذا الطريق جامع صرغتمش وجد ساحة كبيرة تخلفت من هدم طائفة من المنازل كانت تحجب واجهة الجامع البحرية بينه وبين الحارة التي كانت تعرف ببئر الوطاويط،
3
وفي النهاية الشرقية من هذه الساحة عطفة يسلك منها إلى باب المسجد الشرقي.
الطريق الثاني:
يسلك فيه من شارع محمد علي فالسيوفية فالركبية إلى أن يصل الزائر إلى ملتقى شارعي درب الحصر وابن طولون ثم ينعطف غربا فيمر بزقاقين في صدر الثاني منهما باب المسجد الشرقي المتقدم ذكره.
ولما يصل الزائر إلى الزقاق لا يجد بأوله ولا بنهايته رحبة ولا ميدانا، بل يجد على يمينه وشماله أبنية عالية مصفوفة على الجانبين، بعضها من آثار القرن الحادي عشر الهجري، مما يجعل لهذه المنطقة منظرا خاصا تتمثل فيه بقية من المعالم القديمة التي كانت تستهوي النظر بما اجتمع فيها من الموردات والساباط
4
والسبيل.
وإذا وقف الزائر في وسط الزقاق وحول نظره نحو باب المسجد تمثله إطارا متوجا بعقد ستيني يحيط بمنارة جامع صرغتمش الرشيقة القائمة أمامه في الطرف الآخر على بعد.
5 (لوحة رقم 1).
ويحيط بالمسجد من الجهات الأربع شوارع طولون والزيادة وبئر الوطاويط
6
والخضيري.
وكانت هذه الجهة تعرف بخط المغاربة. (1) السبب في إنشاء الجامع وما قيل عن بنائه في هذا المكان
كان الناس يصلون في جامع العسكر، فلما قدم ابن طولون صار يصلي فيه الجمعة، ثم ضاق على المصلين بجنده وسودانه، وشكا أهل مصر إليه فعزم على بناء جامع، فأشار عليه جماعة من الصالحين أن يبنيه على جبل يشكر وذكروا له فضائله فأخذ برأيهم.
قال ابن عبد الظاهر: وهو جبل مبارك معروف بإجابة الدعاء فيه، ويقال إن الله - تعالى - كلم موسى عليه («صبح الأعشى»، ثالث، ص344).
وقد اختلف الرواة في سبب تسميته بجبل يشكر، فقال القضاعي: ينسب إلى يشكر بن جزيلة من لخم قبيلة من قبائل العرب اختطت عند الفتح بهذا الجبل فعرف بجبل يشكر لذلك («خطط المقريزي»، أول، ص125، و«صبح الأعشى »، ثالث، ص344).
ونقل الحافظ جمال الدين اليغموري أن يشكر المنسوب إليه هذا الجبل كان رجلا صالحا (ابن دقماق، ص123، جزء رابع).
قال المقريزي: وكان هذا الجبل يشرف على النيل، وليس بينه وبين النيل شيء، وكان يشرف على البركتين؛ أعني: بركة الفيل،
7
والبركة التي تعرف اليوم ببركة قارون.
8
وعلى هذا الجبل كانت تنصب المجانيق التي كانت تجرب قبل إرسالها إلى الثغور («الخطط»، أول، ص125).
ثم قال: وبجوار جبل يشكر: الكبش،
9
وهو جبل كان يشرف على النيل من غربيه، ولما اختط المسلمون الفسطاط بعد فتح أرض مصر صار الكبش من جملة خطة الحمراء القصوى.
حديث الكنز: قال جامع السيرة الطولونية: إن أحمد بن طولون بنى جامعه مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون («الخطط» للمقريزي، ثان، ص265).
وقال المقريزي عن مسجد التنور: إنه بأعلى جبل المقطم من وراء قلعة الجبل في شرقيها، ويقال إن تنور فرعون لم يزل في هذا الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد من قواد أحمد بن طولون يقال له وصيف قاطرميز وحفر تحته، وقدر أن تحته مالا، فلم يجد فيه شيئا، وزال رسم التنور وذهب («الخطط» للمقريزي، ثان، ص455).
والظاهر أن هذا الخبر الأخير هو الأصل الذي صدر عنه حديث الكنز.
10 (2) تاريخ إنشاء الجامع (لوحة رقم 2)
قال المقريزي: ابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين هجرية/876 و77م، وفرغ منه في سنة خمس وستين ومائتين/878 و79م.
11
وذهب آخرون منهم أبو المحاسن بن تغري بردي وابن دقماق إلى أن أحمد بن طولون شرع في بنائه في سنة 259ه/873 و74م.
وخالفهم الكندي فقال: ابتدأ في بنائه سنة أربع وستين ومائتين هجرية، وقضي في سنة 266ه
12 /879 و80م، والصحيح هو ما أورده المقريزي، فقد ثبت ما قاله عن تاريخ الفراغ من البناء؛ لأنه وارد في كتابة الجامع التاريخية، وهي منقوشة في لوح من الرخام بالقلم الكوفي البسيط بخط ممتلئ قليل الارتفاع متقارب الحروف.
وكان مارسيل السابق على غيره نشر كتابتين تاريخيتين للجامع في أطلس كتاب «وصف مصر»، وهما في لوحتين نقلتا من بعض قطع من الرخام مكسورة ومجموعة بعضها ببعض، والنص في الكتابتين واحد مع اختلاف طفيف (راجع مجموعة الكتابات المنقوشة «القاهرة» لفان برشم، ص22، ومذكراته، ج2، ص6 في المجلة الآسيوية سنة 1891 ص527 وما يليها).
13
وفي سنة 1890 بينما كانت لجنة حفظ الآثار العربية تجري بعض الأعمال بالجامع عثر بين الأنقاض على بعض قطع من الرخام جمعت ورتبت فتألف منها اللوح الموجود الآن، وهو النصف من إحدى كتابتي مارسيل.
وهذا نص ما اشتمل عليه من الكتابة: (1) بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين، الله لا إله إلا هو الحي (2) القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في (3) الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم و(4) ما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات و(5) الأرض ولا يئوده حفظهما، وهو العلي العظيم، محمد رسول الله والذ (6) ين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا (7) من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم (8) في التورية، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ (9) فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا (10) وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما، كنتم خير أمة أخرجت للناس تأ (11) مرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب (12) لكان خيرا لهم، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأ (13) قام الصلوة وآتى الزكوة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا (14) من المهتدين، أمر الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤ (15) منين أدام الله له العز والكرامة والنعمة [ا]لتامة في الآخرة والأو (16) لى ببناء هذا المسجد
14
المبارك الميمون من خالص ما أفاء الله عليه وطيبه (17) لجماعة المسلمين ابتغاء رضوان الله والدار الآخرة وإيثارا لما فيه تسنية الدين (18) وألفة المؤمنين ورغبة في عمارة بي[ت] الله وأداء فرضه وتلاوة ك[تا] (19) به ومداومة ذكره إذ يقول الله تقدس وتعالى في بيوت أذ[ن] الله أن ترفع و (20) يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن (21) ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار (22) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من [ف]ضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (23) في شهر رمضان من سنة خمس وستين ومائتين سبحان ربك رب العزة عما يصفون و(24) سلم على المرسلين والحمد لله رب العالمين اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدا (25) وآل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كأفضل ما صليت وترحمت وباركت على إبراهيم (26) ... وعلى آل إبراهيم وأنعم إنك حميد مجيد.
وقد أورد كوربت بك هذه الكتابة في رسالته التي وضعها عن هذا الجامع بعنوان «حياة وأعمال أحمد بن طولون» المدرجة في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية سنة 1891، وقد تخللها نقص في بعض المواضع وتحريف في النقل، ومن تعليقاته عليها قوله: إن هذه الكتابة على ما يعلم أقدم كتابة تاريخها معروف، ثم نوه عن قول مارسيل في البحث الذي وضعه عن مقياس النيل في كتاب «وصف مصر»
15 (في المجلد الخامس عشر، ص329) إن جزءا من كتابته يرجع إلى المأمون، يعني إلى سنة 199 هجرية/814 ميلادية، وإلى عمارتي المتوكل أي إلى سنة 233 هجرية/847 ميلادية، و247 هجرية/861 ميلادية، وكانت العمارة الأخيرة على عهد أحمد بن طولون نفسه، إلا أنه يرى أن هذه الكتابات على كل حال لا تتعدى بعض الكلمات.
والصحيح أن قسما من كتابة المقياس أقدم عهدا من كتابة تاريخ الجامع الطولوني، وهو من الآيات الشريفة، والكاتب له أحمد بن محمد الحاسب في سنة 247 هجرية، وكان واردا في هذه الكتابة اسمه واسم المتوكل وتاريخ الكتابة، ثم أزيل ذلك فيما بعد واستبدل ببعض الآيات الشريفة بخط أقل إتقانا من الخط الأصلي، وكلاهما بالكوفي، ومن السهل معرفة النص الأصلي وما استبدل منه بالمقابلة بين المكتوب على جدران بئر المقياس وبين ما أورده ابن خلكان في ترجمة أبي الرداد في «وفيات الأعيان»، ج1، ص339، ولولا أن هذا البحث خارج عن الموضوع لشرحناه شرحا وافيا، وما جرنا إليه غير إشارة كوربت إلى قول مارسيل.
وبجانب هذه الكتابة التاريخية توجد بالجامع كتابات أخرى كبيرة الأهمية من أزمنة مختلفة يعرف منها تاريخ التجديدات والعمارات التي وقعت فيه، وسيأتي الكلام عليها. (3) مهندس الجامع
ذكر المقريزي أن الذي تولى بناء الجامع لأحمد بن طولون كان رجلا نصرانيا حسن الهندسة حاذقا بها، وكان عهد إليه ببناء عين بظاهر المعافر
16
وجعل عليها قناطر لا تزال بقية منها موجودة إلى الآن، واتفق أنه لما فرغ من بنائها وأقبل أحمد بن طولون ليتفرج عليها غاصت يد فرسه في موضع لم يجف بناؤه فغضب على المهندس وضربه وأمر به إلى المطبق (السجن) فأقام به مدة.
ولما أراد أحمد بن طولون بناء الجامع قدر له ثلاثمائة عمود، وقيل له لا تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب فتحمل ذلك، فلم يرض، وبلغ الخبر المهندس النصراني وهو في المطبق، فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة، فأحضره وسأله فقال: أنا أصوره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلا عمودي القبلة، فأمر أن تحضر له الجلود فأحضرت وصوره له فأعجبه، ووضع المهندس يده في البناء في الموضع الذي هو فيه وهو جبل يشكر فكان ينشر منه ويعمل الجير ويبنى إلى أن فرغ من جميعه وبيضه («الخطط» للمقريزي، ج2، ص265 باختصار).
وقد بحث كثير ممن كتبوا عن الجامع في أمر هذا المهندس، فقال بعضهم: كان بيزنطيا،
17
وقال البعض: قبطيا، وعلل الأولون قولهم بأن الطرز البيزنطي واضح في أقدم أجزاء الجامع، وهي أقوال مبنية على الظن والتخمين، وقد مهد لها الطريق سكوت الرواة والمؤرخين عن ذكر اسم المهندس، ونحن لا ننكر أن الفن العربي لم يكن بلغ أشده بعد، وأن الضرورة كانت كثيرا ما تقضي بالاقتباس من المألوف من أساليب الصناعة عند الأمم الأخرى واستحضار مهرة الصناع من فارس والروم، كما قال بذلك ابن خلدون وغيره من كتاب العرب («مقدمة ابن خلدون»، ص173؛ وابن جبير، صحيفة 262، طبع ليدن؛ و«مسالك الأبصار»، ج1، ص183).
ولكن الذي يحملنا على ترجيح أن المهندس كان عراقيا مسلما كان أو نصرانيا هو ما أثبته ابن دقماق والمقريزي بوجه خاص عن هذا المسجد من أن بناءه أقيم على مثال بناء جامع سامرا («الانتصار»، ج4، ص123، و«الخطط»، ج2، ص266)، ومطابقة ذلك للواقع، كما سنبينه.
وقد شرح الكبتن كريسول هذا الموضوع جليا، فقال: إنه على عهد بني أمية كانت الدولة عربية خالصة، وكان يغلب على العمارة التأثير السوري واستعمال الفسيفساء البيزنطية، كما في قبة الصخرة، والجامع الأموي بدمشق، وقصير عمرة، وغير ذلك.
ثم انتقلت عاصمة الخلافة إلى بغداد في عهد بني العباس، وصارت مركزا لتطور الدولة، فغلبت على العمارة العربية التأثيرات الفارسية أي أساليب العمارة الساسانية والعراقية.
ولما جاء ابن طولون من سامرا إلى مصر حمل معه كل تقاليدها.
ولا يبعد أن يكون المعمار الذي شيد الجامع أحد أولئك المهندسين الذي اشتهروا في تاريخ ذلك الوقت، وأقربهم لعهد بناء الجامع أحمد بن كثير الفرغاني الذي عمل المقياس بجزيرة مصر.
18 (4) الصلاة في الجامع
قال المقريزي: ولما كمل بناء جامع ابن طولون صلى فيه القاضي بكار
19
إماما، وخطب فيه أبو يعقوب البلخي، وأملى فيه الحديث الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي، ودفع إليه أحمد بن طولون في ذلك اليوم كيسا فيه ألف دينار، وعمل الربيع كتابا فيما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص
20
قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» (ثان، ص265).
شكل 1-1: القطاع الأفقي للجامع.
شكل 1-2: قطاع طولي للجامع بين المحراب والمنارة (رسم كالجي من مجموعة اللجنة).
شكل 1-3: قطاع طولي للجامع بين المحراب والمنارة. (5) وصف الجامع ومساحته وتقسيمه (راجع القطاع الأفقي شكل رقم
1-2 ، واللوحة رقم 3 والقطاع الطولي شكل رقم
1-3 ) في هذا المسجد يرى المثال الأول الذي اتخذه بناة المساجد الجامعة فيما بعد، وقد بقي معمولا به في هذه البلاد حتى في العصور التي أدخلت فيها رسوم جديدة للجوامع عقب استيلاء العثمانيين على مصر، ولما نقارن بينه وبين جامع عمرو يتبين لنا أن الوضع الأفقي في المسجدين واحد مع وجود تفاوت بينهما من الوجهة الأركيولوجية «الأثرية»؛ إذ بينما جامع عمرو زيد فيه وجدد مرارا، فإن جامع ابن طولون بقي على أصله.
وقد قال الأستاذ فان برشم: إن هذين المسجدين اتفقا في الوضع الأفقي، ولكن هذا لا يقوم دليلا على ما كان عليه وضع المساجد قبل الجامع الطولوني.
وهو تقريبا على شكل مربع ضلعه 162,50 × 161,73 (= 26281,125 مترا مربعا أعني ستة أفدنة ونصف)، يشغل منه المسجد مع جدرانه مستطيلا مساحته 17243,818 مترا مسطحا، ويتكون هذا المستطيل من صحن مكشوف مربع 92,30 × 91,95 أي 8486,985 مترا مسطحا تحيط به بلاطات؛ أي أروقة
21
من جوانبه الأربعة مساحتها مع الجدران 8756,833 مترا مربعا. ما هو بمقدم الجامع وفيه قبلته خمس بلاطات، منها البلاطة التي تلي الصحن اندثرت وجددت قواعدها في سنة 1920.
وما هو بكل من مؤخره وجانبيه بلاطتان، وحول بلاطات المؤخر والجانبين؛ أي من الجهات الشمالية الشرقية والشمالية الغربية والغربية الجنوبية، ثلاثة أروقة خارجية تعرف بالزيادات مسطحها مع جدرانها 9037,307 مترا.
وهذه الزيادات تكمل مساحة المربع الكلي للجامع إذا ضمت إلى المستطيل المكون منه المسجد نفسه (راجع الشكل رقم
1-2 ).
وقد ذكر ابن دقماق الأروقة الخارجية باسم الزيادات، وأورد سببا لبنائها، فقال: إن الجامع ضاق على المصلين فقالوا لأحمد: نريد أن تزيد لنا فيه زيادة، فزاد فيه هذه الزيادة بظاهره (ج4، ص123).
وقال الكبتن كريسول: إن ما يسميه ابن دقماق بالزيادة هو من أصل بناء المسجد ومثله موجود في جامع سامرا.
22
ومن ذلك يتبين أن هذه الزيادات الثلاث ليست إلا أروقة خارجية، وقد سماها ابن دقماق رواقا في موضع آخر في قوله: «ويقال إن ذرع جامع ابن طولون مثل ذلك
23
سوى الرواق المحيط بجوانبه الثلاثة» (ج4، ص66).
ومما يدل على أن الأروقة من هذا القبيل اتخذت في غير هذا المسجد قول سلادين في موجزه الفن الإسلامي «العمارة» (ص90): إن الجامع الأعظم بسوسة ببلاد تونس منعزل مثل جامع ابن طولون بأروقة جانبية.
وذهب باسكال كوست إلى أن الغرض من إحاطة المسجد بالأروقة أن يكون بعيدا عن أن تصل إليه الضوضى من الخارج.
24
ولم يكن جامع ابن طولون منعزلا، بل كان بجواره كثير من المساكن وغيرها، من ذلك ما ذكره ابن عبد الظاهر في قوله: «وسمعت من يقول إنه عمر ما حوله حتى كان خلفه مسطبة ذراع في ذراع أجرتها في كل يوم اثنا عشر درهما في بكرة النهار لشخص يبيع الغزل ويشتريه، والظهر لخباز، والعصر لشيخ يبيع الحمص والفول».
ومن ذلك دار كانت أمام واجهة الجامع الشرقية، ولها - على ما جاء في قول المقريزي وأبي المحاسن - باب من جدار الجامع يسلك منه إلى المقصورة المحيطة بمصلى الأمير بجوار المحراب والمنبر، وكان يقال لها دار الإمارة؛ لأن أحمد بن طولون كان ينزل بها إذا راح إلى صلاة الجمعة فيجلس فيها ويجدد وضوءه ويغير ثيابه.
وقد تنبه سالمون إلى أن الباب المذكور لم يكن مفتوحا على الجامع مباشرة، بل كان ينفذ منه من الدار إلى رواق أو مقصورة
25
وراء جدار القبلة شبيه بالرواق الخارجي المحيط بالمسجد من الجهات الثلاث الأخرى، وقال: إن هذا الباب كان يقابله باب آخر في جدار الجامع على مقربة من الركن الجنوبي، وهذا القول لا اعتراض عليه؛ لأن وجود الرواق في هذا المكان يتم به التماثل حول الجامع في نواحيه الأربع، ويمكن تشبيهه بالطريق الدائر الذي كان يحيط بجامع عمرو من جميع الجهات (ابن دقماق جزء رابع، ص62)، وقد ورد في المقريزي ما يفهم منه أنه كان هناك فاصل بين دار الإمارة والمسجد، لقوله إنها كانت بحذاء الجامع، يعني أمام وجهته الجنوبية الشرقية.
ولقد كان مثل هذا الترتيب موجودا في جامع قرطبة الأعظم، وهو من بناء عبد الرحمن الداخل. قال ابن بشكوال: وليس لهذا الجامع في القبلي سوى باب واحد بداخل المقصورة المستجدة في قبلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة، منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة («نفح الطيب» أول، ص257، طبع مصر بالمطبعة الأزهرية).
وبقيت دار الإمارة إلى أن قدم الإمام المعز لدين الله أبو تميم معد من بلاد المغرب إلى مصر فكان يستخرج فيها أموال الخراج، ثم خربت هذه الدار فيما خرب من القطائع والعسكر وصار موضعها ساحة تنتهي من الجهة القبلية إلى حيث توجد الآن حارة الزيادة التي يفصلها عن الجامع الرواق الجنوبي الغربي الخارجي.
26
وقد كان بهذه الحارة قبل اليوم بنحو أربعين سنة تجاه سور هذا الرواق دور قديمة جميلة تسر الناظرين بما حوته واجهاتها من المشربيات العديدة المختلفة الرسم المحملة على حرمدانات أو كوابيل وماوردات من خير ما أخرجه الصانع وأبدعه في صناعة الخرط والتفريغ، وذلك بجانب إتقان البناء في هذه الوجهات والعناية بتقسيمها وتوزيع الفتحات فيها، وما في وضع الشبابيك والمصبعات والأبواب ذات الرسم الجميل، زيادة على تنوع النقوش المتخذة في حجارتها مما يعز وصفه ويحزن الآن فقده.
والظاهر أن هذه الدور كانت مسكنا لمن يتولون أمور الجامع الطولوني لما كان زاهيا زاهرا، وكان يقصدها هواة الفن للتمتع بمنظرها ورسمها وتصويرها باعتبار أنها من النماذج النادرة التي تمثل الحارات القديمة بالقاهرة (لوحة 4).
أسوار الجامع وأبوابه (راجع القطاع الأفقي شكل رقم
1-2 ، واللوحة رقم 5) وحول الأروقة الثلاثة الخارجية الموازية لجدران المسجد جدران بل أسوار دونها في الارتفاع، عليها شرفات مخرمة متقاربة كالمغازل، اختلف في وصفها الكتاب فشبهوها بالعمامة وألسنة اللهب وشنف الديك، وبهذه الأسوار أبواب، كل باب منها يقابل بابا من أبواب المسجد، وقد رأى ناصر خسرو السائح الفارسي هذه الأسوار في سنة 439ه فقال: «إني لم أر ما يفوقها في حسنها في غير آمد وميافارقين.» («سفرنامه»، ص145، ترجمة شيفر).
27
وكانت أبواب المسجد 33 بابا
28
بعضها بجدران الأروقة الخارجية؛ أي بالأسوار، والبعض الآخر بجدران المسجد، وبيانها:
بجدران الأروقة الثلاثة الخارجية
5 بجدران الرواق الخارجي الشمالي الشرقي.
5 بجدران الرواق الخارجي الجنوبي الغربي.
1 بجدران الرواق الخارجي الشمالي الغربي (وربما كان عدد الأبواب في الأصل أكثر من ذلك).
1 بالجنوب الشرقي في منتصف نهاية الرواق الشمالي الشرقي، وهو المدخل المستعمل الآن، ولا يوجد ما يستدل منه على قدمه.
بجدران المسجد
6 بالجدار الشمالي الشرقي.
6 بالجدار الجنوبي الغربي.
4 بالجدار الشرقي: اثنان يسلك منهما إلى خلوتين على يمين وشمال المنبر، ويليهما بابان آخران أحدهما مسدود مكانه.
5 بالجدار الشمالي الغربي.
ولا يبعد أن تكشف أعمال التخلية المنتظر إجراؤها حول المسجد عن بقايا يستدل منها على أبواب أخرى.
ومن الاطلاع على القطاع الأفقي تعرف مواقع الأبواب، وما هو المفتوح منها والمسدود، ولا يوجد بين هذه الأبواب أبواب كثيرة فخمة مما اتخذ في المساجد بعد عهد بناية المسجد، وإنما هي أبواب بسيطة معابرها أفقية
29 (راجع اللوحة رقم 5 حرف أ).
الآجر
والجامع مبني بالآجر المجلل بطبقة سميكة من الجص، قال سلادين: والذي دعا ابن طولون لبناء جامعه بالآجر مع وجوده بسفح المقطم هو أن المهندس كان كلدانيا فبنى الجامع بالمواد المألوفة عنده.
30
وفي الروايات المتواترة عن الجامع نسب إلى أحمد بن طولون أنه لما أراد بناءه قال: أريد أن أبني بناء إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي، فقيل له: يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القوي النار إلى السقف، ولا يجعل فيه أساطين رخام؛ فإنه لا صبر لها على النار، فبناه هذا البناء ... (ابن دقماق رابع، ص123، و«الخطط» للمقريزي ثان، ص266)، ويؤخذ من ذلك أن البناء بالآجر في ذلك الوقت لم يكن شائعا كثيرا، ولا ينقض ذلك ما وجد بالفسطاط من بقايا أبنيته المشيدة بالآجر فإنها لا ترجع إلى ما قبل العصر الطولوني.
والمعروف في تاريخ العمارة أن المصريين كانوا يستعملون اللبن في العهد القديم بدليل وجوده بوفرة في أطلال مصر، ومع ذلك فإنه لم يبلغ ما كان عليه عند الأمم الآسيوية من الانتشار بسب قلة المحاجر التي تستخرج منها الكتل العظيمة عندهم على عكس مصر فإن فيها الجرانيت والسماق، وقد وجد في مصر بعض طرق كانت تعد لنقل المهمات والمواد اللازمة لتشييد بعض الأهرامات مبنية باللبن، وكانت الأهرامات في الغالب تبنى نواتها من الطوب وتكسى بالحجر.
أما الآجر فإن المصريين لم يستعملوه إلا في أحوال خاصة، كما في مجرى مدينة آبو مثلا، وهيكل موت بالكرنك، على عكس ما كان في العراق؛ فإن الآجر الجيد الحريق كان يستعمل دواما،
31
وكانوا يعطونه شكلا مربعا، والآجر المصري القديم مستطيل وأكثره استعمالا ما كان مقاسه 0,22 × 0,11 × 0,14 (ماسبيرو، «الأركيولوجيا المصرية»، ص10).
وفي جامع ابن طولون الآجر أحمر غامق جيد الحريق، ويبلغ مقاسه في الغالب 0,18 × 0,08 × 0,04 وهو مبني مداميك متناوبة أديه وشناوي، وأعني بالأول في اصطلاح البنائين مدماك أحمال ترص بطول الطوبة على امتداد الجدار، والثاني مدماك أسهل ترص بعرض الطوبة عموديا على طول الجدار وتبسط عليه المونة، ولحام الآجر بعضه مع بعض منتظم ثخين، أخذ مقاسه فوجد أن كل خمس طوبات بلحامها تساوي 36 سنتيمترا في المتوسط من ذلك اللحام الأفقي ثلاثة سنتيمترات والرأسي 18 ملليمترا وثخانة الطوبة 44 ملليمترا في المتوسط، والمعروف في الأبنية البيزنطية أن اللحام يزيد عن ثخانة الطوب.
الأرجل أو الدعائم (راجع اللوحات رقم3 و6) لم يقتصر ابن طولون على بناء الجدران والأسوار فقط بالآجر، بل بنى بها أرجلا اتخذها بدلا من العمد ليرفع عليها الأقواس أعني الطارات، على عكس ما في جامع عمرو.
وقد ذكرنا فيما تقدم السبب الذي انتحل لذلك وهو عدم صبر الرخام على النار، ولا يخفى أنه سبب واه، وقد وفق الأستاذ كوربت بك إلى بيان ما يجوز أن يكون هو السبب الحقيقي، وهو تعذر الحصول في ذلك الوقت على الرخام من المباني المهجورة بسبب نفاد ما كان موجودا فيها في المدة السابقة على ابن طولون.
32
غير أن هذا لا ينفي ما تواترت به الرواية عن تورع ابن طولون عن أن يأتي بها من المعابد والكنائس، خصوصا وأن سيرته ثابت فيها أنه كان منذ صغره يألف مجالس رجال التقوى والورع.
أما عن صبر الرخام على النار فقد قال الأستاذ فان برشم: إن تسلط النيران على ما بالقاهرة من العمد الرفيعة التي لم تهيأ بإتقان يعرضها حالا للعطب، ونحن لا ننكر أن الدعائم إذا كانت ثخينة من الآجر تكون مقاومتها أكبر، ولكن نسبة بقاء الجامع سليما حتى الآن إلى ذلك فقط لا يؤيده ما نشاهده في الجوامع الكبيرة بالقاهرة، فإن جامع الحاكم وجامع بيبرس الأول الكائن بميدان الظاهر اتخذت لهما الدعائم، وقد أصيبا بعطب شديد والأول منهما اندثر كله تقريبا، ولما نبحث عن السبب يجب ألا ننظر في طريقة بنائهما فقط، بل يتحتم علينا أن نراعي أمورا أخرى كبنائهما على أرض غير ثابتة وعبث الجند بهما.
وإذا نظرنا إلى الجوامع الكبيرة يتبين أن المهندس الذي بنى الجامع لابن طولون كان موفقا في فكرته لأن اتخاذ الدعائم من الآجر في بناء جامعه أفاده ثباتا كما أفاد بناؤه على أرض ثابتة.
33
وقد أراد الأستاذ فان برشم بالأرض الثابتة الصخر المشيد عليه الجامع، فإن معظم الأساس - إن لم نقل كله - قائم عليه، وقد ظهر من الأعمال التي أجريت في الجهة الغربية أن الطبقة الصخرية قريبة جدا من مستوى بلاط الجامع، وتبلغ أحيانا مستوى أرض الصحن.
والقوائم منشورية الشكل، في زواياها الأربع عمد لطيفة من الآجر مندمجة فيها عملت للتحلية لأن الدعامة كلها هي الحاملة للثقل، وقواعد الدعائم من الطراز السابق على العهد الإسلامي، ولهذه القوائم أمثلة كثيرة في أبنية العصور التالية لعهد ابن طولون.
وقد عثر مسيو دي سرزق ومسيو دومرجان على أمثلة قديمة للعمد المتخذة في أركان الدعائم المربعة أو المستطيلة كالتي في جامع ابن طولون في تللووسوس
34
وهي
35
موجودة بمتحف اللوفر بالقاعة الآشورية وقاعة دومرجان («الفن العربي» لسلادين ص92).
التيجان (راجع اللوحة رقم 6 والشكل رقم
1-4 )، وعلى العمد تيجان بسيطة مستديرة على أسلوب التيجان الكورنتية، على شكل النواقيس تشاهد في زخرفتها ورقة النبات المسمى شوك اليهود، وهي معروفة في تاريخ العمارة بأنها من لوازم التاج الكورنتي، بل الأصل في زخرفته على ما ذكره فيتروف في الكتاب الرابع الباب الأول، وقد حكى ما يأتي: إن فتاة من بنات كورنتة ماتت ليلة زفافها، فجمعت مرضعتها بعض أشياء صغيرة كانت عزيزة عند الفتاة في سلة ووضعتها على القبر وغطتها بقطعة من الآجر لتحفظها من تقلبات الجو، وصادف وجود ساق من النبات المسمى شوك اليهود في هذا المكان ولم يكن ظاهرا، فلما جاء فصل الربيع اخضر وامتدت منه فروع وأوراق أحاطت بالسلة من جميع جهاتها، وكانت أطراف الآجرة بارزة فحالت دونها فاستدارت حولها على شكل حلزوني، وصادف مرور كالليماخوس النقاش الشهير بجمال مصنوعاته ومهارته فلفتت السلة نظره وأعجبه منظر الأوراق والفروع الملتفة حولها فتكونت عنده في الحال فكرة التاج الكورنتي فعمل بعض تيجان للعمد على مثالها، ومن ثم وضع قواعد النظام الكورنتي (شابات «قاموس العمارة»، ص22، أول).
شكل 1-4
وقد نفى فرنسوا بنوا هذا الخبر، واعتبره من الأساطير، وقال: إن التاج الكورنتي كان معروفا قبل كالليماخوس، وقد اتخذه أكتيوس على أحد العمد بمعبد فيجاليا، ومع ذلك فإن الشبه بينه وبين بعض التيجان المصرية معروف («العمارة» تأليف فرنسوا بنوا، ص365 و366).
الأقواس أو العقود (راجع اللوحة رقم 6 والشكل رقم
1-5 ) وفوق الأرجل قناطر أو أقواس كبيرة من الآجر من الطراز الستيني، تجاوزت قليلا حد المراكز بكيفية لم تخرجها عن شكل حدوة الفرس، وهي أول مثال استعملت فيه هذه العقود بمثل هذه الكثرة.
قال لين بول في المذكرات الملحقة بكتاب لين الذي عنوانه «المصريون المعاصرون»: إن أول مرة عم فيها استعمال العقد الستيني (المهموز) في بناية على ما نعلمه الآن هو عند العرب في مصر، وإنه صار فيها الميزة التي تعرف بها أحسن عماراتهم، والدليل الناهض على أن هذه العقود اتخذت لأول مرة بكثرة هو وجود هذا الجامع الذي يرجع إنشاؤه إلى سنة 263ه وكل عقوده ستينية، وقد بقي هذا الجامع، وهو أقدم بناء عربي بحت، على أصله إلى اليوم ولم يتغير؛ وعلى ذلك يكون نموذجا لم يمس على نقيض جامع عمرو.
شكل 1-5
ثم قال: وقد أصبح البحث عن أصل العقود الستينية، بل وعن العقد نفسه من المسائل الأركيولوجية الممتعة، وما يوجد من النماذج الفردية لهذا العقد في المباني السابقة للجامع الطولوني لا يؤثر على الواقع، وهو أن هذا الجامع أقدم مثال وجدت فيه العقود الستينية بصفة مميز للبناية.
وقد تناول الأستاذ فان برشم الكلام على ما إذا كانت هذه العقود من مبتكرات العمارة العربية، وهل لها صلة بالهندسة الغوطية، فقال: قامت بعض نظريات تنقصها قوة الحجة عن استعمال العقود المنكسرة بهذا النظام في القرن الثالث الهجري، ذهب واضعوها إلى أن هذه العقود من مبتكرات الهندسة العربية، وأن الهندسة الغوطية شرقية الأصل، ولكن التمسك بهاتين النظريتين آخذ في التحول؛ إذ ظهر اليوم أن انكسار العقد من المميزات الثانوية في العمارة، وأن العقود المنكسرة مخلفة منها أمثلة من كل العصور التاريخية في جميع البلدان المتمدينة، ومع التجاوز عما في المباني العتيقة في مصر وآشور فليس من المتعذر - وإن قلت الأدلة - وجود أمثلة سابقة تدنو كثيرا من العقد الطولوني، كما في طاق كسرى مثلا؛ فإن العقود المنكسرة موجودة فيه، ويفوق ذلك في الأهمية أمر غفل عنه المؤرخون الذين كتبوا عن جامع ابن طولون، وهو وجود العقد المنكسر في العمارة القبطية البيزنطية؛ ومن ثم يصعب اعتبار عقود الجامع من المبتكرات، على أن العمارة الإسلامية نفسها لم تخل من أمثلة سابقة، من ذلك عقود مقياس النيل ومجرى أحمد بن طولون، وهي من بناء مهندس الجامع نفسه، ومن يعلم بالضبط الوقت الذي بنيت فيه العقود المنكسرة في المسجد الأقصى وعقود الجامع الكبير الأموي بدمشق.
شكل 1-6: عن كتاب أوين جونس.
شكل 1-7: نماذج من زخارف المسجد عن كتاب أوين جونس.
وفي أسوان مسجدان عتيقان بهما عقود نصف دائرية، ولكن يتعذر تعيين تاريخهما، ولم يعثر على أمثلة أخرى، والعقود النصف الدائرية التي ببوائك الرواق بتربة برقوق وقبابه المتخذة من الآجر، وهي النموذج الوحيد المخلف بالقاهرة من قبل القرن السابع عشر الميلادي، عليها منذ ذلك الوقت مسحة أبنية القسطنطينية الرومية التركية، وبعد مضي قرن ونصف من ذلك العهد دخل العقد النصف الدائري مصر مع العثمانيين، وبناء على ذلك لا يكون هناك ما يجيز القول بأن العقد النصف الدائري كان متخذا في الآثار الإسلامية الأولى، أما الصحيح الثابت فهو أن العقد المنكسر كان عام الاستعمال في القرن الثالث الهجري («منشورات المعهد العلمي الفرنسي» المجلد 52، ص74).
36
ويقع مبدأ هذه العقود في الجامع الطولوني على ارتفاع 4,64م من الأرض وقمتها على ارتفاع قدره 3,70م من عند المبدأ، أما سعتها فإنها 4,56م وهي مرتدة ارتدادا خفيفا من الجانبين بشكل ظاهر.
الزخارف (راجع اللوحة رقم 6، والأشكال رقم
1-6
و
1-7
و
1-8
و
1-9 ) في هذا الجامع أكثر الزخارف من الجص، منها بواجهات الأقواس طراز مكندج يحيط بفتحاتها عرضه 46 سنتيمترا ويتصل ببعضه عند نهايات الدعائم فوق تيجان العمد المتخذة في أركانها، وكانت بواطن الأقواس في الأصل مزخرفة أيضا بنقوش جميلة، ثم أصابها ما أصاب غيرها من تفاصيل الجامع من التلف، فزالت وبقي الشيء القليل منها محجوبا تحت طبقات عديدة من البياض، وقد كان قسم منها ظاهرا لما وضع بريس دافن كتابه «الفن العربي» المطبوع بباريس سنة 1877، وهو زخرفة باطن أحد الأقواس من حبل الطارات الجنوبي الشرقي بالقرب من المنبر، وقد رسمها في اللوحة الأولى من الكتاب المذكور، وحوالي سنة 1891 تم كشف قسم من زخارف القوسين الرابع والسادس من حبل طارات الأروقة الجنوبية الغربية من جهة مقدم الجامع، وهذه النقوش تختلف في الرسم في كل طارة عن الأخرى.
شكل 1-8
شكل 1-9
وتتكون هذه الزخارف من نقوش عربية جميلة، أساسها خطوط متشابكة، وإن لم تبلغ من الرقي ما صارت إليه الزخارف العربية فيما بعد، كما في جامع وقبة قلاون مثلا، أو في جامعي الناصر محمد والسلطان حسن، وبالأخص في منارة جامع الناصر.
وقد قال ستانلي لين بول في كتابه «تاريخ القاهرة» (ص79) عن هذه الزخارف إنها لم تصب في قوالب كزخارف قصر الحمراء، وإنما هي من نقش يد ماهرة نتبين فيها الفرق بين عمل الفني والصانع، وفي الواقع أن ما بالجامع الطولوني منها عليه مسحة من اللطافة لم نجدها فيما بين أيدينا من رسوم الحمراء، وقد وصفها كوربت بك وصفا حسنا.
ويلاحظ أن اتخاذ الزخرفة بهذا المسجد من الجص يخالف المتبع في بلاد الشام؛ لأن الزخرفة في دمشق وأورشليم على كثرتها قوامها الرخام الجيد الثمين والمعادن والفسيفساء.
وفوق كل دعامة فيما بين القوسين طاقة صغيرة (شكل رقم
1-5 ) عقدها ستيني من طراز الأقواس الكبيرة، ترتفع نهاياتها على مثل نهاية القوسين الكبيرين، والغرض من هذه الطاقات تخفيف الثقل عن الأرجل وإيجاد حلية أخرى في تقاطيع البناء، وعلى العقود الصغيرة طراز عرضه 42 سنتيمترا نقوشه الجصية أقرب إلى البداءة من نقوش الطراز الممتد فوق الأرجل وحول الأقواس الكبيرة.
الإزار (راجع اللوحة رقم 6) وما بين الطراز السابق والسقف إزار من ألواح خشبية بعضها تحت بعض، وفي الوسط من الإزار كتابة من الآيات الشريفة تنبئ بأنها من عصر إنشاء الجامع؛ لأنها من الكوفي المربع الساذج الخالي من التشجير والتوريق، وقد نقشت حروفها بارزة وليست قطعا منفصلة ومسمرة في الخشب كما ظنه كوربت بك، ويبلغ ارتفاع كل حرف منها 19 سنتيمترا، وهي طرفة فريدة في علم الخط تتمثل فيها الابتكارات العربية الخالصة التي أخذت تترقى فيما بعد إلى أن وصلت بالكتابة إلى المقام الأول بين مميزات الزخرفة العربية.
ومما يؤسف له ضياع أجزاء من هذا الإزار في مواضع كثيرة.
37
ولا يغرب عن البال أن الكتابة ركن عظيم من أركان الزخرفة العربية بجانب الزخارف المستقيمة الخطوط والزخارف المنحنية، ومن المعلوم أن من هذه الأركان الثلاثة تتألف الزخرفة العربية.
والكتابة التي بهذا الإزار نموذج مما كان عليه الخط الكوفي في طوره الأول، وقد سماه الأستاذ فان برشم بالخط المربع أو ذي الزوايا أو الكوفي البسيط، وسماه آخرون بالخط الأثري النقدي؛ لأنه ظهر مرة واحدة على النقود وفي كتابات عبد الملك بن مروان بالمسجد العمري (قبة الصخرة)
38
بالقدس الشريف وغيره، ثم شاع في نقود الأمويين والعباسيين وبني طولون وبني أمية بالأندلس وعند الفاطميين على عهد خلفائهم الأول، وكانت تتخلله فروق خفيفة، وبه كتب كثير من الشواهد في مصر في القرن الثالث، وقد شوهد في كتابات عسقلان سنة 155ه/771 و72م، وفي مقياس النيل بجزيرة الروضة بالقاهرة (القرن الثالث الهجري)، وفي سوسة والقيروان بتونس (في سنتي 245 و285ه)، وهو موجود أيضا في كتابات جامع قرطبة، وفي طليطلة، وفي بلاد القوقاز.
وقد لوحظ في بعض هذه الكتابات استعدادها للتحول إلى زخرفة.
قال كوربت بك: والظاهر أن هذا الإزار هو الذي روى المقريزي في شأنه تلك الأسطورة التي تنوقلت بعده وبالغ فيها بعض المؤلفين المتأخرين حتى رووها كأنها من الحقائق، على أن المقريزي مع أنه مؤرخ عربي قديم كان إذا ما روى الشيء الذي من هذا القبيل قدره ولم يقطع بصحته، وقد نقل هذا الخبر على الوجه الذي يليق به ولم يذكره كأنه مصدق له ، فقال: «ورأيت من يقول إنه عمل له منطقة دائرة بجميعه من عنبر، ولم أر مصنفا ذكره إلا أنه مستفاض من الأفواه والنقلة.» أما في عصرنا فقد زيد فيه حتى صار يؤكد أن القرآن كله كتب حول الجامع بحروف من العنبر.
وقد يكون لكوربت بك مبرر لانتقاد ما جاء عن منطقة العنبر من المبالغة، على أن النص الذي أورده المقريزي يخالف رواية ابن دقماق؛ لأنه يقول إن ابن طولون لما أكمل بناءه أراد أن يعمل بدائره منطقة عنبر معجون ليفوح ريحها على المصلين، ولكن الذي لا نفهمه في تعليقه هو العلاقة التي أوجدها بين منطقة العنبر والإزار؛ لأن هذا الإزار بأعلى الجدران تحت السقف، ولا يتصور أنه وهو على هذا الارتفاع كان يخلق بالعنبر، والذي جرت به العادة هو تخليق القبلة وبعض مواضع في أنحاء المسجد،
39
وهو أمر معروف، وقد ورد في المقريزي نفسه عن عمر بن شيبة أنه قال: إن عثمان بن مظعون تفل في القبلة فأصبح مكتئبا فقالت له امرأته: «ما لي أراك مكتئبا» قال: «لا شيء، إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي» فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم عملت خلوقا فخلقتها فكانت أول من خلق القبلة.
ونفى كوربت بك احتمال كتابة القرآن كله في الإزار، وبين ما يمكن أن يسعه منه، فقال: إن الكتابة 1988 مترا، وفي كل متر تسعة حروف، فتكون حروف الإزار 17892 حرفا، ومجموع الحروف التي يحتوي عليها القرآن الشريف 323671 حرفا، كما ذكره ثقات المؤلفين، فإذا قسمنا هذا المجموع على 17892 كان خارج القسمة 17؛ وعلى ذلك لا يكون في الإزار غير 1/17 من القرآن الشريف.
السقف (لوحة رقم 21 حرف ب، والقطاع شكل رقم
1-10 ) قد تلاشى معظم السقف القديم وكان مكونا من جوائز، كل منها متخذ من فلقين من جذوع النخل، وقد كسيت وجوهها الثلاثة المرئية بألواح من الخشب، وجعل في الفراغ بين كل جائزتين عوارض عمودية عليها فتكونت منها سطوح مرتدة عن العوارض.
شكل 1-10
البوائك أو حبل الطارات (راجع اللوحة رقم 3، والشكلين رقم
1-3
و
1-11 ) تختلف زخرفة واجهات البوائك المحيطة بالصحن من جوانبه الأربعة عن داخل الجامع بوجود عصابة مكونة من سرر من الجص تقوم مقام الإزار الخشبي والطراز الجصي المزينة بهما الجدران والقوائم داخل المسجد، وكل سرة موضوعة في طبق مثمن، وأغلبها محزوز حزا غائرا، وهي على شكلين متناوبين يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا طفيفا، وتحت ذلك سرة كبيرة على يمين وشمال الطاقات الصغيرة، أكثرها موضوع في طبق مستدير متداخل والبعض بارز، ويبلغ عدد ما تخلف منها من السرر الأصلية نحو ثلاثين نوعا، والغالب أن كل عقد صغير في جانبيه سرتان من نوع واحد، ولكن التماثل بينهما يفترق، وقد انفردت من بين ذلك سرتان داخل مربع في حبل الطارات الجنوبي الغربي.
وهذه السرر كلها على وجه التقريب بسيطة وعلى بداءة، وإذا قيل إنها من عمل لاجين، فتكون - كما قال كوربت بك - منقولة عن أصل تنطبق عليه انطباقا تاما؛ لأن العصور المتأخرة لم يتخلف منها شيء من هذا القبيل، ولاجين الوارد ذكره هنا هو الملك المنصور حسام الدين، وإذا وافقنا كوربت بك على أن هذه الزخارف قد تكون له فما ذلك إلا لأنه أجرى بالجامع عمارة كبيرة أورد لها المقريزي خبرا في «خططه» نذكره في كلامنا على التجديدات والعمارات، والشيء الوحيد الذي يرسم في ذهننا أثرا من نظام الصحن في هذا الجامع إنما هو الصحن الكبير بالجامع الأزهر سنة 361ه/971م، إلا أن العمد هناك تحل محل الأرجل، وكان بدائر الصحن شرفات كالتي على الأسوار، لا يزال بعضها موجودا عليه.
وفي سنة 1918 عنيت لجنة حفظ الآثار العربية بتنظيف الزخارف (لوحة رقم 7 و8)، وفي أثناء ذلك كان من حظ حضرة محمد أفندي نافع المهندس المراقب للعمل العثور على قطعة من الزخارف بوجه إحدى الطارات بالبائكة الجنوبية الغربية من جهة الصحن؛ ولهذا الاستكشاف قيمة كبيرة؛ لأنه يعين على تجديد ما امحى من الزخارف بوجهات الطارات الأخرى التي على الصحن.
40
شكل 1-11: نماذج من السرر الجصية المزخرفة بها وجهات الصحن.
الطاقات
41 (راجع اللوحتين رقم 9 (أ) و(ب) و10، وشكل
1-12 ) ولما يقع نظرنا على العقود نلمح صفا من الطاقات مركب عليها شبابيك من الجص مخرمة تتكون من تخريمها أشكال هندسية بسيطة جميلة تدور حول جدران المسجد الأربعة، والسماء من ورائها ترى على بعد كأنما هي من وراء ستر رقيق، وهي على شكل الأقواس الكبيرة معقودة عقدا ستينيا مرفوعا على عمودين قصيرين متخذين في نفس البناء، ويحيط بعقودها طراز من الجص يعتدل ويأخذ اتجاها أفقيا عند مبادئها ليتصل ببعضه بين العقود، كما في الأقواس الكبيرة، وهي منظمة على نسق يجعل كل طاقة ثالثة واقعة على محور عقد.
شكل 1-12
ومن البدهي أن هذا الوصف لا يسري على النهايتين الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية من مقدم الجامع ومؤخره؛ لأن الدعائم تقاطع صدر الجدار، كما هو واضح في الرسم الأفقي، والطاقات تقع الواحدة منها بين صفين من الدعائم، كما أن الطراز الأفقي هناك تقطعه الدعائم.
ويغلب على الظن أن معظم الشبابيك الجصية المركبة على الطاقات لا ترجع إلى ما قبل العمارة الكبيرة التي أجريت في الجامع في القرن الثالث عشر.
قال هرتس باشا: ويؤيد ذلك أن زخرفة باطن شبابيك الجامع الطولوني هي عين زخرفة مدفن قلاون.
وقد صادف أثناء كتابتي هذا البحث أن زارني جناب مستر كريسول فعلمت منه أنه ما زال بين طاقات الجامع ذات الشبابيك الجصية القديمة، وهي ثمانون: أربع من طرز خاص قوام رسمها دوائر متشابكة، وهذا الشكل نفسه يرى في زخرفة بواطن العقود بحبل الطارات الغربي، ولم يعرف شيء من هذا القبيل في الآثار المتأخرة عن عهد الجامع الطولوني؛ وهو لذلك يعتقد أن هذه الشبابيك الأربعة ترجع إلى زمن ابن طولون، وجميعها بجدار القبلة، وهي التي تقع في العد تحت رقم 5 و6 و15 و16، إذا عددنا الطاقات من الشمال إلى اليمين.
وفي اللوحة التاسعة (أ) رسم إحدى الطاقات الأربعة منقولة عن صورة فتوغرافية من رسم جناب مستر كريسول.
ولما نكون في الأروقة الخارجية نرى جدران المسجد فيها الطاقات مصفوفة بطول امتداد وجهاتها، لا يحيط بعقودها طراز ولا زخرفة (لوحة رقم 5).
المحراب الكبير (لوحة رقم 11) لم يكن بالجامع على عهد ابن طولون غير المحراب الكبير الموجود الآن، وهو منحرف عن سمت محراب الصحابة.
قال كوربت بك: وقد حققت ذلك على قدر الإمكان ببوصلة الجيب فوجدت سمت المحراب على 148° وإذا أسقطنا ° وهو مقدار الانحراف المغنطيسي الغربي
42
يبقى لدينا ° أو ° جنوب الجنوب الشرقي، وفي جامع عمرو سمت المحراب على 135° وهو بالضبط الجنوب الشرقي مع إسقاط نحو ° شرق الجنوب الشرقي للانحراف المغنطيسي، وهذا الفرق وهو 13° أورده المقريزي في المجلد الثاني صحيفة 256 عند ذكر محاريب مصر التي يستقبلها المسلمون في صلواتهم وقد قال إنها أربعة: أحدها محراب الصحابة - رضوان الله عليهم - الذي أسسوه في جامع عمرو والبلاد التي كثر ممرهم فيها من إقليم مصر. والمحراب الثاني محراب مسجد أحمد بن طولون وهو منحرف إلى الجنوب عن سمت محراب الصحابة، وقد عقد مجلس بجامع ابن طولون في ولاية قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة حضره علماء الميقات ونظروا في محرابه فأجمعوا على أنه منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب مغربا بقدر أربع عشرة درجة، وكتب بذلك محضر وأثبت على يد ابن جماعة؛ وعلى ذلك تعد هذه القبلة منحرفة وأنها ليست على وضع صحيح. والمحراب الثالث محراب جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر وما في سمته من بقية محاريب القبلة، وهي محاريب يشهد الامتحان بتقدم واضعيها في معرفة استخراج القبلة فإنها على خط سمت القبلة من غير ميل عنه ولا انحراف البتة. والمحراب الرابع محاريب المساجد التي في قرى بلاد الساحل فإنها تخالف محاريب الصحابة، إلا أن محراب جامع منية غمر قريب من سمت محاريب الصحابة.
وقد أفاض المقريزي في هذا الموضوع، ويحسن بالقارئ مراجعة أقواله إذا أحب الاستزادة (راجع «الخطط» ثان، ص256-264).
شكل 1-13
ومما ذكره في سبب انحراف محراب جامع أحمد بن طولون: أن أحمد بن طولون لما عزم على بناء الجامع بعث إلى محراب مدينة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أخذ سمته فإذا هو مائل عن خط سمت القبلة المستخرج بالصناعة نحو العشر درجات إلى جهة الجنوب، فوضع حينئذ محراب مسجده هذا مائلا عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب بنحو ذلك اقتداء منه بمحراب مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقيل إنه رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في منامه وخط له المحراب فلما أصبح وجد النمل قد طاف بالمكان الذي خطه له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام، وقيل غير ذلك.
روى المقريزي ذلك ثم قال: «وأنت إن صعدت إلى سطح جامع ابن طولون رأيت محرابه مائلا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلى الجنوب، ورأيت محراب المدارس التي حدثت إلى جانبه قد انحرفت عن محرابه إلى جهة الشرق، وصار محراب جامع عمرو فيما بين محراب ابن طولون والمحاريب الأخرى.»
وصف المحراب: لا يزال المحراب الطولوني على وضعه الأصلي وتكاد أجزاؤه الأصلية تكون كلها موجودة، وهو من الطرز المجوف نصف دائري، لا يختلف عن غيره من محاريب المساجد إلا في كون تجويفه داخلا في الجدار أكثر مما في المحاريب الأخرى، ويكتنفه من كل من جانبيه عمودان من الرخام متلاصقان لطيفان (شكل رقم
1-13 ) مرتد أحدهما عن الآخر، قائمان في زوايا كسيت بالرخام، ويغلب على الظن أن هذه الأعمدة جمعت أجزاؤها من أبنية قديمة، ما عدا القواعد، فإنها قد تكون عملت خصيصى لهذا المحراب، وقد نجح الصانع الذي عهد إليه بتركيبها في التوفيق بين الأبدان والتيجان والقواعد نجاحا باهرا.
والتيجان الأربعة من الرخام المفرغ كل اثنين منها متشابهان، وهي دقيقة الصنع من الطرز البيزنطي القديم ومن أحسنه صنعا.
منها التاجان الجوانيان من النوع الذي على هيئة السلال وعليهما صحفتان من أجمل المصنوعات فيهما الحوافي منقوشة على مثال التيجان الكورنتية، وعلى أحد التاجين حلزون صغير أو كعكة، وهو من مميزات التيجان اليونانية.
أما التاجان الآخران فإنهما من طرز عتيق مندثر صحفتاهما منقوشتان نقشا عميقا ولهما رفرف على شكل العصابة التي تتوج بها الكرانيش القديمة، وما عدا ذلك من التفاصيل من البيزنطي الخالص.
وقد تفنن الصانع في نقش ذلك إلى حد الإفراط، فأتى بالمعجز في التوريق، وتمكن من الحصول على الظل في عمق كبير.
وإذا نظر الإنسان إلى التزهير الموجود في التاجين الأولين وإلى كيفية عمل السلة والتوريق في التاجين الآخرين تصور أن ما يراه من الجص لا من الرخام، وتجويف المحراب مجلل بألواح من الرخام الملون الأحمر والأبيض والأسود والأخضر، والألواح ليست عريضة ومصفوفة بعضها بجانب البعض تتخللها هنا وهناك أشرطة رفيعة من الرخام.
وفوق هذه الكسوة نطاق من الفسيفساء المذهبة البيزنطية التي اشتهرت بها القسطنطينية وبيت المقدس (الحرم)، وهذه الفسيفساء مكونة من فصوص من الزجاج
43
على شكل الزهور الملتفة والأوراق، ومكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله بمادة سوداء رقيقة كالزجاج، ولا شك في أن هذه الفسيفساء والكسوة المتخذة من الرخام بتجويف المحراب تعديلات أدخلت على المحراب.
قال الأستاذ فان برشم: وهذه الفسيفساء نادرة جدا بالقاهرة، ولا يعرف منها غير ثلاثة نماذج صغيرة في المحاريب: بهذه القبلة، وفي مدرسة قلاون 684 هجرية/1285 ميلادية، وفي مدرسة أقبغا بالأزهر الشريف 734-740 هجرية/1333 و1334-1339م.
وهي في محراب الجامع الطولوني ترجع إلى سنة 696 هجرية/1296م، إذا كانت من عمل لاجين.
والظاهر أن صناعة الفسيفساء لم تتخذ في مصر أبدا، ولم تتداول فيها باستمرار، وهو بحث جدير بأن يعنى بالبحث فيه، ومما يستغرب له أن تلك النماذج الثلاثة ركبت في بحر نصف قرن، وقد روعي في التذهيب والتوريق بهذه الفسيفساء الزخرفة لا النقل عن الطبيعة. وفي مدرسة قلاون (المنصورية) فرع مورق خارج من آنية من فسيفساء («منشورات المعهد الفرنسي» المجلد 52، ص76) من قبيل الزخارف المتخذة من الفسيفساء بجامع عمر ببيت المقدس، ولكنها أدنى منها منزلة.
وفوق ذلك القبو عليه كسوة من ألواح رقيقة من الخشب مكسورة في عدة مواضع وعليها زخارف زهرية لم يحكم وضعها.
أما قطاع عقده المكندج المزدوج فقد علق عليه الأستاذ فان برشم بأنه يبتعد قليلا عن قطاع عقود الجامع التي تكلمنا عليها، ويقترب في شيء من الشبه للقطاع الفاطمي.
ومن أهم ما يلفت النظر في المحراب الكتابة الكوفية المتوج بها؛ لأنها جميلة للغاية، وهي على لوح من الخشب ثخانته ثلاثة سنتيمترات، جرى الكاتب في وضعها على الطريقة التي عمل بها الإزار بأن قطع ما حول حروفها من اللوح فلم يبق سواها، وهي من الكوفي البسيط مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
القبة التي فوق المحراب: وبالسقف أعلى المحراب قبة حديثة صغيرة من الخشب محمولة على مقرنصات.
44
المحاريب الصغيرة: وبالدعامتين اللتين في منتصف حبل الطارات الأول
45
بمقدم الجامع مما يلي الصحن محرابان غير مجوفين مصنوعان من الجص المزخرف، بعض أجزائهما ضائعة.
المحراب الأيمن منهما تحيط به من ثلاث جهات كتابة بالكوفي المشجر تشتمل على اسمي الأفضل والمستنصر، والظاهر أنه من سنة 487 هجرية/1094م،
46
راجع اللوحة رقم 12أ، والشكل رقم
1-14 .
وهذا نص كتابته: (على اليمين) بسملة ... أمر بإنشاء هذا المحراب خليفة فتى مولانا وسيدنا الإمام، (فوق) المستنصر بالله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، (على اليسار) وأبنائه المنتظرين السيد الأجل الأفضل سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين «خليل أمير المؤمنين»،
47
وتحت السطر الأفقي من الكتابة الكوفية سطر صغير ضيق مكتوب فيه: ... ثقة الإمام فخر الأحكا[م] ... لقاسم عبد الحاكم بن وهيب بن عبد الرحمن.
وعبد الحاكم هذا من قضاة مصر في القرن الرابع، وقد ذكر في كتاب «رفع الإصر عن قضاة مصر».
والمحراب الأيسر يحاكي الأيمن، وهو من عمل السلطان لاجين لورود اسمه وألقابه في كتابته بالنص الآتي:
هذا المحراب المبارك مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين لاجين سلطان الإسلام.
شكل 1-14
وهذه الكتابة بخط كوفي جميل مشجر، والمراد بالكوفي المشجر الظاهرة الثانية للكتابة الكوفية البسيطة لما تكاملت عوامل تحولها إلى زخرفة، وذلك أن ما بدا فيها من الرقي في الطور السابق أخذ في الوضوح، وبعد أن كانت الكتابة في العمارة العربية البيزنطية بمعزل عن باقي الزخرفة صارت ترتبط بسهولة بالزخارف العربية التي تحيط بها كلما تقدم الطرز العربي في التحرر عن التأثيرات اليونانية لتقوم منها زخرفة تستعير رسمها من الزخارف الزهرية، فانقسمت رأس الكاف إلى ورقة مزدوجة، وصارت العين في بعض الأحيان على هيئة الزهرة التي تنبثق منها الخوصة في الزخارف، وامتدت النهايات من رءوس الحروف واستدارت على شكل رباط أو على هيئة غصون ملتوية، وسماها البعض في هذا الطور بالكوفي القرمطي
48
وآخرون بذات الزوايا المزخرفة. أما فان برشم فسماها بالخط الكوفي المربع المزهر، أو ذي الزوايا المزهر؛ لأنها مشتقة من النوع السابق.
وكان ظهورها واضحا لأول مرة على العملة التي أصدرها الخليفة الفاطمي المأمون في تونس، والظاهر أنها انتقلت فيما بعد بواسطة الفاطميين إلى مصر، وكانت رائجة أيضا عند العباسيين والأخيرين من أموي الأندلس وغيرهم من الدول الإسلامية، حتى ظهر الخط المستدير المعروف أيضا بالنسخ، فكانت ترى في جميع النقوش التاريخية عند الفاطميين من منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن السادس، وانتقلت إلى القوقاز والعجم والعراق وصقلية وأفريقيا الشمالية والأندلس، وأول كتابة ظهرت منها كانت كتابة القيروان في سنة 341ه.
49
ومن الغريب أن الشبه تام بين هذه الكتابة والنقود التي أصدرها المأمون في تونس، واستمرت هذه الكتابة مدة قرنين سائدة على النقوش والعملة وكانت كثيرة التنوع، ومن أهم أنواعها الزخارف الجصية.
وآخر كتابة تاريخية باقية في القاهرة بالخط المزهر عهدها سنة 555 هجرية،
50
وهي منقوشة بالوجهتين الغربية والبحرية بجامع الصالح طلائع بن رزيك بجوار باب زويلة، وبعد اثنتي عشرة سنة من هذا التاريخ زالت الدولة الفاطمية، وزالت معها الكتابات التاريخية بالخط المزهر.
ومما تقدم يتبين أن كتابة محراب لاجين من النماذج النادرة بالنظر لاستعمال الكوفي المشجر من الطرز الفاطمي في كتابة تاريخية بهذا القلم في مثل هذا العصر المتأخر،
51
والمظنون أن نقش الكتابة كان الغرض منه المطابقة بين هذا المحراب ومحراب المستنصر ليس إلا، وفي الواقع أن كتابات لاجين الأخرى المنقوشة في هذا الأثر هي بقلم النسخ المملوكي.
وفي الصف الثالث من حبل الطارات بجانبي سدة المبلغ محرابان آخران من الجص اعتبرهما فلوري من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) (لوحة رقم 12ب).
والمحراب الخامس من الجص أيضا، وهو في جدار القبلة على يسار المحراب الكبير، اشتهر باسم محراب السيدة نفيسة، وقد زين صدره ودائر عقده بنقش بعض الآيات الشريفة بالكوفي المشجر، أما إطاره فإنه منقوش بقلم النسخ القديم.
وقد ظن كوربت بك أنه من عمل لاجين أو محمد الناصر، ويقول فان برشم برجوعه إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
المنارة (لوحة رقم 13 حرف أ وب، ولوحة رقم 14 حرف أ وب): هذه المنارة من أغرب ما يستوقف الأبصار في الجامع، وتعد من الألغاز؛ لأنها مبنية على شكل لا نظير له في المنائر بجميع الأقطار الإسلامية، وهي تتكون من ثلاث طبقات، واحدة فوق الأخرى: قاعدة مربعة، فطبقة أسطوانية، تعلوها طبقة مثمنة، ويبلغ ارتفاع قمتها عن أرض الجامع 29 مترا، وليس وجه الغرابة فيها يرجع إلى تربيعها؛ فإن كثيرا من المنائر قواعدها مربعة، بل لقصرها وضخامتها أي لانعدام التناسب فيها بين قطاعها الأفقي وطولها، ووجود مراقيها من الخارج على شكل مدرج حلزوني، وهي قائمة في الرواق الخارجي الغربي على بعد 5,36 متر وراء جدار المسجد الخارجي، وتسعة أمتار شمالا من محوره، وهذا الوضع لا يجعل بينها وبين مجموع بناء الجامع علاقة، وفيما بين الجزء البحري من بنائها وبين جدار المسجد عقدان كبيران على شكل حدوة الفرس تبلغ فتحتهما 4,04م، وينتهيان من الجهة البحرية على استقامة الجانب البحري من بناء المنارة بالذات، وهما مبنيان من جهة جدار المسجد بكيفية تدل دلالة ظاهرة على أنهما خارجان عن نظام البناء الأصلي؛ لأنهما عند اتصالهما به يصادفان طاقتين من طاقات المسجد يقطعانهما في وسطيهما ، والعقدان يربطهما ببعضهما سقف مستدير من الحجر مرفوع من طرفيه على أربع كتل مستطيلة من الحجر والبناء، وهي متخذة على هيئة أكتاف مسندة إلى جداري المسجد والمنارة وأصلها من أبنية أخرى.
ومع أن العقدين مبنيان - على ما يظهر - من نفس حجر المنارة بطريقة واحدة إلا أن حجارة العقدين أحكم وضعا من حجارة المنارة، ومع مشابهتهما أيضا من حيث الشكل للعقود المسدودة المتخذة في أجناب قاعدة المنارة، فإنهما مجردان من الحلية التي تحيط بهذه العقود والعقد الذي على مدخل السلم بأسفل المنارة، وزيادة على ذلك تستند رجل العقد القبلي على جانب سلم المنارة مما يدل على أن الاثنين قد بنيا في وقتين مختلفين، وهناك علامات أخرى ظاهرة لمن يتأمل في البناء تدل على أن الجدار الذي يربط العقد الشرقي بالمنارة لم يكن هو وجدار المنارة في الأصل حائطا واحدا.
وقد أدت هذه الملاحظات التي أبداها كوربت بك وتتبعها الأستاذ فان برشم واقتبسناها منهما إلى استنتاج أن العقدين ليسا جزءا من التصميم الأصلي للمنارة وأنهما بنيا في زمن متأخر ليكون بين المنارة وبين المسجد صلة، وقد عني بذلك عناية كبيرة لحفظ التناسق بين العقدين وبين الجزء الأصلي.
ثم قال كوربت بك: ومن ثم تظهر المنارة التي أمامنا بسبب انعدام الاتصال بينها وبين المسجد واختلاف المواد المبنية بها وشكل عقودها - بل بكل جزئية يمكننا ملاحظتها - كأنها تعلن عن نفسها بأنها غريبة عن بناء المسجد، وأنها - وهو الواقع - ليست من عصره.
وبحث كوربت بك في الروايات التاريخية فقرر أنه لم يجد بينها ما يجعله يشك في نسبة هذه المنارة إلى أحمد بن طولون، ثم قال: وما ذكره المقريزي وتداوله بعده وزخرفه كتاب هذا العصر قد بدأه بقوله: «قيل»، وهو لفظ معناه: «روى المؤلفون أو بعضهم»، مما لا يتعين به وقت رواية الخبر، ولكن الناقلون له حرفوه؛ ولذلك أنقله كما رواه المقريزي بحروفه وهو: «قيل عن أحمد بن طولون أنه كان لا يعبث بشيء قط، فاتفق أنه أخذ درجا أبيض بيده وأخرجه ومده واستيقظ لنفسه وعلم أنه قد فطن به، وأخذ عليه لكونه لم تكن تلك عادته فطلب المعمار على الجامع وقال: تبني المنارة التي للتأذين هكذا، فبنيت على تلك الصورة.»
52
وهذا الخبر لا أشك في أنه من الأقاصيص المخترعة، غير أنه يدل على أن المنارة كانت منسوبة لابن طولون، وأن شكلها الخاص لفت نظر الناس إليها، ولو صدقناه وجدناه يحوم حول المنارة بالذات كأن لا علاقة لها بالمسجد؛ لأن مغزى الخبر نفسه واضح في أن شكل المنارة لم يفكر فيه إلا بعد بناء الجامع.
ثم قال: والظاهر أن هذا الخبر وضع ليبين السبب في اتخاذ المنارة على هذا الشكل، وهو ما لا يمكن التسليم به؛ لأن المقريزي روى عن القضاعي خبرا وجيزا دل على الزمن الذي بنيت فيه، هذا نصه حرفيا: «وبناه على بناء جامع سامرا، وكذلك المنارة»؛ لأن المفهوم من ذلك هو أن بناء المنارة كان متقدما على زمن القضاعي.
53
وفي الخبر بيان آخر ستظهر صحته الأيام عن النموذج الذي بني عليه المسجد والمنارة، ولكنه لم يأتنا بجديد؛ لأنا لا نزال نجهل الوضع المبني به جامع سامرا ومنارته، على أني بالرغم عن ميلي إلى القول بأن المنارة من عصر متأخر، وأعني عصرا فاطميا، أرى أن الأسلم هو ترك الفصل في هذا الموضوع الآن.
على هذا النحو ختم كوربت بك قوله مترددا في نسبة المنارة لابن طولون، مع أنه يميل إلى القول بأنها من عصر فاطمي.
وقد علق فان برشم على الشطر الأخير بقوله: إن البقايا الموجودة من المنائر الفاطمية الكبيرة هي التي بجامع الحاكم، ولا صلة بينها وبين منارة أحمد بن طولون، ومن رأيه أن المنارة لأحمد بن طولون، ولكنها لم تكن داخلة في تصميم المهندس لما بنى الجامع، وإنما هي وليدة هواه.
وألحق كوربت بك قوله بملحوظ قال فيه: وبعد أن كتبت ما تقدم أطلعني مستر و. م كونواي على صورة برج متخرب من أبراج النار بفيروزاباد في كتاب «ميديا وبابيلون وفارس» (تأليف زينائيد وأ. رجوزان، صحيفة 151 و153)، فرأيته على شكل منارة ابن طولون، وإذا رجعنا إلى ما قيل من أنها بنيت على هيئة منارة سامرا لا يتعذر القول بأنها مأخوذة من أصل فارسي، وأن مؤذن ابن طولون المسلم كان يدعو إلى الصلاة فوق برج بانيه مجوسي، فتكون المنارة من أصل شرقي، ولا علاقة لها بالمعمار النصراني الذي أكثروا من ذكره.
وتناول مستر كريسول هذا الموضوع في كتابه «السلسلة التاريخية عن الآثار العربية» «كرونولوجي» (صحيفة 46-48) فجاء بعدة ملاحظات قيمة، رأينا ألا نغفلها، قال: إن كوربت وفرنز باشا (في كتابه «القاهرة» (كايرو)، ص11) وغيرهما ذهبوا إلى أن المنارة متأخرة في العهد عن الجامع، والمؤكد أنها ترجع إلى ما قبل سنة 375 هجرية/985 و86م؛ لأن المقدسي (طبع دوجوج، ص199) كتب عنها في تلك السنة فقال: ومنارته من حجر صغيرة درجها من خارج، وإني لا أشك في أنها من بناء ابن طولون، وقد ذكر المقريزي القضاعي - وكان موجودا في سنة 454ه/1062م
54 - بمناسبة قوله: إن ابن طولون بنى الجامع على بناء سامرا، وكذلك المنارة، وقد قال ابن دقماق الذي توفي في سنة 1406 ميلادية مثل ذلك عن الجامع ولم يذكر المنارة صريحا (ج4، ص123)،
55
ولا شك أن المقريزي يريد منارة سامرا، وهي المنارة التي بناها المتوكل سنة 847-861 ميلادية، وما زالت موجودة، وتعرف باسم المنارة الملوية، وقد ذكرها كينير في سنة 1814، وذكرها أخيرا فرازر وريش والقومندور جونس وفون تيلمان، ومع ذلك فقد بقيت مجهولة إلى ما قبل اليوم بعشر سنوات.
ومما يلفت النظر أن منارة ابن طولون، وإن تكن من فوق مستديرة ومن تحت مربعة، فالمحقق أنها كانت في وقت من الأوقات أكثر شبها بمنارة سامرا عما هي عليه الآن (راجع المقريزي، ج2، ص267، وابن دقماق، ج4، ص124، وأبا المحاسن، ج2، ص8 و9) وقد رووا عن أحمد بن طولون حكاية الدرج الأبيض، وهذه الحكاية نفسها متداولة عن المنارة الملوية بسامرا، على أنه إذا انطبق ما جاء فيها من الوصف على المنارة الملوية فإنه لا ينطبق على منارة ابن طولون، كما هي الآن، وهذا يفضي بنا إلى السؤال الآتي :
هل أدخلت على المنارة تعديلات؟ الجواب: نعم؛ لأننا إذا بحثنا نجد أن العقدين الموجودين على شكل حدوة الفرس اللذين يصلان المنارة بالمسجد يرجعان إلى زمن متأخر؛ لأن هناك شباكين يقطعانهما في مرورهما، وإذا اعتبرنا - ولنا الحق - أن القاعدة المربعة والعقدين المتصلين بالجامع عهدهما متأخر، فما هو العصر الذي يعين لهما؟
قال ناصر خسرو، وقد زار القاهرة في خلال سنة 1047 و48: إن أولاد ابن طولون باعوا الجامع للحاكم في أيامه بمبلغ 30000 دينار، وبعد قليل شرعوا في هدم المنارة، ولما سئلوا في ذلك قالوا: إنهم لم يبيعوها، وعند ذلك ألزمهم الخليفة بأن يستردوا الجامع (راجع ترجمة شيفر، ص145 و146)، والمحتمل أن تكون المنارة حصل فيها تجديد وقتئذ، ولو أن مؤرخي الجامع سكتوا عن هذا الموضوع، وعلى أي حال كانت المنارة بحالة سيئة لما لجأ لاجين إليها.
ثم قال مستر كريسول: ومن المناسب أن ننظر فيما إذا كان شكلها الحالي يرجع إلى ذلك الوقت، وعلق على ذلك بأن هناك علامتين متباينتين تدلان على ذلك؛ الأولى: عقدان على هيئة حدوة الفرس وهما اللذان ذكرناهما فيما تقدم، وعقد من قبيلهما بنهاية السلم (لوحة رقم 14 حرف أ)، وأربعة أزواج من العقود المسدودة بالوجوه الأربعة من المربع التحتاني من المنارة، والأعمدة اللولبية المضلعة المتخذة كحوامل في الوسط لثلاثة من العقود المذكورة؛ لأن العقود التي من هذا القبيل ظهرت لأول مرة في مدرسة وتربة قلاون 683 و84 هجرية، فوق المدخل، ووجدت عقود منها على منارة هذه المدرسة ومنارة مدرسة تربة سلار وسنجر الجاولي 703 هجرية، ثم قال: ومن المحتمل جدا أن يكون قسم من التغييرات التي وقعت في المنارة من ضمن الأعمال التي أجراها لاجين في سنة 696 هجرية، وكذلك النهاية التي على هيئة المبخرة الموجودة الآن تتفق مع هذا التاريخ (راجع «السلسلة التاريخية» لكريسول، ص46-48).
ولما أزيلت المباني الملاصقة للمنارة وانكشف جانبها تبين أن الحجارة المكونة منها المداميك لم تنحت سطوحها، وأن هناك فرقا عظيما بين مباني الجامع والمنارة.
وللتثبت مما إذا كان بناء المنارة كله خارجا وباطنا من عصر واحد، نقب فيه نقب بعرض متر وارتفاع ثلاثة أمتار تقريبا في الجانب الجنوبي من الكتلة المكونة للقاعدة بارتفاع الصفف التي على هيئة طاقات، فظهر ما يأتي:
أولا:
أن البناية على امتداد النقب كله من نوع واحد.
ثانيا:
أنه لا يوجد فاصل في أجزاء البناء بين خارج البناء وداخله.
ثالثا:
لم تصادف أية علامة يستدل منها على وجود بناء داخلي أسبق في العهد من البناء الظاهري.
وقد تقدم أن مستر كريسول يرى أن التماثل قائم بين منارتي جامعي ابن طولون وسامرا، ولكن هذا التماثل غير موجود؛ لأن الشكل الظاهري يختلف في كل من المنارتين عن الأخرى اختلافا تاما: فإن منارة سامرا مبنية من أسفلها بناء حلزونيا يدور ست دورات صاعدا بانحدار خفيف يقوم مقام الدرج، ومنارة ابن طولون على العكس من ذلك لها قاعدة مربعة وسلم خارجي مدرج بأربع قلبات وأربعة أجناب ينتهي إلى بسطة فسلم حلزوني ينتهي بعد نصف دورة يصعد منه إلى بسطة أخرى يستند عليها الجزء العلوي الذي على هيئة مبخرة من الطرز المعروف في أبنية العصر الأيوبي.
وقد ذهب مستر كريسول أيضا فيما ذكره إلى أن المنارة الأخيرة من بناء ابن طولون واستند في نظريته على رواية المقريزي (جزء ثان، ص266) عن القضاعي بأن ابن طولون بنى جامعه على بناء جامع سامرا، وأن هذه المنارة على رواية المقدسي من حجر صغيرة درجها من خارج، ولكن بعد الإيضاحات التي أوردناها لم يبق للشك مجال في أن البناية الموجودة الآن ليست من القرن الرابع الهجري ولا الثالث.
ويظهر أن مستر كريسول مقتنع بحقيقة ذلك حتى أنه لم يتردد في القول بأن المنارة وقع فيها تبديل («كرونولوجي»، ص47)، على أنه لم يظهر من الاستكشاف الذي عمل ما يمكن اعتباره تبديلا أو ترميما حقيقيا، وأن البناء مشيد في وقت واحد من أسفل إلى أعلى على قاعدة واحدة، ولا بأس من أن نسلم بما قاله المؤرخون من أن المنارة كانت متخربة لما اختفى فيها لاجين في سنة 693، ولكن يظهر أن الأقرب إلى الاستنتاج هو أنه بعد وقوع هذا الحادث التاريخي كان من المتيسر هدم المنارة وإعادة بنائها عن ترميمها (هذه الملاحظة الأخيرة اقتبسناها من مجموعة لجنة حفظ الآثار العربية سنة 15-19، ص21 و22، الطبعة الفرنسية).
قال الأستاذ فان برشم: ولم يكن المقرنص الذي على شكل خلايا الموجود بالطبقة العليا من المنارة معروفا على عهد ابن طولون («مجموعة الكتابات العربية المنقوشة»، القاهرة، ص75 من المجلد الثاني والخمسين من منشورات المعهد العلمي الفرنسي).
وقال أيضا في موضع آخر: إن الشبه متوفر بين هذه المنارة ومنار الإسكندرية الذي رمه أحمد بن طولون المتواتر ذكره في المؤلفات التاريخية العربية، والذي وصفوه بأنه «ثلاثة أشكال: فقريب من النصف وأكثر من الثلث مربع الشكل بناؤه بأحجار بيض، ثم من بعد ذلك مثمن الشكل مبني بالحجر والجص، وأعلاه مدور» (مقريزي، ج1، ص157)، ومنارة ابن طولون بهذا الوضع إلا أن الدور الثاني أسطواني.
وكان بأعلى المنارة مركب من نحاس تعرف بالعشاري، وهي مرسومة في اللوحة التاسعة والعشرين من أطلس كتاب «وصف مصر».
قال المقريزي: «والعامة يقولون: إن العشاري الذي على المنارة المذكورة يدور مع الشمس، وليس صحيحا، وإنما يدور مع دوران الرياح.»
قال كوربت بك: ولم تنفرد هذه المنارة بالمركب التي فوقها؛ لأن الأمثلة منها كثيرة بمصر، من ذلك مركب قبة الإمام الشافعي، وقد رأيت مثلها كثيرا بمساجد عديدة بالأقاليم وفي رشيد،
56
وكانت تملأ بالحبوب ليأكل منها الطير، وقد أورد الجبرتي خبر سقوطها في حوادث سنة 1105 هجرية،
57
ورآها المقريزي قبله وذكرها مرتين (ج2، ص266 و267)، وكذا ابن دقماق (رابع، ص123).
الميضأة التي في وسط الصحن: (لوحة رقم 15 حرف أ) وفي وسط الصحن ميضأة مرفوع عليها قبة كان محلها في الأصل - على ما ذكره المقريزي - بناء أعلاه قبة مشبك من جميع جوانبه على عشر عمد رخام، ويحيط به ستة عشر عمودا من الرخام، ويفهم من ذلك أن هذا البناء كان على شكل مخمس ترتكز كل زاوية من زواياه على عمودين، وحول ذلك مثمن محمول على عمد بالترتيب السابق، وتحت القبة قصعة من رخام قطرها أربعة أذرع (أعني مترين وثلاثين سنتيمترا)، وفي وسطها فوارة، والظاهر أنه بالرغم من اضطراب عبارة المقريزي وغموضها، أن سطح المثمن كان محاطا بدرابزين ساج
58
ويستعمل للأذان، وقيل بل كان المستعمل لذلك السلم، وكانت على القبة علامات الزوال.
قال كوربت بك: والظاهر أن هذه الفوارة لم تكن مخصصة للوضوء، وإنما اتخذت زينة في الصحن، وقد روي أن ابن طولون لما فرغ من بناء الجامع قال رجل: ليست له ميضأة، فقال له: أما الميضأة فإني نظرت ما يكون بها من النجاسات فطهرته منها، وأنا أبنيها خلفه، ثم أمر ببنائها.
وفي ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وسبعين وثلاثمائة (986م) احترقت الفوارة فلم يبق منها شيء.
وفي المحرم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة/995م أمر العزيز بالله ابن المعز الخليفة الفاطمي، وقيل بل أمه تغريد،
59
ببناء فوارة عوضا عن التي احترقت فعمل ذلك على يد راشد الحنفي، وتولى عمارتها ابن الرومية وابن البناء، وهي أول عمارة أجريت في الجامع وحفظ لنا التاريخ ذكرها، وفيما بعد أقيم محل هذه الفوارة البناء الموجود الآن، وهو مكون من قاعدة على شكل قائم الزوايا 12,87م × 14,38م، وأطول أضلاعه الجنوبي الشرقي والشمالي الغربي، وهذه القاعدة مشيدة بحجر جيد من جبل المقطم فوقه منطقة اتصال مكونة من طبقتين من الحنايا من قبيل ما في جامع بيبرس الجاشنكير المبني في سنة 706-709ه/1306-1309م، وعلى هذه الحنايا سقف مثمن من الخارج وشبه مستدير من الداخل، مرفوع عليه قبة قطاعها ستيني، وهذه القبة تشغل من البناء مربعا ضلعه 12,87 في القسم الجنوبي الغربي، وما زاد بعده من البناء في الجهة الشمالية الشرقية يحتوي من الداخل على سلم كان يصعد منه إلى غرفة صغيرة في الركن الشمالي الشرقي من السطح.
وفي كل جانب من الجوانب الأربعة من البناء عقد كبير لا ارتداد فيه مبني بالآجر المجلل بالجص، والظاهر أن هذه العقود لم يكن تحتها أبواب بل كان البناء مفتوحا في جوانبه الأربعة، والأرض مفروشة بالرخام وأكثره ألواح طويلة شقت من عمد.
ولا يوجد في القاهرة قبة أخرى أقيمت لتكون ميضأة، والمشاهد في كثير من المساجد والمدارس كجامع السلطان حسن مثلا هو وجود ميضأة عليها قبة أو مظلة بسيطة على عمد من الرخام أو الحجر وليست على قاعدة ذات قطاع مربع، ولا يخامرنا شك في أن هذه الميضأة من تجديدات الملك المنصور لاجين، وتدل على ذلك كتابة منقوشة في لوح من الخشب بقلم نسخ نصها:
أمر بإنشاء هذه القبة المباركة والفسقية والساعات الشريفة مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين لاجين المنصوري، في سنة ست (؟) وتسعين وستمائة (1296 ميلادية).
وهذا اللوح مثبت بأعلى الزاوية الشمالية الشرقية من القاعدة، ولهذه الكتابة أهمية تاريخية؛ لأن الميضأة لم يذكرها المقريزي في كلامه على عمارة لاجين، كما أن القبة التي عليها تمتاز من الوجهة الأثرية بكونها على هيئة القباب التي لم تؤلف إلا في الأضرحة، والمراد بالساعات في هذه اللوحة المزولة التي تتخذ لإخراج ساعات النهار، ولقد عثر الفرنسيون لما احتلوا هذه البلاد على لوح من الرخام منقوش عليه مجموعة من الخطوط تحتوي في الوسط على أسماء الساعات ومنطقة البروج، والاتجاهات مكتوبة بالقلم الكوفي المعروف بالفلكي، وفي الطرف سطر بالكوفي الدقيق يقرأ منه:
أمر بعمل هذه الساعات بالجامع المعروف بأحمد بن طولون تغمده الله برحمته في سنة 696.
ولا يبعد أن تكون هذه المزولة هي المقصودة بكلمة الساعات في الكتابة التي على القبة الوسطى، وهي مندرجة في أطلس كتاب «وصف مصر»، ج2، لوحة حرف ج.
60
ومما تقدم يتبين أن لاجين لم يبن هذه الميضأة على مثال الفوارة الأصلية،
61
والدليل على أنها ميضأة الحوض الكبير المثمن، وإشارة الآية الشريفة المنقوشة على القبة من الداخل إلى الوضوء. (كوربت بك في «المجلة الآسيوية» سنة 1891، ص545، و«منشورات المعهد العلمي الفرنسي» المجلد 52، ص76، و«خطط المقريزي» بتصرف). (6) بعض العمارات والتجديدات التي أجريت بالجامع
عمارة بدر الجمالي
ذكرنا فيما تقدم تجديد العزيز أو أمه تغريد للميضأة، ولم يرد في التاريخ بعد ذلك ما يستدل منه على إجراء عمارات أو تجديدات بالجامع إلى أيام المستنصر بالله الخليفة الفاطمي؛ إذ أجرى به بدر الجمالي عمارة لا زال أثرها مشاهدا على باب كبير مسدود الآن بالبناء في السور الخارجي على بعد نحو ثلاثين مترا من الزاوية الشمالية الشرقية؛ حيث يقرأ الإنسان ما بين نجاف (عتب) الباب والشرفات كتابة بالكوفي الجميل المزهر منقوشة في لوح من الرخام مقاسه 0,260 × 0,45 نصها:
بسملة ... (2) نصر من الله وفتح قريب لعبد الله ووليه معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين (3) أمر بتجديد هذا الباب وما يليه عند عدوان النار على ما أبدعه المارقون فيه السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام أبو النجم بدر المستنصري (4) أدام الله قدرته وأعلى كلمته ابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته، وذلك في صفر سنة سبعين وأربعمائة، الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما . (راجع اللوحة رقم 16).
وتدل هذه الكتابة وإن كانت غير صريحة على أن الحوادث العظيمة التي جرت على عهد المستنصر في الشدة العظمى، وقد أشرنا إليها فيما تقدم، نال منها جامع ابن طولون نصيبه لما ثار الأتراك والعبيد وتجمعوا لمحاربة بعضهم مرارا ظهر في آخرها الأتراك وهزموا العبيد إلى بلاد الصعيد، فاغتر ابن حمدان مقدمهم وعاد إلى القاهرة وقد عظم أمره وقوي جأشه واستخف بالخليفة وخرق ناموسه، وطال الفساد إلى أن انتهى بالاعتداء على القصر والمكتبة فنهبا نهبا بمرأى ومسمع من الخليفة، وزادت المصائب بوقوع الطاعون والجوع فالتهمت القاهرة والفسطاط، وصار الخليفة على آخر رمق إلى أن فكر في بدر الجمالي نائبه بالشام فاستدعاه ليعيد الأمن إلى نصابه فأبحر إليه في سنة 465، وتم له الفوز، وقد أشار المقريزي إلى ما تركته هذه الحوادث من الأثر فقال: وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط، وخلا موضع العسكر والقطائع وظاهر مصر مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش.
والظاهر أن بعض الثائرين، وقد سماهم المقريزي بالمارقين، توصلوا إلى الجامع وتحصنوا فيه فحوصروا وأحرق بسبب ذلك جزء منه جدده بدر الجمالي سنة 470، ولما تم ذلك أشار إلى هذه الحوادث في الكتابة التي وضعها تذكارا لعمارته.
عمارة الحافظ الفاطمي
وفي سنة 526 ه/1132م أحدث القاضي سراج الدين باسم الخليفة الحافظ بعض أعمال في الجامع لم تدل عليها كتب المؤرخين ولا الكتابة التي كانت في الجامع واندثرت، وهي مندرجة في كتاب «وصف مصر» بالكوفي الخفيف المزهر، وبها اسم الخليفة الحافظ الفاطمي، ونصها حسب قراءة جناب الأستاذ جاستون فييت مدير دار الآثار العربية: (1) بسملة ... مما أمر بإنشائه عبد الله ووليه مولانا وسيدنا عبد المجيد أبي (2) الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين (3) على يد (؟؟) عبده (؟) ومملوكه القاضي المؤيد الأمير سراج الدين علم المجته[د]ين (كلمة) المؤمنين (كلمة) الإمام وعمدة الأحكام (4) نظام (؟) الملة وجلاله فخر الأمة وكماله (كلمة) الدولة النبوية عماد الخلافة العلوية الحافظية درا (5) لمآثر والفضائل ولي أمير المؤمنين أبو الثريا نجم بن جعفر (كلمة) الله (11-13 كلمة) وعشرين (؟) شوال (؟) سنة ست (؟) وعشرين (؟) [وخمسمائة].
ولقد عانى في هذه القراءة مشقة، وكان الأستاذ فان برشم حاول ذلك فلم يتمكن من قراءة كل الكلمات على صحة فاستدرك ذلك الأستاذ فييت (راجع تعليقاته في «منشورات المعهد العلمي الفرنسي» المجلد 52، ص82 وما يليها).
وكان سراج الدين أبو الثريا بن جعفر قاضي القضاة بالقاهرة من جمادى الثانية سنة 526 إلى شوال أو القعدة سنة 528، وفي هذا التاريخ قتله حسن ابن الخليفة الحافظ لما تغلب على الأمر، وقد ورد ذكره في كتاب «رفع الإصر عن قضاة مصر» لابن حجر العسقلاني.
اتخاذ الجامع مأوى للغرباء: قال الرحالة الشهير أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي البلنسي عند ذكره هذا المسجد الكبير أن السلطان صلاح الدين يوسف جعله «مأوى للغرباء من المغاربة، يسكنونه ويحلقون فيه، وأجرى عليهم الأرزاق في كل شهر. قال: ومن أعجب ما حدثنا به أحد المتخصصين منهم أن السلطان جعل أحكامهم إليهم ولم يجعل يدا لأحد عليهم، فقدموا من أنفسهم حاكما يمتثلون أمره ويتحاكمون في طوارئ أمورهم عنده، واستصحبوا الدعة والعافية وتفرغوا لعبادة ربهم، ووجدوا من فضل السلطان أفضل معين على الخير الذي هم بسبيله.» وقد عرفت بهم الجهة التي بها الجامع فكانت تسمى «خط المغاربة»، وكانت رحلة ابن جبير إلى مصر في سنة 578 هجرية.
اتخاذ الجامع كمخزن أو مخبز للغلال: وفي سنة 662 هجرية/1263 ميلادية جعل الجامع - على ما يظهر - مخزنا أو مخبزا؛ لأن المقريزي يقول: «وأمر السلطان بيبرس البندقداري» أن يفرق من الشون السلطانية على أرباب الزوايا كل يوم مائة إردب بعدما يعمل خبزا بجامع ابن طولون.
62 (ورقة رقم 156، مجلد 2، من الجزء الأول والثاني من «السلوك» للمقريزي من النسخة المأخوذة بالفتوغراف ومحفوظة بدار الكتب).
عمارة حسام الدين لاجين
وقال المقريزي: لما قتل الأشرف بناحية تروجة في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكان ممن وافق الأمير بيدرا، قاتله الأمير حسام الدين لاجين المنصوري والأمير قراسنقر، فلما قتل بيدر في محاربة مماليك الأشرف فر لاجين وقراسنقر من المعركة فاختفى لاجين بالجامع الطولوني، وقراسنقر في داره بالقاهرة، وصار لاجين يتردد بمفرده على الجامع وهو حينئذ خراب لا ساكن فيه وأعطى الله عهدا إن سلمه من هذه المحنة ومكنه من الأرض أن يجدد عمارة الجامع ويجعل له ما يقوم به، ثم إنه خرج منه في خفية إلى القرافة فأقام بها مدة وراسل قراسنقر فتحيل في لحاقه به، وعملا أعمالا إلى أن اجتمعا بالأمير زين الدين كتبغا المنصوري وهو إذ ذاك نائب السلطنة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون القائم بأمور الدولة كلها فأحضرهما إلى مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء ومماليك السلطان فخلع عليهما وسار كل منهما إلى داره وهو آمن، فلم تطل أيام الملك الناصر في هذه الولاية حتى خلفه الأمير كتبغا، وجلس على تخت الملك، وتلقب بالملك العادل فجعل لاجين نائب السلطنة بديار مصر، وجرت أمور اقتضت قيام لاجين على كتبغا وهو بطريق الشام ففر كتبغا إلى دمشق واستولى لاجين على دست المملكة، وسار إلى مصر وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل، وتلقب بالملك المنصور في المحرم من سنة ست وتسعين وستمائة، فأقام قراسنقر في نيابة السلطنة بديار مصر وأخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى كرك الشوبك فجعله في قلعتها، وأعانه أهل الشام على كتبغا حتى قبض عليه وجعله نائب حماة فأقام بها مدة سنين بعد سلطنة مصر والشام، وخلع على الأمير علم الدين سنجر الدواداري وأقامه في نيابة دار العدل وجعل إليه شراء الأوقاف على الجامع الطولوني، وصرف إليه كل ما يحتاج إليه في العمارة وأكد عليه ألا يسخر فيه فاعلا ولا صانعا وألا يقيم مستحثا للصناع، ولا يشتري لعمارته شيئا مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلا بالقيمة التامة، وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله، وأشهد عليه بوكالته، فابتاع منية أندونة من أرض الجيزة، وعرفت هذه القرية بأندونة كاتب مصر كان نصرانيا في زمن أحمد بن طولون، وممن نكبه وأخذ منه خمسين ألف دينار، واشترى أيضا ساحة بجوار جامع أحمد بن طولون مما كان في القديم عامرا ثم خرب وحكرها، وعمر الجامع وأزال كل ما كان فيه من تخريب وبلطه، وزاد لتحسين المحراب الكبير - على ما يظهر - التعديلات التي أدخلت عليه على ما بيناه في وصفه، وأنشأ القبة التي فوقه أو الجزء السفلي منها على الأقل.
ومما تخلف من هذه العمارة قطعة من نحاس طولها 1,40 متر مكتوب عليها بقلم نسخ متوسط:
أمر بتجديد هذا الجامع مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين لاجين.
وهي معروضة بدار الآثار العربية.
وبيضه ورتب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة التي عمل أهل مصر عليها، ودروسا يلقى فيها تفسير القرآن الكريم، ودرسا لحديث النبي
صلى الله عليه وسلم ، ودرسا للطب، وقرر للخطيب معلوما، وجعل له إماما راتبا ومؤذنين وفراشين وخدمة، وعمل بجواره مكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله عز وجل، وغير ذلك من أنواع القربات ووجوه البر،
63
فبلغت النفقة على عمارة الجامع وثمن مشتملاته عشرين ألف دينار.
وقد ذهب البعض إلى أن ما بقي من سقف المسجد هو من عمل لاجين لقول ابن إياس: إن الجامع كان خربا بغير سقف مدة 170 سنة (ج أول، ص136)، ولكن من يتأمل في طرز هذه البقايا يميل لنسبتها إلى عصر إنشاء المسجد، وما عدا ذلك جددته لجنة حفظ الآثار العربية في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.
المنبر (اللوحات رقم 17 و18 و19 و20 وشكل رقم
1-15 ): ومن إصلاحات لاجين أنه أزال ما كان في الجامع من تخريب، وسقفه وبلطه، وعمل له منبرا بعد أن نقل منه منبره القديم.
وكان منبر لاجين لا يزال في محله كاملا في سنة 1845 ميلادية لما حضر إلى القاهرة مستر جيمس ويلد أمين متحف سوان بلوندرة وتمكن من فحصه ورسمه رسما دقيقا، ومن يطلع على هذا الرسم يرى أن المنبر كان يحتوي في كل جانب على شكل هندسي دائري كبير في وسطه نجمة تحيط بها ثمان حشوات كبيرة مثمنة تتبادل بين نجوم وأشكال عربية، وبأعلى الشكل وأسفله أنصاف من أربعة أشكال من الرسم نفسه ، ثم امتدت إليه الأيدي ونزعت منه حشواته المتخذة من الساج الهندي «التك» والعظم والأبنوس.
شكل 1-15
وقد اشترى منها متحف سوث كينسينجتون (المسمى الآن متحف فكتوريا وألبرت) ست حشوات مستطيلة من الخشب المنقوش، وبمساعدة الرسم الذي وضعه مستر جيمس ويلد تمكن المتحف من تركيب هذه الحشوات في مربع كبير، ثم فصلت القطع عن بعضها، وعرضت منفردة على جدران المتحف تحت رقم 1085، ومن بينها حشوتان منقوش عليهما الكتابة الآتية، وهي بقلم النسخ المملوكي بحروف صغيرة، وقد نشرها مسيو لين بول في كتابه «الفن الإسلامي» (ص131، وشكل 40)، وهي بالنص الآتي، كما نقلناه عن فان برشم: (1) أمر بعمل هذا المنبر المبارك مولانا السلطان (2) الملك المنصور حسام الدنيا والدين لاجين (3) المنصوري، وذلك في العاشر من صفر من شهور (4) سنة ست وتسعين وستمائة (1296م) أحسن الله عاقبتها.
وعلى باب المنبر كتابة أخرى باسم لاجين في لوح آخر تشتمل على تاريخ إنشاء المنبر، والنص واحد، ويؤخذ من هذا التاريخ أن لاجين بمجرد جلوسه على كرسي السلطنة في يوم الإثنين 28 محرم/ 26 نوفمبر من تلك السنة شرع في الوفاء بنذره.
والقطع الأخرى مزخرفة بنقوش مشجرة مورقة من شغل ممتلئ عريض (ميجون «الفن الإسلامي»، ص104).
وفي كتاب رونيه المسمى «أيام في القاهرة» صورة منقولة عن بعض تفاصيل المنبر (رسم 1، دوزا في سنة 1830م).
وفي سنة 1905 ميلادية أهدى مسيو جودفروي بروار من فلورنسا لدار الآثار العربية ست قطع من حشوات المنبر، وكان قد حضر إلى القاهرة سائحا، وهو من المولعين بالآثار، فرأى عنده هرتس باشا اثنتي عشرة قطعة من هذه الحشوات، وكان قد اشتراها، ولما عرف منه أنها من المنبر أهدى لدار الآثار القطع الست المذكورة، والباقي سلمه لهرتس باشا ليصنع مثله.
وفي سنة 1908 ميلادية في مرور هرتس باشا بفينا رأى في متحف الفنون والصنائع بعض حشوات من الخشب المنقوش مكتوب عليها ما يفهم منه أنها مأخوذة من سقف جامع ابن طولون، فأدرك أنها لا بد أن تكون من المنبر، وطلب من المتحف أن يرسل له من الحشوات صورا فتوغرافية بالحجم الطبيعي ليتم منها ما ينقص من أجزاء المنبر الأصلية، وقد أجيب إلى طلبه، فاجتمع عند اللجنة ما يساعد على إرجاع هذا الأثر النفيس إلى أصله، وقد تم ذلك، وأعيد المنبر إلى ما كان عليه.
وعلى عهد السلطان لاجين أوقف شادي بن شيركوه على الجامع شمعدانا من النحاس محفوظا الآن بدار الآثار العربية، وهو يحتوي على أربعة سطور مستديرة، منها سطر على البدن وآخران على الرقبة مكتوب فيها ما يأتي:
على البدن
السطر الأول، بقلم نسخ متوسط:
مما عمل برسم الجامع المعمور ببقاء سيد ملوك المسلمين مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين أبي (ابن) عبد الله لاجين الذي تقرب إلى الله تعالى بعمارته.
السطر الثاني، بالنسخ الدقيق:
المعروف بابن طولون تقبل الله منه ذلك، وأحسن إليه في الدنيا والآخرة، وجعله في صحائف حسناته.
على الرقبة
السطر الثالث، بالقلم السابق:
تقرب بوقفيته على جامع ابن طولون في المحراب.
السطر الرابع، بالقلم نفسه:
العبد الفقير إلى الله تع شادي ابن شيركوه أثابه لله تعالى الكبير.
وتلت عمارة لاجين عمارات جزئية، منها: أن القاضي كريم الدين الكبير جدد في الجامع مئذنتين في عهد الناصر (مقريزي ج2، ص269)، وقد ذكرناهما فيما تقدم.
وفي سنة 702ه/1302م لما نكبت القاهرة بالزلزال وسقط كثير من جوامعها القديمة لم يصب الجامع الطولوني بشيء مهم على ما يظهر (كاترمير «السلاطين المماليك»، ج2، (2)، ص214 وما بعدها).
وفي سنة 792ه/1390م جدد الحاج عبيد بن محمد بن عبد الهادي الهويدي البازدار مقدم الدولة في أيام السلطان برقوق الرواق الغربي الملاصق للمئذنة الكبرى، وجدد ميضأة بجانب المئذنة القديمة
64
التي كانت - على ما يظن - في الجناح البحري الغربي من هذا الرواق حيث توجد الآن ساقية.
وقد أغفل المقريزي وابن دقماق المحل الذي كانت به، ولم يذكرا عنها إلا أنها كانت في مؤخر الجامع (ابن دقماق، ج4، ص123، ومقريزي، ج2، ص269).
وفي سنة 930 هجرية/1523 ميلادية أنشأ شخص يعرف بشرف الدين المديني على يسار المنارة الكبيرة مصلى وتربة على بابها قطعة من الخشب منقوش فيها كتابة بهذا المعنى.
وعلى عهد محمد بك أبي الذهب أنشئت في الجامع ورشة لعمل الأحزمة الصوف، واستمر الجامع بعد ذلك متروكا حتى كانت سنة 1263 (1847 ميلادية) فتحول الجامع إلى ملجأ للعجزة والطاعنين في السن على يد كلوت بك، ولحق به تلف كبير، وفي ذلك يقول بريس دافن في سنة 1877 ص95:
إن وقوع هذا الأثر الجليل العريق في القدم فريسة للخراب يرجع إلى كلوت بك؛ لأنه أراد أن يجعله ملجأ فأقام سدودا من بناء رديء بين الدعائم وفتح فيها نوافذ فتحولت الأروقة إلى مساكن وأصبح من المتعذر رؤية الجامع كله ورسم تفاصيله المهمة.
والإنسان لا يكاد يملك نفسه عن انتقاد هذا الاعتداء الفظيع المحجوب تحت ستار الرغبة في عمل الخير.
ثم صدرت إرادة سنية بنقل الملجأ إلى مارستان بولاق، وقد لبث الجامع بعد ذلك مدة طويلة مهجورا يعرف بالتكية لهذا السبب.
الفصل الثاني
أعمال لجنة حفظ الآثار العربية في الجامع1
سنة 1882 و1883:
كان الجامع مغلقا يخشى من سقوط سقفه فعاينه قومسيون اللجنة الثاني،
2
وقدم تقريرا اقترح فيه إصلاح السقف فوق المنبر حيث الجدار الذي فيه المحراب، والتحفظ على الزخارف والمنبر، وتقويم أخشابه وتقويتها، وهدم المباني التي أقيمت وسط الأروقة لتحويلها إلى مساكن، وتنظيف الصحون من الأتربة والأوساخ.
وقد وافقت اللجنة على هذه الأعمال بعد رسم الجامع، وشرع في شراء الأخشاب والحدائد اللازمة للعمارة.
سنة 1885:
طلب ديوان عموم الأوقاف من اللجنة أن تبدي رأيها في موضوع ترميم المنبر، فطلبت تأجيل ذلك؛ نظرا لأهمية العمل، وعدم وجود حشوات من المنبر لتكميله.
سنة 1888:
اقترح القومسيون الثاني اتخاذ الإجراءات اللازمة نحو التعديات الواقعة من الأهالي على الجامع كفتح شبابيك، وإتلاف مناور، وإقامة مساكن في الأروقة الدائرة به.
سنة 1890:
أعاد القسم الفني فحص الجامع فحصا دقيقا، وقدم للجنة تقريرا تفصيليا مصحوبا برسمين عن الأعمال اللازمة لإعادته إلى حالته الأولى والتحفظ عليه، وقدرت النفقات بألفي جنيه، وتنحصر هذه الأعمال فيما يأتي: (1)
هدم المباني المستحدثة، وتنظيف الجامع من الأتربة والأنقاض. (2)
إصلاح القبة التي تعلو رواق المحراب. (3)
تقوية المباني الأصلية. (4)
عمل سقف للجامع مع المحافظة على الأجزاء المخلفة من السقف القديم. (5)
تقوية الشرفات. (6)
إصلاح البياض. (7)
ترميم المنارة الغربية ، وإصلاح سلمها. (8)
إصلاح حشو الطاقات المتخذ من الجبس المفرغ. (9)
إصلاح المنبر.
عثر على لوحة من كتابة الجامع التاريخية فقرر القومسيون الثاني تثبيتها على إحدى الدعائم بمقدم الجامع.
والذي تم من هذه الأعمال في تلك السنة هو إزالة الأتربة.
سنة 1891:
انتهى إصلاح الشرفات.
وضعت مقايسة لإصلاح السقف والمناور وترميم المنارة الكبرى.
نقل لدار الآثار العربية بعض أجزاء سقطت من إزار السقف مع خشب منقوش وقطعة من المنبر.
سنة 1892:
قررت اللجنة الاستمرار في الأعمال.
أبلغت اللجنة عن انتهاء عملية تجديد السقف والمناور بمقدم الجامع.
تقرر ترميم الجزء العلوي من المنارة، وتركيب هلال عليها وأكملت أعمال التقوية.
سنة 1894:
سقط باب قديم في الجنب القبلي.
تقرر إنشاء شارع لتخلية الوجهة الشرقية بعرض 15 مترا.
بوشر تثبيت بعض الزخارف التي كانت على وشك السقوط.
سنة 1896:
اقترح فرنز باشا تصوير زخارف الجامع للاستعانة بها في المباحث الخاصة بتاريخ الزخرفة العربية.
سنة 1897:
رأى القسم الفني تصوير بعض مناظر من الجامع زيادة على الزخارف، وعمل مجموعة منها يدرج فيها رسم الجامع.
سنة 1898:
قدم هرتس بك للجنة مشروعا لوضع رسالة عن الجامع تحتوي على 15 أو 16 صحيفة، عدا رسمه العمومي وبعض اللوحات.
سنة 1902:
اقترح فرنز باشا نقل صورة بالجص من محراب المستنصر لابتداء الانحلال فيه. حصل انفجار في مخازن القلعة تسبب عنه كسر في المناور الجديدة.
سنة 1904:
اقترح هرتس بك تجديد جزء من أحد جوانب المنبر يستعان فيه بالحشوات التي أهداها مسيو جودفروي لدار الآثار العربية، فعهدت إليه اللجنة بوضع تصميم.
سنة 1907:
لوحظ ميل في المنارة الصغرى بالزاوية البحرية الشرقية، فتقرر ملاحظة حركة الميل فيها من وقت إلى آخر.
سنة 1908:
تقرر وضع سقف صغير من الخشب فوق محراب المستنصر لوقايته من تأثير التقلبات الجوية.
سنة 1909:
تقرر طلب صور فتوغرافية من متحف الفنون والصنائع بفينا من الحشوات الموجودة به من منبر الجامع بحجمها الأصلي.
سنة 1910:
عرض ديوان عموم الأوقاف على اللجنة مشروعا لإعداد مساكن لبعض طلبة الأزهر في الجامع فلم توافق عليه لتنافره مع الغاية التي تسعى إليها اللجنة منذ تشكيلها، وهو إعادة هذا الأثر العظيم إلى حالته الأولى.
سنة 1911:
قررت اللجنة ترميم المنبر وتكميله تعديلا للقرار الأول.
وضع مشروع لنزع ملكية المنازل المحيطة بالمسجد.
سنة 1912:
تقرر نزع ملكية المنازل الملاصقة للوجهة الشرقية لغاية الشارعين اللذين ينتهيان إلى الجامع.
سنة 1914:
تم ترميم المنبر ورئي من اللازم تقوية المنارة التي بالزاوية البحرية الشرقية. (1) عناية حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول بهذا الأثر
سنة 1918:
توجهت إرادة حضرة صاحب الجلالة ملك مصر «فؤاد الأول» لإعادة إقامة الشعائر الدينية في الجامع فصلى فيه صلاة الجماعة يوم الجمعة 22 رجب سنة 1336/3 مايو سنة 1918، وبهذه المناسبة أجريت الأعمال الآتية:
هدم منزلان ملاصقان للوجهة القبلية من جامع صرغتمش، فظهر هنالك سلم يرجع إلى وقت بناء الجامع وكان يصعد منه إلى جامع ابن طولون من جهة الصليبة فتقرر عمل خندق بطول تلك الوجهة لتخلية طاقاتها.
عملت تجربة لتنظيف الزخارف كلها.
أعلن زيور باشا رئيس اللجنة أن وزارة الأوقاف مستعدة لتقديم المبالغ اللازمة لإصلاح الجامع.
سنة 1919:
وضع برنامج لإصلاح الجامع يشمل تبليط أروقة مؤخره وجانبيه، وتجديد البوائك التي اندثرت بمؤخره، وإصلاح البياض والطاقات، وتمهيد أرض الصحن، وغير ذلك.
سنة 1920:
تمت الأعمال الواردة في البرنامج السابق، واتخذت الإجراءات لنزع ملكية المنازل الملاصقة للجدار الشرقي من الخارج.
سنة 1921-1925:
رم سور الرواق الجنوبي الغربي الخارجي من الجهتين، وأزيلت الأبنية التي كانت تشغل قسما منه، ونظف من الأتربة إلى مستوى أرضه الأصلية، وتم ترميم وتقوية زخارف باطن الطارات بوجهة الأروقة الجنوبية الغربية داخل المسجد.
شرع في ترميم السبيل الذي ألحق بالمسجد على عهد لاجين بالطرف الجنوبي الشرقي من الرواق الخارجي المذكور، وفي رفع الأتربة المتراكمة محل خمسة بيوت تم نزع ملكيتها بجوار الوجهة الشرقية لتخليتها لغاية مستوى الأرض الأصلية، وهي أعمال حيوية بالنسبة للمسجد، خصوصا إزالة الأبنية والأتربة من الرواق الجنوبي الغربي الخارجي الذي كان بحال تمجها النفس وتزري بكرامة المساجد، وهذه الأعمال جارية على الوجه الأتم تحت إدارة حضرة صاحب العزة أحمد السيد بك مدير الآثار العربية حالا وباشمهندس اللجنة. (2) توالي عناية حضرة صاحب الجلالة الملك بهذا الجامع
لما رأى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم «فؤاد الأول» ملك مصر ازدحام جوانب هذا الأثر الجليل، الذي يقول عنه علماء الفرنج بحق - كما ذكرنا - أنه أعظم آثار مصر الإسلامية أهمية، وعلى الأخص بما أقيم فيه من المباني التي شغلت جزءا من الأروقة المحيطة به، أمر - حفظه الله - بنزع ملكية هذه المباني حتى تعود الأروقة إلى ما كانت عليه، ويصبح المسجد خاليا من جهاته الأربع في وسط ميدان عرضه من كل جهة عشرون مترا غير الميادين التي ستفتح أمام أبوابه العمومية، مما يترتب عليه كشف وجهات هذا المسجد ومسجد صرغتمش حتى شارع الخضيري والصليبة.
وبتاريخ 18 فبراير سنة 1926 صدر مرسوم بنزع ملكية القسم الأول من الأرض اللازمة لهذا المشروع الجليل من الجهة البحرية، ثم صدر مرسوم آخر بتاريخ 20 يناير سنة 1927 بنزع ملكية الجزء الثاني، وقدرت نفقات ذلك بمبلغ 45000 جنيه.
مشروع إصلاح الجامع إصلاحا تاما: في 6 مارس سنة 1926 كتب حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا رئيس مجلس الوزراء وقتئذ لحضرة صاحب المعالي وزير الأوقاف محمد توفيق رفعت باشا خطابا يطلب فيه، بمناسبة الأعمال القائمة بها مصلحة التنظيم لتخلية الجامع الطولوني، اتخاذ ما يلزم بمعرفة لجنة حفظ الآثار العربية لوضع مقايسة لإجراء الإصلاحات اللازمة للمسجد، وإرسالها للنظر في تدارك النفقات.
ولما اطلعت لجنة حفظ الآثار العربية على هذا الخطاب بحث قسمها الفني في موضوع الأعمال الممكن إجراؤها مراعاة لما لهذا الجامع من الأهمية الممتازة من الوجهة الأركيولوجية، وأقر البرنامج اللازم المشتمل على ما يأتي:
أولا:
تنكيس حوائط المسجد والأسوار، وفتح الأبواب الأصلية المسدودة بالبناء المستحدث.
ثانيا:
إصلاح وتكميل البلاط المفروش في أرض المسجد.
ثالثا:
إزالة المباني المستحدثة بجوار المنارة الكبرى لتخليتها وتنكيس التالف من أحجارها.
رابعا:
تجديد البائكة الناقصة بمقدم الجامع وطلاؤها بالبياض البسيط «السادة» بدون عمل زخارف فيها تمييزا لها عن البوائك القديمة.
خامسا:
الاكتفاء بتجديد سقف أروقة القبلة من واقع البقايا الموجودة مع الاحتفاظ بهذه البقايا، وتثبيت بقايا الإزار المشتمل على الكتابة، وتكميل الأجزاء الناقصة منه بلا كتابة ، والاكتفاء في دهان الأجزاء المستجدة من السقف بأن يكون هذا الدهان بسيطا خاليا من الزخارف لتعذر تعيين ألوان الدهان الأصلي، وإبقاء سقف الأروقة التي بجانبي المسجد ومؤخره كما هي، بعد تقويتها وإصلاحها حتى لا تضر بها مياه الأمطار.
سادسا: : إصلاح البياض والزخارف الجصية على ألا يجدد من الزخارف إلا ما كان له في البوائك أجزاء قديمة تساعد على ذلك مع حفظ هذه الأجزاء في مواقعها تشهد بما كانت عليه، والمواضع التي لا يكون للقديم فيها أثر لا يتخذ لها إلا البياض البسيط، وتكمل الشبابيك المتخذة من الجص حيثما يوجد أثر للقديم.
وقد قدرت النفقات المنظور صرفها على هذه الأعمال بمبلغ 40000 جنيه.
ولما اجتمعت لجنة حفظ الآثار العربية في جلستها السادسة والستين بعد المائتين في يوم السبت 25 سبتمبر سنة 1926 برياسة حضرة صاحب المعالي «محمد نجيب الغرابلي باشا» وزير الأوقاف حصلت مداولة في موضوع هذا المشروع، وقد رأيت إثباتها هنا لأهميتها:
قال حضرة صاحب السعادة محمد زكي الإبراشي باشا وكيل وزارة المالية والعضو بلجنة الآثار العربية: «إن هذا الموضوع على جانب عظيم من الأهمية وإنه سبق للحكومة أن فتحت لتخلية الجامع من المساكن الواقعة في الجهة البحرية منه، وعمل ميدان لكشف المسجد وتسهيل الوصول إليه اعتمادا قدره 45000 جنيه، ولو عرضت مسألة الإصلاح وقتئذ عند النظر في تقرير اعتماد التخلية لساعد ذلك على تقرير المبلغ اللازم للإصلاح في الوقت نفسه.»
فأجابه حضرة صاحب المعالي رئيس اللجنة بقوله: «إني عاينت الجامع أول من أمس وشاهدت أعمال التخلية التي بدأت فيها مصلحة التنظيم، ووقفت على كليات وجزئيات مشروع الإصلاح ووجهة النظر الفنية التي أقرها القسم الفني، وهي تدور على إرجاع الأثر إلى حالته الأولى، على قدر ما تسمح به معالمه الأصلية.»
وشرح معاليه العوائق الفنية التي حالت دون الموافقة على جميع الأعمال التي اشتمل عليها خطاب حضرة صاحب الدولة رئيس الحكومة السابق، ثم قال: «وإذا كان الغرض من فتح ذلك الاعتماد كشف الأثر وإظهاره، فإن أول خدمة يجب علينا التفكير فيها هو إصلاح هذا الأثر الجليل بترميم أجزائه المتهدمة وتقوية مبانيه، وإلا نكون أفسحنا المجال لتقع الأنظار على عيوب الجامع وما به من التشويهات؛ ولذلك لا نوافق أبدا على ترك فكرة الإصلاح، وقد ارتبط المشروع بوعد الحكومة السابقة، ومن واجبنا السعي لتتميم هذا المشروع والاستمرار على التمسك به؛ لأنه عرض من جهة الحكومة، ولنا الأمل في مساعدة الباشا وكيل وزارة المالية للجنة في هذا الموضوع.»
فقال حضرة صاحب السعادة الإبراشي باشا: «إن الجامع الطولوني باعتبار أنه أهم الآثار العربية بالنظر لقدمه وما انطوت عليه معالمه يجعلني بصفتي عضوا باللجنة أن أرحب بهذا المشروع الجليل، غير أني أرى للتمكن من النظر في أمر النفقات اللازمة أن يكون تقديرها على أساس ثابت من واقع مقايسات تشتمل على تقديرات حقيقية لا تستلزم المطالبة بزيادة الاعتماد في المستقبل.»
فقال حضرة صاحب المعالي الرئيس: «إن التقرير الذي أقره القسم الفني مبني على مقايسة إجمالية، روعي فيها ما يستلزمه الإصلاح عقب المعاينة التي أجراها، وإنه يرى عرض هذه المقايسة على اللجنة في الاجتماع المقبل، وإذا رئي عدم الاكتفاء بها توضع مقايسات تفصيلية أخرى.»
والمأمول أن يتم إصلاح الجامع في هذا العهد الذي هو عهد النهضة المصرية المباركة فتضاف هذه الحسنة إلى الحسنات الكبيرة لجلالة الملك المعظم، حفظه الله.
الفصل الثالث
ترجمة أحمد بن طولون
(1) مولد أحمد بن طولون
1
سنة 220 هجرية/835 ميلادية
ولد أحمد بن طولون بسامرا من بلاد العراق في الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، في وقت بدأت فيه العواصف السياسية تثور، وسلطة الخلفاء العباسيين تتدلى بتغلب الأتراك من أتباعهم.
ونشأ أحمد في حضن والديه حتى العشرين من سنه، وكانت مخايل النجابة ظاهرة عليه من صغره، فأخذ بحظ عظيم من العلم، وحفظ القرآن الكريم، وصار من أحفظ الناس له، ولازم مجالس المحدثين، وترفع عن مجالسة السوقة ومخالطتهم. (2) وفاة طولون وزواج أحمد وخروجه إلى طرسوس سنة 240 هجرية/854 ميلادية
وبعد موت أبيه
2
كفله رفقاؤه، فانصرف لخدمة السلطان، وحسن ذكره وعرف بعلو الهمة وحسن الأدب فزوجه يارجوخ
3
التركي من أكابر رجال الدولة العباسية ابنته، وولدت له العباس وفاطمة.
وخرج إلى طرسوس
4
وفي عودته منها سطا الأعراب على قافلته فرمى بنفسه عليهم ووضع السيف فيهم حتى انهزم الأعراب واستنقذ منهم جميع ما أخذوه، وكان فيه بغل محمل بمتاع خاص بالخليفة المستعين، فلما اتصل به خبر ذلك عظم أحمد في عينيه، وتوالت عليه جوائزه حتى حسنت حاله، وكان فيما وصله به جارية اسمها مياس استولدها أبا الجيش خمارويه. (3) انتداب أحمد بن طولون لمرافقة المستعين بعد خلعه سنة 252-253ه /866 ميلادية
ولما بويع المعتز ونفي المستعين إلى واسط اختار الأتراك أحمد بن طولون ليكون معه، فمضى به إلى واسط فأحسن عشرته وشكر حسن بلائه عنده، وأطلق له التنزه والصيد وعامله بالإكرام، وخاف غلمان المتوكل من المستعين فطلب من أحمد بن طولون قتله فامتنع وكتب إلى الأتراك أنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة، فأنفذوا سعيدا الحاجب فتسلم المستعين منه بحضور القاضي والشهود وقتله وأخذ رأسه، فوارى ابن طولون جثته وعاد إلى سامرا
5
وكان يقول: لقد وعدني الأتراك إن قتلت المستعين أن يولوني واسطا، فخفت الله ولم أفعل فعوضني ولاية مصر والشام وسعة الأحوال. (4) ولاية أحمد بن طولون على مصر سنة 254 هجرية/868 ميلادية
ولما تقلد باكباك
6
مصر، وكان من عادة من يتولى من الأتراك على الأطراف أن يقيم في الحضرة ويستخلف عنه غيره، ذكر له أحمد بن طولون فاستخلفه على مصر وضم إليه جيشا فدخلها ومعه أحمد بن محمد الواسطي في يوم الأربعاء لتسع
7
ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين متقلدا للقصبة وأسيوط وأسوان، ونزل بدار الإمارة من العسكر.
حاله عند دخول مصر: وكان في أضيق حال، يحتقره كل من يراه. قيل كان بمصر رجل من الأعيان يقال له علي بن معبد البغدادي، وكان في سعة من المال، فلما بلغه حضور الأمير أحمد خرج إلى تلقيه، فلما رآه في ضيق حال أرسل إليه عشرة آلاف دينار فقبلها ورأى بها موقعا، وحظي ذلك الرجل عنده فكان لا يتصرف في شيء من الأمور إلا برأي ذلك الرجل، وتضاعفت عنده منزلته إلى الغاية.
8 (5) حكايته مع ابن المدبر
وكان على الخراج أحمد بن محمد بن المدبر، وهو من دهاة الناس وشياطين الكتاب، وكان جبارا قاسيا في معاملة المسيحيين مبغوضا منهم ومن المسلمين.
فلما وصل أحمد بن طولون أهدى إليه ابن المدبر هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار بعدما خرج إلى لقائه هو وشقير الخادم غلام قبيحة أم المعتز وهو يتقلد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام من الغور قد انتخبهم وصيرهم عدة وجمالا، وكان لهم خلق حسن وطول أجسام وبأس شديد، وعليهم أقبية ومناطق ثقال عراض، وبأيديهم مقارع غلاظ، على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس، فإذا ركب ركبوا بين يديه فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس، فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردها عليه، فقال ابن المدبر: إن هذه لهمة عظيمة، من كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف، فخافه وكره مقامه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد، واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول له: قد كنت - أعزك الله - أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها فرددتها توفيرا عليك، ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيتهم بين يديك، فأنا إليهم أحوج منك، فقال ابن المدبر لما بلغته الرسالة: هذه أخرى أعظم مما تقدم قد ظهرت من هذا الرجل، ولم يجد بدا من أن يبعثهم إليه فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون، ونقصت مهابة ابن المدبر («خطط المقريزي» أول، ص314).
ولم يلبث أحمد بن طولون أن عظم أمره وأصبحت سلطته تعادل سلطة الحاكم مع أنه لم يكن - إلى ذلك الوقت - إلا نائبه، فصار الكل يخشونه، وخضع لسطوته من كان يظن أنه يقوى على معارضته من حكام الأقاليم. (6) خروج بغا الأصغر سنة 255 هجرية/868 ميلادية
ولما كان جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين خرج بغا الأصغر أو الأصفر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا فيما بين الإسكندرية وبرقة بموضع يقال له: الكنائس، وسار في جمع معه إلى الصعيد فلقيه بهم بن الحسين فحاربه فقتل بغا وأتى برأسه إلى الفسطاط. (7) انهزام ابن الصوفي والقبض عليه سنة 256-259 هجرية/869-873 ميلادية
وكان ابن الصوفي العلوي خارجا بصعيد مصر من سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ودخل إسنا، فبعث إليه أحمد بن طولون ببهم وقد عقد له على جيش فهزمه، وبعد وقائع أخرى اضطرب أمر ابن الصوفي فمضى إلى عيذاب فمكة، ثم أرسل منها بعد ذلك إلى ابن طولون فسجنه ثم أطلقه فخرج إلى المدينة فمات. (8) خروج أحمد إلى ابن الشيخ سنة 256 هجرية/869 ميلادية
وكان عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني واليا على فلسطين والأردن، ثم تغلب على دمشق، وامتنع من حمل المال إلى العراق، واستولى على إرسالية من خراج مصر كانت موجهة إلى العراق. فكتب الخليفة إلى ابن طولون يأمره بأن يخرج إليه ويتسلم أعماله، ففرض أحمد بن طولون فروضا واتخذ السودان فأكثر،
9
وقبل الخروج إليه كاتبه فجاوبه بما لم يوافقه فسار إليه واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، ثم رجع من الطريق بكتاب ورد إليه من العراق، فدخل الفسطاط لأيام خلت من شعبان سنة ست وخمسين ومائتين.
وبعث ماجور من العراق إلى عيسى بن الشيخ فحاربه فانهزم أصحاب عيسى وقتل ابنه وتسلم ماجور أعمال الشام.
10
ثم بويع المعتمد بن المتوكل بالخلافة، فأقر أحمد بن طولون على مصر.
وابتدأ أحمد بن طولون في بنيان الميدان في شعبان سنة ست وخمسين ومائتين، فأمر بحرث قبور اليهود والنصارى وبنى موضعها. (9) إحالة الأعمال الخارجة من مصر على أحمد بن طولون سنة 257 هجرية/871 ميلادية
11
ثم ورد له الأمر من يارجوخ بأن يتسلم الأعمال الخارجة عن يديه من أرض مصر فتسلم الإسكندرية من إسحاق بن دينار، وخرج إليها يوم الإثنين لثمان خلون من شهر رمضان سنة سبع وخمسين ومائتين، وعاد يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شوال وقد سخط على أخيه موسى بن طولون وأمره بلباس البياض.
12 (10) بناء مسجد التنور على الجبل سنة 259 هجرية/872 ميلادية
وكان على الجبل مكان مشهور يزعمون أنه موضع تنور فرعون، فأخبر بأن يهودا كان يقيم فيه فأمر بأن يبنى فيه مسجد عليه منارة في صفر سنة تسع وخمسين وجعل فيه صهريجا فيه الماء،
13
وقد تقدم لنا ذكره في الكلام على حديث الكنز. (11) خروجه إلى الإسكندرية وترميم المنار سنة 259 هجرية/873 ميلادية
وفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان سنة تسع وخمسين ومائتين عاد إلى الإسكندرية مرة ثانية وأمر بحفر خليجها.
14
وفي خلال هذه الزيارة أو الأولى رم شيئا من المنار، وجعل في أعلاه قبة من الخشب يصعد إليها من داخلها، وكانت «مبسوطة مؤربة بغير درج».
15
ورجع إلى الفسطاط يوم الخميس لثمان خلون من شوال سنة تسع وخمسين بعد أن استخلف عليها ابنه العباس بن أحمد. (12) إنشاء المارستان سنة 259 هجرية/873 ميلادية
وفي هذه السنة أمر أحمد ببنيان المارستان للمرضى في أرض العسكر
16
ولم يكن قبل ذلك بمصر مارستان، ولما فرغ منه حبس عليه جملة من الأعيان من الدور والأسواق، وكان ينفق من هذا الوقف أيضا على مسجد التنور وعين وسقاية أنشأهما بالمعافر، وشرط في المارستان ألا يعالج فيه جندي ولا مملوك، وعمل حمامين للمارستان؛ أحدهما للرجال والآخر للنساء، وحبسهما على ما ذكر، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه ونفقته وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويراح عليه بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، فإذا أكل فروجا ورغيفا أمر بالانصراف وأعطي ماله وثيابه، وكان يركب بنفسه في كل يوم جمعة ويتفقد خزائن المارستان وما فيها، والأطباء وينظر إلى المرضى.
قناطر ابن طولون وبئره: قال القضاعي: كان السبب في بناء هذه القناطر أن أحمد بن طولون ركب فمر بمسجد الأقدام وحده وتقدم عسكره وقد كده العطش، وكان في المسجد خياط فقال: يا خياط، أعندك ماء؟ فقال: نعم، فأخرج له كوزا فيه ماء، وقال: اشرب ولا تمد، يعني لا تشرب كثيرا، فتبسم أحمد بن طولون وشرب فمد فيه حتى شرب أكثره، ثم ناوله إياه وقال: يا فتى سقيتنا وقلت: لا تمد، فقال: نعم، أعزك الله، موضعنا ها هنا منقطع، وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية، فقال له: والماء عندكم ها هنا معوز؟ فقال: نعم، فمضى أحمد بن طولون فلما حصل في داره قال: جيئوني بخياط في مسجد الأقدام، فما كان بأسرع من أن جاءوا به فلما رآه قال: سر مع المهندسين حتى يخطوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء، وهذه ألف دينار خذها، وابتدأ في الإنفاق، وأجرى على الخياط في كل شهر عشرة دنانير، وقال له: بشرني ساعة يجري الماء فيها، فجدوا في العمل، فلما جرى الماء أتاه مبشرا فخلع عليه وحمله، واشترى له دارا يسكنها، وأجرى عليه الرزق السني الدار ...
وبنى ابن طولون عليها القناطر، وأجرى الماء إلى الفسقية التي بقرب درب سالم
17 («المقريزي» الجزء الثاني، ص457). (13) تقليده خراج مصر سنة 259 هجرية
ثم ورد كتاب من المعتمد إلى أحمد بن طولون يستحثه في حمل الأموال، فأجابه: لست أطيق ذلك والخراج بيد غيري، وكان بلغه أن ابن المدبر وشقير الخادم - وكان على البريد - يكيدان له، وقد كتبا إلى الحضرة يقولان: إن أحمد بن طولون عزم على التغلب على مصر والعصيان بها، وكان ابن المدبر ابتدع بمصر بدعا كثيرة، فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعدما كان مباحا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرر على ما يطعم الله من البحر مالا وسماه المصايد، إلى غير ذلك، فانقسم حينئذ مال مصر إلى خراجي وهلالي، وكان الهلالي يعرف في زمنه وما بعده بالمرافق والمعادن، وقد عرف فيما بعد على عهد الدولة الفاطمية بالمكوس.
فلما وصل جواب ابن طولون إلى المعتمد أنفذ المعتمد إليه بتقليده الخراج على مصر وبولايته على الثغور الشامية، فرغب أحمد بنفسه عن المعادن والمرافق، فأمر بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، وكانت تبلغ بمصر خاصة مائة ألف دينار في كل سنة. قال المقريزي: «وقد أظفره الله عقيب ذلك بكنز فيه ألف ألف دينار.» ولهذا الكنز أيضا خبر أورده المقريزي (في الجزء الثاني، ص267)، ونكتفي بالإشارة إليه. (14) الخلاف بينه وبين الموفق
ذكر جامع سيرة ابن طولون أن صاحب الزنج لما قدم البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين واستفحل أمره أنفذ أمير المؤمنين المعتمد على الله تعالى رسولا في حمل أخيه الموفق بالله أبي أحمد طلحة من مكة إليه، وكان الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق نفاه إليها، فلما وصل إليه جعل العهد بالخلافة من بعده لابنه المفوض، وبعد المفوض تكون الخلافة للموفق طلحة، وجعل غرب الممالك الإسلامية للمفوض وشرقها للموفق، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه أيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط، وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة ولا يراه أهلا لها، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه ثم للموفق بعده شق ذلك عليه وزاد في حقده، وكان المعتمد متشاغلا بملاذ نفسه من الصيد واللعب والتفرد بجواريه، فضاعت الأمور وفسد تدبير الأحوال، وفاز كل من كان متقلدا عملا بما تقلده، وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوض والموفق أنه ما حدث في عمل كل واحد منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف على قسم ابنه المفوض موسى بن بغا، فاستكتب موسى ابن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق، وتقدم إلى كل منهما ألا ينظر في عمل الآخر، وخلد كتاب الشروط بالكعبة، وأفرد الموفق لمحاربة صاحب الزنج وأخرجه إليه وضم معه الجيوش، فلما كبر أمره وطالت محاربته إياه وانقطعت موارد خراج المشرق عن الموفق وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كل عام واحتجوا بأشياء، دعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج، وكانت مصر في قسم المفوض لأنها من الممالك الغربية، إلا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدة حاجته إلى المال بسبب ما هو بسبيله، وأنفذ مع الكتاب تحريرا خادم المتوكل ليقبض منه المال، فما هو إلا أن ورد تحرير على ابن طولون بمصر وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كل سنة من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب أيضا إلى أحمد بن طولون كتابا في السر: إن الموفق إنما أنفذ تحريرا إليك عينا ومستقصيا على أخبارك، وإنه قد كاتب بعض أصحابك، فاحترس منه، واحمل المال إلينا، وعجل إنفاذه، وكان تحرير لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان، ومنعه من الركوب، ولم يمكنه من الخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وما جرى الرسم بحمله من مصر، وأخرج معه العدول ، وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش، وأرسل إلى ماجور متولي الشام فقدم عليه بالعريش وسلمه إليه هو والمال، وأشهد عليه بتسليم ذلك، ورجع إلى مصر ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير، فإذا هي إلى جماعة من قواده باستمالتهم إلى الموفق، فقبض على أربابها وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته، فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال كتب إليه كتابا ثانيا يستقل فيه المال ويقول: إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت، وبسط لسانه بالقول والتمس فيمن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضا عن ابن طولون فلم يجد أحدا عوضه؛ لما كان من كيس أحمد بن طولون وملاطفته وجوه الدولة، فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: وأي حساب بيني وبينه؟! أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره؟! وكتب إليه جوابا شديد اللهجة أورده جامع السيرة ونقله المقريزي في الجزء الثاني ص179، فلما وصل إلى الموفق أقلقه وبلغ منه مبلغا عظيما، وأغاظه غيظا شديدا، وأحضر موسى بن بغا، وكان عون الدولة وأشدها بأسا وإقداما، فتقدم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماجور، فامتثل لذلك، وكتب إلى ماجور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته.
18
بعد ذلك خرج موسى بن بغا فنزل الرقة، وبلغ ابن طولون أنه سائر إليه فعمل في الحذر منه، واستعد لحربه ومنعه من دخول أعماله، وبنى حصنا بجزيرة الروضة في سنة ثلاث وستين ومائتين ليحفظ به حرمه وماله، فلما بلغ موسى بن بغا إلى الرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوته، ثم عرضت لموسى علة طالت به، وكان بها موته، وكفى ابن طولون أمره، فقال محمد بن دواد في ابن طولون:
لما ثوى ابن بغا بالرقتين ملا
ساقيه ذرقا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنا يستجن به
بالعسف والضرب والصناع في تعب
له مراكب فوق النيل راكدة
فما سوى القار للنظار والخشب
يرى عليها لباس الذل مذ بنيت
بالشط ممنوعة من عزة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبا
لكن بناها غداة الروع للهرب
19
ولم يزل هذا الحصن على الجزيرة حتى أخذه النيل شيئا فشيئا، واجتهد أحمد بن طولون في بنيان المراكب الحربية وإطافتها بالجزيرة، وقد ألزم قواده وثقاته أمر الحصن وفرقه عليهم قطعا فقام كل واحد بما لزمه من ذلك، وكد نفسه فيه، وكان يتعاهدهم بنفسه في كل يوم، ومن كثرة ما بذل في هذا العمل قدر أن كل طوبة منه وقعت عليه بدرهم، وبلغ مصروف الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا، وكان يعرف بحصن الجزيرة.
20 (15) خروج أحمد بن طولون إلى الشام سنة 264 هجرية/878 ميلادية
ثم توفي ماجور بدمشق، واستخلف ابنه عليا، فحرك ذلك ابن طولون على المسير، فكتب إلى علي يخبره بأنه سائر إليه، وأمره بإقامة الأنزال والميرة لعساكره، فرد عليه علي بن ماجور بأحسن جواب، وخرج أحمد في جيوشه لثمان بقين من شعبان سنة أربع وستين، واستخلف ابنه العباس على مصر، وضم إليه أحمد بن محمد الواسطي مدبرا ووزيرا، فبلغ أحمد إلى الرملة فتلقاه محمد بن رافع خليفة ماجور عليها وأقام له الدعوة بها فأقره عليها، ومضى إلى دمشق فتلقاه علي بن ماجور وأقام له بها الدعوة، فأقام أحمد بها حتى استوثق له أمرها، ثم استخلف عليها أحمد بن دوغياش، ومضى إلى حمص فلقيه عيسى الكرخي خليفة ماجور فسلمها إليه، ثم بعث إلى سيما الطويل بأنطاكية يأمره بالدعاء له فلم يجبه فسار إليه أحمد في جيش عظيم، وبعد حصار شديد استولى عليها، وقتل سيما في صفر سنة خمس وستين ومائتين.
ومضى أحمد بن طولون إلى طرسوس بأصحابه فغلا السعر
21
بها واضطرب أهلها ونابذوه فقاتلهم. (16) عصيان العباس على أبيه أحمد بن طولون سنة 265 هجرية/879 ميلادية
وكان عازما على أن يقيم بالثغور، ولكن أتاه الخبر من مصر أن ابنه العباس قد خالف عليه، وكان السبب في مخالفته لأبيه أنه استخص قوادا من قواده كانوا على خوف شديد من أحمد بن طولون فحسنوا للعباس التغلب على مصر والقبض على أحمد بن محمد الواسطي، وبلغ الواسطي ما عزموا عليه فكتب إلى أحمد بن طولون يخبره، وعلم العباس ذلك فازداد وحشة من أبيه، وعمد إلى أحمد بن محمد الواسطي فقيده، ثم خرج إلى الجيزة وعسكر بها، واستخلف أخاه ربيعة على الفسطاط، وأظهر أنه سائر إلى الإسكندرية حتى وصل إليها، ومنها توجه إلى برقة، وقدم أحمد من الشام إلى الفسطاط يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين ومائتين، فأنفذ إلى العباس يدعوه إلى الرجوع، وكتب إليه كتابا ألان له فيه جانبه ووعده ألا يسوءه،
22
وهم العباس بالشخوص إليه ففزعت الطائفة التي حسنت له الخروج من أبيه وعلموا أنه موقع بهم فحضوه على المقام، فرجع إلى قولهم، وعزم على المسير إلى إفريقية، ورأى أنها أمنع له من برقة، فكتب إلى إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب أن كتاب المعتمد ورد عليه بتقليده إفريقية، ويأمره بالدعاء له بها، ويخبره أنه سائر إليه، ثم سار فنزل لبدة فخرج إليه عاملها وأهلها فتلقوه وأكرموه، ولكنه أمر بنهبها، فنهبت وأهلها على غرة، فقتلت رجالهم وفضحت نساؤهم، وبلغ الخبر إلياس بن منصور النفوسي، وهو يومئذ رأس الإباضية، وبعث إبراهيم بن أحمد بجيش آخر فأطبق الجيشان على العباس فباشر يومئذ الحرب بنفسه وحسن بلاؤه وأثر فيه، ولكن لم يلبث أن قتل يومئذ صناديد عسكره ووجوه أصحابه وحماته، ونهبت أمواله وسلاحه، ورجع هاربا إلى برقة في ضر وإخلال.
23 (17) إخماد عصيان العباس سنة 268 هجرية/881 ميلادية
وخرج أحمد بن طولون في عسكر عظيم، قيل إنه بلغ مائة ألف لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثمان وستين ومائتين، وقد أجمع على النهوض بنفسه إلى برقة، ووصل إلى الإسكندرية فأقام بها، وهرب أحمد بن محمد الواسطي من بين يدي العباس، ولقي أحمد بن طولون فصغر أمر العباس عنده، فعقد على جيش سيره إلى برقة، فالتقى بأصحاب العباس فانهزموا وقتل منهم كثير، وهرب العباس فأدركوه يوم الأحد لأربع خلون من رجب سنة ثمان وستين ومائتين، ورجع أحمد بن طولون إلى الفسطاط يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من رجب، وأتي بالأسرى وقد بنيت لهم دكة عظيمة رفيعة السمك، وأحضر جعفر بن جدار من خاصة العباس وممن أغروه فضرب ثلاثمائة سوط وقطعت يداه ورجلاه وألقي من الدكة. (18) خروج المعتمد من العراق للحاق بمصر ومنعه سنة 269 هجرية/882 ميلادية
وخرج أحمد إلى الشام ومعه العباس مقيدا، ومنها سار يريد المسير لمحاربة أهل طرسوس، وفيها يازمان الخادم فتلقاه كتاب المعتمد يعلمه أنه قادم عليه ليلتجئ إليه لتحكم أخيه الموفق فيه والتضييق عليه، وهو ولي العهد، حتى إنه لم يبق للمعتمد وهو الخليفة إلا الاسم، فتوقف أحمد عن المسير، وكتب إلى المعتمد يواعده أنه يحضر إليه ويحمله إلى مصر ويجعلها دار الخلافة ويذب عنه من يخالفه في ذلك، فتهيأ المعتمد وخرج من العراق يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيد بالكحيل، وقدم صاعد بن مخلد من عند أبي أحمد الموفق، ثم شخص إلى سامرا في جماعة من القواد في جمادى الآخرة، وقدم قائدان لابن طولون يقال لأحدهما: أحمد بن جبغويه، وللآخر: محمد بن عباس الكلابي الرقة، فلما صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداج، وكان العامل على الموصل وعامة الجزيرة، وكان من مع المعتمد من القواد حذروه المرور به وخوفوه منه فأبى إلا المرور به، وقال لهم: إنما هو مولاي وغلامي وأريد أن أتصيد فإن في الطريق إليه صيدا كثيرا، فلما صاروا في عمل إسحاق، وقد نفذت إليه الكتب من قبل صاعد بالقبض عليهم، لقيهم وسار معهم وانتظر حتى ارتحل التباع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد وخلا بالقواد فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيم بالرقة من قواده وأنتم إذا صرتم إليه فالأمر أمره وأنتم من تحت يده ومن جنده، أفترضون بذلك وقد علمتم أنه إنما هو كواحد منكم؟! وجرت بينه وبينهم مناظرة، ولما طالت بمجلس المعتمد قال لهم: قوموا بنا حتى نتناظر في هذا في غير هذا الموضع وأكرموا مجلس أمير المؤمنين من ارتفاع الصوت فيه، فأخذ بأيديهم وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدخلهم مضرب نفسه وعند ذلك دخل جلة غلمانه وأصحابه وأحضرت القيود وشد غلمانه على كل من كان شخص مع المعتمد من سامرا من القواد فقيدوهم، فلما قيدوا وفرغ من أمرهم مضى إلى المعتمد فعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه وهو مشتغل بالحروب، ثم حمله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافى بهم سامرا.
24 (19) غضب ابن طولون على بكار بن قتيبة
وعقد الموفق لابن كنداج على مصر، ونصب لأحمد الحرب وصرح بعزله ولعنه، وعلم ابن طولون بما وقع فرجع إلى دمشق وأمر بإحضار القضاة والفقهاء والأشراف وأمر أن يكتبوا بخلع الموفق من ولاية العهد فأجاب القضاة كلهم إلى خلعه وسماه بكار بن قتيبة الناكث وأشهد على نفسه هو وسائر قضاة الشام والثغور، فطلب منهم أحمد أن يلعنوا الموفق فامتنع بكار، فألح عليه فأصر على الامتناع حتى أغضبه، وكان قبل ذلك مكرما معظما عارفا بحقه، وكان يجيزه في كل سنة بألف دينار فيتركها بختمها ولا يتصرف فيها، فلما غضب عليه أرسل إليه: أين جوائزي؟ وكان ابن طولون يظن أنه أنفقها وأنه يعجز عن القيام بها فلهذا طالبه، فقال بكار: على حالها. فأحضرها من منزله بخواتيمها ستة عشر كيسا فقبضها أحمد، وكان قبل ذلك أرسله إلى ابنه العباس لما خالف عليه ببرقة فأجابه العباس إلى الرجوع إلى أبيه، ثم خلا ببكار فقال له: المستشار مؤتمن، أتخاف علي من أبي؟ قال: قد أمنك وحلف لك، ولا أدري أيفي أم لا. وامتنع العباس من الرجوع معهم.
ولما اعتقل بكار أمره ابن طولون أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري ففعل وجعله كالخليفة له، وبقي مسجونا مدة سنتين، وكان يحدث في السجن من طاق فيه؛ لأن أصحاب الحديث شكوا إلى ابن طولون انقطاع سماع الحديث من بكار وسألوه أن يأذن له في الحديث ففعل.
وبلغ الموفق ما فعله أحمد بن طولون فكتب إلى عماله يأمرهم بلعنه على المنابر فلعن عليها بما صيغته: اللهم العنه لعنا يفل حده ويتعس جده، واجعله مثالا للغابرين، إنك لا تصلح عمل المفسدين
25 («الكندي»، ص229). (20) خروج أحمد بن طولون إلى طرسوس
ثم مضى أحمد بن طولون إلى طرسوس من دمشق فوجد يازمان قد شخص بها ونصب المجانيق على سورها، فنزل أحمد بن طولون بجيوشه عليها في شدة من البرد وكثرة من الأمطار والثلوج، فأرسل يازمان الماء على عسكر أحمد بن طولون من نهر البردان فغرق عسكره، ولم يكن لابن طولون مقام، فرحل عنها ليلا ورجع أذنة فأقام بها.
26 (21) مرض أحمد بن طولون ووفاته سنة 270 هجرية/883 ميلادية
ثم ارتحل منها إلى المصيصة فأقام بها أياما، وعرضت له علته التي مات فيها، فأغذ السير إلى مصر والعلة تزيد عليه، حتى بلغ الفرما، فركب في الليل إلى الفسطاط فدخلها يوم الخميس لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة سبعين ومائتين، وتزايدت علته فأمر الناس بالدعاء له فغدا الناس بالدعاء له إلى مسجد محمود بسفح المقطم، وحضر معهم القصاص فدعوا له، ثم غدوا أيضا بالدعاء له، وحضرت اليهود والنصارى معتزلين عن المسلمين، وحضروا أيضا اليوم الثالث مع النساء والصبيان، وأقاموا على ذلك أياما، ثم توفي أحمد بن طولون ليلة الأحد لعشر خلون
27
من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين وسنه في بعض الروايات خمسون سنة، ولما بلغت وفاته المعتمد اشتد وجده وجزعه عليه وقال يرثيه:
إلى الله أشكو أسى
عراني كوقع الأسل
على رجل أروع
يرى فيه فضل الرجل
شهاب خبا وقده
وعارض غيث أفل
شكت دولتي فقده
وقد كان زين الدول
28
لوحة 1
المدخل الشرقي للمسجد.
لوحة 2
اللوح التاريخي (من مجموعة لجنة الآثار).
لوحة 3
منظر عام للمسجد مأخوذ من أعلى منارة المدرسة الصرغتمشية (كليشيه كريسول).
لوحة 4
شارع الزيادة بالحالة التي كان عليها منذ أربعين سنة (من مجموعة لجنة الآثار).
لوحة 5
لوحة 6
منظر بعض البوائك والإزار قبل عمل السقف الحالي (من مجموعة لجنة الآثار).
لوحة 7
زخارف جصية من بواطن العقود بالوجهة الجنوبية للصحن (كليشيه كريسول).
لوحة 8
زخارف من بواطن العقود بالجهة الجنوبية للصحن (كليشيه كريسول).
لوحة 9
لوحة 10
شباك من الجص من زمن لاجين (من مجموعة لجنة الآثار ).
لوحة 11
المحراب الكبير.
لوحة 12
لوحة 13
لوحة 14
لوحة 15
لوحة 16
لوح تاريخي لعمارة بدر الجمالي بأعلى الباب الشرقي بسور الرواق الشمالي الشرقي الخارجي (كليشيه كريسول).
لوحة 17
المنبر.
لوحة 18
بعض تفاصيل من المنبر (من مجموعة لجنة الآثار).
لوحة 19
بعض تفاصيل من المنبر (من مجموعة لجنة الآثار).
لوحة 20
منظر آخر للمنبر.
لوحة 21
অজানা পৃষ্ঠা