পতনের যুগ: আরব জাতির ইতিহাস (সপ্তম খণ্ড)
عصر الانحدار: تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
জনগুলি
تاريخ الأمم العربية
1 - العراق في القرن السابع للهجرة
2 - العراق في القرن الثامن للهجرة
3 - العراق والكارثة التيمورية
4 - العراق في القرن الثامن
5 - العراق من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر
6 - الشام منذ القرن السابع للهجرة
7 - الشام من ابتداء دولة المماليك الشراكسة إلى الفتح العثماني
8 - الشام منذ فتح الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
9 - مصر منذ القرن السابع للهجرة حتى نهاية عصر المماليك البحرية
অজানা পৃষ্ঠা
10 - مصر في عهد المماليك الشراكسة
11 - مصر منذ عهد الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
12 - الجزيرة العربية منذ القرن السابع للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
13 - المغرب العربي في شمال إفريقية منذ القرن الثامن للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
عصر الانحدار
1 - الحالة الاجتماعية في العراق بعد سقوط بغداد
2 - الحالة الثقافية في العراق بعد سقوط بغداد
3 - الحالة الإدارية في العراق بعد سقوط بغداد
4 - الحالة الثقافية والاجتماعية في الشام ومصر بعد سقوط بغداد
5 - الحالة الإدارية في الشام ومصر وشمال إفريقية بعد سقوط بغداد ووقوعها تحت السيطرة العثمانية
অজানা পৃষ্ঠা
6 - الحالة الاجتماعية والثقافية والإدارية في الجزيرة العربية بعد سقوط بغداد
7 - الحالة الثقافية والاجتماعية في المغرب العربي
8 - الحالة الإدارية في المغرب العربي
تاريخ الأمم العربية
1 - العراق في القرن السابع للهجرة
2 - العراق في القرن الثامن للهجرة
3 - العراق والكارثة التيمورية
4 - العراق في القرن الثامن
5 - العراق من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر
6 - الشام منذ القرن السابع للهجرة
অজানা পৃষ্ঠা
7 - الشام من ابتداء دولة المماليك الشراكسة إلى الفتح العثماني
8 - الشام منذ فتح الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
9 - مصر منذ القرن السابع للهجرة حتى نهاية عصر المماليك البحرية
10 - مصر في عهد المماليك الشراكسة
11 - مصر منذ عهد الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
12 - الجزيرة العربية منذ القرن السابع للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
13 - المغرب العربي في شمال إفريقية منذ القرن الثامن للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
عصر الانحدار
1 - الحالة الاجتماعية في العراق بعد سقوط بغداد
2 - الحالة الثقافية في العراق بعد سقوط بغداد
অজানা পৃষ্ঠা
3 - الحالة الإدارية في العراق بعد سقوط بغداد
4 - الحالة الثقافية والاجتماعية في الشام ومصر بعد سقوط بغداد
5 - الحالة الإدارية في الشام ومصر وشمال إفريقية بعد سقوط بغداد ووقوعها تحت السيطرة العثمانية
6 - الحالة الاجتماعية والثقافية والإدارية في الجزيرة العربية بعد سقوط بغداد
7 - الحالة الثقافية والاجتماعية في المغرب العربي
8 - الحالة الإدارية في المغرب العربي
عصر الانحدار
عصر الانحدار
تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
تأليف
অজানা পৃষ্ঠা
محمد أسعد طلس
تاريخ الأمم العربية
توطئة
كان العالم العربي عامة، والعراق خاصة، في فجر القرن السابع للهجرة، على حالة مزعجة من الاضطراب والفوضى، والسر في ذلك يرجع إلى أن الخلفاء الذين أضحوا ألعوبة في يد الأعاجم من الأتراك والسلاجقة، يتصرفون بالبلاد كما يشاءون، ويقضون على القومية العربية بما يريدون. ولما آلت الخلافة إلى المستنصر بالله ثم إلى المستعصم بالله، ازدادت الفوضى، واضطرب حبل الأمن، وبخاصة في عهد المستعصم، فقد كان ضعيف الرأي، لا يسمع له قول، منصرفا إلى اللهو وسفاسف الأمور، ولم يكن حاشيته ورجال بلاطه أفضل منه.
ولما أخذ خطر التتر يقوى وشرعت أخبارهم تصل إلى بغداد، حاول بعض العقلاء من رجال الدولة تقويم اعوجاج الخليفة، وإصلاح حال الحاشية، والدعوة إلى الأخذ بأسباب النهوض بالبلاد، والدفاع عنها من الخطر الداهم، ولكن الخليفة الأخرق وحاشيته الخبيثة ظلوا سادرين في غيهم، لا يسمعون لنصح المخلصين، ولا يعملون على إصلاح حال البلاد، وإنقاذها مما هي فيه من الاضطراب والفساد، واختلال الإدارة، ونظام المصادرة، والتعدي على الناس، والقضاء على الحريات، ومحو العدل والمساواة.
ولم تكن حال الشعب أفضل من حال الخليفة ورجالات قصره، فقد كان عامة الناس على جانب عظيم من التفسخ الخلقي والفساد الاجتماعي؛ لأن العناصر الدخيلة قد دخلت بينهم وأعملت فسادا وتمزيقا، حتى انقسموا على أنفسهم شيعا، كل شيعة تناصر إحدى الدول الأجنبية المجاورة أو الأحزاب والفرق الداخلية المتناصرة، حتى فقدت العصبية العربية تماما، وكان لدسائس الفرس والترك أثر كبير في هذا التفرق والفساد، وبخاصة ملاحدة الباطنيين، وأتابكة الترك، ومفسدي المغول والتركمان، أضف إلى هذا انتشار طائفة من المفاسد والأمراض الاجتماعية التي ما دخلت أمة إلا أهلكتها، وسلبت عنها عزتها وكرامتها القومية من الخلاعة البالغة، والشرف العجيب، واستيلاء الخصيان والمماليك والجواري على زمام الأمور، هذا إلى طائفة من الأمراض والأوبئة المادية التي استوطنت العراق كالحميات والطواعين والأوبئة، التي لا يكاد العراق يخلو منها في كل سنة من سني القرون الأخيرة.
وإذا كانت هذه حال العراق - وهو مهد الخلافة العباسية ومحط رجال العالم الإسلامي - فكيف تكون حالة سائر ممالك الخلافة التابعة لها، والحق أنها كانت في حالة مزعجة، سواء من حيث من التفكك أو الجهل أو الفساد أو الاضطراب على سنراه فيما بعده.
ولقد بلغت هذه الأمور مسامع عظيم التتار «مفكو» أخي هولاكو، فتاقت نفسه إلى السيطرة على القطر العراقي وما إليه، وعزم على أن يبعث بجيش كبير يحتل هذه الديار بعد أن احتل فارس وفتك بأهلها أشد الفتك، وهكذا كان، فقد أرسل أخاه هولاكو في سنة 655ه إلى البلاد العراقية، بعد أن استولى على فارس كلها كما سنفصله.
ولما أن تم السلطان لهؤلاء التتار على العراق، وقضوا على الدولة العباسية، أخذت النكبات تترى على العالم العربي ودوله واحدة تلو الأخرى، ولم تعرف البلاد طعم الحرية والعزة القومية خلال سبعة قرون ذاقت فيها كئوس الذل ألوانا وأشكالا، وحكم فيها المغولي والتركماني والتركي والفارسي حكما أمات الروح العربية، وحاول أن يقضي على كل ما فيها من كرامة قومية، ولولا نفحات كانت تهب في الفينة بين الفينة فتبعث بعض العزة والكرامة العربيتين الأصيلتين من شعر شاعر مكلوم، أو نفثة أديب مصدور، أو خطبة خطيب متألم، لانمحت روح العروبة، ودرست آثارها - لا قدر الله.
إن في النهضة العربية التي نراها اليوم بين صفوف الشعوب العربية من مراكش إلى العراق لبشارة طيبة تؤكد أن الله سبحانه قد أذن لهذه الأمة الكريمة أن تستعيد مجدها، وتعمل في سبيل عزها وكرامتها، حقق الله ذلك، وسلك بنا مسالك الخير والفلاح، والوحدة والسداد.
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الأول
العراق في القرن السابع للهجرة
اضطربت الحالة العامة في العراق اضطرابا شديدا منذ فجر القرن السابق، واستمر هذا الاضطراب إلى هذا القرن ، ففي القرن الماضي كان الأمر كله بيد الأعاجم من الفرس والأتابكة والترك، ولكنهم كانوا على شيء من معرفة الإدارة والاطلاع على السياسة وخشية الجانب العربي، أما في هذا القرن فقد ساءت حالة أولي الأمر، وبخاصة الخلفاء، إلى درجة أصبح معها من المستحيل بقاء الحكم في أيديهم ولو اسميا؛ لأنهم استسلموا للمماليك والخصيان والجواري الذين سيطروا على قصورهم، وتحكموا فيهم كل تحكم، حتى أصبح الخليفة ووزيره ورجال قصره كالدمى يتلاعب بها المستبدون من الأعاجم. وإن من البديهي أن يكون الخلفاء العباسيون قد أحسوا بالخطر الذي سيجلبه عليهم تسلط الفرس على أمور الدولة؛ ولذلك حاولوا التخلص منهم فجاءوا بالترك وسلطوهم عليهم، وكان هذا بلاء جديدا ومرضا أفتك من المرض الأول دخل جسم الأمة العربية؛ لأن الفرس كانوا قوما ذوي حضارة قديمة وعلم موروث، فلما توطدت أركانهم في الدولة العربية نشروا علمهم، وبعثوا حضارتهم، أما الترك فقوم لم يعرفوا بحضارة، ولا روي عنهم علم موروث، فلما استولوا على زمام أمر الدولة العربية سيطر عليها الجهل، وعمت الفوضى، وفشا الفساد، وأصبح من الطبيعي أن تصل الدولة العربية إلى حالة مزعجة من الفساد.
لقد كان لهولاكو عيون يراقبون وضع الدولة العربية في البلاد ويقدمون إليه الرسائل والتقارير، فيحيط علما بكل دقيقة وجليلة، كما أنه كان من المعقول جدا أن يكون بعض الأمراء والحكام يأتمرون بأمره، وينفذون خططه، كما كان نفر منهم يأتمر بأمره وهو في الظاهر يعمل باسم الخليفة أو وزيره، ولعل أكبر دواعي تمكن المغول في البلاد العراقية بهذه السرعة العجيبة أن الترك المنبثين في كافة الأقطار كانوا يعملون للقضاء على السلطان العباسي، وتوطيد ملك المغول. •••
ذكر جمهور المؤرخين أن المغول قد ظهر أمرهم في أوائل القرن السابع للهجرة حينما استولوا بقيادة زعيمهم «جنكيز خان» على بخارى، وسمرقند، وبلخ، وفتكوا بأهلها المسلمين شر فتك، وكان ذلك في سنة 616-617ه، وقد فعلوا بالأهلين أفاعيل فظيعة من حرق مدنهم، وبقر بطونهم، وهتك أعراض نسائهم، والتمثيل بأطفالهم وشيوخهم، ثم انساحوا إلى إيران فتملكوها بعد أن خربوا العواصم والمدن الكبرى كمدينة «الري» و«أصفهان»، وكثير من مدن إقليمي أذربيجان وخراسان، ثم أخذوا يعدون العدة لغزو العراق، ففي سنة 633ه/1236م هاجموا مدينة «إربل»، وساروا إلى «نينوى»، ولكنهم ردوا على أعقابهم، ثم عادوا في السنة التي بعدها فهاجموا مدينة «إربل» ثانية وحاصروها مدة حتى افتدى أهلها أنفسهم بالمال، ثم عادوا إليها ثالثة في سنة 635ه، ففتكوا بالسكان واحتلوا المدينة ثم ساروا حتى بلغوا تخوم بغداد، فخرج إليهم الجند العباسي وعلى رأسه الأميران شرف الدين إقبال الشرابي ومجاهد الدين الدوبدار فهزماهم، ولكنهما خافا من عودتهم؛ فنصبا المنجنيقات على سور بغداد، وفي أواخر هذه السنة عادت جيوش المغول إلى العراق فوصلت «خانقين»، فلقيها الجيش العباسي وحمي الوطيس، ثم دارت الدائرة على الجيش العباسي، ورجعت فلوله إلى العاصمة بعد أن قتل منه مقتلة عظيمة، وغنم المغول غنائم جمة في كل هذه المعارك، وبخاصة معركة «خانقين»، فقد روى المؤرخان «ابن الغوطي» و«ابن العبري» أنهم قد رجعوا بغنائم كبيرة وأسلاب وفيرة، وأن الأهلين لاقوا منهم بلاء عظيما.
1
وقد استمر المغول في هجماتهم هذه نحو خمس عشرة سنة كاملة يغيرون على البلاد في كل سنة فيفتكون بالأهلين، ويبثون العيون، ويثيرون الذعر، ويعملون على الفت في عضد الدولة، وتخويف أهلها، وإيجاد الشغب بين الناس، ويرجعون بالغنائم والأسلاب، إلى أن تولى أمرهم «مفكوقان» أخو «هولاكوقان» في سنة 648ه/1251م وكان ذا آمال كبيرة، وطموح عظيم، فعزم على القضاء على الخلافة العباسية، والاستيلاء على ممتلكاتها، وأخذ يرتب أموره ترتيبا قويا، وينظم جنده تنظيما عسكريا، ويعمل على تأسيس دولة كبرى بالمعنى الصحيح بعد أن كان الأمراء المغول قبله يسيرون سيرة رؤساء العشائر، وقد تفرس في أخيه «هولاكوقان» أنه يستطيع مساعدته في تدويل قبائله، ونشر سلطانها على العالم، وهكذا كان؛ ففي سنة 651ه/1523م بعث بأخيه هولاكو لفتح إيران والعراق وبلاد الروم، فدخل إيران، وخرب قلعة آلوت حصن الإسماعليين، وقضى على آخر ملوكهم، والمؤرخون يذكرون أنه بينما كان يحارب الإسماعليين بعث رسولا إلى الخليفة يطلب إليه أن يساعده على الإسماعليين، وقد أراد الخليفة إنفاذ جيش لمعونته، ولكن رجال الدولة حالوا دون ذلك، فغضب هولاكو غضبا شديدا، وقال: ما لهذا يدعي أنه خليفة المسلمين ولا يتقدم لحماية عقيدة الإسلام من هؤلاء الملاحدة؟! وعزم منذ ذلك الحين على الفتك بالخليفة، ولما تم له القضاء على الإسماعيليين سار بقواه إلى بغداد في أوائل عام 655ه/1257م، وكان قد أرسل إلى الخليفة المستعصم بالله قبل زحفه على بغداد رسالة يتوعده فيها، ويهدده ويستنكر عدم مناصرته وتسيير جيوشه لمعونته في حرب الملاحدة أعداء الإسلام، فلما وصلت الرسالة إلى الخليفة اضطرب وجمع رجاله، وأخذ يشاورهم فيما يفعل، فاختلف أمرهم، والخليفة متحير لعلمه بفساد بطانته واختلال جنده وتفرق قادته، وعلمه بأن أكثرهم منطو على الغدر والخيانة، وقد تأكدت ظنونه هذه لما بلغه أن حاكم مقاطعة «درتنك»
2
على الحدود الإيرانية، الأمير حسام الدين، قد ذهب إلى هولاكو، وعرض عليه ولاءه، فأعاده إلى مقاطعته، وولاه إياها مع أعمال أخرى، ولما عزم هولاكو الزحف على بغداد تهيب الأمر، ولكنه صمم على ذلك وتوجه إليها، كما بعث إلى قادة الجيوش التي كان بعث بها إلى بلاد الروم أن تغير وجهتها وتسير إلى بلاد الموصل وتحاصرها في الوقت الذي يكون فيه قد حاصر بغداد، وحدد لهم مواعد يلتقون معه فيها حول بغداد، ثم بعث إلى بعض الفرق المرابطة في إيران أن تسير إليه أيضا حتى تجعل بغداد محاطة ب «كماشة» من ميمنتها ومن ميسرتها، وكان ذلك في أواخر المحرم سنة 655ه، ثم إنه سار نحو العراق فدخله من طريق قرميسين (كرمنشاه) في جمهرة كبيرة من القواد والعلماء والأفاضل، وفيهم نصير الدين الطوسي العالم الشهير، والصاحب عطا ملك الجوني العالم الكاتب المعروف.
ولما وصل إلى حدود «حلوان» علم أن الجيوش العباسية قد خرجت للقائه في «بعقوبا»، و«باجسرى» بقيادة الأمير مجاهد الدين أيبك الدواتدار، والأمير فتح الدين بن كر، والأمير قراسنقر القبجاقي، ولما التقى الجيشان حمل المغول حملة صادقة، فتفرق الجند العباسي، وقتل قراسنقر وفتح الدين، وتفرقت الجنود، وهلك قسم كبير منهم غرقا في دجلة، أما ابن الدواتدار فإنه استطاع الرجوع إلى بغداد منهزما ، وأحاط المغول ببغداد في منتصف المحرم سنة 656ه/1258م، وأخذوا يضربونها بالمجانيق حتى ضاق الناس ذرعا بالحصار واشتدت الحالة، وخاف القائد ابن الدواتدار مغبة الأمر فحاول الفرار من دجلة، ولكن المغول أخذوا يقذفونه بقوارير النفط الملتهب حتى اضطروه إلى العودة فعاد إلى بغداد، وأحس الخليفة بسوء العاقبة، فبعث في أواخر المحرم من تلك السنة بابنه الأمير أبي الفضل عبد الرحمن ومعه الوزير، وجمع من عظماء المدينة مع هدايا كثيرة إلى هولاكو، ولكن هذا رفض استقبالهم، وطلب إليهم أن يبعثوا إليه بالخليفة نفسه ليفاوضه، وأمر جنده بالكف عن القتال حتى يسمع من الخليفة، ولكن الخليفة لم يذهب وبعث إليه بابن الدواتدار ومعه سليمان شاه بن برجم وهو من كبار القادة فقتلهما هولاكو، وأخذ الرعب يدب في قلوب البغداديين، وسادت الفوضى في المدينة الجميلة، وعزم الخليفة على أن يخرج هو وأولاده الثلاثة أبو الفضل عبد الرحمن، وأبو العباس أحمد، وأبو المناقب المبارك، في عدد كبير من الأمراء العباسيين والعلويين إلى لقاء هولاكو، وعرض الخضوع عليه، فلما وصلوا إليه أحسن استقبالهم أول الأمر وطيب خواطرهم، ثم طلب إليهم أن يبعثوا إلى الخليفة بأن يأمر الجند بإلقاء السلاح والتسليم، فأمرهم بذلك واستسلمت المدينة، فدخل هولاكو وجنده إليها، وتولوا زمام الأمر فيها، ثم إن هولاكو أمر بوضع الخليفة والأمراء والأشراف في مكان خاص محجورا عليهم، ثم شرعت سيول الجنود تنحدر نحو المدينة، ولما ملئوا شوارعها وأسواقها أمرهم هولاكو بالفتك وقتل الناس، وسلب أموالهم، وهدم بيوتهم.
অজানা পৃষ্ঠা
وقد اختلف قول المؤرخين في عدد قتلى أهل بغداد، فروى ابن الغوطي أن عددهم بلغ ثمانمائة ألف نسمة عدا من ألقى نفسه في الأنهار، وعدا من هلك من الأطفال، ومن هلك بالقنوات والآبار والسراديب فمات جوعا وخوفا.
3
وروى الجلال السيوطي أنهم بلغوا ألف ألف نسمة، وقال آخر: بل إنهم قاربوا ثلاثة آلاف ألف،
4
ولم يسلم أحد من الناس إلا من كان مختبئا في الآبار والقنوات والسراديب، وإلا من كان لاجئا إلى إحدى الدور الثلاث التي قال هولاكو: إن من دخلها كان آمنا ، وهي دار مؤيد الدين بن العلقمي الوزير، ودار فخر الدين بن الدامغاني صاحب الديوان، ودار تاج الدين بن الدوامي صاحب الباب. ويظهر أن هؤلاء الثلاثة كانوا متآمرين مع هولاكو على الخليفة، وقد نودي بعد ذلك بالأمان، فخرج المختبئون ووجوههم مصفرة، وحلومهم طائشة، لما شاهدوا من الأهوال والويلات التي يعجز القلم عن وصفها، والفكر عن وعيها.
وفي اليوم الجمعة تاسع صفر سنة 656ه دخل هولاكو المدينة وقصد دار الخلافة واستدعى إليه الخليفة، فقدم عليه وهو مندهش ذاهل، فقال له هولاكو: طب نفسا ولا تضطرب. ثم طلب إليه أن يظهر ما لديه من الثياب والأموال والرياش والكنوز، ففعل، وكانت أشياء لا يقدر ثمنها نفاسة مما كان الخلفاء الأقدمون قد ادخروه منذ تأسيس الخلافة العباسية، فاستولى هولاكو على ذلك كله، وأمر بحمله إلى ركابه.
وترك بغداد لفساد هوائها من كثرة الجيف وانتشار الأوبئة والأمراض، وطلب إلى بعض رجاله أن يتولوا الإشراف على الخليفة ويسيئوا معاملته هو وأهل بيته، ثم يقتلوهم جميعا ويقضوا على البيت العباسي، وهكذا فعلوا حتى إذا كان يوم 14 صفر سنة 656ه قتل الخليفة وأولاده الثلاثة، ثم في اليوم التالي قتل جميع الأمراء العباسيين والعلويين حتى لم تبق منهم باقية.
وهكذا زالت الخلافة العباسية التي استمرت من يوم 12 ربيع الأول سنة 132ه/749م إلى أوائل صفر سنة 656ه/1258م، وبزوالها زال الحكم العربي وانقرضت الخلافة العباسية، ونتج من هذا نتائج جد خطيرة لا في العراق وحسب، بل في العالمين الإسلامي والعربي كما سنرى تفصيل ذلك بعد.
ولما استقر المغول في بغداد خضعت لهم كافة الديار العراقية، وعهد هولاكو إلى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي آخر وزراء الدولة العباسية بأن يهتم بشئون بغداد وما إليها، وقد استعان مؤيد الدين بطائفة من رجالات الإدارة في العهد العباسي، فأعاد فخر الدين بن الدامغاني صاحب الديوان السابق إلى وظيفته، وعهد للأمير علي بهادر بوظيفة الشحنة، وللأمير نجم الدين أحمد بن عمران بكافة الأعمال الشرقية، ولتاج الدين علي بن الدوامي بالأعمال الفراتية، وللقاضي نظام الدين عبد المنعم بالقضاء، ولعز الدين بن أبي الحديد بالكتابة، ولطائفة أخرى من رجالات العهد الماضي بالوظائف الكبرى الأخرى، فأخذت الطمأنينة تعود شيئا فشيئا إلى البلاد، واستطاع من بقي من الناس أن يفتشوا عن أموالهم وأعمالهم، وشرع الموظفون ورجال الإدارة الجدد بترميم ما يمكن ترميمه من المساجد والمدارس والربط والقصور والدور والجسور والشوارع والأسواق.
وصفوة القول: أن المحتل لم يبدل نظام الحكم - كما هي السنة - بل استبقى الحالة على ما هي عليه، وحفظ التراتيب الإدارية على سابق عهدها، إلا أنه جعل رئاسة الأمور مربوطة دائما برؤساء من المغول يرجع إليهم الوزير ممن دونه، ويتصرفون بالبلاد كما يوحي إليهم، واستمر الوزير ابن العلقمي في عمله وسيطا بين المغول وأهل البلاد حتى هلك في جمادى الأولى من السنة نفسها، فخلفه ابنه عز الدين أبو الفضل في منصب الوزارة، وسار بالناس سيرة أبيه، ولم يأت بشيء جديد سوى أنه طلب إليه أن يحصي أهل بغداد فأحصاهم، وجعل عليهم أمراء ألوف، وأمراء مئات، وأمراء عشرات، وقرر على كل إنسان - ما خلا الأطفال والشيوخ - مبلغا مسمى من المال يدفعه في كل سنة، واستمرت هذه الضريبة حتى أزالها الوزير الذي جاء من بعده، ولم يطل عهد ابن العلقمي فهلك وله من العمر أربعون عاما في سنة 657ه، فخلفه الوزير علاء الدين عطاء ملك الجوني في ذي الحجة سنة 657ه، وجعل علاء الدين عمر بن محمد القزويني معاونا له، وقاسى الناس في هذه الفترة ويلات من تأدية الضرائب الكثيرة التي كانت تفرض عليهم، وتؤخذ منهم بالقوة.
অজানা পৃষ্ঠা
وفي هذه الفترة جاء العراق موفدا من قبل هولاكو العالم نصير الدين الطوسي للتفتيش على أحوالها، والبحث عن أمور أوقافها وأحوال أجنادها ومماليكها، وقد جمع في أثناء رحلته هذه كثيرا من الكتب العلمية وأخذها من العراق، وكان أكثر هذه الكتب متعلقا بعلوم الفلك والرياضيات لعزمه على إقامة رصد في مدينة «مراغة» تنفيذا لأمر هولاكو، وقد أقام في العراق مدة وهو يفتش مصالحها، ثم رحل إلى «مراغة» حيث يقيم هولاكو، ولما عاد نصير الدين من رحلته هذه قدم تقريرا مفصلا عن أحوال البلاد العراقية، وبين لهولاكو سوء الحالة وفساد السياسة الخرقاء التي تسير عليها الولاة، فوعده بعد تلاوته بإصلاح الحالة، ولكنه فوجئ بالمرض وهلك في ربيع الآخر سنة 663ه، ولم يقم بأي إصلاح، واستمرت الفوضى حين ولي ابنه إباقا خان، فعهد بالعراق إلى الصاحب علاء الدين عطاء ملك الجوني، وأوصاه بحسن السيرة، والعمل على تعمير البلاد، وإحياء المدارس والربط، وإصلاح شئون الحج، ففعل الجوني ذلك كله، واطمأن الناس على أنفسهم وأموالهم بعض الاطمئنان، وفي سنة 667ه/1268م زار إباقا خان بغداد لمراقبة الحالة عن كثب، ثم خرج منها وقد رتب الأمور، ثم عاد إليها ثانية في سنة 672ه/1273م ومعه جمهرة من القواد والعلماء، وعلى رأسهم النصير الطوسي، ففتش المصالح الديوانية، وأمر بالإصلاح والإحسان وتخفيف الضرائب عن كاهل الناس، وكتب ذلك على حيطان المدرسة المستنصرية الكبرى، وطلب إلى النصير الطوسي أن يتصفح أحوال الأوقاف وشئون طلاب العلوم والمتصوفة، ثم زارها للمرة الثالثة في سنة 680ه/1281م ليكون قريبا من الشام، حيث بعث بأخيه الأمير «منكوتمر» مع جيش عظيم لفتح الشام ومصر، وقد بلغه أن صاحب دمشق الأمير «سنقر الأشقر» قد فتك بجيشه فتكا ذريعا، فطلب إلى الباقية أن تعود من الشام إلى العراق، ولما وصلوا العراق ودخلوا بغداد لقيت الأهالي منهم بلاء عظيما إلى أن رحلوا عن بغداد في أواخر هذه السنة قاصدين إيران، ولما وصلوا إلى «همدان» مرض هناك إباقا خان وأحس بدنو أجله، فعهد بالأمر بعده لابنه أرغون، ولكن الأمراء اجتمعوا على تسليم الأمر إلى الأمير تكودار بن هولاكو، وقد كان أول من أسلم من أولاد هولاكو وتسمى باسم أحمد، فقام بالأمر أحسن قيام، ونظم حالة العراق وكتب إلى السلطان الملك المنصور الألفي صاحب الشام ومصر رسالة يقول له فيها: «إن الله سبحانه حبانا بالأبلخانية، وأمرنا بالعدل وحقن الدماء، فإن أردت الموادعة فنحن نكف عسكرنا عن قصد بلادك، ونفسح للتجار في السفر كيف شاءوا، فإن فعلت ذلك، وإلا فعين للقتال موضعا، واعلم أن الله سبحانه يطالبك بما يسفك بيننا من الدماء.»
5
وقد لقيت هذه الرسالة أذنا صاغية من الملك المنصور، فكتب إليه أن يوادعه، وهكذا استتب الأمن في الشام وعادت التجارة إلى سابق عهدها فترة غير قصيرة، وعاد الأمن والسلام إلى العراق في هذه الفترة التي كان يتولى أموره فيها حاكم عالم عاقل هو الصاحب علاء الدين عطاء ملك الجوني،
6
ثم من بعده ابن أخيه الصاحب شرف الدين هارون بن الصاحب شمس الدين الجوني، فقد كان كل منهما على جانب من العلم عظيم، كما كان بارعا بالإدارة وحسن التصرف، ولولا الفتنة التي وقعت بين السلطان أحمد وبين أرغون خان لاستراح الناس قليلا، ولكن هذه الفتنة أزعجت الناس إلى أن قضي على السلطان أحمد، وتم الأمر لأرغون خان، فأول ما قام به هو أنه عهد في 10 جمادى الأولى سنة 683ه/1284م إلى أخيه أروق بإدارة شئون العراق، فسار إليه وقبض على الصاحب شرف الدين هارون وجماعته وقتلهم بعد أن عاملهم شر معاملة واستخلص أموالهم، ثم رحل عن العراق وأناب عنه فيه الأميرين عز الدين الإربلي ومجد الدين إسماعيل بن إلياس، وطلب إليهما أن يهتما بجمع الضرائب وإدارة الأمور وتصريفها، وقد قاسى أهل العراق وبغداد خاصة ويلات شدادا من كثرة غلاء القوت وانتشار الأمراض، ومن جراء تحكم سعد الدولة بن الصفي اليهودي الحكيم، الذي كان يتولى أمور الإشراف على ديوان العراق، وكان يهوديا خبيثا داهية استطاع ببراعته في علم الطب أن يتوصل إلى هذه الوظيفة السامية ويتحكم في رقاب الناس، وظل الأمر على هذا الحال إلى أن تولى أمور العراق «قطلغ شاه» في سنة 686ه/1287م، فأول عمل قام به هو أنه طلب من السلطان إبعاد هذا اليهودي الخبيث عن عمله، فأبعد عنه، ولكنه رحل إلى «الأردو» حيث يقيم السلطان وسعى للتقرب منه والخلوة به، فكان له ما أراد، ثم أرسله السلطان إلى بغداد، فلما وصلها أراد أن يتقرب من الناس، ويستعيد مكانته، فكتب إلى السلطان يقول له: إن «قطلغ شاه» قد فرض على الناس أموالا على سبيل الاقتراض، وثقل عليهم في استيفائها، وإن الناس قد ضاقوا ذرعا به، فأمره السلطان بإسقاط ما قرره على الناس من القروض، وحمد الناس لصفي الدين هذه المنقبة، ثم توصل على استعادة وظيفته وهي الإشراف على ديوان العراق، ثم زادت مكانته حتى سمي «صاحب ديوان الممالك العراقية»، وسمى أخاه فخر الدولة، ومهذب الدولة نصر بن الماشيري اليهودي ليقوما بأعمال الديوان، وأمر بالقبض على زين الدين الحظائري ضامن التمغات، وعلى مجد الدين إسماعيل بن إلياس ضامن أعمال «الحلة» ونائب الديوان ببغداد، بعد أن اتهمهما بالاختلاس، وصادر أموالهما، وشهرهما في السوق ثم قتلهما، وكان الزين الحظائري من محاسن الزمان، عالما فاضلا أديبا جوادا،
7
ولكن هذا المجرم اليهودي حنق عليه فقتله أشنع قتلة.
وقد ظل نجم سعد الدولة اليهودي في صعود حتى إنه بعث بأخيه أمين الدولة حاكما للموصل وما إليها، وكان شريرا فأساء إلى الناس، وضاقوا به وبأخيه ذرعا حتى إنهم اجتمعوا في المساجد يحملون على اليهود ويدعون عليهم، واجتمع نفر من أعيان الناس وكتبوا محضرا يتضمن طعنا في سعد الدولة وأهل بيته وأعوانه من اليهود، وضمنوا هذا المحضر طرفا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنص على أن اليهود قوم أذلهم الله، وأن من يحاول إعزازهم أذله الله، ورفعوا ذلك إلى السلطان أرغون، فبعث السلطان بالمحضر إلى سعد الدولة، وحكمه في الذين وقعوا في أدناه، ولكنه خاف مغبة الفتك بهم فلم يؤاخذ واحدا منهم، سوى أنه صلب جمال الدين بن الحلاوي ضامن تمغات بغداد، واضطرب الناس لهذه الحادثة وسكنوا فترة حتى إذا أجمعوا أمرهم قاموا بثورة عنيفة أحرقوا فيها دور اليهود، ونهبوا أملاكهم، ولم تسلم من هذا العمل مدينة من مدن العراق، وفتك الناس بسعد الدولة وإخوته، وكثير من أعيان اليهود وأوباشهم؛ لأنهم أساءوا التصرف، وعاملوا الناس شر معاملة، وبخاصة سعد الدولة فإنه أضر بالمسلمين وبنفقات جوامعهم وأوقافهم، فتألم الكل منه، ومما قيل من التألم منه ومن توقع زواله:
يهود هذا الزمان قد بلغوا
مرتبة لا ينالها فلك
অজানা পৃষ্ঠা
الملك فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا معشر الناس قد نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
فانتظروا صيحة العذاب لهم
فعن قليل ترونهم هلكوا
وقد جرى على اليهود من المصاب عند قتله والوقيعة بهم ما لا يحصيه قلم أو يسعه كتاب.
8
كل هذه النكبات حلت بالعراق من جراء تساهل السلطان أرغون وواليه على العراق قطلغ شاه، وقد ظلت هذه الفظائع تحل بالشعب المسكين حتى هلك سعد الدولة اليهودي، وقتل قطلغ شاه، ومات السلطان أرغون في سنة 690ه.
ففي تلك السنة مات أو سم أرغون خان وجلس كيخاتو خان على سرير المغول، وكان صاحب أهواء وفسق عجيبين، كما أنه كان مسرفا شديد الإسراف، وقد لقيت البلاد منه شرا مستطيرا فقلت الأموال وانعدم النضار واللجين من أيدي الناس حتى إنه اضطر إلى أن يصدر عملة ورقية عرفت باسم «الجاو»، فقد ذكر المؤرخ وصاف في تاريخه أن في هذه السنة 693ه وضع صدر الدين صاحب ديوان الممالك بتبريز، عاصمة الإمبراطورية المغولية، «الجاو» وهو كاغد مستطيل الشكل عليه ختم السلطان (تمغة) عوض السكة على الدنانير والدراهم، وفي أعلاه كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وأمر الناس أن يتعاملوا به، وقد حبب بعض الشعراء هذه العملة للناس، وجعلها فاتحة خير ويسر، واتخذوا الصنعة دار سك، كما سموا بعض الموظفين لطبعه وتمغه،
অজানা পৃষ্ঠা
9
وقد كانت هذه العملة الورقية الجديدة متنوعة القيم من العشرة دنانير إلى الدرهم ونصف الدرهم وربع الدرهم، وقد لقي الناس كثيرا من المصائب بسببها واضطربت أحوالهم بها جدا، حتى كان الرجل يضع الدرهم في يده تحت «الجاو» ويعطيه الخياط أو اللحام، ويأخذ حاجته خوفا من أعوان السلطان.
وفي عهد كيخاتو تولى العراق الأمير جمال الدين الدستجرداني، فكان أول عمل قام به هو أنه جمع أموالا جمة من الأهلين، كما أنه أخذ كثيرا من السلاح والكراع منهم وتوجه به إلى مقر السلطان، فاستحسن السلطان ذلك منه، وأقره على ولايته، وأعاده إلى العراق مع أمير مغولي يدعى ينطاق ليتولى إدارة الأمور معه.
وفي سنة 694ه، عزل كيخاتو الأمير جمال الدين وولى محله شمس الدين محمد السكورجي التركستاني، وكان رجلا حازما عاقلا مدبرا، فأحسن تصريف الأمور وأزال عن الناس بلواهم، وصرف عن أهل العراق ما كان حدده عليهم جمال الدين الدستجرداني من الضرائب الظالمة، والمكوس الكبيرة، ولما هلك السلطان كيخاتو في سنة 694ه، وتولى بايدو خان عزل السكورجي عن العمل وأعاد الدستجرداني إلى العراق، فكان أول ما صنعه هو أنه عمد إلى جمع أموال الناس واستصفائها، وأخذ الضرائب الديوانية، كما طلب من التجار بعض أموالهم على وجه المساعدة، وسار بما جمعه من الأموال إلى السلطان بايدو خان فأكرمه هذا غاية التكريم، وأنعم عليه بلقب «مدبر الملك»، وكان بايدو خان عاتيا ظالما فتآمر عليه أمراؤه وشتتوا شمله وولوا محله السلطان محمود غازان بن أرغون في سنة 694ه، وكان رجلا مسلما حازما داعية للإسلام بين المغول، ذا سيرة طيبة، فلقي العراق في عهده شيئا من الهناء والراحة والأمن، وخصوصا حينما زار بغداد في المحرم من سنة 696ه/1297م، فقد روى المؤرخون أنه توجه إلى العراق بجيش كبير، وأنه لم يؤذ أحدا من الأهلين، كالعادة حين يدخل المغول العراق، بل كان هو وجنده لا يأخذون من أحد شيئا من ماله إلا بالابتياع الشرعي، والكرامة واللطف، وما ذلك إلا لأن السلطان غازان كان شديد المراقبة لجنده، ولما دخلوا بغداد لم يجلوا أحدا عن داره بالقوة، كما كان يفعل السلاطين السابقون، بل أحسنوا معاملة الناس، وأول ما قام به السلطان حين دخوله بغداد هو زيارته للمدرسة المستنصرية الكبرى، وإكرامه لطلابها وأساتذتها، وكان لا يصدر في جميع أعماله إلا عن فكر صائب ورأي حازم على صغر سنه، ولم يؤخذ عليه شيء من العنف والطيش والبطش خلال سلطانه الذي دام عشر سنوات سوى شدته في حرب بلاد الشام، فقد كانت حروبا طاحنة لقيت الشام منها ويلات على ما سنبينه بعد.
أما أعماله العمرانية فكانت كثيرة في العراق وإيران من حفر للترع والأقنية والأنهار، وبناء للحدائق والربط والمدارس، وإشادة لدور العلم والحديث والقرآن، والجوامع، ومكاتب الأيتام، قال الأستاذ عباس العزاوي: «وعلى كل حال كانت خيراته عميمة، وعماراته في العراق والخارج كثيرة، واتخذ له مدفنا في ظاهر تبريز، وهو ما تعجز العبارة عن بيانه، وجعل فيه من أبواب البر ما لا يوصف من مدرسة، وخانقاه، ودار الحديث، ودار القرآن، ومستشفى، ومكتب للأيتام، وله عمارات أخرى منها رباط سبيل في حدود همذان، ومن أهم إصلاحاته أن لا يصدر «برليغ» أو «بايزه»
10
إلا بنظام خاص، وأصدر «برليغا» في إصلاح المرافعات، وانتخاب القضاة، والاعتناء بالعدل، وتثبيت ما يجب أن تسير عليه المحاكم، ومراعاة مرور الزمان في القضايا وفي ملكية العقارات، وتوحيد الموازين والمكاييل، وقرر العقوبات على من يظهر في حالة السكر في المحال العامة، ومنع التعديات على التجار والمارة باسم «تسيير» أو «أجرة محافظة طرق»، إلى آخر ما هنالك من المآثر الجميلة النافعة.»
11
ومن أعظم مآثره حسن ترتيبه الأعمال الإدارية في العراق، فقد كانت البلاد في عهد أسلافه من السلاطين المغول طعمة لمن يختارونه من الرؤساء والولاة والنواب والقضاة، وكان الأهالي يلقون من جراء ذلك تعديا فادحا، وقد كان السلطان «يضمن» البلاد إلى الوالي أو الرئيس أو النائب على مبالغ معينة يؤديها إليه، فإذا جاء هذا الوالي أو الرئيس أو النائب إلى البلاد عسف وظلم، وجمع من الضرائب أضعاف المبلغ المطلوب، فيبعث ما يبعث ويستبقي لنفسه ما يريد، ويلقى الأهلون في ذلك من الويلات أشدها، فلما جاء غازان منع ذلك كله وفرض على الناس ضرائب محددة ضمن القواعد الشرعية، وأوجب على واليه أن يأخذها من الناس على أقساط، وفي مواعيد معينة،
12
অজানা পৃষ্ঠা
وفي عهد غازان قضي على البدو الذين كانوا يعيشون في البوادي والديار العراقية، ولا تكاد تخلو سنة من سني تاريخ العراق في هذه الحقبة من ثورة يقومون بها أو غارة يغيرونها، وقد كانت الفتكة التي فتكها بهم في سنة 698ه درسا قاسيا ومؤدبا.
هذا موجز ما مر على العراق من حوادث في القرن السابع للهجرة بعد سقوط الخلافة العباسية، ويرى المتأمل أن العراق كان في حالة فاسدة، ولم يكن هذا الفساد منحصرا في النواحي السياسية والإدارية وحسب، بل كان عاما في كافة مرافق الحياة من اجتماعية ودينية وأدبية وعلمية، وسنرى تفصيل هذا في الفصل الخاص به.
وإذا كان العراق قد فقد الخلافة ومظاهرها وما تستتبعه من تكاليف، فإن الولاة والحكام - وأكثرهم من الفرس أو المغول - كانوا يحاولون التشبه بهذه المظاهر ويفرضون على الناس من سوقة وعامة وخاصة أن يلبوا طلباتهم، ويعطوا عن يد وهم صاغرون. أما حالة الشعب العامة فقد كانت - كما رأينا - جد سيئة في الغالب، ولم تكن حال أهل الذمة - من نصارى ويهود - أحسن حالا من المسلمين، بل كان الكل سواسية في تحمل ظلم هذا السلطان العاتي، غير أن اليهود بدهائهم وخبثهم وحيلهم كانوا يستطيعون - على قلة عددهم - التسلط على نفوس الحكام، والوصول إلى قلوبهم، ويستتبع هذا جر المغانم إليهم، وفرض نفوذهم على الآخرين.
الفصل الثاني
العراق في القرن الثامن للهجرة
أطل القرن الثامن على العراق ومحمود غازان هو سلطان على إيران والعراق، وهو طامع في السيطرة على الديار الشامية، وطرد المماليك المصريين منها، وقد تم له فتح قسم من بلاد الشام، وكان يطمع في فتحها كلها وضمها إلى مملكته، ولكن جيشه كسر في سنة 702ه/1302م، وقتل منهم مقتلة عظيمة، كما أسر منهم جماعات، وقد اهتم غازان لهذه الحادثة كثيرا فلحقته من ذلك حمى حادة، ومات مكمودا،
1
وكان قد أوصى بالملك من بعده لأخيه السلطان ألجايتو، فتولى الأمر في الثاني من ذي الحجة سنة 703ه، وكان أول عمل قام به هو أنه أعلن إسلامه وتسمى محمدا وتلقب بغياث الدين خدابنده ومعناها «عبد الله»، ثم انصرف إلى ترتيب أمور ممالكه وخاصة العراق، فإنها قد كانت مضطربة بعد الكسرة التي مني بها الجيش المغولي في الديار الشامية.
ولم يمض وقت طويل حتى عادت المياه إلى مجاريها، وانتظم حبل الأمن وخمدت الثورات واستقرت له الحالة في كافة الولايات؛ لأنه أعلن أن من تحدثه نفسه بشق عصا الطاعة فسينال أقصى العقوبة، ثم أرجع الأمور إلى ما كانت عليه أيام أخيه، فانتظمت الأحوال واستقرت، لولا أنه قام بعمل ضاق الناس به ذرعا ولم يتحملوه وثاروا عليه من أجله، وهو أنه في سنة 707ه/1307م أظهر التشيع ودعا الناس إليه بعنف، وكان قبل هذا التاريخ جاريا على منهج أهل السنة، أما في هذه السنة فإنه أمر بحمل الناس على التشيع وكتب بذلك إلى العراقين، وفارس، وأذربيجان، وأصفهان، وكرمان، وخراسان، وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أول بلاد وصل إليها ذلك بغداد وشيراز وأصفهان، فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم، وهم أهل السنة - وأكثرهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - وقالوا: لا سمع ولا طاعة، وأتوا المسجد الجامع يوم الجمعة في السلاح، وبه رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر قالوا له: نحن اثنا عشر ألفا في سلاحهم، وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها، فحلفوا له أنه إن غير الخطبة المعتادة أو زاد فيها أو نقص منها فإنهم قاتلوه، وقاتلو رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاء الله. وكان السلطان قد أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة، ولا يذكر إلا اسم علي ومن تبعه كعمار رضي الله عنه، فخاف الخطيب من القتل وخطب الخطبة المعتادة.
2
অজানা পৃষ্ঠা
ولما رأى الرسول شدة حصاة العراقيين رجع وأخبر السلطان بما رأى، فتساهل معهم ولم يقسرهم على شيء، إلا أنه ظل يفضل آل البيت عليهم السلام ويكرمهم، وكانت سيرته في الغالب سيرة حسنة، وقد سعى في نشر الدين بين قبائل التتار حتى دخلوا فيه أفواجا، وقد كان شديد التعصب لإسلاميته، مضيقا على أهل الذمة، وقد احتال اليهود في عهده كثيرا وقاموا بأعمال إجرامية، وتستر بعضهم بستار الإسلام وهو يبطن اليهودية، ومن أخبث اليهود الذين لعبوا دورا هاما في هذه الفترة امرأة أظهرت الإسلام وتزوجت الخواجة سعد الدين الوزير، واتفقت هي والطبيب اليهودي نجيب الدولة الذي أظهر الإسلام أيضا، وأخذا يلعبان أدوارا أقضت مضجع الأهلين، وفتكا بطائفة كبيرة من الأعيان والأشراف، وقد كانت هذه العصابة المجرمة، وعلى رأسها نجيب الدولة وتلك المرأة الخبيثة، سبب نكبة طائفة من الأغنياء والوجوه.
ومن يلاحظ في عهد السلطان محمد أن الأعراب وسكان البادية قد قوي أمرهم، وأضحوا أصحاب نفوذ، وتدخلوا في شئون الحاضرة، ومن العشائر الكبيرة التي كان لها نفوذ في سورية والعراق هذه الفترة آل الفضل، ورئيسهم مهنا بن عيسى، وزميله أحمد بن عميرة، وهذه العشيرة كان لها نفوذ كبير، وهي من أفخاذ بني طي، وقد تملكت رحبة مالك بن طوق وما إليها، وربما تملكت الموصل، فقد روى المؤرخون أن أحمد بن عميرة ذهب إلى السلطان في تبريز، وطلب إليه أن يوليه على الموصل وما إليها فولاه إياها، وكان مهنا بن عيسى يلقب ملك العرب، وقد لعب دورا خطيرا لما وقعت الفتنة في العراق وسورية بين الملك الناصر وبين أمرائه في سورية قراسنقر المضوري وعز الدين الزردكاش وبلبان الدمشقي، فإن هؤلاء كانوا شقوا عصا الطاعة على الملك الناصر، وتركوا ولاياتهم في الشام، وذهبوا إلى مهنا بن عيسى طالبين إليه أن يعينهم بعشيرته، فوافقهم على ذلك وسار الجميع إلى ملك المغول خدابنده وأطمعوه في السيطرة على الديار الشامية والمصرية والقضاء على دولة المماليك، وأنهم سيساعدونه على الوصول إلى ذلك، فاقتنع بفكرتهم، وتوجه بنفسه على رأس جيش كبير إلى رحبة مالك، وكان ذلك في شعبان سنة 712ه.
ولما طال حصاره للمدينة، وتعذر عليه فتحها، ووقع المرض في جنده، وقلت المواد الغذائية عنده؛ اضطر إلى أن يرجع إلى بلاده بعد أن حاصرها شهرا. أما قراسنقر وعيسى بن مهنا وجماعتهم فقد اضطروا إلى أن يرجعوا معه إلى العراق، ولما وصلوا العراق أقطعهم بعض الولايات، فكان نصيب عيسى مدينة الحلة وما إليها، ثم إنه عاد إلى خدمة الملك الناصر بعد أن أخذ مواثيق، فأذن له في أن يستمر في إقطاعه ببلاد الشام وهو مدينة سرمين وما إليها من أعمال حلب، وهكذا استطاع أن يمتلك إقطاعين أحدهما في العراق والآخر في الشام، فأقام ولده سليمان نائبا عنه في مدينة الحلة، وأقام ولده الثاني موسى نائبا عنه في مدينة سرمين، وظل هو يتردد بين البلدين وينال الخلع والعطايا من الجانبين. وكان يحرك أولاده وعشيرته فيثورون إذا ما تأخر ملوك الشام أو العراق عن تقديم العطايا والمنح إليه، وكانت أعظم هذه الثورات الثورة التي قام بها ابنه سليمان في سنة 715ه/1315م، فقد أغار مع عشيرته في أواخر ذي الحجة من تلك السنة مع جماعات من المغول على القبائل العربية المرابطة في تدمر، وفتكوا بهم وخربوا بيوتهم وغنموا منهم مغانم كثيرة، ثم قفلوا إلى العراق، وقد شجعهم السلطان خدابنده كثيرا على ذلك، كما شجع عرب الحجاز على الثورة حينما قصد إليه أميرهم الشريف حميضة بن أبي نمي مستنصرا إياه على أخيه الشريف رميثة أمير مكة، وقد أرسل خدابنده مع حميضة حاكم البصرة مع عدد كبير من المغول وبني خفاجة للسيطرة على الحجاز وإقصاء رميثة التابع لنفوذ مماليك مصر، وقد وقعت بين الجانبين مواقع كثيرة، ولولا أن جاء الخبر بموت خدابنده لما قضي على هذه الفتنة.
ولما مات خدابنده في سنة 717ه/1317م، تولى الأمر من بعده ابنه بهادر خان وهو طفل لم يتجاوز العاشرة، فقام بالأمر جوبان وكان أميرا داهية ذا سيرة سيئة، سلك مسلك السلطان خدابنده وتمم مشاريعه. وفي سنة 718ه حضر إليه الأمير فضل بن عيسى بن مهنا، وقدم إليه تقدمة من الخيول العربية والهدايا النفيسة، فعهد إليه بإمارة البصرة وما حولها، واستمرت له إقطاعاته التي كانت بالشام، ويظهر أن سلطان مصر المملوكي قد أحس بالدور الخطير الذي يلعبه هؤلاء الأعراب، فأراد أن يسلط عليهم بعض العشائر البدوية، وعمل على إغراء بني عقيل عليهم، كما أثار أعراب الأحساء والقطيف ضدهم، ولقيت مدينة البصرة منهم جميعا ويلات ومحنا شدادا، حتى قيل إن بني عقيل أخذوا من بني مهنا ومن أهل البصرة ما يزيد على العشرة آلاف بعير.
3
ولولا أن فتنة وقعت بين أمراء المغول أنفسهم، لاستمر جوبان على إغرائه بين العرب. وتفصيل أمر هذه الفتنة أن أمراء المغول كرهوا انفراد جوبان بالأمر من دونهم، وخصوصا بعد أن وزع نيابة السلطنة في الممالك العراقية والإيرانية بين أولاده.
فلما رأوا ذلك عزموا على الثورة عليه، ووقعت الفتنة بين الجانبين، وقتل منهما قرابة ثلاثين ألفا،
4
حتى كاد أن يزول ملك المغول لولا أن جوبان أظهر براعة عظيمة فقضى على خصومه، واستتب له الأمر.
5
অজানা পৃষ্ঠা
ثم إنه رأى أن أول ما يجب عليه عمله هو أن يهادن سلطان مصر الملك الناصر ويتقرب إليه، ففي سنة 720ه/1320م بعث رسلا من قبله ومن قبل بهادر خان، ومن قبل الوزير علي شاه إلى سلطان مصر الناصر، وهم يحملون الهدايا والتحف والجواري والمماليك مما قيمته خمسون تومانا، وكانت قيمة التومان وقتئذ عشرة آلاف درهم،
6
ولما وصلوا إلى مصر أكرمهم السلطان الناصر، ومما قاله له رئيس الوفد: «إن أخاك الملك أبا سعيد يسلم عليك ويقول إن أباه خدابنده كان يقول: أنا والسلطان الملك الناصر شيء واحد، والمسلمون جيش واحد، ونسكن الفتن القديمة، ونقيم الملة الإسلامية.» وقد أجابه الملك الناصر جوابا لطيفا دل على استحسانه واستجابته، ثم عقد بين الجانبين عهد صلح تضمن النقاط الآتية: (1)
أن يمنع ملك المغول حضور الفداوية من بلاده، فلا يدخل أحد منهم. (2)
أن من حضر من مصر إلى بلاد ملك المغول يكون لاجئا ولا يطلب، وأن من حضر من بلاد المغول إلى بلاد مصر فلا يعود إلا أن يكون ذلك برضاه. (3)
ألا يدخل بلاد ملك المغول مغير من العرب أو التركمان. (4)
أن تكون الطريق بين البلادين مفتوحة يدخل فيها التاجر وغيره، فلا يعارض. (5)
أن يكون لملك المغول سنجق سلطاني يحمل في الركب الذي يخرج إلى مكة أثناء موسم الحج. (6)
ألا يطلب قراسنقر ولا يذكر بشر؛ لأنه لاجئ إلى ملك المغول، ونزيل عنده فوجبت عليه حرمته. (7)
أن يبعث السلطان الملك الناصر إلى الملك المغولي رجلا معروفا بالجودة والأمانة ممن يوثق به في الأمور، وتكون معه نسخة يمين من السلطان، وأن الملك المغولي يحلف على ذلك، ويستمر هذا الصلح، ويصير الإقليمان إقليما واحدا.
অজানা পৃষ্ঠা
وهكذا تم الاتفاق بين الطرفين وعاد الوفد من مصر بعد أن أنعم عليهم السلطان بالهدايا والخلع، وكتب كتابا إلى ملك المغول بإقرار العقد، وأن العرب من آل مهنا قد كثر فسادهم في البلاد وأنهم خارجون عن طاعة السلطان المصري، فيجب على السلطان المغولي ألا يمكنهم من بلاده أيضا، ومما جاء في الجواب: «وإن العرب آل عيسى بن مهنا قد كثر فسادهم في البلاد وخرجوا عن طاعتي، وقد أخرجتهم من بلادي وأريد أنا أيضا ألا تمكنوهم من الدخول إلى بلادكم وتمنعوهم، وأنا أخرج عسكرا من عندي وأنتم أخرجوا عسكرا من عندكم، فنشيل سائر العرب.»
7
ويظهر أن الجانبين كانا يلاقيان ضروبا من الفتن بسبب هؤلاء الأعراب المنتشرين في بادية الشام، وعلى سيف الصحراء، وعلى الحدود الشامية العراقية، وقد مر بنا قبلا ما كان نصيبهم في الفتنة التي وقعت بين سلطاني مصر والعراق، ومما يلاحظ أيضا في عهد الصلح السابق أن الفداوية (الفدائية) كانوا يحتمون في مصر ويقومون بأعمال العنف المزعجة في الديار العراقية؛ ولذلك كان أول شرط شرطه أبو سعيد ملك المغول والأمير جوبان هو منع هؤلاء من الإقامة بأرض مصر، وأن يفرق شملهم، ويظهر أن المصريين كانوا قد شجعوا نفرا منهم لاغتيال بعض أمراء المغول أو قتل نفر من المماليك المصريين الذين لجئوا إلى العراق بعد حصول الفتنة بين سنقر وعز الدين الزردكاش وبلبان الدمشقي.
وقد استمرت مكاتبات الصلح هذه حتى سنة 723ه/1323م، فقد ذكر أبو الفداء أن في هذه السنة ذهبت رسل السلطان أبي سعيد ورسل نائبه الأمير جوبان وتوجهوا إلى سلطان مصر بالقاهرة ثم عادوا إلى بلادهم،
8
وهدأ العراقان وبلاد الشرق ومصر بعد فترة طويلة من الفوضى والاضطراب، وقد زار العراق في هذا الوقت الرحالة العربي ابن بطوطة، وكان السلطان أبو سعيد هناك، فوصفه وتحدث عن بعض مجالسه ولهوه وأحواله وأحوال صاحب دولة جوبان وأحوال ابنه دمشق خواجه، وكيف كانت نهاية جوبان وأولاده جميعا مما سنراه مفصلا بعد.
إن من المؤكد أن العراق وجميع البلاد الخاضعة لحكم المغول كانت في الربع الأول من هذا القرن تحت سيطرة جوبان وأولاده يتحكمون فيها كما يشاءون، وليس للسلطان أبي سعيد إلا الاسم والمظاهر السلطانية، وقد ضاق السلطان بهذا الأمر ذرعا فعمل على التخلص من دمشق خواجه فقتله، ثم أراد الفتك بأبيه فالتجأ إلى ملك هراة غياث الدين شاه فأكرمه أول الأمر ثم دبر قتله وبعث برأسه إلى أبي سعيد، وتفرقت بقية أولاده في البلاد، ثم ألقي القبض عليهم وقتلوا جميعا،
9
وقد تولى الوزارة بعده غياث الدين محمد بن الخواجة رشيد الدين، وكان رجلا عاقلا اعتمده السلطان فأحسن سياسة الأمور، وأبطل كثيرا من المكوس والضرائب الظالمة، وحسنت أحوال الناس في عهده، وقويت تجارة العراق مع البلاد المجاورة وخاصة الشام وإيران والروم، وكانت البلاد العراقية على حالة حسنة؛ لأن واليها علي باش كان على جانب من الكياسة والدين، وظلت أحوال البلاد حسنة طول عهد السلطان إلى أن فتك به داء الصرعة في ربيع الآخر سنة 736ه/1335م وله من العمر بضع وثلاثون سنة،
10
অজানা পৃষ্ঠা
فلما مات وقعت الفتنة في البلاد؛ لأنه لم يكن له ولد، وطمع في الملك بعده خصومه وأمراء مملكته، فقد كان علي باش أمير بغداد طامعا في ذلك، وكان الأمير أربا خان - وهو من كبار رجال الدولة - يحلم بذلك، وهو امرؤ قوي النفوذ والشكيمة، فنادى بنفسه ملكا على البلاد، واستولى على إيران والعراق واشتعلت نار الفتن في البلاد جميعها، وخصوصا حين غلب علي باش على أمره، وذهب إلى السيدة دل شاو زوجة السلطان أبي سعيد وطلب إليها أن تذهب معه إلى بغداد وكانت حاملا، فذهبت معه وأعلن للناس أن الملك ينبغي أن يكون لمن ستلده هذه السيدة، وبعث الدعاة بذلك إلى البلاد، ثم إنه أخذ يضيق على البغداديين وسائر العراقيين، ويطلب إليهم أن يدفعوا إليه الأموال للدفاع عنهم من غارات «أربا خان»، فجمع أموالا جساما، حتى قيل إنه لم يبق مع الأعيان والأغنياء شيئا، ثم سير جيشه إلى مدينة سلطانية عاصمة المغول، وعمت الفوضى في البلاد، وتحكم فيها الفساد والمتمردون، وقطعت الدروب وعمت الفتن ، ثم وردت الأخبار بقتل أربا خان في سنة 736ه، وتسلطن بعده موسى خان، فلم تطل مدته سوى شهرين، وكانت مملوءة بالشرور والثورات.
ويمكننا أن نعتبر أن سلطان المغول قد انقرض بتولي هذا السلطان، وكان ذلك على يد الشيخ حسن الكبير الأبلخاني أمير بلاد الروم، فقد زحف على البلاد العراقية، ووقعت بينه وبين موسى خان وعلي باش معركة كبيرة في تبريز، انتهت بتفرق جند علي باش، وهروب موسى خان، وأسر علي باش وقتله.
11
وهكذا انقرضت الدولة المغولية في العراق والمشرق كله سنة 738ه/1336م، على الرغم من بقاء بعض الأمراء المتغلبة المغول الذين أخذوا يعلنون سلطنتهم واستيلاءهم على بعض بقاع الدولة مثل: سلطان محمد، وطفا تيمور، وصاتي بك، وسليمان خان، وجيهان تيمور، وغيرهم من الأمراء الذين كان لا يدوم ملك أحدهم أكثر من شهرين أو ثلاثة، وقد لقي العراق منهم في هذا القرن فتنا وويلات عظيمة، كما مرت به سنوات قحط شديدات إلى أن توطدت الأمور للدولة الأبلخانية الجلايرية الجديدة على يد رئيسها الشيخ حسن الكبير.
انتظمت أمور هذه الدولة الجديدة بعد القضاء على المغول واستقرار الشيخ حسن الكبير في بغداد وتنصيبه ابنه السلطان أويس حاكما على العراق، ولكن الأمور لم تستتب إلا في سنة 740ه/1339م، فقد استولت الدولة الجلايرية على الحلة وكانت تحت نفوذ الشريف أحمد بن رميثة بن أبي نمي صاحب الحجاز، سلمه إياها السلطان أبو سعيد كما سلمه أمر عرب العراق، فأحسن الشريف أحمد الإدارة فترة من الزمن، ولكنه فوجئ بمجيء الشيخ حسن الجلايري واضطر أن يستسلم إليه، ولكن هذا قتله بعد أن أمنه، وكانت زوجته «دل شاه» بنت دمشق خواجه ملكة العراق، وصاحبة الحل والعقد فيه، وكان أمرها نافذا في الممالك العراقية كلها، وكانت امرأة ذكية تحب فعل الخيرات، وتعطف على أهل العلم والأدب والصلاح، وتعنى بإشادة العمارات، وهي والدة السلاطين: أويس، وقاسم، وزاهد، ودوندي، وقد لعب كل واحد من هؤلاء أدوارا هامة في تاريخ العراق خلال هذه الفترة، وفي عهدهم رجع إلى بغداد بعض رونقها الذي كان لها أيام الدولة العباسية، فقامت العمائر الضخمة وشيدت المدارس الجليلة، وكثر الأدباء والعلماء والشعراء، ومن أشهرهم الخواجة سليمان الساوجي، وكان شاعرا مجيدا بالفارسية والعربية، وقد مدح السلطان أويس واختص به؛ لأنه رباه وعلمه الشعر، وفي ديوان الساوجي هذا كثير من وصف حالة بغداد وأخبار فتوحات السلطان أويس الذي تولى الملك بعد أبيه في رجب سنة 757ه/1356م، وأقام في الملك ثلاث سنوات عمرت فيها البلاد بالمدارس والربط والقصور الفخمة، لولا الطوفان الكبير الذي غرقها في سنة 757ه، وأهلك نحو أربعين ألفا من أهلها.
ومن الأمراء الكبار في هذا العهد الخواجة مرجان بن عبد الله الأولجاني أمير بغداد، وقد كان من أهل الفضل، وقف وقوفا جليلة على أهل العلم، وشاد مدرسة على غرار المدرسة النظامية الكبرى التي بناها الوزير الأعظم السلجوقي نظام الملك، ولا تزال مدرسة مرجان ماثلة إلى يومنا هذا شاهدة بما بلغته في العهد الجلايري من العظمة والرقي، ومن آثار مرجان أيضا دار الشفاء التي شادها لتكون معهدا ومستشفى، كما بنى كثيرا من الخانات والأسواق الضخمة، وقد استمر مرجان هذا في ولايته حتى عصى على السلطان في سنة 765ه، وحاول الاستقلال ببغداد فبعث إليه السلطان من أخضعه فاستسلم وسلم المدينة، ثم عزله السلطان وعهد إلى سلطان شاه بولاية بغداد في سنة 766ه، فدخلها هذا وبعث جنده إلى الموصل فأخضعها، واستمر في بغداد إلى أن مات في سنة 769ه، فطلب مرجان من السلطان أن يعيده إلى ولاية بغداد بعد أن حلف له على الطاعة، فقبل منه وأعاده عليها للمرة الثانية، فسار بالناس سيرة حسنة وأتم ما كان شرع فيه من الأعمال والمشاريع العامة، وحمد الناس له سيرته، وكمل في ولايته الثانية هذه ست سنوات ومات في سنة 774ه/1372م، فوليها بعده الخواجة سرور، ولم يقم فيها إلا أشهرا قليلة حتى أصيبت بالغرق العظيم، فطفا الماء على بغداد وما حولها، وتهدمت أكثر قصورها وآثارها، كما تهدمت الآلاف من دورها، ومات جمع غفير من أهلها، وكانت الخسارة عظيمة، فلما بلغت أخبارها إلى السلطان وهو بتبريز تأثر جدا فسأل أمراءه عمن يريد أن يتولى إيالة بغداد وينقذها من الخراب الذي أحاط بها، ويكون مدة خمس سنوات مطلق اليد في خراجها، على أن يعمرها فقبل الأمير إسماعيل بن زكريا الدامغاني بذلك، ودخلها في سنة 775ه/1373م، وحدب عليها وعطف على أهلها، وحفر الأنهار، ونظم المجاري، واعتنى بالزراعة، ونظم شئون البلاد حتى ازدهرت، وفي هذه الفترة مات السلطان أويس وولي ابنه جلال الدين حسين مكانه في سنة 776ه/1374م، فأقر الأوضاع كما كانت في عهد أبيه، ومرت الممالك العراقية بفترة استقرار لولا حادثتان، أولاهما أن الخواجة بيرام بك ثار في الموصل وتغلب عليها في سنة 777ه/1375م كما تملك بلاد سنجار، وقوي أمره، واشتد بطشه؛ والثانية وقوع فتنة في بغداد في سنة 780ه/1378م ذهب بسببها الأمير الدامغاني قتيلا بسبب ثورة الجند عليه، وقد أسف الناس لمقتله لما كان عليه من الصفات النبيلة والعدل، وإعادة السكينة والرخاء إلى بغداد خاصة، والبلاد العراقية عامة.
ولما قتل الأمير إسماعيل الدامغاني اضطربت الأحوال ووقعت فتن كثيرة بين السلطان حسين وإخوته الطامعين في الملك والسيطرة على بغداد، إلى أن كانت سنة 782ه/1380م فتمت فيها الغلبة للشيخ علي أخي السلطان حسين، وتولى على بغداد قسرا بمعاونة نفر من أهلها؛ لأنه كان أميرا عادلا صالحا على عكس ما كان أخوه السلطان حسين.
وفي هذه الفترة أحب السلطان حسين التقرب من سلطان مصر والشام وأن يقوي نفوذه عنده، فبعث إليه بالقاضي زين الدين علي بن العبايقي الآمدي قاضي بغداد وتبريز، وبالصاحب شرف الدين بن عز الدين الواسطي وزير السلطان، ومعهما نفر من الوجوه والأعيان، ولما وصلوا إلى الديار الشامية أكرمهم أهلها إكراما كثيرا، ولما وصلوا إلى الديار المصرية تلقاهم السلطان برقوق أحسن تلق، وقد قوت هذه الوفادة أواصر المودة بين العراق وبين الشام ومصر وحكامهما. ويذكر المؤرخون أن القاضي زين الدين لما رجع إلى العراق كان يكثر من الثناء على أهل الشام ومصر، ويظهر أن السلطان حسينا لم يفد كثيرا من هذه الوفادة؛ فإن النزاع قد قوي بينه وبين إخوته، فإنهم غاروا من ذلك، وأخذوا يفسدون عليه خططه التي هدف إليها من وراء هذه الوفادة، وفي سنة 784ه/1382م تغلب عليه الأمير أحمد وقتله واستقل بالأمر بعده، ثم انصرف أحمد لقتال سائر إخوته، وابتدأ بقتال الشيخ علي صاحب بغداد الذي نادى بنفسه سلطانا عليها بعد مقتل أخيه السلطان حسين، ووقعت بين الطرفين معارك عديدة قتل فيها الشيخ علي واضطربت حالة بغداد، وتسلط الأوباش والسوقة على المدينة، واجتمع وجوهها وبعثوا إلى أمير يسمى «عادل آغا» وصاحب نفوذ كبير في مدينة تبريز طالبين إليه أن يبعث إليهم واليا يضبط أحوال المدينة وينظم فوضاها، فبعث إليهم بالأمير طورسن ليتولى بغداد، وبقوام الدين النجفي ليتولى وزارة بغداد، فلما وصلا إلى المدينة لم يستطيعا وضع الأمور في نصابها، ولم تتبدل الحالة بل ازدادت سوءا على سوء؛ لأنهما شرعا في جمع الأموال ومصادرة الأهلين، وخصوصا حين بلغ الناس خوف السلطان أحمد من تيمورلنك الذي أخذ نجمه يظهر في هذه السنة، 786ه/1384م، والذي سيطر على المشرق كله من تركستان إلى بخارى وسائر بلاد ما وراء النهر، وأنه متجه الآن لفتح الأراضي الغربية في خراسان وسائر المماليك الإيرانية والعراقية والشامية والمصرية.
وفي سنة 786ه/1384م زحفت جيوش تيمورلنك على تبريز وأذربيجان فاستولى عليهما وفتك بأهلهما، وفر السلطان أحمد إلى بغداد فتخاوف الناس، وتذكروا أيام هولاكو وجنكيز خان، وبينما كان تيمورلنك يريد الزحف على العراق، إذا بالأخبار ترد إليه أن بعض الثوار ظهروا في بلاده، وخرجوا عليه، فرجع إليهم من حيث أتى واستقر هنالك فترة وطد فيها أركانه، وقضى عليهم، ثم عاد إلى العراق فلقيه جيش العراق على ما سنفصله فيما يلي.
الفصل الثالث
অজানা পৃষ্ঠা
العراق والكارثة التيمورية
ظهر تيمورلنك عام 773ه/1371م في بلاد سمرقند فاستولى عليها، ثم استولى على بلاد بخارى جميعها، ثم قصد بلاد هراة وما إليها فضمها إلى مملكته، ولم تأت سنة 777ه حتى كان مستوليا على جميع بلاد ما وراء النهر وتركستان وخوارزم ، وفي سنة 784ه قوي نفوذه جدا، وخرج بجموع كثيرة من المغول والتتار ودخل بلاد خراسان ففتحها، ثم اتجه إلى بلاد أذربيجان فخربها، واستولى على أموالها وفعل الأفاعيل بأهلها؛ لأنهم حاولوا مقاومته، ثم سار نحو أصفهان فأخضعها، واتجه نحو تبريز فاجتاحها، واضطر السلطان أحمد بن أويس أن يهرب بنفسه على ما بيناه في الفصل الثاني.
وبلغت أخبار تيمورلنك إلى العراق فخاف أهله خوفا شديدا، وأخذ كل واحد يعد العدة للهروب بنفسه والنجاة بأولاده وماله. أما السلطان أحمد فإنه رأى أن يكتب إلى صديقه سلطان مصر مستنجدا، ومحذرا من فتك هذا الطاغية الجبار ، وأخذ السلطان أحمد يجهز نفسه فأعد عسكرا عظيما وتلاقى جيش العراق بجيش تيمورلنك عند مدينة سلطانية، ولكن الجيش العراقي العربي لم يستطع الوقوف طويلا أمام الجيش التيموري، وتفرق جنده، وعمت الفوضى بين رؤسائه وقادته، ثم اتجه الجيش التيموري صوب بغداد، وأخذ جنده يفتكون بالقرى والمدن التي تعترض طريقهم، وكانوا يستخلصون الأموال ويعذبون الأهلين، ويقتلون كل حي حتى النساء والأطفال والشيوخ، ويهدمون الدور والقصور ويحرقون الزرع والشجر، ويسبون الغلمان والفتيات. أما السلطان أحمد، فإنه جمع أمواله ونفائس قصوره وكنوزه وأهل بيته، وأرسلهم في صحبة ابنه الأمير ظاهر إلى قلعة جد حصينة يقال لها «قلعة النجاء» في بلاد شروان، ثم فر هو وبعض قادته وأمرائه إلى بلاد الشام في يوم 20 شوال سنة 795ه، ودخل تيمورلنك مدينة بغداد وبعث جنده إثر السلطان أحمد، فساروا إلى «الحلة» وفتكوا بأهلها، وكادوا يلحقون بالسلطان أحمد ويفتكون به، ولكنه استطاع أن ينجو بنفسه بعد أن سبى المغول حريمه واستولوا على جنده، وركض هو مسرعا ناجيا بنفسه حتى دخل مدينة «الرحبة» واستجار بأميرها نصير أمير عرب الفضل فأكرمه، ثم نصحه أن يتجه نحو حلب فسار إليها وأكرمه نائبها، ثم كتب إلى السلطان في مصر يعلمه بمقدمه ويخبره أن السلطان أحمد راغب في السفر إلى مصر، فجاءه الجواب بالموافقة وسار السلطان إلى مصر.
أما تيمورلنك فإنه بعد أن استولى على بغداد وفتك بأهلها أفظع الفتك، وأتلف تحفها وذخائرها ودورها وقصورها ومكاتبها ومرافقها ومدارسها وجوامعها وحماماتها، واستولى على كنوزها وتحفها وغالي أثاثها ورياشها، بعث جنوده فاستولوا على سائر النواحي المحيطة بالعاصمة، وقد لقي الناس منهم أشد الويلات حتى أقفرت المدن، وأضحى جميع أهلها فقراء أو كالفقراء، ومات ناس كثيرون من التعذيب والجوع والأوبئة.
وفي سنة 796ه/1393م توجه نحو ديار بكر وتكريت فاستولى عليهما وفتك بأهلها فتكا ذريعا، حتى قيل إنه بنى من رءوس القتلى من أهلهما مئذنتين وثلاث قباب عاليات، وجعل مدينة تكريت خرابا يبابا، ثم اتجه نحو «إربل» فحاصرها أشد حصار حتى جعل صاحبها الشيخ علي يخضع له فقبل خضوعه، وأبقاه أميرا على المدينة على أن يقدم له في كل سنة جعلا مسمى، ثم بعث بولده على رأس جيش كبير من المغول والتتار إلى بلاد البصرة وجزائر البحرين، فالتقى بأميرها صالح بن صيلان، فقاومه صالح أشد المقاومة، وفتك بالجيش التتاري، وأسر ابن تيمورلنك، ولما سمع تيمورلنك بذلك غضب أشد الغضب، وغادر بغداد بعد أن ولى عليها الخواجة مسعود الخراساني، ولما وصل إلى البصرة دحر أميرها وفتك بأهلها واستنقذ ولده، ثم اتجه صوب «رأس العين» فدخلها وانساح جنوده في الجزيرة والموصل فسيطر على كل تلك الأقاليم، وكان في عزمه أن يتجه صوب حلب فعدل عن ذلك؛ لأن الأخبار جاءته معلنة أن الأمير «طقتمش خان» صاحب بلاد الدشت والقفجاق قد مشى من بلاده يريد غزو بلاد تيمورلنك، فرجع هذا إلى تبريز، ثم اتجه لقتال الأمير طقتمش خان، فالتقيا ودام القتال مدة ثم انهزم طقتمش خان وأخذ تيمورلنك ينظم أمور بلاده، ويوزع إدارتها على أولاده وقادته، ولما أتم ذلك كله كتب إلى السلطان الملك الظاهر برقوق صاحب مصر والشام يطلب إليه أن يسلمه السلطان أحمد بن أويس، وبعث إليه بكتاب طويل أرغى فيه وأزبد، وهدد وأوعد،
1
فأجابه السلطان برقوق بكتاب أطول أنشأه الكاتب الأشهر ابن فضل الله العمري، وقد رد فيه على تيمورلنك توعده وإنذاره.
ثم إن السلطان برقوق جهز السلطان أحمد بجيش كبير، فسار إلى دمشق وأقام فيها مدة أتم فيها استعداداته، ثم توجه إلى العراق سنة 797ه/1394م مع طائفة من القواد والأمراء، فبلغ بغداد وأميرها حينئذ الخواجة مسعود الخراساني، فحاربه حتى اضطره إلى الهرب، وتسلم المدينة في مطلع عام 800ه/1397م، ثم أخذ ينظم أمور المدينة حتى أعادها إلى رونقها وسالف مجدها، ولما بلغت هذه الأخبار مسامع تيمورلنك غضب أشد الغضب ونظم حيلة لاغتيال السلطان أحمد، فبعث الأمير شروان إلى بغداد طالبا إليه أن يتظاهر بالالتجاء إلى السلطان أحمد، ولما دخل هذا إلى بغداد أكرمه السلطان أحمد، ثم أخذ الأمير شروان يعمل في الخفاء على إثارة الفتنة، ويوزع الأموال على الأمراء والأعيان، وأحس السلطان أحمد بالحيلة ففتك به وبطائفة كبيرة من الأمراء والأعيان المتآمرين معه، ولكنه ظل على الرغم من ذلك خائفا من دسائس تيمورلنك وعيونه. وفي سنة 802ه/1399م عزم على ترك العراق والذهاب إلى بلاد الروم والالتجاء إلى ملوكها الأتراك العثمانيين، فقد بلغه أن تيمورلنك عازم على الإغارة على بغداد بجيش كبير، فاتجه السلطان أحمد نحو بلاد الروم والتجأ إلى السلطان بايزيد العثماني، بعد أن أبقى في بغداد حاكما عليها يدعى الأمير فرج، ولما بلغ ذلك تيمورلنك توجه إلى بغداد فدخلها في سنة 803ه، وفتحها للمرة الثانية، وأعمل في أهلها سيفه حتى لم يكد يبقى من أهلها إنسان، ولا من بنائها آثار، وأحرق الزرع والشجر، وأهلك كل ما لم يستطع جنوده على سرقته وحمله.
قال المؤرخ ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب»: «سار على بغداد وحاصرها أيضا حتى أخذها عنوة يوم عيد النحر من هذه السنة 803ه، ووضع السيف في أهلها وألزم جميع من معه أن يأتي كل واحد برأسين من رءوس أهلها، فوقع القتل حتى سالت الدماء أنهارا، وقد أتوه بما التزموه، فبنى من هذه الرءوس مائة وعشرين مئذنة، ثم جمع أموالها وأمتعتها، وسار إلى قراباغ فجعلها خرابا بلقعا.»
2
অজানা পৃষ্ঠা
وقال الرحالة ابن بطوطة في رحلته: «أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات بن الحاج أعزه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول : لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتار بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه.»
3
ولما أتم الطاغية تيمورلنك فعلته النكراء هذه ترك بغداد بعد أن ولى عليها أبا بكر بن ميران شاه، ثم توجه إلى بلاد الروم، ووقعت بينه وبين السلطان بايزيد حروب طال أمرها، أما السلطان أحمد فإنه حاول الرجوع إلى بغداد فرجع إليها، ووقعت بينه وبين أبي بكر واليها حرب شديدة، ثم وقعت بينه وبين ابنه الأمير طاهر حرب، وانتهت كل هذه الفتن بسيطرة السلطان أحمد من جديد على بغداد في مطلع عام 806ه بعد موت تيمورلنك، ولما هلك تيمورلنك استراحت الدنيا من شروره وتدميره ومزعجاته، وعادت السكينة بعض الشيء إلى الديار العراقية، ولكن السلطان أحمد عاد إلى سيرته الأولى، فأخذ يزعج الناس ويصادر أغنياءهم، ثم طمع في استرداد تبريز فجهز جيشا كبيرا استرد به مدينة تبريز عام 809ه/1406م، ولما دخلها فرح الناس بدخوله وظنوا أنه مقلع عن غيه وظلمه لما ناله من التشريد والبؤس وصروف الدهر، ولكنه خيب آمالهم ورجع إلى ضلاله القديم، فلما ضاق الناس ذرعا به ثاروا عليه وسعوا لدى الميرزا أبي بكر أن يعلن ثورته عليه وأطمعوه في التغلب على السلطان، فقدم إلى تبريز وأخرج السلطان منها واستولى عليها، فرجع السلطان إلى بغداد واتخذها مقرا له، ثم وقعت بينه وبين الأمير قرا يوسف صاحب التركماني مشاحنات وحروب انتهت بوقوع السلطان أسيرا بيد قرا يوسف، فطلب إليه أن يتنازل له عن السلطنة وأن يفوض إيالة أذربيجان إلى ابنه الأمير بير بوداق، وإيالة بغداد إلى الشاه محمد، فقبل ووقع له المراسيم المتعلقة بذلك، ولكن هذا لم يمنعه من الاغتيال، وكان ذلك في سنة 813ه، وبموته قضي على ملك من أكبر ملوك العراق في هذه الحقبة، فقد عاش قرابة ثلاثين سنة وهو ملك على العراق يحاول بسط نفوذه على إيران والعراقين وأذربيجان، وكان لا يعرف الكلال ولا الملل، وهو بحق آخر الملوك الجلايرية العظام، وسنرى فيما بعد أن من خلفه لم يكونوا شيئا مذكورا، ولم تمض على وفاته إلا فترة حتى انقرضت هذه الدولة تماما كما سنرى تفصيل ذلك فيما بعد.
الفصل الرابع
العراق في القرن الثامن
الدولة البارانية - والدولة البايندرية
رأينا في الفصل السابق أن تيمورلنك قد اجتاح العراق في العشر الأخير من القرن الماضي، وأن حكمه قد استمر طوال حياته، وأن السلطان أحمد الجلايري صاحب العراق وآخر ملوك الدولة الجلايرية قد لقي منه ويلات شدادا، وأنه حاول القضاء عليه فلم يتمكن منه، ولما مات تيمورلنك واضمحل أمر مملكته وعاد السلطان أحمد إلى العراق كما بيناه في الفصل الماضي، وتلقاه أهل العراق بالفرح الشديد والابتهاج مؤملين للبلاد على يديه كل خير، راجين أن يكون قد أقلع عن غيه القديم وعسفه، فقدموا له الأموال، وتفانوا في خدمته، ولكنه ظل سادرا في لهوه ولعبه، مسترسلا في غيه وضلاله حتى قتل في سنة 813ه، كما ذكرناه قبلا.
فلما قتل بعد أن تنازل عن الملك للأمير محمد شاه بن قرا يوسف الباراني رحل محمد شاه هذا إلى العراق للاستيلاء عليه في سنة 814ه، ولما وصل بغداد قاومه واليها من قبل السلطان أحمد كما قاومته زوجة السلطان أحمد، وكانت امرأة ذات دهاء وخبث فأذاعت في المدينة أن السلطان أحمد ما يزال حيا، وأنه عما قريب عائد إلى مقر ملكه، ثم عمدت إلى الوالي فقتلته، وأخذت تعمل على الانفراد بالأمر والاستيلاء على الحكم، ولكنها خذلت، واضطرت أن تنهزم، أما الشاه محمد فدخل هذا إلى بغداد في أوائل سنة 814ه/1411م واستقرت الأمور له فيها.
وبانقضاء عهد السلطان أحمد وزوجته انقضى عهد الدولة الجلايرية الحقيقي، على أنه قد بقي هناك بعض الأمراء الجلايريين ظلوا يتحكمون في بعض المناطق العراقية والإيرانية مثل السلطان محمود بن شاه ولد، فقد حكم مدينة تستر وما إليها مدة سنتين، ومثل أخيه أويس الثاني الذي حكم تستر وخوزستان نحوا من خمس سنوات، ومثل أخيه السلطان محمد الذي حكم خوزستان ثلاث سنوات، ومثل ابن عمهم السلطان حسين الذي تولى الأهواز إلى سنة 835ه، وفي هذه السنة انتهى الحكم الجلايري تماما، وتمكن الأمراء البارانية من توطيد أركان الدولة الجديدة البارانية المعروفة باسم دولة «قرا قويونلو». (1) الدولة البارانية
تنتسب هذه الدولة - المعروفة أيضا «بالدولة القرا قويونلية» ومعنى «قرا قويونلو»: الأغنام السود؛ لأنها كانت شعارهم - إلى باران أحد رؤساء التركمان الذين هاجروا من بلاد تركستان إلى خراسان، ثم تفرقوا في جميع الأراضي الفارسية والعراقية، وقد كانوا قوما أشداء استعان بهم السلطان أويس الجلايري على قهر خصومه، وتوطيد أركان مملكته، وقرب رئيسهم بيرام خجا بن تورمش، وعهد إليه ببعض أموره الحربية، وأخذ أمره يقوى يوما فيوما حتى مات السلطان أويس فطمع بيرام خجا في السيطرة، ثم تم له ما أراد واستولى على ديار الموصل وسنجار في سنة 776ه/1374م، وأخذ أمره يقوى منذ ذلك الحين إلى أن مات في سنة 782ه، فتولى الأمر من بعده أخوه مراد خجا فلم يبق إلا مدة حتى هلك، فتولى الأمر من بعده قرا محمد بن تورمش بن مراد خجا، وكان شابا ذا قوة ودهاء، وسع ملك أسلافه وامتد سلطانه إلى ماردين، وعظم نفوذه في كافة هاتيك الأصقاع حتى إن السلطان أحمد الجلايري تزوج ابنته، ولما هلك في سنة 791ه/1390م تولى الأمر من بعده الأمير قرا يوسف الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لهذه الدولة، وكان من الرجال الأذكياء الأقوياء، وقد استطاع بذكائه وقوة إرادته التسلط على المملكة العراقية بكاملها وطرد الجلايريين منها، واستخلاصها لنفسه، ولما استقل قرا يوسف بالأمر بعث ابنه شاه محمد إلى بغداد فقضى على بقايا الجلايريين، أما هو فإنه اتخذ تبريز عاصمة له، وعادت بغداد من جديد تابعة لتبريز، ثم شرع في توطيد أركان مملكته وتوسيعها في البلاد الإيرانية والتركية، ففي سنة 818ه بعث ابنه شاه محمد صاحب بغداد إلى بلاد «سيس» ففتحها وضمها إلى مملكته، وظل يعمل على توسيع رقعة مملكته إلى أن هلك في سنة 823ه/1420م، وقد امتد سلطانه إلى الشرق والغرب، ولقيت البلاد العراقية منه ومن ابنه شدة وويلات حتى قال صاحب «المنهل الصافي»: «ومات في ذي الحجة ... وأراح الله الناس منه، نسأل الله أن يلحق به من بقي من ذريته؛ فإنه هو وأولاده الزنادقة الكفرة كانوا سببا لخراب بغداد وغيرها من العراق، وهم شر عصبة، لا زالت الفتن في أيامهم ثائرة والحروب قائمة إلى يومنا هذا، وطالت مدتهم بتلك البلاد التي كانت كرسي الإسلام ومنبع العلم ومدفن الأئمة الأعلام»،
অজানা পৃষ্ঠা
1
وبعد موت قرا يوسف وقعت الاختلافات بين أولاده وتقارعوا بالسيوف، فاستولى أحدهم وهو «شاه رخ» على «تبريز»، واستقل الإسكندر بمدينة كركوك، واستولى «أسبهان» على بغداد، ثم تلاقى «شاه رخ» والإسكندر في ميادين القتال، وانهزم «شاه رخ» فارا إلى أرض الفرات، أما الإسكندر فإنه رجع إلى خراسان، واستقل بها وببلاد تبريز، وأما «أسبهان» فإنه استولى على بغداد، ووقعت بينه وبين أخيه محمد شاه اختلافات طويلة حتى أقام هو في الجانب الغربي من المدينة في عمارة السلطان أحمد، وأقام أخوه محمد شاه في الجانب الشرقي، واستمرت الحالة على ذلك مدة، والناس يقاسون ويلات من الأميرين حتى اضطر «أسبهان» إلى أن ينسحب ويستقل بلواءي دبالى، والحلة، وما إليهما.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض الأمراء الجلايرية قد طمعوا في استعادة سلطانهم بعد موت قرا يوسف ورؤيتهم اختلاف أولاده، ففي سنة 824ه هاجم الأمير أويس الثاني بغداد، ولكنه رد عنها خائبا، وفي سنة 825ه عاد إليها ثانية فهاجمها ورد عنها خائبا، ولكنه استطاع الاستيلاء على الحلة، وفي سنة 827ه هاجم الأمير علاء الدين ابن السلطان أحمد مدينة الحلة، واستولى عليها وطرد الأمير أويس، وفي سنة 830ه عاد السلطان أويس فطرده واستولى على الحلة، وحارب محمد شاه ببغداد وفيها قتل. •••
إلى هذا الأمر صار حال العراق بعد موت قرا يوسف، ولم تمض سنوات قليلة حتى توسعت الأمور اضطرابا، وزادت الانقسامات والفتن بين أولاد قرا يوسف حتى تفانوا، ولم يبق منهم إلا الأمير «أسبهان»، فإنه استولى على أكثر البلاد، ولكنه لم يكن حسن السيرة، وقد لقي العراق منه مثل ما لقي من أخويه، وقد رووا أنه كان مهملا للبلاد، معذبا للناس، مستوليا على أموالهم، ولم تكد البلاد تستعيد شيئا من نضارتها بسبب جودة المواسم حتى أقبل عليها بخيله ورجله ففتك بأهلها، وصادر تجارها في سنة 842ه، وشرع في هذا العام يجمع الأموال ويصادر الرجال ليتوجه بهم إلى قتال الأمير حمزة سلطان البايندرية المعروفين باسم «آق قويونلو»، ولما تم له ما أراد توجه إلى بلاد سنجار لقتال الأمير حمزة فقهره هذا، وفرق جنده، واضطره إلى أن يعود إلى بغداد ليستعد من جديد لقتال البايندرية، فأقام سنة يستعد لهم، ولما تمت له أسباب القوة ذهب إلى بلاد «ماردين» و«إربل» للانتقام من البايندرية ففتك بطائفة منهم، وأنزل بإربل شر البلاء ثم رجع إلى بغداد، وفي هذه الفترة ذاع أمر ظهور المهدي المشعشع في سنة 844ه/1440م في أرض واسط، وكان هذا رجلا يعرف شيئا من السحر وعلم المخاريق، فالتف الأعراب حوله في واسط والخوزستان والحويزة وجزائر البحرين، ولما رأى كثرة تابعيه طمع في التملك وجهز جيشا حارب به حاكم الحويزة وقهره، وتسلط على كافة هاتيك الأصقاع، ثم استولى على البصرة، وانتشرت جماعته التي عرفت بالمشعشعين تنشر دعوتها في العراق كله، حتى خاف الأمير «أسبهان» منه ووجه إليه جيشا تغلب على المشعشع، واستمرت دعوته في الانتشار، ولما مات الأمير «أسبهان» في سنة 848ه/1444م خلا له الجو فازداد نفوذه، وخصوصا حين وقعت الفتنة بين خلفاء «أسبهان» وأمرائه؛ لأن كلا منهم كان يطمع في التملك، كما أن أخاه جهان شاه أراد الاستيلاء على بغداد فوقعت الحروب والفتن بينهم جميعا، وانتشر أمر المشعشع وابنه علي انتشارا عظيما، ووقعت حرب كبيرة بين المشعشع وبين جهان شاه الذي استولى على بغداد في سنة 850ه، ثم استولى على البصرة وطرد المشعشع، وبعد أن وطد جهان شاه ملكه في هاتين العاصمتين رجع إلى تبريز بعد أن أقام في العاصمتين نائبين عنه، وفي سنة 857ه/1454م هاجم علي بن المشعشع بغداد، بعد أن حاصر واسطا والحلة، وقطع نخلهما، وضيق الأمر على أهلهما، وهدم المشاهد والأضرحة، وفي سنة 860ه توجه علي بن المشعشع إلى «مهروز» و«بعقوبا» فنهبهما، وقتل أهلهما، وأسر عددا كبيرا، ثم رجع إلى الحويزة فأقام فيها قليلا، ثم توجه إلى «بهبهان»، فحاصرها وقتل في أثناء الحصار سنة 861ه.
أما أبوه المشعشع، فقد كان يزعم للناس أنه على خلاف مع ابنه وأنه لا يقره على أعمال العنف التي يقوم بها، وأنه يحمد الله على موته؛ لأن دعوته يجب أن تقوم بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالسيف والعنف، وقد استمر المشعشع في دعوته إلى سنة 866ه وفيها مات فخلفه ابنه المحسن، وكان رجلا حازما مدبرا تمكن من الاستيلاء على جزائر البحرين كلها، وعلى أكثر أنحاء بغداد وبلاد البختيارية في فارس.
أما الأمير «أسبهان» فإنه أخذ يقوي نفسه ويعمل على القضاء على المشعشعين حتى اكتسح أكثر نواحي بغداد ، ثم انحدر إلى واسط وهي من معاقلهم فاستولى عليها، ثم عاد ثانية إلى بغداد فحاصرها وفيها أخوه شاه محمد فتغلب عليه، ودخل المدينة وفر أخوه إلى الموصل، وقد لقيت بغداد ما اعتادت عليه من المآسي في مثل هذه المحن المتكررة عليها، ولما وصل شاه محمد إلى الموصل تسلطن فيها وامتد سلطانه إلى بلاد «إربل» وكركوك، ثم طمع في استعادة بغداد من أخيه فتوجه إليها، وقتل في أثناء المعركة، وقد دام ملكه نحوا من ثلاث وعشرين سنة لم يعمل خلالها عملا صالحا، بل خرب البلاد وبخاصة بغداد، قال صاحب «المنهل الصافي»: «كان فاسقا زنديقا، لا يتدين بدين، وأبطل بتلك الممالك شعائر الإسلام، وقتل العلماء، وكان سماطه في رمضان يمد في ضحوة النهار، كما يمد في الإفطار، على رءوس الأشهاد، والويل لمن كان لا يأكل منه، وأبطل صلاة الجمعة والجماعة، وفسدت السابلة، ورحلت الناس عن بغداد فوجا فوجا، وانقطع ركب الحاج من بغداد سنين، ونفرت القلوب، إلى أن غلبه أخوه «أسبهان»، وكان أكفر من أخيه شاه محمد وأظلم، وأولاد قرا يوسف بأجمعهم هم أوحش خلق الله، وفي أيامهم خربت ممالك العراق، وأطراف العجم، ودار السلام، وهدمت تلك المساجد والمعاهد الجليلة، فالله تعالى يلحق بهم من بقي من آخرتهم وأقاربهم؛ فإنهم عار على بني آدم لما اجتمع فيهم من المساوئ والقبائح.»
2
والحق أن صاحب «المنهل الصافي» لم يبالغ في أقواله؛ فقد كان هؤلاء من شرار الحكام، وبخاصة شاه محمد؛ فقد لقيت البلاد منه في عهده كل شر وسوء، كما لقيت من إخوته مثل ذلك، فقد رأينا سوء أعمالهم قبل موت شاه محمد، أما بعد وفاته فإن الأمير «أسبهان» زحف على «إربل» بعد موت أخيه فقاتل صاحبها وهو ابن أخيه علي شاه، وهدم المدينة، ولم يتركها إلا بعد أن ألقى السم في مياهها، ومات من أهلها خلق كثير، ثم إنه رحل إلى الموصل فاستولى عليها في سنة 839ه/1345م، ثم قصد بغداد واستولى عليها، وأخذ ينظم أموره فيها، ومما هو جدير بالذكر أنه أهمل حالة المدينة فعمت فيها الأمراض والأوبئة، حتى قيل: إنه حصل وباء في سنة 841ه/1347م هلك بسببه ناس كثيرون، وكان العمل الوحيد الذي قام به هو تركه المدينة ونجاته بنفسه وبجنده، ولم يرجع إليها إلا بعد أن قضى الوباء على أكثر سكانها، قال المقريزي في السلوك: «وخربت المدينة، ولم يبق بها جمعة ولا جماعة، ولا أذان ولا سوق وجف معظم نخلها، وانقطع أكثر أنهارها بحيث لا يطلق اسم مدينة بعد أن كانت سوق العالم.»
3
وأما الأمير جهان شاه فإنه لم يكن أحسن حالا من «أسبهان»، وقد وقعت الفتنة بينه وبين ابنه بير بوداق «بير بضغ» صاحب بغداد لما بلغه أنه يقسو على الناس، ويجمع أهل الفسق والإلحاد ويقربهم، فكتب إليه ينصحه أن يقلع عن فساده فسخر بالكتاب وبأبيه أمام الرسول، فلما علم الأب بذلك جهز جيشا كبيرا، وزحف على بغداد في سنة 869ه لتأديب ابنه ووقعت بين الاثنين معركة عنيفة قاست بغداد من جرائها ويلات، ولقي سكانها شرا عظيما؛ لأن الحصار دام نحوا من سنة ونصف السنة إلى أن قتل «بير بوداق»، ودخل أبوه المدينة سنة 870ه، ففتك جنده بأهلها، ولم يكن حالهم مع الأب أحسن من حالهم من الابن.
অজানা পৃষ্ঠা
4
ولما استتبت الأمور لجهان شاه أقام في بغداد نائبا عنه اسمه بير محمد الطواشي ورجع هو إلى تبريز، وما بقي فيها قليلا حتى توجه عزمه على قتال السلطان حسن الطويل البايندري صاحب ديار بكر، فسار إليه في جمع من الجنود، ولكن الدائرة دارت عليه وعلى كثير من جنوده فقتل في سنة 872ه/1467م كما قتل عدد من الأمراء والقادة البارانية أمثال محمد ميرزا، وأبي يوسف ميرزا ولدي جهان شاه وبير زادة، ولما أصيب الجيش الباراني بهذه النكبة تفرقت فلوله في البلاد، وفكر بعض قادتهم في لم الشمل، وقر رأيهم على أن يذهب الأميران شاه علي وشاه إبراهيم، ويعملا على إنقاذ أحد أولاد جهان شاه واسمه حسن علي من قلعة كان محبوسا فيها، فأنقذوه وساروا به إلى تبريز فدخلوها، وأخذوا يهيئون أنفسهم للانتقام من السلطان حسن الطويل والتقى جمعاهما عند تبريز في سنة 873ه/1468م، فانكسر الأمير حسن وجماعته وتفرق جنده واستولى السلطان حسن الطويل على تبريز، فلما بلغت هذه الأخبار مسامع والي بغداد بير محمد الطواشي أخذ يستعد للقاء السلطان حسن الطويل، ولكنه فوجئ بمرض هلك على إثره، فعمد الأمراء في بغداد إلى تسليم المدينة إلى أحدهم واسمه حسن علي بن زينل، وكان أميرا حسن السيرة رقيق القلب، ولكنه لم يلبث في حكمه طويلا حتى مات، فتسلم الأمر من بعده أخوه منصور بن زينل وكان جبارا فاتكا فكره الناس عهده وعملوا على التخلص منه فقتلوه وبموته انتهت الدولة البارانية، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 874ه/1369م، وقد حكمت الأسرة البارانية العراق وما إليه قرابة نصف قرن، لقي العراق فيها أشد الويلات على الرغم من أنه كان مستقلا شبه استقلال عن العاصمة تبريز، فقد كان والي بغداد يتولى أمرها مستقلا بنفسه، وخصوصا في عهد شاه محمد وأسبهان وبير بوداق، ولكن حالة بغداد وسائر المدن العراقية كانت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وخصوصا حين ازداد الطنبور نغمة بظهور المشعشع الذي اتخذ الدين شعارا، ولحقه عدد من الغوغاء والأعراب، وأخذوا يفتكون بالناس من أهل الحاضرة، ويدكون القصور، ويخربون المساجد والمعاهد والأماكن العامة، ويعملون على تقطيع أوصال البلاد. (2) الدولة البايندرية
تنتسب هذه الدولة إلى «بايندر بن كون» أحد زعماء التركمان الذين جاءوا لمعاونة أمراء الدولة البارانية من بلاد التركستان إلى البلاد الإيرانية، على ما أسلفناه، ثم ما زال أمرهم يقوى إلى أن ظهر تيمورلنك، فذاع صيت أحدهم واسمه قرا عثمان فقربه تيمورلنك لشجاعته وفتكه، وظهرت منه بطولات نادرة في حروب تيمورلنك فقربه هذا إليه، ولما هلك تيمورلنك طمع بايندر في السلطان، وفي تأسيس دولة كدولة بني جلدته البارانيين، وطمع في القضاء عليهم واستصفاء أراضيهم، وأخذ يعمل لذلك حتى تم له ما أراد وأسس دولته بعد أن تملك ديار بكر وبلاد «إربل» والموصل وماردين، واتخذ مدينة آمد عاصمة له، وأطلق اسم «آمد قويونلو» على دولته؛ لأنها اتخذت الأغنام البيض شعارا لها بمقابلة «قرا قويونلو» الذين كانوا يتخذون الأغنام السود شعارا لهم، وظل قرا عثمان يعمل طوال حياته على تقوية أمر دولته، وتوسيع رقعتها إلى أن مات.
فلما مات وقع الاختلاف بين أولاده وأحفاده فتفرقوا شيعا، ولكن أحدهم وهو حفيد جهان كير بن علي بيك، كان فتى هماما داهية أحبه أبناء جلدته، والتفوا حوله، واتخذ آمد مقرا منذ عام 848ه، ثم أخذ سلطانه يقوى إلى أن مات فخلفه أخوه السلطان حسن الملقب بالطويل، وكان رجلا قويا استطاع ترتيب أمور الدولة وتنظيم جيش كبير لها، وفي سنة 871ه جمع جهان شاه ملك الدولة البارانية جيشا أراد به القضاء على السلطان حسن الطويل، فاستعد هذا للقائه، ولما التقى الجمعان تغلب جيش السلطان حسن وتفرق جند جهان شاه في البلاد، وخاف هذا سوء العاقبة ففر بنفسه، ولكن أحد جنود السلطان حسن استطاع اللحاق به وقتله في سنة 872ه كما أسلفنا تفصيل ذلك.
ولما قتل جهان شاه ذهب جنده شذر مذر، أما حسن الطويل فإنه جمع جموعه وتوجه إلى الموصل ففتحها ثم سار إلى تبريز ، وبعث بجنوده ليفتحوا له الحصون والقلاع المحيطة بها ففتحوها، ولما وصل إلى تبريز علم أن السلطان أبا سعيد ميرزا صاحب خراسان قد تجهز للمسير إلى العراق فجمع سراياه وبعوثه وأرسل موفدا إلى السلطان أبي سعيد يستعطفه، فرد السلطان رسوله، ولما نشب القتال انتصرت جنود السلطان حسن وجمعت من الأسلاب والغنائم ما لا يقدر، وكانت هذه المعركة في سنة 877ه، وتم له الاستيلاء على إيران جميعها، وبعد أن وطد أقدامه وزع البلاد بين أولاده ورجع إلى العراق وحاصر بغداد ودخلها كما مر في كلامنا عن الدولة البارانية.
ولما استولت جيوش السلطان حسن الطويل على بغداد خاف أهلها خوفا عظيما لما قد بلغهم من عسف البايندرية وقتلهم للنساء والأطفال والأبرياء، ولكن الأمير مقصود بيك ابن السلطان حسن الطويل طمأنهم، وأعلن للملأ أنه نصب نفسه واليا على بغداد، وهكذا توطدت أركان الدولة البايندرية في إيران وكرجستان والعراق.
وفي سنة 878ه/1473م بعث المحمل العراقي إلى الحجاز ودخل المدينة المنورة وفيه جمهرة كبيرة من أهل الدين والعلم والقضاء، فلما وصلوها طلبوا من خطباء مساجدها أن يخطبوا للسلطان «الملك العادل حسن الطويل»، وأنه خدم الحرمين الشريفين، وبلغت هذه الأخبار مسامع سلطان مصر، فغضب لهذا أشد الغضب، وكادت أن تقع فتنة بين الطرفين، ولكن وسطاء السلام توسطوا بينهما فانتهت الأزمة بسلام.
5
وفي هذه السنة أيضا وقيل بل في السنة التي تلتها وقعت بين السلطانين العثماني والبايندري حرب في مدينة قيسارية انهزم البايندري على أثرها، وكانت إحدى الحروب العظيمة التي قام بها السلطان حسن، وكان انكساره فيها انكسارا قويا جعله يقلع تماما عن التفكير في محاربة العثمانيين.
وفي سنة 882ه/1477م مرض السلطان حسن مرض الموت، وهلك بعد أن حكم العراق مدة غير قصيرة كان فيها ملكا خيرا محبا للرعية رءوفا بها، وكان يحب العلم وأهله، كما كان يحب إشادة المساجد والمدارس والمرافق العامة، ولما شاع خبر موته طمع محسن المشعشع في الاستيلاء على بغداد، ولكن السلطان البايندري الجديد خليل بيك بعث إليه من وقف في سبيله ورده، ولم تمض فترة طويلة حتى ثار يعقوب بيك أخو خليل بيك على أخيه، ووقعت فتنة بين الأخوين، قتل على أثرها السلطان خليل بيك وتولى الملك بعده أخوه يعقوب بيك في سنة 883ه، وساس البلاد سياسة لا بأس بها، وعم الأمن في الديار العراقية وانتشر العدل بين الناس، ولكنهم لم يكادوا يستريحون من الفتن والحروب حتى فاجأهم محسن المشعشع بغارة شعواء، ووصل إلى حدود العاصمة ونهب وأسر، واضطر الجيش البايندري إلى التقهقر، ولكن السطان يعقوب عاد فنظم جنده، وطرد المشعشع، وأخذت الأمور تستقر له، وفي سنة 888ه شرع في بناء عمارته المشهورة بالجنات الثمان «هشت بهشت» فجاءت آية في روعتها وعظمتها، وفيما احتوت عليه من ضروب اللذات، وروائع الجنات، وكان يقضي فيها معظم أوقاته يستمع إلى الشعراء، ويشجع العلماء، وظل على هذا إلى أن هلك في سنة 896ه.
অজানা পৃষ্ঠা