فإجابة لهذا الطلب أطلق الرئيس كروجر سراح الخمسة الإنكليز المسجونين، ولكن أصر على عدم تغيير قانون العسكرية، فلما علمت بذلك جمعية الإصلاح عمدت إلى القوة، فأخذت في استحضار الأسلحة والذخائر من أوروبا بطرق سرية، وكان ذلك بمعرفة شركة أفريقيا الجنوبية، وفي سنة 1895 جمعت هذه الشركة كل قوتها في نقطة اسمها بيليواجوا وأعطت قيادتها للكولونيل هوايت، والقيادة العامة للدكتور جمسون، وفي 18 أكتوبر من هذه السنة طلبت الشركة من إنكلترا أن تسمح لها بجعل جنود البوليس المقيمة في جهة باشوانالند تابعة لإدارتها، فصرحت لها بذلك، وفي 29 منه صدرت الأوامر من المستر سسل إلى الكولونيل هوايت أن يقوم مع رجاله إلى مفكنج فصدع بالأمر، وكانت المسافة بين بيليواجوا ومفكنج 890 كيلومترا تقريبا، فقطعوها في مدة ثلاثين يوما، وعسكروا في نقطة تسمى بيتسلاني بيتسلاجو، وأنشئوا مخازن في طريقهم لوضع الذخيرة، وأول مخزن كان بقرب منجم ملماني. وفي 26 ديسمبر ابتدأ الهياج في جوهانسبرج، وقفلت الحوانيت وأخذت النساء والأطفال بالمهاجرة إلى مستعمرات إنكلترا وأغلبهم من الإنكليز، وأوقفت حركة الأشغال بالكلية، واستقال المستر سسل من منصبه في مستعمرة الرأس، وأرسل في صباح يوم 30 ديسمبر سنة 1895 أربع أورطات لمقابلة الدكتور جمسون ومن معه، فتقابلوا في مساء اليوم المذكور بالقرب من ملماني، وبعدما استراحوا في هذه النقطة ساروا منها حتى وصلوا إلى شواطئ نهر إيلندس، وفي 31 ديسمبر قبل الغروب بساعة تقابلوا بالكولونيل هوايت ومعه بعض الجند فظلوا سائرين معا حتى قطعوا 130 كيلومترا في 21 ساعة.
وفي صباح أول يناير الساعة الخامسة مساء، بينما هم سائرون في الطريق إذا أتت رسالة للدكتور جمسون من مندوب إنكلترا في بريتوريا يوقفه عن المسير باسم الحكومة الإنكليزية، ويأمره بالعود من حيث أتى، فأرسل ردا على هذه الإفادة يقول: «إنه ليس في إمكاني العودة لكثرة ما معي من الرجال، ولعدم وجود معي مئونة كافية، فأنا مضطر بأن أتقدم حتى أصل إلى كروجر سدورب أو جوهانسبرج، على أنه لم يحدث مني شيء يمس بفرد من السكان على اختلاف أجناسها.» ثم أخذ في مواصلة السير إلى الظهر، فوصل إلى نقطة تبعد 29 كيلومترا عن كروجر سدورب من الشمال الشرقي، فأتى رسول من جوهانسبرج حاملا كتابين من سسل رودس إلى جمسون؛ أولهما يحذره فيه من البوير؛ لأنهم مختبئون له في بعض المناجم المهجورة التي في طريقه، وثانيهما يقول فيه:
عزيزي جمسون
لا صحة لما سمعته عن حدوث مذبحة في المدينة حتى اضطررت لتنجدنا، ولكن لا تخلو المدينة من الهياج، ونتمنى أن نراك عن قريب، وسأرسل لمقابلتكم ثلاثمائة رجل يلاقونكم بالقرب من كروجر سدورب.
أما البوير فما خفيت عليهم تلك الاستعدادات، ولكنهم تجاهلوها وأخذوا بالاستعداد سرا، وفي 30 ديسمبر طلب الرئيس كروجر من جمعية الإصلاح تشكيل لجنة للاتحاد مع لجنة أخرى من البوير للبحث في طلبات الوتلندر، فقبلت الجمعية ذلك، ولما عرضت الوتلندر طلباتها أبت البوير قبولها، وقالت بأن البلاد بلادهم يفعلون فيها كيف شاءوا، وفي الحال حمل البوير سلاحهم حتى شيوخهم وتطوع لهم ما ينوف عن 200 رجل بين ألمانيين وهولنديين وقدموا أنفسهم للمحافظة على بريتوريا وضواحيها من هجمات الإنكليز. وفي أول يناير سنة 1896 عند بزوغ الشمس سار 1250 رجلا من البوير بقيادة الجنرال كرونجي إلى كروجر سدورب، وقرب الظهر وصل جمسون إلى نقطة قريبة، فأرسل يطلب منهم الإذن بالمرور إلى جوهانسبرج فأبوا، فأمر رجاله بالهجوم والمرور قهرا عنهم، فأصلتهم البوير نارا حامية أحوجتهم إلى التقهقر، وبعد هنيهة أراد جمسون أن يعيد الكرة فكانت الضربة الثانية شرا من الأولى، فصف جنوده بشكل مربع، وجعل الذخيرة والأدوات الحربية بداخلها، وأصر على المقاومة إلى أن تأتي له النجدة التي كان وعده رودس بها، فخابت آماله وتأخرت عنه إلى أن هجمت عليه البوير صبيحة اليوم الثاني من يناير. وكان أمل البوير تبديدهم قبل وصول المدد إليهم، ولكن لم ينجحوا، فانتهز جمسون الفرصة واخترق صفوفهم، وعبر من كروجر سدورب، وبعدما مشي قليلا قابلته فرقة أخرى من البوير بالقرب من جبال درونكوب، فأوقفته وانتشب القتال بينهما، فانجلى عن خسارة جمسون 167 رجلا ما بين قتيل وجريح وأربعين أسيرا، وكان من ضمن المجروحين الميجر راليج وجراي وكوفنتري والكابتن راف، ولما رأى جمسون عدم مقدرته على القتال رفع الراية البيضاء، فوقف القتال وأرسل رسولا إلى الجنرال كرونجي يخبره أنه يريد التسليم، فرد عليه بقوله: «إنا نقبل تسليمك على شرط أن تتعهد بدفع غرامة حربية، وتسلم لنا أسلحتكم، وها نحن منتظرون الرد في مدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة.» فقبل جمسون هذا الشرط لاضطراره، وماتت آماله هو ورودس ودفنت مأسوفا عليها، أما المدد الذي وعد به رودس لمقابلة جمسون فإنه لما قام من جوهانسبرج بقيادة بتنجتون علم في أثناء سيره بانهزام جمسون ووقوعه أسيرا، فرجع إلى المدينة وأخبر بما علم، فكذب المسيو ليونار هذا الخبر تسكينا للهياج ومنعا للاضطراب.
وفي مساء 3 يناير سنة 1896 أرسل المستر شامبرلن ناظر المستعمرات تلغرافا إلى السير هركول روبنصن حاكم بلاد الرأس يأمره بمخابرة الرئيس كروجر بشأن جمسون ورفاقه، فأرسل إليه السير هركول يقول بأن الجمهورية قد حكمت على أربعة من الأسرى بالإعدام وهم: جمسون، ويلغوبي، وهويت، وكوفنتري، وأنها لحسم الخلاف تطلب أيضا نزع السلاح عن سكان جوهانسبرج، فكان لهذه الرسالة وقع مخيف في فؤاد المستر شامبرلن؛ ولذلك أرسل في الحال تلغرافا إلى الرئيس كروجر يرجوه العفو عن الأسرى، وبالأخص من حكم عليهم بالإعدام، فأجابه بأن «الجمهورية ليس في نيتها قتلهم، وإنما أعلنت ذلك إرهابا لأعضاء جمعية الإصلاح، أما الحكم فإنه لم يتجاوز الحبس والغرامة؛ ولعلمي بأن ما أتوه من الأعمال السيئة هو ضد رغبة حكومتكم، فأرسلهم لكم لتجازوهم بما يستحقونه. وأرجو أن تأمروا رعاياكم الموجودين في جوهانسبرج بتسليم أسلحتهم لنا.» فشكرت إنكلترا الرئيس كروجر على ذلك، وأمرت حاكم بلاد الرأس بالتوجه إلى بريتوريا ومفاوضة رئيس الجمهورية في الأعمال التي يرغبها، فتوجه إليها في 6 يناير سنة 1896 وتقابل مع الرئيس، وبعد المفاوضة صدر أمر لعموم الرعايا بتسليم السلاح في ميعاد 48 ساعة، وفي يومي 7 و8 يناير استلمت الجمهورية 1820 بندقية، وما اقتنعت بذلك لعلمها أن عندهم أسلحة كثيرة لم يظهروها، فتشكلت لجنة وأخذت في تفتيش المنازل، فخافت السكان وسلمت ما عندها، فبلغ عشرين ألف بندقية أخرى، وفي 9 منه قبضت الجمهورية على أعضاء جمعية الإصلاح، وفي مقدمتهم المستر سسل رودس، وساقتهم إلى بريتوريا لمحاكمتهم، وفي 10 منه سلمت الجمهورية جمسون ورفاقه إلى حاكم الكاب ليوصلهم إلى دربان فأرسلهم مخفورين بالجنود، ومن هناك أبحروا إلى إنكلترا، فأحيلوا على محكمة جنايات لندرا، فحكمت على جمسون بالحبس خمسة عشر شهرا وويلغوبي عشرة أشهر، وهويت تسعة أشهر، وجراي وكوفتري خمسة أشهر، وعفت عن الباقين. أما حكومة بريتوريا فقد أحالت أعضاء جمعية الإصلاح على محكمة الجنايات التي حكمت بإعدام المستر سسل وليونار وفرارها منود وفيليبس، وحكمت على الباقين بغرامة قدرها خمسة آلاف فرنك، وبالحبس سنتين وبالنفي المؤبد، فعارضت إنكلترا أيضا في هذا الحكم، وطلبت من الرئيس كروجر تخفيفه، فما ضن بذلك، وأحال القضية على مجلس التنفيذ فاستبدل حكم الإعدام بالحبس خمس عشرة سنة، واستبدل النفي المؤبد بالحبس ست سنوات، ثم تلطف الحكم مرة ثانية وثالثة حتى صدر آخر مرة في 11 يوليو سنة 1896 بالعفو عن كل من حكم عليه بالسجن أو النفي بعد أخذ التعهدات عليهم بعدم التداخل في الشئون السياسية، فقبلوا ذلك. أما الغرامة فلم تتنازل عنها الجمهورية، فدفعوها بكل ارتياح.
وبعد هذا الحادث وعود السكان إلى السكينة اتحد المستر كروجر مع الدكتور ليدس وكيل الجمهورية على اتخاذ الطرق اللازمة لطرد الإنكليز من مستعمرات الرأس وضمها لجمهوريتهم، وأخذا يفكران فيما يمهد لهما الطريق توصلا إلى تلك الغاية.
أسباب حرب سنة 1899
فلما طمحت أنظار البوير إلى الاستيلاء على مستعمرات إنكلترا، أخذوا يدبرون الحيلة سرا خوفا من بطش بريطانيا، فعقدوا في مارس سنة 1897 مع جمهورية أورنج معاهدة دفاعية هجومية على أن يكونا معا يدا واحدة في أي عمل، سياسيا كان أو حربيا، فيقاوما أية دولة أو قبيلة تريد شن الغارة على أحدهما، وشكلا مجلسا مركبا من عشرة أعضاء ينتخبون من الجمهوريتين ويجتمع هذا المجلس في كل سنة مرتين: الأولى في بريتوريا، والثانية في بلوم فتين ليبحث في الأعمال التجارية والسياسية، وإذا حدث حادث خطر تعقد جلسات فوق العادة، فلما علمت رعايا الإنكليز بذلك خابرت حكومتها به، فكلفت هذه المستر شامبرلن ناظر المستعمرات أن ينظر في ذلك الذي لم يعد بوسعه السكوت، بل جاهر بأفكاره وبينها في خطاب ألقاه في البرلمان الإنكليزي في 22 أبريل سنة 1897، ذكر فيه أن إنكلترا لها السيادة على الجمهورية، وعدم مخابرتها بمعاهدة أورنج خروج عن القانون يحملنا على سوء الظن بها. فحملت كلماته هذه على صفحات الجرائد حتى وصلت إلى مسامع الرئيس كروجر، فقال في 25 أغسطس سنة 1897 في مجلس الفولسكراد ردا على هذا الكلام: «إني مطلق الحرية في بلادي، وأدير شئون حكومتي كيف شئت، فلا حق للمستر شامبرلن في أن يذكر سيادة حكومته على جمهوريتنا؛ لأن هذه الكلمة كانت قبلا في معاهدة سنة 1881، ومحيت من المعاهدة سنة 1884، وسكوت الحكومة الإنكليزية للآن دليل على صحة كلامي؛ وعلى ذلك فلا حق لوزير المستعمرات فيما أبداه، ولا يسعنا الاعتراف به أبدا.»
وفي أوائل يناير سنة 1898 كانت مدة رئاسة المستر كروجر قد انتهت، فأعيد انتخابه بأغلبية الأصوات، فأراد حينئذ تغيير نظام حكومته واستبدال قوانينها بما هو أحسن، فأصدر أوامر كثيرة أهمها طرد الأجانب الذين يثبت عليهم عدم الاستقامة، وتنزيل خمسة شلنات من عوائد الديناميت، والسجن من سنة إلى ست سنوات لكل من يفشي أسرار الحكومة، ومثله عقابا لكل محرر جريدة ينشر كلاما ضد الجمهورية. وفي 31 مايو سنة 1898 اجتمع المجلس المؤلف من جمهوريتي الأورنج والترنسفال فأقر على إصلاح مدارس الوتلندر، وإلزام تلامذتها بتعلم اللغة الهولندية وتاريخ جنوب أفريقيا. وفي 19 يوليو أقر مجلس الفولسكراد على إلغاء عوائد الجمرك عن الدخان الوارد من بلاد الكاب. وفي 6 أكتوبر أصدرت الجمهورية أمرا بإعفاء الوتلندر من الخدمة العسكرية إجابة لطلب إنكلترا والتصريح ببيع المواد الكحولية للعبيد، فكان هذان الأمران داعيين لرضاء الوتلندر وسرورهم ، وظنوا أن الإصلاح قد فاجأهم على حين غفلة منهم، ولم يعلموا بأن الجمهورية جعلت ذلك تمهيدا لما يبعد حدوثه عن الظن؛ ففي 17 نوفمبر سنة 1898 اجتمع مجلس الفولسكراد وطلب من شركات التعدين نزع ملكية الأراضي التي يستخرجون منها الذهب، وطلب أيضا احتكار الديناميت، وربط ضريبة قدرها اثنان ونصف في المائة على الذهب المستخرج، ثم في 2 نوفمبر من تلك السنة زاد الفولسكراد الضريبة وجعلها خمسة في المائة، فاعترض أصحاب المناجم على ذلك، ولكن اعتراضاتهم ذهبت بغير فائدة. ثم أقر على عدم نيل الأجنبي حق الانتخاب ما لم يكن قد قضى في بلاد الجمهورية مدة لا تقل عن أربع عشرة سنة، فهاج الوتلندر وماجوا؛ لأن هذه الطلبات كانت ضد صالحهم، ودلالة على تولد الشر، وأرسل الرئيس كروجر يخابر معامل أوروبا بشأن صنع تماثيل نحاس بصور الرجال الذين تغلبوا على جمسون لتوضع في ساحات الشوارع تذكارا حسنا للبوير، وسيئا للإنكليز.
অজানা পৃষ্ঠা