كلمة المؤلف
مقدمة
الباب الأول: الأدوات غير المباشرة للترجمة في عصر محمد علي
1 - المدارس
2 - البعثات
الباب الثاني: الأدوات المباشرة للترجمة في عصر محمد علي
1 - مدرسة الألسن وقلم الترجمة
2 - الكتب والمؤلفون
3 - المترجمون
4 - المحررون والمصححون
5 - القواميس والمعاجم
6 - الطبع والنشر
الباب الثالث: تقدير عام للترجمة في ذلك العصر
تقدير عام للترجمة في ذلك العصر
الملاحق
الملحق الأول
الملحق الثاني
الملحق الثالث
الملحق الرابع
الملحق الخامس
كلمة عن المراجع
مراجع البحث
المراجع العربية والمعربة
المراجع الأجنبية
كلمة المؤلف
مقدمة
الباب الأول: الأدوات غير المباشرة للترجمة في عصر محمد علي
1 - المدارس
2 - البعثات
الباب الثاني: الأدوات المباشرة للترجمة في عصر محمد علي
1 - مدرسة الألسن وقلم الترجمة
2 - الكتب والمؤلفون
3 - المترجمون
4 - المحررون والمصححون
5 - القواميس والمعاجم
6 - الطبع والنشر
الباب الثالث: تقدير عام للترجمة في ذلك العصر
تقدير عام للترجمة في ذلك العصر
الملاحق
الملحق الأول
الملحق الثاني
الملحق الثالث
الملحق الرابع
الملحق الخامس
كلمة عن المراجع
مراجع البحث
المراجع العربية والمعربة
المراجع الأجنبية
تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي
تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي
تأليف
جمال الدين الشيال
بحث أجيز لدرجة الماجستير مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة فاروق الأول، ونال جائزة البحث الأدبي لسنة 1946 من مجمع فؤاد الأول الملكي للغة العربية.
من أي ناحية نظرت إلى هذا البحث ألفيته كامل العدة، متين الأركان، جلي العرض، صادق الحكم. والخلاصة أن الكتاب لمؤرخ ومفكر، أديب، وجمع أمانة التحقيق إلى سلامة الرأي إلى سعة الاطلاع.
أنطون الجميل
محمد علي الكبير منشئ مصر الحديثة.
تقارير حضرات الأساتذة أعضاء مجمع فؤاد الأول الملكي للغة العربية الذين قرءوا الكتاب ورشحوه لنيل جائزة المجمع للبحث الأدبي في أبريل سنة 1946. *** (1) تقرير فقيد الأدب والصحافة وصاحب الفضل الأكبر في توجيهي لكتابة هذا البحث المغفور له الأستاذ أنطون الجميل باشا
عنوان الكتاب «تاريخ الترجمة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، وهو كذلك تاريخ خطواتها الأولى في سبيل تحررها، أو تاريخ العلماء والأدباء الذين كفلوا بوادر نهضتها، أو تاريخ محاولتها الخروج من عزلتها وتعرفها بالغرب لوصل ما انقطع من حضارتها، أو تاريخ الوسيلة المثلى التي اصطنعها محمد علي في إقالة عثرتها. فمن أي ناحية نظرت إلى هذا البحث ألفيته كامل العدة، متين الأركان، صادق الحكم. والخلاصة أن الكتاب لمؤرخ ومفكر وأديب، جمع أمانة التحقيق إلى سلامة الرأي إلى سعة الاطلاع.
ثلاث ملاحظات تتصل بهذا التعدد في نواحي النظر إلى الموضوع: (1)
هي نواح متآلفة متكاملة، وهي في تمازجها تلقي ضوءا قويا على موضوع البحث كيفما سميته، وبأي طابع وسمته. (2)
بديهي أن المؤلف لا يطرق موضوعا يعد من الذرى في حوادث التاريخ، بل يتناول ما يسميه الفرنسيون «التاريخ الصغير»؛ أي تاريخ التفاصيل التي تمت إلى الحوادث الخطيرة، ويساهم جلاؤها في توضيح الفكرة العامة التي تخلص من تلك الحوادث.
فجميع الموضوعات التي يدور عليها الكتاب تدخل في نطاق «التاريخ الصغير»: «اتصال العلماء المصريين بعلماء الحملة الفرنسية، وسيلة محمد علي في النقل عن الغرب، المدارس والبعثات في أوائل القرن التاسع عشر، العلوم والفنون التي شملتها حركة الترجمة، المترجمون السوريون، القواميس والمعاجم، الطبع والنشر ... إلخ»، على أن تداخل النواحي المختلفة التي ينظر منها المؤلف إلى موضوع كتابه ينطوي على ميزتين: (أ)
يهيئ للمؤلف التنويع في مواضع السرد والشرح مما ينفي عن القارئ الملل. (ب)
يهيئ للقارئ أن يرد كثيرا من الطرائف التي يأتيه بها المؤلف إلى عدة نواح معا مما يزيد هذه الطرائف معنى وقيمة. (3)
لولا التمازج بين هذه النواحي المتقاربة لكان الموضوع جافا قلما يثير شوق القارئ إلى الاستزادة من الإلمام به وتعمق جوانبه، وهو بهذا الانسجام موضوع شائق يروق الخيال ببحثه التاريخي وييسر الحساسية بمعناه الوطني، ويستهوي العقل بجانبه الأدبي والعلمي.
ذلك من حيث الموضوع في ذاته، أما التأليف فهو كامل الترتيب والوضوح.
للبحث كتابان ينقسم كل منهما إلى أبواب وفصول تقسيما منطقيا ظاهرا.
والمقدمات التي يمهد بها للكتابين ولبعض فصوله تركز الفكرة الآتي شرحها، وهذا وكل فصل مسبوق بخلاصة تنبئك عما يدور عليه.
ويعجبك بخاصة: (1)
دقة البحث؛ يرد كل حكم إلى مصدره، ويؤيد كل رأي بأسانيد، شأن المؤرخ المحقق الأمين. (2)
اختيار التفصيلات؛ هذا الاختيار فن: فكثيرا ما تطمر الزوائد فكرة عامة، فمن أمارات الفطنة واللباقة اختيار التفصيل، أو المثل الأوفى معنى والأظهر مغزى، وقد وفق المؤلف في ذلك أي توفيق. (2) ومن تقرير حضرة صاحب العزة الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك
يقع هذا البحث في نحو 370 صفحة من القطع الكبير، ويشتمل على ثلاثة أبواب وملاحق، وتحت كل باب عدة فصول؛ وفي الباب الأول يؤرخ المؤلف للترجمة في عهد الحملة الفرنسية، مبينا ما حدث حينذاك من ترجمات رسمية وعلمية؛ وفي الباب الثاني - وهو دعامة الكتاب - يعرض للترجمة في عهد محمد علي، فيتحدث عن البحوث العلمية، والمترجمين من أجانب ومصريين، ومدرسة الألسن، وما كانت ترمي إليه من تخريج المترجمين، وعن وسائل الترجمة من قواميس ومعاجم وطبع ونشر، والكتب المترجمة مدرسية كانت أو غير مدرسية.
وفي الباب الثالث يحاول أن يحكم على هذه الحركة الواسعة، فيبين أغراض الترجمة، وطرائقها، وأسلوبها، ومصطلحاتها، واللغات المترجم منها وإليها؛ ويشير إلى أثر ذلك كله في اللغة العربية والمجتمع المصري؛ ويضيف أخيرا ملاحق يسرد فيها الكتب التي ترجمت ومترجميها، وثبتا شاملا للمراجع العربية والأجنبية التي عول عليها. •••
والبحث - كما يبدو - غزير المادة، كثير التفاصيل، مستوعب الأطراف؛ كشف عن ناحية ما أحوجنا أن نقف عليها في دقة، وبرهن على عمل طويل ومجهود عظيم؛ وقد تسلح له الباحث بأسلحة شتى: من معرفة عدة لغات، واستعانة بمخطوطات مختلفة، وخاصة وثائق عابدين التي لم تدرس بعد الدرس الكافي، والتي يخرج القارئ منها دائما بفوائد جديدة؛ هذا إلى روح نقد ورغبة في التحليل أعانته على تفهم النصوص التاريخية، ومناقشة الآراء المختلفة، وترجيح بعضها على بعض، أو الذهاب إلى رأي مبتكر ... إلخ. (3) ومن تقرير حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد أحمد العوامري بك
رسالة نالت بالإجماع درجة الماجستير مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة فاروق الأول، ولا غرو؛ فالأستاذ الشيال تعب أيما تعب، ونصب أيما نصب في تأليف رسالته من ذلك العدد الضخم من المراجع والمظان.
وقد وفق لسرد هذا التاريخ في قالب شائق يغري القارئ بتتبع «الترجمة» في تلك الحقبة، ويدفعه إلى استيعابها للوقوف على تفصيلاتها المسهبة كما بسطها ... إلخ. (4) ومن تقرير حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك
الكتاب بحث طريف في الترجمة إلى اللغة العربية منذ أيام الحملة الفرنسية إلى أواسط القرن التاسع عشر؛ وقد وفاه الأستاذ حقه، ورجع إلى المراجع والوثائق التي يمكن الرجوع إليها، واستطاع أن يجلو هذه الناحية من نهضة مصر الثقافية. كما أورد نبذات مفيدة عن أكبر أصحاب الترجمة في ذلك العهد.
وهو جدير بالجائزة والتنويه.
كلمة المؤلف
لهذا الكتاب ككل شيء في الحياة قصة وتاريخ:
ففي شتاء سنة 1943 نشرت صحيفة الأهرام أن فقيد الأدب والصحافة المغفور له الأستاذ أنطون الجميل باشا قد تبرع بمبلغ خمسين جنيها جائزة يمنحها مجمع فؤاد الأول الملكي للغة العربية لأحسن بحث يقدم إليه عن «حركة الترجمة في مصر في القرن التاسع عشر».
وراقني الموضوع؛ فهو يؤرخ للحياة الفكرية في مصر في فجر نهضتها الحديثة، وأحسست رغبة قوية للاشتراك في هذه المسابقة، وبدأت أجمع المصادر وأتلمس المظان، وكنت حينذاك مدرسا بمدرسة قنا الثانوية، ولكن مكتبة هذه المدرسة وكتبي القليلة التي اصطحبتها معي لم تقدم لي إلا مادة قليلة ضئيلة.
وانتهى الموسم الدراسي، وسافرت إلى القاهرة، ومع أن شهور الصيف ليست الشهور المناسبة للقيام بجهد فكري فقد صدفت فيها عن كل شيء، وفرغت تماما للقراءة حول هذا الموضوع وجمع مادته.
ولم يكد ينتهي الصيف حتى نقلت معيدا بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول بإسكندرية، استنفد هذا النقل مني وقتا وجهدا غير قليلين، ثم بدأت أستكمل الناقص من مادة البحث وأرسم خطته النهائية توطئة للبدء في كتابته، وهنا تبين لي أن الموضوع كما اقترحه المجمع يحتاج إلى تعديل؛ لأن حركة الترجمة في مصر في القرن التاسع عشر شهدت نهضتين؛ النهضة الأولى: في عصر محمد علي، وشملت النصف الأول من القرن التاسع عشر، والنهضة الثانية: في عصر إسماعيل وما تلاه، وشملت النصف الثاني من هذا القرن. وظهر لي من خطوات البحث الأول أن كلا من النهضتين تختلف عن الأخرى في الممهدات والنشأة والبواعث والتطور والأدوات والأغراض والنتائج.
لهذا رأيت أنه قد يكون من الأفضل لو أن المجمع عدل الموضوع وقصره على «حركة الترجمة في مصر في عصر محمد علي أو في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، على أن تكون الحركة في عصر إسماعيل أو في النصف الثاني من القرن موضوعا لمسابقة ثانية، وخاصة أن التأريخ لحركة خطيرة كهذه في قرن كامل - حتى لو تغاضينا عن الصعوبة الفنية السابقة - يحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل لا تتسع لهما السنة التي حددها المجمع ليقدم البحث في نهايتها، وأن أي باحث يقدم على التأريخ لهذه الحركة في قرن كامل - وفي مدى سنة واحدة - لا بد أن يخرج بحثه هزيلا ناقصا؛ فالموضوع طويل متشعب النواحي والأطراف.
وكتبت إلى المجمع بهذه الملاحظات مقترحا أن يقصر الموضوع على «حركة الترجمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر» أو أن يمد أجل المسابقة سنة أخرى إذا رئي أن يبقى عنوان الموضوع كما هو، غير أن المجمع رفض مقترحاتي معتذرا بأنه لا يستطيع التغيير في الشروط التي سبق أن أعلنها؛ لأن الباحثين بدءوا عملهم على أساسها وخاصة أن المدة المحددة قد أوشكت على النهاية.
وكنت إذ ذاك أعد العدة للتقدم ببحث آخر للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة فاروق الأول، ولكن الجامعة - لأمر ما - رأت أن أتقدم أولا ببحث آخر للحصول على درجة الماجستير، فرأيت أن يكون تاريخ الترجمة هو موضوع الماجستير، ورحت أستكمل ما نقص منه، وأعدل ما يحتاج إلى تعديل، وأغير ما يحتاج إلى تغيير، ثم كتبته من جديد؛ لأن منهج البحث في رسالة تقدم لمسابقة عامة يختلف - ولا شك - عنه في رسالة تقدم للحصول على إجازة علمية، وقصرته - كما ارتأيت - على النهضة الأولى في عصر محمد علي، وجعلت عنوانه «تاريخ الترجمة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، وقسمته إلى كتابين؛ الأول: كتاب صغير أرخت فيه للترجمة في عهد الحملة الفرنسية،
1
أي في مطلع القرن التاسع عشر وسنواته الأولى - وجعلته كمدخل للكتاب الثاني الكبير - وهو هذا الكتاب الذي ضمنته لب الموضوع وصميمه، وأرخت فيه للترجمة في عصر محمد علي (1805-1849).
وكانت هذه الرسالة أول رسالة تقدم إلى جامعة فاروق الأول للحصول على درجة الماجستير، فلم تكن الجامعة قد استكملت وقتذاك غير سنتين ونصف سنة من عمرها، ونوقشت الرسالة في 28 أبريل سنة 1945 أمام لجنة مكونة من حضرات الأساتذة عبد الحميد العبادي بك، ومحمد شفيق غربال بك، والدكتور محمد مصطفى صفوت، ونالت بإجماع الأصوات درجة الماجستير مع مرتبة الشرف الأولى.
وبعد ذلك بقليل أعلن المجمع - شأنه في كل عام - عن مسابقات رصد لها جوائزه السنوية التي تمنح لأحسن بحث أدبي بوجه عام، ولأحسن قصة، ولأحسن ديوان شعر، ورأيت أنه وإن كانت الفرصة السابقة قد فاتتني في المسابقة الماضية منذ تقدم الباحثون بأبحاثهم وفاز بجائزة الجميل باشا بحث الصديق الأستاذ جاك تاجر، فإن هذه فرصة جديدة أستطيع أن أنتهزها لأطلع المجمع على منهجي في بحث الموضوع كما سبق أن شرحته له.
وتقدمت بكتابي «تاريخ الترجمة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر» لجائزة البحث الأدبي، وقدر له أن يفوز بهذه الجائزة، وكانت اللجنة التي قرأته ورشحته للجائزة مكونة من حضرات الأساتذة:
المغفور له أنطون الجميل باشا، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك، ومحمد فريد أبو حديد بك، ومحمد أحمد العوامري بك.
وقد نشرت صورة من تقارير حضراتهم في صدر هذا الكتاب.
وأعلنت نتائج المسابقات لتلك السنة في حفل عام أقيم في قاعة المحاضرات بالجمعية الجغرافية الملكية في أبريل سنة 1946، وتحدث عن كل مسابقة مقرر لجنتها، وكان مقرر لجنة البحوث الأدبية حضرة صاحب المعالي الأستاذ الدكتور طه حسين باشا، فتحدث عن كل كتاب من الكتب الفائزة، وخص كتابي بكلمة قيمة فيها تقدير كريم للبحث وقيمته ومنهجه.
2 •••
هذه هي قصة الكتاب وهذا هو تاريخه، أما موضوعه فلست أجد وصفا له أبلغ من هذه الكلمة التي وصفه بها المغفور له أنطون الجميل باشا في قوله: «هو تاريخ خطوات مصر الأولى في سبيل تحريرها، أو تاريخ العلماء والأدباء الذين كفلوا بوادر نهضتها، أو تاريخ محاولتها الخروج من عزلتها وتعرفها بالغرب لوصل ما انقطع من حضارتها، أو تاريخ الوسيلة المثلى التي اصطنعها محمد علي في إقالة عثرتها»، فقد بقيت مصر قرابة قرون ثلاثة - في العصر العثماني - منطوية على نفسها، مقفلة النوافذ والأبواب، والعلاقات بينها وبين العالم الخارجي - وخاصة أوروبا - مقطوعة مبتوتة، ولو أن الحكومات المشرفة على مصر عملت على النهوض بها داخليا خلال هذه المدة لهان الخطب، ولكن زاد الطين بلة أن هذه العزلة صحبها ركود واضمحلال في كافة شئون مصر الداخلية، حربية كانت أم اقتصادية أم ثقافية.
ولم يكد يشرف القرن الثامن عشر على نهايته حتى كان الغرب قد ضاق ذرعا بهذه العزلة التي تقبع فيها بلدان الشرق الأدنى - ومصر بوجه خاص - ولم يشأ هذا الغرب الأوروبي أن يسلك السبيل السوي فيدعو مصر إلى أن تقطع حبل هذه العزلة، وإلى أن تفتح الأبواب والنوافذ كي تسمح لأضواء الحضارة الأوروبية الجديدة بالدخول والانتشار، ولكنه آثر أن يقوم هو بفتح هذه الأبواب والنوافذ، وبالقوة، قوة السلاح؛ فقد كانت تدفعه عوامل الاستعمار، عوامل الأثرة والاستغلال، مما أثار قوى المقاومة الداخلية، وقوى المنافسة الخارجية، وبهذا اضطرت جيوش الفرنسيين إلى الجلاء عن مصر بعد أن قضت في ربوعها سنوات ثلاث لم تذق في خلالها طعم الراحة يوما واحدا.
وهكذا استيقظت مصر من سباتها الماضي الطويل العميق، ولكن يقظتها لم تكن تلقائية رفيقة هادئة، بل لقد كانت يقظة عنيفة مفاجأة دفعت إليها دفعا، وكانت الأضواء التي حملها الفرنسيون معهم - أضواء السلاح والحضارة والعلم - قوية براقة، كادت تغشى لها عيون المصريين، ولم يتمالك كبير من علمائهم - وهو المؤرخ المعروف عبد الرحمن الجبرتي - أن يعبر عنها حين زار مكتبة الفرنسيين ومعهدهم، بقوله: «ولهم فيه أمور وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا.»
وشهدت مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر صراعا عنيفا بين قوى ثلاث: الأتراك، والمماليك، والإنجليز، كل منها تعمل لحسابها ، وتمهد السبيل كي تفوز هي وتصبح لها السيطرة على مصر وشعبها وشئونها، ووسط هذا الضباب الكثيف، ووسط هذا العثير المتطاير نتيجة لصراع هذه القوى الأجنبية الثلاث بدأت تظهر قوة جديدة ظلت كامنة قرابة ثلاثة قرون، تلك هي قوة الشعب المصري.
وأعلن هذا الشعب إرادته قوية جريئة صريحة: أنه صاحب الحق الأول في اختيار حاكمه، وكان موفقا حين أعلن على لسان زعمائه اختيار محمد علي واليا عليه.
وأدرك محمد علي منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها عرش مصر أنه لا بد من رسم سياسة إصلاحية جديدة لانتشال الكنانة من وهدة الخراب والفساد التي تردت فيها طوال العصر العثماني، ورأى أن السبيل القويم للإصلاح هو الاتجاه نحو الغرب، والاقتباس من نظمه والنقل عن علومه، وخطا نحو تنفيذ هذه السياسة الإصلاحية خطوات مختلفة؛ فبدأ باستخدام الأجانب والاستعانة بهم، ثم ثنى بإرسال المصريين في بعثات إلى أوروبا، ثم ثلث بإنشاء المدارس الجديدة في مصر على النظام الأوروبي، ولتدريس هذه العلوم والنظم الجديدة، وكانت وسيلته الكبرى في كل هذه المحاولات هي النقل عن الغرب، هي الترجمة.
وما كتابنا هذا إلا دراسة تفصيلية لهذه الوسيلة الكبرى، وما يتصل بها من أدوات، وما سبقها من مقدمات وتمهيدات، وما تلاها أو تسبب عنها من نتائج.
تتبعنا حركة الترجمة في هذا العصر منذ خطواتها الأولى في إعداد المترجمين من خريجي المدارس والبعثات، إلى اختيار الكتب وطريقة ترجمتها، إلى مراجعتها وتحريرها وتصحيحها، إلى أن وصلنا بها إلى المرحلة الأخيرة، مرحلة الطباعة والنشر.
وأفردنا خلال هذا كله فصولا قائمة بذاتها للمؤسسة العلمية الكبرى التي أنشئت لخدمة هذه الحركة - وهي مدرسة الألسن وقلم الترجمة الملحق بها - ثم لطلائع رجال النهضة الثقافية الذين أسهموا في هذه الحركة من مترجمين ومصححين، ثم لحركة القواميس والمعاجم باعتبار أنها أداة من أهم أدوات النقل والترجمة، ثم لحركة الطباعة والمطابع التي أنشئت أول ما أنشئت لخدمة حركة الترجمة، ولطبع الكتب المترجمة.
وأخيرا ختمنا الكتاب بفصل كبير قدمنا فيه دراسة تحليلية مقارنة للحركة وأهدافها ووسائلها وأسلوب الترجمة وآثارها في اللغة العربية وفي المجتمع المصري.
ثم ألحقنا بالبحث مجموعة من الجداول ضمناها إحصاء للكتب التي ترجمت في عصر محمد علي مع البيانات الوافية عن كل كتاب ومؤلفه ومترجمه ومصححه وأجزائه وصفحاته وسنة طبعه ... إلخ.
هذه صورة سريعة للكتاب وموضوعه ومحتوياته لا أريد أن أزيد في تفصيل الحديث عنها، وإنما أترك الحكم عليها للقارئ الكريم بعد الاطلاع عليها، وإذ كان هذا الكتاب قد تناول بالبحث والدراسة - إلى جانب موضوع الترجمة - نواحي النهضة الثقافية المختلفة، بحكم اتصالها وخدمتها لحركة الترجمة، فقد آثرت أن يكون عنوانه الجديد: «تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي»، فهو بهذا أدل على موضوعات الكتاب ومحتوياته. •••
بقيت كلمة أخيرة أحب أن أختم بها هذا الحديث، وأن ألفت إليها الأنظار، ذلك أن محمد علي لم يندفع في حركته الإصلاحية نحو الغرب اندفاعا كليا، بل حاول دائما أن يوائم بين حاجات مصر وتراثها الشرقي وبين ما يريد أن يستورده له من إصلاحات ونظم وعلوم غربية، فهو بوسائله جميعا - التي عرضنا لذكرها في متن هذا الكتاب - حاول أن ينقل الغرب إلى مصر؛ ليحقق مثله العليا في الإصلاح، ولكنه لم يحاول البتة أن ينقل مصر إلى الغرب، بل احتفظ لها بروحها وتقاليدها، بل لقد حاول في كثير من الأحيان أن يمزج بين الخير في العالمين - الشرقي والغربي - فأقام النهضة المصرية الحديثة على أسس متينة صحيحة، ووجهها - منذ عصره حتى الآن - الوجهة الطيبة التي أفادت منها، والتي لا نزال نعمل للإفادة منها.
وأخيرا أرى أن من واجبي أن أتقدم بالشكر الجزيل لأستاذي الجليلين حضرتي صاحبي العزة عبد الحميد العبادي بك، ومحمد شفيق غبريال بك؛ فقد أفدت الكثير من توجيهاتهما، وتعضيدهما أثناء إعداد هذا البحث.
وبعد، فإني أحمد الله سبحانه وتعالى حمدا كثيرا أن وفقني لهذا، فمنه وحده التوفيق، وبه وحده العون، وأبتهل إليه سبحانه أن يوفقني للعمل الصالح إنه على كل شيء قدير.
جمال الدين الشيال
الإسكندرية في 28 أكتوبر سنة 1951
مقدمة
وفد محمد علي على مصر ضابطا صغيرا من ضباط الحملة التركية الإنجليزية التي أتت في مارس سنة 1801 لإخراج الفرنسيين من مصر، واشترك محمد علي في معارك كثيرة مع جيوش دول ثلاث: إحداها دولة شرقية متحطمة تسير نحو الفناء، فجيوشها خليط من شعوب كثيرة متنافرة يعوزها التآلف والانسجام والنظم الحديثة وحسن القيادة، والثانية والثالثة دولتان غربيتان ناهضتان تنافس كل منهما الأخرى في سبيل الاستيلاء على هذه الكنانة لما تتمتع به من ميزات جمة، ولأنها مفتاح الشرق، مطمح أنظارهما، ولموقعها الجغرافي الممتاز، وجيوش هاتين الدولتين تمتاز بنظم حديثة، وأسلحة جديدة، وخطط محكمة، وقيادة قديرة، فكان لهذا اللقاء الأول أثر جد قوي في نفس محمد علي وتفكيره.
فلما جلا الفرنسيون عن مصر، واستقر محمد علي فيها ضابطا من ضباط الفرقة الألبانية، ظل يرقب عن كثب الصراع الذي قام من جديد بين القوى الثلاث: المماليك والأتراك والإنجليز، وقدر محمد علي كل قوة قدرها، وأيقن أن كل واحدة منها تناضل الأخرى في سبيل أن تفوز هي وتغنم دون أن تعير هذا البلد وهذا الشعب اهتماما، ورأى بثاقب نظره أن هناك - وراء الستار - قوة ظلت كامنة قرابة ثلاثة قرون، وقد أيقظتها هذه الحملة الفرنسية، وأن المستقبل لهذه القوة إذا وجدت من يأخذ بيدها، ويقودها إلى الخير.
وانتهت هذه المعركة الثلاثية بخروج الإنجليز من مصر أولا، ثم بضعف المماليك والأتراك ثانيا، وهنا ظهر محمد علي في صف الشعب، ولحظ الناس - خاصتهم وعامتهم - مواهب هذا الرجل الممتازة «فرأوا في رجل الحرب الزعيم المفطور على الخير، ولما اشتد الأمر بينهم وبين الباشا العثماني قالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا، ولا بد من عزله من الولاية، فقال: ومن تريدونه يكون واليا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون واليا علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولا، ثم رضي، وأحضروا له «كركا» وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه له، وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة.»
1
وانتهى النزاع أخيرا، واضطر السلطان اضطرارا أن يقر محمد علي واليا على مصر ، ومنذ ذلك الحين بدأ هذا الرجل العظيم يطهر الجو أولا، ثم أخذ يضع الخطط لإصلاحاته المختلفة، التي تعتبر - إلى حد ما - استمرارا لما بدأه الفرنسيون في مصر، والتي التزم فيها سبيلا وسطا، فلم يلجأ إلى القديم ويتعصب له؛ لأنه آمن منذ اللقاء الأول بأن الإصلاح إنما يكون بالنقل عن الغرب، ولكنه في نفس الوقت لم يأخذ عن الغرب كل شيء، ولم يعتمد عليه كل الاعتماد، بل «اتخذ بين المستشرقين والمستغربين خطة وسطا، يدلك على ذلك أن «ماكولي» استشهد بما عمله محمد علي في مصر لتأييد ما ذهب إليه من ضرورة تعليم العلوم الحديثة، كما أن خصوم «ماكولي» من أنصار الثقافة الشرقية استشهدوا أيضا بمحمد علي لتأييد ما ذهبوا إليه من ضرورة وصل حاضر الأمة بغابرها، فقالوا - وكان حقا قولهم: إن مصلح مصر يعلم العلوم الحديثة، ولكنه يعلمها باللغة العربية ...»
2
تولى محمد علي عرش مصر والعلم فيها قد انزوى في أروقة الأزهر، وصحون بعض المساجد، وقاعات المكاتب في المراكز والقرى، وكان لعلماء الأزهر - كما يقول رفاعة - «اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية، العملية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر، وكالمنطق، والوضع، وآداب البحث، والمقولات، وعلم الأصول المعتبر ...»
3
وكان الأزهر كما يقول: «جنة علم دانية الثمار، وروضة فهم يانعة الأزهار»،
4
وإن كان أستاذه الشيخ العطار قد فقد ثقته بهذه العلوم، مذ بهرته علوم الفرنسيين، وراح يطلب غيرها لنفسه، ويقرأ لتلاميذه كتبا غير كتب الأزهر، وعلوما غير علوم الأزهر، وكان يقول: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها.»
5
وآمن محمد علي بهذا الرأي، وبدأ يعد العدة لإنشاء المدارس الجديدة، ولكنه تخير تلاميذها ومعلميها من المعهد القديم - الأزهر - واحتفظ لمدارسه الجديدة بالطابع الإسلامي الشرقي، فكان في نظر أهل عصره من المصريين «مجددا لدروس العلم بعد اندراسها، آتيا في ذلك بما لم تستطعه الأوائل»،
6
كما كان يلقبه الأوروبيون «بمعيد تمدن الإسلام، ومبيد تمكن الأوهام».
7
بدأ محمد علي في مصر عهدا جديدا؛ فقد كانت العلاقات بينه وبين السلطان غير مستقرة، وكان الجيش الذي وجده في مصر - إن صح أن يسمى جيشا - خليطا عجيبا من شرازم مملوكية، وفرق ألبانية، وشركسية، إلخ ... إلخ، وكانت له أطماع سياسية تتجه إلى إحياء العالم العثماني، وكان يرى أن هذا الإحياء لا يمكن أن يتم إلا إذا اتخذ لنفسه جيشا وأسطولا عظيمين قويين ينهج في تكوينهما نهج دول أوروبا في تكوين جيوشها وأساطيلها.
ورأى محمد علي بعد هذا أن السياسة الاقتصادية في مصر سياسة خربة يعوزها الإصلاح الشامل في شتى نواحيها، وكان مذهبه في الإصلاح - مصيبا في ذلك أم مخطئا - أن تضع الحكومة يدها على فروع الإنتاج الاقتصادي المختلفة، من زراعة وتجارة وصناعة، لتتمكن من إدخال الإصلاح الذي تريد.
وكان محمد علي أخيرا في حاجة إلى موظفين إداريين حازمين يفهمون عنه رغبته في الإصلاح، ويقدرون حالة البلد، وحاجتها، ويلمون إلماما تاما بنواحي الإصلاح الغربي المراد اقتباسه.
وكانت مصر خلوا من هذا الصنف من الرجال، فاتجه محمد علي أول الأمر إلى استخدام الأجانب، ولكنه كان يدرك منذ اللحظة الأولى «أن الإكثار من الأجانب في خدمة الحكومة ليس من الصواب في شيء، فكثير منهم - على كفايتهم في النظم الحربية والاقتصادية كما عرفتها بلادهم في ذلك الوقت - يجهلون أغراض الحكومة، وقد يعرقلون أعمالها، عن قصد أو غير قصد، وقد يجهلون أيضا ما تحتاجه بلاد ناشئة كمصر من تلك النظم الحربية والاقتصادية، وقد يرجع هذا إلى جهلهم بلغة البلاد، وعادات أهلها، وطباعهم، وكان محمد علي لا يثق في كثير منهم، ويرى أنهم إنما يعملون لمصلحتهم الذاتية قبل أن يعملوا لمصلحة الدولة التي تنفق عليهم، وأنهم يروج بعضهم لبعض.
هذا إلى النفقات الطائلة التي تنفق عليهم؛ فهم يتقاضون مرتبات باهظة، وكثير منهم يجهلون اللغة العربية، فيعين لهم مترجمون ليكونوا عونا لهم في عملهم، وفي الصلة بينهم وبين الحكومة».
8
هذه هي الأسباب التي كانت تعدل بمحمد علي عن الاعتماد على الأجانب أو الإكثار منهم في وظائف الحكومة، وتدفعه إلى التفكير الجدي السريع في إيجاد حل للإقلال منهم ، ثم لإحلال المصريين محلهم، ويضاف إلى الأسباب السابقة ما كان يمتاز به كثيرون من هؤلاء من جهل وادعاء واستغلال، يؤيد دعوانا هذه ما يقوله «إدوار جوان» عن الأطباء المرافقين للحملة المصرية على السودان، قال: «كان يوجد لفيف من أفاقي اليونان والطليان يرافقون الجيش في تنقلاته من مكان إلى مكان منتحلين العلم بالطب، والحقيقة أنهم كانوا لا يدرون من بسائطه شيئا، وإنما كانوا من النصابين البارعين في الشعوذة، ولقد كان ستة من أولئك الأطباء المزعومين في مقدمة الذين لقوا حتفهم بتلك الأمراض المهلكة، فكان موتهم بها دليلا على عجزهم وجهلهم، وشعوذتهم»،
9
وذكر أيضا «مسيو هامون» ناظر مدرسة الطب البيطري في مصر في عهد محمد علي عند كلامه عن الأطباء والصيادلة الأجانب الذين ألحقوا بالإدارة الصحية أول إنشائها، أن ثلثيهم كانوا لا يحملون دبلومات أو مؤهلات عملية طبية، بل إن منهم من كان ممرضا أو مدير مكتب تلغرافي أو صانع أحذية أو ندلا في مقهى بالقاهرة، ثم قال: «إن أي أجنبي كان ينزل بأرض مصر وليس له مهنة يمتهنها كان يعين صيدليا أو طبيبا.»
10
أدرك محمد علي إذن كل هذه الأسباب، وكانت له بصيرة مستشفة، وعين نفاذة، وبدأ يفكر كما قلنا في الوسائل التي تمكنه سريعا من الاستغناء عن هؤلاء الأجانب - أو على الأقل - عن المدعين منهم، ثم إحلال المصريين محلهم، وقد اتبع لتنفيذ هذا الرأي سبلا كثيرة: (1)
رأى أولا أن علوم الغرب، وحكمته، وخططه، ونظمه، قد سطرت جلها أو كلها في كتبه التي وضعها علماؤه، ومؤلفوه، فكانت خطته الأولى أن يمهد السبل لترجمة كثير من هذه الكتب إلى العربية أو التركية؛ ليسهل على أبناء البلاد الاطلاع عليها، والإفادة منها، وقد عهد فعلا لكثير من الأجانب في مصر - شرقيين وغربيين - بترجمة بعض الكتب، غير أنهم كانوا يتلكئون، أو يهملون في عملهم حتى «ليتم أحدهم عمل ستة أشهر في خمس سنوات»،
11
ومع هذا فقد ترجمت كتب كثيرة في مختلف الفنون، ولكن هل يستطيع هذا النفر من المترجمين أن يحولوا ماء البحر بكوب؟! كلا ولو جاء لهم محمد علي بأضعاف أضعافهم عونا ومددا؛ ولهذا أدرك ما يشين هذه الطريقة من بطء، وما قد يشوبها من أخطاء ترجع إلى اختيار الكتب أو المترجمين، أو كفاية هؤلاء المترجمين، ومبلغ معرفتهم بالعلوم التي يترجمون فيها، أو باللغات التي ينقلون عنها وإليها. (2)
راح محمد علي بعد ذلك يتلمس طريقة أخرى فرأى أن ينقل نفرا من أهل البلد إلى أوروبا - موطن هذه العلوم والنظم - ليدرسوا هذا الذي يريد نقله هناك، وبلغة القوم، حتى إذا عادوا لمصر كانوا عدتها في المستقبل، وحلوا محل الأجانب في الوظائف المختلفة، وفي تعليم ما درسوا لأبناء أمتهم، وفي ترجمة الكتب الغربية؛ ولهذا أرسل محمد علي البعوث إلى أوروبا الواحدة بعد الأخرى، وعاد الكثيرون من أعضائها وقد أفادوا الفائدة الكبرى، وحققوا أغراض محمد علي، وحملوا العبء عن الأجانب، وأدوا واجبهم بإخلاص وأمانة، وكان محمد علي مع هذا لا يوليهم - بعد عودتهم - الأعمال المختلفة إلا إذا استوثق من مهارتهم، وكان مقياسه في ذلك أن يقوم كل منهم بترجمة كتاب في الفن الذي اختص فيه، أما الذين درسوا الصناعة منهم، فكان يجربهم فيما درسوه، «حتى إذا أظهروا مهارة وكفاية استغنى عن خدمات الأجانب، وأحل محلهم أهل البلاد في وظائفهم»؛
12
لأنه كان يرى في صرف الأجانب عن المنشآت الجديدة، وإحلال المصريين محلهم «صيانة لأموال الحكومة وفخرا لها»،
12
وكان يفرح الفرح كله كلما سمع عن نبوغ بعض الضباط المصريين، ويعد ذلك «فألا حسنا للمستقبل؛ إذ يعفي الحكومة من استخدام الأجانب».
12 (3)
كان لهذه الطريقة فائدتها وجدواها؛ فقد عاد الكثيرون من أعضاء البعثات، وتولوا الكثير من الأعمال والوظائف، وترجموا الكثير من الكتب، ولكن جيوش محمد علي وأساطيله تحتاج لمئات الضباط، والمصانع المتعددة تحتاج لآلاف العمال، والإصلاح الزراعي، ومنشآت الري والهندسة تحتاج لعشرات الخبيرين بهذه الفنون والعلوم الجديدة، والمدارس تحتاج لمئات المدرسين المختصين في مختلف العلوم، والإصلاح الطبي يحتاج لجيش كبير من الأطباء ... وهكذا ... وهكذا ... فهل يستطيع محمد علي، أو هل تمكنه ميزانية الدولة أن يبعث هذه الآلاف من المصريين ليتلقوا العلم في أوروبا ...؟!
وجد محمد علي أن هذه أيضا طريقة غير عملية، أو - على الأقل - غير سريعة الإنتاج؛ لأنه لو اكتفى بها لاحتاج إلى سنوات وسنوات، وهو حريص على أن يشمل إصلاحه كل ناحية من نواحي الحياة المصرية، وفي أسرع وقت ممكن؛ لهذا لجأ إلى تجربة رابعة ذات شعبتين: (أ)
فقد عهد إلى الأجانب أن يقوموا - إلى جانب أعمالهم - بتعليم بعض المصريين علومهم وفنونهم حتى إذا أتم هؤلاء تعليمهم خلفوا أساتذتهم في مراكزهم، «فالضباط الأجانب ينظمون فرق الجيش، ويعلمون الضباط والجند المصريين أو الأتراك، والأطباء الأجانب يعملون في المستشفيات، ويعلمون التلاميذ ليكونوا أطباء، ورجال الصناعة الأجانب يعملون في المصانع، ويعلمون فنهم للصناع المصريين». (ب)
ثم رأى محمد علي أخيرا أن ينشئ المدارس المختلفة لتعليم أبناء البلاد تعليما رتيبا منظما؛ فأنشأ مدارس الطب والهندسة والزراعة والحربية ومدرسة الألسن، ثم رأى أن لا بد من وجود مدارس أخرى لإعداد الملتحقين بهذه المدارس «الخصوصية»؛ ففتح مدارس «المبتديان»، والمدارس «التجهيزية».
بهذه الوسائل جميعا حاول محمد علي أن ينقل الغرب إلى مصر ليحقق مثله العليا في الإصلاح، ولكنه لم يحاول البتة أن ينقل مصر إلى الغرب بل احتفظ لها بروحها وتقاليدها، بل لقد حاول في كثير من الأحيان أن يمزج بين الخير في العالمين - الشرقي والغربي - فأقام النهضة المصرية الحديثة على أسس متينة صحيحة، ووجهها - منذ عصره حتى الآن - الوجهة الطيبة التي أفادت منها، والتي لا نزال نعمل للإفادة منها.
ختم محمد علي باشا.
استعان محمد علي - كما ذكرنا - بالأجانب أول الأمر، وهنا نتساءل: بأي الأجانب استعان؟ لما لذلك من أثر واضح سيصبغ ثقافة مصر بصبغة خاصة طوال القرن التاسع عشر.
كانت دول أوروبا صاحبة الصدارة في العصور الوسطى المتأخرة ومطلع العصر الحديث هي: إنجلترا وفرنسا، وجمهوريات إيطاليا.
أما إنجلترا فلم تفكر يوما - حتى أواخر القرن الثامن عشر - في أن تكون لها بمصر علاقة ما، وخاصة من الناحية السياسية، وذلك إذا استثنينا الدور الذي لعبه الملك «ريتشارد» (قلب الأسد) في الحروب الصليبية، وما كان بينه وبين سلطان مصر وقتذاك صلاح الدين الأيوبي وأخيه الملك العادل أبي بكر من علاقات
13
صداقة كانت توحي بها روح العصر والمثل العليا لنظام الفروسية السائد في تلك الأيام، وما كان يتمتع به كل من صلاح الدين، و«ريكاردوس» من صفات البطولة الصادقة.
وبانتهاء تلك الحملة الصليبية انقطعت العلاقات بين مصر وإنجلترا، حتى إذا كان النصف الثاني من القرن الثامن عشر سمعنا عن مساع كثيرة يبذلها الإنجليز في مصر للعودة إلى استعمال الطريق البري القديم عبر مصر والبحر الأحمر للوصول إلى الهند؛
14
لما يمتاز به هذا الطريق من قصر وسرعة تتناسب ومبشرات الرغبة في هذه السرعة التي ستكون أهم مميزات القرن التاسع عشر وخاصة بعد الانقلاب الصناعي.
وأحست فرنسا في نفس الوقت أهمية مصر في هذه الناحية، وبدأت المنافسات التحتية مع مولد القرن التاسع عشر بين هاتين الدولتين لاحتلال مصر، وظهرت أروع صور هذه المنافسة في النضال الذي انتهى بإخراج الفرنسيين من مصر سنة 1801، وتلكأت الجنود الإنجليزية في مصر بعد خروج الفرنسيين حتى اضطرت إلى الجلاء بعد قليل، ثم عاودت محاولتها مرة أخرى سنة 1807 فمنيت هذه المحاولة بالفشل.
فهل نستطيع أن نقول: إن محمد علي يتجه في محاولاته للإصلاح إلى إنجلترا، أو أن يستعين بالإنجليز، ولم يكن في مصر منهم جاليات كبيرة!
فإذا تركنا إنجلترا إلى فرنسا لاحظنا أن محمد علي قد اشترك في المعارك التي انتهت بإخراجهم من مصر، وقد خلصت له مصر بعد عهدهم مباشرة، فهو يحس تماما ما تركوا في مصر من آثار، ولكن لعله كان لا يزال يتخوف منهم، ثم إن عدد الجالية الفرنسية في مصر قد نقص نقصا كبيرا بعد خروج الحملة، فلم يكن من الطبيعي أيضا أن يتجه محمد علي أول ما يتجه إلى فرنسا، وإن كان سيتجه إليها بعد قليل لعوامل أخرى.
انحرف محمد علي عن الاتجاه إلى هاتين الدولتين، والاستعانة برجالهما أول الأمر - رغم ما كان لهما من زعامة على دول الغرب وقتذاك - واتجه أول ما اتجه إلى إيطاليا والإيطاليين؛ ولذلك أسباب:
فقد ظلت العلاقات التجارية بين مصر وجمهوريات إيطاليا متينة وثيقة طول العصور الوسطى، وكان للإيطاليين حتى أوائل عهد محمد علي جاليات كثيرة في ثغور مصر والشام وموانيهما، كما كانت اللغة الإيطالية هي اللغة الأجنبية الأكثر شيوعا
15
وتداولا، بل لقد كانت لغة المخاطبات الرسمية حتى بين القنصليات غير الإيطالية، وكان هؤلاء الإيطاليون يعرفون العربية، كما كان عامة الأهالي في الثغور المصرية، وخاصة الإسكندرية، يتكلمون الإيطالية، يقول رفاعة عند كلامه عن الإسكندرية في «رحلته إلى باريس»: إن أغلب السوقة بهذه المدينة «يتكلم ببعض شيء من اللغة الطليانية».
16
فلما انتهت مذبحة القلعة، وأصبح أولاد المماليك وغلمانهم ملكا لمحمد علي، بدأ الخطوة الأولى لإصلاح الجيش، فأنشأ لهؤلاء الغلمان مدرسة في القلعة على نمط مدارس المماليك القديمة، غير أنه كان يدرس فيها إلى جانب الفنون الحربية اللغات العربية والتركية والإيطالية؛ فاللغة الإيطالية هي أول لغة أوروبية قرر تدريسها في مدارس محمد علي.
وسنجد فيما بعد أيضا أن اللغة الإيطالية ستدرس في مدرستي بولاق وقصر العيني ثم في مدرسة المهندسخانة ببولاق، وفي بعض المدارس الحربية في سنيها الأولى.
وعندما فكر محمد علي في إرسال البعوث إلى أوروبا، كانت أول بعثاته في سنة 1809، وثانيتها في سنة 1813 إلى مدن إيطاليا المختلفة: ليفورن، وميلانو، وفلورنسا، وروما، وذلك لدراسة فن سبك الحروف، والطباعة، وبعض الفنون العسكرية وبناء السفن، ونظم الحكم. «ومن إيطاليا استدعى محمد علي المعلمين للمدارس، والضباط المدربين للجيش، واشترى آلات الطباعة، والكتب التي دفعها إلى المترجمين لينقلوها إلى التركية أو العربية.»
17
وقد ذكر كلوت بك في تقريره عن الطب في مصر الذي قدمه في ديسمبر سنة 1837 للدكتور «بورنج
Bowring » مبعوث الحكومة الإنجليزية في مصر، أنه بدأ عمله في مصر والإدارة الصحية يشرف عليها - في معظمها - الإيطاليون، ثم ذكر في إحصائية صغيرة أن مائة وخمسة من الأطباء والصيادلة في الجيش والمستشفيات العسكرية كانوا من الإيطاليين، واثنين وثلاثين من الفرنسيين، وستة من الإنجليز، وخمسة من الألمان، وأربعة من البولنديين، واثنين من الإسبان.
18
وعندما استقدم محمد علي بعثة حربية من فرنسا للاشتراك في تنظيم جيشه، كتب الجنرال «بواييه
Boyer » رئيس هذه البعثة إلى صديقه المسيو «جومار
Jomard » عضو المجمع العلمي الفرنسي، والمشرف على بعثات محمد علي إلى فرنسا فيما بعد - يقول: «وجدت أن إدارة الشئون كلها في مصر في أيدي الإيطاليين، واللغة الفرنسية في المحل الثاني، ولا يعلمون في المدارس الحربية سوى اللغة الإيطالية، ولا يترجمون سوى الكتب البسيطة التي وضعها مؤلفون من ذلك الشعب، ومدرسو الرياضيات واللغات، والعلوم، والفنون، وغيرها، كلهم إيطاليون، وفي كل عام يرحل إلى أوروبا ثلاثون أو أربعون شابا ليتعلموا علومها وفنونها، وإلى «بيزة» يتجهون حتى في دراسة الفنون الحربية، ويظهر الوالي دهشته من هذا التفوق الإيطالي، وإنهم ليبثون في ذهنه المخاوف من ناحية الفرنسيين (الخادعين)، أما من ناحية الإيطاليين فلا يجب أن يخشى شيئا ...»
19
ومن الفقرة الأخيرة من هذا الاقتباس نعلم مبلغ المرارة التي كان يحسها الفرنسيون من تفوق الإيطاليين ولغتهم في حكومة وإدارة ومدارس وجيش محمد علي؛ ولهذا نلاحظ أن الفرنسيين سيبذلون كل الجهود للقضاء على هذا النفوذ لكي تكون لهم وللغتهم الصدارة بين الأجانب واللغات الأجنبية في مصر، وقد ساعدهم على ذلك أن الطوائف الأولى من الإيطاليين لم تكن من العنصر الممتاز، بل كان معظمهم يشبهون ذلك اللفيف من الأطباء الذين وصفهم «إدوار جوان» بأنهم كانوا: «من أفاقي اليونان والطليان»، وذلك في الوقت الذي ترك فيه الفرنسيون القلائل الذين التحقوا بخدمة محمد علي، وخاصة «الكولونيل سيف» و«كلوت بك» أطيب الأثر وأجمله.
وهناك عامل شخصي قد يكون له بعض الفضل في التمهيد لغلبة الفرنسيين على الإيطاليين، وذلك أن محمد علي كان قد اتصل في شبابه بتاجر فرنسي اسمه «المسيو ليون»،
20
وقد أخلص له هذا الرجل الود والإخاء، وأفاده كثيرا بخبرته في شئون التجارة، كذلك قد يرجع بعض الفضل إلى أن فرنسا كانت تسعى - برجالها وعلمائها وضباطها - إلى مصر وإلى محمد علي سعيا؛ فقد كانت تعتبره منفذا ومتمما لما بدأه علماء الحملة من أبحاث، ولما بدأته الحملة نفسها من إصلاحات.
وأخيرا لقد كان لمركز فرنسا الدولي الممتاز حينذاك - كدولة من دول البحر الأبيض المتوسط - أثر كبير في إشاحة محمد علي وجهه عن إيطاليا والإيطاليين، واتجاهه في سياسته الإصلاحية نحو فرنسا والفرنسيين.
نجحت فرنسا في حلبة هذه المنافسة، وألغيت اللغة الإيطالية شيئا فشيئا من المدارس المصرية، واستغني عن الضباط والمدرسين الإيطاليين واستعيض عنهم بضباط ومدرسين فرنسيين، وعدل عن ترجمة الكتب الإيطالية، وألغيت البعوث الإيطالية فغدت ترسل - في معظمها - إلى فرنسا، وفي كلمة واحدة لقد تحولت مصر عن النقل عن الثقافة الإيطالية إلى النقل عن الثقافة الفرنسية، وسيكون لهذا أثره الملحوظ كما ذكرنا، فستظل مصر طول القرن التاسع عشر مصطبغة بالصبغة الفرنسية في شتى نواحيها التفكيرية، غير أنه لزام علينا أن نشير في ختام هذا الموضوع إلى أن محمد علي لم يكن أسيرا لحبه لفرنسا وللثقافة الفرنسية وحدها، بل كان يحب دائما أن يستعين برجال كل دولة امتازت في ناحية من نواحي العلم والعرفان، فكانت من بعثاته بعثات أرسلت للنمسا وإنجلترا، كما كان يدير بعض مدارسه ويعلم فيها أفراد من الإسبانيين والإنجليز وغيرهم.
الباب الأول
الأدوات غير المباشرة للترجمة في عصر محمد علي
الفصل الأول
المدارس
متى بدأ محمد علي سياسته الإصلاحية؟ (1) المدارس الطبية: مدرسة الطب البشري، حاجة الجيش إلى أطباء، كلوت بك ينشئ المدرسة، صعوبة اللغة، كيف تغلب عليها، الاستعانة بالمترجمين، عيوب هذه الطريقة، طرق علاجها، مدرسة الصيدلة، مدرسة الولادة، مدرسة الطب البيطري، جهودها في الترجمة. (2) المدارس الفنية: المدارس الزراعية، المدارس الهندسية، جهودها في الترجمة، وأثر هذه الجهود. (3) المدارس الصناعية: مدرسة الكيمياء، مدرسة المعادن، مدرسة العمليات. (4) المدارس الحربية والبحرية: مدرسة أسوان، مدرسة أركان الحرب، مدرسة البيادة، مدرسة السواري، مدرسة الطوبجية، المدارس البحرية، جهودها في الترجمة. ***
يصح أن نعتبر سنة 1811، وهي السنة التي قضى فيها محمد علي على المماليك، بدءا للسياسة الإصلاحية المحمدية العلوية، ففي عقبها أنشأ المدرسة الحربية الأولى لتعليم أولاد المماليك وغلمانهم بالقلعة، وكانت اللغة الإيطالية هي اللغة الغربية التي تدرس في هذه المدرسة، كما كان المدربون الأجانب من الإيطاليين، وقبيل هذه السنة أيضا بدأ محمد علي التفكير في الناحية الأخرى من الإصلاح، فأرسل في المدة ما بين سنة 1809، و1816 بعثات مختلفة إلى إيطاليا، فركنا الإصلاح الجديد، وهما: المدارس الحديثة والبعثات، بدئ في تشييدهما في حدود هذه السنة وبعدها، وسيستمر هذا التشييد حتى نهاية عهد محمد علي؛ فالمدارس تنشأ الواحدة بعد الأخرى حسب حاجة البلاد، وتنفيذا لرغبة محمد علي، والبعثات ترسل لبلدان أوروبا المختلفة البعثة بعد البعثة تحقيقا لسياسة ولي النعم التي ترمي إلى إحلال المصريين محل الأجانب.
وسنحاول أن نتتبع في الصفحات التالية خطوات التشييد لهذين الركنين: المدارس والبعثات: وسوف نعنى في هذا الموجز بالنواحي التي تعيننا على دراسة تاريخ الترجمة في ذلك العصر؛ كتحديد اللغات الأجنبية التي كانت تدرس في كل مدرسة، والإشارة إلى من تولى إدارة المدارس والتعليم فيها من الأجانب، وإلى جهود كل مدرسة في الترجمة، أما التاريخ التفصيلي للمدارس في هذا العهد فسنغضي عنه عامدين؛ لأننا لا نؤرخ للتعليم بوجه عام، بل للترجمة بوجه خاص. (1) المدارس الطبية (1-1) مدرسة الطب البشري
بدأ محمد علي بإنشاء جيشه الجديد بعد سنة 1815، وكان من الضروري - اقتداء بالجيوش الأوروبية التي ينقل عنها - أن يلحق عددا من الأطباء بكل فرقة من فرق الجيش، وأن تنشأ لهذه الفرق المستشفيات الثابتة والمتنقلة.
كلوت بك ناظر المدرسة الطبية ومفتش عموم الصحة.
واستعان محمد علي - أول الأمر - بطائفة من أدعياء الطب
1
والحلاقين، لعدم وجود غيرهم، وقد رأينا في الفصل السابق كيف وصف «إدوار جوان» الأطباء المصاحبين للحملة المصرية في السودان بأنهم «من أفاقي اليونان والطليان»، ونقلنا عن «مسيو هامون» ما لاحظه من أن الأطباء الأجانب في العهد الأول كان من بينهم «ندل في مقهى بالقاهرة وصانع أحذية في مرسيليا وعامل تلغراف» وأن ثلثي هؤلاء الأطباء كانوا بلا «دبلومات»، وفي سنة 1825 استدعى محمد علي الدكتور «كلوت بك» ليكون طبيبا ورئيسا لجراحي الجيش المصري، وقد سعى هذا الرجل سعيا متواصلا - منذ التحق بخدمة محمد علي - للقضاء على سيطرة الإيطاليين، وإحلال الفرنسيين محلهم، وما زال بمحمد علي يحرضه على إنشاء مدرسة للطب لتعليم أبناء البلد، حتى وافقه على ذلك ، وأنشئت المدرسة في سنة 1242 / 1827 إلى جانب مستشفى الجيش بأبي زعبل؛ ليسهل على الطلاب الدراسة العملية إلى جانب الدراسة العلمية.
وقد اعترضت «كلوت بك» صعوبات كثيرة في أول الأمر، أهمها: صعوبة
2
التشريح، وقد تغلب عليها، وصعوبة اللغة التي يدرس بها، وكانت هذه أخطر الصعوبات، غير أن «كلوت بك» بذل كل جهده حتى استطاع التغلب عليها.
كانت هيئة التدريس عندما أنشئت المدرسة تتكون من أساتذة فرنسيين
3
وإيطاليين، كما كان من بينهم واحد إسباني، وقد كانوا جميعا لا يعرفون غير الفرنسية أو الإيطالية، والطلبة الجدد لا يعرفون غير العربية؛ لذلك لجأ «كلوت بك» إلى تعيين عدد من المترجمين لينقلوا الدروس عن الأساتذة إلى الطلاب، وكانت الخطة التي وضعها «كلوت بك» تتلخص فيما يأتي: (1)
كان المترجمون ينقلون الدروس إلى اللغة العربية في حضرة الأستاذ، وكان الأستاذ يمد المترجم بالشروح والتفسيرات اللازمة ليسهل عليه مهمته؛ لأن هؤلاء المترجمين لم يكونوا على علم بالمواد التي يترجمونها في أول الأمر. (2)
وليتأكد الأستاذ من حسن فهم المترجم لما قال، كان يطلب إليه أن يعيد ما ترجم باللغة الفرنسية أو الإيطالية. (3)
كانت هذه الدروس المترجمة تملى على الطلاب بعد ذلك فيسجلونها في دفاترهم الخاصة. (4)
كان المدرس يقوم بعد ذلك بشرح الدرس الذي أملي على الطلاب، ويجيب على أسئلتهم إذا أشكل عليهم فهم بعض عناصر الدرس، وذلك عن طريق المترجم أيضا. (5)
كان الطلبة يمتحنون آخر كل شهر فيما درسوه، وكان الاختيار لرياسة الأقسام على أساس التفوق في الامتحانات.
4
كانت هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة للتدريس في مدرسة الطب أول إنشائها، وطبيعي أن تظهر لهذه الطريقة عيوب، وأن يوجه إليها النقد المر، وقد أحست هذه العيوب هيئة التدريس قبل غيرها، فاعترفت في خطابها إلى ديوان المدارس بأن «الدروس التي يدرسها المدرسون الأجانب الذين لا يلمون باللغة العربية أو باللغة التركية كان ينقلها للطلبة مترجمون لا يعلمون شيئا عن معناها، كما أنه لا يمكن شرحها لهم لعدم إلمامهم بهذا العلم، وهذا هو السبب الوحيد في تأخر الطلبة»،
5
وكان ذلك في مجال التعليل لسوء النتيجة في مدرسة الطب.
هذا ما اعترفت به هيئة المدرسة في خطاب خاص لديوان المدارس، ولكن هذه الهيئة نفسها لم تكن لتقبل أي نقد علني يوجه لطريقتها هذه في التدريس؛ فقد حدث أن كتبت جريدة «أزمير» في أحد أعداد سنة 1838 نقدا لاذعا لمدرسة الطب، وطريقة التدريس بها بوساطة المترجمين، فانبرت لها هيئة التدريس في المدرسة، وأرسلت لها ردا مطولا على هذا النقد جاء فيه خاصا بطريقة النقل ما يلي:
نحن لا نشارككم فيما ذهبتم إليه من ضرورة تمكن الشخص المنوط به أمر الوساطة بين الأستاذ والتلاميذ من العلم الذي يلقيه الأستاذ، ويقوم هو بنقله إلى اللغة العربية، فإنه يكفي - فيما نراه - أن يكون هذا الناقل حسن الإلمام باللغتين، ومن الكفاءة بحيث يفهم الدروس التي يفسرها الأستاذ له، ومن الميسور للأستاذ متى تم النقل على الصفة المتقدمة؛ أي بطريق الرواية عن الأستاذ، أن يراقب صحة ما ألقاه الوسيط في حضرته بتكليفه إياه أن يترجم إلى الفرنسية ما كان قد عربه عنها، ومثل هذا التمرين المضاعف ينتهي بالمترجم إلى الاطلاع بنصوص الدرس، والإحاطة بأطرافه، فيكون مما لا شك فيه أن الدرس الذي حضر على هذا المثال قد نقل نقلا دقيقا، وروعيت فيه الأمانة التامة.
6
ومهما يكن من شيء فقد أحس «كلوت بك» نفسه ما يشوب هذه الطريقة من فساد واتخذ وسائل مختلفة
7
لعلاج هذا الفساد والقضاء عليه، منها:
أولا:
بدأ يكلف هيئة المترجمين في المدرسة بترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية، واشترك المترجمون في هذا العمل، وكان أول كتاب طبي ترجم في هذه المدرسة هو كتاب «القول الصريح في علم التشريح»، وهو من تأليف «بايل
Bayle » وبه زيادات للدكتور «كلوت بك»، وقد ترجمه يوحنا عنحوري، وطبع في مطبعة المدرسة بأبي زعبل سنة 1248 / 1832، وإذ كان هؤلاء المترجمون لا يتقنون اللغة العربية فقد عينت في مدرسة الطب طائفة من المحررين والمصححين من شيوخ الأزهر، وقد استطاع هؤلاء المشايخ بما لهم من معرفة بكتب الطب العربية القديمة أن يمدوا المترجمين بالمصطلحات الطبية الصحيحة، كما كان لهم فضل كبير في تقويم أسلوب الترجمة العربي وتصحيحه والبعد به - على قدر استطاعتهم وعلمهم - عما يشوبه من لكنة وعجمة وركاكة، أما المصطلحات الطبية الجديدة فقد اجتهدت الهيئتان معا في ترجمتها أو وضع مصطلحات جديدة تؤدي معناها، «ومن هؤلاء الرجال مجتمعين تكونت «أكاديمية» تكفل أمانة الترجمة وصحتها، وأصبح للطب في خمس سنين قاموس
Vocabulaire
تزيد كلماته على ستة آلاف كلمة».
8
ثانيا:
ألحق المترجمين تلاميذ بالمدرسة؛ ليتلقوا العلوم الطبية فيسهل عليهم بعد ذلك معرفة المصطلحات، وتفهم المواد التي ينقلونها عن الأساتذة للتلاميذ، والكتب التي يترجمونها، وقد أثنى كلوت بك - في تقاريره - عليهم وعلى نشاطهم ثناء جما.
ثالثا:
ورأى «كلوت بك» أيضا أن يشجع تلاميذ المدرسة على تعلم اللغة الفرنسية، فأنشأ لهم مدرسة لتعليمهم هذه اللغة، وألحقها بمدرسة الطب، «وقد عمل الشيخ رفاعة رافع في هذه المدرسة مدرسا للترجمة لعشرين تلميذا بعد عودته من فرنسا».
9
رابعا:
ومن الوسائل التي اتبعت للإقلال من عيوب طريقة الترجمة أن عهد لتلاميذ الفرق المتقدمة بتدريس بعض علوم الطب للتلاميذ المبتدئين، وأن يشرحوا لهم ما صعب عليهم فهمه.
خامسا:
اختار «كلوك بك»، بعد مضي خمس سنوات على إنشاء المدرسة، اثني عشر تلميذا من أوائل الخريجين ونوابغهم، وسعى حتى أرسلوا في أول بعثة طبية إلى فرنسا (في سنة 1832)، وسيكون لأعضاء هذه البعثة بعد عودتهم شأن خطير في التدريس بمدرسة الطب وإدارة شئونها، وفي الترجمة والتأليف؛ فقد أصدر مجلس إدارة المدرسة - بعد عودة هؤلاء المبعوثين - لائحة تعين الأعمال التي يناط بهم القيام بها، كان منها - إلى جانب اشتغالهم كمعيدين ومساعدين للأساتذة الأجانب - أن يقوموا بترجمة الكتب التي يختارها لهم أعضاء مجلس المدرسة، وأن تعرض هذه الكتب قبل ترجمتها على شورى المدارس، ثم تدفع إليهم، وبعد الفراغ من ترجمتها، ومنعا للشك في صحتها «يجب ألا يطبع كتاب ما بعد الانتهاء من ترجمته قبل أن يعرض على مترجمي المدرسة ومصححيها أجمعين».
10
الدكتور كلوت بك ناظر مدرسة الطب يحقن نفسه بميكروب الطاعون أمام تلاميذه المصريين (عن لوحة محفوظة بكلية الطب بقصر العيني بالقاهرة ).
كذلك نص في لوائح سنة 1826 التي أصدرها ديوان المدارس لتنظيم التعليم في مصر على أن يجتمع مدرسو مدرسة الطب المصريون في غرفة الترجمة بالمدرسة؛ ليشتغلوا بالترجمة ساعتين قبل الظهر، وساعتين بعد الظهر.
11
وقد ظلت إدارة المدرسة يتولاها الأجانب منذ أنشئت حتى سنة 1291 / 1845، أي حتى أواخر عهد محمد علي تقريبا؛ فقد تولى إدارتها بالتتابع: الدكتور «كلوت بك»، ثم الدكتور «دفينو»، ثم الدكتور «برون»، وأخيرا عهد بإدارتها إلى أحد أعضاء البعثة المصرية وهو الدكتور إبراهيم النبراوي، ثم تولاها من بعده عضو آخر هو الدكتور محمد الشافعي. (1-2) مدرسة الصيدلة
أنشئت بعد إنشاء مدرسة الطب البشري بثلاث سنين، أي سنة 1245 / 1830، وكان مكانها الأول في القلعة، ثم ألحقت في نفس السنة بمدرسة الطب بأبي زعبل إجابة لرغبة «كلوت بك»، وكان المشرف عليها الدكتور «لويس ألساندري
Alessandri »، وكان كل طلبتها من المصريين، ولسنا نجد جديدا نذكره عن طريقة التعليم والترجمة فيها؛ إذ ما ينطبق على مدرسة الطب ينطبق عليها؛ لأنها فرع منها. (1-3) مدرسة الولادة
أنشئت سنة 1247 / 1832، وألحقت بمدرسة الطب البشري، وكانت تلميذاتها - في السنوات الأولى من حياتها - من الجواري السودانيات والحبشيات، ثم أصبحن - بالتدريج - جميعا من المصريات، كما كان يلحق بالمدرسة في أول عهدها عدد من الأغوات.
وكانت التلميذات يدرسن اللغة العربية إلى جانب المواد الطبية، وكان «كلوت بك» مديرا للمدرسة بحكم مركزه كمدير لمدرسة الطب، وكذلك كان خلفه الدكتور «برون»، ولكن كان ينوب عنه في الإشراف على المدرسة أحد مدرسي مدرسة الطب، وقد تولى هذا المنصب من المصريين علي هيبة أفندي، ثم عيسوي النحراوي أفندي ثم أحمد الرشيدي أفندي، وهم جميعا من أعضاء البعثة الطبية الأولى إلى فرنسا.
وكان يشترك في التدريس طبيبة فرنسية اسمها «الآنسة جولييت»، وهي إحدى خريجات مدرسة المولدات بباريس، وقد لاحظت هذه الآنسة أن تلميذاتها في المدرسة يتمتعن بقدر كبير من الذكاء، فأحبت أن تعلمهن اللغة الفرنسية «من غير أن تضر بدراستهن الأولى»، وقد قطع التلميذات في هذا السبيل شوطا كبيرا، «وكفاءتهن فيها تستدعي الدهشة»،
12
وقد خلفت هذه الآنسة في مركزها فرنسية أخرى اسمها الآنسة «غو» وذلك في أبريل سنة 1836.
وكان تلميذات المدرسة يدرسن المواد المختلفة في كتب ترجمت في مدرسة الطب، وأهمها رسالة مؤلفة في فن التوليد ترجمت إلى اللغة العربية.
12 (1-4) مدرسة الطب البيطري
بدأت في رشيد سنة 1243 / 1828، ثم نقلت إلى أبي زعبل لتلحق بمدرسة الطب البشري في سنة 1246 / 1831، وبدأت في هذه السنة تدرس فيها اللغة الفرنسية، وكان يدرسها مدرس خاص لجميع تلاميذ المدرسة، ثم قصر تدريسها على نفر منهم فقط في سنة 1836، وكان مدير المدرسة طبيب فرنسي اسمه المسيو «هامون
Hamont »، وكان المدرسون هم مدرسو مدرسة الطب البشري يضاف إليهم خمسة من الأساتذة والمدرسين، ومعيدان، كما عين لها مترجمان ومصححان.
ولما نقلت مدرسة الطب البشري إلى قصر العيني في أوائل سنة 1837، نقلت مدرسة الطب البشري إلى شبرا، وألحقت هناك بإصطبلات الحكومة.
وقد ترجمت في هذه المدرسة كتب كثيرة في الطب البيطري كانت عدة تلاميذ المدرسة ومرجعهم في دراستهم، وسنتحدث عنها بالتفصيل في الفصل الخاص بالمترجمين.
وقد رحل المسيو «هامون» عن مصر سنة 1842، وخلفه في إدارة المدرسة المسيو «برنس
» ولم يمكث طويلا، فعين بعده لإدارة المدرسة «أمين بك»، وخلفه بعد عامين «أحمد أفندي»، وبعد عامين آخرين رقي محمد أفندي العشماوي المدرس بالمدرسة إلى وظيفة «ريس عملية» مدرسة الطب البيطري.
13 (2) المدارس الفنية (2-1) المدارس الزراعية
أنشئت في عصر محمد علي مدارس زراعية مختلفة، كانت أولاها «الدرسخانة الملكية» التي أنشئت في سنة 1245 / 1830، وكان ناظرها محمد أفندي الأدرنة لي ملما باللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية، كما كان تلاميذها يدرسون - إلى جانب المواد الزراعية - اللغتين العربية والفارسية، وقد ألغيت هذه المدرسة بعد إنشاء ديوان المدارس.
وكانت ثانيتها مدرسة الزراعة بشبرا الخيمة، وقد أنشئت في سنة 1248 / 1833، وكان يقوم بالتدريس فيها أعضاء البعثة الزراعية الذين عادوا من أوروبا، غير أن هذه المدرسة لم تعمر - كسابقتها - طويلا.
وكانت ثالثتها مدرسة الزراعة بنبروه، وقد أنشئت في أواخر سنة 1251 / 1836، وكان ناظرها الأول يوسف أفندي الأرمني الأصل، وكان قد تلقى علومه في مدينة «روفيل
Roville » بفرنسا، وكان أساتذتها من أعضاء البعثة الزراعية، واختير طلابها من بين تلاميذ قصر العيني، ورأى محمد علي أن يكونوا جميعا من المصريين «لعدم ميل أبناء الترك لفن الزراعة».
14
وقد نصت لائحة تنظيم أوقات الدراسة لهذه المدرسة على أن يقوم «الباشخوجة»، أي المدرس الأول للزراعة بتدريس هذه المادة للتلاميذ، ثم «يقضي بقية ساعات اليوم في ترجمة دروس النبات والموضوعات الأخرى التي يحيل الناظر إليه ترجمتها من الفرنسية إلى العربية».
15
وقد تعثرت هذه المدرسة كثيرا في نظامها وتجاريبها وسيرها إلى أن نقلت في سنة 1255 / 1839 إلى شبرا لتكون قريبة من مدرسة الطب البيطري، وفي أوائل سنة 1260 / 1844 صدر الأمر بنقلها ثانية إلى مدينة المنصورة، غير أنها لم تلبث أن ألغيت بعد شهور قليلة، ووزع تلاميذها - وكانوا أحد عشر تلميذا - «على الجفالك حتى لا ينسوا ما تعلموه».
16
ويقول الدكتور عزت عبد الكريم: «على أن تدريس الزراعة لم يهمل في مصر بعد ذلك؛ فقد أنشئت في نحو سنة 1846 / 1262 مدرسة إدارة الزراعة كقسم من أقسام مدرسة الألسن، ويتعلم فيها التلاميذ الإدارة الزراعية الخصوصية؛ على أنا لا نعلم شيئا عن هذه المدرسة التي أنشئت قبل نهاية عصر محمد علي بنحو عامين.»
16
وقد ذكر عن هذه المدرسة أنه كان بها مصحح هو الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، وهذا يوحي أن يكون بها مترجمون كما كان متبعا في المدارس الخصوصية الأخرى، غير أنا لم نعثر على أسماء هؤلاء المترجمين، إلا أن يكونوا هم مدرسي المدرسة، والذي لا شك فيه أن هناك كتبا في علمي النبات والزراعة ترجمت في هذا العهد، وفي المدارس الزراعية كما نرجح. (2-2) المدارس الهندسية
كما تعددت المدارس الزراعية في عصر محمد علي، كذلك تعددت المدارس الهندسية؛ وذلك أن محمد علي كان وهو في دور «تنظيم البيت» في حاجة إلى تجديد كل شيء واستثمار كل شيء، وكان في حاجة أيضا - وهو يجدد وينظم - إلى الأعوان العالمين أو المتعلمين، وخاصة إلى المهندسين الذين يمسحون له الأرض، ويحفرون الترع ويقيمون الجسور والقناطر، وينشئون المصانع، ويشرفون على إدارتها، ويدرسون طبقات الأرض، ويبحثون عن معادنها، ويتصلون بالجيش، ويبنون له ثكناته وطوابيه واستحكاماته، ويضعون له خططه ... إلخ ... إلخ؛ ولهذا كله نرى أن محمد علي كان يرحب بكل عالم بالهندسة ويسرع فيلحق به عددا من الطلاب يتلقون عنه، فإذا انتهت الحاجة إلى هذه المدرسة التي خلقتها الحاجة والظروف، ألغيت، ثم لا يلبث أن ينشئ غيرها، وهكذا، حتى بلغ عدد المدارس الهندسية التي أنشئت في عصر محمد علي خمس مدارس.
كانت أولاها «مكتب المهندسخانة» بالقلعة، وقد أنشأه محمد علي في سنة 1231 / 1815 استجابة لما لاحظه في أبناء مصر من «نجابة وقابلية للمعارف»؛ فقد روى الجبرتي أنه «اتفق أن شخصا من أبناء البلد يسمى حسين جلبي عجوة ابتكر بفكره صورة دائرة وهي التي يدقون بها الأرز، وعمل لها مثالا من الصفيح، تدور بأسهل طريقة، بحيث إن الآلة المعتادة إذا كانت تدور بأربعة أثوار، فيدير هذه ثوران، وقدم ذلك المثال إلى الباشا، فأعجبه وأنعم عليه بدراهم، وأمره بالمسير إلى دمياط، ويبني بها دائرة، ويهندسها برأيه ومعرفته، وأعطاه مرسوما بما يحتاجه من الأخشاب والحديد والمصروف، ففعل وصح قوله، ثم فعل أخرى برشيد، وراج أمره بسبب ذلك.»
17
ويعقب الجبرتي على هذا الحادث بقوله: «ثم إن الباشا لما رأى هذه النكتة من حسين جلبي هذا، قال إن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف، فأمر ببناء مكتب بحوش السراية، ويرتب فيه جملة من أولاد البلد ومماليك الباشا، وجعل معلمهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات والارتفاعات واستخراج المحصولات.»
17
وكان عدد تلاميذ هذه المدرسة 80 تلميذا، وقد رتب لهم محمد علي الكسى والمرتبات الشهرية، والحمير «مساعدة لطلوعهم ونزولهم إلى القلعة»، وسمي هذا المكتب «بالمهندس خانة»، وأحضر لهم مدرس ثان من الآستانة اسمه «روح الدين أفندي» لتعليم من لا يعرف العربية من التلاميذ، وقد تولى نظارة هذه المدرسة بعد وفاة حسن أفندي.
ويهمنا أن نذكر هنا أن التعليم في هذه المدرسة كان باللغتين العربية والتركية؛ فقد كان تلاميذها من أبناء البلد، ومن أبناء مماليك الباشا، وهؤلاء لا يعرفون العربية، وأنهم كانوا جميعا يتعلمون اللغة الإيطالية، وأن من نوابغ من تعلموا في هذه المدرسة المهندس الكبير ثاقب باشا الذي اشترك فيما بعد في إنشاء ترعة المحمودية وغيرها، ثم كان مفتشا لعموم ري الوجه البحري، ومنهم أيضا أحمد أفندي الأزهري الذي يقول عنه علي مبارك باشا إنه «كان من طلبة الأزهر، ثم دخل مدرسة المهندسخانة بالقلعة، وتعلم اللغة التليانية، وأخذ رتبة قائمقام، واستمر في خدمة الميري إلى سنة 1265.»
18
وبعد نحو أربع سنوات، أي في أواخر سنة 1235 / 1819 «صدر أمر محمد علي إلى كتخدا بك بتعيين الخواجة قسطي مدرسا بمدرسة تسمى «المهندسخانة» وبأن ينتخب له خمسة أو ستة من التلامذة المتفوقين في الرياضة والرسم من مدرسة القلعة ليقوم بتدريس تلك المواد لهم»،
19
ولم نصل إلى معرفة جنسية «الخواجة قسطي»، أو معرفة اللغة التي كان يدرس بها لهؤلاء التلاميذ.
أما ثالث مدرسة للهندسة؛ فقد كانت كما يرى أمين سامي باشا تتكون من بعض طلبة الأزهر الذين كانوا يدرسون الحساب والهندسة باللغتين العربية والإيطالية في قصر العيني على يد مدرس أجنبي اسمه «الخواجة رسام التودري»، وقد تخرج فيها اثنا عشر طالبا في جمادى الآخرة سنة 1242 / 1826، وعينوا للقيام بالأعمال الهندسية في الوجه القبلي، وأشرف على تمرينهم بعد تخرجهم الشيخ عبد الفتاح (؟) والخواجة يوسف بيروني.
أما رابع مدرسة للهندسة فقد بدأت في شهر ربيع الثاني سنة 1247 / 1831 عندما استدعى محمد علي مهندسا من إنجلترا، وألحق به عشرة من تلاميذ قصر العيني ليتلقوا عنه هذا الفن، وقد نقلت هذه المدرسة بعد سنتين إلى القناطر الخيرية ليسهل على التلامذة مشاهدة الأعمال الهندسية عن كثب، وقد ألحق بهذه المدرسة بيومي أفندي ليكون مدرسا بها، ومساعدا لباشمهندس القناطر، وذلك بعد عودته من فرنسا ونبوغه في دراسة العلوم الهندسية.
وهنا ظاهرة جديدة وهي أن تلاميذ هذه المدرسة كانوا يتلقون علومهم بالإنجليزية أو مترجمة عنها ثم بالفرنسية عندما عين بها بيومي أفندي.
أما خامس هذه المدارس، وهي مسك الختام في هذه المحاولات، وأطول هذه المدارس عمرا، وأبقاها أثرا، فقد افتتحت في 15 المحرم سنة 1250 / 1834 في بولاق، «وفي شوال سنة 1251 ضمت لها مدرسة المهندسين بالقناطر الخيرية، وكان بها ثلاثون تلميذا، ومدرسة المعدنين بمصر القديمة».
20
وقد نظمت مدرسة بولاق على مثال مدرسة الهندسة بباريس، وكانت تدرس بها اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية إلى جانب المواد الرياضية المختلفة.
وفي سنة 1837 قرر الاستغناء عن المدرسين الأجانب وعين بها من المدرسين المصريين محمد بيومي أفندي ومظهر أفندي وبهجت أفندي، وألحق بهم أربعة من أعضاء البعثة الذين عادوا من فرنسا قبل إتمام تعليمهم، وكان يدرس لهؤلاء الأربعة أيضا مسيو لامبير
Lambért
ناظر المدرسة.
وفي أواخر عهد محمد علي أصبحت هيئة المدرسين كلها من المصريين الذين تلقوا علومهم الهندسية في فرنسا أو النمسا أو إنجلترا، ويذكر أسماءهم تلميذهم علي مبارك ويثني عليهم ثناء جما.
وقد نجحت المدرسة نجاحا كبيرا فخرجت أجيالا من المدرسين بها وبالمدرسة التجهيزية كما قام هؤلاء المدرسون والخريجون بترجمة كثير من الكتب الرياضية.
وقد اعترفت بهذه الجهود اللجنة التي كونت لتنظيم المدارس في سنة 1841؛ فقد قالت بأنه «لا ريب في أن المهندسخانة مدينة بكل تقدمها هذا إلى دقة ناظرها وهمة أساتذتها، غير أن معظم الفضل إنما يرجع إلى ترجمة المدرسين للدروس، وإلى الإسراع في طبع التراجم بمطبعة الحجر (وكانت ملحقة بالمدرسة) ثم جمعها في كراسات وكتب، لقد كانت كتب العلوم الرياضية التي في متناول اليد من القلة والندرة، وكانت ترجمتها من الإشكال والصعوبة بحيث لم يتيسر قبل اليوم تنشئة المهندسين الفحول على الوجه الصحيح الموافق لأسلوب فرنسا، ولكن ها هو البكباشي محمد بيومي أفندي، واليوزباشية أحمد طائل أفندي، وإبراهيم رمضان أفندي، وأحمد دوقلي أفندي، وأحمد فائد أفندي يتولون بفضل بركات الخديوي ترجمة الدروس التي وكل إليهم تعليمها، ثم لا يقفون عند حد الترجمة بل يطبعونها على الحجر، ويجعلون منها كتبا وأسفارا، والواقع أن الامتحان الأخير كان مشهدا لما جمعته هذه الكتب بين دفاتها من شتى العلوم،
21
ويؤيد هذه الأقوال علي مبارك باشا فيما كتبه عن ذكرياته في هذه المدرسة.
22
وكان المصحح لهذه الكتب بعد ترجمتها هو الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقي يساعده مبيضون لنسخ الكتب بعد تحريرها ، وقد استلزم قيام المدرسة على تعريب دروسها وكثير من الكتب الرياضية تعيين مدرسين مصريين بها من خريجي مدرسة الألسن لتدريس الفرنسية لتلامذتها، وترجمة دروسها، ووضع قاموس أزمعت المدرسة وضعه في العلوم الرياضية»،
23
وكان من أبرز هؤلاء المدرسين السيد صالح مجدي، وعبد الله أبو السعود، وهما من أنبغ تلاميذ رفاعة، ومن أنبغ خريجي الألسن، ولهما جهد مشكور في ترجمة الكتب في مختلف الفنون والعلوم في عصر محمد علي وما تلاه.
وفي السنوات الأخيرة من عهد محمد علي ألغيت اللغتان الفارسية والتركية، وحلت محلهما اللغة الفرنسية، وكانت تدرس لجميع التلاميذ في كل الفرق.
ولم يكن للمدرسة مدير في السنة الأولى من حياتها، بل كان يديرها وكيلها أرتين بك، ثم خلفه في هذا المركز بعد ستة أشهر حكاكيان أفندي، ثم اشترك معه في إدارة المدرسة بعد قليل المسيو شارل لامبير
Charles Lambért ، فلما نقل حكاكيان بك بعد ثلاث سنوات ناظرا لمدرسة العمليات استقل مسيو لامبير بإدارة المدرسة وظل يشغل هذا المركز حتى نهاية عصر محمد علي.
وفي سنة 1849 / 1266، أي في أوائل عهد عباس الأول عين علي مبارك (بك) ناظرا للمدرسة، وألحقت بها مدرستا التجهيزية والمبتديان، ثم ألغيت المدرسة أخيرا في سبتمبر سنة 1845 بعد عشرين عاما، وبعد حياة حافلة بالجهاد الدائب المتصل في سبيل النهضة بالحياة العلمية الرياضية في مصر. (3) المدارس الصناعية
أنشئت في عهد محمد علي مصانع كثيرة لصنع الأسلحة والذخائر، ونسج الملابس بمختلف أنواعها، وقد فتحت في هذا العهد أيضا مدارس صناعية عهد بتعليم الشبان المصريين فيها إلى معلمين من الأجانب، حتى إذا تلقى المصريون أصول الصناعة حلوا محل الأجانب، كما أرسلت بعثات صناعية أيضا إلى بلاد أوروبا الغربية لتحقيق نفس الغرض، وأهم هذه المدارس: (أ)
مدرسة الكيمياء: أنشئت سنة 1947 / 1831 بمصر القديمة، وكان تلاميذها القلائل يتعلمون فيها الصناعات الكيمائية واللغة الفرنسية، وكان مدرسهم يسمى «إيمو
Ayme »، وخلفه مسيو «روشيه». (ب)
مدرسة المعادن: أنشئت سنة 1250 / 1834، وكان ناظرها الأول مصريا اسمه «يوسف كاشف»
24
وتولى إدارتها وقتا ما مسيو لامبير. (ج)
مدرسة العمليات أو الفنون والصنائع: وقد أنشئت سنة 1252 / 1837، وكانت تعنى في دراستها بالناحية العملية، وقد حولت في سنة 1844 إلى «ورشة» صناعية، وتولى إدارتها المهندس الإنجليزي «تيلر» ثم خلفه إنجليزي آخر اسمه «مستر جون ماكنتون».
وقد ترجمت في هذه المدارس كتب صناعية ولا شك، غير أن النقل فيها عن الغرب كان نقلا عمليا في معظمه لا يعتمد على الكتب كثيرا. (4) المدارس الحربية والبحرية (4-1) مدرسة أسوان
بدأ محمد علي - عندما فكر في تكوين جيشه الجديد - بتعليم طائفة من الضباط وكان من حسن حظه أن استعان بمجهود ضابط من ضباط نابليون القدامى، وهو «الكولونيل سيف»، وأنشئت المدرسة الأولى في أسوان، وألحق بها ألف من مماليك محمد علي وكبار الموظفين والضباط، وكان يساعد سيف في تعليمهم نفر من الضباط الإيطاليين، كما عاونه - وقتا ما - عثمان نور الدين.
وبعد قليل انتقلت المدرسة إلى إسنا، وكان من بين موظفيها وقتذاك من يدعى «أحمد أفندي»،
25
وهو من الرجال الفنيين، وإن بذل ما في قدرته لترجمة بعض الكتب المتعلقة بالفنون الحربية، فإن ذلك يكون موجبا لسرورنا.
26
وقد نقلت هذه المدرسة بعد ذلك شمالا إلى إخميم ثم إلى النخيلة (بمديرية أسيوط)، وانتهى بها المطاف أخيرا إلى الخانقاه بالقرب من القاهرة.
ويبدو أن لجنة تنظيم التعليم التي كونت سنة 1836-1837 قررت إلغاء هذه المدرسة مكتفية بالمدارس الحربية الأخرى: المشاة والفرسان والمدفعية. (4-2) مدرسة أركان الحرب
أنشئت في أكتوبر سنة 1825 بقرية «جهاد آباد»
27
بالقرب من القاهرة، وتولى إدارتها وتنظيمها الضابط الفرنسي «بلانات
»، وكان يشترك معه في التعليم بعض المدرسين الشرقيين والغربيين وخاصة الفرنسيين، وكان تلاميذ هذه المدرسة يدرسون اللغات الفرنسية والتركية والفارسية إلى جانب المواد الحربية والرياضية ورسم الخرائط ... إلخ. (4-3) مدرسة البيادة
أنشئت في الخانقاه في سبتمبر سنة 1832، ثم نقلت في مايو سنة 1834 إلى دمياط، وفي سنة 1841 إلى أبي زعبل، وظلت قائمة هناك إلى نهاية عصر محمد علي.
الجنرال سليمان باشا (الكولونيل سيف).
وكانت تدرس في هذه المدرسة اللغات الثلاث، ثم زيدت عليها اللغة الفرنسية بعد نقلها إلى أبي زعبل، وكان يقوم بتدريسها مصري من خريجي الألسن، وكان يدير هذه المؤسسة في وقت ما ضابط بيدمونتي يدعى بولونيني
Bolonini
من ضباط جيش نابليون.
28
وقد ألغيت هذه المدرسة في عهد عباس الأول، وسرح تلاميذها. (4-4) مدرسة السواري
أنشئت في الجيزة في ذي القعدة سنة 1246 / 1830، ونظمت على مثال مدرسة «سومور» الحربية بفرنسا، وكانت تدرس بها اللغات الثلاث كما كانت تدرس الفرنسية لضباطها ولفريق من تلاميذها.
وقد كان تلاميذ المدرسة - وقت إنشائها - من المماليك والأتراك، ثم أخذ العنصر المصري يزداد شيئا فشيئا حتى أصبحت المدرسة بعد سنوات كغيرها من المدارس وجل تلاميذها إن لم يكن كلهم من المصريين.
وكان مدير المدرسة الأول الضابط الفرنسي فارن
Varin ، فنظمها على مثال المدارس الحربية الفرنسية، ثم خلفه فرنسي آخر يدعى واسيل بك، وقد ألغيت هذه المدرسة كسابقتها في عهد عباس الأول. (4-5) مدرسة الطوبجية
أنشئت في طرة في سنة 1247 / 1831، وقام على إدارتها وتنظيمها ضابط إسباني اسمه الدون أنطونيو دي سيجويرا، وكان معظم تلاميذها عند إنشائها من المصريين والأتراك كما كان بها عدد من التلاميذ من جزيرة كريت.
وكانت مواد الدراسة تشمل - غير المواد الحربية والرياضية - لغة أجنبية، فالذين يعدون للخدمة في الأسطول يتعلمون الإنجليزية، والذين يعدون للجيش يتعلمون الفرنسية أو الإيطالية، أما اللغة التركية، فكان يتعلمها جميع التلاميذ على السواء.
29
وكان في المدرسة مطبعة خاصة بها تقوم بطبع الكتب المؤلفة أو المترجمة التي يدرسها التلاميذ، وقد عين رفاعة الطهطاوي مترجما بهذه المدرسة بعد عودته من فرنسا، وظل يشغل هذا المنصب نحو السنتين.
وقد خلف «سكويرا بك» في إدارة المدرسة مصطفى بهجت أفندي (باشا فيما بعد) يساعده مدرب فرنسي اسمه برونو
Brunhaut
ثم خلفه أحمد أفندي خليل، وأخيرا أصبح «برونو» وحده مديرا للمدرسة حتى أواخر عصر محمد علي، وقد ألغيت هذه المدرسة أيضا في عهد عباس الأول. (4-6) المدارس البحرية
أنشئت في عصر محمد علي مدرسة بحرية في الإسكندرية لإعداد الجند للأسطول ولكنها ألغيت بعد سنة 1836، ثم كانت هناك مدارس للتدريب العملي على ظهر بعض سفن الأسطول؛ ك «المنصورة» و«عكا» و«جناح البحر»، وقد حل أعضاء البعثات المصريون الذين درسوا الفنون البحرية في أوروبا محل الأجانب بعد عودتهم، وتولوا قيادة الأسطول المصري، وكان لهم فضل كبير في «ترجمة اللوائح والقوانين البحرية الفرنسية والإنجليزية».
30
خريطة القاهرة لبيان المدارس التي أنشأها بها محمد علي.
هذه هي المدارس الحربية والبحرية، وقد ترجمت لها وفيها كتب حربية كثيرة، ترجم معظمها عن الفرنسية أو الإنجليزية إلى التركية، والقليل منها ترجم إلى العربية.
الفصل الثاني
البعثات
أهم أغراضها: تكوين جيل من الأساتذة والعلماء مثقفين ثقافة أوروبية، إعداد المترجمين لترجمة الكتب في مختلف العلوم والفنون، أول عمل كان يعهد به إلى المبعوثين هو الترجمة، تكليفهم بالترجمة وهم في المحجر الصحي، عثمان نور الدين يبدأ حركة الترجمة، ترجمة لوائح البحرية الإنجليزية لاستعمالها في البحرية المصرية، بعض المبعوثين يترجمون كتبا في الفنون التي تخصصوا فيها، عضو واحد تخصص في الترجمة، الباقون أعدوا لإتقان اللغات الأجنبية ليشاركوا في حركة الترجمة. ***
كان الغرض الأول الذي دفع محمد علي إلى إرسال البعثات المختلفة إلى ممالك أوروبا أن يكون في مصر جيلا من الأساتذة والعلماء تلقوا العلم الأوروبي في أوروبا وبلغات أوروبا ليحلوا بعد عودتهم محل الأساتذة والأطباء والمهندسين والضباط والصناع من الأجانب، وقد نجح محمد علي في تحقيق غرضه هذا إلى حد كبير.
أما غرضه الثاني، وهو الذي يعنينا هنا، فهو أن يكون أعضاء هذه البعثات أداة صالحة لنقل علوم الغرب وفنونه، وترجمتها إلى اللغة العربية؛ لأن محمد علي لم يكن - كما ذكرنا آنفا - متطرفا في النقل عن الغرب، وإلا لأبقى أساتذة الغرب، وجعل التعليم في مدارسه بلغات الغرب، ولكنه كان رجلا حصيف الرأي بعيد النظر، فاحتفظ لمصر بقوميتها
1
ولغتها، ونقل إليها علوم الغرب رغم ما كلفته هذه الغاية الحميدة من مشاق وتكاليف.
ولذلك كان أول عمل يسنده محمد علي إلى أعضاء البعثات «إمدادهم بالكتب، والتنبيه عليهم بسرعة ترجمتها»، وقد بلغ من حرص الحكومة على أن يكون لديها أكبر قدر من الكتب المترجمة في أقصر وقت أن كانت تقدم لهم الكتب وهم ما يزالون مقيمين في المحجر الصحي، ثم كانت تحتجزهم في مكان خاص ، ولا تدعهم يخرجون إلى أهلهم حتى يتموا ترجمة ما عندهم من الكتب، وكثير منهم كانت الترجمة تشغله عن واجبات وظيفته التي يتقلدها، والبعض منهم لم يكن له من حذق اللغات الأجنبية والعربية، والقدرة على التحرير والكتابة ما يمكنه من ترجمة ما عهد إليه ترجمة صحيحة، فلما أنشئت مدرسة الألسن، وكون قلم الترجمة من خريجيها رفع عن أعضاء البعثات عبء لا شك كان ثقيلا على أكثرهم.
2
وهناك عوامل مختلفة كانت تدفع محمد علي إلى العناية الفائقة بالبعثات، والإكثار منها - كما وكيفا - أول هذه العوامل رغبته الملحة في النهضة بمصر والمصريين في أسرع وقت ممكن، وثانيها أن هؤلاء الأجانب الذين استعان بهم أول الأمر لتعليم المصريين لم يكونوا جميعا «أكفأ من أنجبت بلادهم، بل إن منهم كثيرين كانوا جوابين يضربون في الأرض»،
3
وثالثها أن حرص هؤلاء الأجانب على إطالة مدة خدمتهم وارتزاقهم «لم يكن مما يجعلهم يتحمسون كثيرا لتلقين المصريين فنونهم».
3
وفي الحديث الذي أدلى به محمد علي للدكتور «بورنج
Bowring » مندوب الحكومة الإنجليزية إيضاح كامل للبرنامج العظيم الذين وضعه نصب عينيه ليتحقق على أيدي أعضاء البعثات، وفيه أيضا دليل قوي على عبقرية محمد علي، ذلك الرجل الأمي الذي ساقته العناية الإلهية لتعليم شعب بأسره. قال محمد علي لبورنج: «إن أمامي الشيء الكثير لأتعلمه أنا وشعبي، فأنا الآن مرسل إلى بلادكم أدهم بك، ومعه خمسة عشر شابا مصريا ليتعلموا ما يمكن لبلادكم أن تعلمه، فعليهم أن ينظروا إلى الأشياء بأعينهم، وأن يتمرنوا على العمل بأيديهم، وعليهم أن يختبروا مصنوعاتكم جيدا، وأن يكشفوا كيف ولم تفوقتم علينا، حتى إذا ما قضوا وقتا كافيا بين شعبكم عادوا إلى وطنهم، وعلموا شعبي ...»
4
المدرسة المصرية التي أنشأها محمد علي في باريس لإقامة أعضاء البعثات.
وقد أرسلت في عهد محمد علي سبع بعثات، كانت أولاها في سنة 1809 إلى إيطاليا، ثم تعددت البعثات إلى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا والنمسا لدراسة الطب والهندسة والفنون الحربية والبحرية والترجمة والحقوق والإدارة والكيمياء والتاريخ والعلوم الرياضية والزراعة والطباعة وصناعة السفن والنسج بأنواعه والسباكة، إلخ ... إلخ ، وكانت آخر هذه البعثات إلى إنجلترا في أوائل سنة 1848، أي قبل أن ينتقل محمد علي إلى الرفيق الأعلى بسنة واحدة.
وليس يعنينا هنا أن ندرس تاريخ هذه البعثات وأعدادها والعلوم التي أرسلت لدراستها، وأعمار المبعوثين، ومبلغ ثقافتهم، ومدى نجاح كل منهم ... إلخ؛ ففي كتب: التعليم في عصر محمد علي للدكتور أحمد عزت عبد الكريم ص422-453، والبعثات العلمية في عهد محمد علي للأمير عمر طوسون، ص5-414، وعصر محمد علي للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك، ص451-469، وغيرها كثير؛ غناء لمن يريد العلم بأخبار هذه البعثات، ولكن يعنينا هنا أن نذكر أن هذه البعثات كانت أداة صالحة جدا لنقل علوم الغرب وفنونه وصناعاته إلى مصر علما وعملا، وسنترجم لمن اشتغل بالترجمة من أعضاء البعثات في الفصل الخاص بالمترجمين، ثم نذكر في قائمة الكتب المترجمة أسماء الكتب التي ترجمها هؤلاء المبعوثون في مختلف العلوم والفنون.
ويكفي أن نشير هنا إلى بعض الحقائق، ومنها: (1)
أن عثمان نور الدين (باشا) - وهو أول مبعوث مصري إلى أوروبا - كان «ساعد الحكومة الأيمن في ترجمة الكتب؛ فقد خصص له قصر إسماعيل بن محمد علي في بولاق، وألحق به بعض المترجمين ليترجموا «كتب الفنون الحربية وسائر الصنائع».»
5 (2)
وأن أعضاء البعثة البحرية التي أرسلت إلى إنجلترا سنة 1829، قاموا بعد عودتهم - إلى جانب عملهم في الأسطول المصري، بترجمة اللوائح البحرية الإنجليزية لاستعمالها في البحرية المصرية.
6 (3)
وأنه كان يعهد إلى بعض أفراد البعثات بترجمة كتاب يتصل بفنه الذي يدرسه كما عهد إلى علي عبد الرحيم أفندي عضو بعثة سنة 1829 الصناعية بترجمة كتاب عن معمل القطن، وكما عهد إلى زميله في نفس البعثة حنفي إسماعيل أفندي بترجمة كتاب في صناعة الآلات.
7 (4)
لم يعد للتخصص في الترجمة من بين جميع أعضاء البعثات إلا رفاعة رافع الطهطاوي، غير أنه كان يراعي دائما في منهاج الدراسة إعداد المبعوثين للتخصص في علومهم وفنونهم أولا، ثم إتقان اللغات الأجنبية ثانيا ليترجموا كتبا فيما تخصصوا فيه، فكان أعضاء البعثة الصناعية التي أرسلت إلى فرنسا في أوائل سنة 1830 يدرسون علم بيان اللغة الفرنسية على أستاذ خاص،
8
وكذلك نص في الأمر الصادر بتكوين البعثة الطبية التي كان مزمعا إرسالها إلى فرنسا في أوائل سنة 1848 أن «يتعلموا جميعا اللغة الفرنسية والطب، حتى إذا عادوا إلى مصر اشتغلوا بالترجمة ...»
9
وأن محبوب الحبشي وهو أحد التلاميذ الأحباش الذين أرسلوا إلى فرنسا حوالي سنة 1832 لتعلم فن النقش كان يتعلم هناك «اللغة العربية والفرنسية والإيطالية واشتريت له كتب في علم الجغرافية».
10
الباب الثاني
الأدوات المباشرة للترجمة في عصر محمد علي
الفصل الأول
مدرسة الألسن وقلم الترجمة
الخطوات التمهيدية: مدرسة الإدارة الملكية، مدرسة التاريخ والجغرافيا، مدرسة الألسن، سبب إنشائها، تلاميذها، مدة الدراسة، برنامجها، اللغات التي كانت تدرس بها، مدرسو المدرسة، مديرها، مدرسو اللغتين العربية والفرنسية، أقسام المدرسة ونموها، قلم الترجمة، أقسامه، إلغاء المدرسة في أوائل عهد عباس، قلم الترجمة في عهد إبراهيم، تشتت رجاله بعد إلغاء المدرسة. *** (1) مدرسة الألسن: الخطوات التمهيدية (1-1) مدرسة الإدارة الملكية
كان محمد علي في حاجة إلى عدد كبير من الموظفين المثقفين ثقافة جديدة لمساعدته في إدارة ما أنشأت حكومته من «دواوين» ومصالح وأقلام؛ ولذلك بادر فحاول المحاولة الأولى فأنشأ في جمادى الأولى سنة 1250 / 1843 مدرسة الإدارة الملكية، واختير لها ثلاثون تلميذا من تلاميذ الدرسخانة الملكية وعين للتدريس بها أرتين شكري أفندي، واسطفان رسمي أفندي عضوا البعثة إلى فرنسا اللذان تخصصا في دراسة الإدارة الملكية.
وكان على هؤلاء التلاميذ أن يدرسوا في الدرسخانة الملكية من الصباح إلى الظهر ثم يتوفرون - من الظهر إلى ما قبل غروب الشمس - على دراسة المواد الإعدادية لدراسة الأمور الملكية، وأهمها اللغة الفرنسية، والمحاسبة، ومبادئ الهندسة، والجغرافية.
وكان على هذين المدرسين - إلى جانب قيامهما بالتدريس - أن يبذلا جهودا أخرى في الترجمة في هذا الفن - فن الإدارة الملكية - فنصت لائحة المدرسة على: (1)
أن يعهد إليهما في الصباح بترجمة ما يحال إليهما ترجمته. (2)
أن يقوما بترجمة دروس في الإدارة المدنية وإعدادها.
كذلك نصت اللائحة على أن تدرس مادة الترجمة دراسة عملية لتلاميذ المدرسة، فإنه «لما كان من أغراض المدرسة تخريج مترجمين وموظفين لفروع الإدارة المصرية، فقد أشارت اللائحة بأن يقدم للتلاميذ - بعد تقدمهم في اللغة الفرنسية - كتب في التاريخ سهلة، وتترجم لهم درسا درسا، حتى إذا تمت ترجمة الكتاب وإصلاحه قامت المطبعة على طبعه، «وأنه لأجل حصول ائتلاف التلامذة بالمصالح المصرية» تقدم للمدرسة نسختان من الوقائع المصرية، وتترجم لتلاميذها المواد «المشتملة على عمارية الملك بجرنالات أوروبا».»
1
غير أن هذه المدرسة لم تعمر طويلا فقد ألغيت بعد قليل، ونقل تلاميذها إلى مدرسة الألسن في آخر سنة 1251 / 1836. (1-2) مدرسة التاريخ والجغرافيا
أنشئت في حدود سنة 1250 وألحقت بمدرسة المدفعية، وكان ناظرها الوحيد هو رفاعة رافع الطهطاوي، وكان القصد من إنشائها تخريج مدرسين للجغرافيا في المدارس الحربية المختلفة، وقد ألغيت هذه المدرسة عند إنشاء مدرسة الألسن، وقد فصلنا الكلام عليها عند كلامنا عن رفاعة في فصل المترجمين.
وبهذا كانت هاتان المدرستان الخطوتين التمهيديتين لإنشاء مدرسة الألسن. (1-3) مدرسة الألسن
أنشئت في أوائل سنة 1251 / 1835 باسم مدرسة الترجمة، ثم غير اسمها فأصبح «مدرسة الألسن»، وجعل مقرها السراي المعروفة ببيت الدفتردار بحي الأزبكية حيث فندق شبرد الآن.
2
وقد أنشئت هذه المدرسة تحقيقا لاقتراح تقدم به رفاعة لمحمد علي باشا، يقول علي مبارك: «ثم عرض (أي رفاعة) للجناب العالي أن في إمكانه أن يؤسس مدرسة ألسن يمكن أن ينتفع بها الوطن، ويستغني عن الدخيل، فأجابه إلى ذلك، ووجه به إلى مكاتب الأقاليم؛ لينتخب منها من التلامذة ما يتم به المشروع، فأسس المدرسة».
2
وكان تلاميذ المدرسة في أول عهدها ثمانين تلميذا، اختار رفاعة معظمهم من مكاتب الأقاليم، وضم إليهم تلاميذ مدرسة الإدارة الملكية بعد إلغائها، ولكن هذا العدد زاد بعد ذلك حتى أصبح مائة وخمسين، وكانوا ينقسمون إلى قسمين، ويرأس كل قسم أستاذ ويساعده بعض التلاميذ المتقدمين.
3
وكانت مدة الدراسة بالمدرسة 5 سنوات قد تزداد إلى ست، كما أنه كان لشورى المدرسة الداخلي - أي مجلس إدارتها - الحق في تعديل منهاج الدراسة بها، وكان هذا المنهاج ينص على أن تدرس بها اللغات العربية والتركية والفرنسية،
4
والحساب، والجغرافيا، ثم أضيفت بعد ذلك دراسة التاريخ، وأرسلت المدرسة «إلى أوروبا لشراء كتب فرنسية في الأدب والقصص والتاريخ».
5
وفي سنة 1255 / 1839 اكتملت المدرسة، وأصبح بها 5 فرق، وخرجت أول فريق من تلامذتها، وكان تلاميذ الفرقة الأولى (أي الأخيرة) «يترجمون كتبا في التاريخ والأدب، ويقوم على إصلاحها أستاذهم ومدير مدرستهم «رفاعة رافع»، ثم تقدم إلى المطبعة فتطبع وتنشر كتبا يقرؤها المدرسون والتلاميذ».
6
غير أن العناية بتدريس اللغات في مدرسة الألسن لم تكن في درجة واحدة؛ فقد كانت العناية كبيرة بتدريس اللغتين العربية والفرنسية؛ وذلك لأسباب واضحة، منها أن كل التلاميذ كانوا من المصريين الذين يعرفون العربية ولا يعرفون التركية، ومنها أن ناظر المدرسة وأستاذها رفاعة كان يتقن هاتين اللغتين.
ومع هذا فقد «درست اللغة الإنجليزية وقتا ما بمدرسة الألسن، وقام على تدريسها مدرس إنجليزي، وقرأ التلاميذ قصصا وكتبا في قواعد اللغة الإنجليزية»،
7
وقد ذكر صالح مجدي في كتابه «حلية الزمن» عند كلامه عن تلاميذ رفاعة أن من بين من نبغ في اللغة الإنجليزية من خريجي الألسن «محمد أفندي سليمان مدرس اللغة الإنجليزية بالمدارس الحربية وأول من برع في الترجمة من الإنجليزية».
أما اللغة التركية فكانت العناية بها ضعيفة للأسباب السابقة، ولأنه «كان من الصعوبة بمكان أن تجد الحكومة مترجما يحذق اللغات العربية والتركية والفرنسية جميعا».
7
مدرسو المدرسة
ذكر في لائحة المدرسة أن هيئة التدريس بها تتكون من: (1)
مديرها. (2)
مراقبين للدراسة. (3)
أستاذين للغة العربية من الدرجة الأولى. (4)
أستاذ للغة التركية من الدرجة الأولى. (5)
ثلاثة أساتذة لتدريس اللغة الفرنسية والرياضة والتاريخ والجغرافيا.
8
أما مدير المدرسة فهو زعيم النهضة العلمية في عصر محمد علي، العالم الكبير رفاعة رافع الطهطاوي، وسنترجم له ترجمة واسعة في الفصل الخاص بالمترجمين، ويكفي أن نعرف هنا: (1)
أنه كان يشرف على المدرسة من الناحيتين الفنية والإدارية.
9 (2)
كان يدرس للتلاميذ الأدب والشرائع الإسلامية والغربية. (3)
كان يختار الكتب التي يرى ضرورة ترجمتها ويوزعها على المترجمين من تلاميذ المدرسة وخريجيها الملتحقين بقلم الترجمة، ويشرف على توجيههم أثناء قيامهم بالترجمة، ويقوم بمراجعة الكتب وتهذيبها بعد ترجمتها. يقول حسن قاسم أحد خريجي مدرسة الألسن في مقدمة كتاب «تاريخ ملوك فرنسا»: «ولما تم هذا التعريب لحظه بنظر التصحيح والتهذيب حضرة رفاعة بك ناظر مدرسة الألسن وقلم الترجمة، فشيد مبنى ألفاظه وأحكامه.» (4)
وكان رفاعة يرأس كل عام لجنة امتحان تلاميذ مكاتب المبتديان بالأقاليم؛ فيسافر إليها في النيل، ويمتحن تلاميذها، ويصطحب المتفوقين منهم ليلحقهم بالمدرسة التجهيزية الملحقة بمدرسة الألسن.
وكان إخلاص رفاعة لمهنته يدفعه إلى عدم التقيد بأوقات محددة للدراسة؛ فكان يستمر في الدرس ثلاث أو أربع ساعات ما دام يجد في نفسه رغبة وفي تلاميذه قبولا، يقول علي مبارك باشا: «كان دأبه في مدرسة الألسن وفيما اختاره للتلاميذ من الكتب التي أراد ترجمتها منهم، وفي تأليفاته وتراجمه خصوصا أنه لا يقف في ذلك اليوم أو الليلة على وقت محدود، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء، أو عند ثلث الليل الأخير، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة، أو فنون الإدارة، أو الشرائع الإسلامية، والقوانين الأجنبية، وله في الأولى مجاميع لم تطبع، وكذلك كان دأبه معهم في تدريس كتب فنون الأدب العالية، بحيث أمسى جميعهم في الإنشاءات نظما ونثرا أطروفة مصرهم، وتحفة عصرهم، ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة والتأليف وكانت مجامع الامتحانات لا تزهو إلا به.»
10
وقد أرهقت هذه الأعمال الكثيرة رفاعة فعين له ديوان المدارس مدرسا فرنسيا؛ ليقوم بمساعدته في إدارة المدرسة والتفتيش على الدروس وأمانة المكتبة.
11
أما مدرسو اللغة العربية فكانوا نخبة من مشايخ الأزهر الممتازين في معرفتهم وحبهم القراءة والبحث والتحقيق، ذكر منهم علي مبارك:
10 (1)
الشيخ الدمنهوري. (2)
الشيخ علي الفرغلي الأنصاري (ابن خال رفاعة). (3)
الشيخ حسنين حريز الغمراوي. (4)
الشيخ محمد قطة العدوي. (5)
الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوي. (6)
الشيخ عبد المنعم الجرجاوي. (7)
حسن أفندي (باشخوجة المدرسة).
أما مدرسو اللغة الفرنسية فهم: (1)
مسيو «كوت»، وقد خلفه بعد وفاته «إسكندر دوده». (2)
مسيو «بتيبر». (3)
مسيو «ديزون» وهو الذي اختير لمساعدة رفاعة ولأمانة المكتبة.
وقد حقق خريجو مدرسة الألسن الغرض من إنشاء المدرسة، فعين المتقدمون من أول فريق تخرج في سنة 1829 مدرسين للغتين العربية والفرنسية في نفس المدرسة، وفي مدرسة «المهندسخانة».
ولما أنشئ قلم الترجمة في أوائل سنة 1258 / 1841 ألحق به كل خريجي المدرسة، غير أن الواحد منهم لم يكن يمنح الرتبة حتى يترجم كتابا «يحوز الرضا السامي»
12
وقد ألحق كثيرون منهم مدرسين بالمدارس الأخرى أو موظفين بالمصالح المختلفة.
نمو المدرسة واتساعها
وظهر للباشا ما للمدرسة من فوائد جليلة، وأدرك ما بلغته من نجاح فظل يعمل على تنميتها: (1)
ففي سنة 1841 ألحقت بها المدرسة التجهيزية التي كانت قبلا في أبي زعبل. (2)
وفي سنة 1260 / 1845 أنشئ بالمدرسة قسم لدراسة «الإدارة الملكية العمومية» لتخريج الموظفين الإداريين؛ للعمل «في المديريات والمصالح والضابط خانة».
12 (3)
وفي نحو سنة 1262 أنشئ بها قسم ثان لدراسة «الإدارة الزراعية الخصوصية». (4)
وفي أواخر سنة 1263 أنشئ بها قسم ثان لدراسة العلوم الفقهية، «وكان عدد تلامذته أربعين تلميذا، ويتلقون دروسا في اللغة على المذهب الحنفي، حتى إذا أتموا دراستهم عينوا قضاة بالأقاليم «حيث إن أكثر القضاة ليسوا علماء».»
12
وقد أدى هذا النمو إلى ازدحام المدرسة بالطلاب حتى كان التلاميذ من فرق مختلفة يجلسون في حجرة واحدة لتلقي علوم متباينة على أساتذة متباينين، فعمل رفاعة على تنظيم بناء المدرسة، حتى صار «لكل درس محل مخصوص بباب مخصوص».
12 (1-4) قلم الترجمة
أنشئت هذه الفروع جميعا لتخريج الموظفين الإداريين والقضاة غير أن طلبتها تعلموا اللغات الأجنبية، وتلقوا علوما جديدة حديثة إلى جانب العلوم العربية القديمة، وشاركوا - إلى حد ما - في حركة الترجمة، ولكن يهمنا أن نعرف شيئا عن فرع المدرسة الذي يتصل اتصالا وثيقا بموضوعنا، وهو قلم الترجمة.
أنشئ في أوائل سنة 1258 / 1841 تنفيذا لإشارة لجنة تنظيم التعليم (1841)؛ فقد رأت اللجنة أنه «لما كانت الكتب الجاري ترجمتها معدودة آثارا خيرية من مآثر سمو مولانا الخديو الأعظم الذي تخلد اسمه الكريم إلى أبد الآبدين، فلا شك في أن الواجب يقضي بأن تكون التراجم مضبوطة مستوفية حقها من الصحة سليمة من الخطأ؛ فلهذا ولكون ترجمة كتب العلوم والفنون ليست مقصورة على معرفة اللغة فحسب، بل متوقفة أيضا على الإلمام بالعلم أو الفن المترجم كتابه ؛ فقد أنشأت اللجنة غرفة الترجمة الخاصة بالمترجمين».
13
وقسمت هذه الغرفة إلى أربعة أقلام: (1)
قلم ترجمة الكتب المتعلقة بالعلوم والرياضة، ورئيسه «البكباشي محمد بيومي أفندي» وتحت رئاسته «ملازم» متخرج من مدرسة الألسن، وخمسة من تلاميذ فرقتها الأولى. (2)
قلم ترجمة كتب العلوم الطبية والطبيعية، ويشرف عليه «اليوزباشي مصطفى واطي أفندي» أحد مدرسي مدرسة الطب البشري، وتحت رئاسته ملازم من مدرسة الألسن وثلاثة من تلاميذها. (3)
قلم ترجمة المواد الاجتماعية أو «الأدبيات»؛ كالتاريخ والجغرافيا والمنطق والأدب والقصص والقوانين والفلسفة إلخ، ورئيسه الملازم أول خليفة محمود أفندي أحد مدرسي مدرسة الألسن وخريجيها، وألحق به ملازم ثان وثلاثة من تلاميذ المدرسة. (4)
قلم الترجمة التركية، ويشرف عليه «ميناس أفندي» المترجم بديوان المدارس، وتحت إمرته أربعة من تلاميذ المدرسة.
ثم ألحق بهذه الأقسام عدد من المبيضين لتبييض الكتب بعد ترجمتها، وإرسالها إلى ديوان المدارس للاطلاع عليها، فكان يشير بطبع النافع القيم منها. (1-5) مصير هذه المؤسسة
عاشت مدرسة الألسن نحو الخمسة عشر عاما بدأت فيها تسيطر على شئون الثقافة العامة في مصر، وأنتجت في إبانها الإنتاج العلمي الوفير، فلما ولي العرش عباس الأول - ولم يكن على انسجام مع رجال جده وعمه وخاصة رفاعة - أخذ يسعى سعيه للقضاء على هذه المدرسة؛ فبدأ بإلغاء قسم الفقه بالمدرسة، ثم ثنى بتصفية تلاميذ المدرسة وفصل عدد كبير منهم، «وفي الشهر الأخير من عام 1265/أكتوبر 1849، صدر الأمر بنقل مدرسة الألسن إلى مكان مدرسة المبتديان بالناصرية، وبذلك حرمت المدرسة من مكانها، وضاق بها مكانها الجديد حتى اضطروا إلى نقل الكتبخانة الأفرنكية والأنتيكات إلى المهندسخانة ببولاق، ولم تمض أيام على ذلك حتى ألغيت مدرسة الألسن في المحرم سنة 1266/نوفمبر سنة 1849، وضم تلامذتها إلى التجهيزية قبل إلغائها،
14
وفي أواخر سنة 1266 سافر رفاعة إلى الخرطوم ليكون ناظرا ومدرسا لمدرسة الخرطوم الابتدائية.
أما قلم الترجمة فقد خضع لتجربة جديدة في الشهور القليلة التي ولي فيها إبراهيم باشا، وصدر الأمر بتقسيمه تقسيما جديدا إلى قلمين: قلم للترجمة التركية ويشرف عليه كاني بك، وقلم للترجمة العربية ويشرف عليه رفاعة بك، وجعلت الرئاسة العليا لكاني بك ؛ فقد نشرت الوقائع المصرية في العدد 127 الصادر في 26 ذي القعدة سنة 1264: «لما كانت ترجمة الكتب المرغوبة التي تشتمل على القوانين والتراتيب والآداب وسائر العلوم والفنون النافعة من اللغة الفرنساوية إلى التركية والعربية، وطبعها ونشرها؛ وسيلة عظمى لتكثير المعلومات المقتضية، وقضية مسلمة عند أولي النهى، وكان حصول ذلك لا يتأتى إلا بوجود المترجمين البارعين في ألسنة الإفرنجي والتركي والعربي، واجتماعهم في محل واحد، وقسمهم إلى قلمي ترجمة، وضمهم إلى نظارة حضرة أمير اللواء كاني بك وكيل ديوان التفتيش الفريد في فن الترجمة، المشهور بالسلاسة والبلاغة حصل فتح القلمين كما ذكر، وقد تعين حضرة رفاعة بك أمير الآلاي الذي كان ناظر مدرسة الألسن التابعة إلى ديوان المدارس؛ ناظرا على قلم الترجمة العربي في معية حضرة المومى إليه.»
يقول الدكتور عزت عبد الكريم «على أن إلغاء مدرسة الألسن في نوفمبر سنة 1849 لا شك قد أثر أثرا بليغا في قلم الترجمة ورجاله؛ فقد حرمه الدعامة القوية التي كان يرتكن عليها في عمله الفني، وحرم المصدر الذي كان قائما على تغذيته بالمترجمين كما حرم ناظره رفاعة بك المكانة السامية التي كانت له في دوائر التعليم، وبعد أشهر رحل رفاعة إلى السودان، ولم يستطع القلم أن يحيا بعد فقد مؤسسه ومديره فتشتت رجاله ...»
14
الفصل الثاني
الكتب والمؤلفون
العلوم والفنون التي شملتها حركة الترجمة، أوامر محمد علي بشراء وجمع الكتب اللازمة للمدارس أو للترجمة من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وتركيا، كان لكل مدرسة «خصوصية» مكتبة تضم أحدث الكتب الأوروبية، الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي كانت: (1) لواحد من هيئات التدريس الأجنبية بالمدارس المصرية. (2) أو لواحد من كبار المؤلفين في أوروبا في القرنين 17 و18، أمثلة، معظم الكتب ترجمت لتستعمل في المدارس، شواهد، بعض الأساتذة الذين ترجمت كتبهم، الدكتور كلوت بك، كتبه التي ترجمت: بعضها للتدريس، والبعض الآخر لخدمة الحالة الصحية في مصر، كتب النوع الثاني وخاصة: «كنوز الصحة»، و«الدرر الغوال» تأليفهما وترجمتهما تنفيذا لرغبة محمد علي، انتشارهما بين أفراد الشعب، الدكتور «برون» ترجمة موجزة له، جهوده العلمية، الجمعية المصرية واتصال بالعلماء الأوروبيين في مصر، اتصاله ببعض مشايخ الأزهر، كتبه التي ترجمت. ***
اتجهت الترجمة في عصر محمد علي لخدمة المدارس، والمصانع، والجيش، والأسطول، والإدارات، أي بعبارة أصح لخدمة المنشآت الحديثة التي خلقها محمد علي خلقا؛ ولهذا نجد الكتب في هذا العصر تترجم في هذه العلوم والفنون: (1)
الطب البشري
1
والطب البيطري، وما يتصل بهما من العلوم الطبيعية كالطبيعة والكيمياء، والنبات والحيوان ... إلخ مما كان يدرس في مدارس الطب، والطب البيطري والصيدلة والزراعة. (2)
العلوم الرياضية من حساب وجبر وهندسة، وهندسة وصفية، وميكانيكا، وهدروليكا، وحساب مثلثات ... إلخ مما كان يدرس في مدارس الهندسة، والمدارس الصناعية. (3)
العلوم الحربية والبحرية، وما يتصل بها من فنون الرسم والعلوم الرياضية مما كان يدرس في المدارس الحربية والبحرية. (4)
العلوم الاجتماعية أو الأدبية؛ كالتاريخ والجغرافيا، والاجتماع والجيولوجيا والفلسفة والمنطق ... إلخ مما كان يدرس أو يترجم في مدرسة الألسن.
وقد ذكرنا أن السيطرة في أوائل عهد محمد علي كانت للغة الإيطالية ثم انتقلت منها للغة الفرنسية؛ ولهذا نجد أن الكتب الأولى القليلة التي ترجمت، نقلت عن اللغة الإيطالية، ثم أصبحت الترجمة في معظمها عن اللغة الفرنسية، والفن الوحيد الذي نقلت بعض كتبه وتعليماته عن الإنجليزية هو قوانين وتعاليم الأسطول المصري بحكم أن إنجلترا لها السبق في هذا الفن، أما إن نقل كتاب في علم آخر عن هذه اللغة فقد كان يترجم عن الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب.
وكانت الترجمة عن هذه اللغات إلى اللغتين التركية والعربية؛ فترجمت الكتب الحربية إلى اللغة التركية؛ لأن معظم طلاب المدارس الحربية في عهدها الأول كانوا من أبناء المماليك والأتراك، كما ترجمت بعض كتب خاصة في التاريخ والسير وشئون الحكم إلى اللغة التركية إجابة لرغبة محمد علي، وليطلع عليها هو، ويفيد منها، أما بقية الكتب في الفنون والعلوم الأخرى فقد ترجمت إلى اللغة العربية لأن تلاميذ المدارس المدنية كانوا جلهم إن لم يكن كلهم من المصريين.
ومذ فكر محمد علي في خطته الإصلاحية، وبدأ ينشئ جيشه وأسطوله ومدارسه، رأى أنه في حاجة إلى كميات كبيرة من الكتب باللغتين العربية والتركية ليستعين بها أساتذة المدارس وطلابها، فاستورد الكتب الكثيرة من تركيا (أنشئت فيها الطباعة منذ سنة 1728)، غير أنه رأى أن معظم هذه الكتب لا ترضي أطماعه؛ فهي كتب قديمة لا تسير مع التقدم العلمي الحديث في أوروبا، فأنشأ مطبعته العربية في بولاق، وراح يسعى لجمع الكتب من كل مكان سعي العالم الهاوي،
2
وقد بذل الجهد كل الجهد لاختيار الكتب التي يمكن أن تفيد لنشر التعليم أو الثقافة في مصر، أو أن تحقق ما يريده من إصلاح، أو تثقيف لعقول مساعديه من رجال الحكم الجديد.
ففي سنة 1224 / 1809 أرسل عثمان نور الدين أول مبعوث مصري إلى أوروبا لتلقي العلم في إيطاليا، وظل ينتقل بينها وبين فرنسا وإنجلترا مدة ثماني سنوات، ولم يعد إلى مصر إلا في سنة 1232 / 1817، وقبيل عودته أمره محمد علي أن يشتري لحسابه من فرنسا وإيطاليا كتبا في مختلف العلوم والفنون السياسية بمبلغ 50000
3
روبل.
وفي سنة 1233 / 1818 أمر محمد علي بشراء 600 كتاب
4
فرنسي أخرى، وعندما استدعيت بعثة مسيو بويه
M. Boyer
5
الحربية إلى مصر كلف ضباطها أن يحضروا معهم مجموعة من الكتب الفرنسية في الفنون الحربية المختلفة.
وهكذا دأب محمد علي على سياسته في شراء الكتب اللازمة للمدارس أو للترجمة من أوروبا وتركيا منذ هذا التاريخ المبكر حتى آخر سنة من حياته؛ ففي «الخامس من شهر ذي القعدة سنة 1241/يونيو 1825 صدر أمر منه إلى باغوص بك يشير به إلى إرسال الكتب الإفرنجية - المختصة بتعليمات وأمور البحرية السابق تسليمها - لمكتب الجهادية».
6
وسرعان ما عرف هذه الرغبة جميع المحيطين بمحمد علي من أجانب ومصريين، فتسابقوا لإشباعها؛ فمن أمثلة ذلك ما فعله المسيو «دروفتي
Drovetti » قنصل فرنسا في مصر، فقد حمل إلى محمد علي في سنة 1241 / 1826 مجموعة من الكتب المختصة بعلوم وقوانين البحرية هدية إليه «من قبل ناظر ترسانة بحرية طولون»، ففرح بها محمد علي، «وحصل له السرور»، وصدر أمر منه في 10 ذي القعدة إلى باغص بك يرى فيه لزوم إرسال قبضة سيف وشال كشمير إلى الناظر المومى إليه بصفة هدية.
7
وفي 19 ربيع الثاني سنة 1243 / 9 نوفمبر سنة 1827، صدر أمر من محمد علي باشا «إلى أحد مندوبي مصر بلوندرة، أنه قد اتصل بعلمه تأليف وطبع كتاب يختص بالسفن الميرية الجاري إنشاؤها برسم الحكومة الإنجليزية، وبه مقدار المصاريف التي حذفت عليها، وكتاب آخر يختص بتعليم الأطفال المبتدئين، ويشير به بمشترى بعض نسخ من هذا وذاك، وإرسالها بسرعة للزومها بطرفه ...»
8
وفي 25 شوال سنة 1244 / 10 أبريل سنة 1828 صدر أمر منه إلى ولده إبراهيم باشا «بأن يرسل له كتاب الاستحكامات القوية الوارد من الآستانة قبلا، وملحق به أطلس يشتمل على 24 شكلا مكملا له ...»
9
وفي وثائق عابدين شواهد كثيرة تؤيد هذه الرغبة السامية؛ ففي 16 صفر سنة 1241 / 19 سبتمبر سنة 1825، صدر أمر من محمد علي باشا إلى صادق أفندي المقيم بالآستانة أن يحصل على كتاب في الجراحة باللغة التركية اسمه: «شاني زاده في فن الجراحة».
10
وفي رسالة أخرى مؤرخة في 24 ربيع الأول سنة 1241 / 6 نوفمبر سنة 1825، كلف المدعو توسيزا
Tossizza
11
أن يبحث في محال بيع الكتب في أزمير عن بعض الكتب التي يطلبها محمد علي.
وكان يتقدم إليه أحيانا بعض رجال دولته يرغبون التوصية لشراء أحدث المؤلفات العلمية التي صدرت في أوروبا بعد عودتهم، فكان محمد علي يسرع بتلبية هذه الرغبة؛ فقد صدر منه أمر إلى أرتين بك في 25 ذي الحجة سنة 1261 / 25 ديسمبر سنة 1845 بأن «بهجت بك المهندس» أوضح بإفادته المقدمة إلي بأنه من بعد عودته من أوروبا للآن صار نشر جملة كتب في علم الهندسة، وتطلب بها استحضار تلك الكتب للوقوف على ما تدون بها، فيلزم مخابرة اسطفان أفندي (رئيس البعثة بفرنسا) عن إرسال تلك الكتب لبهجت بك وخصم أثمانها من استحقاقه.»
وفي السنة السابقة لوفاة محمد علي أعد كلوت بك ولامبير بك قائمة بالمعدات والكتب الخاصة «بالمواليد الثلاثة والكيمياء والنبات، فأصدر محمد علي في 6 رجب سنة 1263 / 20 يونيو سنة 1846 أمرا إلى أرتين بك باستحضار «تلك الآلات والكتب» من فرنسا «ما دامت تكون غير موجودة بالمخازن».»
12
هذا وقد كان لكل مدرسة خصوصية مكتبة كبيرة تضم أحدث الكتب الأوروبية التي كانت تصدر حينذاك في أوروبا ، وإن كان معظمها باللغة الفرنسية ولمؤلفين فرنسيين، ذكر المسيو «بروكي
Brocchi »
13
أنه شاهد أثناء زيارته لمدرسة بولاق في سنة 1822 مكتبة تضم مجموعة كبيرة من الكتب الأوروبية، وعددا من الكتب العربية والتركية المطبوعة في الآستانة.
وقد كان محمد علي يرى أن هذه الكتب وجدت في هذه المكتبات «للترجمة منها والانتفاع بها»، لا «لحبسها وعدم الانتفاع بها»؛ فقد صدر أمر منه إلى وكيل الجهادية في 16 ربيع الثاني سنة 1251 / 10 أغسطس سنة 1835 يذكر فيه أنه «اطلع على المضبطة الصادرة في 6 الجاري سنة تاريخه الشاملة لاستحسان تسليم زمام مكتبة القصر العيني إلى يحيى أفندي الموجود بمدرسة الترجمة المستجدة بالأزبكية عوضا عن الشيخ رفاعة المحال عليه محافظة تلك المكتبة، وحيث إن الغرض من استحضار الكتب هو تسليمها لأهلها، وللترجمة منها، والانتفاع بها، وحال وجودها تحت يد يحيى أفندي المذكور يكون عبارة عن حبسها وعدم الانتفاع بها فيلزم نقلها إلى محل وجود الشيخ رفاعة وإبقاؤه بوظيفة محافظ لتلك الكتب كما كان.»
14
ونظرة واحدة إلى قائمة الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي تبين أن هذه الكتب كان يراعى في اختيارها أن تكون: (1)
لواحد من هيئات التدريس الأجنبية
15
بالمدارس المصرية. (2)
أو لواحد من كبار المؤلفين في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
يقول كلوت بك عند كلامه عن مدرسة الطب: «تقرر الرجوع إلى مصنفات الأساتذة: «كلوكيه»، و«بروسيه»، و«لالمان»، و«ماجاندي»، و«روش»، و«سانسون»، وغيرهم من أساطين الطب الفرنسيين.»
16
وقد ترجمت في عصر محمد علي كتب كثيرة لأشهر مشاهير علماء أوروبا ومؤلفيها في الطب والهندسة والتاريخ والجغرافيا والسياسة والمنطق ... إلخ، نذكر منها على سبيل المثال: (1)
قواعد الأصول الطبية، تأليف «فرانشسكوفافا» الأستاذ بجامعة بيزا، طبع في بولاق سنة 1242 / 1826-1827. (2) «منتهى الأغراض في علم شفاء الأمراض»، تأليف: «بروسيه»، و«سانسون» من أكبر أطباء فرنسا وقتذاك، ترجمة يوحنا عنحوري، وطبع في بولاق سنة 1250 / 1834-1835. (3) «ضياء النيرين في مداواة العينين»، تأليف الطبيب الإنجليزي «لورانس»، وترجمه إلى العربية أحمد حسن الرشيدي، وطبع في بولاق سنة 1256 / 1841. (4)
أصول الهندسة تأليف لوجاندر
Legendre
ترجمه إلى التركية محمد عصمت أفندي، وطبع في بولاق سنة 1255 / 1840. (5) «قترينه تاريخي» تأليف « كاسترا
Castsra »، ترجمه إلى التركية جاكوفاكي أرجير وبولو المترجم بالديوان الخديوي، وطبع في بولاق سنة 1244 / 1829. (6) «تاريخ نابليون»، وهو مذكراته التي كتبها بنفسه حين كان منفيا في «سانت هيلانة»، ترجم عن الفرنسية إلى التركية، وطبع في بولاق سنة 1247 / 1832. (7) «تاريخ نابليون بونابرته» تأليف «دوق دي روفيجو
Due de Rovigo »، ترجمه إلى التركية «حسن أفندي» الكاتب بديوان محمد علي، وطبع في مطبعة سراي الإسكندرية سنة 1249 / 1834. (8) «تاريخ دولة إيطاليا» تأليف «بوتا
Botta »، ترجمه عن الفرنسية إلى التركية عبد الله أفندي عزيز الكاتب بديوان محمد علي، وطبع في مطبعة سراي الإسكندرية سنة 1249 / 1834. (9) «مطلع شموس السير في وقائع كرلوس الثاني عشر»، تأليف «فولتير
Voltaire »، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية محمد أفندي مصطفى البياع أحد خريجي مدرسة الألسن، وطبع في بولاق سنة 1257 / 1842 - وهو تاريخ كرلوس الثاني عشر ملك أسوج (1697-1718). (10) «الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر»، تأليف «فولتير
Voltaire »، وتعريب أحمد عبيد الطهطاوي، طبع في بولاق سنة 1261 / 1845. (11) «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في أوروبا»، تأليف المؤرخ الإنجليزي «روبرتسون
Robertson »، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية خليفة أفندي محمود، أحد خريجي مدرسة الألسن، طبع في بولاق سنة 1258 / 1842، وهو مقدمة لتاريخ شارلكان الآتي. (12) «إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شارلكان»، تأليف «وليم روبرتسون»، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية خليفة محمود، طبع في بولاق سنة 1266 / 1850. (13) «الدارسة الأولية في الجغرافية الطبيعية»، تأليف «مسيو فيلكس لامروس»، وترجمه عن الفرنسية إلى العربية أحمد حسن الرشيدي، وطبع في بولاق سنة 1254 / 1839. (14) «الجغرافية العمومية» تأليف «ملطبرون
Malte Brun »، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية رفاعة رافع الطهطاوي، طبع في بولاق حوالي سنة 1250 و1262 / 1835 و1846. (15) «تنوير المشرق بعلم المنطق»، تأليف «دي مرسيه
Dumarsais »، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية خليفة محمود، وطبع في بولاق سنة 1254 / 1839.
ولم يراع المترجمون في عصر محمد علي أن يذكروا دائما اسم المؤلف؛ ولهذا ظهرت معظم الكتب وهي لا تحمل اسم مؤلفيها، بل كان يكتفي في الغالب أن يذكر أن الكتاب ترجم عن الفرنسية،
17
كذلك أهملت في جميع الكتب المترجمة أسماء الكتب بلغاتها الأصلية، ولم يثبت على أي كتاب عنوانه الأصلي لا بالحروف اللاتينية، ولا بالحروف العربية، بل لقد طغت على المحررين والمصححين والمترجمين تقاليد التأليف القديمة التي توجب أن تكون أسماء الكتب مسجوعة، فاختيرت للكتب المترجمة عناوين مسجوعة، إلا في النادر، وإلا أن يكون المترجم رسالة أو نبذة، فإذا كان المترجم مصريا من أعضاء البعثات أو من خريجي مدرسة الألسن اختار هو الاسم على هذا النحو، أما إن كان المترجم من طائفة المترجمين السوريين الذين حملوا عبء هذا الواجب في أوائل عهد محمد علي خاصة، فإنه كان يترك اختيار اسم الكتاب - بعد ترجمته - للشيخ الأزهري المنتدب لتصحيحه وتحريره. يقول الشيخ مصطفى حسن كساب محرر الكتب المترجمة بمدرسة الطب البيطري في مقدمة أحد الكتب المترجمة في هذا العلم: «... وقد سميت هذا الكتاب روضة الأذكياء في علم الفسيولوجيا.»
18
ويقول نفس المحرر في مقدمة كتاب آخر من كتب الطب البيطري: «فجاءت - أي هذه الرسالة - بعون الله مرتبة المباني، مهذبة المعاني، وسميتها: البهجة السنية في أعمار الحيوانات الأهلية ...»
19
وقد كانت معظم الكتب التي ترجمت لفائدة التعليم بالمدارس الخصوصية وخاصة مدرسة الطب والهندسة، من تأليف أساتذة هذه المدارس. يقول الشيخ محمد عمر التونسي في مقدمته لكتاب «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية»: إن الدكتور برون
Dr. Perron
ألف هذا الكتاب حين كان مدرسا لمادة الكيمياء بمدرسة الطب بأبي زعبل، «وألقاه على التلاميذ أولا بأول، فاستفادت منه التلامذة في علم الكيمياء فوائد جمة»، ويقول «الدكتور برون» نفسه في مقدمته لكتاب: «الأزهار البديعة في علم الطبيعة»: «وإني لما استخدمت بمدرسة الطب البشري معلما للكيمياء ... وقمت بما وجب علي فيها بما تقر به العين، طلب مني أن أضم لتعليم علم الكيمياء علم الطبيعة، امتثلت الأمر، واقتطفت من روضة كتب هذا الفن كل زهرة بديعة. ولما كان هذا الكتاب أول مصنف ترجم من كتب الطبيعة وكائنات الجو بالديار المصرية، والقصد أن تتناوله جميع المدارس وتتلقاه بحسن طوية، حذفت البراهين التي تؤدى بالأشكال والأرقام الرياضية؛ ليسهل على تلامذة المدارس الدخول في هذه القضايا العقلية.»
20
وقال الشيخ محمد الهراوي في مقدمته لكتاب «المنحة في سياسة حفظ الصحة»: «الخواجا برنار جمع هذا الكتاب من مجلدات كبار، وترجمه من الفرنساوي للعربي بالكتابة والمقال المترجم الحلبي جورجي فيدال، وكنت مقيدا لتصليح ما ترجم ترجمة لفظية، وتوقيعه مواقع عبارات عربية، حفظا لمقابلة الكلام عند التعليم، وتسهيلا لفهمه منهم وقت التفهيم ...»
21
ويقول الشيخ مصطفى حسن كساب في مقدمته لكتاب «منتهى البراح في علم الجراح»: «إن علم الطب من أجل العلوم قدرا؛ فلهذا اعتنى بتحصيله الأجلة، من علماء كل ملة، وممن بذل جهده في قراءته وأفرغ وسعه في دراسته، الطبيب الأريب ... من لا ريب في حذقه ولا لبس، المعلم الحازق «برنس» الذي ألف هذا الكتاب ونمقه بأعذب خطاب، وقرأه على الطلبة قراءة جميلة، وأوضح لهم مسائله الجليلة في المدرسة البيطرية ... إلخ.»
22
كذلك كانت الكتب التي كتبها كبار المؤلفين الأوروبيين في ذلك العصر، وترجمت في مدارس محمد علي؛ فإنها كانت تترجم في معظمها لتلقى دروسا على الطلاب؛ فكتاب «اللآلئ البهية في الهندسة الوصفية»: «لما أكمل تعريبه وتدريسه في مدرسة الهندسة النفيسة - المهندسخانة الخديوية - معدن النفائس الرياضية، تداولته أيدي التصحيح ونقحته غاية التنقيح ...»
23
ثم قدم للمطبعة فطبع في بولاق سنة 1261.
ويقول أحمد فايد في مقدمة «كتاب علم تحرك السوائل»: «حيث كانت المعارف البشرية آخذة في التقدم على ممر الأزمان، وكان ممن ربح في هذه العلوم اللطيفة المهندس بيلانجيه، فألف في ذلك تأليفا دل على غزارة عقله، وحيث كان فريد عصره، ووحيد دهره، جناب «لامبير بك» الجليل الشأن، ناظر مدرستنا الآن، يستنشق أخبار تلك اللطائف، فحين عثر على تلك المؤلفات الغربية، ورأى ما فيها من الفوائد الجمة العجيبة بادر بجلبها إلى الديار المصرية، وأراد تدريسها بالمهندسخانة الخديوية، وحيث كنت أنا معلم تلك العلوم فيها، ولي الوقوف على مبانيها ومعانيها، تبعت هذا المؤلف في تدريسي وتقريري، وجعلته إمامي وسميري، ولما اطلعت على فرائده، وتضلعت من فوائده، لاح لي أن أترجم هذا الكتاب، فقضيت أغراضي وآمالي، وترجمت مجلداته الأربع على التوالي ... إلخ.»
وقد كان للكثيرين من أساتذة مدارس محمد علي نشاط ملحوظ في التأليف؛ فكانت كتبهم ، في معظمها، هي محاضراتهم التي يلقونها على الطلاب، تجمع وتترجم، ثم تحرر وتصحح وتطبع، وممن ترجمت كتبهم من أساتذة مدرسة الطب مثلا: (1) «الدكتور برنار» معلم قسم حفظ الصحة، ألف كتاب «قانون الصحة»، وترجمه إلى العربية جورجي فيدال، وطبع في بولاق سنة 1248. «وكتاب المنحة، في سياسة حفظ الصحة، ترجمه جورج فيدال»، وطبع في بولاق سنة 1249. (2) «الدكتور سوسون» معلم الفسيولوجيا، ألف كتاب «إسعاف المرضى من علم منافع الأعضاء، ترجمه إلى العربية علي أفندي هيبة، وطبع في بولاق سنة 1252». (3) «الدكتور لافارج»، ألف كتاب «نزهة الأنام في التشريح العام»، وترجمه يوسف فرعون، وطبع في بولاق سنة 1255 / 1840.
وكتاب «روضة الأذكيا في علم الفسيولوجيا»، وترجمه أيضا يوسف فرعون، وطبع في بولاق سنة 1256 / 1841. (4) «الدكتور فيجري»، ألف كتاب «الدر اللامع في النبات وما فيه من الخواص والمنافع»، ترجمه السيد حسن غانم الرشيدي، وطبع في بولاق سنة 1257.
غير أن اثنين من هيئة التدريس في تلك المدارس كانا أوفر نشاطا من جميع زملائهما، وأكثر إنتاجا، هما: الدكتور كلوت بك، والدكتور برون، وكلاهما تولى نظارة مدرسة الطب المصرية في عصر محمد علي. (1) الدكتور كلوت بك
التحق الدكتور كلوت بك بخدمة محمد علي في سنة 1825؛ فقد رأى عاهل مصر - بعد تكوين جيشه الجديد - أنه في حاجة ماسة إلى أطباء أوروبيين للإشراف على صحة ضباطه وجنوده؛ فكلف التاجر الفرنسي «تورنو
Tourneau » أن يرحل في سنة 1825 إلى فرنسا لكي يتعاقد مع أحد الأطباء الفرنسيين، وسافر «تورنو»، واتصل بأحد أطباء «مرسيليا» وهو الدكتور «أنطوان برتلمي كلوت
Antoin Barthélmy Clot »، وكتب معه شروطا تقضي: «بحريته في العمل، وأن يتبع ديانته المسيحية، وعدم إجباره على السير مع الجيش ... إلخ.»
24
وحضر «كلوت» إلى مصر في نفس السنة (1241 / 1825)، وعين «جراح باشي» الجيش المصري.
غير أنه لم يلبث أن أخلص لعمله الجديد، ووهبه كل وقته وتفكيره، فأنشأ المستشفيات العسكرية، ومصلحة الصحة البحرية، وفي سنة 1242 / 1827 أنشئت مدرسة الطب المصرية تنفيذا لرغبته، وجعل مقرها في أبي زعبل لتكون قريبة من معسكرات الجند.
وتخير الدكتور «كلوت» نخبة من أطباء أوروبا وعلمائها الممتازين ليكونوا أساتذة المدرسة الجديدة، غير أن الطريق لم يكن ممهدا أمامه كما سبق أن ذكرنا؛ فقد اعترضته صعوبات جمة كان أهمها جهل الأساتذة باللغة العربية، وجهل التلاميذ باللغات الأجنبية عامة، ولكنه بذل جهودا جبارة للتغلب على هذه العقبة، بدأت بأن يترجم المترجمون عن الأساتذة ما يقولون، وانتهت بترجمة الدروس التي تلقى والمراجع الطبية المختلفة وطبعها في مطبعة بولاق ثم توزيعها على تلاميذ المدرسة.
وقد شارك «كلوت» مشاركة فعالة قوية في حركة التأليف والترجمة التي قامت بها مدرسة الطب، وكان أكبر عدد من الكتب الطبية التي ترجمت في عصر محمد علي من وضعه وتأليفه وهذه هي: (1) العجالة الطبية فيما لا بد منه لحكماء الجهادية
ترجمة أوغسطين سكاكيني
وطبع في مطبعة مدرسة الطب بأبي زعبل في 23 صفر سنة 1248 / 22 يوليو سنة 1832 (2) رسالة في الطاعون ؟
بولاق 1250 / 1834 (3) رسالة في علاج الطاعون ؟
مطبعة الجهادية 1240 / 1834 (4) رسالة فيما يجب اتخاذه لمنع الحرب والداء الإفرنجي عن عساكر الجهادية ونسائهم ؟
مطبعة ديوان الجهادية 1251 / 1835 (5) مبلغ البراح في علم الجراح
ترجمة يوحنا عنحوري
بولاق 1251 / 1835 (6) نبذة في تطعيم الجدري
ترجمة أحمد حسن الرشيدي
بولاق 1252 / 1836 (7) نبذة في الفلسفة الطبيعية
الدكتور إبراهيم النبراوي
بولاق 1253 / 1837 (8) نبذة في التشريح العام (9) نبذة في التشريح المرضي (10) رسالة في مرض الحمى ؟
بولاق 1259 / 1843 (11) كنوز الصحة ويواقيت المنحة
ترجمة الدكتور محمد الشافعي
بولاق 1260 / 1844 (12) الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال
ترجمة الدكتور محمد الشافعي
بولاق 1260 / 1844
وهذه إما كتب ترجمت لتدرس في مدرسة الطب؛ «كمبلغ البراح في علم الجراح»، و«العجالة الطبية فيما لا بد منه لحكماء الجهادية»
25
والنبذ الثلاث في الفلسفة الطبيعية والتشريح العام والتشريح الطبي، وقد طبعت هذه النبذ جميعا في كتيب واحد يقع في 76 صفحة، وليس في أوله أي مقدمة أو تقريظ كما جرت العادة في الكتب المترجمة في ذلك العصر، إنما جاء في الصفحة الأخيرة ما يلي: «هذا آخر ما جمعه ميراللوا كلوت بك في هذا المختصر من نبذة في الفلسفة الطبيعية ونبذة في التشريح المرضي لتعليم تلامذة الطب، وقد ترجمه عن الفرنسية إلى العربية إبراهيم أفندي النبراوي حكيم أول ابن عرب (يقصد مصري) بإملائه للشيخ محمد محرم أحد المصححين قبل الطبع، ومعه على يد مغفور المساوي محمد الهراوي.»
26
وإما رسائل وضعها كلوت بك لخدمة الحالة الصحية في مصر إثر انتشار الأمراض والأوبئة بها؛ كرسالته عن الطاعون، ورسالته عن علاج الطاعون، فإنهما صدرتا سنة 1250 / 1834، وهي السنة التي انشر فيها مرض الطاعون
27
في مصر انتشارا مخيفا، فبذل كلوت بك جهدا كبيرا لمحاربة هذا المرض والقضاء عليه، فقدر له محمد علي هذه الجهود خير تقدير، وأنعم عليه بهذه المناسبة برتبة «أمير لواء»، ورسالته «في علاج الطاعون» تقع في عشر صفحات، وطبعت بمطبعة ديوان الجهادية في آخر ذي الحجة سنة 1250 / 28 أبريل سنة 1835، وقد اطلع عليها «أرباب المشورة الطبية» وأقروها قبل طبعها، وجاء في مقدمتها «حمدا لله وقاية من الأسواء ... هذا تنبيه فيما يختص بالطاعون، وذلك قبل أخذه في الظهور، يبين للأطباء ورؤساء المارستانات طريقة ترشدهم إلى الاحتراسات اللازمة للتوقي من هذا المرض، وسعيه وانتشاره، ويذكر لهم العلامات الدالة عليه ثم الوسائط التي يمكن بها مقاومته»،
28
وهذا التنبيه يحتوي على مقدمة وثلاثة مقاصد: المقدمة في قوانين الكورنتينا، والمقصد الأول في تدابير المرض الصحية، والثاني في علاماته، والثالث في معالجته.
كذلك بذل كلوت بك جهدا عظيما لمحاربة مرض الجدري الذي كان يقضي في مصر على حياة نحو ستين ألفا من الأطفال كل عام؛ فأشار على الحكومة باستعمال التطعيم ضد هذا المرض، وواضح أن رسالته عن تطعيم الجدري التي ترجمها أحمد حسن الرشيدي كتبت وترجمت لتحقيق هذا الغرض، أما رسالته «فيما يجب اتخاذه لمنع الجرب والداء الإفرنجي عن عساكر الجهادية ونسائهم، فظاهر أنه ألفها بحكم مركزه كمدير للإدارة الصحية للجيش المصري، وكبير أطبائه، أو كما كان يسمى في كتب ذلك العصر «كشاف عموم الصحة بالديار المصرية».»
29
وقد صدرت هذه الرسالة عن «مشورة الصحة» إلى «حكماء الجهادية»، وهي صورة ترتيب وضعه كلوت بك باش حكماء الجهادية في الوسائط التي يستعملها الحكماء أولاد العرب لمنع الداءين المذكورين من عساكر الجهادية ونسائهم، وجاء في أولها: «قد بلغ أهل مشورة الصحة أن كثيرا من العساكر إذ لم يبادروا بإيقافهما (أي المرضين) بالوسائط القوية لمنعهما عن التقدم والانتشار فاقتضى رأي أرباب المشورة المذكورة أن يأمروك [والكلام هنا موجه لكل طبيب من أطباء الجهادية] بهذه الأوامر ...»
وهذه الرسالة تقع في ثماني صفحات وطبعت بخط دقيق في حجم صغير ليمكن حملها في الجيب والرجوع إلى ما فيها من تعليمات.
أما رسالته في «مرضى الحمى» فهي صغيرة الحجم أيضا، وتقع في 13 صفحة، وقد وجهها كلوت بك «إلى جميع ضباط الصحة أولاد العرب [يقصد المصريين] المقيمين في مصر، وفي غيرها من القرى، والأوردي المنصور»، وقد تكلم فيها عن أسباب الحمى وأعراضها، ومدتها، والحميات المتقطعة، وطرق معالجتها، وتدبير النقه، ووسائط التحرز من الحمى ... إلخ، ومما جاء فيها:
وهذ الحمى تتسلطن أيضا في إقليم مصر كثيرا والشام، وتكون في البلاد القريبة للبحر؛ كبلاد البحيرة ودمياط، ورشيد، وخصوصا البلاد التي على شواطئ البحيرات؛ كالبرلس والمنزلة، وزيادة تسلطنها يكون بعد فيضان النيل لوجود المياه الراكدة المتخلفة من النيل في البرك، وتنتشر كثيرا في هذا الإقليم إذا كان النيل زائدا لكثرة ما يوجد في الأماكن من الرسوب الذي يتخلف من الماء، ومعالجة هذا المرض في الإقليم المصري لا يختلف عن معالجة هذا المرض في الشام، وقد ذكرناها لكم فلا يلزم إعادتها والله الشافي.
وجاء في ختام الرسالة هذا التنبيه:
فعليكم أيها التلامذة العزاز أن تهتموا في مثل هذه العوارض، وتبذلوا جهدكم في التمسك بما ذكرناه لكم من المعالجة الشافية والاحتراسات الصحية كي تصونوا أنفسكم، والعساكر التي أنتم موكلون بحفظ صحتها (كذا) عن بوائق (كذا) الأمراض، والتوسيخ في الأعراض.
وهناك كتابان أخيران من كتب «كلوت بك» يستحقان الالتفات والعناية والدراسة الخاصة هما: «كنوز الصحة ويواقيت المنحة»، و«الدور الغوال في معالجة أمراض الأطفال».
أما الكتاب الأول فقد ألف وترجم لغرض نبيل هو تعليم الشعب المبادئ والتعاليم الصحية ونشرها بين أفراده بأسلوب سهل قريب إلى فهم العامة، وقد وضع هذا الكتاب وترجم لتحقيق هذا الغرض بإشارة ولي الأمر والنعم محمد علي باشا؛ فهو في الواقع نفحة من نفحات تفكيره الفذ، وحسن رعايته لشعبه وحبه لخدمته، جاء في مقدمة هذا الكتاب لكلوت بك: «اعلم أن الطب قد فقد من الديار المصرية بعد وجدانه، وادعى معرفته أناس به جاهلون فظلوا في طغيانهم يعمهون، فكم أسقموا صحيحا؟ وأماتوا عليلا، ومكثوا على ذلك زمنا طويلا، حتى أراد الله إحياء عظمة الرميم، وانتشار فضله العظيم، بولاية صاحب السعادات، أفندينا الحاج محمد علي، أدام الله أمثاله، فأنشأ في مصر جملة مدارس، وأحيا من العلم كل رسم دارس، وكان من أعظمها مدرسة الطب الإنساني التي أسسها حين تشرفت بخدمته، وعلمت فيها جملة أطباء لخدمة عساكره، وأرباب دولته، وألف معلموها في الطب وفنونه كتبا جليلة، وانتفع بها مطالعوها انتفاعات جميلة، ولكن حيث إن مسائلها العلمية عثرة المنال على غير الأطبا، لا يفهمها إلا المهرة الألبا، جمعت هذا الكتاب من مشاهير الكتب الطبية، وتساهلت في ألفاظه ما أمكن ليستفيد منه أهل اللغة العامية، وطالما كان كلام صاحب السعادة يومئ إلى ذلك ويشير، ويرمز بطرف خفي فهمه عسير، فلما تكرر منه ذلك فهمت الإشارة، وبادرت بتحريره ... إلخ.»
30
وجاء في مقدمة هذا الكتاب أيضا لمحرر الكتاب ومصححه الشيخ محمد عمر التونسي ما يلي: ... وبعد فيقول راجي رحمة المنان، محمد التونسي بن سليمان، محرر كتب الطب البشري الآن: لما كانت صحة الأبدان، من أجل ما أنعم به الجواد على العباد، وبدونها تتعطل الأسباب، وعبادة العباد ويبقى الجسم عليلا نحيلا، ويحق لفاقدها أن يكثر بكاء وعويلا؛ إذ لولاها لما اصطدمت الجحافل،
31
ولا قرئت العلوم في المحافل، كان الواجب مراعاتها بقدر الإمكان ... ومرام صاحب السعادة أن يكونوا (أي المصريين) بصحتهم متمتعين، ولجلباب العافية لابسين؛ فلذا أحيي الطب بعد اندراسه، واضمحلال أهله وناسه بجلب كل طبيب نطاسي وحاذق في الطب آسي، وكان أجل من حضر لخدمة سدته الشريفة، وأريكته المنيفة، أبقراط زمانه، وأفلاطون أقرانه، أمهر من قال أنا طبيب، من يكاد الداء إذا رآه بدون معالجة يطيب، حضرة رئيس الأطباء وكشاف عموم الصحة البرية والبحرية أمير اللواء كلوت بك؛ فبذل المجهود في خدمة سعادته بتعليم التلامذة ومداواة المرضى وعمارة المارستان، وألف هذا الكتاب خدمة لصاحب السعادة، والعزة والسيادة، وجعله هدية للعوام ومنحة؛ لأنه جامع لما يحتاج إليه من الوسائط لحفظ الصحة، ولما برز للعيان وسلمه أمير اللواء المذكور إلى حضرة الألمعي اللوذعي الحاذق النجيب، والماهر الحكيم الكيماوي الطبيب، العارف بكثير من اللغات، المنتخب لأكثر ألفاظ الطب من كلام الثقات، ناظر مدرسة الطب الإنساني، الذي لا يوجد في مصرنا له ثاني، المعلم برون، لتمكنه من العربية والفنون الأدبية، وأمره بتهذيبه وتنقيحه، كما أمرني بمقابلته معه وتصحيحه، وأن أجتنب فيه التعمق في الألفاظ اللغوية، ولا أذكر فيه إلا ما اشتهر من الألفاظ وإن كانت عامية، ليعم نفعه العالم والجاهل، والمفضول والفاضل ... إلخ.
32
والكتاب يقع في نحو 400 صفحة، وذكر في أوله فصل موجز في 16 صفحة عن المارستانات في مصر في العصر الإسلامي منقول عن خطط المقريزي، كما استغرق فهرس الكتاب 28 صفحة أخرى.
وقد طبع من هذا الكتاب 1000 نسخة في الطبعة الأولى، ويبدو أن الإقبال كان عليها شديدا، وأنها نفدت في مدى خمس سنوات؛ فقد طبع هذا الكتاب مرة ثانية في بولاق سنة 1265، وهي ثاني سنة تولى فيها عباس الأول حكم مصر، ثم طبعت منه خمسمائة نسخة طبعة ثالثة في بولاق سنة 1271 في عهد سعيد باشا، وجاء في مقدمة هذه الطبعة مما يدل على رواج هذا الكتاب، وكثرة إقبال الناس على شرائه واقتنائه ما يلي: ... هذا ولما تم طبع هذا الكتاب، وظهر للناظرين ما فيه من الصواب، وأنه سهل المأخذ للفوائد الطبية، عري عن التعمية الصناعية، موشح بالأحاديث النبوية، متوج بالآيات القرآنية، تنافس الناس في اقتنائه، ورغب العقلاء في اشترائه، فمدوا إليه أعناق الانتهاب، وجعلوا قنيته من أقوى الأسباب، وجاءوه من الشرق والغرب، وضربوا في الأرض بسببه أي ضرب، فكأن ما حواه هو العجب، وكأن أساليبه ليس لها ضريب في الضرب، فنعق على صرح نسخه غراب البين، فبذل الراغبون فيه العين، حتى صار أثرا بعد عين، ثم كثر السؤال عليه، وطلبوه من كل أوب وجاءوا إليه ، فأكثرهم أخفق مسعاه، ورجع بخفي حنين إلى مأواه، وبعضهم ظفر ببعض نسخ أخرجها الإفلاس، فاشتروه بضعف ما كانت تأخذه به الناس، ثم فقد شخصه وتعذر إليه الوصول، حتى كأنه العنقاء أو الغول، ومكث الأمر على ذلك مدة من السنين، ولم تزل الناس على طلبه ملحين، فصدر الأمر بأن يطبع منه خمسين ...
33
ثم طبع طبعة رابعة في عصر إسماعيل في بولاق سنة 1296، وقال مصححه محمد بن قاسم في مقدمة هذه الطبعة: «وبعد، تم بعون سيد كل منحة طبع هذا الكتاب الموسوم بكنوز الصحة بعدما طبع مرات كثيرة، لمنافعه الجمة العامرة الغزيرة ... إلخ.»
33
ويدل على انتشار هذا الكتاب بين عامة القراء من الناطقين بالضاد في مصر وخارج مصر أنه طبع طبعات أهلية مختلفة؛ فطبع في مطبعة شرف سنة 1302، وفي مطبعة عثمان عبد الرازق سنة 1304، وذلك في عهد الخديو توفيق باشا، وفي المطبعة اليمنية سنة 1321 في عهد الخديو عباس حلمي الثاني، أي أنه ظل يتداول بين أيدي المصريين وينتفع به القراء من العامة ثلاثة أرباع القرن.
وأما الكتاب الثاني وهو «الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال»؛ فقد ألف وترجم أيضا تنفيذا لرغبة محمد علي النبيلة؛ فإنه كما قال «كلوت بك» في مقدمته للكتاب: «لما كان ولي النعم مهتما بعلاج الرعايا، راغبا في كثرة سوادهم وسلامتهم من الأمراض والبلايا، وتحقق لدى سعادته أن الأطفال في الديار المصرية معرضون لجملة أمراض، ويهلك بها أكثرهم حينما تشتد به الأعراض، وذلك من أقوى عدم كثرة السواد، وخلاف ما هو واقع في غيرها من البلاد، نعم وإن كان نفس الإقليم لا يناسب سن الطفولية، لكن عدم اعتقاد الأهالي في الطب هو أكبر بلية، ولا سيما والأمهات والمراضع لا يراعين نظافة الأطفال، ولا يلتفتن لما يليق من العلاج وإن ساء الحال، أمرني أيده الله أن أجمع كتابا مختصرا فيما ينفع الأطفال المذكورة، فجمعت هذا الكتاب امتثالا لأوامره النافذة المنصورة، ورتبته على ثلاثة أقسام: الأول في قانون صحة الأطفال؛ أعني ما ينبغي أن يفعل ليدرأ عنهم الأمراض الثقال، والثاني في أمراضها وعلاجها، والثالث في تراكيب الأدوية التي يجب استعمالها، ولم أضع فيه إلا ما انتخبته من أحسن الكتب المؤلفة أو ما تحققت نفعه بالتجربة والمنفعة ... إلخ.»
وقال أيضا الشيخ محمد عمر التونسي محرر هذا الكتاب ومصححه: «لما كان العلم أفضل مقتنى، وأعظم شيء به اللبيب اعتنى، وكان الواجب على العاقل التحلي بلطايفه ليخرج بها من الظلمات إلى النور ... وكان من أهمه بعد معرفة ما يجب به الإيمان، علم الطب الذي ستنار بدر في هذا الزمان بمراحم صاحب السعادة الداورية، والسيادة الخديوية صاحب الهمم السنية، أفندينا الحاج محمد علي، فأحيا الفضائل بعد اندراس رسمها، وكان أجل أطباء حضرته، ومفتش عموم صحة أرباب دولته، وأهل إيالته، وخادم أريكته الشريفة وحضرته، أمير اللوا كلوت بك، فألف خدمة لسعادته جملة تآليف وضع فيها كل قول مشهور لطيف، لكن لما كان البيك المذكور يعلم شفقة سعادته على رعاياه، وأن نجاتهم من الأمراض غاية ما يتمناه، ألف مختصرا جليلا، فائقا جميلا فيما يصلح للأهالي، لينفع به المقدم والتالي، وسماه «كنوز الصحة، ويواقيت المنحة»، وعرضه على أعتابه الكريمة، وذاته الشفوقة الرحيمة، فوقع من سعادته موقع القبول وبلغ البيك المذكور من رضاه القصد والمأمول.»
لكن لما كانت مصر مدينة وخيمة، وأن ما يولد بها من الأطفال يصاب بأمراض ذميمة، أمره أيده الله أن ينتخب مختصرا يجمع فيه ما يصلح للأطفال من العلاج، وما يذهب عنهم السقم الذي طغى عليهم وهاج، لكمال شفقته على الصغير والكبير، فشمر كلوت بك المذكور عن ساعديه، وجمع هذا المختصر ووشحه بجميع ما يحتاج في مرض الأطفال إليه، وسلمه للشاب الأمجد الحكيم الأول، محمد شافعي أفندي، فترجمه من اللغة الفرنساوية إلى العربية، واجتهد في الوقوع على المعنى فلم يخطئ سهمه الرمية، فجاء كتابا صغير الحجم كبير العلم، وسميته «الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال ... إلخ».
34
وقد طبع هذا الكتاب في بولاق في ربيع الثاني سنة 1260 في 132 صفحة من القطع الصغير، وإتماما للفائدة رأى محمد علي أن يترجم هذان الكتابان إلى اللغة التركية، فترجمهما عن اللغة العربية مصطفى أفندي الشركسي، وطبع الأول في بولاق سنة 1261 تحت عنوان «ترجمة كنوز الصحة»، وطبع الثاني في نفس المطبعة سنة 1260 تحت عنوان «ترجمة تربية الأطفال».
35 (2) الدكتور «برون»
Dr. Perron
تخير الدكتور كلوت كما ذكرنا نخبة من أطباء أوروبا وعلمائها الممتازين ليكونوا أساتذة المدرسة الطبية الجديدة، وكان من بينهم «الأستاذ برون الكيماوي المعروف من مدرسة باريس»
36
لتدريس مادتي الكيمياء والطبيعة.
وكانت الصعوبة الكبرى التي اعترضت سبيل كلوت بك كما سبق أن ذكرنا هي جهل الأساتذة باللغة العربية وجهل التلاميذ باللغات الأوروبية عامة، وقد عرفنا كيف تغلب على هذه الصعوبة باستخدام مترجمين للنقل عن الأساتذة ولترجمة الكتب.
غير أن أستاذا واحدا استطاع - كما يبدو - أن يذلل هذه العقبة وحده؛ فاستعان ببعض الألفاظ العربية - ولا شك - عند شرح دروسه، ثم استعان أول الأمر بأحد مترجمي المدرسة من السوريين - وهو يوحنا عنحوري - ليترجم له محاضراته في علم الطبيعة بعد سنوات قضاها في الدرس والبحث والاتصال ببعض المحررين والمصححين من شيوخ الأزهر، والتتلمذ عليهم استطاع أن يترجم بنفسه محاضراته في الكيمياء.
ذلك الأستاذ المستشرق هو الطبيب الكيماوي الدكتور «برون»، وهو الوحيد من بين جميع الأساتذة الأجانب في مدارس محمد علي المختلفة الذي كان يعرف اللغة العربية ويعنى بالبحث في كتبها، والترجمة عنها وإليها.
كان «برون» عالما بحاثة بكل ما تحمل هاتان الكلمتان من معنى؛ فلم يكتف بعمله التعليمي الوظيفي فيغمض عينيه عن الحياة التي تحيط به، وهي حياة جديدة في بلد غريب، وبين أناس يختلفون عن عشيرته من الفرنسيين الاختلاف كله في الدين والأخلاق والعادات والملابس والثقافة ... إلخ ... إلخ، ولكنه وهب وقته كله للبحث العلمي ولنوع خاص من البحث العلمي هو الحياة الثقافية قديما وحديثا في الشرق عامة وفي مصر خاصة، فشارك في حركة الترجمة والنشر التي نشطت وقتذاك في مصر، وكانت له جهود جليلة في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية، وعن الفرنسية إلى العربية، وكانت له نظرات ناقدة نافذة - رغم مرارتها - إلى صميم الحياتين الثقافية والسياسية في مصر حينذاك، ولهذه النظرات قيمة عظيمة جدا؛ لأنها صادرة عن أجنبي يدرك العيب الذي لا يدركه صاحب البيت، وعن عالم يستطيع التحليل والمقارنة، ويجيد الشرح والوصف، وإدراك الأسباب والمسببات.
وقد سجل «برون» هذه الملاحظات في خطاباته التي كان يرسلها أثناء مقامه في مصر إلى صديقه المستشرق الشهير
Jules Mohl
ناموس الجمعية الآسيوية وعضو المجمع الفرنسي
L’Institut de France
في باريس، وقد نشر
J. Mohl
بعض هذه الخطابات في الجريدة الآسيوية
Journal Asiatique
وبقي البعض الآخر دون أن ينشر حتى انتقل إلى ابن أخيه مسيو «أ. دي مول
O. de Mohl » بصفته الوريث لعمه.
وفي سنة 1908، كان أ. دي مول وزيرا مفوضا ووكيلا لألمانيا في صندوق الدين العام بالقاهرة، فعثر بين أوراق عمه على أربع عشرة رسالة بخط الدكتور «برون» مرسلة من مصر إلى «جول مول» في باريس، فقدمها لصديقه المرحوم يعقوب أرتين باشا وكيل وزارة المعارف وقتذاك، وعضو المجمع المصري
l’Institut Egyptien ؛ عله يجد بها ما يهم مصر أو المجمع المصري، وذلك قبل إرسالها إلى باريس لتضم إلى أوراق جول مول المحفوظة بالمجمع الفرنسي.
وقد نشر أرتين باشا هذه الخطابات، ومعها مقدمة تحليلية سنة 1911 تحت هذا العنوان:
Yacoub Artin Pacha. Lettres du Dr. Perron, du Caire et d’ Alexandrie, à M. Jules Mohl, à Paris (1838-1854) Le Caire 1911.
وفي هذه الخطابات صور من نشاط «برون» العلمي في الترجمة والنشر.
ودكتور «برون» فرنسي الأصل، ولا نعرف شيئا كثيرا عن حياته الأولى في فرنسا قبل أن يحضر إلى مصر، غير أنه يبدو أنه عني وهو في باريس - إلى جانب دراساته الطبية العلمية - بدراسة اللغة العربية، وتتلمذ إذ ذاك على كبير مستشرقي فرنسا «سلفستر دي ساسي
A. Silvestre de Sacy » كما تتلمذ على المستشرقين «جان جاك كوزين دي برسيفال» الأب، و«أرمان كوزين دي برسيفال» الابن.
37
ولسنا نعرف بالتحديد تاريخ مقدمه إلى مصر، وإن كان «كلوت بك» يذكره ضمن الأساتذة الأول لمدرسة الطب المصرية بأبي زعبل، فإذا صح أنه بدأ عمله بهذه المدرسة وقت إنشائها، فإنه يكون قد حضر إلى مصر سنة 1827 / 1242-1243 أو قبلهما بقليل.
وظل «برون» يدرس مادتي الطبيعة والكيمياء في مدرسة الطب حتى بعد نقلها إلى قصر العيني.
ويبدو من رسائله إلى صديقه «مول» أنه كان فقيرا رقيق الحال؛ فقد كتب إليه في خطابه المرسل من الإسكندرية بتاريخ 10 أغسطس سنة 1836 يقول: «أشر علي بما ترى أنه خير وأفضل لي أن أعمله لأنني فقير لا أملك إلا مدادي ...»
38
وقال في خطاب آخر أرسله لصديقه من القاهرة في 18 سبتمبر سنة 1839: «وأما أنا فقد عهد إلي بإدارة مدرسة الطب، وهذا المنصب الجديد قد عاد علي بشيء من التحسين المادي - أعني المالي - غير أن كل شيء هنا وقتي ورهين بتقلب الأحداث والأشخاص لدرجة أنني لو كنت أعرف أنني سأجد في فرنسا - في الحال - نصف ما أجمعه هنا لرحلت إليها توا ...»
39
ونجده في نفس الخطاب قلقا جدا لاهتمامه بطبع كتاب «الأنساب» الذي ترجمه عن العربية إلى الفرنسية، وكان قد كلف صديقا له في باريس اسمه «مسيو دوبرات
M. Duprat » أن يقوم عنه بنشره، يقول «برون» في خطابه لمول - وفيما يقول دليل واضح على رقة حاله: «لقد تركت له مسألة النفقات وتقديرها، وإني أرى أن كل شيء غير مناسب الآن للقيام بهذا النشر الذي أريده (وأريده أن يتم بأقل نفقات ممكنة، وذلك دون إهمال ما يتطلبه ظهور الكتاب)؛ إذ إنه قلما تصرف لنا مرتباتنا، والحكومة مدينة لنا بمرتب سنة؛ فإذا كان مسيو دوبرات يثق في الثقة الكافية، فإني أرجو أن يتولى الطبع في الحال، واعدا إياه أن أقوم بسداد المبلغ منجما كلما صرفت لنا الحكومة ... وإلى هذا فإن مرتبي قد زاد؛ فقد كنت أتقاضى ثلاثة أكياس فجعلها الباشا خمسة ...»
40
ظل الدكتور كلوت بك مديرا لمدرسة الطب المصرية حتى سنة 1834 حيث تخلى عن منصبه للدكتور «دفينو»
Dr. Duvigneau ، وكان أستاذ الباثولوجيا والعيادة الداخلية، وفي سنة 1839
41
عين الدكتور «برون» مديرا لهذه المدرسة.
ولبث «برون» مديرا لمدرسة الطب ست سنوات، وفي سنة 1261 / 1845 أنعم عليه محمد علي باشا برتبة قائمقام، وفي السنة التالية (1846)
42
استقال من منصبه، وعاد إلى فرنسا، فأقام في باريس ثماني سنوات، ثم شعر بالحنين إلى مصر فعاد إليها في أواخر سنة 1853، حيث عمل كطبيب حر في مدينة الإسكندرية،
43
ولا نعرف متى غادر مصر ثانية إلى وطنه، ولكننا نعلم أنه مات في باريس في 11 يناير سنة 1876 في نفس السنة التي توفي فيها صديقه ومراسله العلامة ج. دي مول.
وقد كتب المسيو «أرنست رينان
M. Ernest Renan » مرثية للرجلين في التقرير المقدم عن أعمال الجمعية الآسيوية لسنتي 1875-1876.
44
قال رينان في رثائه للدكتور «برون»: «في الحادي عشر من يناير اختفى أيضا رجل ترك في تاريخ دراستنا تذكارا باقيا، وأعني به الدكتور «برون» وهو واحد من أوائل الملتحقين بهذه الفرقة من الرجال المستنيرين المقاديم الذين عضدوا - وهم في مصر - مشاريع محمد علي لتحضير هذا البلد.» «وبرون لم يدرس الشرق كباحث فقط، وإنما كان يؤمن - ككل أفراد الجيل الذي كان من أبنائه - بالشرق، كما كان يأمل في انبعاثه من جديد، وقد عمل هناك في إخلاص نادر.
وكان إنشاء طب عربي فرنسي جزءا من عمله، وقد أدى خدمات من نفس النوع لمنشآت مدارسنا في الجزائر، وكان يحب العرب، ويعتقد في إمكان ربطهم بالحضارة الأوروبية، ممتلئا في ذلك بعواطف خيرية، ومتشبعا بمبادئ فلسفة عاطفية ...»
45
ذكرنا فيما سبق أن «برون» كان يضمن خطاباته آراءه عن الحياتين السياسية والعلمية في مصر. وآراؤه عن الحياة السياسية لا تعنينا هنا، وإنما يعنينا أن نعرض لآرائه عن الحياة العلمية ففيها مساس قوي بتاريخ الترجمة في ذلك العصر.
كان محمد علي قد أرسل البعوث إلى أوروبا، وأنشأ المدارس الحديثة في مصر، وكانت جهود خريجي المدارس والبعثات مركزة أول الأمر في ترجمة المؤلفات الأوروبية، وتلا هذه الجهود جهود أخرى لنشر بعض المؤلفات العربية القديمة الهامة، وقد أرخ «برون» لهذه الحركة - حركة الترجمة والنشر - تأريخا لطيفا مفيدا؛ فأرسل لصديقه «ج. مول» في سنة 1842 خطابا تحدث فيه عن المدارس الجديدة ومطبعة بولاق، فنشره في الجريدة الآسيوية - المجموعة الرابعة، المجلد الثاني سنة 1843 - تحت عنوان:
Lettre sur les écoles et l’imprimerie du Pacha d’Egypte par m.a. Perron à m.j. Mohl. 22 Octobre 1842 .
46
وقد استطاع «برون» أن يندمج في الوسط العلمي المصري بحكم اشتغاله بالتدريس، وبحكم معرفته باللغة العربية، غير أن معظم الأجانب الموجودين في مصر وقتذاك للمساهمة في نهضة محمد علي التعليمية والإصلاحية كانوا يجهلون اللغة العربية، وهم قوم مثقفون يحبون البحث والقراءة، وليس في مصر مكتبات إفرنجية أو محال لبيع الكتب الأجنبية؛ لهذا كون هؤلاء الأجانب في القاهرة جمعية أسموها «الجمعية المصرية
Societé Egyptienne »
47
تحدث عنها «برون كثيرا في خطاباته لصديقه «مول»، فذكر أنها أسست في سنة 1835 وكان غرضها الأول إنشاء مكتبة تضم أكثر عدد ممكن من الكتب، وخاصة ما يتحدث منها عن الشرق: تاريخه وجغرافيته، وأديانه، وعاداته ... إلخ ... إلخ.»
وكانت مالية الجمعية تتكون من: (1)
اشتراكات الأعضاء، واشتراك العضو في السنة مائة وخمسة قروش. (2)
هبات الرحالة الأوروبيين الذين يمرون بالقاهرة؛ فإن أي سائح أوروبي كان يستطيع أن يتردد على الجمعية ويتمتع بالقراءة في مكتبتها على شرط أن يقدمه للجمعية أي عضو من أعضائها.
وكان هؤلاء السائحون يقدرون ما تؤديه الجمعية من فوائد ثقافية للجاليات الأوروبية في القاهرة؛ فكانوا يتركون - عند رحيلهم - بعض الجنيهات - كهبة - في صندوق الجمعية.
وقد تطورت أغراض الجمعية بعد نحو ست أو سبع سنوات من تأسيسها، فأصبح من أغراضها طبع ونشر الكتب المتصلة بالشرق. يقول «برون» عضو الجمعية وسكرتيرها في خطابه المرسل من القاهرة بتاريخ 28 أكتوبر سنة 1842: «وعندنا الآن - تحت الطبع - مذكرات شيقة جدا عن الموقع الحقيقي لبحيرة قارون بالفيوم، وعن حدودها، والعلاقات القديمة بينها وبين فيضان النيل ... إلخ، وهذا الكتاب من وضع «مسيو لبنان» الرئيس الحالي للجمعية المصرية ...»
48
وواضح من هذا الخطاب أن رئيس الجمعية في سنة 1842 هو المهندس الفرنسي الشهير مسيو «لينان»، وكان سكرتيرها في تلك السنة وفي سنوات مقبلة هو الدكتور «برون»، وبفضل صلته بجولي مول وافقت الجمعية الآسيوية على أن تقدم لزميلتها الجمعية المصرية المساعدات الممكنة لبيع كتبها ومنشوراتها في باريس، ويقول برون لصديقه في نفس الخطاب: «اطلعت الجمعية على خطابكم الذي تعرضون فيه مساعدة الجمعية الآسيوية لتسهيل بيع الكتب التي سننشرها، وقد قبل عرضكم هذا بكل سرور، وإني أقدم لكم شكر الجميع ... إلخ.»
وقد اعترضت هذه الجمعية صعوبات كثيرة؛ ففي عهدها الأول (ما بين 1835 و1842) قام نزاع شخصي بين رئيس الجمعية دكتور فالن
Dr. Walne
وسكرتيرها العام دكتور أبوت
Dr. Abbot ،
49
وأدى هذا النزاع إلى انفصال بعض الأعضاء وتكوينهم جمعية جديدة، أسموها الجمعية الأدبية
Association Littéraire ، يقول برون في خطابه السابق: «وهذه الجمعية المنفصلة تضم نحو الستين عضوا، وقد دفعوا رسم التأسيس، وتنوي هذه الجمعية أن تعمل على النشر وخاصة النصوص الهيروغليفية، وتحاول أيضا إنشاء مكتبة».
أما الجمعية المصرية فقد انتهت حياتها إلى الانحلال في عهد متأخر، فضمت مكتبتها القيمة إلى المكتبة الخديوية (دار الكتب المصرية الآن) في سنة 1873 أو سنة 1874 تنفيذا لوصية أعضائها الأخيرين حككيان بك
Hekekian Bey
ومسيو توربون
M. Thurborn
وكاني بك
Cany Bey .
ولم يقتنع «برون» باتصاله بأنداده العلماء الأوروبيين المقيمين في مصر والوافدين عليها؛ لأنه كان معنيا بالبحث في الكتب العربية وترجمتها والكتابة عن مواضيع مختلفة من تاريخ الشرق، وقد أتى إلى مصر وعربيته ضعيفة دون شك، فعمل على أن يزيد معرفته بهذه اللغة، ولم يلبث أن وصفه صديقه وأستاذه الشيخ محمد عمر التونسي بأنه «العارف بكثير من اللغات، المنتخب لأكثر ألفاظ الطب من كلام الثقات، «المتمكن» من العربية والفنون الأدبية.»
50
وكان في مدرسة الطب التي درس فيها وتولى نظارتها هيئات مختلفة تعمل مشتركة لترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية، أهمها هيئة المترجمين وهيئة المحررين والمصححين، وأعضاء الهيئة الأخيرة كلهم من خيرة مشايخ الأزهر المعروف عنهم الدقة في البحث والشغف بالقراءة، فكان منهم في مدرستي الطب البشري والطب البيطري الشيخ محمد عمر التونسي، والشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، والشيخ أحمد حسن الرشيدي، والشيخ محمد الهراوي، والشيخ سالم عوض القنياتي، والشيخ مصطفى كساب ... إلخ.
وقد اتصل الدكتور برون بهؤلاء المشايخ وأفاد منهم، وقد كان له رأي خاص عن علماء الأزهر في ذلك الوقت، فيه - رغم قسوته ومرارته - بعض الخطأ وبعض الصواب مما سنعرض له بالتحليل الوافي عند كلامنا عن المحررين والمصححين، وعند تقديرنا العام للترجمة في ذلك العصر، غير أن اثنين فقط من علماء مصر الذين اتصل بهم برون حازا إعجابه، وتتلمذ عليهما وأشار إليهما في خطاباته بالإعجاب والإجلال، واعترف لهما بالأستاذية؛ فقد أعاناه وساعداه في بحوثه وترجماته العلمية المختلفة، وهما: الشيخ محمد عياد الطنطاوي، والشيخ محمد عمر التونسي.
وقد عني «برون» كمؤلف بالمادتين اللتين كان يدرسهما في مدرسة الطب، وهما الكيمياء والطبيعة؛ فوضع فيهما كتابين كبيرين ترجما إلى اللغة العربية؛ أما الكتاب الأول فهو «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية»، ألفه «برون»، وألقاه على التلامذة أولا بأول، فاستفادت منه في علم الكيمياء فوائد جمة، فلما نقلت مدرسة الطب إلى قصر العيني، وعين «برون» ناظرا لها، وكان إذ ذاك ضرب بعطن في اللغة العربية، وصار يفهم النكات الأدبية، فبحث في القواميس على الألفاظ الطبية والكيماوية، وأسهر ليله في نفع المدرسة بكل فكرة وروية، فلما ووفق على طبع الكتاب قام هو بترجمته بنفسه، وأشرف على مراجعته الشيخ محمد الهراوي، فراجع ثمانيا وخمسين ملزمة، ثم توفي فأشرف على مراجعة بقية الكتاب أستاذ «برون» وصديقه الحميم الشيخ محمد عمر التونسي، الذي يقول في مقدمة الكتاب: «على أن جل هذا الكتاب كان أملي علي من قبل ذلك، وصححت أكثره بلا مشارك، ولم آل جهدا في تنقيحه والله المستعان، وساعدني في ذلك معرفة مؤلفه باللغة العربية؛ لأني قابلت كل مشكلة معه على أصوله الفرنسية ...»
51
وقد ساعده في هذه المراجعة تلميذ «برون»، وخلفه في تدريس مادة الكيمياء بمدرسة الطب الشيخ درويش زيدان، والدكتور حسين غانم الرشيدي.
والكتاب ضخم جدا؛ فإنه يقع في 3 أجزاء، عدد صفحات الأول 676، والثاني 494، والثالث 440، وألحق بالجزء الأخير ذيل في 119 صفحة أخرى لشرح الآلات الواردة في الكتاب، جاء في مقدمته ما يلي: «... وبعد فلما من الله سبحانه وتعالى بإتمام كتاب الكيمياء للماهر في جميع الفنون، ناظر مدرسة الطب البشري الشهير برون، وكانت فيه أعمال جمة تحتاج إلى آلات معرفتها مهمة، وكان لم يذكر في الكتاب إلا القليل مع أن عليها في الأعمال التعويل، وكان عدم ذكر جميعها في صلب الكتاب مما يحصل به الإطناب، فقصد أن يجمع جميع الأشكال ويجعلها كالذيل ليكون بها الإكمال، ولأجل أن تكون كلها مجموعة في ورقات قليلة لتسهل مراجعتها في المهمات الجليلة، فجمعها في هذه الورقات، ووضحها أتم توضيح كما هو المقصود للمراجعات، وأمرني أن أرتبها على حروف المعجم؛ لتكون في المراجعة أسهل وأقوم، فامتثلت أمره لما فيه من الفوائد ... إلخ.»
ويسرنا أن نشير هنا إلى أن «برون » وتلاميذه مصححي الكتاب قد وفقوا توفيقا كبيرا في ترجمة أسماء كثير من هذه الآلات؛ ففي هذا الملحق أسماء كثير من الآلات لا زالت تستعمل حتى الآن في كتب الكيمياء الحديثة منذ وفق هؤلاء الرواد في تخيرها، ومنها مثلا: الأنبوبة، الأنبيق، البودقة، الجفنة، جهاز تعيين الوزن النوعي للهواء والغازات، دورق ولف، المخبار، المرشح ... إلخ.
52
وكان برون قد أعد لكل جزء فهرسا خاصا، ولكنه رأى بعد إتمام الكتاب أن يجعل له فهرسا عاما اقتداء بمؤلفي أوروبا، يقول الشيخ عمر التونسي: «أما بعد؛ فإن كتاب الكيمياء الآن وقد تم، ومسك ختامه على المدارس قد عم، وكان قد عمل لكل جزء منه فهرسة مستقلة، وحيث إن أهل أوروبا يجعلون لمثل هذا الكتاب النفيس فهرسة جامعة أمرني مؤلفه أن أتتبع الفهارس الثلاث، وأجعلها فهرسة عامة نافعة اقتداء بأهل أوروبا في مؤلفاتهم، وأن أرتب الفهرسة المذكورة على أوائل حروف المعجم لتكون لدى المراجعة أسهل وأحكم، فأجبته إلى ذلك حسب مرامه ... إلخ.»
53
وقد تم طبع الجزء الأول في بولاق في سنة 1258، وتم طبع الجزء الثالث في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1260.
أما الكتاب الثاني فقد سماه برون «الأزهار البديعة في علم الطبيعة»، وقال في مقدمته: «إني لما استخدمت بمدرسة الطب البشري معلما للكيمياء من مدة سنتين وقمت بما وجب علي فيهما بما تقر به العين، طلب مني أن أضم لتعليم علم الكيمياء علم الطبيعة فامتثلت الأمر واقتطفت من روضة كتب هذا الفن كل زهرة بديعة، وجمعت هذا الكتاب من أحاسن الفن المذكور ...» ثم يقول: «ثم إني لفهمي بعض الألفاظ العربية تجنبت من الألفاظ الفرنساوية ما يعسر ترجمته إلى العربية، هذا وقد رتبت هذا الكتاب على جزأين، أولهما في العلوم الطبيعية وثانيهما في الكائنات الجوية ...»
54
وقد ترجم هذا الكتاب يوحنا عنحوري، وأشرف على مراجعته وتحريره الشيخ محمد الهواري، وطبع منه ألف نسخة في بولاق سنة 1254، أي قبل أن يتم طبع الكتاب السابق بنحو 6 سنوات، غير أن هذا الكتاب كان أول كتاب في علم الطبيعة ترجم إلى اللغة العربية؛ فلهذا أقبل عليه تلاميذ المدارس، «وانكبوا عليه ما بين مطالع ودارس، وهبت عليه من القبول نسمة صبا، فتناهبته الأقطار وبددت نسخه أيادي سبأ، واحتيج إلى إحياء مواته، ونشر رفاته»
55
فصدر الأمر بطبعه طبعة ثانية في عهد عباس الأول، فطبع في بولاق سنة 1269.
والآن آن لنا أن نترك الحديث عن برون كمؤلف لنستأنف الحديث عنه كمترجم وعن جهوده في الترجمة في الفصول التالية.
الفصل الثالث
المترجمون
تقدمة عامة
سبق أن ذكرنا أن سنة 1226 / 1811، وهي السنة التي تمت فيها مذبحة المماليك، تعتبر بحق الحد الفاصل بين عهدين: العهد التمهيدي من عصر محمد علي - وفيه بذل الجهد للقضاء على كل العقبات التي تعترض سبيله - وبين عهد الإصلاح، وذكرنا أيضا أن محمد علي كان يرى أن وسيلته للإصلاح هي النقل عن الغرب، وأن «كل ما هو مفيد من النظم الغربية قد كتبه أصحابها، فإذا ترجم إليه استطاع أن يسير طبقا له».
1
وهنا اعترضته مشكلة خطيرة: أين الكتب التي تترجم؟ وأي هذه الكتب أحق بالترجمة؟ وأين في مصر العارفون باللغات الأوروبية والشرقية ليقوموا بترجمة هذه الكتب؟ وأخيرا، أين أداة طبع هذه الكتب ونشرها؟
لقد كانت مصر حينذاك خلوا من هذه الأدوات؛ إذ لم يكن بها كتاب واحد أوروبي مذ أخذت الحملة الفرنسية معها كتبها وهي تجلو عن مصر، ولم تكن في مصر مدرسة واحدة تعنى بتدريس أية لغة أوروبية، ولم يكن بين المصريين من له معرفة بلغة من هذه اللغات الأجنبية، وكانت المطبعة أخيرا - أداة الطبع والنشر - قد رحلت مع الفرنسيين عند خروجهم.
غير أن هذا العطل من العلم الأوروبي الحديث وأدواته، ومقوماته، لم يدفع اليأس إلى نفس محمد علي، بل على العكس دفعه إلى التفكير والتقدير، والإقدام والتنفيذ، ولكن من يبغي الثمرة لا بد أن يمهد الأرض ويفلحها ويرويها، ولا بد أن يبذر الحب، ويرعاه، وينميه، وهكذا فعل محمد علي؛ فقد مكث نحو العشر سنوات يمهد الأرض التمهيد الأول، ثم لبث نحو عشر سنوات أخرى يبذر الحب، ويرعاه، وينميه.
ففي الفترة التالية لسنة 1226 / 1811 أرسل بعوثه الأولى إلى إيطاليا (1228-1231 / 1813-1816) لدراسة فنون وعلوم مختلفة أهمها الطباعة، وقبيل عودة عثمان نور الدين من «أوروبا» (عاد في سنة 1232 / 1817)، أوصاه محمد علي أن يشتري مجموعة كبيرة من الكتب الأوروبية كما سبق أن ذكرنا.
وفي 14 ذي الحجة سنة 1235 / 22 سبتمبر 1819 صدر أمر محمد علي باشا إلى كتخدا بك «بتعيين أحد القسيسين لإعطاء دروس في اللغة الطليانية والهندسة لبعض التلامذة الذين كانوا بالقلعة، وأن يخصص له محل للتدريس في القلعة، وكان هذا أول أمر صدر بتعلم لغة أجنبية بمدارس مصر.»
2
وفي سنة 1237 / 1821 أسست مطبعة بولاق، وفي سنة 1238 / 1822 كان أول كتاب طبع في هذه المطبعة «قاموس طلياني وعربي» من وضع الأب رفاييل زاخور راهبة.
بهذه التمهيدات خطا محمد علي الخطوات البطيئة التي استغرقت عشر سنوات (من 1811-1821) نحو تمهيد الأرض التمهيد الأول؛ فأرسل إلى إيطاليا من تخصص في فن الطباعة وهو نيقولا مسابكي، وأحضر بعض الكتب، وأنشأ المطبعة، وساعد على وضع القاموس الأول ليعين الترجمة عن اللغة الإيطالية، وهي أكثر اللغات الأوروبية انتشارا وذيوعا واستعمالا في مصر وقتذاك، وبقي التمهيد الثاني، وهو إيجاد المترجمين، ولم يكن في المصريين من يصلح للقيام بهذا العمل غير عثمان نور الدين أحد أعضاء بعثته الأولى، فعين في سنة 1237 / 1821 أمينا للمكتبة الموجودة في قصر إسماعيل باشا ببولاق، «وألحق به بعض المترجمين (كذا) ليترجموا «كتب الفنون الحربية وسائر الصنائع»، وبعض التلاميذ ليدرسوا الهندسة واللغات العربية والتركية والإيطالية».
3
غير أن عثمان نور الدين ما كان يستطيع أن يقوم بالعبء وحده، كذلك لم تكن المدارس الجديدة قد أنشئت لتخرج من يستطيع الترجمة، ومع هذا كان الجيش الجديد قد بدئ في تكوينه منذ سنة 1230 / 1815، وكانت الإدارات والمصانع والمنشآت الجديدة في سبيلها إلى التكوين، ومحمد علي يرى أن هناك كتبا أوروبية تنير له سبيل الإنشاء والتكوين، وأنه لا بد من ترجمتها، فلا مانع لديه إذن أن يستعين بمن يستطيع الترجمة من السوريين المقيمين في مصر، وستقوم هذه الطائفة بواجبها خير قيام حتى تنشأ المدارس وتخرج الدفعات الأولى، وحتى ترسل البعثات، ويعود أعضاؤها ، فيكون من خريجي المدارس، وأعضاء البعثات الرعيل الثاني من المترجمين.
وقد كان الرعيل الأول من السوريين قليل العدد، محدود المعرفة والكفاية، وكان الرعيل الثاني من خريجي المدارس وأعضاء البعثات يقوم بالترجمة كعمل إضافي إلى جانب العمل الأساسي كالتدريس، أو الحكم، أو العلاج الطبي، أو الإشراف على المنشآت؛ ولهذا كان لا بد من إيجاد طائفة ثالثة متخصصة في الترجمة، فأنشئت مدرسة الألسن، وكون خريجوها الرعيل الثالث من المترجمين.
وقد كانت هذه الرعال الثلاث تقوم بالترجمة عن اللغات الأوروبية وخاصة الفرنسية والإيطالية إلى اللغة العربية أو التركية، غير أن محمد علي كان يريد أحيانا أن يطلع على بعض الكتب الخاصة، وكثيرا ما كانت الكتب تترجم بإشاراته وإجابة لرغبته، ولغة محمد علي الأصلية هي التركية، ومعظم رجال جيشه وحكومته الأولى كانوا يجيدون التركية دون العربية؛ لهذا ظهر في تاريخ الترجمة في عصر محمد علي رعيل رابع من موظفيه عهد إليهم بترجمة كثير من الكتب عن العربية، والقليل منهم ممن كانوا على علم بإحدى اللغات الأوروبية كانوا يترجمون عنها إلى التركية.
أمام اضطهاد مراد وإبراهيم نزح من مصر كثير من السوريين المسيحيين، كذلك خرج مع الحملة الفرنسية عدد كبير منهم خوفا من اضطهاد كانوا يتوقعونه من الحكومة العثمانية بعد استعادة مصر، من الصنف الأول أنطون فرعون قسيس معلم الديوان وإخوته، ومن الصنف الثاني طائفة المترجمين في عهد الحملة.
ولكن يبدو أن هذه الفترة التي انتهت بتغلب محمد علي على صعوباته، وبدئه عهد الإصلاح كانت فترة مناسبة جدا لعودة وهجرة كثيرين من السوريين المسيحيين؛ ففي هذه الفترة كانت أوروبا - وخاصة فرنسا - ميدانا لاضطرابات وقلاقل عنيفة سببتها حروب نابليون التي انتهت بعزله ونفيه في سنة 1815، وعودة الحكم في فرنسا إلى الملكية القديمة، وإن كان مؤتمر «فينا» لم يقض تماما على عوامل الاضطرابات والثورات في ممالك أوروبا، فستقوم ثورات أخرى في معظم هذه الممالك في سنتي 1830 و1848، وفي هذه الفترة أيضا انتهى النزاع بين محمد علي وبين جميع الهيئات التي كانت تعترض سبيله، وبدأ في مصر عهد أمن وهدوء وطمأنينة.
عاد إذن من أوروبا إلى مصر بعض من غادرها من السوريين الذين ارتحلوا مع الحملة، وهاجر إليها من سوريا نفر آخرون، وذلك في الوقت الذي بدأ فيه محمد علي يعد العدة لإنشاء مطبعته ومدارسه، وفي سنة 1827 أنشئت مدرسة الطب المصرية، وكان كل أساتذتها من الفرنسيين والإيطاليين، وعانى كلوت بك كما ذكرنا صعابا كثيرة في التغلب على صعوبة جهل كل فريق من الأساتذة والطلاب بلغة الفريق الآخر، وهنا لجأ محمد علي، ولجأ كلوت بك إلى الاستعانة بمن في مصر من السوريين الذين يعرفون العربية واللغات الأوروبية. (1-1) الأب أنطون رفاييل زاخور
كان أول هؤلاء المترجمين السوريين شخصية فذة عرفناها من قبل معرفة جيدة أثناء كلامنا على الترجمة العلمية في عهد الحملة الفرنسية،
4
فقد ذكرنا هناك جهود هذا العالم في الترجمتين الرسمية والعلمية، وعرفنا أنه كان العضو الشرقي الوحيد في مجمع «نابليون»، وأنه كان المترجم الأول بديوان «مينو»، ولم يرحل الأب رفاييل مع رجال الحملة كما رحل غيره من السوريين، بل بقي في مصر نحو سنتين أخريين اشتغل في أثنائهما سكرتيرا لرئيس طائفته الدينية الأب باسيليوس عطا الله.
5
غير أن رفاييل كان ذا نفس طموحة وآمال عريضة، وقد ارتقى في عهد الحملة الفرنسية مكانا عليا في مصر؛ فكان من رجال العلم والحكم والدولة، فتعرف إلى شخصيات فذة؛ ك «نابليون»، و«ديزيه»، و«كليبر»، و«مينو» ... إلخ ممن اشتركوا في صنع تاريخ مصر في مفتتح القرن التاسع عشر، وقد كان في تلك الفترة دائم العمل دائب النشاط والإنتاج، فهل يقبع في مركزه الديني الجديد المحدود الآفاق؟ كلا لم ترض نفس رفاييل بهذا الركود بعد الحركة، ولم يكن في ظروف الحكومة الجديدة بعد أن عادت مصر لحكم العثمانيين مجال لإظهار نشاطه السياسي أو العلمي، فولى رفاييل وجهه شطر فرنسا من جديد، وأرسل في مدى هاتين السنتين خطابين
6
إلى صديقه القديم «نابليون بونابرت».
وفي الخطاب الأول - وتاريخه 14 مارس 1802 - تحدث رفاييل إلى «نابليون» بأنه قد اعتزم أن يكرس حياته لخدمة الجمهورية الفرنسية تحت حكم القنصل الأول، وبعد إرسال هذا الخطاب بقليل وفد على مصر «المسيو سبستياني» رسولا دبلوماتيا من حكومة فرنسا لدراسة الحالة الجديدة في هذه البلاد، وقد اتصل أثناء مقامه بالقاهرة بكثير من مشايخ المصريين، ورجالتها، وخاصة من كان له صلة بالحملة، وقد قدم «سبستيان» لبعض هؤلاء المشايخ صورة نابليون
7
مهداة منه إلى كل منهم، وكان رفاييل ممن حظي بهذا الشرف، وقد فرح بهذا الإهداء كل الفرح؛ إذ اعتبره فرصة طيبة لتجديد صلته بعاهل فرنسا الجديد؛ ففي 20 نوفمبر سنة 1802 أرسل إلى نابليون خطابا ثانيا، شكره فيه على هديته، وجدد تقديم خضوعه للقنصل الأول الذي لقبه في خطابه بملاك السلام
Angelo di Pace (إشارة منه لصلح «أميان» الأخير)، وضمن رفاييل كل ذلك قصيدة عربية أرفقها بترجمة لها إيطالية، يقول الأستاذ بشاتلي: «وربما كان الدافع لإرسال خطابه الثاني ردا وصله من «بونابرت» على خطابه الأول صحبة «سبستياني»؛ فقد تقابل رفاييل مع «سبستياني»، ومن المحتمل أنه دارت بين الرجلين أحاديث تتصل بنظم الحكم السياسية لأن رفاييل يخبرنا أنه عند وصوله إلى فرنسا سنة 1803 أرسل خطابا «لتاليران» وزير الخارجية في باريس يخبره فيه أنه يحمل خطابات هامة للحكومة الفرنسية.»
8
ووجد رفاييل أخيرا أن سياسة الخطابات سياسة غير مجدية، فقرر أن يرتحل إلى فرنسا، وسافر في سنة 1803، ووصل إلى مارسيليا ومنها إلى «جرينويل»، حيث قابله بالترحاب صديقه القديم «فورييه»، ومن تلك المدينة أرسل رفاييل إلى «تاليران» في «باريس» خطابا باللغة الإيطالية يذكر له فيه أنه يحمل إليه خطابات هامة خاصة بالحكومة الفرنسية، ويطلب فيه الإذن بالمقابلة، وهنا قد نتساءل، ترى ماذا كانت تحمل هذه الخطابات؟ وممن كانت مرسلة؟ الواقع أن رفاييل لم يوضح في مخطوطته هذه المسألة رغم أهميتها، حقيقة إن الحالة في مصر بعد خروج الفرنسيين كانت حالة بالغة في السوء، وقد ارتكبت الحكومة العثمانية والجنود العثمانيون أخطاء كثيرة مما جعل الكثير من طبقات الشعب المصري تحن إلى عهد الفرنسيين،
9
وتصرح بهذا الحنين، ولكن هل فكر أحد من المصريين في الاستفادة من المركز الدولي في أوروبا وقتذاك، وهل فكر أحد منهم - كما سبق أن فكر الجنرال يعقوب - في عرض اقتراح جديد لإنقاذ مصر من حالتها السيئة؟ وما نوع هذا الاقتراح؟ ومن صاحبه، أو أصحابه؟ كل هذه أسئلة يثيرها في الذهن أمر هذه الخطابات التي كان يحملها رفاييل من مصر إلى وزير خارجية فرنسا.
وسافر رفاييل إلى باريس، وما كاد يستقر في العاصمة حتى كتب خطابا آخر باللغة الإيطالية أيضا إلى القنصل الأول يطلب مقابلته. يقول الأستاذ بشاتلي: «ولسنا نعلم شيئا عما دار بين رفاييل والقنصل الأول، ولكن مما لا شك فيه أن ما كلف به رفاييل كان ذا أهمية بالغة؛ فقد بادرت الحكومة الفرنسية، وكافأته على ما قام به بأن عينه القنصل الأول أستاذا مساعدا بمدرسة اللغات الشرقية بباريس، وصدر أمر هذا التعيين في 24 سبتمبر سنة 1803 (أول فانديمير سنة 12)، وذلك بعد ستة عشر يوما من طلب المقابلة.»
10
وقد نص أمر التعيين على أن يعهد إلى رفاييل بإلقاء دروس في اللغة العامية، وبترجمة المخطوطات العربية الموجودة في المكتبة، والخاصة بالأدب والتاريخ المصري، وقد جاء في كتاب:
Notice Historique sur l’Ecole Spéciale des langues Orientales Vivantes .
أن هذه الترجمات «كانت تتجه لإعداد مواد تفيد منها اللجنة التي كانت تعمل لإخراج المؤلف الكبير - وصف مصر».
11
وقد نشط رفاييل في المدة التي قضاها في فرنسا (1803-1816) إلى التأليف مرة أخرى، فوضع كتابا «عن البدو أو عرب الصحراء»،
12
ثم ألف كتاب مطالعة لتلاميذ مدرسة اللغات الشرقية عنوانه «مرج الأزهار وبستان الحوادث والأخبار»،
13
ثم نظم قصة السندباد البحري، وترجم إلى العربية بعض قصص «لافوتين»،
14
ثم بدأ أخيرا في تأليف كتابه الذي أهداه إلى «بونابرت» عن تاريخ مصر وجبل الدروز، وعنوانه «مجموع أصح العبارات، وأدق الرموز، في أرض مصر وجبل الدروز».
15
وفي سنة 1815 هزم نابليون في موقعة «واترلو» ونفي إلى جزيرة «سانت هيلانة»، ففقد رفاييل صديقه وراعيه وحاميه، وبدأ يناله ما نال معظم مؤيدي الإمبراطور السابق وأصدقائه من نقمة واضطهاد؛ فقد قررت الحكومة الجديدة تخفيض مرتبه تنفيذا لسياسة الاقتصاد العامة التي رسمها حينذاك الوزير فوبلان
Vaublane ، ولم يرض رفاييل عن هذا الوضع الجديد، فقدم استقالته في أبريل سنة 1816، وقرر العودة إلى مصر.
هذا هو - في رأي الأستاذ بشاتلي - الدافع الوحيد لرحيل رفابيل عن فرنسا، وعودته إلى مصر، ولكنني قد أرى أن هناك سببين آخرين لهما من القوة ما للسبب السابق:
أولهما:
أن هذه الفترة من سنة 1811 إلى سنة 1821 كانت فترة التمهيد للإصلاحات التي بدأها محمد علي، ولا شك أن أخبار هذه الإصلاحات كانت قد وصلت إلى فرنسا في ذلك الحين، فلعلها دفعت رفاييل - وهو في ضيقه الجديد - إلى التفكير في العودة إلى مرتع صباه، إلى البلد التي بدأ فيها مجده العلمي والسياسي في عهد الحملة الفرنسية.
وثانيهما:
أن محمد علي كان قد أرسل عثمان نور الدين - وهو أول مبعوث إلى أوروبا في سنة 1809 ليتلقى العلوم الحربية والسياسية في إيطاليا - وذلك بوساطة يوسف بكتي
16
قنصل السويد في القاهرة - وقد مكث عثمان نور الدين أربع سنوات في إيطاليا، ثم سافر إلى فرنسا ليكمل بها تعليمه، فلبث بها سنتين أخريين، فهل يبعد أن يكون رفاييل قد اتصل - وهو في باريس - بعثمان نور الدين، وعرف منه الشيء الكثير عن سياسة محمد علي الإصلاحية، وأن هذه السياسة ترمي إلى النقل عن الغرب، وأن سلاحه الأول هو الترجمة؟
عاد رفاييل إلى مصر في سنة 1816، واتصل بمحمد علي، وإن كنا نجهل من من الرجلين سعى للاتصال بصاحبه، وكان محمد علي حينذاك يمهد السبيل لنقل علوم الغرب، وكان قد أرسل بعثاته إلى إيطاليا للتخصص في فن الطباعة، وإذ كانت اللغة الإيطالية هي لغة المراسلات الدبلوماتية وأكثر اللغات الأوروبية انتشارا في مصر، فقد كلف محمد علي رفاييل أن يضع قاموسا للغتين العربية والإيطالية.
وفي سنة 1820 مر بمصر بروكي
Brocchi
الرحالة الإيطالي، وفي 5 ديسمبر سنة 1822 زار مدرسة بولاق السابق ذكرها، وروي أنه رأى بين هيئة المدرسين ثلاثة من رجال المسيحيين
17
هم دون كارلوبيلوتي
Von Carlo Bilotti
من كالابريا، والأب سكاليوتي
L’abbé Scagliotti
من بيدمنت، ودون رفاييل ويقوم بتدريس اللغة العربية.
وبعد ستة أيام - أي في 11 ديسمبر - زار «بروكي» مطبعة بولاق، وأشار إلى الكتب التي كانت تحت الطبع، وأولها «قاموس طلياني وعربي
Dizionnaire Italiano »، وقد تم طبعه في نفس السنة 1238 / 1822، وقد ذكر بيانكي في قائمته، ووافقه «برون» أن هذا القاموس هو أول كتاب طبع في مطبعة بولاق، غير أن «بروكي» قال: إن أول كتاب طبع بها كان كتابا تركيا وضع لتعليم تلاميذ المدارس الحربية القائمة في الصعيد حينذاك، ثم طبع بعد هذا الكتاب - وقبل طبع القاموس - كتابان آخران، أحدهما في الآجرومية العربية، والثاني كتاب في الفنون العسكرية ترجم عن الفرنسية إلى العربية.
17
وقد درس المستر «هيوارث دن» قائمة بيانكي دراسة طيبة في مقالة عن الترجمة والطباعة في عصر محمد علي،
18
غير أنه نسب هذه القائمة خطأ إلى دكتور برون، وقد اعتذر في مقاله عن «برون»، أي عن «بيانكي»، فقال: إنه من المحتمل أن المطبعة لم تكن في أول أمرها قد نظمت النظام الكافي، وإن الكتب الأولى التي طبعت بها قد طبعت بسرعة، فلما بدأ «برون» و«بيانكي» يعدان قائمتيهما لم تكن هناك نسخ باقية من هذه الكتب الأولى؛ ولهذا لم يشيرا إليها.
وفي السنة التالية 1238 / 1823 طبع الكتاب الثاني لرفاييل، وهو ترجمة عربية لرسالة فرنسية من تأليف «ماكير» عن صباغة الحرير، واسم هذه الرسالة باللغة الفرنسية
l’art de la tainture en soie, par M. Macquer, Paris 1808 . وعنوانها باللغة العربية «كتاب في صناعة صباغة الحرير»، ويقع هذا الكتاب في 118 صفحة من القطع المتوسط، وفي الصفحة الأولى منه مقدمة للمترجم لم يذكر فيها السبب الذي دفعه لترجمة هذا الكتاب، وإن كان من المرجح أنه ترجمه تنفيذا لأمر محمد علي ليفيد منه القائمون على إنشاء الصناعة الجديدة التي أوجدها محمد علي في مصر - وخاصة صناعة النسيج - وتلا مقدمة المترجم مقدمة علمية للمؤلف من صفحة 2 إلى منتصف صفحة 10، ثم فهرس للكتاب من منتصف صفحة 10 إلى نهاية صفحة 12، ثم شرح للألوان والألفاظ الاصطلاحية الواردة في الكتاب في ثماني صفحات، والمتن يشغل الصفحات الباقية.
19
ويعتبر هذا الكتاب - إذا استثنينا الكتاب الحربي المترجم عن الفرنسية الذي ذكره «بروكي» - أول كتاب ترجم في عصر محمد علي، فهو أول الغيث، وبهذا يكون رفاييل صاحب السبق في هذا الميدان، فهو صاحب أول كتاب ترجم عن الفرنسية إلى العربية وطبع في مطبعة الحملة وفي عهدها، وهو رسالة «دي جينيت» عن مرض الجدري، وهو أيضا صاحب أول كتاب ترجم عن الفرنسية إلى العربية، وطبع في مطبعة بولاق في عهد محمد علي.
القاموس الإيطالي العربي من وضع الأب رفاييل
وواحد من الكتب الثلاثة الأولى التي طبعت في مطبعة بولاق في عصر محمد علي.
وضع رفاييل هذا القاموس، وترجم هذا الكتاب تنفيذا لأمر محمد علي، مما يرجح أن الصلة كانت قوية بين الرجلين، ولم يكن محمد علي سليل بيت مالك، بل إنه سعى حتى فاز بهذا العرش فوزا، ولقد كان له من فطرته السليمة، وعبقريته الفذة، ما دفعه إلى البحث والدرس، وخاصة كل ما يتعلق بنظم الحكم والإدارة، وفن السياسة؛ ولهذا كان دائم الصلة بكل من في مصر من دبلوماسيين أوروبيين، وبكل من يفد عليها مرتحلا أو زائرا، وكان في اجتماعه معهم دائم السؤال عن أحوال بلادهم السياسية والعلمية، وعن نظم حكوماتهم، وعن أهم الكتب وأحسنها، وقد نصحه ناصح من هؤلاء في تلك الفترة (حوالي سنة 1820) - وإن كانت المراجع لا تذكر من هو - بقراءة كتاب «الأمير» ل «مكيافلي»، فبادر محمد علي، وكلف رفاييل بترجمة هذا الكتاب، فترجمه إلى اللغة العربية (حوالي 1239-1240 / 1824-1825)، أشار «بروكي» - في غموض - إلى ترجمة هذا الكتاب، ثم أشار إلى هذه الترجمة في وضوح وإيضاح لا بأس به جويسبي أشربي
Giuseppe Acerbi (1773-1845): قنصل النمسا في مصر في عهد محمد علي في رسالة منه إلى «السنيور جيروفي» أمين المكتبة الإمبراطورية في «ميلانو»، وقد ذكر «أشربي» في هذه الرسالة أنه تحدث مع الباشا في إحدى مقابلاته عن الكتب والأدب، وقد دهش عندما أخبره محمد علي أنه أمر بترجمة كتاب الأمير لمكيافلي إلى التركية، وأنه جد مشوق لمعرفة ما يتضمنه هذا الكتاب الذي سمع عنه ثناء جما من أحد الأوروبيين.
وذكر «أشربي» بعد ذلك أن محمد علي تحدث إليه عن هذا الكتاب في مقابلة أخرى - وكان ذلك في سنة 1828، أي بعد ترجمة الكتاب بنحو أربع سنوات - فقال له ما ملخصه: «إنكم تثيرون في إيطاليا ضجة كبيرة حول كاتبكم المعروف «ماكيافيللي»، وقد أمرت بترجمة كتابه إلى التركية لكي أعرف ما فيه، ولكنني أعترف بأنني قد وجدته أقل بكثير مما كنت أتوقع، ومن الشهرة التي له.
وإني أعلن إليك أيضا أن هناك مؤلفا آخر عربيا أثار دهشتي، ونال إعجابي، بعد أن أمرت فترجم للغة التركية - هو مقدمة ابن خلدون - إن هذا الكاتب أكثر حرية في تفكيره من ماكيافيللي، بل إنني أعتقد أن كتابه أكثر وأشد نفعا، وإذا كان كتاب ماكيافيللي ممنوعا تداوله في بعض البلاد الأوروبية، أفما كان من الأجدر أن يكون المنع أتم وأعم بالنسبة لمقدمة ابن خلدون.»
20
ولا يمكننا أن نمر بهذا الحديث دون أن نشير إلى دلالاته المختلفة، وأولها وأهمها هذه القدرة العجيبة من شخص كمحمد علي ظل أميا حتى سن متأخرة جدا، على تفهم كتابين من أعظم ما خلفته الثقافة الإنسانية في الغرب والشرق، ثم المقارنة بينهما، وتفضيل أحدهما على الآخر.
بقي أن نشير إلى ما ورد في حديث محمد علي ل«أشربي» من أنه أمر أن يترجم الكتاب إلى التركية، مع أن الترجمة التي وصلتنا ترجمة عربية، ويمكن تفسير هذا التعارض بأن رفاييل الذي كلف بترجمة الكتاب لم يكن يعرف اللغة التركية فترجمه إلى العربية، وإذ كان محمد علي لا يتقن العربية، ولغته الأصلية هي التركية، فمن الممكن أن نفرض أن هذه الترجمة العربية ترجمت ثانية إلى التركية
21 - إما كتابة وإما شفاها - ليتمكن محمد علي من فهم ما جاء بها، ويؤكد هذا الظن أمر محمد علي فيما بعد بترجمة رحلة رفاعة إلى «باريس» عن العربية إلى التركية، ليطلع عليها هو ورجال دولته ممن يجيدون التركية دون العربية.
ومخطوطة الترجمة العربية كانت موقوفة على مكتبة مسجد سيدنا الحسين، ثم نقلت منها إلى دار الكتب المصرية، حيث ما تزال محفوظة تحت رقم 435 تاريخ، وعنوانها «المجلد الرابع من مصنفات نيقلاوس في التواريخ وفي علم حسن التدبير في الأحكام»،
22
وطول المخطوطة 21,5سم، وعرضها 16سم، وهي مكتوبة بالخط النسخ الجميل، وتتكون من 82 ورقة، وفي كل صفحة 20 سطرا.
والأوراق من 1أ إلى 2ب تحتوي على مقدمة موجزة من قلم المترجم تبدأ بقوله «نبتدئ بعون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله الذي على مشيئته وتدبيره تنعقد سلاسل الحوادث والأخبار، ومن فيض أحكامه ونجد (كذا) تقديره يجري مجرى ما وقع في الدهور والأعصار، ثم يلي ذلك مدح لمحمد علي وأنه أمره بترجمة هذا الكتاب الذي ألفه المعلم ماكيافييلي ليفيد منه القائمون بالوظائف الإدارية، وأنه ترجمه ترجمة دقيقة ليكون واضحا سهلا لمن يقرؤه، وأنه بذل في ذلك عناء وعناية؛ لأن تراكيب الكتاب قديمة وأفكاره صعبة؛ فقد ألف في سنة 1600.»
الصفحة الأخيرة من كتاب «في صناعة صباغة الحرير» ترجمة الأب رفاييل.
والكتاب غير تام الترجمة،
23
ويتكون من 23 فصلا، وإن كان رافييل قد أطلق على كل فصل من الفصول السبعة الأولى اسم «رأس»، ثم سمى الفصول من 8 إلى 12 فصولا، ولكنه عاد فكتب على الفصول الباقية لفظ «رأس» بدلا من فصل.
وترجمة رفاييل لهذا الكتاب - كترجماته الأخرى - ضعيفة ركيكة الأسلوب، صعبة الفهم، وسنعود للتحدث عنها بإسهاب عند تقديرنا العام للترجمة في هذا العصر، وتقول الآنسة «ماريا ناللينو»
24
إن مشروع طبع هذا الكتاب لم ينفذ، ولعل ذلك راجع إلى رأي محمد علي الذي لم يقدر محتويات كتاب «ماكيافيللي»، أو لعل ترجمة رفاييل بدت أمام مصححي مطبعة بولاق من شيوخ الأزهر ركيكة الأسلوب ضعيفة العربية، بل وغامضة غير واضحة المعنى في مواضع كثيرة منها.
هذه هي جهود رفاييل الأولى في الترجمة منذ عاد إلى مصر، وكلها تنفيذ لأمر محمد علي وتوجيهاته، فلما أنشئت مدرسة الطب في سنة 1243 / 1827 اختار كلوت بك نفرا من المترجمين السوريين ليقوموا بنقل الدروس، وترجمة المحاضرات إلى الطلبة، وكان رفاييل أول من اختير لهذه المهمة.
وقد جاء في التقرير الذي كتبه كلوت بك عن حالة المدرسة في سنتها الأولى، أن رفاييل الدكتور في الطب، العالم باللغة العربية والفرنسية والإيطالية، والمعين بالمدرسة، كلف بترجمة علم الفسيولوجيا، وأنه قام به بدقة ووضوح.
25
ثم ذكر «كلوت بك» في تقرير السنة التالية (1244 / 1828) اسم رفاييل بين أعضاء لجنة الامتحان، وقال : «إن الأستاذ الدكتور رفاييل قام في كثير من المهارة بترجمة رسالة في التشريح الباتولوجي
Anatomie Pathologique
وكان من الضروري أن يقوم بهذا الواجب طبيب له قيمته؛ كرفاييل متمكن من اللغة العربية ليقوم بمثل هذا العمل الصعب.»
26
ويشير التقرير الثالث (1245 / 1829) إلى أنه كان لا يزال مكلفا بترجمة علم الفسيولوجيا، وأنه كان يقوم بهذا العمل بمنتهى الدقة والوضوح.
وفي 13 أكتوبر سنة 1831 / 6 جمادى الأولى 1247 توفي رفاييل بعد هذه الحياة العلمية الحافلة، وبعد أن بلغ من العمر اثنتين وسبعين سنة، وذلك في داره التي كان يسكن بها في القاهرة مع أحد أقاربه المدعو «يوسف الراهبة» الذي ورث عنه أمواله وكتبه وأثاث داره. يقول الخوري قسطنطين الباشا في ختام ترجمته للأب رفاييل: «ولم تنقض سنة على وفاة الأب رفاييل حتى لحقه نسيبه يوسف راهبه، ومات غرقا في البحر، وذهبت أمواله وكل تركة الأب رفاييل طعمة الأسماك ...»
انتهى الطواف برفاييل إلى أن يكون مترجما للكتب الطبية في مدرسة أبي زعبل، ولكنه لم يكن السوري الوحيد الذي عهد إليه بهذا العمل، بل شاركته فيه طائفة من مواطنيه تذكر المراجع أسماءهم في شيء من الغموض، وهم: «يوحنا عنحوري، وجورج فيدال، ويعقوب، وأوغسطين سكاكيني.» (1-2) يوحنا عنحوري
أسرة عنحوري
27
من أقدم الأسر السورية، وقد اشتهر منها أفراد كثيرون في سوريا ومصر كرجال دين وعلم وأدب، وممن له ذكر منهم في عهد محمد علي يوحنا (أو حنا أو حنين) عنحوري، ولسنا نعرف عن حياته شيئا، وإن كنا نرجح أنه ممن سافروا إلى إيطاليا، وتعلموا بها؛ فقد كان يجيد اللغتين العربية والإيطالية، ويبدو أنه كان يحتل المركز السامي بعد رفاييل في مدرسة الطب المصرية، بل إني لأرجح أن يكون رفاييل هو الذي مهد له ولزملائه من المترجمين السوريين سبيل الالتحاق بهذه المدرسة، فلما توفي رفاييل احتل عنحوري مركز المترجم الأول
28 - إن صح هذا التعبير - وقد كانت صلته بأنشط أساتذة المدرسة الفرنسيين: «كلوت بك» و«برون» و«ديفينو» وثيقة قوية، فترجم لهم كتبهم.
وقد قام عنحوري بترجمة سبعة كتب طبية، منها واحد من تأليف «كلوت بك»، وثان من تأليف «دكتور برون»، وهي: (1)
القول الصريح في علم التشريح
Anatomie du Corps Humain
من تأليف «بايل
Bayle »، وبه إضافات من وضع «كلوت بك»، وطبع في بولاق سنة 1248 / 1833، في جزأين. (2)
بتولوجية، أي رسالة في الطب البشري
Traité de Pathologie : تأليف بايل، طبع في بولاق سنة 1250 / 1834 في جزء واحد. (3)
رسالة في علم الجراحة البشرية
Traité de Chirurgie
ترجمت عن الفرنسية، وطبعت في بولاق سنة 1250 / 1834. (4)
منتهى الأغراض في علم شفاء الأمراض، تأليف العالمين الفرنسيين: «بروسيه» و«سانسون» طبع في بولاق سنة 1250 / 1834 في جزأين. (5)
مبلغ البراح في علم الجراح، تأليف «كلوت بك»، طبع في بولاق سنة 1251 / 1835. (6)
الأزهار البديعة في علم الطبيعة، تأليف الدكتور «برون»، طبع في بولاق سنة 1254 / 1838 في جزأين. (7)
علم النباتات، ترجمه عن الفرنسية وطبع في بولاق سنة 1257 / 1841.
الترجمة العربية لكتاب الأمير «صفحة الغلاف»
انظر ما فات هنا [الفصل الثالث: المترجمون - المترجمون السوريون - الأب أنطون رفاييل زاخور].
الصفحة الأولى وبها مقدمة المترجم. وتصريحه أنه قام بالترجمة تنفيذا لأمر محمد علي.
وقد قدر «كلوت بك» لعنحوري
29
جهده في الترجمة، فأثنى عليه ثناء جما، وقال إنه مترجم قدير، ووصفه بالإخلاص في عمله، والإقبال على البحث عن المصطلحات العلمية العربية الصحيحة.
كتاب الأمير لمكيافلي (ترجمة الأب رفاييل زاخور راهبة)
الصفحة الأولى من مخطوطة الترجمة.
وكان عنحوري ضعيفا في الفرنسية، وإن كان يجيد اللغة الإيطالية؛ لهذا كانت تترجم له الكتب من الفرنسية إلى الإيطالية، ثم يقوم هو بترجمتها إلى اللغة العربية، فهذا كتاب «منتهى الأغراض في علم الأمراض»، «ترجمه من اللغة الطليانية بالإملا يوحنا عنحوري، بعد أن نقل إليه من الفرنساوية، لكونه فيها قليل المعرفة، ولكون الكتاب المذكور نقل للطليانية، وكان يفسر بها حين قراءة المعلم للدرس، وخفت من أن يكون وقع في شيء منه اللبس، تصفحته ثانيا مع علي أفندي هيبة على أصله المطبوع بالفرنساوية، حتى وقفت على حقيقة ما كنت فيه أتردد، وتيقنت صحته بالكلية ...»
30
وهكذا كان الشأن في كل الكتب التي ترجمها عنحوري، فهي جميعا كتب فرنسية الأصل.
ويبدو أن النظام كان يقضي بأن يختص كل شيخ من المحررين بواحد من هيئة المترجمين يعنى بتصحيح الكتب التي يترجمها، وقد قام بتصحيح الكتب التي ترجمها عنحوري، الشيخان محمد عمران الهراوي وأحمد حسن الرشيدي.
31
وكان يعهد لعنحوري أحيانا - ولعل ذلك لمقدرته الممتازة عن إخوانه - بمراجعة الكتب التي يترجمها غيره، وهنا كانت تتكرر الرواية، فيترجم له الكتاب أيضا إلى اللغة الإيطالية ليتمكن من مراجعته، ومثال ذلك ما جاء في مقدمة كتاب «إسعاف المرضى من علم منافع الأعضا»، وهو من تأليف المسيو «سوسون» المدرس بمدرسة الطب بأبي زعبل وترجمة الدكتور علي هيبة، أحد خريجي البعثات، فإنه «بعد فراغ ترجمته قابل معظمه الخواجا عنحوري المترجم بهذه المدرسة، مع الشيخ إبراهيم الدسوقي أحد المصححين بها، على أصل طلياني، نقل له من الأصل الفرنساوي، فكان الشيخ إبراهيم يقرأ العربي والخواجا عنحوري يقابل عليه في الأصل الطلياني».
32 (1-3) جورج فيدال
سوري ماروني من حلب، لم تذكر عنه المراجع شيئا كثيرا أو قليلا، وإن كان الأب قرألي قد أثبت في كتابه «السوريون في مصر» نقلا عن وثائق العماد والزواج والوفاة المحفوظة بسجلات الآباء الفرنسيسكان أن طفلا اسمه «جرجس بن إلياس فيدال (طيطي) وهو ماروني من حلب»
33
قد عمد في سنة 1795، وليس لدي ما يثبت أو ينفي أنه هو جورج فيدال المترجم بعدئذ بمدرسة الطب المصرية، فإذا صح أنه هو، وأنه التحق بمدرسة الطب عند إنشائها، فإنه يكون قد التحق بها وعنده من العمر ثنتان وثلاثون.
وقد كان فيدال يترجم عن الفرنسية إلى العربية، وقد اختص بترجمة كتب الأستاذ برنار
Bernard
فترجم منها: (1)
قانون الصحة
Des Règles de l’hygiene et de la médecine appliquée du corps humain
وطبع في بولاق سنة 1248. (2)
المنحة في سياسة حفظ الصحة، وطبع في بولاق، رمضان سنة 1249.
وكان يقوم بتصحيح الكتب التي يترجمها فيدال، الشيخ محمد عمران الهراوي، ذكر هذا الشيخ في مقدمته لكتاب المنحة أن «الخواجا برنار، جمع هذا الكتاب من مجلدات كبار، وترجمه من الفرنساوي للعربي بالكتابة والمقال، المترجم الحلبي جورجي فيدال».
34
وذكر في خاتمته أن هذا «ثالث كتاب طبع من الكتب الجديدة بعد ترجمته وقراءة معظمه في المدرسة المفيدة التي أنشأها بأبي زعبل صاحب السعادة، لتنتشر علوم الطب في مملكته الوقادة، على يد مصحح كلمه عند الترجمة، محرر جمله لدى القراءة والمقابلة، مفرغه في قلب التصانيف الأولية، صائغه على تمثال التآليف العربية، مؤاخيه حال القراءة والجمع، موافيه عند التمثيل والطبع، مغفور المساوي، محمد الهراوي ...»
35
ويقع هذا الكتاب في جزء واحد من 404 صفحة، وقد طبع منه 1000 نسخة. (1-4) أوغسطين سكاكيني
سوري الأصل، أسرته من دمشق وهو من أسرة سكاكيني التي اشتهرت في مصر بعد ذلك، ويقول سركيس
36
إنه ابن جبريال بن ميخائيل بن إبراهيم السكاكيني، المتوفى بدمشق سنة 1766، ويذكر أن أباه جبريال سافر مع «نابليون بونابرت» (ولعله يقصد مع الحملة الفرنسية) إلى باريس وأقام بها.
وقد أقام أوغسطين مدة في «مارسيليا»، ثم ارتحل إلى تونس حيث تزوج من سيدة فرنسية اسمها «ترزيا وردوتا»
Th. Verduta ، ثم سافر إلى مصر، وعين مترجما بمدرسة الطب، وترجم عن الفرنسية إلى العربية:
كتاب العجالة الطبية فيما لا بد منه لحكماء الجهادية، وهو من تأليف «كلوت بك»، وطبع في مطبعة مدرسة الطب بأبي زعبل سنة 1248.
وقد أثنى كلوت بك عليه وعلى زميله فيدال في تقريره الذي كتبه عن جهود مدرسة الطب في سنيها الأولى، قال: «والأعمال الأولى التي أتمها كل منهما تستحق التشجيع ويؤمل من اشتراكهما في ترجمة المؤلفات أفضل النتائج.»
37
غير أنه يبدو أنهما لم يستمرا في عملهما طويلا؛ فقد كان هذا هو الكتاب الوحيد الذي ترجمه سكاكيني، وطبع سنة 1248، كما أن فيدال لم يترجم إلا كتابين اثنين، طبع أولهما سنة 1248، وثانيهما سنة 1249، بينما الكتاب الأخير من الكتب التي ترجمها زميلهما يوحنا عنحوري طبع سنة 1254؛ ولهذا أرجح - وإن كان يعوزني الدليل المادي - أنهما تركا هذا العمل حوالي سنة 1249. (1-5) يعقوب
واحد من المترجمين السوريين، وهو الوحيد من بين زملائه الذي أغفلت المراجع المعاصرة ذكر شيء عنه البتة، وكل ما نعرفه عن جهوده أنه ترجم الكتابين الآتيين عن الفرنسية إلى العربية: (1)
دستور الأعمال الأقرباذينية لحكماء الديار المصرية، وهو كتاب ألفه «أرباب المشورة الصحية جناب ميراللوي «كلوت بك»، وقائما المقام «ديباجي» و«دوتوش»، وطبع في بولاق سنة 1252»، وقد جاء في مقدمته ما يلي: «وبعد فهذا كتاب عظيم القدر، لطيف الحجم، يحوي من كتب الأدوية الجم، عمله أرباب المشورة الصحية، بمصر المحمية، جامعا لكل ما يلزم للأجزاجية، مغنيا لهم عن مطالعة كتب الأقراباذين والمفردات، ومراجعة قوانين الحسابات، عند طلب الأدوية وأداء حسابها للأجزاخانات، وسموه دستور الأعمال الأقراباذينية لحكماء الديار المصرية، وقد ترجم هذا الكتاب بمدرسة الطب بأبي زعبل الخواجا يعقوب، وقوبل بمجمع من المترجمين، وبعض أهل العلم المصححين، ثم حرر بعد جمعه، وهذب عند طبعه، على يد مغفور المساوي محمد الهراوي.» (2)
كتاب الأقراباذين، وطبع في بولاق سنة 1253.
ولم تكن له جهود في الترجمة في السنوات الأولى من تاريخ مدرسة الطب، فلعله ألحق بها مترجما بعد خروج فيدال وسكاكيني، إن صح الفرض الذي ذهبنا إليه. (1-6) يوسف فرعون
بعد إنشاء مدرسة الطب البشري بسنة واحدة أنشئت مدرسة الطب البيطري (أي في سنة 1828)، وقد قام التدريس فيها على النظام الذي كان متبعا في مدرسة الطب البشري، فكان يقوم بترجمة الدروس التي يلقيها الأساتذة مترجم، وكان هذا المترجم إيطالي الجنسية، على معرفة بالعربية والفرنسية، اسمه «ميخالي ياجو».
حدث هذا في السنين الأولى من تاريخ المدرسة، وكان مقرها الأول في رشيد، وناظرها المسيو «هامون»، وكان إلى جانب المترجم شيخ أزهري هو الشيخ مصطفى حسن كساب لتصحيح الدروس التي ينقلها المترجم إلى العربية، ولكن يبدو أن هذا المترجم لم يقم بواجبه خير قيام؛ فقد كتب ناظر المدرسة في أحد تقاريره: «إن المترجم كسول، لا يقوم بعمله خير قيام وهو لا يفهم المصطلحات الفنية، ولا يحسن نقل آراء الأستاذ إلى التلاميذ ... إلخ.»
38
نقلت المدرسة بعد ذلك إلى أبي زعبل، ثم إلى شبرا، ونظمت نظاما جديدا، وعزل المترجم الإيطالي، وألحق بها مترجم سوري نشيط هو يوسف فرعون.
وأسرة فرعون من أقدم وأشهر الأسر السورية في مصر والشام،
39
وقد تولى منهم التزام الجمارك في مصر وزعامة الجالية السورية، أنطون قسيس فرعون، وذلك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وقد ذكرنا في كتابنا عن تاريخ الترجمة في عهد الحملة الفرنسية شيئا عن هذا الرجل، ومركزه، وجهوده، ورحيله عن مصر في أواخر القرن الثامن عشر، ومقامه في «تريستا» وحصوله هناك على لقب «كونت».
ولسنا نعرف بالتحديد نوع علاقة مترجمنا هذا بالكونت أنطون قسيس، ولكنه ينتمي بلا شك إلى نفس الأسرة، ومعرفته الوثيقة بالفرنسية ترجح ذهابه لفرنسا، وتلقيه العلم بها، ومقامه بين ربوعها.
ومن سجل كتبه التي ترجمها يتضح أنه التحق بهذا العمل في نفس الوقت الذي التحق فيه زميلاه فيدال وسكاكيني بمدرسة الطب البشري؛ فإن أول كتاب ترجمه طبع في بولاق سنة 1249، وقد قام فرعون بترجمة الكتب الآتية: (1)
رسالة في علم البيطارية، ترجمها عن الفرنسية إلى العربية، وطبعت في بولاق سنة 1249. (2)
التوضيح لألفاظ التشريح - بيطري - تأليف المسيو «جيرار» المدرس بمدرسة الطب البيطري، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية، وطبع في بولاق سنة 1249. (3)
رسالة في علم الطب البيطري ترجمها عن الفرنسية إلى العربية، وطبعت في بولاق سنة 1250 (وقد طبعت هذه الرسالة طبعة ثانية في سنة 1260). (4)
قانون نامه بيطاري، ترجمه عن الفرنسية إلى التركية، وطبع في بولاق سنة 1250. (5)
التحفة الفاخرة في هيئة الأعضاء الظاهرة
40
ترجمه عن الفرنسية إلى العربية، وطبع في بولاق سنة 1251. (6)
المادة الطبية البيطرية، عن الفرنسية إلى العربية، وطبع في بولاق سنة 1255. (7)
نزهة الأنام في التشريح العام، تأليف المسيو «لافارج» المدرس بمدرسة الطب البيطري، وطبع في بولاق سنة 1255. (8)
تحفة الرياض في كليات الأمراض، وطبع في بولاق سنة 1255. (9)
غاية المرام في الأدوية والأسقام، تأليف «جرجوار ولابتو» المدرسين بالمدرسة، طبع في بولاق سنة 1255. (10)
روضة الأذكيا في علم الفسيولوجيا، تأليف المسيو «لافارج»، وطبع في بولاق سنة 1256. (11)
الأمراض الظاهرة في الطب البيطري، وطبع في بولاق سنة 1256. (12)
منتهى البراح في علم الجراح، تأليف المسيو «برنس» المدرس بالمدرسة، وطبع في بولاق سنة 1256. (13)
نزهة الرياض في علم الأمراض، وطبع في بولاق سنة 1258. (14)
أجل الأسباب في أجل الاكتساب، تأليف المسيو «طايو الإفرنجستاني»، وقام على تصحيحه الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، ولم يطبع هذا الكتاب بل توجد منه نسخة مخطوطة
41
بخط الشيخ الهوريني في دار الكتب المصرية رقم 58 زراعة، فرغ من كتابتها في يوم الجمعة العاشر من رمضان سنة 1259.
وعدد هذه الكتب
42
14 كتابا، منها 13 ترجمت عن الفرنسية إلى العربية، وكتاب واحد ترجم عن الفرنسية إلى التركية، مما يرجح أن فرعون كان على علم أيضا باللغة التركية.
وقد قام بتصحيح كتبه وتحريرها الشيخ مصطفى حسن كساب، ما عدا كتاب «أجل الأسباب في أجل الاكتساب»؛ فقد قام بتصحيحه الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، مصحح الكتب بمدرسة الزراعة، ولا عجب فهذا الكتاب هو الوحيد في فن الزراعة من بين جميع الكتب التي ترجمها فرعون، وكلها في علم الطب البيطري وفروعه، وقد دأب الشيخ كساب على وصف صديقه دائما بأنه «الخواجة يوسف فرعون المترجم الماهر» و«المترجم البارع» و«المترجم الحاذق».
43
ومع هذا فقد كان نظام الترجمة في ذلك العصر يقضي أحيانا بأن يعهد إلى لجنة أخرى بمراجعة ما ترجمه المترجمون السوريون، كما حدث في بعض الكتب التي ترجمها عنحوري، وكما حدث لكتاب «التوضيح لألفاظ التشريح»، الذي ترجمه فرعون؛ ففي 20 جمادى الأولى 1248 «قرر مجلس الجهادية بناء على ما ورد على مجلس الشورى في مدرسة الطب البيطري الموافقة على طبع كتاب التشريح الذي ترجم بعد مراجعة الترجمة بمعرفة الشيخ رفاعة أفندي وهرقل البيكباشي، واتضاح صحتها ...»
44 (2) المترجمون من خريجي المدارس والبعثات
تقدمة
كان هؤلاء السوريون الذين قاموا بالترجمة في عهد محمد علي طائفة محدودة العدد والجهد، اقتصرت جهودهم كما رأينا على ترجمة الكتب الطبية، وقد كان استخدامهم في هذا العمل ضرورة أوجدتها الظروف ريثما يتم إنشاء المدارس الجديدة، ويتم طلابها دراساتهم، وريثما تبعث البعثات إلى دول أوروبا فتقبس قبسا من نور العلم الأوروبي، وتعود إلى مصر.
ولم يكن محمد علي يقصد - بإنشاء هذه المدارس وإيفاد هذه البعوث - إلى تخريج طائفة من العارفين بالعلوم الأوروبية فحسب، بل كان يقصد أيضا إلى أن يقوم هؤلاء الخريجون بترجمة أمهات الكتب في فروع العلوم المختلفة إلى اللغتين والتركية، وتستعمل هذه الكتب المترجمة في مدارسه الجديدة، فيستغني بذلك عن الأساتذة الأوروبيين، ويمكنه تمصير هذه العلوم الجديدة، ونشرها بين المصريين.
ولقد كان محمد علي حريصا الحرص كله على أن يقوم هؤلاء التلاميذ - وهم بعد في طريق التحصيل، ثم بعيد تخرجهم، أو عودتهم من أوروبا - بترجمة الكتب فيما اختصوا فيه، كتب مرة في 21 ربيع الآخر سنة 1243 / 12 نوفمبر 1827 إلى ضباط الجيش المصري، يذكر أنه كان يأمل أن تلاميذ «السنة الثالثة بالمدرسة الحربية» قد أتقنوا ما يدرس لهم من الفنون الحربية والهندسية، وأنهم «قد ترجموا من اللغة الفرنسية بعض أشياء مما يفيد مصلحتنا، ويوافق أصولنا.»
45
وفي 22 ربيع الأول سنة 1249 / 10 سبتمبر 1843 صدر أمر منه إلى باغوص بك «بأنه كان تنبه على «كلوت بك» بإلزام الطلبة الذين أرسلوا إلى أوروبا لتلقي فنون الطب بها بترجمة الكتب التي يدرسونها أولا بأول إلى العربية وإرسالها، فإذا لم تكن وصلت التراجم، يكتب للطلبة أنفسهم على أوامر من المختومة بختمه «الوالي» الموجودة بطرف زكي أفندي مأمور ديوان خديوي بالإسكندرية بمعنى ذلك، بحيث تكون الأوامر بالعربي لأولاد ولاد العرب، وبالتركي لأولاد الترك، وعرض ما يكتب قبل إرساله.»
46
هكذا كانت تصدر الأوامر من محمد علي إلى الطلاب، وهم بعد في دور التحصيل في أوروبا بأن يقوموا بترجمة الكتب إلى العربية والتركية، فإذا عادوا إلى مصر لم ينتظر حتى يصلوا إلى العاصمة، ويحظوا بمقابلته، بل كان يصدر إليهم الأوامر وهم بعد في دور الحجر الصحي أن يبدءوا الترجمة؛ صدر أمر منه إلى ناظر المهمات في 28 ذي الحجة سنة 1250 / 27 أبريل 1835 «بأنه قد اطلع على الإفادة الواردة إليه بعدم دخول محمد بيومي أفندي الحاضر من أوروبا الكورينتينا، ووجوده معه للمساعدة في ترجمة كتاب الهندسة الوصفية، وعدم اشتغال رفيقه حسن الورداني أفندي بشيء بالنسبة لدخوله بالكورنتينا، ويشير بأنه يظن لياقة المذكور للترجمة، فيلزم إعطاؤه كتابا آخر لترجمته مدة مكثه بالكورنتينا ...»
47
ولما عاد أعضاء بعثة سنة 1826 من أوروبا استقبلهم في ديوانه بالقلعة، وأعطى كلا منهم كتابا فرنسيا في المادة التي درسها في أوروبا، وطلب إليهم أن يترجموا تلك الكتب إلى اللغة العربية، وأمر بحجزهم في القلعة ، وألا يؤذن لأحد منهم بمغادرتها حتى يتموا ترجمة ما عهد إليهم بترجمته.
48
هذا هو القانون العرفي الذي وضعه محمد علي، وأوجب أن يتبعه كل عائد من بعثة؛ ذلك أن يترجم هذا العضو كتابا في فنه الذي تخصص فيه، بل لقد كان يعهد أحيانا إلى بعض أعضاء البعثات بترجمة كتب في علم أو فن آخر غير ما تخصصوا فيه، أرسل الشيخ أحمد حسن الرشيدي لدراسة الطب في فرنسا، فلما عاد إلى مصر عهد إليه بترجمة كتاب في الجغرافيا. يقول في مقدمته: «لما من الله علي بالعود إلى وطني من بلاد الأوروبا، وقيدت بمدرسة الطب بمصر حكيما ومعلما من المعلمين الأطباء، تشاور أرباب ديوان المدارس والعلوم في اختيار كتاب أقوم بترجمته، حسبما تقتضيه القوانين والرسوم، ... فاتفق رأيهم على كتاب لازم لجميع المدارس الملكية، ومحتاج إليه في المكاتب السلطانية، وهو المرسوم بالدراسة الأولية في الجغرافية الطبيعية ... إلخ.»
49
وجه محمد علي بعوثه إلى مختلف دول أوروبا، ولم يختص واحدة منها بهذه البعوث دون الأخرى، وإن كان العدد الأكبر من هذه البعوث قد أرسل إلى فرنسا، وقد وجهت هذه البعثات لدراسة العلوم والفنون الأوروبية المختلفة؛ ولهذا نجد أن أعضاءها الذين شاركوا في حركة الترجمة قد ترجموا كتبا مختلفة الفنون والعلوم، وإن كنا سنلاحظ أن معظم الكتب التي ترجموها كتب طبية ورياضية.
كان طليعة البعثات في عهد محمد علي، ورائدهم الأول عثمان سقه باشي زاده أو عثمان نور الدين باشا فيما بعد، ذكر الأمير عمر طوسون،
50
ونقل عنه الدكتور عزت عبد الكريم أنه كان واحدا من أعضاء البعثة الثانية في عصر محمد علي، وأنه أرسل إلى فرنسا سنة 1819، وعاد إلى مصر سنة 1820، وذكر أيضا أن أولى بعثات محمد علي إلى أوروبا هي التي أوفدت إلى إيطاليا بين سنتي 1813 و1816، وكان أهم أعضائها نقولا مسابكي مدير مطبعة بولاق فيما بعد.
هذان هما أحدث المراجع العربية التي كتبت عن البعثات، وعنهما نقلت معظم المراجع الأخرى،
51
هذه الحقيقة، غير أن البحث قد دلنا على أن هذا الرأي بعيد عن الصواب، وعمدتنا في تحقيقه وثيقة معاصرة هي خطاب
52
تاريخه 22 أكتوبر سنة 1820 موجه من «بيزوني »
إلى «ريبوبيير»
Ribeaupiere
وهما من رجال القنصلية الروسية بالقاهرة في عهد محمد علي.
في هذا الخطاب ترجم «بيزوني» لعثمان نور الدين، فذكر أنه واحد من التلاميذ الذين أرسلهم في سنة 1809 المغفور له «يوسف بكتي
Joseph Bokty »
53
قنصل السويد العام في القاهرة، ليتلقوا العلم في إيطاليا على نفقة محمد علي باشا، ثم ذكر أنه مكث يطلب العلم في «بيزا» و«ليفورنو» نحو الخمس سنوات، ثم رحل إلى فرنسا ليتم بها تعليمه فلبث بها سنتين، وعاد إلى مصر أخيرا في سنة 1917.
من هذا يتضح: (1)
أن أول بعثات محمد علي أرسلت إلى إيطاليا سنة 1809 لا سنة 1913. (2)
لم يعرف من أفراد هذه البعثة غير عثمان نور الدين، وقد تلقى العلم في إيطاليا ثم في فرنسا لا في فرنسا فقط. (3)
أنه مكث في البعثة نحو سبع سنوات من 1809-1817، لا سنة واحدة (من 1819-1820)، كما ذكر المغفور له الأمير عمر طوسون.
ويهمنا أن نقرر بعد ذكر هذه الحقائق أن محمد علي وفق حقا في اختيار عثمان نور الدين؛ فقد كان هذا التلميذ من خيرة أعضاء البعثات،
54
فلما عاد إلى مصر كان ساعد محمد علي الأيمن في نهضته الحربية والتعليمية.
وقد اقترنت هاتان النهضتان، كما اقترن إنشاء المطبعة وتاريخ الترجمة باسم عثمان نور الدين وجهوده، غير أن حادثة سياسية خاصة - سنعرض لها فيما بعد - كانت السبب في حدوث شقاق بينه وبين مولاه محمد علي، وانتهى هذا الشقاق بسفره إلى الدولة العثمانية؛ ولهذا نلاحظ أن وثائق السنوات الأخيرة من عصر محمد علي ومراجع ذلك العصر الحديثة تهمل ذكر عثمان نور الدين - عن قصد أو عن غير قصد - غير أننا نحب أن نعرض لتاريخ هذا الرجل بشيء من التفصيل تقديرا له ولجهوده.
أسرته تركية من جزيرة «مدللي»، رحلت إلى مصر، واستقرب بها، وكان أبوه «فراشا» أو «سقاء» بقصر محمد علي، ومن هنا اكتسب اسمه الأول «عثمان سقه باشي زاده»، التقطه محمد علي - وقد كانت له ميزة اختيار الرجال وتكوينهم - وأرسله في بعثته الأولى لتلقي العلوم الحربية والبحرية وفنون السياسة وإدارة الحكم في إيطاليا وفرنسا.
ولما عاد إلى مصر في سنة 1817، عين «كاشفا» في حرس محمد علي الحربي، ثم عهد إليه بتنظيم الكتب الكثيرة التي أحضرها معه من فرنسا - إجابة لرغبة محمد علي - وبهذا كون في قصر إبراهيم بن محمد علي في بولاق أول مكتبة وجدت في عصر محمد علي، ثم ألحق به في سنة 1820-1821 بعض التلاميذ ليدرسوا عليه وعلى مدرسين آخرين الهندسة واللغات العربية والتركية والإيطالية.
هذه هي مدرسة بولاق، وهي أول مدرسة نظامية أنشئت في عصر محمد علي، وذلك تنفيذا لاقتراح عثمان نور الدين نفسه، وقد تولى نظارتها والإشراف عليها، وكان يدرس لتلاميذها الهندسة واللغة الفرنسية.
وقد زار هذه المدرسة الرحالة الإيطالي «بروكي» في 5 ديسمبر سنة 1822، وذكر أنه كان بهذه المدرسة ثلاثة مدرسين مسيحيين هم: (1) «دون كارلو بيلوتي»، وهو إيطالي من «كالابريا»، ويدرس الرياضة. (2) «القس سكاليوتي» من «بيدمنت»، ويدرس اللغة الإيطالية. (3)
دون رفاييل ويدرس اللغة العربية.
ثم زار أيضا المكتبة السابق ذكرها، وتحدث عن أنواع الكتب التي كانت فيها، فقال إنه رأى بها كتبا تبحث في فنون الحرب والزراعة والرياضة، وكتبا في القانون والتشريع والأدب من بينها الكوميديا الإلهية:
Il poema di dante
لدانتي، وقال «بروكي» أيضا أنه دهش الدهشة كلها؛ إذ وجد في تلك المكتبة نسخا من كتب «فولتير» و«روسو» والكتاب المقدس، ومجموعة من القصص الفرنسية لكتاب مختلفين، وزادت به الدهشة وهو يتنقل بين هذه المجلدات؛ إذ وجد مجموعة كبيرة من الكتب التي تبحث في النظم الدستورية للحكومات الأوروبية، وهذه كتب على حد قوله: «لا ينتظر أحد أن يجدها في مكتبة عامة في بلد تحكم حكما أوتوقراطيا.» وراعه أخيرا ألا يجد بهذه المكتبة كتبا خاصة بمصر وتاريخها؛ إذ لم يجد بها من هذا النوع إلا رحلة فولني، والكتاب الكبير الذي وضعه المعهد الفرنسي - يقصد كتاب وصف مصر - وبعض أعداد من جريدة «الديكاد».
55
وفي هذه المدرسة أيضا كان يقوم بعض التلاميذ بترجمة «كتب الفنون الحربية وسائر الصنائع»
56
تحت إشراف عثمان نور الدين وأساتذة المدرسة، ولتلاميذ هذه المدرسة فيما أرجح وضع رفاييل قاموسه «الإيطالياني العربي» الذي طبع في سنة 1822، بل لقد صرح رفاييل نفسه بهذا في مقدمته للقاموس؛ إذ يقول: «... وكان إنني قد أقمت على تعليم اللغة الإيطاليانية (كذا) بأمر صاحب العزة، الحاج محمد علي نائب السلطان بمملكة مصر، وقد اضطررت من قبل وظيفة التعليم، وسهولة درك معنى الألفاظ بهذه اللغة والتفهيم على التلامذة الدارسين، وعلى من ينتدب لترجمة الكتب من المتفقهين لأني (كذا) أؤلف قاموسا ترجمانا وجيزا في اللغتين الإيطاليانية والعربية ...»
57
وكان النشاط على أتمه حينذاك لتكوين الجيش المصري الجديد، وتدريبه على النظم الأوروبية الحديثة، فقام عثمان نور الدين بترجمة الكتب الحربية المختلفة في نظم الجيش وقوانينه وتعاليمه عن الفرنسية إلى التركية.
وفي سنة 1822 تكونت لجنة لوضع برامج التعليم العسكري الجديد؛ فكان عثمان نور الدين ثالث ثلاثة بهذه اللجنة، وكان العضوان الآخران: الكولونل سيف (سليمان باشا الفرنساوي) وأحمد أفندي المهندس، وفي نفس السنة سافر مع سليمان باشا حتى وصلا إلى أسوان ليشترك معه في تنظيم الفرقة الأولى للمشاة على «النظام الجديد».
وفي سنة 1823 عين «سر عسكر» الجيش المصري، وحصل بذلك على لقب «بك»، وفي سنة 1825 ترجمت قوانين ونظم البحرية الإنجليزية إلى التركية تحت إشرافه، ثم عهد إليه محمد علي باشا أن يتولى بنفسه الإشراف على تنظيم البحرية المصرية الجديدة، وتعليم ضباطها بالاشتراك مع الجنرال «ليتلييه
Letellier »، وبهذا أصبح لعثمان بك الإشراف التام على شئون الجيش والأسطول المصري، فبذل للنهضة بها جهودا فذة، ولما حطم الأسطول المصري في «نفارين» كان عثمان نور الدين المساعد الأول والمشجع الأول - بعد محمد علي - للمسيو «سيريزي
Cerisy » على إنشاء دار الصناعة، والأسطول الجديد في الإسكندرية.
وكان محمد علي لثقته الشديدة به يعتمد عليه في أمور كثيرة، وكان يحبه حبا جما حتى كان لا يناديه إلا بلفظ «ولدي عثمان»
58
ولهذا زوجه من إحدى جواري القصر، وبنى له منزلا غربي قصر رأس التين ليكون على مقربة منه ومن سفن الأسطول، ثم ولاه في سنة 1827 قيادة الأسطول المصري بعد زوج ابنته محرم بك، وقد تولى قيادة هذا الأسطول في حرب الشام الأولى، وكان لقيادته فضل كبير في إسقاط عكا وإحراز النصر النهائي في تلك الحرب.
هذا موجز لجهود عثمان نور الدين الحربية، وجهوده في تدعيم النهضة التعليمية الأولى لا تقل عنها؛ فإنه لبث بعد إنشاء مدرسة بولاق يرسم الخطط لمحمد علي، وقد نفذت هذه الخطط واحدة بعد الأخرى؛ ففي سنة 1835 قام بتأسيس مدرسة قصر العيني،
59
وكان أول مدير لها، وفي نفس السنة أنشئت مدرسة أركان الحرب في قرية جهاد آباد بناء على مشورته، ولما استقدم محمد علي الدكتور كلوت، وعهد إليه بإنشاء مدرسة الطب المصرية، ترك لعثمان نور الدين سلطة الإشراف على إنشاء تلك المدرسة، وإليه رفع «كلوت بك» تقريره الأول الذي عالج فيه ما قد يعترض إنشاء المدرسة من صعاب.
وإلى عثمان نور الدين يرجع الفضل في إيفاد بعثة سنة 1826 الكبرى إلى باريس؛ وذلك أنه اتصل أثناء تلقيه العلم في فرنسا بالمسيو «جومار»، أحد علماء الحملة الفرنسية، والمشرف حينذاك على نشر جهود المعهد المصري العلمية، فأعجب به «جومار» ثم تحدث إليه عن الوسائل التي يمكن أن تعيد الصلة العلمية بين مصر وفرنسا قوية وثيقة، واقترح عليه أن تفكر مصر في إيفاد بعض تلاميذها لتلقي العلم في فرنسا، وقد حمل عثمان هذه الرغبة إلى محمد علي، وظل يحبذها لديه، حتى وافق محمد علي وأرسلت البعثة الكبرى سنة 1826، وعهد إلى المسيو «جومار»
60
بالإشراف عليها وعلى البعثات التي تلتها.
وهذا أيضا موجز لجهود نور الدين العلمية، تبين في وضوح أنه كان رجلا مثقفا واسع المعرفة، فهم عن سيده أغراضه، وراح يسعى جهده لتنفيذها، غير أنه لم يكن يقدم على مشروع من مشروعاته إلا بعد أن يقتله بحثا ودراسة، يقول «بزوني»
في خطابه السابق أن لعثمان نور الدين عناية خاصة باستشارة الكتب والمراجع لدراسة المواضيع التي يوكل إليه تنفيذها.
61
ولهذا تقدمت به هذه الجهود، وهذا الإخلاص في تنفيذها إلى أعلى الرتب، وأهم المراكز في الدولة، حتى غدا ثاني رجل محبب إلى محمد علي بعد ولده إبراهيم، وحتى أصبح بنفوذه وسلطته يشترك مع بوغوص بك
62
يوسف في كونهما الرجلين الأولين في الدولة اللذين يعتمد محمد علي على جهودهما في الداخل والخارج.
وفي سنة 1833 سافر محمد علي باشا إلى جزيرة كريت؛ ليتفقد أحوالها، ويجري على أهاليها ما كان جاريا عليه العمل بالديار المصرية من قوانين الاحتكارات التجارية، ومادة تكتيب العسكرية، فترتب على هذه الفكرة السيئة عصيان أهل هذه الجزيرة على الحكومة الخديوية، فأرسل إليها عثمان باشا سر عسكر الدونينما المصرية بفرقة من الآلايات العسكرية، ولم يلبث أن توصل من غير مشقة بإخماد نيران الفتنة بجزيرة كريد وتكفل لهم ببقاء حياة رؤساء الفتنة، وترآى لمحمد علي أن من اللزوم جعل قتل بعضهم عبرة لمن اعتبر، فلم يقر ما شرطه لهم سر عسكر دونينماته، ولما رأى عثمان باشا أن في ذلك إعلالا لسلامة حريته، وإخلالا بعلو مرتبته، استعفى من وظيفته، ولزم العزلة والاستراحة بمدينة القسطنطينية حتى وافته هناك المنية.
63
وهكذا انسحب عثمان باشا من الميدان المصري والحاجة إليه ماسة؛ فقد كانت السنوات التالية لسنة 1833 سنوات إعداد واستعداد للنضال العنيف بين محمد علي والسلطان، وبينه وبين الدول الأوروبية، وهنا قد نتساءل: ترى هل كان حادث كريت هو العامل الأول والأخير في انفصال عثمان نور الدين عن محمد علي؟ ويبدو لي أن هذا لم يكن العامل الأول والأخير، بل يصح أن نقول إنه كان التكأة التي اتكأ عليها عثمان للانفصال عن سيده في مصر، والتجائه إلى سيده في الآستانة.
أما ما هي الأسباب الحقيقية الأخرى، فهذا ما لا نستطيع الجزم به لسكوت المراجع المعاصرة عن تبيانه، ولكننا نستطيع أن نستنتج من بين السطور أن الدور الهام الذي لعبه عثمان نور الدين في حرب الشام الأولى، دفع السلطان إلى اجتذابه إليه، وأنه سعى لهذا الاجتذاب سعيه، وثار النزاع في نفس عثمان، وانتهى به إلى ترك مصر والذهاب إلى الآستانة، بهذا الرأي، يقول الأستاذ شفيق غربال بك في مقدمته لكتاب صديقنا الدكتور إبراهيم عبده عن «تاريخ الوقائع المصرية»؛ فقد قال: «ويرتبط إنشاء المطبعة والوقائع برجل من رجال محمد علي أهمله المؤرخون وهو جدير بعنايتهم، أعني عثمان نور الدين، وهو من رجال العهد الأول من النهضة المصرية، وكان ساعد محمد علي في الطور الأول من أطوار الإصلاح، ثم شاءت الظروف أن ينسحب عثمان نور الدين من مجال الإصلاح المحمدي العلوي، وأن ينضم للسلطنة العثمانية، وكأني بمحمد علي وقد جرحه هذا العقوق أو هذه الخيانة، فأسدل الستار على عثمان، وسقط اسمه من الأفواه، وأغفله المؤرخون.»
وحياة عثمان نور الدين ونهايته تثيران ألوانا من التفكير والأحكام؛ فقد توزع الرجل بين محمد علي والسلطان، واضطرب قلبه بين هذين العاهلين، وتحكم في ولائه السيدان، ثم اختلف كلاهما، فكيف يكون حال عثمان؟ مسألة لها في الأدب، وفي الأخلاق وفي التاريخ نظائر، ولا يمكن أن يقال إن الحكم فيها نهائي.
64
وبعد: فهذا موجز عن جهود الرجل عملا وعلما، أما العمل فكان ميدانه الجيش والأسطول، وأما العلم فكان ميدانه التعليم، وتأسيس المدارس، وإيفاد البعثات، ويتوج هذا جميعا الترجمة، وقد بذلت الجهد لإحصاء ما ترجم عثمان نور الدين من كتب، فاعترضتني صعوبات كثيرة، أهمها:
أولا:
إن الكتب الحربية التي ترجمت في عصر محمد علي قد ضاع معظمها، وليس في دور كتبنا منها إلا القليل النادر.
ثانيا:
إن القوائم التي رصدت الكتب الحربية التي ترجمت في ذلك العصر لم تذكر إلى جانبها أسماء مؤلفيها أو مترجميها إلا في النادر جدا، فلعله من بين هذه الكتب ما هو من ترجمة عثمان نور الدين.
والذي نستطيع أن نقرره أن الكتب التي ترجمها عثمان نور الدين، كانت كلها كتبا حربية بحرية، وأنها جميعا ترجمت عن الفرنسية إلى لغته الأصلية التركية، وقد عثرت منها على كتاب: «قانون نامه سفاين بحريه جهادية»، وقد طبع في بولاق سنة 1243، وقد ذكر سرهنك باشا أنه ترجم «كتاب القواعد البحرية» وآخر في السياسة البحرية أي قانون العقوبات
65 «ولعل الكتاب الذي ذكرناه واحد منهما».
توالت البعثات منذ سنة 1826، حتى سنة 1848، وأرسلت إلى دول أوروبا المختلفة، وتنوعت الدراسات التي خصص الطلاب لتحصيلها، وكان هؤلاء الطلاب يوجهون في بعثاتهم للتخصص في العلوم والفنون المختلفة أولا، ثم لإجادة اللغات الأجنبية ثانيا، حتى إذا عادوا إلى مصر اشتغلوا بالترجمة.
66
وأخفق في هذه البعثات البعض، ووفق البعض الآخر - وهم الغالبية - وعاد الموفقون إلى مصر، وتولوا شئونها الإدارية والعلمية، ولكنهم لم ينسوا الغرض الثاني - الترجمة - بل بذل معظمهم جهودا موفقة في هذا السبيل، فقدموا لمطبعة «صاحب السعادة» كتبا كثيرة نقلوها عن المراجع الأوروبية الهامة.
ولكننا نلاحظ أن أكثر أعضاء البعثات نشاطا، وأوفرهم إنتاجا، هم الأطباء والمهندسون، وتعليل ذلك يسير إذا عرفنا أن معظم هؤلاء الأطباء والمهندسين عينوا بعد عودتهم مدرسين، ومساعدي مدرسين في مدرستي الطب والهندسة، وأنهم كانوا يتخيرون كتبا معينة مما درسوا في أوروبا، لتدريس أصولها في هاتين المدرستين، حتى إذا تم لهم ترجمة هذه الكتب وتنقيحها قدموها إلى المطبعة، وفيما يلي عرض لجهود هؤلاء الأطباء والمهندسين.
أعد اثنان من أعضاء بعثة سنة 1826 لدراسة الطب في فرنسا، وهما: علي هيبة والشيخ محمد الدشطوطي،
67
عاد الثاني من فرنسا في آخر سنة 1831، ولم يعرف له جهد في الترجمة بعد عودته، ولعله ألحق طبيبا بإحدى فرق الجيش. (أ) الدكتور علي هيبة
68
عاد من فرنسا في ديسمبر سنة 1833/شعبان 1249، فعين مدرسا بمدرستي الطب والولادة، فلما نقلت مدرسة الولادة إلى الأزبكية، وبعدت عن مدرسة الطب، عهد للدكتور هيبة بالإشراف عليها مع قيامه بالتدريس للفرقة الثانية، وقد قام منذ عاد من فرنسا بترجمة كتب طبية ثلاث، اثنان في علم الفسيولوجيا، والثالث في علم الولادة، وهما المادتان اللتان تخصص لدراستهما في باريس، وفيما يلي أسماء هذه الكتب: (أ)
فسيولوجيا
69
ترجمه عن الفرنسية إلى العربية، وطبع في بولاق سنة 1251 (أي بعد عودته بسنتين). (ب)
إسعاف المرضى في علم منافع الأعضاء، تأليف «الخواجة سوسون معلم الفسيولوجيا بأبي زعبل»، وترجمه من الفرنساوية للعربية علي أفندي هيبة الحكيم بمدرسة أبي زعبل، الذي بلغ رتبة الحكيم من مدرسة الطب بباريس، وكان يمليه على الشيخ محمد محرم أحد المصححين بمدرسة أبي زعبل،
70
وقد قام بتحريره الشيخ محمد الهراوي، وتم طبعه في بولاق في الرابع عشر من المحرم سنة 1252، وذكر في خاتمته أنه «سادس كتاب طبع من كتب الطب المترجمة».
71 (ج)
طالع السعادة والإقبال في علم الولادة وأمراض النساء والأطفال، ترجمه عن الفرنسية، وقام على تصحيحه زميله الدكتور أحمد حسن الرشيدي، وطبع في بولاق سنة 1258.
وبينما كانت بعثة سنة 1826 تتلقى العلم في فرنسا، كانت مدرسة الطب قد أنشئت في سنة 1827، وكان «كلوت بك» يبذل الجهد كل الجهد ليوفر لها أسباب النجاح وليعمل على تمصير التدريس بها، فلما مضى على إنشائها خمس سنوات تخرجت الدفعة الأولى «في سنة 1832»، فتخير كلوت بك اثني عشر طالبا من أمهر خريجيها، وبعثهم إلى فرنسا لإتمام دراستهم، فلما عادوا إلى مصر، ألحقوا مدرسين بمدرسة الطب، وقد كان لأكثرهم جهد مشكور في الترجمة عن الفرنسية. (ب) الدكتور إبراهيم النبراوي
أصله من قرية نبروه بمديرية الغربية، تعلم الخط والكتابة والقراءة في مكتب القرية، ثم تعلق بالبيع والشراء كما يقول علي باشا مبارك، فأرسله أهله مرة «إلى المحروسة ليبيع بطيخا، فلم تربح تجارته، بل لم يحصل رأس المال فخاف من أهله ولم يرجع إليهم، ودخل الأزهر.»
72
ثم اختير مع غيره من طلاب هذا الجامع ليكونوا الفرقة الأولى بمدرسة الطب عند إنشائها، وامتاز فيها على أقرانه فانتخب عضوا في بعثة 1832، ولما عاد إلى مصر عين مدرسا بمدرسة الطب، «ولنجابته وحسن درايته في فنه، اختاره العزيز محمد علي باشا حكيمباشي لنفسه، وقربه، وتخصص به، وبلغ رتبة أميرالاي، وكثرت عليه إغداقات العزيز وانتشر ذكره، وطلبته «الفاميليات» والأمراء، ولم يزل مع العزيز، وسافر معه إلى البلاد الأوروباوية سنة ثلاث وستين»،
72
وكان قد تزوج وهو في البعثة من فرنسية عادت معه إلى مصر وظلت بها حتى توفيت فتزوج من بدوية أنعمت عليه بها والدة عباس باشا الأول.
وفي سنة 1846 / 1261 أو بعدها بقليل عندما استقال الدكتور «برون» مدير مدرسة الطب، وعاد إلى فرنسا، تولى وكالتها
73
الدكتور النبراوي، وعهد إليه بالإشراف عليها، وهو أول مصري يلي هذا المنصب، ثم خلفه بعد قليل زميل له وعضو آخر من أعضاء بعثة 1826، وهو الدكتور محمد الشافعي، وقد احتفظ النبراوي بمكانته العلمية الممتازة بعد عصر محمد علي، فاختاره عباس باشا بعد توليته حكيمباشي له، ثم اختارته والدته للسفر معها إلى الحج.
وقد قام النبراوي بترجمة الكتب الآتية: (أ) «نبذة في الفلسفة الطبيعية»، «نبذة في التشريح العام»، «نبذة في التشريح المرضي»؛ وكلها من تأليف كلوت بك، وقد طبعت في مجلد واحد في بولاق سنة 1253.
وقد ذكر المغفور له الأمير عمر طوسون أن النبراوي قام بترجمة هذه النبذ وهو في فرنسا، وحجته في ذلك (وهو هنا يأخذ عن علي مبارك، الخطط، ج11، ص85) أن أعضاء هذه البعثة كان عليهم بعد أن أتموا دراستهم أن يضعوا رسائل فيما درسوا، ولكنهم ندبوا للعودة إلى مصر خطأ، فعادوا إليها في مارس سنة 1836
74 (ذو الحجة 1251 والمحرم 1252)، فأمر محمد علي باشا بإرجاعهم إلى فرنسا لتقديم هذه الرسائل، والحصول على إجازاتهم، فسافروا إليها ثانية في سبتمبر 1836/جمادى الأولى والثانية 1252، وأنهم عادوا إلى مصر بعد ذلك في سنة 1838 / 1254، ولكن كيف يتسنى للطالب الذي يعود إلى فرنسا ليتفرغ لإعداد رسالته أن يترجم كتابين يطبعان في بولاق في نفس المدة التي قضاها في فرنسا؟
عندي أن ما ذكره الأمير غير صحيح، بدليل أن الدكتور عزت عبد الكريم
75
نقض في كتابه هذه الحجة السابقة معتمدا على بعض وثائق عابدين، وذكر أن ما ذهب إليه علي مبارك باشا، والأمير عمر طوسون من ندب هؤلاء الأعضاء خطأ، ثم إعادتهم لإتمام رسائلهم، أمر غير حقيقي، وأثبت أن خمسة من أعضاء هذه البعثة عادوا إلى مصر في سنة 1836 / 1252، ثم عاد الباقون بعدهم بسنتين (في 1254 / 1838)، وبهذا الرأي يستقيم الوضع فيكون النبراوي واحدا من الخمسة الذين عادوا إلى مصر في سنة 1836، ويكون قد ترجم نبذ كلوت بك بعيد عودته مباشرة، فلما انتهت طبعت في بولاق في 7 رجب سنة 1253 / 7 أكتوبر 1837. ويؤكد ما نذهب إليه من أنه عاد إلى مصر سنة 1836، وأنه ترجم هذا الكتاب في مصر لا في فرنسا؛ ما جاء في خاتمة الكتاب نفسه، ص76: «هذا آخر ما جمعه أمير اللوا كلوت بك، وقد ترجمه من الفرنساوية إلى العربية إبراهيم أفندي النبراوي حكيم أول ابن عرب بإملائه للشيخ محمد محرم أحد المصححين ... إلخ.»
وفي السنة التالية أي في سنة 1254 ترجم النبراوي الكتاب الآتي عن الفرنسية: (ب) الأربطة الجراحية، وطبع في بولاق. (ج) الدكتور أحمد حسن الرشيدي
كان واحدا من مشايخ الأزهر الذين عينوا مصححين ومحررين للكتب التي تترجم بمدرسة الطب البشري، وقد اشترك مع المصحح الأول الشيخ محمد الهراوي في مراجعة وتصحيح أول كتاب ترجم في المدرسة، وهو «القول الصريح في علم التشريح» من تأليف «كلوت بك» وترجمة عنحوري، وطبع في سنة 1248، وقد ذكرنا عند كلامنا عن مدرسة الطب أن «كلوت بك» رأى - فيما رأى - للتغلب على صعوبة اللغة أن يلزم بعض المترجمين والمصححين أن يحضروا دروس الطب بالمدرسة ليلموا بمبادئه ومصطلحاته، ويبدو أن السيد أحمد الرشيدي، وزميلا له من المصححين يحمل اسمه دون أن تكون بينهما قرابة هو الشيخ حسين غانم الرشيدي كانا ممن حضروا الدروس، وأفادوا منها، فلما فكر كلوت بك في إيفاد بعثة سنة 1832 الطبية إلى باريس اختار هذين الشيخين
76
ليكونا عضوين بها.
وعاد هذان الشيخان من بعثتهما سنة 1838، فألحقا مدرسين بمدرسة الطب، وكانت لهما جهود محمودة في التدريس والترجمة، وقد كان لعلم السيد أحمد الواسع باللغة العربية، وإتقانه لها مذ كان طالبا بالأزهر؛ فضل كبير في أن خرجت ترجماته أقرب ما تكون إلى الصحة، بل إنا لنلاحظ أن كتبه - دون كتب زملائه - كانت تقدم للمطبعة من غير أن تمر على أحد من المصححين، كما نلاحظ أنه كان يقوم أحيانا بمراجعة بعض الكتب التي يترجمها زملاؤه، وحوالي سنة 1840 عهد إليه بإدارة مدرسة الولادة
77
بعد أن تولاها من زملائه الدكتوران علي هيبة، وعيسوي النحراوي.
وقد قام السيد أحمد حسن الرشيدي في مدى عشر سنوات تقريبا (1252-1262) بترجمة سبعة كتب في مختلف الفنون الطبية، عدا كتاب واحد في علم الجغرافيا: (أ)
رسالة في تطعيم الجدري تأليف «كلوت بك»، طبع في بولاق سنة 1250، ثم طبع ثانية في سنة 1252، وذكر سركيس في معجمه أن الدكتور أحمد الرشيدي ترجم كتابا لكلوت بك عنوانه «نبذة لطيفة في تطعيم الجدري»، وطبع في بولاق سنة 1259، وإني لأرجح أن تكون هذه طبعة ثالثة لنفس الكتاب، ويجدر بي أن أشير هنا إلى أن هذا الكتاب طبع لأول مرة سنة 1250 ومترجمه مقيم في باريس، ولا تفسير لهذا إلا أن نرجع إلى ما ذكرته في مقدمة هذا الفصل من أن محمد علي كان يلاحق تلاميذ البعثات وهم في الخارج بالأوامر أن يترجموا - أثناء دراستهم - كتبا فيما يتخصصون فيه؛ لهذا أرجح أن يكون الرشيدي قد ترجم هذا الكتاب وهو في باريس ثم أرسله فطبع في بولاق سنة 1250 ثم في 1252 قبل عودته. (ب)
الدراسة الأولية في الجغرافية الطبيعية، تأليف «فليكس لامروس»، وطبع في بولاق سنة 1254، وهو أول كتاب ترجمه بعد عودته من البعثة. (ج)
ضياء النيرين في مداواة العينين، تأليف الطبيب الإنجليزي «لورنس»، وطبع في بولاق سنة 1256، وهو ثاني كتاب ترجمه بعد عودته، وتدل مقدمة هذا الكتاب على أن السيد أحمد الرشيدي كان وافر النشاط، محبا لعمله مقبلا عليه، يأبى البطالة، ويعاف الكسل؛ فقد قال في ص2: «وبهمة سعادته (يقصد محمد علي) سافرت وارتحلت وحصلت من بلوغ الأماني ما حصلت، ثم رجعت إلى وطني سالما مجبور الخاطر، آمنا غانما وما زلت إلى الآن مقيما بتلك المدرسة (مدرسة الطب) التي هي ينبوع مكارمنا، ومحط آمالنا، وكنز ادخار مغانمنا، معدا للتدريس وترجمة المؤلفات، مقيدا لعيادة المرضى والمعالجات، فكان آخر ما ترجمته قبل هذا الكتاب كتاب الدراسة الأولية في علم الجغرافيا الطبيعية، ولما كمل إتمامه، مكثت برهة مضطرب الظنون، حتى أظهر الله ما في غيبه المكنون فبرز في الأمر وظهر، بترجمة كتاب يقر به النظر، كتاب لهجت بمدحه الألسن للطبيب الجراح الإنجليزي لورنس في أمراض العين، وقد أضاف إليه نبذة من كتاب الحكيم «ولير» النمساوي في كيفية تحضير أدوية العين، واستعمالها في التداوي، ثم زاد عليه جملة مستحضرات ما يستعمل في مصر، ومركبات من نحو أكحال ومراهم وبرودات وقطورات ... إلخ.» (د)
بهجة الرؤساء في أمراض النساء، طبع في بولاق سنة 1260. (ه)
نزهة الإقبال في مداواة الأطفال، طبع في بولاق سنة 1261. (و)
الروضة البهية في مداواة الأمراض الجلدية (في جزأين)، طبع في بولاق سنة 1262-1263. (ز)
نخبة الأماثل في علاج تشوهات المفاصل، طبع مع الكتاب السابق كملحق له.
وفي عهد عباس الأول وسعيد هدأت الحركة العلمية، وهدأ معها قلم السيد أحمد الرشيدي. يقول جورجي زيدان: «وكان قد وشى به بعض مبغضيه، واتهموه بأمور أوجبت ابتعاده عن الخدمة، فلما صارت الخديوية إلى إسماعيل في سنة 1863 / 1280 اتجهت الأنظار إلى استخدامه، فتوسط محبوه لدى الخديوي وأبانوا له اقتداره على خدمة الطب، فقدمه، وأوعز له أن يشتغل فألف كتاب عمدة المحتاج لعلمي الأدوية والعلاج.»
78
وهذا الكتاب موسوعة علمية كبيرة تقع في أربعة أجزاء كبار، وقد طبع في سنة 1283 بعد وفاته بسنة واحدة، وقد ألحق به فهرسا توضيحيا الدكتور حسين عودة. (د) الدكتور حسين غانم الرشيدي
أما صديقه وزميله الدكتور حسين غانم الرشيدي فقد عين بعد عودته معلما للأقرباذين والمادة الطبية، غير أنه كان محدود النشاط في الترجمة، فلم يترجم إلا كتابين وهما: (أ)
الدر الثمين في الأقرباذين، وطبع في بولاق سنة 1265. (ب)
الدر اللامع في النبات وما فيه من الخواص والمنافع، تأليف الدكتور «فيجري بك»، وطبع في بولاق سنة 1257، وقد راجعه وحرره الشيخ محمد عمر التونسي.
غير أن السيد حسين غانم كان كزميله حجة في اللغة العربية؛ ولهذا كان يشترك في تصحيح بعض الكتب المترجمة، حتى بعد عودته، كما فعل في مراجعة أجزاء من كتاب «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية»
79
بالاشتراك مع الشيخ التونسي. (ه) الدكتور عيسوي النحراوي
كان من طلبة الأزهر، ثم دخل مدرسة الطب في أول سنة أنشئت فيها، واختير عضوا في بعثة سنة 1832، وعاد إلى مصر في سنة 1838، وترجم بعد عودته كتابا في التشريح عنوانه: «التشريح العام»، تأليف المسيو «لكلار» الطبيب الفرنسي، وطبع في بولاق سنة 1251، وذكر الأمير عمر طوسون في كتابه عن البعثات أنه ترجم هذا الكتاب وهو طالب في فرنسا.
وقد قام النحراوي أيضا بترجمة الجزء الخاص بالتشريح العام من القاموس الطبي الفرنسي الذي اشترك الأطباء المصريون في ترجمته، واختار له الشيخ محمد عمر التونسي عنوان «الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية». (و) الدكتور محمد الشباسي
كان من تلاميذ الأزهر، ثم التحق بمدرسة الطب في سنة 1827، وسافر إلى باريس في بعثة سنة 1832، وعاد منها في سنة 1838 فعين مدرسا
80
لعلم التشريح الخاص بمدرسة الطب، وكان كزميله النحراوي مقلا في الترجمة، فلم يترجم إلا الكتابين الآتيين: (أ)
التنوير في قواعد التحضير، وطبع في بولاق سنة 1264. (ب)
التنقيح الوحيد في التشريح الخاص الجديد، تأليف مسيو «كروليه»، ويقع في 3 أجزاء كبيرة تتكون من 1320 صفحة، بدئ في طبعه في أواخر عهد محمد علي، وكلف بمراجعته الشيخ سالم عوض القنياتي، فقام بتصحيح الجزء الأول ثم «عاقه الرمد»
81
عن مراجعة بقية الكتاب، فقام بتصحيحه الشيخ محمد عمر التونسي، وتم طبعه في جمادى الآخرة
82
سنة 1266، أي في أوائل عهد عباس الأول، وقد ذكر المترجم في مقدمة الكتاب أنه ترجمه ليكون مرجعا وافيا في فن التشريح يستعين به تلاميذ مدرسة الطب، قال: «لما وكل إلي تعليم فن التشريح في مدرسة الطب الإنساني، ولم يكن بها كتاب جامع لما له المشرح يعاني، وكانت معارف التلامذة قاصرة عن كتاب الماهر «بيل»
83
وهو في غاية الاختصار، ومطبوع من زمن طويل، فأردت أن أترجم لهم كتابا جامعا لمسائله المهمة، كاشفا عمن يقرؤه الجهالة والغمة، فاخترت كتاب الماهر «كرولييه» المشهور؛ لما أنه بين كتب التشريح بالحسن مذكور، فعرضت على سعادة «كلوت بك» ما خطر ببالي، فاستحسنه ولم يبالي (كذا)، فامتثلت وشرعت في نقله وترجمته.»
81
الدكتور محمد الشباسي.
وقد اشترك الشباسي - كبقية زملائه الأطباء المصريين - في ترجمة القاموس الطبي السالف الذكر. (ز) الدكتور محمد الشافعي
الدكتور محمد الشافعي.
كان كزميليه السابقين تلميذا في الأزهر، ثم التحق بمدرسة الطب وسافر إلى باريس في سنة 1832، ثم عاد سنة 1838، فعين مدرسا للأمراض الباطنية، وحوالي سنة 1840 تولى إدارة مدرسة الولادة، وفي سنة 1845 عين وكيلا لمدرسة الطب،
84
وذلك بعد أن استقال مديرها الدكتور «برون»، وعاد إلى فرنسا، فكان أول رئيس مصري تولى إدارة هذه المدرسة، وقد لبث يشغل هذا المنصب إلى أوائل عهد عباس الأول، فلما أغلقت المدرسة اشتغل بالتطبيب والتأليف إلى أن أعيد فتحها في عهد سعيد باشا، فعاد إليها ثم عين مديرا لها
85
في عهد الخديو إسماعيل، إلى أن أدركته الوفاة حوالي سنة 1877، وقد قام الشافعي في عصر محمد علي بترجمة ثلاثة كتب، وهي: (أ)
أحسن الأغراض في التشخيص ومعالجة الأمراض، في أربعة أجزاء كبيرة، وطبع في بولاق سنة 1259. (ب)
كنوز الصحة ويواقيت المنحة، تأليف «كلوت بك»، وطبع في بولاق سنة 1260. (ج)
الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال، تأليف «كلوت بك»، وطبع في بولاق سنة 1260.
وقد أسهبنا الحديث عن هذين الكتابين عند كلامنا عن «كلوت بك» في الفصل الخاص بالكتب والمؤلفين، وذكرنا أنهما ترجما أيضا عن العربية إلى التركية. (ح) الدكتور محمد عبد الفتاح
أرسل إلى فرنسا لدراسة الطب البيطري بمدينة «ألفور
Alfort »، غادر مصر في الأيام الأخيرة من سنة 1829، ووصل إلى فرنسا في يناير سنة 1930، وعاد منها في أوائل سنة 1836، فعين مدرسا ومترجما بمدرسة الطب البيطري، وقد قام في مدى عشر سنوات (1252-1262) بترجمة سبعة كتب، كلها في الطب البيطري، وهي: (أ)
تحفة القلم في أمراض القدم، طبع في بولاق سنة 1252. (ب)
نزهة المحافل في معرفة المفاصل، تأليف «ريجو». قال الشيخ مصطفى حسن كساب في مقدمته: «لما كان تشريح الطبيب الماهر المعلم «جيرار» ناقصا بعض مسائل، أراد الحاذق النجيب المعلم «ريجو» الذي هو تلميذ ابنه أن يكمله، فألف هذا الكتاب، ثم ترجمه من اللغة الفرنساوية إلى اللغة العربية، المؤمل من مولاه النجاح، محمد أفندي عبد الفتاح، أحدث أبناء العرب الذين أرسلوا إلى بلاد أوروبا لتعلمهم (كذا) ما يبلغون به أرفع الرتب ... إلخ.» وقد طبع هذا الكتاب في بولاق سنة 1257. (ج)
الطب العملي، تأليف «واتيل»، وقد قرأ هذا الكتاب لتلاميذ مدرسة الطب البيطري «الخواجة لابتوت» أحد مدرسي هذه المدرسة، «ثم قام بترجمته محمد الفتاح». قال الشيخ كساب في مقدمة الكتاب: «ومن أهم ما ألف في هذا الشأن (علم الجراحة البيطرية) كتاب الطبيب الشهير، عديم المثيل، المعلم «واتيل»، وهو الذي قرأه للتلامذة في المدرسة البيطرية المستجدة بأرض شبرا الخيمة، البيطري الماهر، «الخواجة لابتوت»، وقد طبع هذا الكتاب في بولاق سنة 1259.» (د)
البهجة السنية في أعمار الحيوانات الأهلية، تأليف «جيرار» تمت ترجمته في الثالث عشر من ربيع الأول سنة 1260، وتم طبعه في بولاق في أوائل رجب من نفس السنة. (ه)
مشكاة اللائذين في علم الأقرباذين، تأليف «لابتوت»، طبع في بولاق سنة 1262. (و)
قانون الصحة البيطرية، تأليف «لويس جروتييه»، وطبع في بولاق سنة 1262. (ز)
المنحة لطالب قانون الصحة، تأليف «لويس جروتييه» طبع في بولاق سنة 1262.
وإني لأرجح أن يكون هذان الكتابان كتابا واحدا لتشابه العنوانين، ولنسبتهما إلى مؤلف واحد، ولأنهما طبعا في سنة واحدة.
قام بترجمة كثير من كتب الرياضيات مدرسة من خريجي المدارس والبعثات، كان أستاذها الأكبر نابغة مصر محمد بيومي أفندي، وكان تلاميذه ومساعدوه: إبراهيم رمضان، وأحمد دقلة، وأحمد طايل، وأحمد فايد. (أ) محمد بيومي أفندي
ويعنينا هنا أن نتحدث عن نابغة هذه المدرسة وأستاذها محمد بيومي: أصله من بلدة دهشور، وإن كان قد ولد في القاهرة، أرسل إلى فرنسا في بعثة سنة 1826، وله من العمر سبعة عشر عاما، ولبث في فرنسا تسع سنوات تخصص في خلالها في فن قوى المياه
86 «الهيدروليكا
Hydraulique » ثم عاد إلى مصر في 14 ذي الحجة سنة 1250
87 (13 أبريل 1835)، فعهد إليه في الحال بالبدء في ترجمة كتاب في الهندسة الوصفية،
88
وفي نفس التاريخ صدر أمر محمد علي باشا بتعيينه «مدرسا بمدرسة المهندسخانة بالقناطر الخيرية» مع تفهيمه القيام بمعاونة باشمهندس القناطر بالنسبة لتعلمه أشغال القناطر كما يجب بباريس.
87
محمد بيومي أفندي أستاذ الرياضيات بمدرسة المهندسخانة.
وفي شوال سنة 1251/يناير سنة 1836
89
ضمت مدرسة المهندسين بالقناطر إلى مدرسة المهندسخانة ببولاق، ونقل بذلك بيومي أفندي أستاذا بهذه المدرسة الأخيرة.
وفي نفس السنة ألفت لجنة لإعادة تنظيم المدارس؛ فكان بيومي أفندي واحدا من أعضائها،
90
وقد عنيت هذه اللجنة عناية خاصة بمدرسة المهندسخانة ببولاق، فوضعت للدراسة بها نظاما يتفق ونظام مدرسة الهندسة بباريس، وفي أوائل تلك السنة (1836) كان قد عاد من فرنسا إبراهيم أفندي رمضان، وأحمد أفندي دقلة، وأحمد أفندي طائل، وأحمد أفندي فائد قبل أن يتموا دراستهم، وكانوا قد أوفدوا إليها جميعا في سنة 1830، فألحق اثنان منهم وهم دقلة وطائل معيدين لدروس بيومي أفندي في المهندسخانة على أن يتما دراستهما عليه، وألحق أحمد أفندي فائد معيدا لدروس بهجت باشا بالقصر العيني، وإبراهيم أفندي رمضان معيدا لدروس مظهر باشا بمدرسة الطوبجية، ولم يلبث هذان الأخيران أن نقلا إلى مدرسة بولاق، وأصبح الجميع تلامذة ومعيدين لبيومي أفندي. يقول علي مبارك باشا: «وكان (أي بيومي أفندي) هو الباش خوجة عليهم، فكان المرجع إليه والمعول عليه.»
91
وفي سنة 1836 أيضا عندما أعيد تنظيم مدرسة المدفعية بطرة قام بتنظيم
92
دروس الرياضيات بها بيومي أفندي.
وحوالي سنة 1839 / 1255 أوجد بديوان المدارس نظام المعاونين
93
وهم بمثابة المفتشين الآن، وكان عملهم الأساسي التفتيش على المدارس وشئونها المختلفة علمية وتربوية وصحية ... إلخ، وكان يعهد إلى بعض هؤلاء المعاونين، ومنهم بيومي أفندي بترجمة الكتب وتصحيحها.
وقد قام بيومي أفندي بهذه الأعمال جميعا خير قيام، ولكنه بذل الجهد الأكبر مع تلاميذه ومساعديه الأربعة في النهضة بمدرسة بولاق وتلاميذها، وترجمة الكتب في مختلف فروع العلوم الرياضية، لاحظت هذا الجهد لجنة سنة 1841 لإعادة تنظيم التعليم، فمدحته، وضمنت هذا المدح تقريرها، قالت: «لا ريب في أن المهندسخانة مدينة بكل تقدمها هذا إلى دقة ناظرها، وهمة أساتذتها، غير أن معظم الفضل إنما يرجع إلى ترجمة المدرسين للدروس، وإلى الإسراع في طبع التراجم بمطبعة الحجر (الملحقة بالمدرسة)، ثم جمعها في كراسات وكتب، ولقد كانت العلوم الرياضية التي كانت في متناول اليد من القلة والندرة، وكانت ترجمتها من الإشكال والصعوبة بحيث لم يتيسر قبل اليوم تنشئة المهندسين الفحول على الوجه الصحيح الموافق لأسلوب فرنسا، ولكن ها هو البكباشي محمد بيومي أفندي، واليوزباشية أحمد طائل أفندي، وإبراهيم رمضان أفندي، وأحمد دقلي أفندي، وأحمد فائد أفندي يتولون بفضل بركات الخديوي ترجمة الدروس التي وكل إليهم تعليمها، ثم لا يقفون عند حد الترجمة، بل يطبعونها على الحجر ويطبعون منها كتبا
94
وأسفارا، والواقع أن الامتحان الأخير كان مشهدا لما جمعته هذه الكتب بين دفاتها من شتى العلوم.»
95
ولما أنشئ قلم الترجمة (الملحق بمدرسة الألسن) في سنة 1841 قسم إلى أقلام أربعة، كان أولها القلم الخاص بترجمة الكتب الرياضية، فكان بيومي أفندي خير من يتولى رئاستها، فنقل إليه وعين لمساعدته ملازم من خريجي الألسن، وخمسة
96
من تلاميذ فرقتها الأولى.
وقد كان بيومي أفندي إلى هذا «حسن الأخلاق مهيبا جليلا ذا رأي حسن»،
97
وكان أستاذا لجيل من المهندسين بأكمله، تتلمذ عليه من كان يصغره سنا، ولم يأنف أن يتتلمذ له من كان يكبره سنا، أمثال «سلامة باشا، ومحمود باشا الفلكي، وإسماعيل باشا محمد، وعامر بك»، وكلهم من نوابغ المصريين في القرن التاسع عشر.
غير هذا أن هذا النبوغ الفذ والخلق الطيب لم يلقيا من عباس الأول ما لقياه من محمد علي من تكريم وتقدير؛ ففي 12 رجب سنة 1266، صدر الأمر بإنشاء مدرسة الخرطوم الابتدائية وعين رفاعة بك لنظارتها، واختير لتدريس الأرقام، وطريقة كتابتها، وعمليات الجمع والطرح والضرب، نابغة الرياضيات بيومي أفندي، وتلميذه وزميله أحمد طائل أفندي، وكانت الصدمة عنيفة فأثرت في صحة بيومي أفندي، وتعاون عليه الحظ العاثر والمرض، فأدركته المنية ودفن هناك.
98
وفي رمضان سنة 1253/ديسمبر 1837
99
زار مصر الدكتور «بورنج»، ومكث بها شهورا زار في خلالها منشآت محمد علي، ومن بينها مدرسة المهندسخانة ببولاق، وقد ذكر في تقريره أنه حتى سنة 1838 لم يكن قد طبع من الكتب التي ترجمها أساتذة المدرسة إلا كتاب الهندسة الوصفية، تأليف «دوشين
Duchesne » وترجمة محمد بيومي، ولكنه أثبت بعد ذلك قائمة بالكتب التي تمت ترجمتها ولم تطبع، أو لم تتم ترجمتها بعد، وهي: (1) كتاب الجبر
تأليف «ماير
Mayer »
أكمل ترجمته بيومي، ولم يطبع (2) مبادئ اللغوريتمات
أكمل ترجمته بيومي ولم يطبع (3) كتاب الميكانيكا
تأليف «تركم
Terquem »، جزء واحد
يترجمه بيومي (4) كتاب الطبيعة
تأليف «بكليه
»، في جزأين
يترجمه فايد (5) مبادئ الطبوغرافية
تأليف «تيرليه
Thrillet »، جزء واحد
يترجمه رمضان (6) كتاب الهيدروليكا
تأليف «دوبيسون
d’Aubuisson » جزء واحد
يترجمه دقلة (7) رسالة في المنشآت
تأليف «نافييه
Navier » جزء واحد
يترجمها دقلة (8) كتاب الكيمياء
تأليف «دوماس
Dumas » وهذا الكتاب كبير يقع في ستة أجزاء
ويترجم منتخبات منه فايد (9) الجغرافيا الطبيعية
تأليف «لاكروا
La Croix » جزء واحد
يترجمه دقلة (10) الجغرافيا العامة
تأليف «بوبيه
Boubée » جزء واحد
يترجمه فايد (11) قطع الصخور
تأليف «دويو
Duillot » جزء واحد
يترجمه بيومي (12) رسالة في الحرارة
تأليف «بيتيه
» جزء واحد ؟ (13) رسالة في الضوء
تأليف «بيتيه
» في جزء واحد ؟ (14) رسالة في التعدين
تأليف «برار
Brard » جزء واحد ؟ (15) الفحم الحجري
تأليف «دويو
Duillot » جزء واحد
يترجمه بيومي (16) رسالة في التركيب العددي
تأليف «جريمييه
Gremilliet » جزء واحد
يترجمه دقلة (17) كتاب الكيمياء
تأليف تينار
Thénard ؟ (18) كتاب الكيمياء
تأليف «شابتال
Chaptal » ؟ (19) كتاب الكيمياء
تأليف «جراي
Gray » ؟ (20) جريدة المعارف العادية ؟ (21) مبادئ المنتجات الكيميائية ؟ (22) مبادئ التفحيم
Manuel de Charpentier ؟ (23) التعدين «للحديد»
تأليف «كارستون
Carston » ؟ (24) العلوم
تأليف «تورنير
Tourneur » * ؟ *
Bowring Op. Cit. p. 144 .
كتاب الروضة الزهرية في الهندسة الوصفية «اشترك في ترجمته إبراهيم رمضان، ومنصور عزمي، وصححه الشيخ إبراهيم الدسوقي»
وفي أسفلها توقيع: صالح مجدي، وإبراهيم رمضان [نموذج جميل للكتب التي طبعت طبع حجر بمطبعة المهندسخانة ببولاق].
هذه أربعة وعشرون كتابا أثبتها «بورنج» في تقريره، وذكر أن بعضها ترجم وأن البعض الآخر تحت الترجمة، غير أنه يبدو أن الكثير من هذه الكتب لم يطبع، ولسنا نعرف ماذا كان مصيرها، ولم أعثر في فهارس الكتب المطبوعة إلا على ثمانية عشر كتابا ترجمها أعلام هذه المدرسة، وطبع أولها وهو كتاب الهندسة الوصفية في سنة 1252 / 1838، وطبع آخرها سنة 1269، أي في عهد عباس الأول، وفيما يلي بيانها: (1)
الهندسة الوصفية تأليف «دوشين»، جزءان، طبع الجزء الأول في بولاق سنة 1252، وطبع الثاني سنة 1263. (2)
كتاب الجبر والمقابلة، تأليف «ماير» جزء واحد في 571 صفحة، طبع في بولاق في غرة جمادى الآخرة سنة 1256. (3)
ميكانيقة (أي جر الأثقال)، تأليف «تركم»، ترجمه بيومي بالاشتراك مع أحمد طائل، جزء واحد، بولاق سنة 1257. (4)
ثمرة الاكتساب في علم الحساب، ويبدو أن بيومي أفندي كان قد ترجم هذا الكتاب ترجمة سريعة ليستعين به في تدريس هذه المادة، ثم طبع طبع حجر بمطبعة مدرسة المهندسخانة، ولكنه عاد فراجعه وزاد عليه تنفيذا لأمر أدهم بك مدير المدارس، وطبع الكتاب بعد تنقيحه في بولاق سنة 1263، وهو جزء واحد في 400 صفحة، جاء في مقدمة الشيخ الدسوقي ما يلي: «ومن أفخر كتب هذا العلم «الحساب» المؤسسة، كتاب عرب في مدرسة الهندسة، جليل القدر حسن الترتيب، إلا أنه غير متقن التعريب، طبع على الحجر في هذه المدرسة على يد من أحسن قراءته حين درسه، ولقد عم نفع هذا الكتاب في المداس، لما احتوى عليه من النفائس، ولما كان الكتاب المعرب المشار إليه مما يعتمد في هذا الفن عليه، أمر من يجيبه السعد بلبيك، حضرة أمير اللواء أدهم بك، مدير المدارس المصرية، ومفتش المهمات الحربية، جناب المتوكل على ربه المعيد المبدئ، محمد الشهير ببيومي أفندي، أن يبذل في إتمامه الهمة وأن يضم إليه فوائد مهمة، على يد مصححه راجي عفو الأوزار، إبراهيم الدسوقي عبد الغفار.» (5)
جامع الثمرات في حساب المثلثات، طبع في بولاق سنة 1264. (ب) الكتب التي ترجمها إبراهيم رمضان أفندي (1)
ثيوديزيه
Géodésie
أي: فن أعمال الخرط العظيمة، تأليف «فرانكير
Francoeur » طبع في بولاق سنة 1257. (2)
القانون الرياضي في تخطيط الأراضي، طبع في بولاق سنة 1260، وقد راجع الترجمة على الأصل أبو السعود أفندي، ثم راجعها ثانية بيومي أفندي، وثالثة عند الطبع حسن الجبيلي أفندي، وقام بتحريره وتصحيحه الشيخ إبراهيم الدسوقي.
100 (3)
اللآلئ البهية في الهندسة الوصفية، طبع منه الجزء الأول فقط في 176 صفحة في بولاق سنة 1261، وقد قام بمراجعة الترجمة بالاشتراك مع المترجم، حسن أفندي الجبيلي، ويقول الشيخ الدسوقي في مقدمة الكتاب: «وقد تداولته أيدي التصحيح ونقحته غاية التنقيح، فقابله على أصله الفرنساوي حسن أفندي المصحح الجبيلي، فأطلق عنان قلمه فيه وصححه، وأمعن نظره في ترجمته وأصلحه، ثم وصل إلى يد إبراهيم الدسوقي عبد الغفار مهذب عباراته ومبانيه، وحرر بعد السؤال معانيه، وبذل فيه غاية المجهود، ونظمه نظم اللآلئ في العقود، مع مقابله الثاني، ومترجمه الأول؛ ليكون بذلك أتقن وأكمل.»
وإن هذه الدقة في الترجمة ومراجعتها تذكرنا بنفس الدقة التي كانت تراعى عند ترجمة كثير من الكتب الطبية. (4)
الروضة الزهرية في الهندسة الوصفية: وهو أجزاء ثلاثة، ترجم الأول إبراهيم رمضان، وترجم الثاني والثالث منصور عزمي
101
وطبعت كلها في مجلد واحد، طبع حجر، في مطبعة مدرسة المهندسخانة
102
سنة 1268. (5)
المنحة اللدنية في الهندسة الوصفية، طبع حجر في مطبعة المهندسخانة، سنة 1269.
103 (ج) الكتب التي ترجمها أحمد دقلة أفندي
104
شكل من الأشكال الإيضاحية الملحقة بكتاب الهندسة الوصفية [لاحظ في أسفل الصفحة اسم الراسم - أمين صباغ - وتوقيع المدرس - إبراهيم رمضان]. (1)
مثلثات مستوية وكروية، طبع في بولاق سنة 1257. (2)
أيدروليك (أي علم حركة وموازنة المياه)، طبع في بولاق سنة 1257. (3)
رضاب الغانيات في حساب المثلثات، طبع في بولاق سنة 1259. (د) الكتب التي ترجمها أحمد طايل أفندي
105 (1)
تركيب آلات، طبع في بولاق سنة 1257. (2)
ميكانيقة (أي علم جر الأثقال)، ترجمه بالاشتراك مع بيومي، وطبع في بولاق سنة 1257.
كتاب الدر المنثور في الظل والمنظور
ترجمة صالح مجدي، وطبع بمطبعة مدرسة المهندسخانة. (ه) الكتب التي ترجمها أحمد فايد أفندي
106 (باشا فيما بعد) (1)
الأقوال المرضية في علم بنية الكرة الأرضية،
107
تأليف «بوبيه» أمر بجلب هذا الكتاب أدهم بك، وأشار بترجمته المسيو «لامبير» ناظر المهندسخانة، وراجع الترجمة مصطفى أفندي بهجت
108
ورفاعة أفندي، وقام بتصحيحه الشيخ الدسوقي، وهو جزء واحد في 134 صفحة، وقد أضاف إليه المترجم «نبذة تشتمل على بيان ألفاظ هذا الفن الاصطلاحية» في نحو 38 صفحة مرتبة ترتيبا أبجديا، وطبع الكتاب في بولاق في أوائل ربيع الآخر سنة 1257. (2)
مختصر علم الميكانيكا: قام بتصحيحه السيد صالح مجدي، وطبع الجزء الأول منه طبع حجر في 94 صفحة من القطع المتوسط في مطبعة المهندسخانة في سنة 1260. (3)
تحرك السوائل، تأليف «بيلانجيه»، أحضره «لامبير بك»، واستعان به أحمد فايد في تدريس علم الهيدروليكا، ثم ترجمه، وراجع الترجمة السيد صالح مجدي، وصححه الشيخ الدسوقي، وهو جزء واحد في 230 صفحة، طبع في بولاق سنة 1264، ويبدو من مقدمة الكتاب أن هذه هي الطبعة الثانية، وأنه طبع طبعة أولى على حجر في مطبعة المهندسخانة؛ فقد قال فايد في ص3: «وكنت لدي الترجمة بالأثر مثلته طبعا على الحجر، مقابلا عربيته الشاب الناجح، السيد أفندي صالح، ولما انتفع به كثير من التلامذة، بل ومن الأساتذة الجهابذة، أردت أن يكون بالمطبعة الكبرى طبعه؛ ليعظم وقعه ونفعه.» (4)
الدرة السنية في الحسابات الهندسية ، طبع حجر في مطبعة المهندسخانة، سنة 1269.
السطور الأخيرة من بعض صفحات كتاب الروضة الزهرية في الهندسة الوصفية «وإلى اليمين دائما توقيع إبراهيم رمضان وإلى اليسار توقيع إبراهيم الدسوقي في أشكال متباينة.»
رفاعة الطهطاوي زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي.
بدأنا الحديث عن المترجمين من خريجي المدارس والبعثات بطليعتهم ورائدهم الأول عثمان نور الدين، وجدير بنا أن نختم هذا الحديث بالكلام عن المبعوث الأوحد للتخصص في الترجمة رفاعة رافع الطهطاوي.
ولد في طهطا سنة 1216 / 1801-1802، وإليها ينسب، وفيها تلقى علومه الأولى، وفي سنة 1232 / 1817 وفد على القاهرة، والتحق بالأزهر، ومكث به نحو خمس سنوات أتم فيها دروسه، فلما أتم الحادية والعشرين من عمره أصبح أهلا للتدريس، فدرس في الأزهر، وكان يتردد أحيانا على مدينته طهطا فيلقي على أهليها بعض دروسه، وقد كان رفاعة منذ عهده الأول مدرسا ممتازا، فأقبل عليه الطلاب وأفادوا منه، وكانت حلقات دروسه في السنتين التاليتين لتخرجه حافلة دائما بالمستمعين من التلامذة والمشايخ. يقول تلميذه ومؤرخ حياته صالح مجدي: «وكان رحمه الله حسن الإلقاء بحيث ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كتب شتى في الحديث، والمنطق، والبيان والبديع، والعروض، وغير ذلك، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم إلا من استفاد منه وبرع في جميع ما أخذه عنه، لما علمت أنه كان حسن الأسلوب، سهل التعبير مدققا محققا، قادرا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، بحيث يفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقة ولا تعب ولا كد ولا نصب.»
109
ولقد كان من حسن حظ رفاعة أنه تتلمذ في الأزهر على الشيخ حسن العطار؛ فقد كان هذا الشيخ سابقا لعصره، طوف في الأرض، وسافر برا وبحرا، وزار الشام، ووصل في تطوافه إلى الآستانة وأقام بها سنوات، وأفاد من هذه الرحلات، واتسع أفق تفكيره، ولما نزلت الحملة الفرنسية بأرض مصر اتصل ببعض علمائها ولقنهم اللغة العربية كما أخذ عنهم بعض علومهم، وأعجب بما وصل إليه الشعب الفرنسي من رقي وحضارة، وقارن في نفسه بين علوم الفرنسيين التي رأى بعض مظاهرها في دار المجمع، واستمع لبعض أفكارها في حديثه إلى علماء المجمع، وبين علوم المصريين التي درسها ويدرسها في الأزهر، فرأى الفرق كبيرا، والبون شاسعا، وتنبأ لهذا البلد بنهضة علمية سريعة تنهج فيها نهج فرنسا، قال: «لا بد أن تتغير حال بلادنا، ويتجدد لها من المعارف ما ليس فيها.»
وبدأ هو بنفسه فأقبل على كتب لم تكن تدرس وقتذاك في الأزهر، أقبل على كتب في التاريخ والجغرافيا، والطب والرياضة، والفلك والأدب، وقرأ الكثير من هذه الكتب وتفهمها، غير أنه يبدو أن نظام التدريس في الأزهر لم يكن ليسمح له أن يدرس بعض هذه الكتب، أو ما أفاد منها، وإن سمحت النظم فإن المجموعة التي كانت تحيط به من شيوخ وطلاب ما كانت لتستسيغ هذه العلوم أو تقبلها، بل لعلها كانت تتهم المشتغلين بها بشيء من الزيغ عن الجادة، والبعد عن علوم السلف، وعما يجب أن يلزمه رجل الدين.
ولكن العطار كان ذا شخصية فذة، وطريقة جديدة؛ لهذا لم يلبث أن اختص به نفر من تلاميذه الممتازين، فقربهم إليه، وأقرأهم ما كان يقرأ،
110
ورغبهم في هذه العلوم الجديدة فأقبلوا عليها، فلما بدأ محمد علي نهضته، واحتاج إلى بعض مشايخ الأزهر للتدريس في مدارسه الجديدة أو لتصحيح الكتب المترجمة، كان تلاميذ العطار، أمثال التونسي، والدسوقي، والطنطاوي ... إلخ، خير من ندب، وخير من قام بالواجب الجديد في العهد الجديد.
وكان رفاعة أقرب تلاميذ العطار وأحبهم إليه، وقد فرح الأستاذ بنبوغ تلميذه في التدريس بعد تخرجه، فلبث يشمله برعايته وحسن توجيهه، فلما طلب إليه محمد علي أن يختار له إماما لإحدى فرق الجيش الجديد، أسرع فرشح رفاعة لهذا المنصب، وعين الشيخ رفاعة في سنة 1240 / 1824 واعظا وإماما في آلاي حسن بك المانسترلي، ثم انتقل إلى آلاي أحمد بك المنكلي.
وفي سنة 1242 / 1826 أوفدت أول بعثة كبيرة إلى فرنسا، وهنا أيضا طلب محمد علي إلى العطار «أن ينتخب من علماء الأزهر إماما للبعثة، يرى فيه الأهلية واللياقة، فاختار الشيخ رفاعة لتلك الوظيفة.»
111
سافر رفاعة ليكون إماما للبعثة لا طالبا من طلابها، ولكنه هو التلميذ الأثير لأستاذ مجدد صاحب مدرسة تفكيرية جديدة قد استمع إلى كثير من أحاديث شيخه وقرأ معه كتبا في علوم لم يدرسها في الأزهر، ولا بد أن هذه الأحاديث في معظمها كانت تدور حول ما شاهد الأستاذ الشيخ في رحلاته خارج مصر، وما شاهد في مجمع الفرنسيين في مصر، وهذه هي الفرصة قد واتته أن يذهب لبلاد هؤلاء الذين سمع عن علمهم ونهضتهم الشيء الكثير، ترى هل يترك هذه الفرصة تضيع دون أن يستغلها فيتزود من فرنسا بعلوم فرنسا؟ إنه لو ذهب وقنع أن يقوم بواجبه الديني فيؤم المبعوثين في الصلاة ويعظهم في أمور دينهم، ثم يرجع معهم وقت يرجعون، لما لامه إنسان، ولكن رفاعة كان ذا نفس طموحة، وآمال عريضة، وحب للعلم، وشغف بالبحث، فأعد العدة بينه وبين نفسه أن يقبل على التحصيل منذ يغادر أرض مصر، حتى يعود إلى وطنه خيرا مما غادره، وقد بر بوعده لنفسه، فحصل في فرنسا الكثير، وكان أنبغ أعضاء بعثته، ثم كان زعيم النهضة العلمية في عصر محمد علي، وقائدها بعد عودته، وهكذا «أراد الله أن يكون الإمام في الصلاة إماما للحركة العلمية في مصر.»
112
وذهب التلميذ الفتى للأستاذ الشيخ يودعه ويشكره، ويسأله النصيحة، فدعا له الشيخ وباركه وزوده بما يزود به الأستاذ المستنير تلميذه النابغ، وطلب إليه قبل أن يغادره أن يعنى منذ اللحظة الأولى بتقييد مشاهداته في رحلته هذه؛ فالشيخ كما يقول تلميذه «مولع بسماع عجائب الأخبار، والاطلاع على غرائب الآثار».
113
وفي يوم الخميس من شهر رمضان
114
سنة 1942 / 14 أبريل 1826 أبحرت السفينة من الإسكندرية تحمل رفاعة وزملاءه، وفي التاسع من شهر شوال وصلت بهم إلى «مارسيليا»، ومنذ وطئت قدما رفاعة أرض هذه المدينة، بدأ يتعلم اللغة الفرنسية، يقول في رحلته: «وتعلمنا في نحو ثلاثين يوما التهجي.»
115
وفي باريس قضى تلاميذ البعثة جميعا نحو سنة وهم يقيمون معا في بيت واحد، ويشتركون معا في دراسة مواد واحدة، يقول رفاعة: «كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين، ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو فرنساوي، وفي كل جمعة ثلاثة دروس من علمي الحساب والهندسة.»
116
وكانت هذه الخطة ترمي إلى عزل تلاميذ البعثة، حتى لا يفسدهم الاختلاط، أو الحياة في باريس، وحتى يستطيعوا التوفر على دراساتهم ليحصلوا العلوم التي يريدون على أحسن وجه، وفي أسرع وقت، ولكن هذه العلوم التي أوفدوا لدراستها مودعة في بطون المؤلفات الفرنسية، ولا سبيل إليها إلا إتقان هذه اللغة حديثا وقراءة وفهما، ولا سبيل إلى هذا الإتقان إلا أن يختلط هؤلاء الشبان بأندادهم من الفرنسيين حتى تستقيم ألسنتهم.
أحس بهذا النقص المشرفون على البعثة، كما أحس به أعضاء البعثة أنفسهم، يقول رفاعة: «مكثنا جميعا في بيت واحد دون سنة نقرأ معا في اللغة الفرنسية، وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مزية إلا مجرد تعلم النحو الفرنساوي.»
117
لهذا صدرت الأوامر بتوزيع هؤلاء المبعوثين، فتفرقوا في مكاتب متعددة، كل اثنين، أو ثلاثة، أو واحد في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص، عند معلم مخصوص، بقدر معلوم من الدراهم في نظير الأكل والشرب والسكنى والتعليم،
117
وفي هذه المكاتب أو «البانسيونات» كان التلاميذ المصريون يقضون ليلهم ونهارهم في التحصيل، ولم يكن يسمح لهم بالخروج إلا في يوم الأحد، أو بعد ظهر الخميس، أو في الأعياد الفرنسية، وكان يحدث أحيانا أن يخرج بعضهم بعد العشاء إن لم يكن يشغله درس أو واجب.
وكان رفاعة أكثرهم انهماكا في عمله، وأشدهم إقبالا عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضي معظم ساعات الليل ساهرا بين كتبه ودروسه، يقرأ ويتفهم ويترجم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحه الطبيب بالراحة، ونهاه عن المطالعة في الليل، ولكنه «لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه».
118
ولم يقنع رفاعة بالكتب التي تشترى له على حساب البعثة؛ فقد أحس لذة المعرفة، فأقبل يشتري كتبا أخرى من ماله الخاص، ثم أحس أن دروس أستاذه لا تكفي لإشباع نهمه؛ فاستأجر معلما خاصا ظل يدرس له أكثر من سنة، وكان يدفع له أجره من مرتبه الخاص.
أرسل رفاعة إلى فرنسا ليكون إماما للبعثة، ولكن يبدو أن الأوامر صدرت في آخر لحظة أن يسمح له بالدراسة، فإن أقبل ووفق، فليوجه إلى إتقان الترجمة؛ وذلك لأن ثقافته الأزهرية في اللغة العربية ترشحه لهذا العمل إذا ألم باللغة الفرنسية وأتقنها، وهذا عمل واسع عريض؛ لأنه غير محدود، فحكومة محمد علي كانت مقبلة على الترجمة في كل علم وفن: في الهندسة والطب، والفنون العسكرية، والتاريخ والجغرافيا إلخ، فواجب رفاعة إذن أن يقرأ كتبا في كل هذه العلوم، وأن يمرن على الترجمة فيها جميعا، ويا له من واجب شاق! ولكن همة رفاعة كانت همة عالية، فاستسهل الصعب، وأقبل ووفق.
وقد ذكر رفاعة في رحلته العلوم والفنون التي درسها، وعين الكتب التي قرأها، والتي ترجمها، أو بدأ يترجمها وهو في باريس، ومنها نلحظ أن ثقافته كانت موسوعية؛ فقد قرأ كتبا كثيرة في مختلف العلوم مع أساتذته، ثم قرأ كتبا كثيرة أخرى وحده، وبرهن بهذا أنه كان يتمتع بروح جامعية حقة، ولا عجب؛ فقد ساعد على تزويده بهذه الروح أمور أربعة: المران الذي اكتسبه وهو يطلب العلم في الأزهر، والنفحة التي أضفاها عليه أستاذه العطار، وحبه العجيب للعلم وشغفه بالتحصيل، ثم نفسه العالية الطموح، ورغبته في إشباع هذه النفس، وإرضاء باعثه وباعث النهضة الجديدة في مصر ولي النعم محمد علي.
وكان هناك عامل آخر، أو حافز آخر بعث رفاعة على الجد والاجتهاد لا يقل عن العوامل السابقة إن لم يكن أقوى منها؛ ذلك أن رفاعة درس دراسة دينية في أكبر جامعة دينية، ثم تخرج عالما دينيا، وكان تلميذا لشيخ الأزهر، كما كان قوي الإيمان متين العقيدة، وقد راعه منذ اللحظة الأولى الفارق الكبير بين ما كانت تتمتع به ديار المسيحية من تقدم في مختلف نواحي الحياة، وبين ما كانت تتمتع به مصر وديار الإسلام من تأخر وخمود وجمود في مختلف نواحي الحياة، وخاصة في الناحية العلمية، ورحلته مليئة بهذه المقارنات؛ لهذا نحس في جهوده التي ذكرها أنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أي علم أو فن حتى يقبل على ترجمته، يريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنيه هذا العلم الجديد عله يبعثهم إلى نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء المسيحية حضارة ورقيا، ولكن أنى له الوقت لترجمة هذه الكتب جميعا؟ ومع هذا فقد بدأ وترجم كتبا أو رسالات صغيرة، ثم ترجم فصولا من الكتب الكبيرة، وكأني به قد ترك الباقي حتى يعود لمصر فيتم ما بدأ، وقد فعل، ولكن جهده جهد إنساني محدود، ووقته وقت محدود، وهنا ترقب الفرص حتى سنحت له فعرض على محمد علي مشروعه لإنشاء مدرسة الألسن، وقد أنشئت واتسعت بعد إنشائها حركة الترجمة، واستطاع رفاعة أن يحقق بعض آماله. ويؤيدنا في رأينا أن معظم الكتب الأولى التي ترجمها خريجو الألسن هي الكتب التي قرأها رفاعة في باريس، والتي كان يتمنى أن يترجمها بنفسه.
119
والآن ليس أحسن من أن ننقل هنا تقرير رفاعة نفسه عن الكتب التي قرأها، وعن جهوده في الدراسة والترجمة وهو في باريس، قال في رحلته:
في التاريخ: «ابتدأنا في بيت الأفندية حين كنا معا بكتاب سير فلاسفة اليونان،
120
فقرأناه وتممناه، ثم ابتدأنا بعده في كتاب تاريخ عام مختصر يشتمل على سير قدماء المصريين
120
والعراقيين وأهل الشام واليونان وقدماء العجم والرومانيين والهنود، وفي آخره نبذة مختصرة في علم «الميثولوجيا»، يعنى جاهلية اليونان وخرافاتهم، ثم قرأت عند مسيو «شواليه» كتابا يسمى لطائف التاريخ، يتضمن قصصا وحكايات ونوادر، ثم بعده قرأت كتابا يسمى سير أخلاق الأمم
120
وعوائدهم وآدابهم، ثم تاريخ سبب عظم دولة قياصرة الروم وانقراضها، ثم كتاب رحلة «أنخرسيس»
120
الأصغر إلى بلاد اليونان، ثم قرأت كتاب «سيغور» في التاريخ العام، ثم سيرة نابليون، ثم كتابا في علم التواريخ والأنساب، ثم كتابا يسمى «بانوراما» العالم، يعني مرآة الدنيا، ثم رحلة صنفها بعض المسافرين في بلاد الدولة العثمانية، ثم رحلة في بلاد الجزائر.»
121
في الرياضيات: وقرأت في الحساب كتاب «بزوت
Bezoüt »، وفي الهندسة الأربع مقالات الأول من كتاب «لوجندر
Legendre ».
122
في الجغرافيا: وقرأت مع المسيو «شواليه» كتاب جغرافية يشتمل على الجغرافية التاريخية والطبيعية والرياضية والسياسية، ثم قرأت رسالة أخرى في الجغرافية الطبيعية مقدمة لقاموس في الجغرافية يعني معجم البلدان، ثم قرأت الكتاب الأول بعينه مع معلم آخر غير مسيو «شواليه»، وقرأت أيضا مع مسيو «شواليه» جملا عظيمة من جغرافية «ملطبرون»
123
ورسالة ألفها لتعليم بنته في هيئة الدنيا، وقرأت وحدي مؤلفات عديدة في هذا الفن.
في علوم وفنون مختلفة؛ كالمنطق والفلسفة والقوانين والاجتماع والأدب والمعادن والفنون الحربية، وقرأت كتابا في علم المنطق
124
الفرنساوي مع مسيو «شواليه»، ومسيو «المونري»، وعدة مواضع من كتاب «ليبرتروايال» من جملتها المقولات، وكتابا آخر في المنطق يقال له كتاب «قندلياق
Condillac » غير فيه منطق أرسطو، وقرأت مع مسيو «شواليه» كتابا صغيرا في المعادن،
125
وترجمته، وقرأت كثيرا من كتب الأدب، فمنها مجموع «نويل»، ومنها عدة مواضع من ديوان «ولتير
Voltaire » و«رسين
Racine » وديوان «روسو
Rousseau »، خصوصا مراسلاته الفارسية
Lettres Persanes
التي يعرف بها الفرق بين آداب الإفرنج والعجم، وهي أشبه بميزان بين الآداب المغربية والمشرقية، وقرأت أيضا وحدي مراسلات إنكليزية وصنفها «القونت شسترفيلد» لتربية ولده وتعليمه، وكثيرا من مقامات الفرنساوية، وبالجملة فقد اطلعت في الآداب الفرنساوية على كثير من مؤلفاتها الشهيرة، وقرأت في الحقوق الطبيعية
Droit naturel
مع معلمها كتاب «برلماكي
Burlamaqui » وترجمته، وفهمته فهما جيدا، وهذا الفن عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين، يجعله الإفرنج أساسا لأحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية، وقرأت أيضا مع مسيو «شواليه» جزأين من كتاب يسمى «الشرائع روح»
l’Esprit des Lois
مؤلفه شهير بين الفرنساوية، يقال له «منتسكوا
Montesquieu »، وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجي، كما أن ابن خلدون يقال له عندهم أيضا «منتسكو» الشرق؛ أي «منتسكو الإسلام»، وقرأت أيضا في هذا المعنى كتابا يسمى عقد التأنس والاجتماع الإنساني
Le Contrat Social
مؤلفه يقال له «روسو»، وهو عظيم في معناه، وقرأت في الفلسفة تاريخ الفلاسفة المتقدم المشتمل على مذاهبهم وعقائدهم وحكمهم ومواعظهم، وقرأت عدة محال نفيسة في معجم الفلسفة للخواجة «ولتير»، وعدة محال في كتب فلسفة «قندلياق»، وقرأت في فن الطبيعة رسالة صغيرة مع مسيو «شواليه» من غير تعرض للعمليات، وقرأت في فن العسكرية من كتاب يسمى «عمليات كبار الضباط» مع مسيو «شواليه» مائة صفحة، وترجمتها، وقرأت كثيرا في كازيطات العلوم اليومية والشهرية التي تذكر كل يوم ما يصل خبره من الأخبار الداخلية والخارجية المسماة «البوليتيقة»، وكنت متولعا بها غاية التولع، وبها استعنت على فهم اللغة الفرنساوية، وربما كنت أترجم
126
منها مسائل علمية وسياسية خصوصا وقت حرابة الدولة العثمانية مع الدولة الموسقوبية.
127
هذه هي العلوم التي درسها رفاعة والكتب التي قرأها، وهي تدل - كما سبق أن ذكرنا - على أنه ثقف ثقافة موسوعية، وقد كان لا بد له أن يتثقف هذه الثقافة ما دام قد بعث للتخصص في الترجمة، حتى إذا طلب إليه بعد عودته أن يترجم في أي علم من العلوم لبى الطلب ونفذ الأمر، وهذا ما حدث فعلا؛ فإنه عين بعد عودته مترجما بمدرسة الطب ثم نقل مترجما بمكتب طرة الحربي، ولما أنشئت الألسن كان يشرف على أعمال خريجيها الذين ترجموا كتبا في كل هذه العلوم والفنون.
قضى رفاعة سنة في باريس، ثم عقد له ولزملائه امتحان في نهاية هذه السنة، فنجح رفاعة بتفوق، وأرسل إليه مسيو «جومار» مدير البعثة جائزة التفوق، وهي كتاب «رحلة أنخرسيس في بلاد اليونان»، وهو «سبعة مجلدات جيدة التجليد مموهة بالذهب»،
128
وأرسل إليه مع الجائزة خطابا تاريخه أول أغسطس سنة 1827 كله تشجيع وتقدير لما بذل رفاعة من جهد ولما نال من نجاح جاء فيه: «قد استحققت هدية اللغة الفرنساوية بالتقدم الذي حصلته فيها، وبالثمرة التي نلتها في الامتحان العام الأخير، ولقد حق لي أن أهنئ نفسي بإرسالي لك هذه الهدية من الأفندية النظار دليلا على التفاتك في التعليم، ولا شك أن ولي النعمة يسر متى أخبر أن اجتهادك وثمرة تعليمك يكافئان للمصاريف العظيمة التي يصرفها عليك، في تربيتك وتعليمك، وعليك مني السلام مصحوبا بالمودة ...»
129
وبعد عام آخر عقد امتحان ثان فوفق فيه كما وفق في سابقه، وكانت جائزته في هذه المرة كتابين من تأليف المستشرق الفرنسي «دي ساسي»، وهما: «الأنيس المفيد للطالب المستفيد»، و«جامع الشذور من منظوم ومنثور».
130
وفي باريس اتصل الشيخ رفاعة بكبار المستشرقين الفرنسيين، وخاصة المسيو «سلفستر دي ساسي»، و«المسيو كوسان دي برسيفال»، ونشأت بينه وبين هذين العالمين صداقة متينة وكان كل منهما يقدر جهد الشيخ التلميذ وعلمه، وقد تبودلت بينه وبينهم كثير من الرسائل أثبت بعضها رفاعة في رحلته، وقد أطلعهما قبيل سفره على مخطوطة رحلته فأعجبا بها، وكتبا عنها تقريظا، وأرسل كل منهما - للمسيو «جومار» بصفته مدير البعثة - خطابا كله ثناء وتقريظ لرفاعة وكتابه. قال «دي ساسي»: «إن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن، حتى تأهل لأن يكون نافعا في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس وله عندي منزلة عظيمة ومحبة جسيمة.»
131
وقال «دي برسيفال»: «إن هذا التأليف (الرحلة) يستحق كثيرا من المدح، وإنه مصنوع على وجه يكون به نفع عظيم لأهالي بلد المؤلف؛ فإنه أهدى لهم نبذات صحيحة من فنون فرنسا، وعوائدها، وأخلاق أهلها، وسياسة دولتها، ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية، والفنون النافعة، أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي والترقي في صنايع المعاش، وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أراد أن يذكر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك، وما نظر فيه في بعض العبارات على سلامة عقله، وخلوه من التعسف والتحامل، وعبارة هذا الكتاب بسيطة، أي غير متكلف فيها التنميق ومع ذلك فهي لطيفة ... إلخ.»
132
وبعد خمس سنوات عقد لرفاعة الامتحان النهائي، فجمع المسيو «جومار» مجلسا فيه عدة أناس مشاهير، ومن جملتهم وزير التعليمات الموسقوبي رئيس الامتحان،
133
يقول رفاعة: «وكان القصد بهذا المجلس معرفة قوة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلت بها مدة مكثي في فرنسا.»
133
وتقدم رفاعة إلى لجنة الامتحان بخلاصة مجهوداته في الترجمة طول هذه السنوات الخمس، وهي اثنتا عشرة رسالة ترجمها عن الفرنسية إلى العربية، وهذا بيانها: (1)
نبذة في تاريخ إسكندر الأكبر
134
مأخوذة من تاريخ القدماء. (2)
كتاب أصول المعادن. (3)
روزنامه (يقصد تقويم) سنة 1244، ألفه مسيو «جومار» لاستعمال مصر والشام، متضمنا لشذرات علمية وتدبيرية. (4)
كتاب دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدهم. (5)
مقدم جغرافية طبيعية مصححة على مسيو «دهنبلض». (6)
قطعة من كتاب «ملطبرون» في الجغرافية. (7)
ثلاث مقالات من كتاب «لجندر» في علم الهندسة. (8)
نبذة في علم هيئة الدنيا. (9)
قطعة من عمليات رؤساء ضباط العسكرية. (10)
أصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الإفرنج. (11)
نبذة في الميثولوجيا،
135
يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم. (12)
نبذة في علم سياسات الصحة.
136
كذلك قدم رفاعة للجنة الامتحان كراسة أخرى فيها مخطوطة رحلته إلى باريس؛ وذلك لأن هذه الرحلة ليست تأليفا كلها، بل فيها نبذ كثيرة مترجمة في مختلف العلوم قصد بها رفاعة إلى تقريب هذه العلوم إلى القارئ المصري، وشرح نهضة الفرنسيين العلمية، ومدى إقبالهم على الدرس والتحصيل، وفي هذه الرحلة أيضا ترجم رفاعة الدستور الفرنسي الذي وضعه «لويس الثامن عشر»، وسماه «الشرطة».
137
وفيها أيضا ترجم بعض الأشعار الفرنسية إلى شعر عربي، وبعض هذا الشعر لشعراء مجهولين، وبعضه أبيات «من القصيدة المسماة نظم العقود في كسر العود، للخواجة يعقوب، المصري منشأ، الفرنساوي استيطانا».
138
وقد ذكر رفاعة أنه ترجمها في سنة 1242 / 1826-1827، أي بعيد وصوله إلى باريس بقليل، وقد أحس رفاعة أن الشعر يفقد كثيرا من روعته إذا ترجم من لغة إلى أخرى؛ فقال في نهاية القصائد التي ترجمها: «وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن بالترجمة تذهب بلاغتها، فلا تظهر علو نفس صاحبها، ومثل ذلك لطائف القصائد العربية؛ فإنه لا يمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حسنها، بل ربما صارت باردة ...»
139
ولم تقتنع لجنة الامتحان بهذه الجهود المكتوبة ورأت أن تختبره اختبارا شفهيا لتتأكد من مقدرته على الترجمة الصحيحة، فأحضرت له بعض الكتب المطبوعة في بولاق، فترجم بعض فقراتها بسرعة، «ثم قرأ بالفرنساوي مواضع ، منها ما هو صغير، ومنها ما هو كبير في كازيطة مصر المطبوعة في بولاق»
140 (يقصد الوقائع المصرية).
وبهذا تم اختباره في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية، ثم أعطته اللجنة النص العربي للرسالة التي ترجمها عن «عمليات رؤساء الضباط العسكرية»، وأمسك أحد أعضاء اللجنة بالنص الفرنسي، وأعاد رفاعة ترجمة النص الذي بيده إلى الفرنسية، والممتحنون يقابلون بين ما يقول وبين النص الأصلي الذي بأيديهم، ووفق في ترجمته، وقررت اللجنة «أنه تخلص من هذا الامتحان على وجه حسن، فأدى العبارات حقها من غير تغيير في معنى الأصل المترجم»،
140
ولكنها أخذت عليه أنه «ربما أحوجه اصطلاح اللغة العربية أن يضع مجازا بدل مجاز آخر، من غير خلل في المعنى المراد، مثلا في تشبيه أصل علم العسكرية بمعدن مشبع يستخرج منه كذا، غير العبارة بقوله علم العسكرية بحر عظيم يستخرج منه الدرر، وقد اعترض عليه في الامتحان بأنه بعض الأحيان قد لا يكون في ترجمته مطابقة تامة بين المترجم والمترجم عنه، وأنه ربما كرر، وربما ترجم الجملة بجمل، والكلمة بجملة، ولكن من غير أن يقع في الخلط، بل هو دائما محافظ على روح المعنى الأصلي، وقد عرف الشيخ الآن أنه إذا أراد أن يترجم كتب علوم، فلا بد له أن يترك التقطيع، وعليه أن يخترع عند الحاجة تغييرا مناسبا للمقصود.»
141
وبنفس الطريقة اختبر في كتاب آخر مما ترجمه، وهو «مقدمة القاموس العام المتعلقة بالجغرافية الطبيعية»، ولاحظت اللجنة أن ترجمة هذا الكتاب ضعيفة، ولكنها التمست لرفاعة العذر؛ لأنه ترجمه بعيد وصوله إلى فرنسا، ولم يكن قد وصل حينذاك إلى «درجته الآن في اللغة الفرنساوية»؛ ولهذا كانت ترجمته لهذا الكتاب أضعف من ترجمته للكتاب السابق، «وكان عيبه أنه لم يحافظ على تأدية عبارة الأصل بجميع أطرافها، وعلى كل حال فلم يغير في المعنى شيئا بل طريقته في الترجمة كانت مناسبة.»
142
وتفرق الممتحنون أخيرا وهم مجمعون على إتقانه صناعة الترجمة، وعلى «أنه يمكنه أن ينفع في دولته بأن يترجم الكتب المهمة المحتاج إليها في نشر العلوم، والمرغوب في تكثيرها في البلاد المتمدنة ...»
142
اجتاز رفاعة الامتحان بعد أن قضى في فرنسا 5 سنوات طوال، أقبل فيها على الدرس والتحصيل إقبال الطالب المجد المحب لعمله، وقد قرأ في هذه السنوات كتبا شتى في علوم متباينة، وترجم الكثير من هذه الكتب، ولكنه - متأثرا بميله الخاص وبدراسته الأدبية الأولى في الأزهر - شغف أكثر ما شغف بعلمي التاريخ والجغرافيا، ورشح نفسه لترجمة هذين العلمين، فهو يقول في خاتمة رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس ولي النعم يصير التاريخ على اختلافه منقولا من الفرنساوية إلى لغتنا؛ فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئة الله تعالى، وبهمة صاحب السعادة محب العلوم والفنون حتى تعد دولته من الأزمنة التي تؤرخ بها العلوم والمعارف المتجددة في مصر مثل تجددها في زمن حلفاء بغداد ...»
143
في رمضان سنة 1241 غادر رفاعة الإسكندرية مرتحلا إلى فرنسا، وفي رمضان سنة 1246 غادر باريس عائدا إلى مصر، خمس سنوات كاملة تغير فيها الشيخ عقلا وعلما وتفكيرا وآمالا، ولكنه لم يتغير، بل لم يتأثر دينا وأخلاقا، يقول علي مبارك: «ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده ...»
144
وفي الإسكندرية تشرف بمقابلة إبراهيم باشا فرحب به؛ لأنه سمع عنه ثناء جما أثناء زيارته لباريس، ولأنه كان يعرف أسرته في طهطا معرفة وثيقة، وفي ختام المقابلة وعده إبراهيم باشا «بدوام الالتفات إليه»،
145
وأنعم عليه بستة وثلاثين فدانا في الخانقاه، فكانت أول مكافأة نالها رفاعة على جده واجتهاده، وأول الغيث طل.
وسافر إلى القاهرة وحظي بمقابلة ولي النعم محمد علي باشا، وكان محمد علي قد عرفه معرفة أكيدة من تقارير «مسيو جومار» الكثيرة عنه، وكلها مدح وتقريظ لجهوده وتقدير لعمله، وفي هذه المقابلة لقي رفاعة من مولاه كل عطف وتشجيع، «ورأى من ميله إليه ما حمله على الثقة بنجاح المبدأ والنهاية»،
144
وصدر أمره العالي بتعيينه مترجما بمدرسة الطب، فكان أول مصري يعين مترجما بهذه المدرسة؛ فقد كانت هيئة المترجمين جميعا حتى ذلك الوقت من السوريين كما سبق أن ذكرنا؛ لهذا لم يلبث رفاعة أن تفوق عليهم في عمله؛ فهو يتقن العربية إتقانا لا يدانيه فيه أحد من هؤلاء المترجمين السوريين وهو يجيد الفرنسية مثلما يجيدونها، وترجمته في النهاية صحيحة سليمة لا تحتاج - كترجمة السوريين - إلى مراجعة أو تصحيح شيخ من شيوخ الأزهر المحررين بالمدرسة.
لبث رفاعة مترجما في مدرسة الطب نحو سنتين، ولكنه يبدو أنه كان في هذه المدرسة مصححا ومحررا أكثر منه مترجما؛ إذ لم يعرف أنه ترجم في الطب غير الرسالة
146
الصغيرة التي ترجمها وهو في باريس وضمنها رحلته، ولكنه قام في هذه الفترة بمراجعة كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح» في الطب البيطري،
147
الذي ترجمه يوسف فرعون وصححه مصطفى كساب؛ فقد قرر مجلس الجهادية في 20 جمادى الأولى سنة 1248 «بناء على ما ورد على مجلس المشورة في مدرسة الطب البيطري الموافقة على طبع كتاب التشريح الذي ترجم بعد مراجعة الترجمة بمعرفة الشيخ رفاعة أفندي وهرقل البيكباشي واتضاح صحتها ...»
148
وقد ذكر في خاتمة الكتاب أنه تم ترجمة في التاسع عشر من شعبان سنة 1247، وأنه تم طبعا في بولاق في غرة صفر سنة 1249،
149
وفي سنة 1249 نقل رفاعة من مدرسة الطب ليكون مترجما بمدرسة الطوبجية
150
بطرة خلفا للمستشرق الشاب «كنيك
Kening »، وفي هذه المدرسة قام رفاعة بترجمة بعض الكتب الهندسية والجغرافية اللازمة لمدرسة الطوبجية وغيرها من المدارس الحربية، فأتم أولا ترجمة كتاب مبادئ الهندسة
151
الذي طبع في سنة 1249.
أما علم الجغرافيا، وهو العلم الحبيب إلى رفاعة منذ كان يتلقى العلم في باريس؛ فقد كان علما هاما وضروريا لتلاميذ المدارس الحربية، ولم يكن في متناول أيديهم حتى ذلك الحين كتاب واحد في هذا العلم باللغة العربية أو التركية، فأشار «سكورابيك»
Don Antoni de Seguera
ناظر المدرسة بأن يعيد طبع كتاب «الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار»، وهو كتاب جغرافي صغير سبق أن طبع في مالطة، غير أن رفاعة وجد أن عبارة الكتاب «مالطية وحشية»، فأعاد تصحيحها وتحريرها حتى خرجت الطبعة الثانية «بالنسبة للعبارة أظرف من طبعة مالطة وأجمل»، ومع هذا فإن رفاعة لم يقنع بأن يعتمد على مجهود غيره، وقد كان في عزمه منذ عاد من البعثة أن ينقل كتب الجغرافية التي قرأها إلى العربية؛ فبدأ بترجمة كتاب خاص، أسماه «التعريبات الشافية لمريد الجغرافية»، وهو كما يتضح من مقدمته، أصول دروسه في هذا العلم تخيرها من كتب فرنسية مختلفة - لا من كتاب واحد - وألقاها على تلاميذ مدرسة خاصة أنشئت فيما يبدو ملحقة بمدرسة طرة لتدريس علم الجغرافية ولتخريج مدرسين مختصين في هذا العلم يتولون تدريسه في المدارس الحربية الأخرى.
لم تشر المراجع التي كتبت عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي إلى هذه المدرسة ولكن بعض وثائق العصر أشارت إلى وجودها وأيد هذا الوجود رفاعة نفسه في مقدمته للكتاب السابق الذكر؛ فقد صدر أمر من محمد علي باشا إلى ناظر الجهادية في 14 جمادى الآخرة سنة 1251 (قبيل إنشاء مدرسة الألسن) بتعيين «عبده» مدرسا للجغرافية بمكتب البيادة بدمياط، وهو ضمن الأربعة المتممين السابق إرسالهم لطرة للقيام بتدريس (يقصد تعلم) الجغرافية بمدرستها، وهم من الذين رباهم الشيخ رفاعة، وإرسال 10 شبان للشيخ لتربيتهم.
152
وهذه كما يتضح من الأمر السابق لم تكن مدرسة بالمعنى الصحيح، ولكنها لم تعد أن تكون فصلا ملحقا بمدرسة المدفعية خصص لتعليم بعض الطلبة علم الجغرافية، ليتخرجوا مدرسين لهذا العلم في المدارس الحربية الأخرى، غير أن رفاعة يسمي هذا الفصل مدرسة، ويذكر أنها أنشئت بموافقة «مشورة الجهادية» لتعليم الجغرافيا والتاريخ، فلا بأس إذن من أن نحاول شرح الأسباب التي أدت إلى فتح هذا الفصل أو المدرسة، فإنها في نظري النواة التي نشأت عنها مدرسة الألسن بعد قليل.
لم يكن رفاعة على اتفاق مع «سكويرا بك» ناظر المدرسة، فقد عرف هذا الرجل باعتداده الزائد بنفسه، وبحدة طبعه، وبعدائه للفرنسيين، وبالتالي للمثقفين ثقافة فرنسية، فهو إسباني الأصل، وكان - قبل حضوره إلى مصر - ضابطا برتبة «كولونيل» في سلاح المدفعية في الجيش الإسباني، وإليه كما يقول الدكتور عزت عبد الكريم «يرجع الفضل في إنشاء المدفعية المصرية، ومدرسة المدفعية بطرة»، غير أنه للأسباب السابق ذكرها كان يرفض أن يستمع لأوامر مختار بك مدير المدارس، كما كان يكره سليمان باشا مفتش الحربية كرها شديدا، ويطعن في معارفه العسكرية، وخاصة في فن المدفعية، وقد أدت هذه السياسة، وهذا الخلق، إلى عزله في سنة 1836 / 1251، ففي تلك السنة صدرت أوامر محمد علي بتكوين لجنة لتنظيم التعليم في مصر، ورأت اللجنة أن يكتب كل عضو فيها اقتراحاته، ثم يجتمع الأعضاء فينظرون في هذه المقترحات مجتمعين، ولكن «سكويرا بك» رفض وحده هذا الرأي، قائلا إنه لا يخضع لرأي غيره، ولا يعمل إلا ما يراه هو، «فكان ذلك سبب عزله لاعتباره أجنبيا عن مصلحة الجناب العالي، وليس من العقل ائتمان الأجنبي المتجنب على المصالح، كما كان عزله سببا في طاعة بقية نظار المدارس، فانصرفوا ينفذون القرار، ويدونون مقترحاتهم».
153
لم يكن من المنتظر إذن أن تحسن العلاقات بين رفاعة وبين هذا الناظر المتعجرف، وكان رفاعة قد شغف منذ كان طالبا في باريس بدراسة وترجمة علمي التاريخ والجغرافيا، ورسم لنفسه أن يقوم بترجمة الكتب فيهما بعد عودته؛ فقد قال في رحلته «وإن شاء الله تعالى بأنفاس ولي النعم يصير التاريخ على اختلافه منقولا من الفرنساوية إلى لغتنا، وبالجملة فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة، بمشيئته تعالى، وبهمة صاحب السعادة محب العلوم والفنون ...»
154
فلعله رفع - وهو يدرس الجغرافيا بمدرسة طرة - إلى محمد علي باشا، أو إلى مشورة الجهادية اقتراحه بأن ينشئ مدرسة لتدريس هذين العلمين وترجمتهما، ولعل المشورة وافقت على إنشاء هذا الفصل كتجربة، فإذا تبين نجاحه أكملته، وزادت في اختصاصه. يقول رفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية» موضحا لهذه الفكرة، وداعيا لها، ومبينا للغرض من ترجمة هذا الكتاب، وطريقة ترجمته: «... لما سمحت مشورة الجهادية، ذات الآراء السنية الذكية، أن أفتح لفنون الجغرافيا والتاريخ مدرسة تكون على قراءة هذه العلوم مؤسسة، لتشتهر ثمراتها الزاهرة، في أيالات أفندينا الفاخرة العامرة، فإن ذلك مما تدعو الحاجة إليه ويتأكد العمل به والوقوف عليه، لا سيما لأرباب الدولة والسياسة المدنية، وأصحاب التدبير والإدارة الملكية، وأصول أهل المناصب وضباط الطوائف العسكرية، وكامل ذوي الصنايع والحرف والمهمات التجارية، فكل من تأمل فيها وعرف، رقي فيها إلى أعلى مراتب الفضل والشرف، على أن كثيرا منها ما تبنى عليه أحكام شرعية، وحكم وآداب عرفية وقوانين بين سائر ملوك البرية، فهو لمثل هذا الغرض، يعد عند أرباب الصناعة من المفترض، أخذت عدة تلامذة لهذا المعنى الممدوح، وتوجهت بالقلب والقالب لتعليمهم بصدر مشروح، وليس بيدي من كتب الجغرافيا شيء باللغة العربية يحتوي على التفصيل والترتيب على نسق ما في الكتب الإفرنجية؛ فلهذا اعتمدت كتابا موجزا في هذا الفن النفيس، موضوعا لمدارس مبادئ العلوم بمدينة باريس، وشرعت في ترجمته درسا بعد درس لهذا القصد حتى لا يضيع السعي ولا يخيب الجد، ولما رأيت أن مؤلفه أطنب في أوروبا لكونها وطنه، وأوجز في غيرها حيث لم تكن داره ولا سكنه، فبهذا الوصف لا يكون لنا كافيا، ولا لغليل المتطلعين إليه شافيا، وكنت أطلعت على غيره من كتب العلوم الجغرافية، ومارست كثيرا منها، وراعيتها حق رعايتها مدة إقامتي بمملكة الفرنساوية، أردت أن أتم المرام بتخليص ما يناسب المقام، حتى تحصل الموازاة والموازنة، والمعادلة والمقارنة ...» إلى أن قال: «وإن شاء الله يترجم من اللغة العربية إلى اللغة التركية؛ حتى تكون ثمرته عامة جلية، وأسأله تعالى أن يجعله من المؤلفات المطلوبة والمصنفات المرغوبة في سائر مدارس أفندينا الناجحة ... إلخ.»
155
ولعل الأمر الصادر من محمد علي في 5 ذي الحجة سنة 1249 «بطبع ألف نسخة من كتاب الجغرافيا المترجم عن الفرنسية للعربية بمعرفة الشيخ رفاعة»، خاص بذلك الكتاب؛ فقد تم طبعه في سنة 1250، وهو أول ما ترجم من الكتب الجغرافية، وقد أشير في نفس الأمر إلى طبع «ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور»؛ وذلك «لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية التي تعود على تلامذة المدارس»، غير أنني لم أعثر في فهارس الكتب العربية المطبوعة على أثر لهذا الأطلس،
156
فلعله لم يتم ترجمة، أو لعله ترجم ولم يطبع.
انتهى رفاعة من ترجمة هذا الكتاب في الشهر الأخير من سنة 1249، ثم أسلمه للمطبعة في أوائل 1250، فطبع، وكان قد قدم للمطبعة في هذه السنوات الثلاث التي مرت منذ عودته من فرنسا (1246-1249) كتابين مما ترجم وهو في باريس، وهما: (1)
كتاب المعادن النافعة، تأليف «فرارد»، وهو رسالة صغيرة في 47 صفحة من القطع المتوسط، ذكر رفاعة في خاتمته أنه ترجمه «بمشورة جناب مسيو جومار، ناظر الأفندية بباريس، ومحب الديار المصرية وعزيزها ولي النعم»، وقد تم طبع هذا الكتاب في بولاق في شوال سنة 1248. (2) «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» وهو رسالة صغيرة أيضا تقع في 112صفحة من القطع المتوسط، ذكر رفاعة أنه ترجمها إجابة لطلب المسيو «جومار»؛ فقد قال في مقدمته ص53: «قد اشتهر بين الخاص والعام أن طائفة الإفرنج قد امتازت الآن بين الطوائف بالتجارات والمخالطة لسائر البلاد، بل لقد اتخذت معرفة البلاد وأحوالها سببا، وانتخبت بذلك نخبا، فاتسعت معارفها في الجغرافيا والميقات، ولا زالت في الزيادة في العلوم على سائر الأوقات، فلا سبيل حينئذ في معرفة أحوال البلدان والخلائق إلا بنقلها عمن حققها من الإفرنج، ولا شك أن من أعلم الإفرنج وأحكمهم طائفة الإفرنسيس؛ فإنها الآن بلاد الفنون والمصانع من غير شك وتلبيس، ولما كان للفقير معرفة هذه اللغة، وفيه ملكة مطالعة عظيم كتبها وتمييز الغث من الثمين، طلب مني الخواجة «جومار» مدير تعليم الأفندية المصريين المبعوثين من طرف حضرة ولي النعمة إلى باريس كرسي الفرنسيس أن أترجم إلى العربية كتابا لطيفا يسمى بما معناه ديوان قلائد المفاخر ... إلخ. فأجبته لذلك علما بأنه نصوح في محبة أفندينا ولي النعم، ومحب لبلاد مصر كأنها وطنه ... ولما كان هذا الكتاب غير مقصور على مجرد نقل العوائد، بل هو مشتمل على استحسان واستقباح بعضها، أشار علي مدير التعليم المذكور أن أحذف ما يذكره مؤلف الكتاب من الحط والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية، أو مما لا ثمرة لذكره في هذا الكتاب ... إلخ.»
وقد ذكر رفاعة في خاتمة الكتاب أنه أتم ترجمته في يوم الاثنين من العشر الأوائل من جمادى الآخرة سنة 1245 - أي وهو في باريس - وأنه تم طبعا في بولاق في غرة شعبان سنة 1249.
157
ولم يذكر رفاعة - في المقدمة أو الخاتمة - اسم مؤلف الكتاب، وقد رجح مسيو بيانكي
Bainchi
أنه من تأليف
Depping ؛ فقد قال عند ذكر هذا الكتاب في قائمته
Ceci, est, je pense, l’ouvrage de Depping, intitulé: “Mœurs et usage des nations” .
وقد أكد رفاعة هذا الترجيح؛ فقد أورد في رحلته ترجمة رسالة وصلته قبيل عودته إلى مصر من المستشرق الفرنسي مسيو «رينو
Reinaud » جاء فيها «... قد حملني مسيو «دبنغ» أن أسأل عن ترجمتك لكتاب العلوم الصغيرة المشتمل على أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم؛ لأن مسيو «دبنغ» مؤلف هذا الكتاب، فإذا كانت ترجمتك تنطبع في مصر، هل يتيسر لمؤلف الأصل أن يقيد اسمه لتحصيل عدة نسخ من هذا الكتاب بالشراء ...»
158
وهكذا كان رفاعة بعد عودته، كما كان قبل عودته دائم العمل دائب النشاط؛ فقد استطاع في السنوات الثلاث التي تلت عودته أن يراجع كتبا مترجمة في الطب والجغرافية، وقدم للمطبعة كتابين مما ترجم في باريس، أحدهما في علم المعادن، والثاني في علم الاجتماع، وترجم كتابين جديدين طبعا أيضا في بولاق، أولهما في الهندسة، وثانيهما في الجغرافية، واستطاع بعد هذا كله أن يوفق لفتح مدرسة صغيرة تولى وحده فيها تدريس علمي التاريخ والجغرافيا.
وفي أوائل سنة 1250 ظهر في مصر مرض الطاعون، وانتشر في القاهرة وكثير من البلدان الأخرى فطلب رفاعة إجازة وسافر إلى بلده طهطا، ولبث هناك نحو ستة أشهر، زار في خلالها الأهل والأقارب، ولكنه لم ينعم في خلالها بالراحة، بل حمل معه الجزء الأول من جغرافية ملطبرون
Malte Brun
وكان قد بدأ فترجم منه صفحات وهو في باريس، فأكمل ترجمة الجزء الأول كله، يقول في المقدمة: «وكان ذلك في نحو سبعة أشهر مع تراكم غيره من الأشغال علي؛ من ترجمة هندسة، أو طبع ما كان وقت تعريبه بين يدي.» ويتضح من مقدمة هذا الجزء أن رفاعة عرض على محمد علي رغبته في ترجمة هذا الكتاب، فطلب منه الباشا أن يترجم هذا الجزء في مدة لا تزيد عن هذه الشهور السبعة؛ ولهذا بذل رفاعة الجهد كل الجهد ليفي بوعده، وقد فعل؛ وذلك «قصدا لكسب رضاء ولي النعم الأكرم، الذي أمر بترجمته في نحو هذا الزمن وحتم ».
159
وقد عاونه في تبييض الكتاب وتحريره أثناء الترجمة الشيخ محمد هدهد الطنتدائي؛ «فقام بواجبات هذه الوظيفة وزيادة من غير ارتياب، وربما تصرف بعد مشاورتي في بعض عبارات، وأشار علي بتغيير ما يظن أنه يعسر فهمه على من لم يسبق له في هذا الفن علمه، فأجبته حيث قام عندي على صحة ذلك أمارات ... إلخ.»
160
تقدم رفاعة بهذا الجزء من الجغرافيا العمومية إلى محمد علي، فحاز الكتاب القبول وحاز رفاعة الرضاء؛ فقد كان محمد علي معنيا منذ بدأت حرب الشام الأولى بالكتب والمنشورات الجغرافية، يريد أن يعرف - وهو يبني ملكه الجديد - أين هو من الشرق القديم المنحل، وأين هو من الغرب الجديد الناهض، وفي الوثائق المعاصرة شواهد كثيرة على هذه العناية؛ فقد كتب سامي بك إلى الديوان الخديوي في 12 جمادى الأولى سنة 1248 يخبره برغبة الجناب العالي في الاطلاع على خرائط الشام والأناضول، وبوجوب استدعاء أرتين أفندي للتفتيش على هذه الخرائط في خزينة الأمتعة، أو في خزينة القصر العيني، أو في أي محل آخر.
161
وبعد عشرة أيام من هذا الخطاب (22 جمادى الأولى) صدر أمر من محمد علي إلى حبيب أفندي أشار فيه إلى أنه سبق أن طلب منه «خرائط رسم عن بر الشام والأناضول، وأنه علم مما ورد منه عدم وجود ذلك.» وأشار في هذا الأمر إلى أنه متذكر وجود أطلس فلمنك، وآخر فرنساوي به رسم جميع الكرة الأرضية، فيجري البحث عن هذين الكتابين بخزينة الأمتعة أو بمحل وجودها، وإرسالها لطرفه متى وجدت.
162
وفي 18 ذي القعدة سنة 1248 كتب إبراهيم باشا إلى سامي بك يأمره «بوجوب ترجمة الجغرافيتين البرية والبحرية بمعرفة اسطفان أفندي وأرتين أفندي، وبوجوب حفر الخرائط اللازمة بمعرفة الشيخ أحمد العطار الذي عاد من باريز.»
163
وفي 5 ذي الحجة سنة 1249 صدر أمر من محمد علي إلى وكيل الجهادية بطبع ألف نسخة من كتاب التعريبات الجغرافية، «وكذلك ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية.»
164
وفي غرة ذي القعدة سنة 1250، أرسلت إلى بوغوص بك إفادة سنية ، تقضي بتقديم خريطة نهر الفرات ونواحيه إلى المقر العالي.
165
كانت الفرصة سانحة إذن - ومحمد علي معنى هذه العناية بالدراسات والرسوم الجغرافية - أن يتقدم إليه رفاعة باقتراحه الجديد لتحقيق أمنيته القديمة، كان ذلك الاقتراح يتلخص في أن يؤذن لرفاعة بافتتاح مدرسة للترجمة تعلم فيها الألسن الشرقية والغربية، وبعض المواد المساعدة؛ كالتاريخ والجغرافية والرياضة، ليقوم خريجوها بترجمة الكتب في العلوم المختلفة.
ووافق محمد علي وأنشئت المدرسة في أوائل سنة 1250، وكان عدد تلاميذها وقت إنشائها خمسين تلميذا، تولى رفاعة اختيارهم بنفسه من مكاتب الأقاليم، ثم زاد هذا العدد إلى 80، ثم إلى مائة وخمسين، ونقص في سنة 1841 إلى 60 تلميذا، ويقول الدكتور عزت عبد الكريم: «وظلت مدرسة الألسن محتفظة بنحو هذا العدد حتى نهاية عصر محمد علي.»
166
وفي سنة 1255 / 1839 اكتملت المدرسة فأصبحت تتكون من 5 فرق، وخرجت الدفعة الأولى، وبدأ تلاميذها وخريجوها يترجمون الكتب في العلوم المختلفة.
وفي سنة 1258 / 1841 أنشئ قلم الترجمة ملحقا بمدرسة الألسن وتحت إشراف رفاعة.
ستة عشر عاما ظل فيها رفاعة ناظرا للألسن، ومدرسا بها، ومديرا لها، ومشرفا على قلم الترجمة، ومصححا لجميع الكتب التي ترجمها تلاميذه مما سنوضحه عند كلامنا عن المترجمين من خريجي الألسن.
ومع هذا فقد كان يلجأ إليه المترجمون من أعضاء البعثات في المدارس الخصوصية الأخرى لمراجعة ما يترجمون من كتب، فقام - وهو يدير الألسن - بمراجعة وتصحيح كتب مختلفة في الطب والجغرافية، والرياضيات.
ففي سنة 1252 / 1837 ترجم محمد أفندي عبد الفتاح كتاب «تحفة القلم في أمراض القدم» (طب بيطري)، وقابله على أصله الفرنسي العمدة الفاضل «والحجة الكامل، من لا ينازعه في الفصاحة منازع، حضرة رفاعة أفندي رافع»، وفي سنة 1257 ترجم نفس المترجم كتاب «نزهة المحافل في معرفة المفاصل، وبعد أن قام على تصحيحه الشيخ مصطفى كساب، قابله على أصله الفرنساوي قدوة الأفاضل، وعدة الأماثل، اللوذعي البارع، رفاعة أفندي رافع».
ولما عاد السيد أحمد الرشيدي من بعثته الطبية عهد إليه ديوان المدارس بترجمة كتاب «الدراسة الأولية في الجغرافيا الطبيعية»، ومع امتيازه في الترجمة، وحذقه للغة العربية رأى ألا يقدم الكتاب إلى المطبعة إلا بعد أن يراجعه مدرس الجغرافيا، ومترجم كتبها رفاعة أفندي. يقول الرشيدي في خاتمة كتابه: «ولما كمل حسب الطاقة تصحيحا، وتم تهذيبا وتنقيحا، رأيته يحتوي على أسماء بلاد كثيرة وأنهار، ونحو ذلك، لست في ترجمتها إلى العربية قوي البضاعة؛ لأني وإني كنت درست أصول الجغرافيا بالأوروبا إلا أنني لم أتخذها صناعة، فجزمت أن لا مرد لها إلا العمدة الفاضل والسيد الكامل، الحاذق اللبيب، والنحرير النجيب رفاعة أفندي معلم الجغرافيا الطبيعية، ومن له في هذا الفن التآليف والتراجم البهية، فأعرضت (كذا) للديوان أن لا بد من مقابلته مع هذا الهمام، فأجبت لذلك وبلغت من سؤالي المرام، وقابلته معه على أصله مع غاية الانتباه والإتقان ... إلخ.»
167
وقد طبع هذا الكتاب في شهر ربيع الأول سنة 1254.
وفي سنة 1257 ترجم أحمد أفندي فايد المدرس بالمهندسخانة كتاب «الأقوال المرضية في علم بنية الكرة الأرضية»، وقام على تصحيحه الشيخ إبراهيم الدسوقي، ثم قوبلت ترجمته بأصله على حسب الاقتدار على يد مصطفى بهجت أفندي، ورفاعة أفندي بأمر المختص من المعارف بالنفائس، سعادة أدهم بك مدير ديوان عموم المدارس.
168
وفي هذه الفترة أيضا - في سنة 1257 - عهد إلى رفاعة بتنظيم صحيفة الوقائع المصرية والإشراف على تحريرها، فأحدث فيها تغييرات جمة، وخطا بها وبتحريرها خطوات واسعات؛ ففي تلك السنة اجتمعت لجنة مكونة من «سعادة مدير المدارس والبيك الترجمان وكاني بك، ومحمود بك مدير الإيرادات وغيرهم»، وذلك للنظر - تنفيذا لرغبة الجناب العالي في «وضع خطة سديدة تضمن صدور الوقائع على الوجه الأكمل كما هو الحال في الممالك الأخرى»،
169
ورأت اللجنة بعد اجتماعها في 27 ذي القعدة سنة 1257 / 11 يناير 1842، أن الغرض من طبع الوقائع إنما هو لنشر الأخبار الحديثة على الناس حتى يستفيد منها كل إنسان، ولا يجب الاكتفاء بنشر أخبار مصر فحسب، وقد أصبح من اللازم إضافة بند للحوادث الخارجية في الجريدة حتى يتقبلها الناس برغبة وشوق ... وحيث إن نشر مثل هذه الأخبار يتوقف على قراءة الجرائد التي تنشر في الخارج ويستوجب أن يكون الموظف المشرف على ترتيب الجريدة وتنظيمها ملما باللغتين؛ وعلى ذلك فقد تقرر إحالة أعمال ترجمة المواد المناسبة من الجرائد وعلاوة بعض قطع أدبية من الكتب الأدبية وانتخاب أخبار الملكية وترتيب الجريدة المصرية بصفة عامة على حضرة الشيخ رفاعي أفندي ناظر مدرسة الألسن؛ لوجود مترجمين جاهزين في هذه المدرسة، وحيث إن حضرة الشيخ رفاعي سيضع أصول الجريدة بحسب اللغة العربية، فتحال أعمال إفراغ الترجمة في قالب حسن بدون الإخلال بالأصل العربي وتنظيم المواد حسب النظام التركي على حضرة حسين أفندي ناظر المطبعة العامرة، وحيث إن الحوادث الأجنبية معتاد تقديمها إلى الجناب العالي بعد ترجمتها إلى اللغة التركية فيكلف البك المترجم بانتخاب المناسب منها، وإرسال صورها إلى ديوان المدارس، فبهذه الطريقة يمكن نشر الجريدة أسبوعيا.
170
وهكذا عهد إلى رفاعة تنفيذا لهذا القرار الصادر في 27 ذي القعدة
171
سنة 1257 أعمال ترجمة المواد المناسبة من الجرائد الأجنبية، وعلاوة بعض قطع أدبية من الكتب الأدبية، وانتخاب أخبار الملكية، وترتيب الجريدة المصرية بصفة عامة. وقد قام رفاعة بهذا العمل الجديد خير قيام، وطبع الوقائع في عهد تحريره لها بطابع جديد مستعينا في هذا بخبرة طويلة، وثقافة فرنسية وعربية واسعة، قدر هذا التأثير الجديد، وهذه الجهود الفذة الدكتور إبراهيم عبده في كتابه عن تاريخ الوقائع المصرية، فقال: «وكان لمكانة رفاعة الطهطاوي أثر كبير في تقدير الصحيفة واعتبارها، واحترام لغة البلاد فيها، فإن مكان اللغة قد تبدل، فأصبحت العربية في الناحية اليمنى تتصدر في الجريدة صفحاتها الأربع، وأخذت التركية مكان اليسار.»
172
وقال أيضا: «وقد استطاع رفاعة أن يفرض وجوده وشخصيته في تحرير الجريدة بالرغم من تعيين الحكومة لأرتين بك مشرفا على أخبارها الداخلية فيما بعد، بحيث تمكن من إهماله والانتصار عليه ... ومن أهم ما لاحظناه منذ تعيين الطهطاوي أن ناظر الوقائع أصبح في المرتبة الثانية بالنسبة لمحررها، وقد بذل رفاعة جهده في رعاية الصحيفة، وأضاف فيها، وحورها تحويرا يليق بفهمه، ويتصل بإدراكه، واستعان في ذلك بفئة من المحررين، أهمهم أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين تلميذ العطار ومساعده.»
173
على أن المظهر الهام حقا الذي ظهرت به الوقائع في عهدها الجديد - عهد رئاسة رفاعة لتحريرها - هو التغير الواضح في موضوعاتها «التي انتقلت فجأة من توافه الأخبار والحوادث، والافتتاحيات الثقيلة المحشوة مديحا وثناء للوالي بمبرر وبغير مبرر إلى موضوعات رئيسية لها خطرها لا في الشرق وحده، بل في أوروبا في ذلك الوقت».
174
قام رفاعة بهذه الجهود الشاقة خير قيام، وبذل لها كل وقته وتفكيره، وكان يدفعه إلى الإخلاص في عمله والتفاني في أداء واجبه وازع قوي من ضميره الحي، وحب لوطنه وبنيه، وتشجيع مستمر من «ولي النعم» محمد علي باشا وأولاده؛ ففي سنة 1260 أنعم على رفاعة برتبة القائمقام، وفي 14 ذي الحجة 1263 أنعم عليه برتبة أميرالاي
175
لمناسبة انتهائه من ترجمة مجلد آخر من جغرافية ملطبرون،
176
وبهذا الإنعام الأخير أصبح يدعى رفاعة بك، بعد أن كان يدعى فيما مضى بالشيخ رفاعة، ورفاعة أفندي.
وقد أنعم عليه محمد علي بمائتين وخمسين فدانا، وأقطعه إبراهيم باشا «حديقة نادرة المثال في الخانقاه تبلغ ستة وثلاثين فدانا»،
177
وأنعم عليه سيد باشا بمائتي فدان، وإسماعيل باشا بمائتين وخمسين فدانا.
وفي 13 ذي الحجة سنة 1264 / 10 نوفمبر 1848 توفي إبراهيم باشا، وفي 27 من نفس الشهر تولى عرش مصر عباس باشا الأول، وكان محمد علي لا يزال حيا يعاني من مرضه الأخير، فلم يجرؤ عباس على تغيير ما يريد تغييره من الأوضاع القديمة، وفي 12 رمضان سنة 1265 / 2 أغسطس 1849 انتقل محمد علي إلى الرفيق الأعلى، فاستقل عباس بالأمر.
ولم يكن عباس كجده وعمه، بل لعله كان على النقيض منهما؛ ولهذا يكاد يجمع مؤرخو عصره على وصفه بالجمود والرجعية؛ فالرافعي يرى أنه كان «قبل ولايته الحكم، وبعد أن تولاه خلوا من المزايا والصفات التي تجعل منه ملكا عظيما يضطلع بأعباء الحكم ويسلك بالبلاد سبيل التقدم والنهضة ... وبالجملة فلم تكن له ميزة تلفت الأنظار سوى أنه حفيد رجل عظيم أسس ملكا كبيرا، فصار إليه هذا الملك دون أن تئول إليه مواهب مؤسسه، فكان شأنه شأن الوارث لتركة ضخمة جمعها مورثه بكفاءته وحسن تدبيره، وتركها لمن هو خلو من المواهب والمزايا.»
178
ويرى المؤرخ الإيطالي «ساماركو
Sammarco » أن أظهر ما تتسم به حكومة «عباس عداؤه الوحشي للحضارة الأوروبية، وكرهه العنيف لجميع الأعمال التي كونت مجد جده، والتي بذل هو كل الجهد في تحطيمها شيئا فشيئا».
179
ويرى الدكتور عزت عبد الكريم أن عباسا: «أظهر منذ تولى الحكم في مصر أنه لن يكون الحاكم الذي يتابع سياسة جده، ويحنو على مؤسساته، ويؤيد نظمه،
180
وأن سيرته في الإصلاح الداخلي كانت فشلا متصلا، ولا يشفع له في ذلك أن حكمه كان قصيرا».
180
والسبب الأساسي لهذا كله في نظره يرجع إلى أن «سياسة عباس قامت على تسفيه الجهود التي بذلها محمد علي وإبراهيم في ميدان الإصلاح الداخلي، والسياسة التي اعتقد أنهما كانا يتمسكان بها، ويدعوان إليها في تقرير علاقات مصر بالدولة العثمانية، والدول الأوروبية».
180
فإذا فهمنا سياسة عباس الأول على هذا الأساس لم يكن من العسير إذن أن نفهم لم أقفلت معظم المدارس الخصوصية في أول عهده، وكانت مدرسة الألسن أول مدرسة ألغيت؛ وذلك أن مؤسسها وناظرها كان من المقربين لمحمد علي وإبراهيم الحائزين لثقتهما؛ لهذا نشأ بين عباس ورفاعة نوع من الكراهية وسوء التفاهم، لم يوضح رفاعة نفسه، ولم يوضح المؤرخون المعاصرون أسبابه الحقيقة مما دعا المؤرخين المحدثين إلى أن يذهبوا في تفسيره مذاهب شتى؛ فالأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك يرى أن لكتاب رفاعة «تخليص الإبريز» سببا يتصل بنفيه؛ إذ لا يخفى أنه طبع للمرة الثانية سنة 1265، أي في أوائل عهد عباس باشا، والكتاب يحوي آراء ومبادئ لا يرغب فيها الحاكم المستبد، وعباس باشا الأول كان في طبعه مستبدا غشوما، فلا بد أن الوشاة قد لفتوا نظره إلى ما في كتاب رفاعة بك مما لا يروق لعباس، فرأى أن يبعده إلى الخرطوم ليكون السودان منفى له، ولا غرابة في ذلك، فلو أن هذا الكتاب ظهر في تركيا على عهد السلطان عبد الحميد لكان من المحقق أن يكون سببا في هلاك صاحبه، فمن الجائز أن يكون عباس باشا قد رأى نفي رفاعة، وأمثال رفاعة إلى السودان، ليبعدهم، ويبعد أفكارهم وثقافتهم عن مصر ، واتخذ لنفيهم صورة ظاهرة وهي إنشاء مدرسة بالخرطوم.
181
أما الدكتور عزت عبد الكريم فيرى أن هناك احتمالين لإبعاد رفاعة إلى السودان، أولهما سعي علي مبارك، الذي عاد من أوروبا مليئا بالأطماع، والذي كان يحقد علي رفاعة ما أصاب من مكانة، وقد قرب عباس إليه علي مبارك وأبعد رفاعة إلى السودان، فلما خلفه سعيد قرب إليه رفاعة، وأبعد علي مبارك إلى القرم
182
والثاني ما يحتمل أن يكون رفاعة قد لقيه معارضة بعض المشايخ المتعصبين الذين ربما عدوه متطفلا على ميدانهم في دراسة الشريعة والفقه.
182
وهذه كلها تفسيرات احتمالية أو اجتهادية تفتقر إلى سند تاريخي مادي، وأصدق منها - في نظري - ما ذكره رفاعة نفسه من أنه سافر إلى السودان بسعي بعض الأمراء بضمير مستتر بوسيلة نظارة مدرسة بالخرطوم
183
وإن كان لم يذكر أسماء هؤلاء الأمراء، أو ماهية الوشاية التي وشوا بها ضده.
غير أنه عاد فأشار إليهم وإليها في إيضاح مستتر في قصيدة نظمها وهو في السودان مستغيثا مما هو فيه بحسن باشا - كتخذا مصر - قال فيها:
وما خلت العزيز يريد ذلي
ولا يصغي لأخصام لداد
لديه سعوا بألسنة حداد
فكيف صغى لألسنة حداد
مهازيل الفضائل خادعوني
وهل في حربهم يكبو جوادي
وزخرف قولهم إذ موهوه
على تزييفه نادى المنادي
فهل من صيرف المعنى بصير
صحيح الانتقاء والانتقاد
قياس مدارسي قالوا عقيم
بمصر فما النتيجة في بعادي
184 ... إلخ.
ويقول الأستاذ أحمد أمين بك: «وكان الشيخ ماكرا؛ فقد وضع القصيدة على وزن وقافية:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي»
185
ومهما تكن الأسباب الحقيقة فإن عباسا قد أوعز في شهر رجب سنة 1266 إلى المجلس المخصوص برغبته، واقترح هذا المجلس أن تؤسس مدرسة بالأقاليم السودانية إنقاذا لأولاد أهلها، والمستوطنين بها من جحيم الجهل، وأن يقوم على تأسيسها ونظارتها رفاعة بك، وأن يشترك معه في التدريس علم من أعلام النهضة العلمية التعليمية في عصر محمد علي وهو محمد أفندي بيومي أستاذ الرياضيات في المهندسخانة ورئيس أحد أقلام غرفة الترجمة، وأنه من الجميل حقا أن نسجل لحكومة عباس أنها أول من فكرت في إنشاء مدرسة مصرية في ربوع السودان، لو أنه كان خالص النية، صادق الرغبة في خدمة السودان وأبنائه، ولكنه لم يكن كذلك، وإلا فإن إنشاء مدرسة ابتدائية في الخرطوم لم يكن يستلزم أن يشرف عليها، ويقوم بالتدريس فيها كبيرا رجال النهضة العلمية في مصر؛ رفاعة وبيومي، ومع هذا فإن قرار المجلس المخصوص أخفى الأسباب الحقيقية، وأظهر لنا الغرض من إنشاء المدرسة في صورة أخاذة براقة؛ فقد ذكر في هذا القرار أنه «لما كانت الأقاليم السودانية من البلاد الجسيمة، ولما لم يكن قد أنشئت في تلك الديار المتسعة مدرسة يربى فيها أولاد مشايخها، وغيرهم من أهلها، وأولاد الأتراك الذين ذهبوا إلى تلك الديار، وتوطنوا بها منذ أعوام خلت، وكذلك أحفادهم ليتعلموا فيها الفنون والقراءة والكتابة فيزدادوا ثقافة وفطنة، ولما كان المجلس المخصوص قد تشاور في جلسته التي عقدها أخيرا، فقرر أمر إنشاء مدرسة بتلك البلاد بغية إنقاذ أولادها من ظلمات الجهل، وتنويرهم بأنوار المعارف بمقتضى مراحم الذات الخديوية، والمكارم السنية التي شملت جميع الرعايا والبرايا، قد قر الرأي أن تفتح هذه المدرسة في عاصمة الخرطوم، وأن يكون نظامها موافقا لأصول المدارس المصرية، وعلى نمط ترتيب مدرستي المبتديان والتجهيزية، وأن يقبل ويسجل فيها نحو مائتين وخمسين غلاما من المشايخ، والأهلين القاطنين بدنقلة، والخرطوم، وسنار، وتاكة وملحقاتها، وكذلك من أولاد الأتراك الذين توطنوا بتلك الديار وأحفادهم، هذا ويولى عليها ناظر ملم بأصول المدارس؛ ليتمكن من ترتيبها كما ينبغي، وتنظيمها على أحسن وجه، فاستحسن المجلس اختيار أمير الآلاي رفاعة بك الذي بديوان المدارس ناظرا للمدرسة المذكورة وإرساله إلى تلك الديار، وانتخاب المعلمين الذين تحتاج إليهم تلك المدرسة برأي البك المشار إليه.» إلخ.
186
قضى رفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات قاسى فيها الأمرين، لا كرها في السودان، فهو القائل على لسان مصر والسودان:
نحن غصنان ضمنا عاطف الوج
د جميعا في الحب ضم النطاق
في جبين الزمان منك ومني
غرة كوكبية الانفلاق
إنما آلمه في السودان شعوره بأنه منفي، وتألمه لما أصاب معظم زملائه من مرض ووفاة، وخاصة بيومي أفندي صديقه في باريس ومصر، ووفيه في الجهاد العلمي، وصاحبه في السراء والضراء، يؤيد هذا قوله في قصيدته السابق الإشارة إليها:
وحسبي فتكها بنصيف صحبي
كأن وظيفتي لبس الحداد
187
ومع ذلك فقد تذرع هناك بالصبر والإيمان، وقام بواجبه في مدرسة الخرطوم خير قيام، وتخرج على يديه بعض أبناء مصر والسودان، وقد بث شكواه في قصائد كثيرة تعد من أجمل ما قال من شعر، ولم ينس أخيرا عمله الذي أحبه وأخلص له، وهو الترجمة، فشغل وقت فراغه بترجمة قصة «تليماك»،
188
وقد أشار في مقدمتها إلى ما كان يحس - وهو في منفاه - من ألم ممض، وكيف استعان على تحمل هذا الألم باشتغاله بترجمة هذا الكتاب، قال: «وإنما فقط لما توجهت بالقضاء والقدر إلى بلاد السودان، وليس فيما قضاه الله مفر أقمت برهة خامد الهمة، جامد القريحة في هذه الملمة، حتى كاد يتلفني سعير الإقليم الفائر بحره وسمومه، ويبلعني فيل السودان الكاسر بخرطومه، فما تسليت إلا بتعريب «تليماك»، وتقريب الرجاء بدور الأفلاك.»
هذا هو مجهود رفاعة في الترجمة حتى عهد إقامته في السودان، وله مجهود آخر في نفس الميدان
189
وفي ميادين علمية أخرى بعد عودته في عهدي سعيد وإسماعيل، لا نرى المجال هنا مناسبا للحديث عنها لخروجه عن موضوع بحثنا الذي جعلنا حدوده آخر عهد محمد علي باشا.
غير أننا لا نستطيع أن نختم هذا الموضوع دون أن نشير إلى نقطة أخيرة تحتاج إلى المناقشة؛ وذلك أننا أحصينا فيما سبق جهود رفاعة في الترجمة، غير أنه أشار في بعض شعره الذي قاله في السودان إلى أنه ترجم عن «مونتسكيو»، فقال:
على عدد التواتر معرباتي
تفي بفنون سلم أو جهاد
وملطبرون يشهد وهو عدل
ومنتسكو يقر بلا تمادي
190
فهذه إشارة واضحة، أكدها بعد وفاته الشيخ محمود كشك الطهطاوي، الذي أشرف على تصحيح الطبعة الثانية من كتاب «مناهج الألباب»؛ فقد أشار في آخره بجهد محمد بك رفاعة (حفيد رفاعة بك)، وسعيه لنشر هذا الكتاب، وأشار إلى أن همته لم تقف عند إنجاز طبع هذا الأثر، بل عزم حضرته على إحياء باقي الكتب التي ترجمها جده عن الفرنساوية إلى العربية؛ كرواية «تلماك» الشهيرة وترجمة «ملطبرون» وترجمة «منتسكو» وغير ذلك ... إلخ.
وأورد بعد ذلك صورة خطاب كتبه الشيخ عبد الكريم سلمان إلى حفيد رفاعة بتاريخ 16جمادى الأولى سنة 1330، قال فيه: «فاجعل كتابي هذا غير قاصر على تقريظ عملك الجديد المفيد، ومده إلى إيجاد ذينك السفرين.» (ترجمة ملطبرون وترجمة مونتسكيو).
ولقد رويت عن عمك الأعز رحمه الله أن والده الأكرم، أكرم الله مثواه ترجمهما، وأن نسختهما موجودة، وأسمعني ما بقيت حافظه إلى الآن مما يبرهن على أنه طيب الله ثراه ترجمهما، وهو:
وملطبرون يشهد وهو حبر
ومنتسكو يقول ولا يماري
وعلق على هذا الخطاب بقوله: «ونحن نزف البشرى إلى الجمهور بوجود أصول هذين الكتابين في خزانة كتب المؤلف، وتعويل حضرة حفيده الأكرم على طبعهما إجابة لطلب فضيلة الأستاذ، وحبا في تعميم النفع لأبناء العصر.»
191
وغاية ما نستطيع أن نقول إننا رجعنا إلى ثبت ما ترجم رفاعة من كتب في عهدي محمد علي وإسماعيل فلم نجد من بينها كتابا لمونتسكيو، وكل ما نعرفه أنه قرأ كتبه وهو في باريس، وتأثر بها كثيرا في بعض كتبه، وخاصة كتاب «مناهج الألباب المصرية»، فهو متأثر فيه بكتاب مونتسكيو «روح الشرائع»، كذلك لم يترجم تلاميذه في مدرسة الألسن من كتب «مونتسكيو» إلا كتاب «برهان البيان وبيان البرهان في استكمال واختلال دولة الرومان»؛ فقد ترجمه حسن أفندي الجبيلي، وكانت الترجمة تحت إشراف رفاعة؛ فقد قال المترجم في مقدمته: «ولم أغفل عن مراجعة الفاضل اللبيب، والكامل الأريب، الدقيق فهمه، الكثير علمه، سيدي رفاعة أفندي في حل بعض مشكلاته، وفك ما عسر علي فهمه من معضلاته.»
ولم ينته من ترجمته إلا في الثاني عشر من ربيع الآخر سنة 1290 بعيد وفاة أستاذه رفاعة ، وتم طبع الكتاب بعد ثلاث سنوات في ذي القعدة سنة 1293.
لم يبق إذن إلا أن يكون رفاعة قد ترجم حقا بعض كتب «مونتسكيو»، وأجزاء أخرى من جغرافية «ملطبرون» - غير التي طبعت - وأن مسودات هذه الكتب ما تزال مخطوطة في مكتبته.
كانت مدرسة الألسن منذ إنشائها ترمي إلى تحقيق غرضين اثنين: (أ)
إعداد مترجمين في مختلف الفنون والعلوم. (ب)
إعداد مدرسين للغة الفرنسية في المدارس التجهيزية والخصوصية.
وقد حققت المدرسة هذين الغرضين بهمة رفاعة التي لا تعرف الملل، وجهده المتصل، وملأت مصر والمدارس بالمترجمين والمدرسين، وقد ذكر صالح مجدي بك في كتابه «حلية الزمن» أسماء النابهين الذين نبغوا من تلاميذ رفاعة في مدرسة الألسن، وعدة هؤلاء سبعة وستون، وذكر المستر «دن»
192
أن المدرسة خرجت في مدى عشر سنوات نحو سبعين مترجما. ويبدو لي أن خريجي الألسن منذ سنة 1255 (وهي السنة التي تخرجت فيها الدفعة الأولى) إلى سنة 1265 (وهي السنة التي توفي فيها محمد علي) كانوا يبلغون نحو المائة؛ فقد ذكر أبو السعود أفندي أحد خريجي المدرسة وتلاميذ رفاعة، أن المدرسة كان «يخرج منها كل عام عشرة».
193
وقد قدر خريج آخر من خريجي المدرسة - محمد قدري باشا
194 - الكتب التي ترجمها خريجو الألسن - ما طبع منها وما لم يطبع - بنحو ألفي كتاب.
ومهما كان عدد الخريجين، أو عدد الكتب التي ترجمت، فقد أشاع رفاعة في هذا الرعيل قبسا من روحه، ونفحة من نشاطه، فكانوا أركان النهضة في عهد محمد علي، ثم كانوا القائمين على إحيائها، والإشراف عليها في عهد إسماعيل، وقد أجمل رفاعة القول في جهده وجهودهم في مقدمته لقصة تليماك، قال: «قد تقلدت بعناية الحكومة المصرية، الفائقة على سائر الأمصار، في عصر المدة المحمدية العلوية السامي على سائر الأعصار، بوظيفة تربية التلاميذ مدة مديدة، وسنين عديدة، نظارة وتعليما، وتعديلا وتقويما، وترتيبا وتنظيما، وتخرج من نظارات تعليمي من المتقنين رجال لهم في مضمار السبق، وميدان المعارف وسيع مجال، وفي صناعة النثر والنظم أبهر بديهة وأبهى روية وأزهى ارتجال، وحماة صفوف لا يبارون في نضال ولا سجال، وعربت لتعليمهم من الفرنساوية المؤلفات الجمة، وصححت لهم مترجمات الكتب المهمة، من كل كتاب عظيم المنافع، وتوفق حسن تمثيلها في مطبعة الحكومة وطبعها، ومالت طباع الجميع إلى مطبوع ذوقها وطبعها، وسارت بها الركبان في سائر البلدان، وحدا بها الحادي، في كل واد، وقصدها القصاد كأنها قصائد حسان، وكان زمني إلى ذلك مصروفا، وديدني بذلك معروفا، مجاراة لأمير الزمن (يقصد محمد علي)، على تحسين حال الوطن، الذي حبه من شعب الإيمان ...» إلخ.
ووصف علي مبارك خريجي الألسن بأنهم كانوا «جميعهم في الإنشاءات نظما ونثرا أطروفة مصرهم، وتحفة عصرهم.»
195
وقد أخذ رفاعة تلاميذه في الألسن بما أخذ هو به نفسه - وهو يتلقى العلم في باريس - أي أنه أخذهم: أولا: بالجد والنشاط في التحصيل منذ اللحظة الأولى، فكان «لا يقف في اليوم والليلة على وقت محدود، وربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء، أو عند ثلث الليل الأخير، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة أو فنون الإدارة والشرائع الإسلامية، والقوانين الأجنبية، إلخ.»
195
وبهذا استطاع أن يعهد لبعض النابغين من تلاميذه بترجمة الكتب في السنوات الأولى من إنشاء المدرسة، ومن عجب أن نرى بعض الكتب قد ترجمت وطبعت قبل أن تخرج المدرسة دفعتها الأولى؛ ففي سنة 1252 - أي بعد إنشاء المدرسة بسنة واحدة - ظهر كتاب تاريخ الفلاسفة اليونانيين مترجما بقلم عبد الله أفندي حسين الذي يقول في مقدمته: «وكنت وقت ترجمته بمدرسة الألسنة بالأزبكية»، أي كان لا يزال تلميذا بها.
وبعد نحو 3 سنوات من إنشاء المدرسة (1254) أخرجت كتابين آخرين وهما «تنوير المشرق بعلم المنطق»، ترجمة خليفة محمود، و«بداية القدماء وهداية الحكماء»، وقد اشترك في ترجمته مصطفى الزرابي ومحمد عبد الرازق وأبو السعود، وهم جميعا من تلاميذ المدرسة.
ثانيا: وأخذ رفاعة تلاميذه أيضا - بما أخذ به نفسه من قبل - من إقبال على الترجمة في مختلف العلوم والفنون، فلم تعرف المدرسة ولم يعرف خريجوها التخصص
196
في ترجمة علم بعينه، وإنما كان يفرغ أحدهم من ترجمة كتاب في التاريخ فيعهد إليه بترجمة آخر في الطب، ثم ثالث في الكيمياء، أو في الجغرافيا، وهكذا، ولكننا نلاحظ أن ميول الخريجين الخاصة، ووظائف الترجمة التي تولوها بعد تخرجهم قد وجهت كلا منهم إلى نوع من التخصص في الترجمة، أو التأليف في علم من العلوم، فاتجه محمود خليفة وأبو السعود، ومصطفى الزرابي، ومحمد مصطفى البياع إلى ترجمة الكتب التاريخية، واتجه صالح مجدي وأحمد عبيد الطهطاوي إلى ترجمة الكتب الهندسية والحربية، ومحمد الشيمي، والسيد عمارة وحسين علي الديك إلى ترجمة الكتب الرياضية، وعبد الله بك السيد، ومحمد قدري باشا إلى ترجمة الكتب القانونية، والتأليف فيها، وهكذا.
ورغبة في ترجمة أكبر عدد ممكن من الكتب، وإنجاز الترجمة في أسرع وقت، كانت الكتب توزع على المترجمين أجزاء إذا كان الكتاب يتكون من أجزاء كثيرة، أو فصولا إذا كان الكتاب جزءا واحدا، وكان يحدد لكل مترجم وقت معين لإنجاز الترجمة حسب كبر الجزء أو الفصل أو صغره، وكانت تتراوح هذه المدة بين أربعة عشر شهرا وخمسة أشهر.
وكان رفاعة يشرف بنفسه على مراجعة وتصحيح معظم الكتب، إن لم يكن كلها، يشهد بذلك المترجمون من تلاميذه جميعا في مقدمات كتبهم، فهذا عبد الله حسين يقول في مقدمة تاريخ الفلاسفة: «فاستعنت في مشكلات الكتاب، وتحرير ترجمته بمدير تلك المدرسة البهية.» وهذا خليفة محمود يقول في مقدمة «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوروبا»: «وحيث إنها باللغة الفرنساوية من مستصعبات التآليف، ومختصرات التصانيف، استعنت في تذليل صعابها، وكشف نقابها بمراجعة من لسان القلم في مدحه ووصفه قصير، ومن أتى في مدحه بأبدع مقال فإنما هو آت بيسير من كثير، حضرة رفاعة أفندي مدير مدرسة الألسن، حين التوقف والحاجة إلى ذلك، وهو أيضا صححها على أصلها، وقابلها كل المقابلة، فبهذا كانت خير ترجمة لا سيما من أمثالي، حيث إنه لم يكن لي في مدرسة الألسن غير سنتين، في اشتغالي بهاتين اللغتين، إلخ.» وقال في مقدمة «إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شارلكان»: «بذلت الهمة في تعريبه، وتنقيحه وتهذيبه، وازداد تهذيبا بمقابلته مع رب البلاغة والتدقيق، من أوتي في هذا الفن مفاتيح كنوز الحقيقة والتحقيق، حضرة رفاعة أفندي ناظر قلم الترجمة، إلخ.»
ولم يكن من المستطاع أن يقوم رفاعة بمراجعة وتصحيح كل الكتب المترجمة - على كثرتها واختلافها - بنفسه؛ ولهذا أخذ - بعد حين - يشرك معه في هذا العمل بعض مدرسي المدرسة ومصححيها، وخاصة الشيخ محمد قطة العدوي. قال أحمد عبيد الطهطاوي في خاتمة كتاب «الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر»: «يقول مترجمه، قد صرفت في ترجمته على صعوبته الهمة، وسهرت في مطالعته وفهمه الليالي المدلهمة، واستعنت فيما حواه من المشكلات، وما اشتمل عليه من المعضلات، بمراجعة صاحب الرفعة رفاعة بك ناظر قلم الترجمة، وتصحيح غالبه بمعرفة العلامة الشيخ محمد قطة العدوي.»
197
وقال حسن قاسم في كتاب «تاريخ ملوك فرنسا»: «وكان تصحيح هذا الكتاب الفائق، بمعرفة حضرة العلامة الأوحد سعادة الميرالاي رفاعة بك الأمجد وعلى يد المستنصر بربه القوي، محمد قطة العدوي، مصحح قلم ترجمة.»
198
وممن شارك مشاركة جدية في مراجعة وتصحيح الكتب التي ترجمت في مدرسة الألسن، وقلم الترجمة الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوي، كبير مصححي الألسن؛ فقد عين في المدرسة منذ إنشائها، ولم يطبع من كتبها كتاب «إلا طالعه وتصفحه، وقابله وصححه وهو يشتغل ليلا ونهارا».
أما اختيار الكتب التي تترجم فقد كان موكولا لرفاعة بك، وقد بدأ كما ذكرنا فاختار لتلاميذه بعض الكتب التي قرأها ودرسها وهو في باريس؛ ككتاب «تاريخ الفلاسفة اليونانيين»، وكتاب «بداية القدماء وهداية الحكماء»، وكتاب «دي مارسيه»، في المنطق الذي ترجم بعنوان «تنوير المشرق بعلم المنطق، إلخ».
غير أنه كان يحدث أحيانا أن يكتب ديوان المدارس إلى مدرسة الألسن مشيرا بترجمة كتب معينة، وإذا قلنا ديوان المدارس، فإنما نعني في الواقع مديره أدهم بك؛ فقد كان رجلا مثقفا واسع الثقافة وخاصة في اللغة الفرنسية والعلوم الرياضية؛ ولهذا نلاحظ أن معظم الكتب التي أشار ديوان المدارس بترجمتها كانت إما كتبا رياضية، وإما كتبا في الرحلات، قال السيد أفندي عمارة في مقدمة كتاب «تهذيب العبارات في فن أخذ المساحات»: «فمذ حللت كغيري بتلك المدرسة (الألسن) اجتنيت من ثمر اللغة العربية والفرنساوية أنفسه، بإرشاد ناسج حلة بردها، وناظم جوهر عقدها ... العلامة السيد رفاعة أفندي بدوي رافع، فلما علم مني الرغبة في التحصيل ... حباني من فضله إمداده، إلى أن بلغت المأمول وزيادة، وأمرني عملا بما صدر من ديوان المدارس المصرية أن أترجم كتابا للمؤلف «لوكوه» يتضمن بيان المسافات، وفن أخذ المساحات ... إلخ.»
وقال سعد نعام في مقدمة «سياحة في أمريكا»: «قد صدر الأمر بتعريبه، وتفسير تراكيبه من ديوان المدارس المصرية، التي هي بكسب العلوم حرية، بأنفاس مديرها حضرة البك المفخم، سعادة أمير اللوا إبراهيم أدهم ... إلخ.»
وقال إبراهيم مصطفى البياع «الصغير» في مقدمة «سياحة في الهند»: «هذه خدمة يسيرة، وتعريب رحلة صغيرة، للمؤلف «أوبير ثرولد»، ألفها في سياحته إلى بلاد الهند، وجدت في كتبخانة حضرة البك المفخم مدير المدارس، سعادة أمير اللواء أدهم بك، فصدر الأمر بترجمتها من الديوان إلى حضرة علامة الزمان، من رقي في مراقي الشرف أرفع محل وأعظمه، حضرة أميرالاي رفاعة بك ناظر قلم الترجمة، فعينني حفظه الله لترجمتها ...» إلخ.
ويبدو لي أن رفاعة كان يراعي رغبات وحاجات الوالي والحكومة والمدارس في اختيار الكتب التي تترجم، ولكنه كان يتخير الكتب التاريخية تبعا لخطة خاصة رسمها لنفسه؛ فإنه يتضح من مراجعة هذه الكتب أنه كان يريد أن يترجم كتبا مختلفة تغطي تاريخ العالم منذ أقدم العصور حتى أحدثها، وإن كان تاريخ فرنسا قد حظي منه بعناية خاصة؛ فقد ترجم فيه أكثر من كتاب، ولعل هذا راجع لثقافة رفاعة الفرنسية، وميله إلى هذه الدولة، أو العلاقة كانت تربط بين مصر وفرنسا منذ نزلت بأراضيها الحملة، أو لاستعانة محمد علي بالفرنسيين في إصلاحاته، وإيثاره فرنسا بإيفاد معظم البعثات إليها.
وقد عني رفاعة بعلم التاريخ هذه العناية، وعهد إلى تلاميذه بترجمة الكتب الكثيرة فيه لأسباب كثيرة، أولها ميله الخاص، وثانيها وأهمها ما كان يحسه من شغف محمد علي باشا الشديد بدراسة حوادث الأمم، وتراجم عظماء الرجال، ورفاعة حريص الحرص كله في كل ما يعمل على أن يرضي «ولي النعم».
بدأ رفاعة بتنفيذ هذه الخطة، فاختار كتابا في تاريخ الدول والشعوب القديمة، من مصريين وسوريانيين وبابليين ، وأكراد، وفرس، ويونانيين، إلخ، وعهد إلى تلاميذه في مدرسة الألسن بترجمته، ولما كان هذا الكتاب في أصله الفرنسي «ناقصا تاريخ الخليقة والعرب، وكان في كتاب عماد الدين أبي الفدا سلطان حماة ما يفي بالأرب»؛ فقد أضاف رفاعة إليه فصولا من هذا الكتاب «لكمال المطلوب، وبلوغ المرغوب»، والمطلوب والمرغوب، كما رجحنا، هو تغطية تاريخ العالم بسلسلة من الكتب؛ ولهذا نراه لا يتقيد بنصوص المؤلفين عند الترجمة، بل يبيح لنفسه إضافة أجزاء من كتب عربية قديمة ليكمل بها ما في هذه الكتب من نقص، وليحقق خطته التي رسمها لنفسه.
وقد كتب رفاعة مقدمة لهذا الكتاب - وهو أول كتاب تاريخي تترجمه مدرسة الألسن؛ فقد طبع في سنة 1254 - فلسف فيها دعوته لدراسة التاريخ، وأوضح الأغراض من دراسته، وأشار إلى شغف محمد علي بهذا العلم، وهي مقدمة طيبة لا يشوبها - فيما نرى - إلا التزامه السجع في فقراتها، ولكنه كان مضطرا إلى هذا اضطرارا؛ فقد كان متأثرا بتقاليد العصر الأدبية، قال في هذه المقدمة: «من المعلوم أن الإنسان مدني بطبعه، مائل إلى التأنس والعمران بأصله وفرعه، مضطر إلى السياسة والرياسة، وحسن الاجتماع والكياسة، وما يكون به استجلاب كماله، ومعرفة أسباب حفظه أو تحوله وانتقاله، وما يكون عليه حال الملك في نفسه أو مع رعيته، وعمارة مدائن مملكته، حيث احتاج إلى ذلك تنظيم المصالح وضبط المهمات على وجه راجح ناجح، لما أنه يستنبط من ذلك كمال فوائده، من كان تدريب التجاريب نصب مصادره وموارده، ولا يشم ذلك إلا من للأخبار اختبر، وللسير والتواريخ سبر، حتى تضلع من وقائع المشارق والمغارب، وتجرع من محيطها بأنواع الأذواق والمشارب، ورجع عن طروق الشبه إلى أهل الذكر، وهرع إلى طرق التاريخ بالهمة والفكر، لما أنه يجود بذكر ما جرى عليه النسيان، ويجيد حوادث الحدثان، ويخرجها من حيز الخفاء إلى حيز العيان، ولولا أن مصباح التاريخ به الاستصباح، لأصبح ما مضى هشيما تذروه الرياح، فمنفعته عامة، للخاصة والعامة، وهو مشير كل أمير، وأمير كل مشير، وسمير كل وزير، وظهير كل سمير، إذا سئل أجاب، وأبدى العجب العجاب، ترتاح به الأرواح الفاضلة، وتلتاح إليه النفوس الكاملة، من الحكماء والأساطين، والملوك والسلاطين؛ فلذا كانت مطمح نظر الخديو الأعظم، وملمح بصر الداوري الأفخم، نادرة الدهر، أنموذج الفخر، سيد مصر، وصاحب العصر، مغناطيس التعجب، صاحب اليد البيضاء التي لا توارى، والحسنات الجمة التي لا تجارى، من به اضمحل الظلم وتلاشى، أفندينا ولي الممالك محمد علي باشا، الذي سارت الركبان بذكره في كل ناد، وتلقب بأعظم الألقاب، لا سيما عند ملوك أوروبا، أوليس أنه يلقب عندهم معيد تمدن الإسلام، ومبيد تمكن الأوهام؟
ولما كان تولعه بالتواريخ شديدا، وتطلعه لأخبار الملوك الماضين مزيدا، وله في معرفة فحول رجال القرون الأولى المادة الغزيرة واليد الطولى، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، وكان تاريخ تلك العصور، بالكتب العربية في غاية القصور، لا سيما تاريخ اليونان، المشتمل على فحول رجال تلك الأزمان، وكان بمدرسة الألسن من يقوم بتعريب طرفه، ويخرج دره من صدفه، أعطيته لعدة أفراد، لتعريب المراد في أقرب ميعاد ...» إلخ.
وقد اشترك في ترجمة هذا الكتاب مصطفى الزرابي أفندي، ومحمد عبد الرازق أفندي، وأبو السعود أفندي.
وبعد الانتهاء من ترجمة هذا الكتاب في تاريخ العالم القديم، تخير رفاعة كتابا آخر في تاريخ العصور الوسطى، وعهد لمصطفى أفندي الزرابي بترجمته، فخرج كتابا كبيرا في جزأين، يقع الجزء الأول في 268 صفحة، والثاني في 359 صفحة، وقدم له رفاعة بما يؤكد خطته التي زعمناها، قال: «يقول الفقير إلى الله تعالى رفاعة رافع ناظر مدرسة الألسنة، هذه رسالة في تاريخ القرون المتوسطة تكملة لتاريخ القدماء الذي طبعه ولي النعم، صاحب الجود والكرم.» وقد سمى هذا الكتاب، «قرة النفوس والعيون بسير ما توسط من القرون».
تناول هذان الكتابان تاريخ العصور القديمة والمتوسطة، وقد انقسم العالم في العصور الحديثة إلى دول كثيرة مختلفة، ولكل دولة تاريخها، وقد عني رفاعة بتاريخ فرنسا خاصة للأسباب المتقدم ذكرها، فعهد إلى أحد النابغين من تلاميذه - أبي السعود أفندي - بترجمة كتاب «نظم اللآلئ في السلوك فيمن حكم فرنسا من الملوك»، فترجمه، وطبع في بولاق سنة 1257.
وبعد سنوات قليلة من ترجمة هذا الكتاب أهدى المؤرخ الفرنسي «مونيقورس» كتابه في «تاريخ ملوك فرنسا» إلى شريف باشا «مدير عموم المالية»، «وبالمذاكرة مع حضرة البك المفخم مدير عموم المدارس إبراهيم أدهم، استقر الرأي على طبعه وأن يطبع على ذمة حضرة الباشا المشار إليه مكافأة لمؤلفه في نظير الإهداء»،
199
وقد قام بترجمته حسن قاسم أفندي أحد خريجي الألسن، وطبع في بولاق في سنة 1264.
وقد عرف رفاعة أن محمد علي يعنى عناية خاصة بدراسة سير أمثاله من الملوك المصلحين، الذين نهضوا بأممهم نهضات يذكرها التاريخ؛ ولهذا «اختار تاريخ ملك من ملوك الإفرنج تعلو همته بينهم على المريخ، وهو تاريخ بطرس الأكبر، الذي فضله بين ممالك أوروبا أشهر من أن يذكر»،
200
وعهد إلى نابغ آخر من تلاميذه ومواطنيه - وهو أحمد عبيد الطهطاوي أفندي - بترجمته، والكتاب من تأليف الفيلسوف الفرنسي المعروف «فولتير».
ومن كتب التراجم التي عربها خريجو الألسن كذلك كتاب «مطالع شموس السير في وقائع كارلوس الثاني عشر»، ترجمه محمد مصطفى الزرابي أفندي، «وكانت ترجمته بأوامر مدير المدارس، لا زال مختارا لإبراز الدرر والنفائس».
201
ولما كان الكتاب يؤرخ لمملكة «أسوج» - السويد - حتى عهد كارلوس الثاني عشر؛ فقد رأى المترجم أنه من المناسب أن يذيله «بتذييل لطيف يذكر فيه من حكمها بعده من الملوك إلى عهدنا هذا - طبع الكتاب في 1257 - على طريق الإيجاز، لتعلم أحوال تلك البلاد الشمالية، وتتم بذلك فائدة الكتاب»، وقد انتخب المترجم هذا التذييل من «كتاب المؤلف راغوان في أحوال القرن الثامن عشر».
202
ذكرنا قبل هذا أن خريجي الألسن في نحو عشر سنوات يتراوحون بين السبعين والمائة، وأنهم ترجموا ما يقرب من الألفي كتاب، ومن العسير أن نترجم هنا لجميع هؤلاء الخريجين، أو أن نذكر بالتفصيل جهودهم في الترجمة، فاكتفينا بعرض التيارات العامة التي كانت توجه المترجمين في قلم الترجمة الملحق بالمدرسة، وتحدثنا حديثا موجزا عن بعض جهود الخريجين تحت ضوء هذه التيارات، وسنتخير هنا علمين من أعلام الخريجين، فنتحدث عن جهودهما في الترجمة واكتفينا بالإشارة إلى جهود الآخرين بذكر الكتب التي ترجموها في الثبت العام للكتب التي ترجمت في عصر محمد علي الذي ألحقناه بهذه الرسالة.
هذان العلمان هما عبد الله أبو السعود أفندي والسيد صالح مجدي أفندي (بك فيما بعد)، وقد دفعنا إلى اختيارهما أنهما كانا أكثر الخريجين اتصالا بأستاذهم رفاعة في عهد محمد علي، ثم في عهد إسماعيل، وأنهما كانا أكثر الخريجين إنتاجا وترجمة، بل وتأليفا فيما بعد.
أما أبو السعود أفندي فقد ولد في دهشور سنة 1236، وكان والده قاضيا ثم اختير ناظرا لأحد المكاتب التي أنشأها محمد علي، وهو مكتب البدرشين، وذلك في سنة 1248، فألحق ابنه تلميذا بهذا المكتب، ومنه اختاره رفاعة بك في سنة 1250؛ ليكون تلميذا بمدرسة الألسن، وفيما تفوق على أقرانه وخاصة في اللغة العربية، فاختير في سنة 1254 مدرسا لهذه اللغة خلفا لأستاذه الشيخ حسنين الغمراوي، ومنح رتبة الملازم الثاني، وبعد قليل رقي إلى رتبة الملازم الأول ونقل إلى مدرسة المهندسخانة، فكان يدرس بها اللغة الفرنسية، ويشترك في تصحيح الكتب الرياضية التي يترجمها مدرسوها، ولم يكتف في هذه السنوات بالثقافة التي تلقاها في الألسن، بل كان يحضر دروس الفقه بالجامع الأزهر ومن أساتذته الشيخ خليل الرشيدي، والشيخ أحمد المرصفي، والشيخ المنصوري، والشيخ التميمي المغربي.
وفي سنة 1259 عندما أعيد تنظيم قلم الترجمة الملحق بالألسن تحت رئاسة رفاعة بك، ونظارة كاني بك نقل إليه أبو السعود أفندي، ولم يترجم في تلك الفترة إلا كتاب «نظم اللآلئ في السلوك فيمن حكم فرنسا ومن قام على مصر من الملوك»، والثلثان الأولان من الكتاب مترجمان عن الفرنسية، وموضوعهما تاريخ ملوك فرنسا من الدولة «الميروفنجية» إلى عهد الملك «لوي فيليب»، أما الثلث الأخير فمن وضعه وقد ضمنه تاريخ حكام مصر وولاتها منذ عهد الخليفة أبي بكر الصديق إلى عهد السلطان عبد المجيد، وقد طبع هذا الكتاب في بولاق سنة 1257.
وفي عهد عباس الأول انزوى أبو السعود أفندي موظفا عاديا لا جهد له ولا نشاط، ولا عجب؛ فهو تلميذ رفاعة، فلما تولى سعيد باشا الحكم عاد أبو السعود إلى الحياة، وسافر مع الوالي إلى السودان كاتبا لمعيته، وبعد عودته عين بقلم الترجمة بالخارجية، وفي أوائل عهد إسماعيل عاد إلى قلم الترجمة الملحق بديوان المدارس ليعمل من جديد بالاشتراك مع زميله صالح مجدي تحت رئاسة أستاذهما رفاعة بك.
وفي هذا العهد بلغ نشاطه في الترجمة والتأليف أوجها؛ فترجم سبعة كتب
203
معظمها في التاريخ وهو العلم الذي تخصص فيه، وبعضها في الزراعة والكيمياء أو القانون أو الجغرافيا، وفي هذا العهد أيضا خطا أبو السعود خطوة جريئة، فأنشأ في مصر أول صحيفة وطنية شعبية هي جريدة «وادي النيل»
204
وقد كان لهذه الصحيفة شأن كبير في التمهيد للحركة الوطنية في عهد إسماعيل.
وقد ساهم أبو السعود في تحرير أول مجلة مصرية ظهرت في ذلك الوقت وهي «روضة المدارس»، ثم اختير في أخريات أيامه ناظرا لقلم الترجمة خلفا لأستاذه رفاعة، ثم كان مدرسا للتاريخ بمدرسة دار العلوم، وعضوا بمجلس الاستئناف إلى أن توفي في الثامن من صفر سنة 1295.
أما السيد صالح مجدي فهو من أسرة عربية الأصل، ولد في قرية أبي رجوان من أعمال مديرية الجيزة في سنة 1242 أو سنة 1243، وتلقى علومه الأولى في مكتب حلوان الأميري، ومنه اختير كما اختير زميله أبو السعود ليكون تلميذا بمدرسة الألسن، فألحق بها في سنة 1252.
وفي عهد تلمذته بهذه المدرسة ظهر نبوغه في اللغتين العربية والفرنسية، فلما أنشئ قلم الترجمة في سنة 1258، وجعل من أقسامه قسم لترجمة الكتب الرياضية تحت رئاسة بيومي أفندي جعل السيد صالح مجدي وكيلا لهذا القسم، وفيه ترجم كتابين؛ «أحدهما جداول المهندسين، وثانيهما تطبيق الهندسة على الميكانيكا والفنون».
205
وفي سنة 1260 نقل إلى مدرسة المهندسخانة - خلفا لزميله أبي السعود الذي نقل من المهندسخانة إلى قلم الترجمة في سنة 1259 - وفي هذه المدرسة عين مجدي «لتدريس اللغتين الفرنساوية والعربية وتعليم نجباء تلامذتها فن الترجمة وتعريب فروع الرياضيات التي تدرس بها القواعد العربية»،
206
ويقول علي باشا مبارك في كتابه الخطط: «إني قد كنت من رجال هذه المدرسة، فعرفت المترجم فيها، واتخذته لي صاحبا وصديقا، كنت قد تعينت في سنة 60 التي التحق هو فيها بتلك المدرسة للسفر مع عدة من أمثالي إلى مملكة الفرنسيس لتكميل العلوم الرياضية، وتحصيل الفنون العسكرية المتعلقة بالطوبجية والاستحكامات، فلما رجعت إلى مصر بعد خمس سنين وجدته قد وصل إلى رتبة يوزباشي، وأخبرني أنه أحرزها في سنة 1262، وأنه عرب في هذه المدة عدة كتب في فروع الرياضيات منها كتاب في الطبوغرفيا والجيودوزية، وكتاب مكانيكا نظرية، وكتب ميكانيكا عملية، وكتاب أدروليكا، وكتاب حساب آلات، وكتاب طبيعة، وكتاب هندسة وصفية، وكتاب في حفر الآبار ورسالة في الأرصاد الفلكية تأليف الشهير «أرجو»، ولما أحيلت على عهدتي نظارة المهندسخانة وما معها سنة ست وستين بعد انتقالي من رتبة صاغ قول أغاسي إلى رتبة أميرالاي كان لي المترجم رفيقا مع قيامه بوظائفه، وطالما استعنت بقلمه على تأليف كتب متنوعة في فنون شتى، وقد ترجم في تلك المدة عدة كتب في الرياضة، منها كتاب في الحساب، وكتاب في الجبر، وكتاب في تطبيق الجبر على الأعمال الهندسية، وكتاب في الظل والمنظور، وكتاب في حساب المثلثات، وكتاب في الهندسة الوصفية، وكتاب في قطع الأحجار والأخشاب، وهي كتب جار عليها العمل إلى الآن في المدارس، وله غير ذلك من الكتب التي تجل عن الحصر.»
وهكذا كان صالح مجدي أسعد حظا من صديقه أبي السعود، فقد مهدت له معرفته بعلي مبارك السبيل إلى البقاء في مدرسة المهندسخانة في عهد عباس، وفي هذه المدرسة قضى نحو عشر سنوات أنتج فيها هذا الإنتاج الضخم، وفي عهد سعيد باشا عاد أستاذه رفاعة من السودان غير أنه ظل مدة عاطلا، فنقل مجدي في سنة 1272 وكيلا لمأمورية أشغال الطوابي بالقلعة السعيدية، وعهد إليه بترجمة الكتب العسكرية، ثم مباشرة طبعها في مطبعة بولاق، ثم لم يلبث أن جذبه رفاعة إليه فنقل ناظرا لقلم الترجمة الملحق بالمدرسة الحربية بالقلعة التي كان يتولى نظارتها رفاعة.
وفي أوائل عهد إسماعيل أعيد إنشاء قلم الترجمة
207
الملحق بديوان المدارس وتولى الإشراف عليه رئيسه القديم رفاعة بك، وكان من مترجميه أبو السعود وصالح مجدي، بل لقد أتى على هذا القلم وقت لم يكن به من المترجمين غير صاحبينا وزميل ثالث لهما كان له شأن أي شأن في ترجمة الكتب التاريخية في عصر محمد علي وهو حسن أفندي الجبيلي.
وقد شارك مجدي في تلك الفترة كأستاذه رفاعة وزميله أبي السعود في التحرير في روضة المدارس، ثم في ترجمة «قانون نابليون
Code du Napoleon » وفي ترجمة القوانين المختلفة الأخرى التي تم نقلها إلى اللغة العربية في عهد إسماعيل، وظل يتقلب في الوظائف حتى عين في سنة 1292 / 1875 قاضيا بمحكمة مصر، ولبث يشغل هذا المنصب حتى توفي في ذي الحجة سنة 1298.
وفي كل تلك العهود كان علي باشا يستعين به وبجهوده وعلمه في تأليف وتصنيف معظم كتبه؛ فقد قال في الخطط: «وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين بعد الألف أحيلت على عهدتي - وأنا إذ ذاك ناظر القناطر الخيرية - مأمورية تأليف كتاب الهجاء والتمرين، فطلبت المترجم من ديوان المدارس بأمر عال فحضر عندي، واشتغل معي بالكتاب المذكور حتى تم على أحسن حال، وتكرر طبعه حتى زادت نسخه على خمسة عشر ألفا.»
208
ثم قال: «ولما أحيلت على عهدتي نظارة عدة دواوين ومصالح في آن واحد استعنت بقلمه على تحرير عدة لوائح وترتيبات نافعة لإدارة هذه المصالح.»
209
وقال أيضا: «وباشر معي أيضا بعض التاريخ الذي عملته للديار المصرية في عدة مجلدات، وبعض رسائل جمعتها وطبعت بمعرفته في جرنال روضة المدارس ...»
210
وقال محمد مجدي في ترجمة والده التي نشرها في مقدمة ديوانه إنهما أتما من هذا الكتاب «ما يتعلق بالفراعنة والأكاسرة والبطالسة والرومانيين، ووصلا فيه في مدة الإسلام إلى سنة ستين ومائة بعد الألف من الهجرة، وبلغ ما جمع فيه من المجلدات نحو أربعمائة كراسة، وهو الآن لدى سعادة علي مبارك باشا، والغالب أنه مهيأ للطبع ...»
211
وقد ظن البعض أن المقصود بهذا الكتاب هو كتاب الخطط، غير أن الخطط تم طبعها في سنة 1806، وديوان صالح مجدي طبع في سنة 1911، فكأن الكتاب الذي كان مهيأ للطبع في سنة 1911 هو غير الخطط قطعا وخاصة أن موضوعه هو تاريخ مصر في مختلف العصور لاطوبغرافيتها، غير أني رجعت إلى قائمة الكتب المطبوعة التي ألفها كل من علي مبارك وصالح مجدي، فلم أجد من بينها كتابا في تاريخ مصر، فلعله لم يطبع.
هذا هو صالح مجدي، وهذا موجز عن جهوده؛ فقد قضى العمر كله يترجم ويؤلف حتى زادت ترجماته ومؤلفاته عن «خمسة وستين كتابا ورسالة».
212
أبو السعود وصالح مجدي علمان كما قلنا من أعلام خريجي الألسن، وهما خير نموذجين لهذه الطائفة من المترجمين، وعلى مثالهما بذل إخوانهما الجهد في الترجمة، ومن صنفهما عثمان جلال في ميدان الأدب، وقدري باشا في ميدان القانون.
وقد ربطت الحوادث بين هذين العلمين وبين أستاذهما رفاعة، فعملا معه في قلم الترجمة في عصري محمد علي وإسماعيل، واشتركا معه في تحرير روضة المدارس وفي ترجمة قانون نابليون، غير أنهما رغم هذا اختلفا الواحد عن الآخر في ميادين أخرى؛ فقد كان صالح مجدي أقرب إلى علي مبارك في دراساته وثقافته الرياضية والعسكرية؛ ولهذا تعاون في إنتاجه العلمي مع علي مبارك أكثر من تعاونه مع أستاذه رفاعة، ومع هذا فقد كان فضل رفاعة عليه كبيرا؛ فإن ثقافته الفرنسية والعربية التي تلقاها في مدرسة الألسن هي التي رشحته للعمل في قلم الترجمة في عهدي محمد علي وإسماعيل، وهي التي رشحته للعمل في مدرسة المهندسخانة في عهدي محمد علي وعباس، وثقافته القانونية في الألسن أيضا هي التي رشحته للعمل في ترجمة القوانين ثم لتولي وظيفة القضاء في عصر إسماعيل؛ لهذا كان مجدي أبر التلامذة بأستاذه، فهو الوحيد من بين تلاميذ رفاعة الذي أرخ له بعد وفاته، فكتب عنه كتابه القيم - رغم صغره - «حلية الزمن بذكر مناقب خادم الوطن».
أما أبو السعود فكان أكثر تأثرا بأستاذه؛ فقد تخرج من الألسن شغفا كأستاذه بعلمي التاريخ والجغرافيا؛ ولهذا كانت معظم مترجماته ومؤلفاته في هذين العلمين، وقد اعترف بفضل رفاعة عليه وتأثره به في هذا الميدان في مقدمة كتاب عربه في الجغرافيا في عصر إسماعيل، ونشره بالتتابع في صحيفته وادي النيل، ثم طبعه على حدة تحت عنوان «الدرس المختصر المفيد في علم الجغرافيا الجديد»، قال: «وكان قد سبقني في انتهاج هذا المنهاج في منتصف هذا القرن الأخير، وأول عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير؛ حضرة أستاذي رفاعة بك أفندي الشهير، وهو وإن كان لم يزل له فضل السبق، وكان بالاحترام والتبجيل أحق، ولربما جئت بالغث وجاء بالسمين، وتزييت بالرث وتزيا بالثمين، غير أنه لما كان هذا العلم عبارة عن استقصاء حقيقة أحوال هذا العالم السريع الانتقال من حال إلى حال، واستمرار تنقل الملل والنحل وغير ذلك من التقلبات الموالية على ممر الأوقات واللحظات، احتاج هذا العلم لمن يقف له بالمرصاد ويبذل في خدمته على الدوام - كالحاصل في البلاد المتمدنة - كل الاجتهاد؛ فلذلك قفوت من أستاذي الأثر، وحذوت حذوه في مشقة ذلك السفر. وإذا كان أستاذي حفظه الله قد أتى من هذا الأكل بالباكورة فقد أتيت بوفرة الثمر، أو كان قد بدر بالبدر فقد جئت بالشمس والقمر، وإذا كان قد جاء بالتعريبات الشافية في علم الجغرافيا، فهذه الرسالة بحمد الله هي الخلاصة الكافية ... إلخ.»
213
كانت معظم الكتب التي ترجمها السوريون - إن لم تكن كلها - كتبا طبية ولخدمة التعليم في مدرستي الطب البشري والبيطري، وكانت معظم الكتب التي ترجمها خريجو المدارس والبعثات كتبا طبية ورياضية، فلما أنشئت مدرسة الألسن، تنوعت الترجمة، فترجم خريجوها في كل علم وفن، وإن كانت ترجماتهم اتجهت في معظمها إلى الأدبيات، متأثرة في ذلك بروح ناظر المدرسة وأستاذها رفاعة رافع الطهطاوي.
وقد شاركت في الترجمة في عصر محمد علي طائفة رابعة لم تكن تجمعها ثقافة واحدة وهي طائفة من موظفي الحكومة، وكانت معظم الكتب التي ترجمتها هذه الطائفة لخدمة الحكومة - وخاصة الجيش - ثم لإرضاء رغبات الوالي محمد علي، وفي بعض الأحيان لإرضاء رغبات ابنه «السر عسكر» إبراهيم باشا؛ ولهذا كانت معظم الكتب التي ترجمها هؤلاء الموظفون عن الفرنسية إلى التركية، أو عن الترجمات العربية لكتب فرنسية إلى التركية، أو عن العربية إلى التركية؛ فقد كانت اللغة التركية هي اللغة الأولى لمحمد علي ولمعظم رجال حكومته .
شمل برنامج الإصلاح المحمدي العلوي جميع مرافق الحياة المصرية، غير أن العناية كل العناية كانت موجهة للجيش؛ فهو دعامة محمد علي للاستقلال ولإحياء العالم العثماني، ولتنفيذ نواحي النشاط الأخرى، وقد كان معظم من ألحقوا بالمدارس الحربية أول إنشائها - ليتخرجوا ضباطا للجيش الجديد - من عنصر تركي، وكانت الخطة الموضوعة ترمي إلى تكوين الجيش، وتمرين ضباطه على النظم الأوروبية الجديدة، وكانت فرنسا هي الدولة التي ينقل عنها محمد علي؛ ولهذا ترجمت الكتب الحربية عن الفرنسية إلى التركية.
ولم يكن من المترجمين السوريين أو المصريين من خريجي البعثات أو الألسن من يعرف التركية أو يجيدها؛ ولهذا ألقي هذا العبء على كواهل موظفي الحكومة ممن يتقنون الفرنسية والتركية، وقد ذكرنا قبلا أن هذا الجهد بدأه عثمان نور الدين غير أنه غادر مصر في سنة 1833، والحرب بين مصر والدولة العثمانية لم تهدأ أسبابها؛ لهذا خلفه في هذا الميدان أناس كثيرون أهمهم كاني بك، وهو رجل من أصل تركي كان من كبار موظفي الدولة في عهد محمد علي، وشارك مشاركة فعالة منتجة في جميع اللجان التي أشرفت على تنظيم التعليم في ذلك العهد، وخاصة في لجنتي 1835 و1841، وقد قام بترجمة معظم الكتب الحربية التي ترجمت في عصر محمد علي، وإن كان لم يذكر اسمه عليها؛ لأنها كانت في معظمها تعليمنامات أو قانونامات؛ ولهذا كان من العسير أن نحقق كم كتابا ترجم، غير أن بعض أوامر محمد علي كانت تشير إلى بعض ما ترجم من كتب.
ففي 14 المحرم سنة 1248 / 1833 «قرر مجلس الجهادية ضرورة تنفيذ إرادة ولي النعم بطبع ألف نسخة من ترجمة الكتاب الذي ترجمه كاني بك ميرالاي الرجال المشتمل على مدافعة المشاة والفرسان بالمزاريق؛ لما يترتب على نشره من عظيم الفوائد».
214
وقد ذكر «بيانكي»
215
في قائمته أن هذا الكتاب طبع في بولاق سنة 1248 / 1833 تحت عنوان «في تعليم الحربة والمزراق»، ولم يشر إلى أنه من ترجمة كاني بك.
وفي تلك السنة أحس إبراهيم باشا سر عسكر الجيوش المصرية في الشام حاجته إلى كاني بك، فأرسل يطلبه، ووافقت حكومة محمد علي على إرساله على أن يقوم اسطفان أفندي - وهو أرمني الأصل وواحد من خريجي البعثات - بما كان يقوم به كاني بك من ترجمة الكتب الحربية عن الفرنسية إلى التركية؛ ففي 29 ربيع الثاني 1248 «قرر مجلس الجهادية إرسال كاني بك أميرالاي ليكون في معية أفندينا رئيس المعسكر المنصور، ويحال على اسطفان أفندي بقية ترجمة كتاب تعليمنامه الفرسان؛ لمهارته في اللغتين الفرنسية والتركية، التي كان مكلفا به كاني بك وترجم معظمه، وأن يسرع في إتمامه، وهذا بناء على ما قدمه حضرة أمير اللواء سامي بك رئيس معاوني أفندينا ولي النعم طبقا لإرادة أفندينا سر عسكر».
216
وفي 13 جمادى الأولى
217
كتب محمد علي باشا إلى محمد حبيب أفندي يستصوب القرار السابق، وبعد سبعة عشر يوما كتب يوحنا بحري
218
إلى الباشمعاون ينبئه بوصول كاني بك إلى طرسوس، وفي 23 رجب
219
كتب كاني بك إلى سامي بك يخبره بأن السر عسكر قد عهد إليه بكتابة التقارير التي ترسل من ديوانه إلى مصر «لتعرض على الأعتاب السنية الخديوية».
وقد قام كاني بك بعمله الجديد خير قيام، ثم عاد إلى مصر في سنة 1249، فكتب إبراهيم باشا إلى سامي بك بأنه «يرى في كاني بك الموجود في القاهرة الكفاءة اللازمة لرتبة أميرالاي ويقترح تعيينه قائدا على آلاي الفرسان».
220
وفي أثناء غياب كاني بك كان اسطفان أفندي هو المترجم للكتب الحربية، فأكمل ترجمة الكتاب السابق، ثم أتم في سنة 1249 ترجمة كتاب آخر، عنوانه «كوماندارية الفرسان»؛ فقرر مجلس الشورى العسكرية طبع ألف نسخة منه «لما فيه من الفوائد الشاملة»
221
فلما عاد كاني بك من الشام بدأ يستأنف جهده القديم؛ ففي 29 رجب سنة 1251 صدر أمر من محمد علي باشا إلى أدهم بك يشير فيه إلى أنه «اطلع على الشقة المرغوب بها صدور الأمر إلى كاني بك بترجمة الثلاثة كتب تعليمات الطوبجية الجديدة الموجودة بطرفه، وعليه قد صدر الأمر إلى المومأ إليه بذلك، فيلزم تسليمه إياها لترجمتها».
222
وقد ذكر له مسيو بيانكي
223
كتابين آخرين هما «تحفة الضابطان» و«قانونامه ثالث سواري»، وذكر أنهما من تأليفه، والصواب أنه ترجمهما عن الفرنسية إلى التركية وطبعا في بولاق سنة 1251 / 1836.
وفي سنة 1250 قام سليمان باشا الفرنساوي بتصنيف كتاب في فن المناورات الحربية جمع موضوعاته من كتب فرنسية مختلفة، فكتب إليه محمد علي يشكره، وأوصى بأن يلحق به عدد من المترجمين لترجمة هذا الكتاب إلى اللغة التركية، وكان من بين هؤلاء المترجمين كاني بك؛ ففي 6 جمادى الآخرة سنة 1250 كتب محمد علي إلى سليمان باشا بأنه «صار ممنونا جدا من اهتمامه بجمع وتأليف كتاب المناورات الحربية من كتب أوروبا الشاملة لذلك بقصد بث هذا الفن بين عساكره الجهادية؛ إذ إن ذلك مما كان في حيز فكره؛ لأنه من الأمور المهمة الصالحة الخيرية. ولما كان مرغوب سعادته إعطاؤه كاتبا ومترجما من المستعدين قد صدر أمره إلى وكيل الجهادية بتعيينهم، وبنهو وإتمام هذه الخدمة الخيرية يتضاعف رضاه عليه فيرجوه الاهتمام في ذلك»،
224
وفي نفس التاريخ صدر منه أمر إلى وكيل الجهادية «بتعيين مترجم وكاتب لسليمان باشا الفرنساوي لترجمته كتاب المناورات الحربية، ويشير بتعيين كاني بك وحسن أفندي القزنجي لانتفاع الآلايات المصرية بانتشار هذا الكتاب».
225
وكثيرا ما كان إبراهيم باشا يشير - وهو في ميدان الجهاد في الشام - بترجمة بعض الكتب الحربية أو التاريخية، وإرسال نسخ منها إليه ليستعين بها على تدريب جنوده وضباطه وتثقيفهم، يؤيد هذا كثير من الأوامر المحفوظة في وثائق عابدين؛ ففي 5 جمادى الآخرة سنة 1248 أرسل إبراهيم باشا إلى سامي بك يرجوه إرسال بعض ما طبع في مصر في الفنون والتمرينات العسكرية
226
فكتب إليه محمد علي باشا في الثاني والعشرين من نفس الشهر يفيده بأنه أصدر أمره إلى محمود بك «كي يرسل النسخ المطلوبة من قانون تعليم المشاة وغيره».
227
وفي 21 رمضان سنة 1248 كتب إبراهيم باشا إلى والده يخبره أن مختار أفندي الدويدار كان قد ترجم «وصايا فريدريك الأكبر إلى قواده، وهو في باريس ويقترح الموافقة على طبعها
228
ومن العجيب أن هذا الكتاب كان واحدا من الكتب الأولى التي ترجمت في عصر محمد علي؛ فقد ترجمه عن الفرنسية إلى التركية «شاني زاده محمد عطاء الله».
229
في سنة 1220، وأمر محمد علي بطبعه فطبع في مطبعة بولاق بعيد إنشائها، وليس في مقدمته أو خاتمته ما يبين السنة التي طبع فيها، ولكنني أرجح أنه طبع حوالي سنة 1822 أو 1823، ويؤيد هذا الترجيح طبعه الرديء، وحروفه المعتلة الشبيهة بحروف الكتب الأولى التي طبعت في بولاق، كالقاموس الإيطالي العربي وصناعة صباغة الحرير؛ لهذا كتب محمد علي إلى ابنه في 8 شوال
230
يخبره بأن هذا الكتاب سبق أن ترجم وطبع.
وفي ذي الحجة سنة 1250 أرسل إبراهيم باشا إلى وكيل الجهادية يستصوب «ترجمة الكتاب الفرنسي الخاص بنظامات وترقيات العساكر»
231
فبادر محمد علي باشا وأصدر أمره إلى سليمان باشا الفرنساوي «بأنه لكون ترجمة هذا الكتاب من الأمور المهمة المستعجلة يلزم جمع التراجمة، وحل حبكته، وإعطاء كل مترجم كراسا منه لسهولة ترجمته في أقرب وقت.»
231
وفي 7 شوال سنة 1251 أرسل إبراهيم باشا إلى سامي بك يشير بترجمة كتاب فرنسي آخر في المناورات الطوبجية والسواري والبيادة.
232
الصفحة الأخيرة من كتاب «وصايا نامه سفرية»
أي وصايا فردريك الأكبر الحربية لقواده، ترجمها شاني زاده محمد عطاء الله. وهو من أوائل الكتب التي طبعت في بولاق.
وهكذا كان يتنافس الرجلان: الأب والابن في التقاط الكتب الحربية، والأمر بترجمتها لتتبع تعاليمها في إنشاء الجيش الجديد وتنظيمه حتى يصل إلى مستوى الجيوش الأوروبية الحديثة، وقد ظلت هذه الأوامر تصدر من الرجلين حتى عهد متأخر؛ ففي 17 جمادى الآخرة سنة 1256 صدر أمر من محمد علي إلى باقي بك «بترجمة رسم محاربة نابليون من الفرنساوي للعربي بنفسه»
233
وفي نفس اليوم أصدر أمرا آخر إلى كاني بك بترجمة التقرير المرفق بالرسم السابق إلى اللغة التركية، وأن يترجمه «بنفسه دون أن يأمر أحدا بترجمته»
234
والرسم والتقرير من وضع المسيو «بون قور».
هذه لمحة سريعة لما كان يتبع في ترجمة الكتب الحربية، ولبعض جهود كاني بك في هذا الميدان، وقد كان كاني مقربا إلى إبراهيم باشا محبوبا منه؛ ولهذا لم يكد يعهد إليه بولاية مصر في 24 شوال سنة 1264 - عندما اشتد المرض بوالده - حتى أصدر أمره في 26 ذي القعدة من نفس السنة بإعادة تنظيم قلم الترجمة الملحق بالألسن، وقسمه إلى قسمين: قسم يعنى بالترجمة إلى اللغة التركية وناظره كاني بك، وقسم يعنى بالترجمة إلى اللغة العربية وناظره رفاعة بك، وجعل الرئاسة العليا للقلم لكاني بك؛ ففي التاريخ السابق نشرت الوقائع المصرية القرار الآتي: «لما كانت ترجمة الكتب المرغوبة التي تشتمل على القوانين والتراتيب والآداب وسائر العلوم والفنون النافعة من اللغة الفرنساوية إلى التركية والعربية، وطبعها ونشرها وسيلة عظمى لتكثير المعلومات المقتضبة، وقضية مسلمة عند أولي النهى، وكان حصول ذلك لا يتأتى إلا بوجود المترجمين البارعين في ألسنة الإفرنجي والتركي والعربي، واجتماعهم في محل واحد، وقسمهم إلى قلمي ترجمة وضمهم إلى نظارة حضرة أمير اللواء كاني بك وكيل ديوان التفتيش، الفريد في فن الترجمة، المشهور بالسلاسة والبلاغة، حصل فتح القلمين كما ذكر، وقد تعين حضرة رفاعة بك أميرالاي الذي كان ناظر مدرسة الألسن التابعة إلى ديوان المدارس ناظرا على قلم الترجمة العربي في معية حضرة الأمير المومى إليه.»
235
بدأ عثمان نور الدين الجهود بترجمة الكتب الحربية، فلما غادر مصر استأنف هذه الجهود كاني بك، فلما سافر إلى الشام، قام بالعمل من بعده اسطفان أفندي إلى أن عاد فبدأ يكمل جهوده، وقد شارك في هذه الجهود أيضا رجال آخرون من موظفي الدولة أهمهم أحمد أفندي خليل،
236
وقد يكون من أصل تركي، ولا نعرف عنه إلا أنه عين حوالي سنة 1240 ناظرا لمدرسة الطوبجية خلفا لمصطفى بهجت أفندي الذي عين ناظرا لهذه المدرسة بعد «سكويرا بك»، وقد ترجم كتبا حربية كثيرة أهمها: (1) «قانونامه عساكر بياد كان جهادية»، ترجمه تنفيذا لأمر محمد علي
237
وطبع في بولاق سنة 1238، وطبع ثانية في غاية شهر شوال سنة 1245 لنفاد نسخ الطبعة الأولى. (2) «قانونامه عساكر طوبجيان جهادية بحرية»، وقد ذكر في مقدمته أنه ترجمة للقانون البحري الفرنسي قام بها أحمد أفندي خليل «ناظر مدرسة جهادية ورئيس مهندسخانة برية مصرية»
238
وقد طبع هذا الكتاب في بولاق في غرة شعبان سنة 1242.
وممن شارك في حركة ترجمة الكتب الحربية من موظفي الدولة - ولكن بجهود ضئيلة - جركس محمود قبودان (محمود نامي باشا)؛ فقد ترجم كتابا في فن الحرب البحري، وعبد الحميد بك الديار بكرلي، وترجم مؤلفا في مقياس السفائن، ومحمد شنن أفندي (بك فيما بعد)، وترجم قانون البحرية.
كانت العلوم الحربية هي الميدان الأول الذي عمل فيه بعض المترجمين من الموظفين في عهد محمد علي، وكان علم التاريخ هو الميدان الثاني، ولعله لم يكن أقل أهمية في نظر الوالي من الميدان الأول؛ فقد كان يرى نفسه - وهو منشئ دولة جديدة وصاحب سياسة إصلاحية جديدة - في حاجة إلى أن يقرأ ويدرس تراجم أمثاله من القواد والملوك والمصلحين ليفيد من خبرتهم، ويتجنب أخطاءهم، وإنا لنرى أنه أفاد من هذه القراءة، وهذا هو الفارق الكبير بينه وبين القائد العظيم نابليون، كلاهما من أبناء عصر واحد، ومن غمار الشعب، وصلا إلى العرش بجهودهما - وخاصة الجهود الحربية - ولكل منهما تاريخ مجيد في الإصلاح الداخلي، غير أن نابليون لم يقدر قيمة القوة التي وقفت في سبيله، فلم يعترف بالهزيمة فقضت هذه القوة عليه وعلى ملكه، أما محمد علي فقد ناضل حتى أيقن أن لا فائدة من النضال فخضع مكرها وقنع بولاية مصر مضطرا، وبهذا احتفظ لنفسه ولأسرته بالملك.
قال محمد علي للدكتور «بورنج» في حديث له: «لقد أخبرني «الكولونيل دوهامل
C. Duhamel » أنني أصبح رجلا عظيما إذا قرأت التاريخ، وألممت بالألفاظ اللطيفة التي يمكن أن أعثر عليها في الكتب، ولكنني الآن لست رجل ألفاظ بل رجل أعمال»، ثم عاد فقال في نفس الحديث: «لقد نصحني الكولونل أن أدرس التاريخ لأتعلم فن الحكم، ولكني وصلت سنا لا تسمح لي بدراسة التاريخ، لقد كتب إلي ولدي يطلب تعليماتي عندما أحاطت به الصعاب، غير أنني رأيت أن خير تعليمات هي أن أذهب بنفسي، وقد سافرت إلى يافا وأخضعت الفتنة حالا، وهذا هو الحكم العملي.»
239
هذه هي خطة محمد علي في الحكم، العمل لا الكلام، غير أن تاريخه ينبئنا بأنه لم يهمل هذه النصيحة، بل لقد أقبل على كتب التاريخ، والتراجم ونظم الحكم بوازع أول من نفسه، ووازع ثان من هذه النصائح، فأمر أن تترجم له الكتب التاريخية عن اللغات العربية والإيطالية والفرنسية إلى لغته الأصلية التركية فترجمت له كتب في سيرة النبي محمد، وفي تاريخ الإسكندر ونابليون، وكاترين ملكة الروسيا، وترجم له تاريخ إيطاليا ... إلخ، وفيما يلي بيان تفصيلي بما ترجم له من هذه الكتب، وقد ترجمها جميعا موظفون يجيدون الفرنسية والتركية، وهم مجموعة عجيبة فيهم السوري واليوناني والتركي،
240
وبعض هذه الكتب قد طبع، والبعض الآخر لا يزال مخطوطا ينتظر من يعنى بنشره: (1)
ترجمة مظهر التقديس بخروج الفرنسيس تأليف المؤرخ المصري الكبير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، ترجمه عن العربية إلى التركية السيد أحمد عاصم أفندي، وفرغ من ترجمته في غرة ربيع الأول سنة 1225، ولا يزال هذا الكتاب مخطوطا
241
في دار الكتب الملكية بالقاهرة تحت رقم 8854. (2)
الأمير في علم التاريخ والسياسة والتدبير، تأليف «مكيافلي»، ترجمه عن الإيطالية إلى العربية الأب رفاييل أنطون زاخور، ولا تزال نسخته المخطوطة - بخط المترجم - محفوظة في دار الكتب الملكية تحت رقم 435 تاريخ، وقد فصلنا الكلام عن هذا الكتاب عند حديثنا عن المترجمين السوريين في عصر محمد علي، وذكرنا في ذلك الفصل أن محمد علي أمر بهذه المناسبة فترجمت له مقدمة ابن خلدون إلى اللغة التركية؛ ليقارن بينها وبين كتاب الأمير. (3) «التلخيصات المتعلقة بتدبير أمور سلطنة الدولة العثمانية» تأليف الأمير قوجه مصطفى بك الكورجه لي فاتح بغداد، ومن أصحاب السلطان مراد خان الرابع، ألفها وقدمها له حينما وقع الاحتلال وظهرت الفتن في أوائل سلطنته، ترجمه إلى اللغة العربية عبد الله أفندي عزيز بن خليل الكاتب والمترجم بديوان الخديوي بإسكندرية، وكتب له مقدمة في صورة «عرض حال»، ورفعها إلى محمد علي باشا، أتم ترجمته في سنة 1241، ولا يزال هذا الكتاب مخطوطا ومعه الأصل التركي في دار الكتب الملكية. (4) «قترينه تاريخي» تأليف المؤرخ الفرنسي «كاسترا»، وهو كتاب في تاريخ الإمبراطورة كاترين الثانية، وبه مقدمة قصيرة عن تاريخ الروسيا، ترجمه عن الفرنسية إلى التركية «جاكوفاكي أرجير وبولو» الموظف والمترجم بالديوان الخديوي، وقد طبع في بولاق في جزء واحد سنة 1244 / 1829 ثم أعيد طبعه في سنة 1246 / 1831 تحت عنوان «أيكنجي قنرينه نام روسيه إيمبر أتريجه نك تاريخي» بعد أن راجعه وصححه سعد آمدي أفندي. (5)
تاريخ نابوليون بونابرته، وهو مذكراته التي كتبها بنفسه حينما كان منفيا في جزيرة «سانت هيلانة» ترجم عن الفرنسية إلى التركية وطبع في بولاق سنة 1247 / 1832 ولم أعثر على اسم مترجمه. (6) «ترجمة سير الحلبي» وهو ترجمة السيرة النبوية الحلبية المشهورة، ترجمها عن العربية إلى التركية سعيد أحمد يلم، وطبعت في بولاق سنة 1248 / 1838. (7)
ترجمة تاريخ دولة إيطاليا،
242
تأليف المؤرخ الإيطالي «بوتا»، ترجمه إلى اللغة التركية عبد الله أفندي عزيز وحسن أفندي، الكاتبان بالديوان الخديوي وطبعا في مطبعة سراي الإسكندرية سنة 1249 / 1834. (8)
تاريخ نابوليون بونابرته
243
تأليف «الدوق دي روفيجو»، ترجمه إلى التركية المترجمان السابقان، وطبع في مطبعة سراي الإسكندرية سنة 1249 / 1834. (9) «سفارت نامه رفاعة بك» وهي رحلة رفاعة ترجمها عن العربية إلى التركية - بأمر محمد علي - المولى رستم أفندي بسيم العرضحالجي بالدائرة السنية الخديوية، وطبع في بولاق سنة 1255 / 1840. (10)
شرح قصيدة البردة، ترجمه عن العربية إلى التركية أحمد أفندي مصطفى، وطبع في بولاق سنة 1256 / 1841.
هذه هي الكتب التاريخية التي ترجمت في عصر محمد علي وبأمره إلى اللغة التركية تبين في وضوح اتجاهه نحو تثقيف نفسه ثقافة تاريخية واسعة، ونستطيع أن نضيف إليها ما ترجمه خريجو الألسن إلى اللغة العربية من كتب في تاريخ أوروبا في عصورها المختلفة، وتاريخ فرنسا وبطرس الأكبر، فمما لا شك فيه أن كثيرا من هذه الكتب كانت تقرأ لمحمد علي أو تعرض عليه فيقرها قبل طبعها.
ونلاحظ أخيرا أن هذه الكتب جميعها ترجمت تحقيقا لرغبات محمد علي أو لرغبات ابنه إبراهيم، ولولا هذه الرغبات ما ترجمت هذه الكتب، غير أنا عثرنا بين الكتب التي ترجمها موظفو الدواوين في ذلك العصر على مثال فريد في كل ما يحيط به؛ فهو فريد في نوع الترجمة لأنه مترجم عن الفارسية إلى العربية، وهو فريد في الدافع على ترجمته، فقد ترجمه مترجمه بدافع من هوايته الشخصية وشغفه بالدراسة ، وهو فريد أخيرا في نوعه، فهو كتاب في الأدب، بل لعله الكتاب الوحيد في علم الأدب الذي ترجم في عصر محمد علي.
هذا الكتاب هو ترجمة عربية لكلستان سعدي قام بها جبرائيل بن يوسف المخلع السوري الأصل والكاتب بالديوان الخديوي بثغر الإسكندرية، وطبعت هذه الترجمة في بولاق في صفر سنة 1263.
وقد ذكر «الخواجة جبريل» في مقدمة الكتاب أنه كان شغفا بالبحث والقراءة، لكن «الأشغال الديوانية» كانت تحول بينه وبين تحقيق رغبته، ثم رأى أخيرا أن يخصص ساعات من وقت فراغه لدراسة اللغة التركية، وذلك «لعموم نفعها من وجهين، وكثرة توقعها على الأذنين، فإنها بعد اللغة العربية أوفر تداولا في المصالح العربية»
244
وبدأ هذه الدراسة في الليلة السادسة عشرة من جمادى التالي سنة 1257، ثم لاحظ أن هذه اللغة التركية تعتمد اعتمادا كبيرا على اللغتين العربية والفارسية، وأن ما عليها من الحلي والحلل لم يكن من ذاتها حصل، وإنما هو مكتسب من مواهب اللغتين العربية والفارسية؛ ولذلك يقول: «أدركت أنني لا أرتوي من حياضها، ولا أجتني من رياضها إلا بحوز مستعملات اللغة الفارسية، وأما العربي فهو لساني بالسجية.» ولهذا شرع في تعلم اللغة الفارسية، «في ثاني ساعة من ثاني ليلة من المحرم الحرام سنة ثمان وخمسين وألف من هجرة الإسلام»،
245
وكان من بين الكتب التي قرأها أثناء دراسته اللغة الفارسية كتاب «كلستان»
246
وقد أعجب به فرأى أن يترجمه ليحقق بذلك رغبتين: أولاهما أن يستعين بالترجمة على إتقان هذه اللغة، وثانيهما إفادة قراءة اللغة العربية، يقول في هذا المعنى: «وبينما أنا في بعض الليالي مكب على مطالعته ومستغرق في مسامرته، إذ أشارت إلي العناية الربانية، وألهمتني الإرادة الصمدانية، أن أستخرج درة من بحر الفاسية إلى شاطئ العربية، ليتم لي بذلك فائدتان: إحداهما التقوي في هذا اللسان، والثانية نفع من رغب فهمه ممن وقف عند العربية في البيان.»
وقد ذكر أنه أتم ترجمته في شهر وأيام؛ فقد بدأ الترجمة في يوم الاثنين السادس من شهر رمضان سنة 1258 وأتمها في السادس عشر من شوال من نفس السنة.
الميدان الثالث الذي ظهرت فيه جهود المترجمين من الموظفين هو ميدان العلوم الرياضية؛ فقد كانت هذه العلوم تدرس في المدارس الحربية كما كانت تدرس في مدارس الهندسة، ومعظم تلاميذ المدارس الحربية - في العهد الأول - إن لم يكن كلهم كانوا من سلالات تركية، وكانوا يدرسون في تلك المدارس باللغة التركية؛ لهذا كان من الواجب أن تترجم لهم هذه الكتب إلى اللغة التي يفهمونها وبعض هذه الكتب ترجم عن الفرنسية إلى التركية مباشرة، والبعض الآخر كان قد ترجم إلى العربية لاستعماله في مدارس المهندسخانة، فصدرت الأوامر بترجمته عن العربية إلى التركية.
والاسم البارز في هذا الميدان هو إبراهيم أدهم بك مدير ديوان المدارس؛ فقد كان المشرف على حركة الترجمة الرياضية إلى اللغة التركية، ولا عجب فهو من أصل تركي، وقد درس علوم المدفعية في إنجلترا، وكان رئيسا لبعض البعثات الصناعية التي أرسلت إلى إنجلترا، وقد بدا له وهو في بلاد الإنجليز أن يتشبه بهم في كل شيء، فخلع ملابسه الشرقية ولبس ملابسهم، وحاكاهم في عاداتهم، فغضب عليه محمد علي غضبا شديدا وأعاده إلى مصر، وظل عاطلا حتى شفع له عباس باشا
247
فعفا عنه بعد أن اعترف بخطئه واعتذر عنه، وعينه محمد علي مديرا لديوان المدارس خلفا لمختار بك الذي توفي في سنة 1839.
أدهم بك مدير ديوان المدارس.
وقد كان أدهم رجلا قديرا نشيطا وافر الذكاء واسع الثقافة، وخاصة في العلوم الحربية والرياضية، يجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية معرفة وحديثا، وقد ذكر كلوت بك أنه تعلم اللغة الفرنسية «بقوة إرادته وعلى غير أستاذ، وهو صحيح اللهجة فيها، وتعلم الرياضيات بفروعها فقبض على ناصيتها، وأحاط بشتات المعلومات الخاصة بفن الطوبجية، وأرى أنه يناظر فيها أحسن ضباط المدفعية، وأمهر مديري الإدارات المتعلقة بها، وأنه أقدر من عرفتهم من الناس في الشئون الإدارية، ولا شك في أن محمد علي كان صادق النظر حينما اختار مثل هذا العامل النشيط، بل كان سعيد الطالع بعثوره على مثله.»
248
وقد ترجم أدهم بك بعض هذه الكتب بنفسه، ومنها: (1)
رسالة في علم جر الأثقال، ترجمها عن الفرنسية إلى التركية، وطبعت في بولاق سنة 1249 / 1834. (2)
رسالة في الهندسة، ترجمها عن الفرنسية إلى التركية، وطبعت في بولاق سنة 1253 / 1837. (3)
مقالات الهندسة، ترجمها عن الفرنسية إلى التركية، وطبعت في بولاق سنة 1252 / 1837.
وقد ترجم بعض الكتب الرياضية الأخرى موظفون آخرون بإشارة أدهم بك وإشرافه، أظهر هؤلاء عصمت أفندي، وعلي أفندي الجيزلي، وقد ترجموا الكتب الآتية: (1)
أصول الهندسة تأليف «لوجاندر»، ترجمه عن الفرنسية إلى التركية أدهم بك، ثم ترجمه عن التركية إلى العربية محمد عصمت أفندي، وطبع في بولاق سنة 1255 / 1840. (2)
مبادئ الهندسة، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية رفاعة رافع الطهطاوي، ثم ترجمه عن العربية إلى التركية محمد عصمت أفندي، وطبع في بولاق سنة 1259. (3)
إفاضة الأذهان في رياضة الصبيان، ترجمه عن الفرنسية إلى العربية محمد الشيمي أحد خريجي الألسن، وكانت ترجمته «برسم حضرات أنجال الخديو الأعظم، وحفدة الداوري الأكرم، وليشتغل به تلاميذ المكتب العالي الشهير، وتلاميذ المكتب السامي بالقصر المنير، وليكون أيضا مستعملا في مكاتب المبتديان بالمحروسة والأقاليم ...»
249
وقد ترجمه عن العربية إلى التركية علي أفندي الجيزلي «الخوجة بالمدارس المصرية» بإشارة إبراهيم بك أدهم مدير المدارس المصرية، وطبع في بولاق سنة 1259.
وهنالك كتابان أخيران مما ترجم الموظفون إلى اللغة التركية في عصر محمد علي وهما كتابان في الطب من تأليف كلوت بك، أمر بوضعهما محمد علي لنشر الثقافة الطبية ووسائل الوقاية والعلاج البسيطة بين أفراد الشعب، وقد تحدثنا طويلا عنهما في الفصل الخاص بالمؤلفين والكتب، وهما «كنوز الصحة ويواقيت المنحة»، و«الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال»، وقد ترجمهما عن الفرنسية إلى العربية الدكتور محمد الشافعي، وقام على تصحيحهما وصياغتهما في أسلوب بسيط قريب من فهم العامة الشيخ محمد عمر التونسي، وإذا كانت طائفة كبيرة من سكان مصر في ذلك الوقت تجيد التركية دون العربية فقد أمر محمد علي بترجمة هذين الكتابين إلى اللغة التركية ، وترجمهما مصطفى رسمي الجركسي أفندي، وذلك بإشارة أدهم بك أيضا، وطبع الأول في سنة 1261، والثاني في سنة 1260.
الفصل الرابع
المحررون والمصححون
بدء تعيين المصححين، كان المصححون يختارون عناوين الكتب المترجمة ويكتبون مقدماتها وخاتماتها، إهمال أسماء المؤلفين، تفريق جورجي زيدان بين المحررين والمصححين، المصححون في مدرسة الطب: الشيخ محمد الهراوي، الشيخ محمد محرم، الشيخان أحمد حسن الرشيدي وحسين غانم الرشيدي، الشيخ سالم عوض القنياتي، الشيخ محمد عمر التونسي، مصحح مدرسة الطب البيطري الشيخ مصطفى كساب، مصحح مدرسة الزراعة الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، مصحح مدرسة الهندسة الشيخ إبراهيم الدسوقي، مصححو مدرسة الألسن، أثر هؤلاء المشايخ في حركة الترجمة، ما أفاده بعضهم من هذه الحركة. ***
كانت الطائفة الأولى التي تولت الترجمة في عصر محمد علي هي طائفة السوريين، ولم يكن أفراد هذه الطائفة على علم واسع متين باللغات التي يترجمون عنها أو باللغة العربية؛ وذلك لأن معرفتهم بهذه اللغة كانت معرفة ممارسة لا معرفة دراسة، ولأنهم كانوا جميعا مسيحيين، فلم يقوم القرآن لسانهم أو أسلوبهم.
ولما كانت حكومة محمد علي ترى أن هذه الكتب المترجمة هي صفحة جديدة في نهضة علمية جديدة سينسبها التاريخ إلى صاحب هذه النهضة، فقد فكرت في الطريقة التي تقوم بها ما اعوج من أسلوب هؤلاء السوريين، وهداها تفكيرها إلى اختيار جماعة من شيوخ الأزهر ليتولوا مراجعة هذه الكتب بعد ترجمتها ويصححوا ما بها من أخطاء، ويقوموا ما بأسلوبها من اعوجاج.
وقد كان من تقليد ذلك العصر أن يترك للشيخ المحرر أو المصحح كتابة مقدمة الكتاب وخاتمته، واختيار عنوان عربي جديد له، واعتاد هؤلاء الشيوخ - متأثرين بالكتب القديمة التي قرءوها - أن يلتزموا السجع في اختيار العنوان وعند كتابة المقدمة والخاتمة، وقد كان لهذه الطريقة في اختيار العنوان عيبها، وفي كتابة المقدمة والخاتمة فائدتها؛ وذلك أنهم بعدوا بالعنوان المسجوع عن العنوان الأصلي للكتاب بعدا كبيرا، فلما حاولت إرجاع هذه الكتب إلى أصولها لمعرفة أسمائها الأجنبية عز علي ذلك، بل واستحال، فكيف يمكن تحقيق الأسماء الأصلية لكتب هذه عناوينها: «نزهة الأنام في التشريح العام»، أو «منتهى الأغراض في علم الأمراض»، أو «رضاب الغانيات في حساب المثلثات»، أو «منتهى البراح في علم الجراح» ... إلخ ... إلخ.
أما المقدمات والخاتمات فقد أفدت منها فوائد جمة؛ فقد اعتاد كل شيخ أن يذكر في مقدمة كل كتاب يراجعه كلمة عن فضل «ولي النعم» في إحياء النهضة العلمية الحديثة، ثم يشير إلى جهود ناظر المدرسة التي ترجم فيها هذا الكتاب، مع مبالغة ملحوظة في مدحه والثناء عليه وعلى جهوده وعلمه، فكلوت بك في نظر الشيخ التونسي هو «أبقراط زمانه، وأفلاطون أقرانه، أمهر من قال أنا طبيب، من يكاد الداء إذا رآه بدون معالجة يطيب».
1
والشيخ مصطفى كساب يصف المسيو «آمون» ناظر الطب البيطري بأنه «الطبيب النجيب، اللوذعي اللبيب، ذو اللطائف والفنون، الحاذق الماهر آمون، ...»
2
وهكذا.
فإذا انتهى الشيخ من هذا التقريظ ذكر اسم المترجم مثنيا على نبوغه ومقدرته، وقد يذكر السبب الدافع لترجمة الكتاب، أو الشخص الموحي بترجمته، وقد يشير إلى طريقة الترجمة مما سنفصل الكلام عنه عند تقديرنا العام للترجمة في هذا العصر.
وفي الخاتمة كان يشير الشيخ إلى أن الكتاب قد «تم على يد مصحح مسائله ومنقح دلائله»، أو أنه «كمل حسب الطاقة تصحيحا، وتم تهذيبا وتنقيحا»، أو أنه «هذب عباراته ومبانيه، وحرر بعد السؤال معانيه، وبذل فيه غاية المجهود، ونظمه نظم اللآلئ في العقود ...» أو أنه روجع «على يد مصحح كلمه عند الترجمة، محرر جمله لدى القراءة والمقابلة، مفرغه في قالب التصانيف الأولية، صائغه على تمثال التآليف العربية، مؤاخيه حال القراءة والجمع، موافيه عند التمثيل والطبع، مغفور المساوي محمد الهراوي» إلخ إلخ.
فإذا انتهى الشيخ من مدح نفسه والثناء على مجهوده، ذكر اسم الكتاب ونص على أنه هو الذي اختاره، ثم أشار إلى تاريخ الانتهاء من الترجمة، وتاريخ الانتهاء من طبعه، وكان بعض المشايخ يؤرخ لكتابه بأبيات من الشعر - كتقليد العصر - ثم يذكر في هذه الأبيات - أحيانا عدد النسخ التي طبعت من الكتاب وقد كان المعتاد أن يطبع من كل كتاب ألف نسخة ، وفي النهاية كان يشير الشيخ إلى المطبعة التي طبع بها الكتاب.
من هذا كله يتضح أن هذه المقدمات والخاتمات هي في الواقع وثائق هامة جدا لتاريخ الحركة الفكرية في ذلك العصر، فمنها استطعت أن أعرف الشيء الكثير عن الكتب ومترجميها ومصححيها، وطريقة الترجمة، والمراجعة والتصحيح وعدد الطبعات، وسنة الطبع وأغراض الترجمة، وموجهيها.
والشيء الوحيد الذي كان يغفله الشيوخ - رغم أهميته - هو أسماء المؤلفين؛ فقلما كانوا يشيرون إلى هذه الأسماء، ولم يحدث هذا إلا في الكتب التي وضعها مدرسو المدارس، أو في الكتب التي ترجمت في مدرسة الألسن، وألفها رجال عظام؛ «كفولتير»، أو «روبرتسون» إلخ، وكانت هذه الأسماء تكتب بحروف عربية، ولم يحدث أبدا أن كتبت بحروف لاتينية، مع وجود هذه الحروف في مطبعة بولاق منذ إنشائها، بدليل استعمالها في طبع القاموس الإيطالي العربي.
وقد انتفى هذا التقليد في الكتب التي ترجمها خريجو الألسن؛ فأصبح المترجمون يكتبون المقدمات والخاتمات بأنفسهم، غير أن الشيء الوحيد الذي كان يعاني منه الشيوخ المحررون كثيرا، ثم عانى منه خريجو الألسن أيضا، وهم يتبعون طريقتهم، هو السجعات التي تتفق وأسماءهم، فكانوا يتحايلون على هذه الأسماء تقديما وتأخيرا، وتبديلا وتغييرا حتى تتفق أخيرا مع ما يكمل السجعة. وفيما يلي أمثلة طريفة لما كان يبذله هؤلاء الشيوخ من جهد لنظم أسمائهم في سجعات مختلفة.
فالشيخ إبراهيم الدسوقي يعاني من لقبه، وأخيرا يوفق إلى أنه «المتوسل إلى الله بالقطب الحقيقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي»، ثم لا تعجبه هذه السجعة، فيبدل من وضع أجزاء اسمه، وينتهي إلى أنه «راجي غفر الأوزار - أو سير الأوزار - إبراهيم الدسوقي عبد الغفار»، أما الشيخ التونسي فهو دائما «المتوكل على عفو المنان، محمد التونسي بن سليمان»، فإذا سئمها فهو «مصحح كتب الطب الآن محمد التونسي ابن سليمان»، أما الشيخ محمد الهراوي فكانت مهمته سهلة؛ لأنه دائما «مغفور المساوي، محمد الهراوي» وكذلك الشيخ مصطفى كساب فهو دائما «المفتقر إلى رحمة ربه الوهاب - أو راجي حسن المآب - الشيخ محمد حسن كساب».
وقد حذا حذو المشايخ فيما بعد خريجو الألسن فالتزموا - مثلهم - السجع في مقدمات كتبهم؛ ولهذا عانوا مثلما عانى الشيوخ، ورأينا في كتبهم أمثال هذه السجعات: «راجي رحمة ربه على الدوام، الفقير إلى الله تعالى سعد نعام»، و«راجي رحمة الملك الودود، عبده خليفة محمود»، و«راجي رحمة ربه المتعال، السيد عمارة عبد العال»، وأخيرا أستاذهم «المؤيد برعاية الملك المبدي، السيد رفاعة بدوي»، أو «الراجي فضله الواسع، رفاعة بدوي رافع» ... إلخ.
وقد حاول جورجي زيدان أن يصنف هؤلاء الشيوخ إلى محررين ومصححين، وذكر أن «التحرير في الأصل هو الإصلاح والتقويم، فيقولون حرر الكتاب؛ أي قومه وحسنه وخلصه بإقامة حروفه، وإصلاح سقطه، والمحرر الذي يقوم بذلك»، أما المصحح في رأيه فهو الذي «يتولى تصحيح الكتاب في أثناء الطبع»؛ وذلك لأن المحررين يشترط فيهم معرفة العلم الذي يعهد إليهم بتحريره، وفهم مصطلحاته العلمية، وغير ذلك، فضلا عن معرفة اللغة، أما المصححون فيكفي فيهم معرفة قواعد اللغة وشواردها لضبط العبارات حسب القواعد».
3
والواقع أن الشيوخ الذين قاموا بمراجعة الكتب المترجمة في ذلك العصر كانوا يقومون بالعملين معا، بل كان لهم جهد مشكور - وخاصة الشيخ التونسي - في إحياء المصطلحات العلمية العربية القديمة ومحاولة التوفيق بينها وبين المصطلحات الأوروبية الحديثة بعد مراجعة كتب العرب في الطب والهندسة والرياضيات، ولفظ المحرر لفظ حديث شاع استعماله بعد نشأة الصحافة وانتشارها، أما وثائق العصر فكانت تسميهم دائما مصححين، فإذا فرقت بينهم سمت هذا مصححا أول أو باشمصحح، وسمت الآخرين مصححين، والشيخ الوحيد الذي أطلقت عليه كتب العصر لفظ «محرر» هو الشيخ التونسي.
وكان المصحح يمنح في العادة - حسب تقاليد العصر - رتبة اليوزباشي، وبذلك يكون راتبه 450 قرشا في الشهر، أو رتبة الملازم فيكون راتبه 300 قرش.
4
كانت أول مدرسة خصوصية شهدت نظام المحررين والمصححين هي مدرسة الطب، غير أن هذا النظام أصبح تقليدا فيما بعد؛ فألحق بكل مدرسة خصوصية مصححون لمراجعة الكتب التي تترجم بها، وحتى مدرسة الألسن فإنها خضعت لهذا النظام؛ وذلك لأن الكثيرين من خريجيها لم يكونوا من أبناء الأزهر، بل جمعوا كما ذكرنا من مكاتب الأقاليم، فكانوا - رغم دراستهم اللغة العربية في مدرسة الألسن على فطاحلها في ذلك العصر - في حاجة إلى من يراجع كتبهم، ويصحح لغتها ويقوم أسلوبها، وسنحاول فيما يلي أن نتحدث عن هؤلاء المصححين وجهودهم. (1) في مدرسة الطب (1-1) الشيخ محمد عمران الهواري
هو أقدم وأول من عين من المصححين بمدرسة الطب، ولا نستطيع أن نحدد بالضبط في أي سنة عين، ولكنه عين قطعا قبل سنة 1248 / 1832 وهي السنة التي طبع فيها أول كتاب طبي ترجم في مدرسة أبي زعبل، وهو كتاب القول الصريح في علم التشريح
5
وترجمه يوحنا عنحوري، وقام على تصحيحه الشيخ الهراوي بالاشتراك مع الشيخ أحمد الرشيدي.
وقد قام الشيخ الهراوي بتصحيح كل الكتب الطبية التي ترجمها المترجمون السوريون: عنحوري وفيدال، وسكاكيني،
6
فلما عاد أعضاء البعثة الطبية الأولى بدأ يراجع ترجماتهم أيضا، فكان أول كتاب راجعه من هذه الكتب هو كتاب «الأربطة الجراحية» الذي ترجمه النبراوي وطبع في بولاق سنة 1254.
وكان كلوت بك قد أنشأ - في السنوات الأولى من تأسيس مدرسة الطب - مدرسة تجهيزية لإعداد الطلاب لمدرسة الطب، وأسماها «مدرسة المارستان»، وقد ظلت هذه المدرسة قائمة حتى أواخر سنة 1251 أو أوائل سنة 1252 / 1836 حيث تعرضت لعوامل الضعف والانحلال، وأهم هذه العوامل عدم توفر المدرسين من الأطباء لتدريس العلوم التمهيدية للطب لتلاميذ تلك المدرسة حتى لم يعد «بها من المدرسين إلا ناظرها الشيخ»
7 - أي الشيخ محمد عمران الهراوي.
وعند وضع لائحة سنة 1836 لتنظيم التعليم رئي الاستغناء عن هذه المدرسة، وكتب «شورى المدارس» إلى كلوت بك يسأله رأيه، فاقترح إلغاء المدرسة، ثم رأى الشورى أن يستطلع رأي ناظر المدرسة الشيخ الهراوي، فكتب الشيخ إليهم أنه «لا يمكن الاستفادة من هذه المدرسة وهي على حالتها الحاضرة، ولكن لو عين لها مدرسون وما تحتاج إليه، ونظمت أسوة بالمدارس الأخرى تصبح مفيدة، أما إذا تركت على ما هي عليه الآن من الفوضى، فلا يمكن أن يتعلم طلبتها شيئا، ونكون قد صرفنا مبالغ طائلة في غير محلها.»
8
ولكن كلوت بك أصر - رغم هذا البيان - على إلغاء المدرسة ؛ لأنه كان يعلم كما يقول الدكتور عزت عبد الكريم أن «إيجاد المدرسين من الصعوبة بمكان، وأن تنظيمها يحتاج إلى مصروفات باهظة».
8
ويبدو أن هذا الموضوع كان مثار خلاف شديد بين الرجلين - كلوت والهراوي - وأن الشيخ اعتد برأيه وأصر عليه، ووصل خبر هذا النزاع إلى محمد علي باشا، وكانت للشيخ لديه سابقة أخلاقية، فأصدر أمره في الحال إلى وكيل الجهادية بأنه «علم من اطلاعه على المضبطة المؤرخة في غرة الجاري (جمادى الآخرة 1251) حصول المعارضة من الشيخ الهراوي في أمور لا تعنيه، وبالنسبة لعلمه بآدابه لم يقابل بشيء من شورى الأطباء، ويشير بأن المذكور ليس ممن يجب احترامهم، بل من الأشرار المحتاجين للإيقاظ وحتى أن تزويره معلوم لديه من قبل، وأن التزامهم السكون، وعدم إدراكهم كيفية المذكور أوجب استغرابه فيلزم بوصول أمره هذا استحضار المذكور، والتنبيه عليه مؤكدا بعدم تداخله في شيء خارج عن وظيفته، وبأنه ينفى ويطرد لو حصل إقدامه ثانيا على ما يوجب التشكي منه».
9
وفي الحادي عشر من نفس الشهر كتب محمد علي أيضا إلى مأمور ديوانه حبيب أفندي يستدعي الشيخ وينبه عليه «بتجنب التدخل في أمور ولوازم مدرسة المارستان وشئون تلاميذها، بل يحصر اهتمامه في تصحيح ترجمة الكتب المحولة إلى عهدته فقط، وإذا لم ينتصح يزجه في غرفة خالية ويشغل خاطره بالعصا».
10
وقد استقر الرأي نهائيا على إلغاء المدرسة، واكتفى الشيخ الهراوي بأن «يحصر اهتمامه في تصحيح ترجمة الكتب المحولة إلى عهدته فقط»، وظل يمارس هذا العمل نحو ست أو سبع سنوات أخرى؛ فقد توفي في أواخر سنة 1257، أو أوائل سنة 1258. يقول الشيخ محمد عمر التونسي في مقدمة الجزء الأول من كتاب «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية» تأليف وترجمة الدكتور «برون» الذي طبع في سنة 1258: «وكان الأمر قد صدر بطبع هذا الكتاب على يد سلفي الفاضل حاوي كمالات الفضائل والفواضل، المرحوم برحمة من يغفر، الشيخ محمد الهراوي، فطبع منه على يده في ظرف سنتين ثمانيا وخمسين ملزمة، ودعاه داعي الحمام فلباه ولما أتمه، فتوليت طبعه من بعده، واقتفيت أثره في قصده، ونحوت نحو إعرابه، وإن لم أكن من أضرابه ...»
وبهذا يكون الشيخ الهراوي قد قضى في مدرسة الطب نحو عشر سنوات ، كان يقوم في خلالها بوظيفة المصحح الأول، وكان يساعده في بعض الأحيان مصححون آخرون هم: (1-2) الشيخ محمد محرم
ويبدو أنه التحق بمدرسة الطب حوالي سنة 1250؛ فقد قام بتصحيح كتاب «إسعاف المرضى من علم منافع الأعضاء» الذي ترجمه الدكتور هيبة، وطبع سنة 1252، وقد اشترك أيضا مع الشيخ الهراوي في تصحيح «نبذ كلوت بك»، التي ترجمها الدكتور النبراوي، وطبعت في سنة 1253. (1-3) الشيخان أحمد حسن الرشيدي، والشيخ غانم الرشيدي
11
من طلاب الأزهر أصلا، ثم ألحقا مصححين بمدرسة الطب في السنوات الأولى من إنشائها وعملا بها تحت إشراف المصحح الأول الشيخ الهراوي، واشتركا معه في تصحيح بعض الكتب الأولى التي ترجمت في المدرسة، وكانا يحضران دروس الطب مع تلاميذ المدرسة، فأظهرا نبوغا وتفوقا؛ ولهذا اختارهما كلوت بك ليكونا عضوين في البعثة الطبية الأولى التي أرسلت إلى فرنسا سنة 1832 / 1248، فلما سافرا قرر مجلس الجهادية في 26 صفر 1248 «انتخاب اثنين مصححين بمعرفة الشيخ الهراوي رئيس مصححي الطب البشري، من المشايخ: عبد الرحمن الصفتي، ومحمد هدهد، ومحمد عياد الطنطاوي، وعبد المنعم الجرجاوي بدلا من كل من الشيخ السيد أحمد الرشيدي، والشيخ السيد حسين غانم من مصلحي الترجمة بالمدرسة المذكورة نظرا لسفرهما إلى أوروبا صحبة كلوت بك».
12
وهؤلاء المرشحون جميعا من خيرة شيوخ الأزهر في ذلك العصر؛ فقد عاون الشيخ محمد هدهد الطنتدائي الشيخ رفاعة في مراجعة الجزء الأول من جغرافية «مالطبرون».
أما الشيخ محمد عياد الطنتدائي (أو الطنطاوي) فكان من أنبغ تلاميذ العطار وممن نهجوا نهجه في تجديد الحركة الفكرية؛ فبدأ بتدريس كتاب الحمامة
13
في الأزهر ولكنه لم يلبث أن اتهم من زملائه بالكفر والإلحاد، وانفض المستمعون عن دروسه، فانصرف عن دروس الأدب إلى غيرها.
وقد كان الطنطاوي كأستاذه كثير الاتصال بعلماء الفرنجة الموجودين في مصر فتتلمذ عليه كثير من المستشرقين من جنسيات مختلفة، أمثال دكتور «برون»، و«فرسنل»، و«ج. فيل
G. Weil » ودكتور «برنر
Dr. Pruner » و «ر. فراهن
R. Frehn »، وكان أشد هؤلاء إعجابا به الدكتور «برون»، فهو إذا ذكره - وكثيرا ما يذكره - لا يقول إلا «شيخنا محمد عياد
Notre Shaykh M. Ayyad ».
14
وقد أشاد تلميذه المستشرق الروسي «فراهن» بذكره عند عودته إلى الروسيا فقررت وزارة الخارجية الروسية دعوته لتدريس اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية «بسانت بطرسبرج»، فسافر إليها في سنة 1840 / 1256 ومعه زوجته وابنه، وظل يشغل منصب الأستاذية في جامعة «بطرسبرج» حتى عاجلته المنية في سنة 1861، فمات ودفن في «ليننجراد»
15
ولا زال قبره موجودا بها، وقد خلف بعد موته مكتبة كبيرة بها كثير من تآليفه بخطه، وهي محفوظة الآن في مكتبة الجامعة بالروسيا.
أما الشيخ عبد المنعم الجرجاوي فقد اختير فيما بعد ليكون مدرسا بمدرسة الألسن.
هؤلاء هم الشيوخ المرشحون ليختار منهم الهراوي مصححين لمدرسة الطب ولكنه لم يختر واحدا منهم، أو لعله اختار وكان الرفض من قبلهم، فإن وثائق العصر، والكتب الطبية المترجمة بعد سنة 1832 لا تشير إلى اشتغال واحد منهم بالتصحيح بالمدرسة، وليس صحيحا ما ذكره مستر «دن»
16
في مقاله عن الطباعة والترجمة من أنهم اشتغلوا جميعا - لفترة ما - مصححين بمدرسة الطب، أما من وقع عليه الاختيار فاثنان غير هؤلاء، هما الشيخ سالم عوض القنياتي، والشيخ محمد عمر التونسي. (1-4) الشيخ سالم عوض القنياتي
من بلدة القنايات بمديرية الشرقية ومن شيوخ الأزهر، وتلاميذ العطار، بدأ عمله في الحكومة المصرية واعظا لأحد الآلايات التي سارت إلى الشام في سنة 1832 / 1248.
17
ولسنا نعرف بالتحديد متى ألحق بمدرسة الطب، ولكنا نعرف أنه التحق والشيخ التونسي بها في وقت متقارب، وأنهما كانا يتعاونان - في أكثر الأوقات - على مراجعة وتصحيح الكتب المترجمة، ويشركان معهما في هذا العمل «الدكتور برون»؛ فقد قام الشيخ التونسي بتصحيح كتاب «روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى» الذي ترجمه الدكتور محمد علي البقلي، وطبع سنة 1259، فلما طبع منه ما ينوف على ثلاثين ملزمة كما يقول الأستاذ القناياتي: «سلمه إلي لكونه مشغولا بغيره من الكتب المحتمة الطبع، وللمدرسة لازمة، فشمرت الذيل في تصحيحه وترتيبه، واستنهضت الرجل والخيل في تنقيحه وتهذيبه، واجتنبت فيه الإسهاب والإطناب، والتزمت فيه جزالة العبارة ليسر أولي الألباب.»
ويقول الشيخ القنياتي بعد ذلك في نفس المقدمة: «ولطالما كنا (أي هو والتونسي) نقابله على أصله بحضرة وملاحظة من بلغ ذروة تلك العلوم، وعلى أقصى درجة في منطوقها والمفهوم، الماهر اللبيب، اللوذعي الأديب الحكيم الكيماوي، حائز فرائض تلك الفنون، ناظر مدرسة الطب البشري الشهير بيرون، ولكونه يحسن اللغتين الفرنساوية والعربية، وله بهذا الفن خبرة وحسن روية صار يقتنص إلى هذا الكتاب كل عويصة شاردة، ويرد إليه كل فريدة دقيقة الفهم نادرة آبدة.»
كذلك اشترك الشيخان في تصحيح كتاب «التنقيح الوحيد في التشريح الخاص الجديد» الذي ترجمه الدكتور محمد الشباسي، وتم طبعه في بولاق سنة 1266، وهو كتاب ضخم من ثلاثة أجزاء كبار، يقول الشيخ التونسي في مقدمته: «ولما تم ترجمة وإتقانا، وتهذيبا وإحسانا، وكل أمر تصحيحه إلى حضرة المصحح الأول، من كان عليه في مساعدتي المعول، الأخ المواتي، الشيخ سالم عوض القنياتي، فصحح منه الجزء الأول، وعاقه الرمد عن الثاني، فشرعت في تصحيح ما بقي منه بدون تواني.»
ويبدو أن مقام الشيخين كان واحدا؛ فقد كان لهما الصدارة بين بقية المصححين، ولكن وثائق العصر تلقب الشيخ سالما «بالمصحح الأول» بينما تلقب التونسي «بالباشمصحح». (1-5) الشيخ محمد عمر التونسي
هو نابغة المصححين والمحررين، وزعيمهم جميعا في ذلك العصر، وقد أهلته لهذا المنصب ثقافة واسعة جناها من الكتب أولا، ومن رحلاته العديدة ثانيا.
وحياة هذا الرجل عجيبة من عجائب ذلك العصر، فهو تونسي أصلا ومولدا، وإن كانت أمه مصرية وقد عشقت أسرته الرحلة، فعاش هو وأبوه وجده في مصر وبلاد العرب والسودان أكثر مما عاشوا في وطنهم الأصلي تونس.
ولد الشيخ محمد عمر في 27 يوليو 1789/منتصف ذي القعدة 1204، ثم نشأ نشأته الأولى في مصر وكان أبوه قد رحل إلى السودان باحثا عن أبيه، فأعجبته الحياة هناك فاستقر بتلك البلاد، ونال الحظوة الكبرى عند سلطان دارفور عبد الرحمن بن أحمد (توفي 1214 / 1799)، ولما ضاقت سبل الرزق في وجه محمد رحل هو أيضا إلى دارفور باحثا عن أبيه ، وقد أقام هناك مدة طاف في خلالها بأرجاء دارفور وواداي، ثم عاد إلى مصر في الوقت الذي كانت تتأهب فيه حملة المورة بالمسير فعين واعظا للآلاي الثامن من آلايات تلك الحملة.
وفي سنة 1832 (وهي السنة التي سافر فيها الرشيديان إلى باريس) عاد إلى مصر مع الحملة فاختير مصححا بمدرسة الطب، وهناك تعرف على الدكتور «برون» وأعجب كل منهما بالآخر، وتتلمذ برون على التونسي، وقرأ عليه كتاب كليلة ودمنة وكتبا أخرى، وتعاونا معا على مراجعة الكتب الطبية العربية لاختيار المصطلحات التي تيسر لهم ترجمة الكتب الفرنسية، وفي جلساتهما الخاصة تحدث التونسي إلى صاحبه عن مشاهداته في بلاد السودان، فأوعز إليه أن يسجلها في كتاب خاص. يقول التونسي: «فذكرت له بعض ما عانيته في أسفاري من العجائب فحملني على أن أزين وجه الدفتر بإيضاح ما شاهدته، فامتثلت أمره لما له علي من اليد البيضاء.»
18
وأذعن الشيخ فعلا لمشورة صديقه، فزين وجه الدفتر بكتابين قيمين سجل فيهما مشاهداته في دارفور وواداي، وسمى الكتاب الأول «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان»، وضمنه رحلته إلى دارفور، وسمى الكتاب الثاني «الرحلة إلى واداي»، وقد قام الدكتور «برون» بنشر النص العربي للرحلة الأولى في باريس سنة 1850، ثم ترجمها إلى الفرنسية ونشر الترجمة في باريس سنة 1855 تحت عنوان
Voyage au Darfour ، أما النص العربي لرحلة واداي فلم ينشر، وإنما نشرت ترجمته الفرنسية التي قام بها «برون» في باريس سنة 1851 تحت عنوان:
Voyage au Ouaday
والكتابان من أحسن المراجع التي وصفت السودان في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وقد قام التونسي في مدرسة الطب بتصحيح الكتب الآتية: (1)
الدر اللامع في النبات وما فيه من الخواص والمنافع، تأليف الدكتور «فيجري بك»، وترجمه السيد حسين غانم الرشيدي، وطبع في بولاق سنة 1257. (2)
واشترك مع الشيخ القنياتي في تصحيح كتاب «روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى» الذي ترجمه محمد علي البقلي، وطبع في سنة 1259. (3)
واشترك مع الدكتور «برون» في مراجعة وتصحيح كتاب «كنوز الصحة ويواقيت المنحة» الذي ترجمه الدكتور محمد الشافعي، وطبع في سنة 1260. (4)
وقام على تصحيح كتاب «الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال» تأليف كلوت بك وترجمة الدكتور محمد الشافعي، وطبع في سنة 1250. (5)
واشترك مع الدكتور «برون» في ترجمة وتصحيح كتاب الأخير «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية» الذي طبع في سنة 1258-1260. (6)
واشترك مع الشيخ القنياتي في تصحيح كتاب «التنقيح الوحيد في التشريح الخاص الجديد» تأليف «كرولييه»، وترجمة الدكتور محمد الشباسي، وتم طبعه في سنة 1266.
وللتونسي فوق هذا جهود مشكورة في السعي لطبع قاموس المحيط، وترجمة قاموس
Fabre
الطبي مما سنفصل الحديث عنه في الفصل الخاص بالقواميس.
وقد شارك التونسي أيضا في حركة نشر الكتب العربية، فأشرف على نشر مقامات الحريري، والمستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي.
وفي السنوات الأخيرة من حياته كان يدرس الحديث بمسجد السيدة زينب في يوم الجمعة من كل أسبوع إلى أن توفي في القاهرة في سنة 1274 / 1857. (1-6) الشيخان رفاعة الطهطاوي وإبراهيم الدسوقي
عملا فترة كمصححين بمدرسة الطب، ثم نقل رفاعة إلى مدرسة المدفعية، ونقل الدسوقي إلى مدرسة الهندسة. (2) في مدرسة الطب البيطري (2-1) الشيخ مصطفى حسن كساب
ألحق مصححا بمدرسة الطب البيطري منذ إنشائها في رشيد، وقد قام بتصحيح جميع كتب الطب البيطري التي ترجمها يوسف فرعون، ثم محمد عبد الفتاح، وعطية أفندي من بعده، فكان أول كتاب قام على تصحيحه كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح» تأليف «جيرار» وترجمة يوسف فرعون، وطبع في بولاق سنة 1249 / 1834، وآخر كتاب راجعه هو كتاب «مجمع الغرر في سياسة البقر»، تأليف «روبينييه»، وترجمة عطية أفندي أحد خريجي الألسن، وطبع في بولاق سنة 1264. (2-2) الشيخ عبد المنعم
وقد ذكر الدكتور عزت عبد الكريم أنه كان بالمدرسة مصحح آخر يدعى الشيخ عبد المنعم،
19
وقد نقل فيما بعد «باشخوجة» بمدرسة المبتديان، غير أنني لم أعثر بين كتب الطب البيطري المترجمة على كتاب واحد صححه هذا الشيخ. (3) في مدرسة الزراعة (3-1) الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني
كان المصحح الوحيد بمدرسة الزراعة، ولم أعثر إلا على كتاب واحد قام على تصحيحه الهوريني وهو كتاب «أجل الأسباب في أجل الاكتساب»، وقد أثبت في نهايته أنه انتهى من كتابته سنة 1259. وفي نهاية تلك السنة نقل الشيخ مصححا بقلم الترجمة الملحق بمدرسة الألسن، وفي سنة 1260 / 1844 اختاره محمد علي باشا بنفسه ليكون إماما لبعثة الأنجال التي أرسلت في تلك السنة إلى فرنسا، ولما عاد إلى مصر اشتغل بالتدريس في الأزهر، ثم نقل مصححا بمطبعة بولاق، وهناك أشرف على طبع كثير من كتب اللغة، وله عليها حواش وتعليقات قيمة، وخاصة القاموس للفيروزآبادي، والصحاح للجوهري، والمزهر للسيوطي، وغيرها كثير، وله مؤلفات
20
كثيرة طبع منها كتاب «المطالع النصرية للمطابع المصرية»، ويقول الأمير عمر طوسون في كتابه عن البعثات: «ومع أنه لم يرسل إلى فرنسا للتعلم إلا أنه تعلم اللغة الفرنسية هناك، وكان يتكلم بها ويقرؤها جيدا، كما أخبرنا بذلك حفيده عباس أفندي نصر.»
21
وقد ظل الشيخ على نشاطه إلى أن توفي في سنة 1874. (4) في مدرسة الهندسة (4-1) الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقي
كان المصحح الوحيد بمدرسة المهندسخانة، ولد في دسوق سنة 1226، ثم أتم علومه في الأزهر، وفي سنة 1248 عين مصححا بمدرسة الطب، ولكنه لم يلبث بها إلا قليلا ثم نقل إلى مدرسة المهندسخانة، وقد قام بتصحيح جميع الكتب الرياضية التي ترجمت بها في عهدي محمد علي وعباس، فلما ألغيت المدرسة في عهد سعيد باشا نقل مصححا بمطبعة بولاق، وقد شارك في أوقات مختلفة في تحرير «الوقائع المصرية» ومجلة «اليعسوب» الطبية.
وفي عهد إسماعيل رقي إلى رئيس مصححي مطبعة بولاق، وقد اتصل الدسوقي اتصالا وثيقا بالمستشرق الإنجليزي «المستر لين»
22
واشتركا معا في قراءة «القاموس» وتفهمه، فإذا افترقا ترجم «لين» ما قرأه إلى اللغة الإنجليزية، وظل على ذلك سنوات حتى أتم تسعة أعشاره، ثم سافر إلى لندن حيث أعد العشر الأخير، وطبع القاموس لأول مرة في لندن سنة 1863 تحت عنوان
Lane’s Arabic English Lexicon
وقد عاش الدسوقي نحو أربع وسبعين سنة، وتوفي في سنة 1300. (5) في مدرسة الألسن
كان رفاعة يشرف بنفسه على مراجعة وتصحيح الكتب التي تترجم في المدرسة أول إنشائها، فلما كثر إنتاجهم، أشرك رفاعة معه في هذا العمل بعض مدرسي الألسن، وخاصة المشايخ محمد قطة العدوي، وأحمد عبد الرحيم الطهطاوي ، ومحمد الفرغلي، وقد أشرنا إلى الكتب التي صححها كل منهم في قائمة الكتب المترجمة الملحقة بهذه الرسالة.
هؤلاء هم المصححون والمحررون، وهذه لمحة عن جهودهم تبين في وضوح أنهم أفادوا حركة الترجمة والنهضة العلمية الحديثة فوائد جمة، فخرجت الكتب المترجمة سليمة من اللكنة والعجمى، خالية بقدر الإمكان من الأخطاء، وقد حاول الكثيرون منهم قدر استطاعتهم التوفيق بين المصطلحات العلمية الحديثة والمصطلحات العلمية القديمة، وجمعوا لكتبهم مجموعة كبيرة منها تصلح لأن يتخذها المجمع اللغوي أساسا طيبا لجهوده في هذا الميدان.
وفي نفس الوقت أفاد بعض هؤلاء المحررين - وخاصة الشيخ التونسي - الكثير من اشتغاله بهذه الحركة، ففهموا بعض ما جاء في الكتب العلمية المترجمة، وكسبوا لأنفسهم معارف جديدة واسعة، وأضافوا إلى ثروتهم اللغوية ثروة جديدة لكثرة ما قلبوا الكتب باحثين ومنقبين، ولكثرة ما نحتوا واشتقوا واقتبسوا من ألفاظ ومصطلحات جديدة؛ ولهذا كانوا يحاولون دائما - فيما يكتبون من مقدمات - أن يعلنوا عن هذه المعرفة الجديدة التي كسبوا، وفيما يلي مثال لهذا الإعلان تخيرناه مما كتبه التونسي - زعيم هذا الميدان - في مقدمته لكتاب «الجواهر المسنية في الأعمال الكيمياوية» للدكتور «برون»، وقد شحن التونسي هذه المقدمة بمعظم المصطلحات الكيميائية التي وردت في متن الكتاب، قال: «... يا من تتصاعد إليه الأرواح وتتسامى، وتذوب الأجسام من هيبة جلاله وعلى باب عفوه تترامى، تنزهت ذاتك العلية عن التركيب والتحليل، وتقدست صفاتك السنية عن التغيير والتبديل، لا إله إلا أنت، خلقت لنا ما في الأرض من المعادن والنباتات والحيوانات، وأوجدت لنا الحلو والحامض، والعذب والملح من المطعومات، وألهمتنا معرفة العناصر والبسائط والمركبات، فسبحانك من إله تفطرت دموع الخائفين من سطوة عذابه، والتهبت أحشاء المذنبين من أليم عقابه، ووجلت قلوب المحبين من خشية عتابه، فيا من حمده أعظم كيمياء لإكسير الثواب، وشكره أجود موصل إلى دار المآب، نحمدك على نعمك التي علينا عمت وجلت، حمدا تخلص به مهجنا وأجسامنا من حرارة النار التي أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، ونشكرك شكر من ألنت له الحديد لعمل السابغات، وأرسلت لولده عين القطر، وسخرت له الجن يعملون ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب (؟) وقدور راسيات، ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادة تنقذنا بها من كل عمل مشكور، كما أنقذت من أنزلت عليه
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبدك ورسولك، الذي مثلت قلبه الشريف بزجاجة فيها مصباح، وجذبت بمغناطيس أنواره الأرواح، فانقادت له الأشباح، وهديتنا به من المعوج إلى السمحا البيضا، وأفضت عليه من العلوم اللدنية فيضا، وجعلت ذاته الشريفة قابلة لزيادة الكمال بلا ارتياب، وأنزلت عليه
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ، اللهم فصل عليه وعلى آله مصابيح الدين، وأصحابه الذين كانوا كشواظ من نار ونحاس على الكافرين، ما رشحت أنابيق الغمام فنزلت دموعها قطرات، وسال تيار المياه على الوهاد فأصبحت الأرض مخضرة بأصناف النبات، ولمعت قطع البرد على البسيطة كالبللورات المنشورية والمربعات، وتولدت الحوامض والأكاسيد والأملاح من المعادن والنباتات والحيوانات، وسلم تسليما كثيرا، وبعد: فيقول مرتجي العفو من المنان، محمد التونسي بن عمر بن سليمان: لما كانت الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها، وأبرك يوم عنده ما أحرز فيه مسألة واستفادها وأفادها، وكان من أجلها علم الكيمياء الذي لم يسمح بمثله الزمان؛ إذ هو أساس لعلم الشفاء ومعالجة الأبدان، فهو له كالأم وعلم الطبيعة كأبيه، ولا ينكر ذلك إلا كل جاهل سفيه، لم لا؟ وبه يعرف تحليل الأجسام وتركيبها، وتقطير الأملاح وتبلورها وتذويبها وتأكسد المعادن واستحضار الغازات، وتجهيز الحوامض والأملاح ومنافع الفلزات، وتتميز السموم عن غيرها من الاستحضارات، ولا تتم مهارة الطبيب إلا به، ويدرك خطأ من صوابه كان الواجب على العاقل أن يتلقاه ولو من غير أهل الإسلام ... إلخ ... إلخ.»
الفصل الخامس
القواميس والمعاجم
لم يكن في مصر قبل الحملة الفرنسية عارفون باللغات الغربية أو قواميس لها، علماء الحملة يحضرون معهم بعض القواميس، أليوس بقطر يضع أول قاموس فرنسي عربي، الجماعات والمجلات الآسيوية وجهودها ، قاموس الأب رفاييل، مطبعة بولاق تطبع بعض قواميس اللغات الثلاث، إبراهيم باشا يشير على رفاعة بوضع قاموس فرنسي عربي، طريقة رفاعة في إلحاق بعض المعاجم لكتبه التي ترجمها، قاموس سريوس أفندي، تلاميذ رفاعة يقتدون به، جهود خريجي الألسن لوضع القواميس، مترجمو المهندسخانة ينهجون نهج رفاعة، جهود مدرسة الطب لترجمة القواميس الطبية الفرنسية، قاموس الشذور الذهبية، قاموس مستر «لين». ***
ذكرنا من قبل أن الصلات العلمية بين مصر والغرب كانت مقطوعة مبتوتة طول العهد المملوكي العثماني، فلم يكن في مصر معهد واحد تدرس فيه أية لغة من اللغات الأوروبية، ولم يكن في مصر من له معرفة بإحدى هذه اللغات، أو يتحدث بها، غير أفراد الجاليات الأوروبية، وقد كانوا يعيشون في عزلة وفي أحياء خاصة بهم حيث تقوم متاجرهم ومساكنهم.
وقد كانت الحكومة منذ عصر المماليك حتى مجيء الحملة الفرنسية تحتفظ دائما بوظيفة تقليدية هي وظيفة «الترجمان»، وكانت «خدمته الوقوف في كل ديوان لأجل تعريف الكلام بكل لسان»،
1
وقد ظل هذا التقليد معمولا به حتى أوائل عصر محمد علي، فتولى هذا المنصب بوغوص بك، ثم لقب فيما بعد بناظر الخارجية، وتولى إدارة ديوان التجارة والأمور الخارجية، أو بمصطلح العصر التركي «أمور إفرنجية وتجارة مصرية ديواني».
2
فلما وفدت الحملة الفرنسية على مصر عانت ما عانت من مشكلة الترجمة،
3
واستعانت على حلها بطائفة من السوريين، وببعض من حضروا معها من المستشرقين، وقد كانت ترجمة هؤلاء اجتهادية غير دقيقة؛ فقد كانت تنقصهم القواميس التي تجمع بين مفردات اللغتين الفرنسية والعربية، وقد ذكر الجبرتي أنه رأى في مكتبة المعهد العلمي عند زيارته لها كتبا «مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها، واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت».
4
ولكن هذا النص عام لم يفصل أنواع اللغات التي كانت تتناولها هذه القواميس، وهل كان من بينها ما يجمع بين اللغة العربية وأي لغة أوروبية أخرى؟
كذلك ذكر الأب لويس شيخو خطأ أن مطبعة الحملة طبعت - فيما طبعت في مصر - معجما فرنسيا عربيا .
5
وبدأت الحملة قبيل رحيلها تعد بعض الشبان الأقباط لتعلم اللغة الفرنسية، فلما عادت الحملة إلى فرنسا خرج معها بعض هؤلاء الشبان، وقد نبغ منهم بعد سنوات أليوس بقطر الذي وضع في فرنسا أول قاموس فرنسي عربي، وأشرف على طبعه في باريس سنة 1829 بعد وفاته المستشرق كوسان دي برسيفال، وكانت حركة الاستعمار في أوروبا في ذلك الوقت نشيطة، والتنافس بين الدول الأوروبية على أتمه، وصحب هذا التنافس تنافس آخر لدراسة أحوال الشرق - مطمح الأنظار - ولغاته، وتاريخه، وجغرافيته، وعاداته، وأنشئت في دول أوروبا المختلفة الجماعات والمجلات الآسيوية، ومدارس اللغات الشرقية، وأنتجت هذه الحركة نتاجا وافرا من دراسات قيمة، كان من بينها قواميس كثيرة تجمع بين اللغات الشرقية الثلاث - العربية والفارسية والتركية - وبين اللغات الأوروبية المختلفة.
فلما بدأت حركة الترجمة في عصر محمد علي حوالي سنة 1820، وكانت متجهة في أول الأمر إلى النقل عن اللغة الإيطالية ظهرت الحاجة إلى قاموس يجمع بين مفردات اللغتين العربية والإيطالية، وكلف بوضعه الأب روفائيل زاخور راهبة، فلما أنشئت المطبعة في أواخر سنة 1821، كان ثاني أو ثالث كتاب طبع بها هو قاموس إيطالياني وعربي «يتضمن بالاختصار كل الألفاظ الجاري بها العادة، والألزم لتعليم الكلام، ولمفهومية (كذا) اللغتين على الصحيح، وقد يقسم إلى قسمين: القسم الأول في القاموس المرتب على حسب المعتاد، وبموجب ترتيب حروف الهجا، القسم الثاني: ويتضمن مجموع مختصر من أسماء وأفعال من الأشد إلزام وأكثر فايدة لدرس اللغتين».
6
وقد وضح المؤلف الأغراض التي دفعته إلى وضع هذا القاموس في مقدمته فقال: «... فقد اضطررت من قبل وظيفة التعليم، وسهولة درك معنى الألفاظ بهذه اللغة والتفهيم على التلامذة الدارسين، وعلى من ينتدب لترجمة الكتب من المتفقهين؛ لأني (كذا) أؤلف قاموسا ترجمانا وجيزا، مقتطفا عزيزا، يشتمل على كل ما يحتاج الأمر إليه، وما كان المعول عليه، وذلك في اللغتين الإيطاليانية والعربية مما في الترجمة من الألفاظ الضرورية ...»
7
وقد طبع هذا القاموس في بولاق سنة 1238 / 1821.
وقد كانت الترجمة في عصر محمد علي واسعة الآفاق، فشملت النقل عن كل اللغات - شرقية وغربية - ولهذا لم تلبث مطبعة بولاق أن أخرجت بعد خمس سنوات (1242 / 1826) قاموسا فارسيا تركيا من وضع خيرت أفندي
8
سكرتير ديوان محمد علي (ديوان أفنديسي)، ثم قامت المطبعة على إخراج عدد من القواميس التركية والفارسية والعربية،
9
وكلها فيما عدا «تحفه خيرت» مما سبق وضعها وطبعها في الآستانة.
ففي سنة 1245 / 1830 طبع في بولاق «تحفه وهبي»، وهو قاموس فارسي تركي سبق أن طبع في الآستانة سنة 1213 / 1798.
وبعد سنة واحدة (1246 / 1831) طبع موجز عن القاموس السابق بعنوان «نخبه وهبي» وأضيفت إليه الألفاظ العربية فأصبح قاموسا تركيا عربيا.
وفي سنة 1249 / 1834 طبع قاموس فارسي تركي صغير عنوانه «سبحه صبيان» وكان قد طبع في الآستانة سنة 1217 / 1802.
وفي سنة 1250 / 1835 طبعت الترجمة التركية مع المتن العربي لقاموس الفيروزآبادي تحت عنوان «الأقيانوس البسيط في ترجمة القاموس المحيط»، وكان قد ترجم وطبع في الآستانة سنة 1814-1817.
وفي سنة 1251 / 1836 طبع «برهاني قاطعي» وهو قاموس فارسي تركي، وضع المتن الفارسي ابن خلف، وترجمه إلى التركية أحمد أمين أفندي، وكان قد طبع في الآستانة سنة 1214 / 1799.
وفي سنة 1253 / 1838 طبع «الترجمان» وهو مجلد صغير به مفردات عربية وتركية.
وفي سنة 1255، طبع «تحفه خيرت» وهو قاموس تركي عربي فارسي صغير تأليف خيرت أفندي وضع لاستعمال تلاميذ المدارس.
هذه هي قواميس «اللغات الثلاث» كما كانت تسمى، وقد أدت مهمتها، فسهلت للقائمين بالترجمة عن إحدى هذه اللغات إلى الأخرى عملهم.
وحوالي سنة 1825 تحول محمد علي بوجهه عن إيطاليا إلى فرنسا، فاستدعى إلى مصر الفرنسيين، وفي سنة 1827 أنشئت مدرسة الطب المصرية، وبدأت تتغلب على مشكلة اختلاف اللغات بالمترجمين وبترجمة الكتب الفرنسية إلى العربية، وفي سنة 1826 أرسلت أكبر بعثة إلى فرنسا، وفي سنة 1832 عاد معظم أعضاء هذه البعثة وبدءوا يشاركون في حركة الترجمة عن الفرنسية إلى العربية، وهنا ظهرت الحاجة الماسة إلى قاموس بل قواميس علمية مختلفة للغتين.
أحس هذه الحاجة قبل غيره كبير مترجمي العصر رفاعة رافع الطهطاوي، وأحسها وهو في فرنسا يتخصص في الترجمة، ويترجم في مختلف الفنون والعلوم، وأغلب ظني أنه لم يوفق هناك إلا إلى قاموس بقطر؛ فقد ظهرت طبعته الأولى في باريس بعد وصوله بثلاث سنوات، وقبل عودته إلى مصر بسنتين، فلما عاد إلى وطنه وبدأ يراجع بعض الكتب التي ترجمها في باريس ويعدها للطبع أحس هذا النقص مرة ثانية، وأحس به إحساسا قويا، وعبر عن شعوره هذا في أول كتاب طبع له وهو كتاب المعادن النافعة، الذي طبع في بولاق بعيد عودته في سنة 1248؛ فقد قال في مقدمته: «وقد فسرت مفرداته على حسب ما ظهر لي بالفحص التام وما تعاصى منها حفظت لفظه، ورسمته كما يمكن كتابته به، وربما أدخلت بعض تفسيرات لطيفة. والعذر لي إذا زل قدم ترجمتي في بعض التفاسير؛ لأن اللغة الفرنساوية لم يفض ختامها إلى الآن بقاموس شاف مترجم.»
10
ويبدو أن رفاعة كان قد عبر عن شعوره هذا لإبراهيم باشا عند مقابلته له أول وصوله إلى الإسكندرية، فبادر إبراهيم باشا وكلفه بوضع هذا القاموس؛ فقد أشار رفاعة في هامش الكتاب السالف أمام الجملة السابقة إلى هذا الأمر، فقال: «وقد أمرني سعادة ولي النعم أفندينا إبراهيم باشا بترجمة قاموس، وعين لي حضرة عثمان بك (يقصد عثمان باشا نور الدين) قاموس أكاديمة، ولكن عاقني عنه عوايق، منها أشغال أبي زعبل، ومنها أنه يحتاج إلى وضع المترجم في كتب خانة، ويحتاج أيضا إلى أن يكون معي مساعد فرنساوي، بل هذا الشغل هو شغل نحو عشرة أنفار حتى يكون مستوفيا ومستوعبا للألفاظ الاصطلاحية.»
11
أمام هذه العقبات لم تنفذ الفكرة، ولكنها ظلت تشغل تفكير رفاعة، فلما قدم كتابه الثاني «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» إلى المطبعة في السنة التالية (1249) بدأ يحتال على تنفيذ الفكرة، ورأى أن يضع للكتاب في أوله قاموسا صغيرا لشرح ما ورد به من ألفاظ غريبة، ودعا غيره من المترجمين أن ينهجوا نهجه، فيلحق كل منهم بكل كتاب يترجمه قاموسا شبيها بقاموسه، حتى إذا مضى بعض الوقت كان لمصر من جهودهم قاموس علمي كبير «مشتمل على سائر غريب الألفاظ المستحدثة التي ليس لها مرادف أو مقابل في لغة العرب أو الترك»، وهذا نص تقدمته للقاموس وشرحه للفكرة، قال: «شرح الكلمات الغريبة التي توجد في كتاب قلائد المفاخر، مرتبة على حروف المعجم، مضبوطة حسب الإمكان، ومفسرة على الوجه الأتم، سواء كانت أسماء بلدان أو أشخاص، أو أشياء، ولما كانت هذه الألفاظ في الأغلب أعجمية، فلم ترتب إلى الآن في كتب اللغة العربية، وكان يتوقف فهم هذا الكتاب عليها عربناها بأسهل ما يمكن التلفظ به فيها على وجه التقريب، حتى إنه يمكن أن تصير على مر الأيام دخيلة في لغتنا، كغيرها من الألفاظ المعربة عن الفارسية واليونانية، ولو صنع المترجمون نظير ذلك في كل كتاب ترجم في دولة أفندينا ولي النعم الأكرم، لانتهى الأمر بالتقاط سائر الألفاظ المرتبة على حروف الهجا، ونظمها في قاموس مشتمل على سائر الألفاظ المستحدثة التي ليس لها مرادف أو مقابل في لغة العرب أو الترك؛ فإن هذا مما يفيد التسهيل على الطلاب، وبه تحصل الإعانة على فهم كل علم أو كتاب.»
12
وقد كانت طريقة رفاعة في هذا القاموس أن يكتب اللفظ بحروف عربية مراعيا طريقة نطقه باللغة الفرنسية، ثم ينص على كيفية نطق هذا اللفظ بالطريقة الأزهرية القديمة، ثم يشرح معنى اللفظ بجملة أو جمل تكثر أو تقل حسب الظروف. وفيما يلي أمثلة من هذا القاموس: (1) «أبريزيلة = بسكون الموحدة، وكسر الراء بعدها مثناة تحتية، فزاي مكسورة، فلام، فتاء تأنيث، ويقال أيضا «أبرزيلة» و«أبرزيل» بفتح الراء = اسم لسلطنة كبيرة في القطر الشرقي من أمريكة الجنوبية، محكومة بعيلة (كذا) من بلاد «البرتوغال»، وحاكمها يلقب «إمبراطور» يعني سلطانا، أو قيصرا، وأهلها المتأصلون بها غير الإفرنج أكثرهم قبائل أرباب شرور وجبر وتوحش عظيم، حتى إن منهم من يأكل لحم الآدميين، خصوصا لحم العدو الذي يقبضون عليه في الحرب».
13 (2) «إسقيمو = بكسر الهمزة، وسكون السين، بعدها قاف مكسورة، فياء ساكنة، فميم مضمومة بعدها واو، وربما زيد فيها شين معجمة ثقيلة «إسقيموش» = قبائل بشمال أمريكا همل مثل أهل «لابونيا» والسويد، ولهم توحش عظيم.»
14 (3) «أوبرا، أوبرة = بضم الهمزة، وكسر الباء الفارسية التي تقرأ بين الفاء والباء، فراء مفتوحة، هي أعلى سبكتاكلات، فرنسا (راجع سبكيتاكل)، وتطلق على نوع مخصوص من الأشعار
15 ... إلخ.»
وفي نفس الوقت الذي كان يفكر فيه رفاعة في وضع قاموس، ثم يحتال على وضعه هذا الاحتيال، كان موظف آخر اسمه «سريوس أفندي» قد تقدم إلى محمد علي بقاموس شامل للغات الخمس (ولعله يقصد اللغات الثلاث الشرقية واللغتين الأوروبيتين الشائعتي الاستعمال الفرنسية والإيطالية)، ووافق محمد علي على طبعه؛ فقد قرر مجلس الجهادية في 25 رجب سنة 1247 / 1832 «بناء على التماس سريوس أفندي المترجم طبع الكتاب المشتمل على اصطلاحات اللغات الخمس السابق صدور أمر سعادة أفندينا ولي النعم بطبعه بعد ترجمته وإصلاحه، بشرط أن يقوم المترجم بمباشرة طبعه، وأن يذهب بذاته لمراجعة تصحيحه بالمطبعة، ويكون بمعيته رجل خبير باللغات الثلاث».
16
وقد رجعت إلى جميع القوائم التي أحصت الكتب المطبوعة في بولاق في عصر محمد علي فلم أجد بها إشارة إلى هذا القاموس، كذلك راجعت فهارس دور الكتب التي أفدت منها فلم أجد له فيها ذكرا، فعله لم يطبع.
أما رفاعة فلم ينس مشروعه، بل حافظ على تنفيذه في معظم الكتب التي ترجمها وطبعت بعد ذلك؛ ففي سنة 1249 طبع كتاب «مبادئ الهندسة»، وفي أوله «معجم يتضمن بيان بعض كلمات هندسية، وتفسير ألفاظ اصطلاحية، ينتفع به الطلاب، وتكمل به فائدة الكتاب».
وفي سنة 1250 طبع كتاب «التعريبات الشافية لمريد الجغرافيا»، وفي نهايته «جدول الألفاظ الاصطلاحية المستعملة في الجغرافيا بأنواعها، مرتبا على حروف المعجم لتسهيل هذا الفن على الطالب».
فلما أنشئت مدرسة الألسن، وبدأ تلاميذها وخريجوها يترجمون، أخذهم أستاذهم رفاعة بطريقته، فظهرت معظم كتبهم وفي آخرها ملاحق مرتبة ترتيبا أبجديا لشرح الأعلام والألفاظ الاصطلاحية الواردة في تلك الكتب؛ فهذا خليفة أفندي محمود قد ألحق بكتابه «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوروبا» جدولا «لشرح الكلمات الغريبة» في 47 صفحة.
وهذا حسن أفندي قاسم قد خصص 21 صفحة من كتابه «تاريخ ملوك فرنسا» لذكر «معجم البلدان والأماكن الخفية في هذا الكتاب التي تحتاج للذكر، وأما الأماكن الشهيرة فتطلب من كتب الجغرافيا»، وقد قلد فيه أستاذه رفاعة تقليدا صادقا، وهذه أمثلة من معجمه: (1) «إكسيلاشبيل» بكسر الهمزة، وسكون الكاف، وفتح الشين المعجمة = مدينة ببلاد الألمان في دوقية «باسرين».
17 (2) «كسل»، بفتح الكاف، وتشديد السين المهملة = مدينة في فرانسا بفنلدرة بمديرية الشمال.
17 (3) «لنبرديا» بضم اللام، وسكون النون، وكسر الموحدة التحتية، وسكون الراء وكسر الدال المهملة = اسم لجميع أجزاء إيطاليا من ابتداء ثغور طوسكانة إلى نهاية السويسة (يقصد سويسرا).
17
وقد بدأ قاسم أفندي يجدد في الطريقة، فقصر المعجم السابق على أسماء البلدان، ثم ألحقه بمعجم آخر لأسماء الأعلام، أو «معجم الرجال الموجودين في هذا الكتاب» على حد تعبيره.
غير أننا نأخذ على هذه المعاجم أو القواميس الصغيرة كلها أنها أهملت ذكر الألفاظ والمصطلحات بالحروف اللاتينية إلى جانب الحروف العربية، ولو أن المترجمين فعلوا هذا لأعفوا أنفسهم من الإطالة في ذكر طريقة النطق بالأسلوب القديم.
وقد كان لتلاميذ الألسن وخريجيها جهود في حركة وضع القواميس، فصنف خليفة أفندي في سنة 1264 قاموسا للغات الثلاث: العربية والتركية والفارسية، ونشرت الوقائع المصرية في العدد 122 بتاريخ 9 شعبان 1264 «أن اليوزباشي محمود خليفة أفندي المتخرج من مدرسة الألسن بالأزبكية قد ألف رسالة تشتمل على مفردات اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية، فصدر الأمر بطبع ما يلزم منها على نفقة الميري، وإعطاء الأفندي المومى إليه ربحها ليحصل بذلك على السرور، وينال الحظ الموفور».
وذكر صالح مجدي في ختام رسالته عن رفاعة «حلية الزمن» ثبتا بأسماء تلاميذه؛ فقال إن من بينهم «مصطفى بك السراج، وقد شرع في عمل قاموس فرنسي عربي لم يتمه».
وقد امتد أثر رفاعة وتلاميذه في هذا الميدان إلى المدارس الأخرى؛ ففي مدرسة المهندسخانة اتبع بعض أساتذتها الطريقة السابقة، فألحق أحمد أفندي فايد مثلا بكتابه «الأقوال المرضية في علم بنية الكرة الأرضية» نبذة في 38 صفحة «تشتمل على بيان ألفاظ هذا الفن الاصطلاحية»، ولما خرجت الألسن دفعاتها الأولى عين منها اثنان؛ هما أبو السعود وصالح مجدي في مدرسة المهندسخانة، وعهد إليهما بتدريس اللغة الفرنسية وترجمة ما يلقى من دروس «ووضع قاموس أزمعت المدرسة وضعه في العلوم الرياضية».
18
أما مدارس الطب، فقد قام بالترجمة فيها أول إنشائها طائفة السوريين، وقد بذلوا في عملهم جهدا اجتهاديا، فلما عاد أعضاء البعثات من الأطباء المصريين ، وبدءوا يشاركون في حركة الترجمة، كانت مهمتهم أسهل من مهمة أسلافهم السوريين؛ وذلك لأنهم كانوا - إلى إتقانهم اللغتين العربية والفرنسية - على علم بالعلوم الطبية ومصطلحاتها.
ولكنهم مع هذا كانوا في حاجة إلى قاموس طبي، ولم يتبع طريقة رفاعة في مدرسة الطب إلا الدكتور «برون» في كتابه «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية»؛ فقد ألحقه بذيل في 119 صفحة «لشرح الآلات الواردة في الكتاب»، ورتب هذا الذيل على حروف المعجم الشيخ التونسي مصحح الكتاب، وقدم له بقوله: «وبعد، فلما من الله سبحانه وتعالى بإتمام كتاب الكيميا للماهر في جميع الفنون، ناظر مدرسة الطب البشري الشهير «برون»، وكانت فيه أعمال جمة، تحتاج إلى آلات معرفتها مهمة، وكان لم يذكر في الكتاب منها إلا القليل، فقصد أن يجمع جميع الأشكال، ويجعلها كالذيل ليكون بها الإتمام، ولأجل أن تكون كلها مجموعة في ورقات قيلة، لتسهل مراجعتها في المهمات الجليلة، فجمعها في هذه الورقات، ووضحها أتم توضيح كما هو المقصود للمراجعات، وأمرني أن أرتبها على حروف المعجم لتكون في المراجعة أسهل وأقوم، فامتثلت أمره لما فيه من الفوائد ... إلخ.» ومن الآلات التي شرحت في هذا المعجم: الأنبوبة، والأنبيق، والبوتقة، والجفنة، وجهاز تعيين الوزن النوعي للهواء والغازات ودورق ولف، والمخبار، والمرشح ... إلخ. وكلها ألفاظ واصطلاحات لهؤلاء الطلائع الفضل في كشفها أو صياغتها فإننا لا نزال نستعملها حتى الآن في كتبنا الكيمائية.
غير أن كثرة الكتب الطبية التي ترجمت كانت تتطلب إيجاد أو ترجمة قاموس طبي، وقد بدأت المدرسة بترجمة قاموس صغير
19
في هذا الموضوع من تأليف «نايستن
Nysten »
20
ولكنه لم يف بالغرض، فأحضر كلوت بك من فرنسا «قاموس القواميس الطبية
Dictionnaire des Dictionnaires de Médecine » تأليف «فابر
Fabre » وهو في 8 أجزاء، ويشتمل على جميع الاصطلاحات العلمية والفنية في الطب والنبات والحيوان والعلوم الأخرى المختلفة المتصلة بالعلوم الطبية.
وتعاونت مدرسة الطب بكل هيئاتها على ترجمة هذا القاموس إلى اللغة العربية، «ففرقه ناظر المدرسة إذ ذاك (وهو الدكتور برون) على مهرة معلميها، وهم: حضرة إبراهيم أفندي النبراوي معلم الجراحة الكبرى، وحضرة محمد علي أفندي معلم الجراحة الصغرى ، وحضرة محمد شافعي أفندي معلم الأمراض الباطنية، وحضرة محمد أفندي الشباسي معلم التشريح الخاص، وحضرة عيسوي أفندي النحراوي معلم التشريح العام، وحضرة العلامة السيد أحمد أفندي الرشيدي معلم الطبيعة، وسعادة حسين أفندي غانم الرشيدي معلم الأقراباذين والمادة الطبية، وحضرة مصطفى أفندي السبكي معلم أمراض العين، وحضرة حسنين علي أفندي معلم النباتات في ذلك الحين، فترجم كل منهم الجزء الذي أعطيه، واجتهد في توقيع لفظه على المعنى حتى شكرت مساعيه».
21
ولم يكتف الدكتور «برون» بهذا، بل أراد أن يكون القاموس الجديد جامعا أيضا للألفاظ والمصطلحات الطبية القديمة، فأتى بالقاموس المحيط ووزعه على أفراد هذه الهيئة، وأشرك معهم مصححي المدرسة الشيخ محمد عمر التونسي، والشيخ سالم عوض القنياتي، والشيخ علي العدوي، وأمر كلا منهم أن يراجع الجزء الذي بيده، وينتقي منه «كل لفظ دل على مرض أو عرض، وكل اسم نبات أو معدن أو حيوان»، ولم يقنع «برون» بهذا أيضا، يقول الشيخ التونسي: «ثم خصني الناظر المذكور باستخراج ما في القانون من التعاريف، وما في تذكرة داود من كل معنى لطيف، وزدت على ذلك ما في فقه اللغة، ومختصر الصحاح، وما في الهروي من التعاريف الصحاح، وضممت لذلك أسماء الأطباء المشهورين، وأسماء عقاقير كنت رأيتها في بلاد السوادين.»
22
فلما تمت هذه الجهود جميعا، عهد بهذا القاموس الجديد إلى الشيخ التونسي، فرتب الألفاظ والمصطلحات على حروف المعجم، وراجعه مراجعة دقيقة، ولم يأل جهدا - كما قال - «في تصحيح كلماته، وتهذيب عباراته»،
22
فلما انتهى من هذا كله قابله معه وكيل مدرسة الطب الدكتور محمد شافعي أفندي، وسماه التونسي في النهاية «الشذور الذهبية في المصطلحات الطبية»، ولم يقصره على الألفاظ العربية، بل ضمنه «أسماء لاتينية، وأخرى فرنساوية، وأخرى فارسية، سواء استعملتها العرب أو كانت محدثة ودخلت في الألفاظ الطبية لأدنى سبب».
22
ولم يكد التونسي ينتهي من إعداد قاموسه حتى كان محمد علي باشا قد لبى نداء ربه، وأخذت الحياة العلمية في عهد عباس الأول تركد ويخمد نشاطها، وخشي كلوت بك أن يضيع القاموس فاصطحبه معه إلى باريس وفي التاسع من سبتمبر سنة 1851 قدمه هدية للمكتبة الأهلية
Bibliothèque Nationale
23
هناك.
وفي مفتتح القرن العشرين فكرت مصر ثانية في هذا القاموس، وأحضرت له نسختان شمسيتان أودعتا في دار الكتب الملكية في القاهرة، وفي حدود سنة 1910 بدأت نظارة المعارف تفكر في طبعه، وعهدت بالأمر إلى الدكتور أحمد عيسى بك، فنشر منه مائة صفحة فقط، انتهى فيها إلى لفظ «أزدران»، أي أنه لم يستوف حرف الألف، ولم يقف جهد الدكتور عيسى بك عند نشر النص العربي كما تركه التونسي، بل أعاد ترجمة كل لفظ من ألفاظ القاموس إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ونشره جامعا لهذه اللغات الثلاث، وطبع هذا الجزء على نفقة دار الكتب الخديوية، في مطبعة المقتطف بالقاهرة سنة 1332 / 1914، غير أنه وقف عند هذا الحد ولم يتم طبع بقية القاموس، فظل حتى الآن منسيا في دار الكتب ينتظر من يعنى بنشره وإحيائه.
وفي نفس الوقت الذي كان التونسي يعد فيه قاموس «الشذور الذهبية» فكر الدكتور «برون» في طبع القاموس المحيط للفيروزآبادي في مصر، وقد أشار إلى مشروعه هذا كثيرا في رسائله إلى صديقه «جول مول»؛ ففي خطابه إليه المؤرخ 14 يناير سنة 1845 قال «وتكون مخطئا إذا حسبت أن القاموس يوجد عند العلماء، فليس هناك في القاهرة ولا في مصر كلها عشرة علماء يملكون هذا القاموس، بل ليس هناك عشرة علماء يعرفون كيف يستعمل القاموس.» وختم خطابه بجملة فيها تهكم مرير، قال: «فلنعط إذن قاموسا للعلماء
Donnons done un dictionnaire aux Ulémas .»
24
وقد ذكر لصديقه في خطابات أخرى أنه أعد للأمر عدته؛ فأحضر نسخا كثيرة مخطوطة كما أحضر نسخة القاموس المطبوعة في كلكتا سنة 1230-1232، وأنه اتفق مع الشيخ التونسي على مراجعة النسخ ومقابلتها أثناء الطبع، وأنه طلب من الباشا أن يأذن له بطبعه
25
في مطبعة بولاق، غير أنني رجعت لأقدم نسخة من القاموس طبعت في بولاق، فوجدت أنها نشرت في جزأين بإشراف وتصحيح الشيخين محمد قطة العدوي ونصر الهوريني، وذلك في سنة 1272 / 1856
26
بأمر محمد سعيد باشا، ولم أجد في المراجع التي أفدت منها ما يبين الأسباب التي عاقت «برون» والتونسي عن تنفيذ مشروعهما، وجعلت تنفيذه على يد الشيخ نصر الهوريني.
وأخيرا لا ننسى أن نذكر أنه بينما كانت هذه المحاولات تتخذ طريقها لوضع أو لترجمة أو لنشر القواميس، كان هناك شيخان، أحدهما إنجليزي، والثاني مصري أزهري، يجتمعان كل ليلة - لمدة سبع سنوات - في منزل متواضع بحارة الروم بالقاهرة وبين أيديهما نسختان من القاموس المحيط، ونسخ كثيرة من قواميس اللغة العربية المختلفة، فيقرآن ويراجعان، ويتفهمان ويصححان، فإذا مضى الهزيع الأول من الليل عاد الشيخ الأزهري إلى داره، وعكف الشيخ الإنجليزي على ترجمة ما قرأ في ليلته إلى اللغة الإنجليزية، فلما أتم تسعة أعشار القاموس عاد إلى وطنه، وظل صديقه الأزهري يوافيه بالعشر الباقي بعد مراجعته، وهناك أتم ترجمة القاموس، وطبع بنصيه العربي والإنجليزي الطبعة الأولى في لندن سنة 1863 تحت عنوان «مد القاموس عربي إنكليزي
Arabic English Lexicon ».
أما الشيخ الإنجليزي فهو المستشرق المعروف «مستر لين
M. Lane » وأما الشيخ الأزهري فهو الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقي الذي يقول بعد أن قص قصة علاقته بصديقه: «وقد وردت أجزاء من الكتاب المترجم إلى بعض الذوات بمصر، مطبوعة باللغة العربية والإنكليزية باسم هذا الرجل، مرسوما فيها صورتي، والثناء على ما كان من مروءتي.»
27
الفصل السادس
الطبع والنشر
تحقيق تاريخ إنشاء مطبعة بولاق، الباعث والمشير بإنشاء المطبعة، إحضار أجزاء المطبعة الأولى من إيطاليا ثم من فرنسا، إنشاء مصنع للورق بمصر، مديرو المطبعة، موظفوها، المطابع الأخرى في: مدارس الطب، والهندسة والطوبجية، وفي القلعة، وفي سراي الإسكندرية، الغرض الأساسي من إنشاء هذه المطابع، توزيع الكتب على تلاميذ المدارس، الإقبال على الكتب المترجمة خارج المدارس، محمد علي يهدي نسخا من الكتب المطبوعة لملك فرنسا، ولملك روسيا ولشاه العجم. ***
كانت أول دولة شرقية عرفت الطباعة هي تركيا؛ فقد أدخلت إليها أول مطبعة في سنة 1728، ثم تلتها سوريا، فقد جلبت إليها الإرساليات الدينية المطابع لطبع الكتب الدينية، فلما وفدت الحملة الفرنسية على مصر أحضرت معها مطبعة «البروباجندا» من إيطاليا، ولكن هذه المطبعة لم تعط الفرصة الكافية والهدوء اللازم لتخرج للشعب مطبوعاتها، ثم قدر لها أخيرا أن تخرج من مصر بخروج الحملة.
وظلت مصر خالية من المطابع نحو العشرين عاما حتى بدأ محمد علي يضع الأسس لإصلاحاته، وكان عماد هذه الإصلاحات في نظره مدارس جديدة، وجيشا جديدا، يتبع في إنشائهما النظم الأوروبية الحديثة، ورأى أن هذه النظم الحديثة لا توجد في الكتب العربية أو التركية القديمة، وهنا اتجه تفكيره إلى إنشاء مطبعة في مصر تزود هذه المنشآت بالكتب اللازمة.
يرجع تفكير محمد علي في إنشاء المطبعة إلى سنة 1815 تقريبا، وهي السنة التي أوفد فيها بعثته إلى إيطاليا للتخصص في فن الطباعة، أما تاريخ إنشاء المطبعة فقد اختلف فيه المؤرخون حتى المعاصرون منهم، والرأي المتفق عليه بينهم أنها أنشئت في سنة 1822،
1
غير أن وثائق العصر تفيد بأنها أنشئت قبل ذلك.
كتب شاعر اسمه سعيد ثلاثة أبيات باللغة التركية على لوحة تذكارية
2
بمناسبة إنشاء المطبعة (ولا زالت هذه اللوحة موجودة في المطبعة حتى الآن)، وقد أشير في نهايتها إلى أنها أنشئت في سنة 1235 (من أكتوبر 1819 إلى أكتوبر 1820)، وأرجح أن يكون الإنشاء في أواخر سنة 1235، أي في سنة 1820 ميلادية؛ فقد ذكر الأستاذ توفيق إسكاروس أنه عثر في نتيجة الحائط لسنة 1901 على بيتين من الشعر يؤرخ الأول منهما لسنة إنشاء المطبعة، وهي سنة 1820، ويؤرخ الثاني لسنة طبع النتيجة وهي سنة 1901، أما البيتان فهما:
حسن النتيجة قد نالته مطبعة
محمد ساكن الجنات أنشأها
واليوم في دولة العباس أيده
ربي، تجدد بالإسعاد مبناها [أول بيت = 1820.] [ثاني بيت = 1901.]
3
ويرى أمين سامي باشا أن المطبعة أنشئت في 8 صفر سنة 1237 / 4 نوفمبر 1821 معتمدا في ذلك على أمر صادر من محمد علي باشا في هذا التاريخ إلى كتخدا مصر محمد لاظ أوغلي بك، يشير فيه إلى وجود «شخص هندي بمصر له معرفة وإلمام ببعض اللغات، وحسن الخط، يقتضي تعيينه لتعليم الخط الفارسي للشبان الموجودين بمعية عثمان أفندي سقه زاده ببولاق»، وفي آخر الأمر حاشية تشير إلى «تخصيص المذكور لعمل ترتيب لصنع حروف الطبع لطبع الكتب المصمم طبعها ببولاق أيضا، وتكون خطوط الكتب بخطه».
4
وفي 11 ديسمبر سنة 1822 زار المطبعة الرحالة الإيطالي «بروكي»، وقال في حديثه عنها «والمطبعة لم تبدأ عملها كاملا إلا منذ نحو أربعة أشهر.»
5
أي إنها بدأت العمل في أغسطس سنة 1822، ثم ذكر أن المطبعة أخرجت قبل زيارته كتابين، أحدهما باللغة التركية لتعليم الجنود الموجودين في الصعيد، والثاني آجرومية باللغة العربية من تأليف أحد مشايخ القاهرة.
هذه هي صفوة الآراء التي تعرضت لتحديد تاريخ الإنشاء، ومنها نستطيع أن نستنتج أن المطبعة بدئ في إنشائها في سنة 1235 / 1820؛ فاللوحات التذكارية يذكر فيها دائما تاريخ البدء في البناء لا الانتهاء منه، ونستطيع أن نستنتج أيضا أن الإنشاء تم في سنة 1821، وأنها بدأت الطبع في 1822.
وكما اختلف المؤرخون في تحديد سنة الإنشاء، فقد اختلفوا أيضا في تاريخ تحديد الباعث لمحمد علي على إنشاء المطبعة، والمشير عليه بذلك؛ فرأى بعضهم أن الغرض الأول لإنشاء المطبعة هو اهتمام محمد علي بطبع القوانين واللوائح والمنشورات الإدارية التي كان يريد نشرها في مختلف مديريات القطر، وهذا فيما نرى بعيد عن الصواب؛ فإن النظام الذي وضعه محمد علي لم يكن قد صدر بعد،
6
وإنما إنشاء المطبعة يعاصر تماما إنشاء المدارس الجديدة والجيش الجديد
7
فلا شك إذن أن الغرض الأساسي هو طبع الكتب والتعليمات لهاتين المنشأتين.
كذلك يرى «المسيو رينو» والأستاذ بشاتلي
8
أن الفضل في تنظيم مطبعة بولاق يرجع إلى نصائح الأب رفاييل زاخور، بينما ترى السيدة «لاكونتامبورن»
La Contemporaine
9
التي زارت مصر في سنة 1831 أن نجاح المشروع يرجع إلى عثمان نور الدين، فإنه يبدو أنه هو صاحب الاقتراح، وهو الذي عرضه على محمد علي، وهذه آراء - فيما يتضح لي - تعتمد على الاستنتاج أكثر من اعتمادها على الحقيقة أو السند التاريخي المادي؛ فإن البعثة التي أرسلها محمد علي إلى إيطاليا لتعلم فن الطباعة، والتي كان من بين أعضائها نيقولا مسابكي أول رئيس للمطبعة أرسلت في سنة 1815، والأب رفاييل لم يعد إلى مصر إلا في سنة 1816، كذلك عثمان نور الدين لم يعد من بعثته إلى مصر إلا في سنة 1817؛ لهذا يصح أن نرى أن محمد علي هو صاحب الفكرة ، وإن كنا لا ننكر أنه أفاد فوائد جمة من نصائح وتوجيهات ومساعدات كل من عثمان نور الدين والأب رفاييل عند الإنشاء الفعلي للمطبعة، وقد بدأ محمد علي فأحضر ثلاث آلات للطبع من ميلانو كما أحضر الحبر والورق والمواد الأخرى اللازمة للطباعة من ليجهورن
Leghorn
وتريستا
Trieste ، غير أنه بعد أن صدف عن إيطاليا واتجه إلى فرنسا أخذ يحضر آلات للطباعة من باريس، فإن «ميشو وبوجولات
Michaut et Poujoulat »
10
ذكرا أنهما رأيا ثمانية منها تؤدي عملها في سنة 1831.
ولقد أحضرت للمطبعة عند إنشائها مجموعات من الحروف العربية والإيطالية واليونانية، وقد صنعت كلها في ميلانو بإيطاليا، غير أنه تبين بعد طبع الكتب التركية والعربية الأولى أن هذه الحروف العربية المصنوعة في إيطاليا رديئة معتلة؛
11
لهذا لم يكد محمد علي يعلم بوجود «سنكلاخ أفندي
12
الخطاط الفارسي» المشهور بالقاهرة حتى أصدر أمره في 8 صفر سنة 1237 بأن يكلف بنقش حروف جديدة للمطبعة، فجاءت حروفه جميلة، وأجمل الكتب التي طبعت بخطه الفارسي «ديوان محبي الدين بن عربي» الذي طبع في بولاق سنة 1854، وقد كانت الحروف العربية بمطبعة بولاق صنفين: خط التعليق أو الفارسي، وكانت تطبع به عناوين الفصول غالبا، والخط النسخي المعتاد وتطبع به المتون.
أما الحبر فلم يلبث أن صنع في مصر، وبذلك أوقف استيراده من أوروبا، كذلك الورق فقد أنشئت «فابريقة» لصنعه حوالي سنة 1250
13
أو قبيلها بقليل، وكان مقرها الأول في الحسينية، ثم نقلت إلى بولاق، وكان الورق يصنع أولا من مواده الأولية، وفي 14 جمادى الأولى سنة 1250 صدر أمر من محمد علي إلى ناظر الجهادية جاء فيه: «بما أنه صار البدء في تشغيل فابريقة الورق التي تم إنشاؤها، وأن هذا الصنف يشتغلونه من الملبوسات الكهنة، وما يشابهها، فيشير بالتحرير من الجهادية إلى سائر الآلايات والأرط بإرسال الملبوسات المرتجعة إلى ديوان الجهادية أولا بأول، وبورودها ترسل إلى فابريقة الورق أولى من بيعها أو إتلافها بالبقاء، فضلا عما في ذلك من الفائدة في كثرة تشغيل الورق.»
14
ولم يكن محمد علي يسمع بأي تحسين صناعي يتم في أوروبا حتى يبادر بالأخذ به في مصر؛ ففي 13 شعبان سنة 1263 - قبيل وفاته بسنتين - نشرت الوقائع المصرية «أنه استحضر من أوروبا آلة بخارية لإدارة فابريقة الورق، وصار المأمول ازدياد ما يعمل فيها من جميع أصناف الورق بدلا من إدارة الفابريقة بالمواشي».
15
وقد ظلت الآلات الخاصة بالمطبعة وفابريقة الورق، وأصول الحروف، واللوحات الإيضاحية الملحقة بالكتب المترجمة - وخاصة الكتب الحربية والرياضية والجغرافية - تصنع في أوروبا - في إيطاليا وفرنسا - حتى تاريخ متأخر.
ففي 29 المحرم سنة 1248 / 1832 صدر أمر من محمد علي «إلى مدير أمور التلامذة المصرية بباريس بالتصريح له بمشترى أحجار المطبعة التي بها رسم حركة السواري المصنوعة بمعرفة عبدي أفندي وإرسال ذلك بطرفه برسوماتها التي عليها، واستلام قيمة أثمانها من النقدية المحولة بمعرفة الخواجة باغوص».
16
وفي 6 صفر سنة 1250 صدر أمر منه إلى خورشيد باشا وكيل الجهادية «بأنه علم مما تقرر من حكاكيان مهندس فابريقة الورق التي صار إنشاؤها حديثا أنه يلزم لعمل المهمات والآلات التي تلزم للفابريقة هنا مدة مستطيلة نحو السنة، وعليه يشير بأنه إن أمكن عمل ذلك في عهد قريب فيها، وإلا تحرر كشف بما يلزم بمعرفة المهندس المذكور، وتقديمه لطرفه لمداركتها من إيطاليا، كما سبق استحضارها منها.»
17
وفي 11 رمضان سنة 1252 صدرت إفادة منه إلى باغوص بك: «إنه بالنسبة لإعطائه أوراق عينات خط التعليق لاستحضار ذلك من أوروبا برسم المطبعة، ولاستعلام ناظرها شفاهيا من ورود ذلك من عدمه، يلزم الإفادة عما ذكر، وإن كان ورد منه شيء يرسل إلى المطبعة كمقتضى الأمر العالي.»
18
وظل الأمر على ذلك حتى نهاية عصر محمد علي، فيما عدا اللوحات الإيضاحية، فقد ألحقت بمطبعة بولاق حوالي سنة 1842
19
مطبعة أخرى لصنع هذه اللوحات وطبعها.
وقد كان أول مدير للمطبعة هو نقولا مسابكي، وظل يشرف على إدارتها من الناحيتين الفنية والعلمية حتى توفي في سنة 1244 / 1830.
وقد ذكر «بروكي» أن مسابكي هفا - في أول عهده بالعمل - هفوة خطيرة كادت تقصيه عن العمل وتودي به؛ وذلك أن قسا إيطاليا من كالابريا اسمه «كارلوبيلوتي» كان مدرسا بمدرسة بولاق نظم قصيدة طويلة في «الأديان الشرقية»، وكانت تتضمن طعنا في الدين الإسلامي، وأعطاها لمسابكي ليطبعها في مطبعة بولاق، وكان المستر «سولت
Salt » قنصل إنجلترا في مصر يكره هذا القس، فأراد أن يوقع به، ونقل خبر هذه القصيدة إلى محمد علي الذي أمر في الحال بإحراق أصل القصيدة، ولولا وساطة عثمان نور الدين لما عفا عن مسابكي، بل لناله منه عقاب أليم.
20
وعقب هذه الحادثة أصدر محمد علي أمره في 13 يوليو سنة 1823 / 16 ذو القعدة 1239 ألا تطبع المطبعة أي كتاب حكومي إلا بعد صدور إذن خاص منه.
وقد ألحق بنقولا مسابكي منذ اللحظة الأولى عدد من تلامذة الأزهر، وكلف بتعليمهم طريقة الطبع وصف الحروف، ونواحي العمل الفنية الأخرى، فلما حذقوا العمل ومرنوا عليه أسندت رئاسة الأقسام إلى نفر منهم، فعين الشيخ عبد الباقي رئيسا للمسبك، والشيخ محمد أبو عبد الله رئيسا للطباعين، والشيخان يوسف الصنفي ومحمد شحاتة رئيسين للصفافين.
21
وقد تولى الإشراف الفني على المطبعة منذ إنشائها نقولا مسابكي، أما الرئاسة الإدارية فقد تولاها أناس كثيرون بألقاب مختلفة، كان أولهم عثمان نور الدين الذي عين مفتشا للمطبعة في 8 صفر سنة 1237 / 4 نوفمبر 1821، وظل يشغل هذا المنصب حتى شهر ذي الحجة سنة 1239 / يوليو 1823، ثم خلفه قاسم أفندي الكيلاني «مأمورا» للمطبعة من سنة 1239 إلى 1248 / 1823-1832، وفي 26 ذي الحجة سنة 1245 / 19 يونيو 1830 عين عبد الكريم أفندي «مفتشا» للمطبعة حتى فصل في 27 ذي الحجة سنة 1250 / 26 أبريل 1835، وفي سنة 1248 عين من يدعى سعيد أفندي «ناظرا» للمطبعة، غير أنه لم يل هذا المنصب إلا شهورا قليلة ثم خلفه في النظارة فاتح أفندي من 18 المحرم سنة 1249 إلى رجب سنة 1252.
ثم اختفى لقب الناظر قليلا، وعين حسين بك «مديرا للمطبعة وملحقاتها» من جمادى الأولى سنة 1251 إلى صفر سنة 1255، ثم ظهر لقب «الناظر» ثانية، فعين حسن أفندي ناظرا للمطبعة والوقائع من ذي الحجة سنة 1252 إلى حوالي منتصف سنة 1260، ثم خلفه حسين أفندي راتب ناظرا من سنة 1260 إلى 1264.
22
وأول ما نلاحظه على هذه القائمة أن تواريخها يتداخل بعضها في البعض الآخر أحيانا وأن ألقاب رؤساء المطبعة كانت تختلف من سنة إلى أخرى؛ فالرئيس مرة مفتش ، ومرة مأمور، وهو حينا ناظر، وحينا آخر مدير، وتفسير هاتين الملاحظتين في نظرنا أن المطبعة كانت ذات فروع وأقسام مختلفة، فلعل رئيس كل قسم كان يحمل لقبا معينا، وبهذا نستطيع أن نفسر وجود مفتش ومأمور، أو مأمور وناظر، أو ناظر ومدير في وقت واحد.
ولقد كانت المطبعة الوسيلة الكبرى لتحقيق غرض محمد علي من نقل الحضارة الغربية إلى مصر، فلقد كانت طريقته في هذا النقل هي الترجمة، وما كان للترجمة أن تحقق غرضها إذا لم تطبع من الكتب المترجمة نسخ كثيرة توزع على الجند في فرق الجيش، وعلى الطلاب في المدارس، بل وعلى الأهلين.
ولهذا أنشئت مطابع أخرى كثيرة، وألحق معظمها بالمدارس، وخاصة البعيدة منها عن بولاق ليتيسر لها طبع الكتب التي تترجم بها دون تكبد مشقة الانتقال إلى مقر المطبعة الكبرى، فكانت هناك مطبعة ملحقة بمدرسة الطب حين كانت في أبي زعبل، وقد طبع بها في سنة 1248 أول كتاب ترجم في الطب وهو كتاب «القول الصريح في حلم التشريح»، ثم ظلت تطبع بها الكتب الطبية المترجمة حتى نقلت المدرسة إلى قصر العيني فأصبحت كتبها تطبع في بولاق.
وكانت هناك مطبعة ملحقة بمدرسة الطوبجية بطرة، وأول كتاب طبع بها هو كتاب: «الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار»، وقد طبعت بها كتب حربية ورياضية وجغرافية أخرى، كذلك كانت هناك مطبعة أخرى في المدرسة الحربية بالجيزة، وكان في القلعة مطبعة طبعت بها الوقائع المصرية مدة ما.
ورغم وجود مدرسة المهندسخانة في بولاق فقد ألحقت بها حوالي سنة 1260 مطبعة حجر خاصة لطبع الكتب الرياضية المختلفة، وما يتصل بها من أشكال ولوحات إيضاحية.
وهناك مطبعة أخرى لم يعن أحد بذكرها أو الإشارة إليها رغم أهميتها، وهي مطبعة سراي الإسكندرية، ولسنا نعرف بالتحديد متى أنشئت هذه المطبعة، ولكننا نعرف أنها شاركت في طبع بعض الكتب المترجمة في ذلك العصر، وخاصة الكتب التاريخية التي ترجمت إلى اللغة التركية، ومنها نستطيع أن نرجح أن هذه المطبعة أنشئت في سراي رأس التين حوالي سنة 1832، ففيها طبع في سنة 1249 / 1834 كتاب «تاريخ نابليون» تأليف «دوق دي روفيجو»، وكتاب تاريخ إيطاليا تأليف «بوتا»، وقد قام بترجمة الكتابين عن الفرنسية إلى التركية عزيز أفندي كاتب الديوان بثغر الإسكندرية.
وفي هذه المطبعة أيضا كانت تطبع الجريدة الرسمية الفرنسية «لومونيتور إجيسيان
Le Moniteur Egyptien » التي ظلت تصدر نحو ثمانية أشهر من أغسطس سنة 1833 إلى مارس سنة 1834.
23
وبعد وضع التنظيم الإداري الجديد لمصر ألحق ببعض الدواوين مطابع خاصة بها لنشر أوامرها ومنشوراتها وقوانينها؛ فقد كان لديوان المدارس مطبعة، ولديوان الجهادية مطبعة، غير أنا نلاحظ أن هذه المطابع شاركت أيضا في طبع الكتب المترجمة؛ ففي مطبعة ديوان الجهادية طبعت «رسالة في علاج الطاعون» في سنة 1250، و«رسالة فيما يجب اتخاذه لمنع الجرب والداء الإفرنجي عن عساكر الجهادية ونسائها» في سنة 1251، والرسالتان من تأليف كلوت بك.
وقد كان الغرض الأساسي من إنشاء هذه المطابع هو طبع الكتب المترجمة، ولكنها قامت أيضا بإحياء كثير من المخطوطات القديمة التي دعت الحاجة إلى طبعها، وقد كانت تقاليد العصر تقضي بطبع ألف نسخة من كل كتاب يترجم، وإن كان القليل منها قد طبع منه خمسمائة فقط.
وكانت هذه الكتب توزع على تلاميذ المدارس، فهي من أجلهم ترجمت وطبعت، وكانت أثمان الكتب تخصم منهم في أول الأمر، وثمن الكتاب هو ما صرف على طبعه دون تقدير أي ربح، وحوالي سنة 1258 / 1842 رأت الحكومة أن تصرف الكتب للتلاميذ على نفقتها الخاصة، ولكنها كانت تأمر بأن تكون هذه الكتب عارية للتلاميذ تجمع منهم إذا انتقلوا إلى فرقة أعلى لتصرف إلى التلاميذ الجدد
24
وهكذا يستمر الكتاب يتداول بين التلاميذ من يد إلى أخرى حتى يهلك فيستهلك.
وبعد مدة أخرى رأى ديوان المدارس أن يقرر مبدأ ملكية التلميذ للكتاب، وبهذا أصبح كل تلميذ يحتفظ بكتبه إذا انتقل من فرقة إلى أخرى، أو من مدرسة إلى أخرى، ويبدو لي أن الديوان قرر هذا النظام بعد أن رأى أن الكتب التي طبعت لم تجد لهما قراء غير تلاميذ المدارس، فتكدست أكواما في المخازن.
وقد كانت الكتب التي طبعت في مصر تجد لها أسواقا رائجة في تركيا وبلاد المغرب
25
وبذلك نافست مطبعة بولاق مطبعة الآستانة.
أما في مصر فقد كان الإقبال على الكتب المترجمة - خارج المدارس - قليلا جدا؛ وذلك لقلة عدد القارئين، ولأن معظم الكتب التي ترجمت كانت كتبا فنية لا يفيد منها قراء المعهد القديم - الأزهر - ولهذا كانت هذه الكتب تختزن في مخازن المطبعة في بولاق، أو في «الكتبخانة الخديوية» التي أنشئت في سنة 1250، «وكان الديوان والكتبخانة دائمي الشكوى من صعوبة «تصريف» الكتب التي اكتظت بها برغم الإجراءات التي كانت تتخذها لتشجيع الإقبال على شرائها؛ فكانت تبيع الكتب أحيانا بثمن مؤجل وتخفض أثمانها أحيانا أخرى؛ رغبة في انتشار العلوم بين الأهالي»،
26
وقد كان في عزم محمد علي أن ينشئ في القلعة «بعد إتمام الجامع الشريف» دار كتب جديدة تنقل إليها الكتب النفيسة من خزينة الأمتعة «لمطالعة الجمهور»،
27
غير أن المراجع المعاصرة لا تذكر أن هذا الأمل حقق في عصر محمد علي.
وكانت لجنة الامتحان في مدرسة الألسن تكافئ المجيدين من المترجمين فتمنح كل مترجم أنجز عمله - في الموعد المحدد له، وطبع كتابه - خمس نسخ من هذا الكتاب، هدية وتشجيعا له.
28
وكان محمد علي يفخر بنهضته العلمية كل الفخر، ويعتز بكتبه التي ترجمت وطبعت ويحب أن يباهي بها الدول الأخرى، بل كان يعتبرها خير هدية تهدى لملوك أوروبا المختلفين؛ ففي 20 ربيع الثاني سنة 1261 أصدر أمره إلى مدير ديوان المدارس «بانتخاب ثلاث نسخ من كل كتاب من الكتب الكبيرة النفيسة التي طبعت في مطبعة مصر، والتي سبق إرسالها إلى أوروبا، وتجليدها وتذهيبها، وإرسالها لطرفنا، وخصم الثمن على طرف الديون، لترسل بمعرفة أرتين بك مدير التجارة والأمور الخارجية، لصاحب الجلالة ملك فرنسا بصفة هدية».
29
وفي 22 جمادى الأولى سنة 1261 صدر منه أمر آخر، جاء فيه: «الكتب المدرجة بالجدول طيه سترسل هدية مني إلى صاحب الحشمة ملك الروسيا، فيلزم فرزها وتجليدها وتذهيبها، مع 3 نسخ من كل نوع من أنواع الكتب السابق طبعها بمطبعة بولاق، وأرسل منها إلى أوروبا.»
30
وفي 15 رجب سنة 1256 أعطى ميرزا هاشم مجموعة من الكتب التي طبعت في بولاق لتقديمها إلى شاه العجم.
31
الباب الثالث
تقدير عام للترجمة في ذلك العصر
تقدير عام للترجمة في ذلك العصر
(1)
أغراض الترجمة. (2)
عن أي اللغات وإلى أي اللغات. (3)
طريقة الترجمة. (4)
المصطلحات. (5)
أسلوب الترجمة. (6)
أثر الترجمة في اللغة العربية. (7)
أثرها في المجتمع المصري. ***
والآن، وقد انتهينا من التأريخ للترجمة، وأدواتها، وما يتصل بها، يحق لنا أن نلقي على هذه الحركة المباركة نظرة عامة شاملة؛ لنقدرها حق قدرها ونتعرف على أغراضها المختلفة، وننتقد طريقتها وأسلوبها ونبين أثرها في تاريخ اللغة العربية، والمجتمع المصري. (1) أغراض الترجمة (أ)
ظهر لنا من الفصول السابقة أن محمد علي كان يتجه في سياسته الإصلاحية إلى النقل عن الغرب؛ ولهذا يمكن أن نقول إن الغرض الأول والأساسي للترجمة في ذلك العصر كان يرمي إلى نقل ما عند الغرب والغربيين من علم جديد، ومن نظم وقوانين جديدة في الجيش والأسطول، والمدارس، والمستشفيات والإدارة الحكومية ... إلخ. (ب)
أما الغرض الثاني فهو نقل العلوم الحديثة المختلفة إلى اللغتين العربية والتركية؛ ليسهل على الطلاب والمدرسين استعمالها ودرسها، وتدريسها في المدارس الحديثة. (ج)
وهناك كتب كثيرة ترجمت تحقيقا لرغبة محمد علي باشا، أو لرغبة ابنه إبراهيم باشا في بعض الأحيان، وهذه في الغالب إما كتب تبحث في فن الحكم، ونظمه، وسياسته؛ ككتاب الأمير لمكيافلي أو مقدمة ابن خلدون، وإما كتب في التاريخ، وخاصة ما تناول منها سير وتراجم العظماء والمصلحين؛ كالسيرة النبوية، وتاريخ الإسكندر ونابليون، وكاترين، وبطرس الأكبر، وإما كتب فيها تعريف بالدول الأوروبية الكبيرة؛ كتاريخ إيطاليا، ورحلة رفاعة، وتاريخ فرنسا، إلخ. أما الكتب التي كان يشير بترجمتها إبراهيم باشا، فكانت في الغالب كتبا حربية؛ كوصايا فريدريك الأكبر لضباطه، أو الكتب التعليمية لفريق الجيش المختلفة. (د)
وكانت بعض الكتب تترجم خصيصا للمكتب العالي، حيث تستعمل لتعليم أولاد محمد علي وأحفاده؛ فقد ذكر مثلا في مقدمة كتاب «إفاضة الأذهان في رياضة الصبيان» أنه ترجم «برسم حضرة أنجال الخديو الأعظم، وحفدة الداوري الأكرم، وليشتغل به تلاميذ المكتب العالي». (ه)
ولم نلاحظ أن هناك كتبا ترجمت لتحقيق المثل الأعلى لمثل هذه الحركة - وهو نشر الثقافة العامة بين الشعب - وإن كنا لا ننكر أن محمد علي خطا مرة خطوة نحو تحقيق هذا الغرض؛ فأمر بتأليف وترجمة كتابين لنشر الثقافة الطبية بين عامة الشعب، وهما: «كنوز الصحة ويواقيت المنحة» و«الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال»، غير أنه لم يتبع هذه الخطوة بخطوات أخر، أما المعهد الذي سعى لتحقيق هذا الغرض وكان يقدر له النجاح لو طال به العمر، فهو مدرسة الألسن، وسنفصل الكلام عن جهد هذه المدرسة في هذه الناحية عند كلامنا عن أثر الترجمة في المجتمع المصري. (2) عن أي اللغات وإلى أي اللغات
كذلك نلاحظ أن حركة الترجمة في عصر محمد علي كانت حركة واسعة شاملة؛ فلم تقتصر على الترجمة عن اللغات الأوروبية، بل شملت الترجمة عن كل اللغات الأوروبية والشرقية الحية وإليها، فترجمت كتب عن الفرنسية، أو الإيطالية، أو عن ترجمات فرنسية عن الإيطالية والإنجليزية، أو عن ترجمات إيطالية عن الفرنسية، إلى اللغتين العربية والتركية.
1
وترجمت كتب عن العربية إلى التركية، أو عن التركية إلى العربية.
وترجمت كتب عن الفارسية إلى التركية، وترجم كتاب واحد - وهو كلستان سعدي - عن الفارسية إلى العربية.
2
وقام بالترجمة عن العربية إلى اللغات الأوروبية جماعة من المستشرقين الذين عاشوا في مصر في ذلك الوقت؛ فقام «الدكتور برون»
3
مثلا بترجمة كتب كثيرة في الأدب والتاريخ عن العربية إلى الفرنسية، كما قام «مستر لين» بترجمة القاموس المحيط إلى اللغة الإنجليزية.
وهناك محاولة مصرية وحيدة للترجمة في هذه الناحية؛ فقد أشار محمد علي مرة بتصنيف كتاب رسمي عن جهوده الإصلاحية أسماه «روضة العمران»
4
ثم كلف بعض مترجميه، وهم: حكاكيان أفندي وأرتين أفندي، ويوسف أفندي، واسطفان أفندي، وكاني بك، ورفاعة بك
5
بترجمته عن العربية إلى الفرنسية؛ ليكون وسيلة للدعاية له ولجهوده في الخارج، غير أنني لم أوفق - رغم البحث الطويل - للعثور على ما يثبت وجود هذا الكتاب - مخطوطا أو مطبوعا - بالعربية أو بالفرنسية. (3) طريقة الترجمة
شهد العالم الإسلامي، منذ بدء الإسلام حتى الآن، حركتين للترجمة: كانت الأولى في عهد الدولة العباسية، وخاصة في عصري الرشيد والمأمون، وبدأت الثانية في عصر محمد علي، وقد عانى المترجمون في العهدين كثيرا من صعوبات الترجمة وخاصة عند نقل المصطلحات العلمية التي لا مرادف لها في اللغة العربية.
أما المترجمون في العصر العباسي، فقد كان لهم في النقل - كما يقول الصلاح الصفدي - طريقان: «أحدهما هو أن ينظر إلى كلمة مفردة من الكلمات الأعجمية، وما تدل عليه من المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك، حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه. وهذه الطريقة رديئة لوجهين: أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات الأعجمية؛ ولهذا يقع في خلال هذا النقل كثير من الألفاظ الأعجمية على حالها، والثاني أن خواص هذا التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة لأخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات، وهي كثيرة في جميع اللغات.
والطريق الثاني في الترجمة هو أن يأتي بالجملة فيحصل معناها في ذهنه، ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها، وهذا الطريق أجود».
6
هاتان هما الطريقتان اللتان اتبعتا في العصر العباسي، وهما طريقتان اجتهاديتان كان الباعث عليهما أن الترجمة في ذلك العصر كانت ترجمة فردية، حقيقة إن الترجمة في العصر العباسي - كانت مثلها في عصر محمد علي - ترجمة رسمية، يوعز بها، ويرعاها ويشجعها الحكومة والحكام، غير أن الخليفة في العصر الأول كان يوعز إلى المترجمين بالترجمة، فيبذل كل منهم جهده وحده، ويتصرف في النقل حسب اجتهاده.
أما الترجمة في عصر محمد علي فكانت تقوم بها هيئات متعددة؛ ولهذا نراها أحيطت بالضمانات الكافية والممكنة لتخرج سليمة، دقيقة متقنة بقدر الإمكان.
بدأ الترجمة في عصر محمد علي جماعة السوريين، وكان أولهم الأب رفائيل، وقد ترك وشأنه في الترجمة؛ فقد كانت الحركة في أول خطواتها؛ ولهذا خرجت ترجماته رديئة ضعيفة الأسلوب، غير واضحة ولا مفهومة، فلما ألحق نفر آخرون من السوريين بمدرسة الطب، أحست الحكومة فيهم هذا الضعف في اللغة العربية؛ فبدأت بوضع تقليد جديد، وهو إشراك جماعة من شيوخ الأزهر معهم في النقل لتخير الألفاظ والمصطلحات العلمية العربية، أو لاشتقاق ونحت ألفاظ ومصطلحات جديدة، ثم لتصحيح الأسلوب وصياغته صياغة عربية صحيحة.
ولهذا لم يكن المترجم ينفرد بالترجمة وحده، ثم يقدم الترجمة للشيخ المصحح ليقوم بتصحيحها وحده، بل كان الرجلان يجلسان معا، فيمسك المترجم بكتابه، والشيخ بدفتره، ويبدأ الأول في الترجمة جملة جملة، ثم يمليها على رفيقه، وهما في أثناء ذلك يتشاوران، ويراجعان الأصل، أو الكتب العربية القديمة، أو ما بين أيديهما من قواميس ومعاجم، إلى أن يتفقا على الصورة النهائية، يشير إلى هذا التعاون والاشتراك في العمل الشيوخ المصححون في مقدمات الكتب المترجمة؛ فهذا الشيخ مصطفى كساب يقول في مقدمة كتاب «نزهة الأنام في التشريح العام»، و«ترجمه من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية المترجم الحاذق الخواجة يوسف فرعون، مع مصحح مسائله، ومنقح دلائله مصطفى حسن كساب»، ويقول أيضا في مقدمة كتاب «منتهى البراح في علم الجراح»: «ترجمه يوسف فرعون مع مرتب مبانيه، ومهذب معانيه مصطفى كساب»، وقال الشيخ محمد الهراوي في مقدمة كتاب «منتهى الأغراض في علم الأمراض» الذي ترجمه يوحنا عنحوري: «وكان ممن استملى منه نحو نصف هذا الكتاب أخي ووحيدي أحمد صويبع الرشيدي، ولكون الكتاب المذكور نقل للطليانية، وكان يفسر بها حين قراءة المعلم للدرس، وخفت من أن يكون قد وقع في شيء منه اللبس، تصفحته ثانية مع علي أفندي هيبة على أصله المطبوع بالفرنساوية.» ثم يقول في خاتمة الكتاب: «لذا تعبت في تحريره عند الجمع والطبع غاية التعب، واستهونت ما حل بي حينذاك من دوام السهر والوصب، حتى صغته صياغة التآليف العربية في انسجام المعاني، وتناسب الكلمات، بعد أن بذلت الجهد في تهذيب المباني وتناسق العبارات، حتى صار لا يرى عليه غبار الترجمة، ولا ما تعرف به من غبار اللعثمة.»
وقال نفس الشيخ في مقدمته لكتاب «المنحة في سياسة حفظ الصحة»: «فجمع الخواجا برنار هذا الكتاب من مجلدات كبار، وترجمه من الفرنساوي للعربي بالكتابة والمقال المترجم الحلبي جورجي فيدال، وكنت مقيدا لتصليح ما ترجم ترجمة لفظية، وتوقيعه مواقع عبارات عربية، مع إبقاء أسلوبه لمساق الكلام على ما هو عليه، واصطلاحهم في كثرة التقسيمات وتطويل العبارات على ما مالوا إليه، غير أني بذلت في أن تستفاد المعاني من المباني غاية الجهد، وحفظت ألا أكتب شيئا إلا بعد معرفتي إياه.» ثم قال في خاتمته إنه روجع «على يد مصحح كلمه عند الترجمة، محرر جمله لدى القراءة والمقابلة، مؤاخيه حال القراءة والجمع، موافيه عند التمثيل والطبع، محمد الهراوي.»
وضع هذا التقليد خصيصا للمترجمين من السوريين، فلما خرجت المدارس والبعثات خريجيها من المصريين، وبدءوا يشاركون في حركة الترجمة، لم يلغ هذا التقليد، بل أبقي عليه؛ فقد كانت حكومة محمد علي - وهذه الكتب المترجمة جهد من جهودها - حريصة على أن تظهر للقارئين أقرب ما تكون إلى الصحة موضوعا وأسلوبا، وكان معظم خريجي المدارس والبعثات من خريجي مدرستي بولاق وقصر العيني، أو من تلاميذ المكاتب الإقليمية؛ ولهذا كانت ثقافتهم في اللغة العربية ضعيفة محدودة، فكان من الضروري أن يعينهم شيوخ الأزهر على أداء مهمتهم، وقد فعلوا؛ جاء في مقدمة كتاب «إسعاف المرضى من علم منافع الأعضاء» أن مترجمه علي أفندي هيبة «كان يمليه على الشيخ محمد محرم أحد المصححين بمدرسة أبي زعبل»، وذكر في مقدمة «نبذ كلوت بك» أنه قام بترجمتها إبراهيم النبراوي حكيم أول ابن عرب بإملائه للشيخ محمد محرم أحد المصححين قبل الطبع، وقال الشيخ مصطفى كساب في مقدمة كتاب «الطب العملي»: «وترجمه ... محمد أفندي عبد الفتاح ... وقد استمليت منه هذا الكتاب، وصححته بأعذب خطاب.» وقد اتبع الشيخ محمد عمر التونسي نفس الطريقة مع الدكتور «برون» أثناء ترجمته لكتابه الجواهر السنية؛ فقد قال في مقدمته: «على أن جل هذا الكتاب كان أملي علي من قبل ذلك، وصححت أكثره بلا مشارك (يقصد من المصححين)، وساعدني في ذلك معرفة مؤلفه باللغة العربية؛ لأني قابلت كل مشكلة معه على أصوله الفرنساوية ...»
غير أنا نلاحظ أن هذا التقليد لم يكن عاما، بل لقد أعفي منه خريجو المدارس والبعثات من الأزهريين؛ أعفي منه الشيخ رفاعة، وأعفي منه الشيخان (ثم الدكتوران) أحمد حسن الرشيدي، وحسين غانم الرشيدي؛ فقد كانا ممتازين في معرفتهما للغة العربية، بل لقد كانا مصححين في مدرسة الطب قبل إيفادهما إلى فرنسا ضمن بعثة 1832 الطبية.
ولم يكتف القائمون على حركة الترجمة في ذلك العصر بهذا التقليد، بل كانوا يعهدون ببعض الكتب بعد ترجمتها وتصحيحها إلى لجنة أخرى من مترجم ومصحح آخرين لمراجعتها على الأصل، وكانت بعض الكتب تراجعها لجنتان أو ثلاث الواحدة بعد الأخرى، حدث هذا في الغالب للكتب التي ترجمها يوحنا عنحوري؛
7
لأن هذا المترجم كان يتقن اللغة الإيطالية دون الفرنسية، فكانت الكتب تترجم له عن الفرنسية إلى الإيطالية، ثم يقوم هو بترجمتها إلى العربية، فإذا راجعها معه المصحح، أعطيت الترجمة للجنة أخرى لمراجعتها على النص الأصلي الفرنسي.
وحدث هذا الإجراء أيضا في بعض كتب الطب البيطري، والكتب الرياضية؛ فقد ترجم فرعون كتاب «التوضيع لألفاظ التشريح»، وصححه الشيخ مصطفى كساب، ثم صدر أمر من ديوان الجهادية بأن تكون لجنة ثانية من رفاعة أفندي والبكباشي هرقل لمراجعته، «فبادرا بالامتثال، وقابلاه مقابلة ليس لها مثال، مع إمعان النظر، وإيضاح ما خفي واستتر» وكذلك كتاب «اللآلئ البهية في الهندسة الوصفية»، ترجمه إبراهيم رمضان أفندي، ثم عهد به إلى حسن الجبيلي أفندي، «فقابله على أصله الفرنساوي، وأطلق عنان قلمه فيه وصححه، وأمعن نظره في ترجمته وأصلحه»، ثم أعطاه للشيخ إبراهيم الدسوقي فحرره وصححه تصحيحا ثانيا ... إلخ ... إلخ.
كذلك نلاحظ أن المبدأ العام لم يتجه في هذه الحركة إلى التخصص في الترجمة؛ فقد رأينا طبيبا يترجم في الجغرافيا، ومبعوثا للتخصص في صناعة الحرير يترجم كتابا في التاريخ، ورأينا رفاعة يترجم في كل علم وفن؛ ولهذا نلاحظ أنه أخذ تلاميذه في مدرسة الألسن بنفس الطريقة، فكان المترجم ينتهي من ترجمة كتاب في التاريخ أو الجغرافيا، فيعهد إليه بترجمة كتاب آخر في الكيمياء أو النبات، أو الهندسة، أو الرحلات ... إلخ.
غير أنا نلاحظ أن الحركة كانت تتجه في أواخر العهد نحو التخصص؛ فالذين عينوا في مدرسة الطب من خريجي البعثات تخصصوا في ترجمة العلوم الطبية دون غيرها، والذين عينوا في مدرسة المهندسخانة تخصصوا في ترجمة العلوم الرياضية، بل إنا لنلاحظ أن خريجي الألسن كانوا في طريقهم إلى انتهاج هذا النهج؛ فأبو السعود وخليفة محمود كادا - في آخر العهد - يتخصصان في ترجمة الكتب التاريخية، وصالح مجدي في ترجمة الكتب الهندسية والحربية، ومحمد الشيمي في ترجمة الكتب الرياضية ... وهكذا، وفي رأيي أنه لو كان قد امتد بالمدرسة العمر لانتهت إلى التخصص التام.
كذلك لم يكن نظام المترجم الواحد للكتاب الواحد عاما في عصر محمد علي، بل نستطيع أن نقرر أن هذا النظام لم يتبع عادة إلا في مدرستي الطب البشري والبيطري، أما في مدرسة الهندسة فقد اتبع هذا النظام في بعض الكتب، ولم يتبع في البعض الآخر، فرأينا كتاب «الروضة الزهرية في الهندسة الوصفية» يشترك في ترجمته إبراهيم رمضان ومنصور عزمي، وكتاب «رمز السر المصون في تطبيق الهندسة على الفنون» يشترك في ترجمته عيسوي زهران، وصالح مجدي، ومحمد الحلواني إلخ، وكان يتبع هذا النظام عند ترجمة بعض الكتب التي يأمر محمد علي بترجمتها، وذلك رغبة في إنجازها بسرعة؛ فقد أصدر أمره مرة بترجمة كتاب «نظامات وترقيات العساكر»، وأن يجمع «التراجمة» وتحل حبكة الكتاب ويعطى لكل مترجم «كراس منه لسهولة ترجمته في أقرب وقت»؛ وذلك «لكون ترجمة هذا الكتاب من الأمور المهمة المستعجلة».
8
وقد أخذت مدرسة الألسن بهذا النظام أيضا في معظم الأحيان؛ فكان يشترك في ترجمة الكتاب الواحد أكثر من مترجم، وخاصة إذا كان كبير الحجم، أو كثير الأجزاء فقد اشترك أربعة من تلاميذها في ترجمة كتاب «تاريخ الدولة العربية»،
9
واشترك اثنا عشر مترجما منهم في ترجمة كتاب «رحلة أنخرسيس جوان في بلاد اليونان».
9
هذا ولم يكن النص يترجم كاملا في كل الأحيان، بل كان يخضع للأغراض العامة والخاصة للترجمة في ذلك العصر، فهناك كتب جمعت أجزاؤها من كتب كثيرة مختلفة، وكتب تركت بعض فصولها، وكتب أضيفت إليها أجزاء وفصول عن كتب إفرنجية، وأحيانا من كتب عربية، والأمثلة الآتية توضح ما تقول:
فالدكتور «برنار» المدرس بمدرسة الطب جمع كتاب «المنحة في سياسة حفظ الصحة» «من مجلدات كبار».
وعندما ترجم الدكتور أحمد حسن الرشيدي كتاب «ضياء النيرين في مداواة العينين»، قال في مقدمته: «وقد أضفت إليه نبذة من كتاب الحكيم «والير» النمساوي في كيفية تحضير أدوية العين، واستعمالها في التداوي، وزدت على ذلك جملة مستحضرات تستعمل هنا ومركبات من نحو أكحال ومراهم، وبرودات وقطرات التقطتها من المؤلفات الجليلة، ليكون المرتاد جامعا لكل فضيلة.»
وقال الدكتور «برون» في مقدمة كتابه «الأزهار البديعة في علم الطبيعة»: «واقتطفت من روضة كتب هذا الفن كل زهرة بديعة، وجمعت هذا الكتاب من أحاسن الفن المذكور.»
وذكر الشيخ الهراوي في مقدمة كتاب «القول الصريح في علم التشريح» تأليف «بايل» وترجمة عنحوري، أنه «ترجم مع ما ضمه إليه كلوت بك في أثناء التعليم من زيادات احتاج المقام إليها، وذيل بكراسة في تعليم صناعة التشريح، وتصبير الأجسام.»
أما كتاب «منتهى الأغراض في علم الأمراض» تأليف «بروسيه وسانسون» وترجمة عنحوري؛ فقد نسخه الدكتور «ديفينو» بخطه، ولم يتصرف فيه كما قال: «بغير التقديم والتأخير في مباحث بعض الأبواب، وحذف بعض عبارات من الأصل وقع بها في الإسهاب، وأضاف له مبحث مشاهدات الأمراض، وقاعدة الاستقصا من فتح الموتى ليعلم ما حل بها من الأعراض، وذيله بمبحث الديدان المتولدة في باطن الأعضاء حتى لا يبقى محتاجا إلى ما تتشوف إليه النفس، أو يوجبها للإغضاء.»
وهكذا فعل رفاعة ببعض كتبه، فقد جمع فصول كتابه «التعريفات الشافية لمريدي الجغرافيا» من كتب فرنسية مختلفة، فخرج بعد ترجمته «متضمنا لخلاصة كتب «هذا العلم» المطولة».
وعندما ترجم كتابه «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» وهو يطلب العلم في باريس، قال في مقدمته: «ولما كان هذا الكتاب المذكور غير مقصور على مجرد نقل العوائد، بل هو مشتمل على استحسان واستقباح بعضها أشار على مدير التعليم المذكور (مسيو جومار) أن أحذف ما يذكره مؤلف الكتاب من الحط والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية، أو مما لا ثمرة لذكره في هذا الكتاب.»
وعندما بدأ جهوده في مدرسة الألسن أراد أن يخرج مكتبة تاريخية تتحدث عن تاريخ العالم منذ أقدم عصوره إلى أحدثها، وكان أول كتاب ترجم من هذه المجموعة كتاب «بداية القدماء وهداية الحكماء»، وهو كتاب شامل لتاريخ الشعوب المختلفة في العصور القديمة؛ كاليونان والسودان، والبابليين والفرس، وغيرهم، وقد اشترك جماعة من تلاميذ الألسن في ترجمته، وقال رفاعة في مقدمته: «ولما كان المؤلف ناقصا تاريخ الخليقة والعرب، وكان في كتاب عماد الدين أبي الفداء سلطان حماة ما يفي بالأرب، أضفته إلى الترجمة لكمال المطلوب وبلوغ المرغوب.» (4) المصطلحات
كان أمر هذه المصطلحات في الترجمة عن بعض اللغات الشرقية إلى البعض الآخر سهلا هينا؛ فقد كان عصر أخذ كل لغة من اللغات الثلاث عن مصطلحات اللغتين الأخريين قد انتهى منذ أمد طويل، وكانت كل لغة منها قد هضمت ما اقتبسته من اللغتين الشقيقتين، فأصبح مفهوم المعنى والمدلول كأنه من ألفاظها.
أما المشكلة كل المشكلة عند المترجمين في عصر محمد علي فقد كانت في محاولاتهم نقل الألفاظ والمصطلحات العلمية الأوروبية إلى اللغة العربية أو التركية.
ولو أن اللغة العربية كانت تكتب بحروف لاتينية، أو لو أن اللغات الأوروبية كانت تكتب بحروف عربية لسهل العمل على المترجمين قليلا؛ فإن رسم اللفظ - الذي تصعب ترجمته من لغة إلى لغة أخرى تشبهها في رسم الحروف - يسهل على القارئ قراءته قراءة صحيحة، وقد يعينه على فهم معناه إذا كانت اللغتان متشابهتين أو متقاربتين، أو منحدرتين من أصل واحد، ذكر هذه الحقيقة خليفة محمود في مقدمة كتابه «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوروبا»؛ فقد ألف هذا الكتاب في الأصل المؤرخ الإنجليزي «روبرستون»، ثم ترجمه خليفة أفندي عن ترجمة فرنسية، ووصف في أوله ما يلاقيه هو وغيره من المترجمين من صعاب أثناء الترجمة، ثم شرح الفكرة السابقة بقوله: «إن فن الترجمة جبل صعب المرتقى ... وتاريخ الإمبراطور شارلكان من أصعب ما نظم في السلوك من تواريخ الدول والملوك ... لأن من ترجموه إلى اللغات المختلفة كانوا أبطالا شهد لهم بالذكاء والألمعية ... ومع ذلك فقد استصعبوه، وبالدقة وصفوه، مع أن لغاتهم مشابهة لبعضها، والحروف واحدة، فإذا عثر من يترجم من الإنجليزية مثلا إلى الفرنساوية على كلمة لم يجد لها مقابلا في لغته، يكتبها على أصلها في ترجمته، وتقرأ وتفهم من غير صعوبة ...»
أدرك المترجمون هذ الصعوبة الناتجة عن اختلاف اللغة العربية عن اللغات الأوروبية في أصول الكلمات واشتقاقاتها، وفي رسم الحروف، وكانوا يستطيعون أن يتغلبوا عليها لو أنهم رسموا الألفاظ الجديدة بالحروف العربية وأثبتوها كما هي بحروفها اللاتينية إلى جانب الرسم العربي، كما نفعل نحن الآن في كثير من الأحيان، ولكنهم لم يفعلوا، ولست أدري السر في إحجامهم عن استعمال هذه الطريقة مع أن مطبعة بولاق منذ أنشئت، بل ومعظم المطابع الأخرى - وخاصة مطبعة سراي رأس التين بالإسكندرية - كانت بها مجموعات للحروف اللاتينية، بأشكال وأحجام مختلفة.
أهمل المترجمون إذن الحروف اللاتينية تماما، ثم حاولوا مستعينين بما وصلت إليه أيديهم من قواميس ومعاجم، وبجهود المحررين والمصححين من المشايخ، البحث في كتب الطب، والكيمياء، والنبات العربية القديمة على ألفاظ ومصطلحات تقابل ما يعثرون عليه من ألفاظ ومصطلحات في المؤلفات الأوروبية، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يحيوا ألفاظا علمية عربية كثيرة، غير أن العالم الأوروبي في أوائل القرن التاسع عشر كان قد أوجد علوما جديدة، وأحدث اختراعات، وعرف نظما وأوضاعا سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة لم يكن للعرب القدامى بها عهد.
وهذا العالم الأوروبي قد اتصلت الأسباب بينه وبين مصر والمصريين بعد قطيعة طالت أمدها؛ ولهذا العالم الأوروبي تاريخ وجغرافيا مفعمتان بالأسماء التي لم تعرفها ولم تذكرها الكتب العربية القديمة، بل هناك عالم جديد قد اكتشف وعالم قديم كان في سبيله إلى الاكتشاف، وعلماء أوروبا قد وضعوا التصانيف الكثيرة في دراسة هذه العوالم جميعا، وبرنامج الترجمة في عصر محمد علي كان يرمي إلى نقل كتب كثيرة للتعريف بهذه العوالم، فكيف إذن يستطيع المترجمون التغلب على هذه الصعوبة؟
لقد حاولوا، وبذلوا الجهد، وبدءوا يصطنعون طرقا تمهد لهم السبل، واللغة كما نعرف كائن حي، ينمو ويتطور، فإذا كنا قد انتهينا إلى صياغة ألفاظ ومصطلحات علمية كثيرة تقابل الألفاظ والمصطلحات العلمية الأوروبية الحديثة، فالفضل الأكبر يرجع لجهود هؤلاء الرواد، ولنتتبع الآن الطرق التي اصطنعوها لأنفسهم.
لقد حاولوا أولا إيجاد ألفاظ ومصطلحات عربية تقابل الألفاظ والمصطلحات الأوروبية، بل إنا لنلاحظ أن هؤلاء المترجمين لم يكونوا جامدين ولا متزمتين، ولم يقيدوا أنفسهم بالألفاظ العربية دائما، فكانوا إذا وجدوا أن اللفظ العربي قد أهمله المتكلمون بالعربية أنفسهم، وبدءوا يستعملون اللفظ الأوروبي، أو لفظا قريبا منه، فضلوا اللفظ الجديد على اللفظ القديم. يقول رفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية»: «واعلم أنه قد تمر عليك أسماء بلدان أبقيناها على أسمائها الفرنساوية؛ إما لاشتهارها في هذا العهد بتلك الأسماء، كجزيرة «سرنديب» فإنها الآن تسمى جزيرة «سيلان»، واشتهرت عند عامة الناس بهذا الاسم، وجزيرة «صقلية» فإنها اشتهرت الآن باسم جزيرة «سيسيليا»، وجزيرة «أقرطيش» فإنها يقال لها الآن جزيرة «كريد»، وإما لعدم الوقوف على الاسم العربي، ولعل هذا السبب الأخير هو الموجب لما فعله المرحوم الحاج خليفة أفندي صاحب كتاب الجغرافيا المطبوع في مدينة إسلامبول من إبقائه أسماء أماكن على لفظها الفرنساوي، لعدم اطلاعه على أسمائها العربية والتركية.»
هذه كانت خطوتهم الأولى، وكانوا إذا عجزوا عن العثور على لفظ عربي يؤدي المعنى المطلوب، أو يقابل اللفظ الأوروبي، نقلوا اللفظ أو المصطلح الجديد كما هو، ورسموه بحروف عربية، وإذ كانت الحروف العربية في مطابع ذلك العصر خالية من الشكل تماما، فقد لجئوا للطريقة القديمة، فبينوا بالكلمات طريقة نطق هذه الألفاظ، ثم أشفعوا هذا كله بتفسير للمصطلح الجديد، أو تعريف له، في جملة أو جمل كثيرة، يقول رفاعة في مقدمة كتاب «المعادن النافعة»: «وقد فسرت مفرداته على حسب ما ظهر لي بالفحص التام، وما تعاصى منها حفظت لفظه، ورسمته كما يمكن كتابته به، وربما أدخلته بعض تفسيرات لطيفة.» ونستطيع بحق أن نقول إن رفاعة هو مبتدع هذه الطريقة وصاحبها، فقد اتبعها في معظم كتبه التي ترجمها، وعنه أيضا أخذها تلاميذه في مدرسة الألسن؛ فهذا خليفة أفندي محمود يقول في مقدمة كتاب «إتحاف الملوك الألبا»: «... إن اللغة العربية بمعزل عن اللغات الإفرنجية، فلزم لي معاناة أين، ومكابدة مشاق بين حين إلى حين، لأجل أن آتي بمقابل ألفاظ يصعب وجود مقابل لها في العربية، يكون مطابقا لمعناها، ومؤديا لجميع مفادها وفحواها، حتى إنه ربما ورد علي بعض ألفاظ لم أجد لها مقابلا بالكلية، فبلفظها الأصلي ذكرتها، وبجملة اعتراضية فسرتها.» ولنأت الآن ببعض الأمثلة التي توضح هذه الطريقة نقلناها عن بعض الكتب التي ترجمها رفاعة وتلاميذه. (1)
الأنستتوت - بفتح الهمزة وسكون النون وكسر السين - أي مشورة العلوم وأكابرهم. (2)
الإكتريستة، بكسر الهمزة، وسكون الكاف وكسر التاء والراء، وكسر السين وفتح التاء - المسماة الرسيس، بفتح الراء المشددة وكسر السين، التي هي خاصة الكهربا عند حكها. (3)
شمبر دوبير، بفتح الشين وسكون الميم - يعني ديوان «البير» بفتح الموحدة؛ أي أهل المشورة الأولى. (4)
ديوان رسل العمالات، وهذه هي ترجمة رفاعة للاصطلاح الفرنسي
Chmbre des députés . ولهذا الاصطلاح عندنا في مصر منذ عهد محمد علي حتى اليوم تاريخ طويل؛ فقد سمي هذه التسمية، ثم أطلق عليه «مجلس شورى القوانين»، ثم «الجمعية العمومية» ثم «الجمعية التشريعية» إلخ إلى أن سميناه أخيرا بمجلس النواب، كما سمينا الشمبر دوبير بمجلس الشيوخ. (5)
الجرنالات، جمع جرنال، وهو يجمع في اللغة الفرنساوية على «جورنو» وهي ورقات تطبع كل يوم، وتذكر كل ما وصل إليهم علمه في ذلك اليوم، وتنتشر في المدينة، وتباع لسائر الناس، وسائر أكابر باريس يرتبونها كل يوم، وكذلك سائر القهاوي، وهذه الجرنالات مأذون فيها لسائر أهل فرنسا أن تقول ما يخطر لها، وأن تستحسن وتستقبح ما تراه حسنا أو قبيحا، وأن تقول رأيها في تدبير الدولة فلها حرية تامة ما لم تضر في ذلك، فإنه يحكم عليها وتطلب قدام القاضي، «والجورنو» عصب، فكل جماعة لها في مذهبها مذهب كل يوم يقويه ويحاميه ويؤيده، ولا يوجد في الدنيا أكذب من الجرنالات أبدا خصوصا عند الفرنسيس. (6)
التلغراف - يعني إشارة الأخبار ... إلخ ... إلخ. (5) أسلوب الترجمة
أخص ما يمتاز به أسلوب الكتب المترجمة أنه أسلوب علمي خاص؛ لأن الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي كانت كلها - إذا استثنينا كلستان سعدي - كتبا علمية، غير أنا نلاحظ أن المترجمين قد ساروا - رغم ما في ترجماتهم من عيوب - باللغة العربية خطوة إلى الأمام؛ فقد تخلصوا في كتبهم المترجمة من قيود المحسنات البديعية - وخاصة السجع - التي ظلت مسيطرة على الكتب العربية قرونا طويلة، وكان هذا التخلص شيئا طبيعيا؛ إذ لم يكن من الممكن البتة أن يلتزم أي مترجم السجع في كتاب بأكمله، يقيده فيه النص الأجنبي الذي ينقل عنه، أو المصطلحات والتعريفات العلمية التي يترجمها، والتي كثيرا ما يحار في ترجمتها؛ ولهذا لاحظنا أن معظم المترجمين في ذلك العصر، إن لم يكن كلهم، قد قيدوا أنفسهم بالنص تقييدا أضر بالأسلوب وبالمعنى في كثير من الأحيان، ومع هذا فإن الأساليب الأوروبية لم تخل تماما من بعض المحسنات؛ كالاستعارة أو التورية، أو التشبيه، فلكل لغة محسناتها، وهنا أباح المترجمون لأنفسهم في بعض الأحيان التصرف في نقل هذه المحسنات، وكثيرا ما كانوا يعربونها؛ أي يضعون مكانها استعارات وتشبيهات تتفق والذوق العربي، وذلك إذا أيقنوا أن المحسنات الأوروبية مما لا يفهمه، أو يعقله، أو يهضمه القارئ العربي.
وقد تخيرت أن أنقل هنا بعض فقرات من كتاب «إتحاف الملوك الألبا» الذي ترجمه خليفة محمود؛ فقد وضع فيها المترجم هذه المبادئ التي راعاها عند ترجمته لهذا الكتاب، غير أن الباحث يستطيع - بالنظر في معظم الكتب التي ترجمت في ذلك العصر - أن يعتبرها مبادئ عامة كان يلتزمها غالبية المترجمين في عملهم. قال خليفة أفندي: «قد حاولت مجاراة عبارات الأصل كل المحاولة، وزاولتها كل المزاولة؛ ولذا كانت بعض العبارات في ترجمتي على نسق يبعد بعض الوجوه عن قالب الفصاحة العربية، ويقرب من قالب اللغات الأعجمية؛ لأن المترجم يلزمه أن يكون أسيرا للأصل في تركيبه، ونظمه وترتيبه، والفرع إن لم يقف أثر أصله قل أن نجح في فعله، وربما راعيت أدنى ملاءمة بين التشبيهات وأوجه الاستعارات، ولكن عدلت عن كل تشبيه في الأصل يكون أعجميا محضا، فبدلت بعضا، وحسنت بعضا ...»
10
هذه هي المبادئ التي التزمها خليفة محمود في ترجمته لهذا الكتاب، غير أنه لم يلتزمها وحده، بل يمكننا أن نعتبرها مبادئ عامة تنطبق على معظم ما ترجم المترجمون في عصر محمد علي، وقد رأيت أن أتخير بعض أمثلة من الكتب التي ترجمت في ذلك العصر لمقارنتها بالأصل المنقول عنه، ونقدها والحكم عليها تحت ضوء هذه المبادئ العامة.
وقد راعيت أن تكون هذه الأمثلة مختلف كل منها على الآخر في كل شيء؛ في اللغة التي ترجم عنها، وفي المترجم الذي ترجمه وفي الموضوع الذي ترجم فيه؛ فالمثال الأول قطعة من كتاب الأمير لمكيافلي الذي ترجمه عن الإيطالية إلى العربية الأب رفاييل زاخور، وهو واحد من المترجمين السوريين، والثاني قطعة من كتب الجغرافيا العمومية لمالطبرون الذي ترجمه عن الفرنسية إلى العربية رفاعة الطهطاوي، وهو واحد من خريجي البعثات، والثالث قطعة من كتاب إتحاف الملوك الألبا في تقدم الجمعيات في أوروبا للمؤرخ الإنجليزي «روبرتسون»، وقد ترجمه عن ترجمة فرنسية للكتاب خليفة محمود وهو مترجم من خريجي الألسن.
هذا ولم أوفق للعثور على النص الفرنسي للكتاب الأخير، وهو الذي نقل عنه المترجم وإنما عثرت على النص الإنجليزي الأصلي، فلم أر بأسا في مقارنة الترجمة العربية به.
المثال الأول:
قطعة من الفصل الأول من كتاب الأمير لمكيافلي
II Principe del Maciavelli ، وسنذكر هنا النص الإيطالي وإلى جانبه الترجمة العربية التي قام بها الأب رفاييل، وإذ كانت هذه الترجمة ركيكة الأسلوب، غامضة المعنى، وكان قد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية مترجم مصري آخر هو الأستاذ محمد لطفي جمعة بك، وذلك في مفتتح القرن العشرين (1912)، فقد رأينا أن ننقل نص ترجمته إلى جانب الأصل ونص ترجمة رفاييل؛ ليسهل علينا الحكم على الترجمة الأولى.
ترجمة الأب رفائيل
الرأس الأول: في كم هي أنواع الأميريات وبأيما طرايق تحاز؛ أي يحصل عليها؟
إن كل الأحكام، وكل السيادات تلك التي قد ملكت وتملك سلطة على الناس، كانت ولم تزل إما مشيخات وإما أميريات؛ فالأميريات إما أنها مستورثة، وهذه دم من سادها يكون قد استمر مدة مستطيلة أميرا، وإما أنها مستجدة، ثم إن المستجدة إما أنها كلها جديدة كما كانت أميرية مديولان (كذا) على الأمير فرنسيس سفورزا، وإما أنها كأعضاء مضافة لحكم الوارث ما للأمير (كذا) الذي يحوزها، كمملكة نابولي لملك إسبانيا؛ فإن هذه سيادات هكذا محافزة (كذا) أو معتادة أن تعيش تحت أحكام أمير، أو أنها أميريات اعتادت أن تكون محررة وتحاز إما بقوة أسلحة آخرين أو بأسلحة ناسها خاصة أو بواسطة السعد أو بواسطة الفضل.
النص الإيطالي
Testo del Machiavelli
Tutti gli stati, tutti i diominii che hanno avuto ed hanno imperio spora gli uomini, sono stati e sono o republiche o principati, I principati sono, o ereditari, dé quali il sangue del loro Signore ne sia stato lungo tempo principe; o é sono nuovi’ I nuovi, o sono nuovi tutti, come fu Milano a Francesco Sforza; o sono come membri aggiunti allo stato ereditario del principe che gli acquista, come è il regno di Napoli al re di Spagna. Sono questi domini cosi acquistati, o consueti a vivere sotto un principe, o usi ad essere liberi, ed acquis tansi o con l’armi d’altri o con le proprie, o per fortuna o per virtu.
ترجمة محمد لطفي جمعة
كانت الحكومات التي حكمت الأمم في الأزمان الغابرة، إحدى اثنتين: إما جمهوريات عادلة وإما ملكيات معتدلة، وللملكية نوعان: نوع تحكمه أسرة واحدة عريقة في القدم يرث أفرادها الملك، الواحد بعد الآخر، ونوع حديث التأسيس، وملوكه حديثو العهد بالسلطان؛ ولذلك النوع الأخير صنفان: صنف تكون الممالك فيه حديثة بالكلية كما كانت إمارة «ميلانو» في عهد «فرنشسكو سفورزا»، وصنف يضمه الأمير إلى ما ورثه عن آبائه وأجداده بحق الفتح، مثل إمارة «نابولي» التي ضمها ملك إسبانيا إلى أملاكه.
على أن بعض الممالك التي تقهر ويغلب أهلها على أمرهم، يكون قبل الفتح متعودا حكم أمير من الأمراء، ويكون بعضها حرا مستقلا ووقوع تلك الإمارات في أيدي الفاتح يحدث إما بقوة الحرب، وإما عفوا صفوا.
والقارئ لترجمة رفاييل يستطيع أن يدرك لأول وهلة ما تمتاز به من ركاكة، بل عجمة في الأسلوب؛ والسبب في ذلك كما يتضح من مقارنتها بالأصل أنه تقيد بالمبدأ الأول من المبادئ العامة للترجمة في ذلك العصر، وهو التقيد التام بالأصل؛ فرفاييل في ترجمته لم يفعل أكثر من حذف كل لفظ إيطالي، ووضع لفظ عربي مكانه، وحتى الألفاظ العربية لم يحسن تخيرها؛ فالأمارات عنده «أميريات»، وجديدة أو حديثة عنده «مستجدة» إلخ، ثم هو لم يراع بتاتا أن لكل لغة مميزاتها الخاصة في وضع الألفاظ، وتركيب الجمل وعلاقة كل لفظ بالآخر، وكل جملة بالتي تليها، حتى تتصل المعاني وتنسجم، بل وضع الألفاظ العربية موضع الألفاظ الإيطالية تماما ، فخرجت الترجمة - مع ركاكتها وعاميتها - غامضة غير واضحة ولا مفهومة،
11
وإني لأعتقد أن القارئ لا يستطيع - إن لم يكن تحت يده النص الأصلي أو الترجمة الحديثة - أن يفهم شيئا ما من ترجمة رفاييل، وأنا لا أبالغ في الحكم، فهذه قطعة أخرى من كتاب ترجمة رفاييل، وهو كتاب «قانون الصباغة» تأليف «ماكير» رأيت أن أنقلها وحدها دون ذكر للنص الفرنسي: «إن الحرير حال خروجه من على الشرنق له خشونة ويبوسة صادرة أم صادرتان له عن نوع صموغية حامية مغشاة به ذاتا، ثم وكذلك له لون محمر بصفار، وعلى حسب الاعتيادي غامق جدا أيضا، وهذا نقوله قلما يكون (كذا) حرير بلادنا، هذه ربما كله فخشونة الحرير هذه لا توافق قط مطلقا لأغلب أصناف الأقمشة المتجهز لنسجها، ثم وموافقة لونه الذاتي لا تفيد الألوان ربما جميعها تلك المقصود أخذها منه.»
12
فهل يستطيع القارئ أن يفهم شيئا من هذا الكلام؟ ثم ما هذه التعابير الأعجمية العجيبة: «من على الشرنق»، و«غامق جدا أيضا وهذا»، و«لا توفق قط مطلقا» إلخ ... إلخ.
ولكن لا يظنن أحد أن كل ما ترجم المترجمون السوريون كان بهذه التفاهة والركاكة والغموض، فإن الكتب التي ترجمها عنحوري وفيدال وسكاكيني فيما بعد تختلف كل الاختلاف عما ترجمه رفاييل، والسبب في هذا الاختلاف واضح؛ وذلك أن رفاييل كان أول من عهد إليه بالترجمة من السوريين، وقد ترك وشأنه أثناء الترجمة، فلما ألحق المترجمون الآخرون بمدرسة الطب رأى القائمون بالأمر أن يتفادوا هذه العيوب، فوضعوا التقليد الصالح الذي ذكرناه من قبل وهو تعيين جماعة من شيوخ الأزهر لمراجعة وتصحيح وتحرير ما يترجم المترجمون السوريون.
فإذا كنا لم نفهم شيئا مما نقلناه عن ترجمات رفاييل، وإذا كنا نستطيع أن نفهم الكثير مما ترجم خلفه من المترجمين السوريين، بل ومن المترجمين المصريين، فيجب أن نعترف بالفضل لأولئك المشايخ المصححين.
المثال الثاني:
قطعة من المقالة التاسعة من الجزء الأول من كتاب «الجغرافيا العمومية» لمالطبرون الذي ترجمه رفاعة رافع الطهطاوي، ومعها النص الفرنسي.
الترجمة العربية
اعلم أن قسم إفريقية منذ عصر «هردوط» هو الذي كشف به الأقدمون أقل مما كشفوا لغيره من البلاد؛ وذلك لأن «هردوط» الذي كان سواحا ومؤرخا التقط من مدينة منف ببلاد مصر، ومن مدينة القيروان ببر المغرب جميع الأخبار المعلومة لحكماء مصر، ولليونان المقيمين ببلاد إفريقية، وأما معارف القرطاجيين فلم تصله إلا مقطعة قطعة بعد قطعة؛ فلهذا لم يمد نظره جهة منابع النيل إلا على بعد، وربما مد نظره كذلك أيضا جهة نهر النجير (كذا) وجبل الدرن المسمى جبل أطلس، وأما خارج هذه الحدود فإنه كان يقف عقله عن الحكم عليه بشيء.
ومن هذا الزمن تغير حكم الإقليم المصري، وصار مملكة من ممالك اليونان، فتوجهت غزواته وانكشافاته جهة خليج العرب وبحر الهند، وقد التقط «إيراطسثينيس» من مدينة إسكندرية معارف محررة متعلقة بالتعريجات والانعطافات الكثيرة الموجودة في جريان نهر النيل ببلاد النوبة، وقد عرف أوضح من تعريف هردوط النيل الحقيقي الذي يجيء من الغرب، وهو الذي يسمى الآن بالبحر الأبيض، ثم نهر أسطايوس، الذي هو نيل السودان، ويسمى نهر «أبوي» ثم نهر أسطابوراس وهو المسمى الآن نهر تقازة.
13
النص الفرنسي
14
De toutes les parties du Monde, l’Afrique est celle où les anciens ont fait le moins dé découvertes depuis le siècle d’Hérodote.
Ce voyageur historien avait recueilli à Memphis et à Cyrène les renseignements que possédaient les prêtres égyptiens et les Grecs établis en Afrique; les connaissances des Carthaginois ne lui parvinrent que par fragments: ainsi ses regards pénétrants n’aperçurent que dans un lointain obscur les sources du Nil, le Niger peut-être et le mont Atlas; au-delà de ces limites sa prudence suspend tout jugement.
Depuis cette époque, l’ancienne Egypte, transformée en une monarchie Grecque, dirigeait ses conquêtes et ses decouvertes vers le golfe Arabique et la mer de l’Inde.
Eratos thène avait recueilli à Alexandrie des renseignements trés exacts sur les grandes sinuosités que présente le cours du Nil dans la Nubie; il distingue plus clairement que ne l’afait Hérodote, le vrai Nil venant d’ouest, notre Bahr-el-Abiad, d’Astapus, qui est le Nil d’Abyssinie, le Bahr-el-Azrak ou l’Abava, et l’Astaboras, ou notre Tacazzé.
وهذه القطعة تمثل الخطوة الثانية من خطوات التطور الذي خضعت له الترجمة في عصر محمد علي، فهي لواحد من خريجي البعثات، بل هي للعضو الوحيد الذي تخصص في الترجمة، ومع هذا نلاحظ أن رفاعة كان يخضع للمبدأ العام الذي قررناه، وهو التقيد بالنص الأجنبي تقيدا يخرج الترجمة وفيها شيء من العجمى، حتى ليحس القارئ لأول لحظة أن ما يقرأ نص مترجم، والمترجم الماهر يشعر قارئه دائما أن ما يقرأ نص عربي أصيل، ونحن إذا طبقنا هذا المبدأ على هذه القطعة وجدناه صحيحا إلى حد كبير، انظر كيف ترجم رفاعة هذه الجملة
il distingue plus clairement que ne l’a fait Herodote, le vrai Nil . إنه لم يفعل أكثر من أن حذف كل كلمة فرنسية، ووضع مكانها المعنى العربي الذي تخيره، فأتت الترجمة كما يلي : «قد عرف أوضح من تعريف هردوط النيل الحقيقي»، وهو تعبير بعيد عن التعبير العربي الصحيح، وكان أجدر به - وهو العالم الأزهري - أن يقرب بين الفعل والمفعول، ثم يضع الجملة العرضية في الآخر، فيقول «وقد عرف النيل الحقيقي أوضح من تعريف هردوط.»
وحتى عندما كان رفاعة يبيح لنفسه التصرف في أوضاع أجزاء الجملة الواحدة، لم يستطع صياغتها في أسلوب عربي مقبول؛ فهو مثلا قد قدم بعض ألفاظ الجملة الأولى، وأخر البعض الآخر، ثم أخرجها في النهاية هذا الإخراج: «أن قسم إفريقية من منذ عصر هردوط هو الذي كشف به الأقدمون أقل مما كشفوا لغيره من البلاد.» وكان أقرب إلى الصحة أن يقول مثلا: «لقد كان ما كشفه القدماء من قارة أفريقيا أقل مما كشفوه من أجزاء العالم الأخرى.»
كذلك نلاحظ في ترجمة رفاعة أمورا أخرى، منها: أنه كان متأثرا تأثرا كبيرا بثقافته الأزهرية وبأسلوب الكتب العربية القديمة التي قرأها؛ فهو يبدأ كل فصل بلفظي «اعلم أنه» مع عدم وجود هذين اللفظين في النص الإفرنجي، ومع أنه لا توجد ضرورة ملحة تلزمه باستعمالهما، ومن أمثلة هذا التأثر أيضا أنه يسبق كل مصطلح دال على قطر أو إقليم جغرافي باللفظ العربي التقليدي «بلاد» أو «بر»، فهو يترجم
l’Egypte
ببلاد مصر، و
l’Afrique
ببلاد إفريقية، ويقول «بر المغرب» وهكذا.
ورفاعة في هذه الترجمة لم يدقق التدقيق الكافي عند تخير الألفاظ العربية الصحيحة؛ فتراه يستعمل كلمة «انكشافات» بدل «كشوف»، و«جريان» بدل «مجرى»، و«سواح» بدلا من «رحالة أو سائح»، و«الأقدمون» مكان «القدماء أو القدامى».
وهو أيضا لم يعن العناية الكافية بتخير الألفاظ العربية التي تؤدي المعنى الصحيح لما يقابلها من الألفاظ الفرنسية، فنراه يترجم
Cyrène
بمدينة القيروان. والصحيح أن يترجمها «برقة»، أو يرسمها كما تنطق فيقول «قيرين» أو «قورين» كما فعل أحمد زكي باشا
15
فيما بعد؛ وذلك لأن مدينة القيروان لم تبن إلا في سنة 50ه، وهي إلى هذا بعيدة الموقع عن
Cyrène
التي يقصدها المؤلف، وشبيه بهذا أنه ترجم
le Nil d’Abyssinie
بنيل السودان، بدلا من «نيل الحبشة»، كما أنه ترجم
prêtres
إلى حكماء، وكان يصح أن يقول «كهنة» أو «قسس»، والفعل
avait receuilli
إلى «التقط» والصحيح «جمع».
وفي أحيان أخرى كان رفاعة يترك بعض الألفاظ دون ترجمة، ولا أدري أكان ذلك سهوا أو عن عمد؛ فهو قد ترجم
un lointain obscur
إلى «إلا على بعد». وهذا التعبير إن أدى معنى
un liontain
فإنه لا يحمل البتة ما يشير إلى معنى:
obscur .
كذلك قد أهمل في الجملة الأخيرة لفظ
le Bahr al-Azrak
فلم يشر إليه في الترجمة العربية.
وكان رفاعة يخطئ أحيانا في فهم بعض الجمل، ومثال ذلك أنه في الجملة الآتية:
ainsi ses regards pénétrants n’apercurent que dans un lointain obscur les sources du Nil, le Niger peut-être et le mont Atlas.
قد نفى توجيه النظر إلى منابع النيل، ولكنه أثبته بالنسبة للنيجر وجبل أطلس، فقال «فلهذا لم يمد نظره جهة منابع النيل إلا على بعد، وربما مد نظره كذلك أيضا جهة نهر النيجر، وجبل الدرن المسمى جبل أطلس.» والجملة الأصلية تنفي «توجيه النظر» - على حد قوله - عن منابع النيل، والنيجر، وجبل أطلس جميعا.
وقد ترجم رفاعة هذا الجزء حوالي سنة 1250، أي بعد عودته من فرنسا بنحو ثلاث سنوات، ومع هذا لم يخلص تماما مما آخذه به ممتحنوه من أنه «ربما ترجم الجملة بجمل، والكلمة بجملة»، فهو في هذه القطعة قد ترجم:
par fragments
إلى «مقطعة قطعة بعد قطعة»، وترجم
une monarchie Grecque
إلى «مملكة من ممالك اليونان».
هذه أمثلة لما يمكن أن يوجه إلى هذه القطعة من نقد، ونستطيع أن نوجهه إلى معظم ما ترجم رفاعة، وهو يثبت إلى حد كبير أن ممتحنيه في باريس كانوا على حق حينما أخذوا عليه أنه «قد لا يكون (في بعض الأحيان) في ترجمته مطابقة تامة بين المترجم والمترجم عنه، وأنه ربما كرر، وربما ترجم الجملة بجمل، والكلمة بجملة ...» ولكنه كان دائما - كما قال ممتحنوه أيضا - محافظا على روح المعنى الأصلي، وهذا هو الفرق الواضح بينه وبين مترجم كرفاييل، فإن ترجمة رفاعة - رغم ما بها من عيوب - يمكن أن تقرأ فتفهم، وكان يمكن أن تخرج ترجمته أكثر دقة وإتقانا لو أنها خضعت لمراجعة غيره، ولكن رفاعة كان الوحيد من بين خريجي البعثات - كما كان رفاييل الوحيد من بين المترجمين السوريين - الذين لم تخضع ترجماته لهذه المراجعة، ويمكن أن نلتمس العذر لرفاعة أيضا عن الأخطاء الواردة في هذا الجزء بالذات؛ لأنه ترجمه في مدة وجيزة، في نحو سبعة أشهر.
المثال الثالث:
قطعة من كتاب «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوروبا»، وهو ترجمة خليفة محمود - أحد خريجي الألسن - للجزء الأول من كتاب المؤرخ الإنجليزي
Robertson
وعنوانه:
History of the Reign of Charles the Fifth
وقد ترجمه خليفة أفندي عن ترجمة فرنسية له، غير أنني لم أعثر على هذه الترجمة، وإنما عثرت على الأصل الإنجليزي، فلم أر بأسا من المقابلة بينه وبين الترجمة العربية فيما يلي:
الترجمة العربية
القسم الأول. «في ذكر التقدم الذي حصل في أوروبا بالنسبة إلى الحكومة الداخلية، والقوانين والآداب».
اعلم أنه حصل تغيران عظيمان في الحالة السياسية وأخلاق الملل الإفرنجية، أحدهما نشأ عن تقدم المملكة الرومانية في الشوكة، والآخر صدر عن خراب هذه المملكة أيضا؛ وذلك لأن التولع بالفتوحات لما وصل بالجيش الروماني إلى خلف جبال «ألبه» رأى سائر البلاد التي دخلها مسكونة بأمم خشنية متبربرة، وكان الرومانيون يسمونهم أعجاما، لكنها كانت مستقلة بنفسها، فكانت لإفراطها في الشجاعة تحامي عن أرضها القديمة بقوة عجيبة، ومقاومة غريبة، لكن حسن تربية الرومانيين في التعليم العسكري كان هو السبب في نصرتهم على هؤلاء الأمم، لا كثرة شجاعتهم، ومع ذلك لم تكن هؤلاء الأمم مثل سكان آسيا الذين هم كالنساء في الارتخاء وفتور الهمة، بحيث إنهم بمجرد غلبتهم في واقعة واحدة سلموا أنفسهم ودولتهم لأعدائهم، بل كانوا يأخذون السلاح بهمة وشجاعة خالية عن التعليم العسكري، ولكن لما كانوا أرباب همة عالية حاملة لهم على حب الحرية، والتولع بالاستقلال قامت تلك الهمة عندهم مقام الفنون الحربية، والتدبيرات العسكرية، وفي مدة هذه الحروب الطويلة التي سفكت فيها دماء الأمم كان أحد الجانبين يحارب لأجل الدولة، والجانب الآخر لأجل الحرية، وكانت ولايات أوروبا العظيمة قد تهدمت على التعاقب، وهلك من الأهالي قسم عظيم في ميدان الحرب، وقسم عظيم أيضا وقع أسيرا في أيدي الرومانيين، ولما لم يمكن لمن بقي منهم أن يقاوم العدو دخل تحت طاعة الدولة الرومانية.
النص الإنجليزي “View of the progress of society in Europe with respect to interior government, laws and manners”.
Two great revolutions have happened in the political state, and in the manners of the European nations. The first was occasioned by the progress of the Roman power; the second by the subersion of it. When the spirit of conquest led the armies of Rome beyond the Alps, they found all the countries which they invaded inhabited by people whom they denominated barbarians, but who were nevertheless, brave and independent. These defended their ancient possessions with obstinate valour. It was by the superiority of their discipline, rather than that of their courage, that the Romans gained any advantage over them.
A single battle did not as among the effeminate inhabitants of Asia, decide the fate of a state. The vanquished people resumed their arms with fresh spirit and undisciplined valour, animated by the love of liberty, supplied the want of conduct as well as of union. During those long and fierce struggles for dominion or independence, the countries of Europe were successively laid waste, a great part of their inhabitants perished in the field, many were carried into slavery, and a feeble remmant, incapable of farther resistance, submitted to he Roman power.
قد نتهم في نقدنا لهذا المثال؛ لأننا لا نقارن الترجمة فيه بالأصل الفرنسي الذي نقل عنه المترجم، وإنما نقارنها بالأصل الإنجليزي، ولكننا نرى أن مقارنة من هذا النوع لها قيمتها؛ فهي تبين إلى أي حد تأثر المعنى بعد نقله أكثر من مرة.
وهذه القطعة تمثل الخطوة الأخيرة من خطوات التطور الذي خضعت له الترجمة في عصر محمد علي، وهي تختلف عن القطعتين السابقتين، في أنها خضعت للمراجعة؛ فقد ذكر المترجم في مقدمته أنه كان يرجع دائما إلى أستاذه رفاعة الذي «صححها على أصلها وقابلها كل المقابلة»، ومع هذا فإنا نلاحظ أن المترجم كان - ككل مترجمي العصر - أسيرا للنص الذي ينقل عنه، كما أنه كان - كأستاذه رفاعة - متأثرا بالألفاظ والأساليب المتواترة في الكتب العربية المتداولة في ذلك العصر؛ فهو يبدأ الفصل بقوله: «اعلم أنه»، تماما كما فعل رفاعة، أو كما كان يفعل المقريزي أو ابن خلدون، وهو يستعمل أمثال هذه الألفاظ: التولع، والملل (ترجمة للفظ
nations ) والشوكة، وتحامى عن، ونصرة، وأرباب همة عالية ... إلخ. وهي ألفاظ استعملها الجبرتي ومعاصروه من الكتاب.
كذلك لم يكن خليفة محمود دقيقا في تخير المعاني التي تؤديها الألفاظ الأجنبية، فهو قد ترجم لفظ
revolution
إلى «تغير» مع أن اللفظ الأجنبي يفيد معنى أقوى من معنى التغير، وترجم
the spirit of conquest
إلى «التولع بالفتوحات»، وهو معنى يخالف بعض الشيء المعنى الذي يريده المؤلف.
وكان خليفة محمود يترجم اللفظ الواحد أحيانا بجملة كاملة، ولا عجب فهو تلميذ رفاعة وقد كان يقوم بالترجمة تحت إشرافه، فهو قد ترجم لفظ
barbarians
إلى «خشنية متبربرة، وكان الرومانيون يسمونهم أعجاما»، ونقل:
the superiority of their discipline
إلى «حسن تربية الرومانيين في التعليم العسكري» وترجم
the effeminate inhabitants of Asia
إلى «سكان آسيا الذين كالنساء في الارتخاء وفتور الهمة» إلخ ... إلخ. (6) تأثير الترجمة في اللغة العربية
اضمحل شأن اللغة العربية في العصر العثماني المملوكي، ولم يعد يهتم بها إلا نفر قليل من علماء الأزهر، وحتى هؤلاء العلماء كانوا قد عنوا بالقشور دون اللباب، فغدت كتبهم التي يقرءون شروحا، أو هوامش أو تعليقات، أما المتون والأصول فقد خلفوها وراء ظهورهم، وأما أسلوب الشروح والهوامش والتعليقات وما ألف عامة من كتب ورسائل في هذا العصر فقد ضعف وانحط انحطاطا بالغا؛ لما دخل فيه من ألفاظ عامية، وما أصابه من ركاكة في التعبير.
وفي هذا العصر أيضا انتشرت اللغة التركية في مصر، وفي تاريخ الجبرتي شواهد كثيرة تشير إلى معرفة الكثيرين من المصريين بهذه اللغة، وانتشرت في دواوين الحكومة، وأصبح لها من الأهمية أضعاف ما كان لها في العصر العثماني ذاته، وهذه حقيقة يخطئ في تصويرها بعض المؤرخين والكتاب، فهم يفترضون أن اللغة التركية كانت ذات دولة وشأن كبير في العهد السابق لمحمد علي؛ لأنه كان عهدا عثمانيا، ولأن مصر كانت في أثنائه ولاية عثمانية، ولكن البحث الصحيح يثبت لنا أن اللغة التركية انتشرت في عصر محمد علي انتشارا لم تعرفه في العصر العثماني، وتفسير هذا واضح فيما نرى؛ فإن الحكم في مصر في العصر العثماني لم يكن وقفا على العثمانيين، بل كان يشارك فيه المماليك، وهؤلاء وأولئك كانت تعنيهم أمور البلد الحربية والمالية، أما الدواوين الحكومة فقد كانت تتولاها طوائف من الكتاب المصريين، وكان كل ما فيها يكتب ويسجل باللغة العربية، أما في عصر محمد علي فقد أصبح الوالي هو المسيطر على كل شئون الدولة، وهو وحده الذي يصدر الأوامر، وهو يريد دائما أن يطلع على كل صغيرة وكبيرة، ولغة هذا الوالي الأصلية التي يفهمها هي اللغة التركية، فلا عجب إذن أن انتشرت هذه اللغة في عهده وأصبحت اللغة الأولى، يتقنها ويكتب بها رجال الحكومة والجيش، والصفوة من المصريين.
وفي عصر محمد علي أيضا اعتنى بعض العناية باللغة الشرقية الثالثة - اللغة الفارسية - فكان يعرفها ويستعملها بعض المصريين والأتراك، ولكنها كانت محدودة الاستعمال جدا إذا قورنت باللغتين العربية والتركية، وسيزيد انتشارها كلما تقدمت السنون في عصر محمد علي؛ فقد فرض تعليمها على تلاميذ معظم المدارس الجديدة.
هذه هي اللغات الثلاث كما كانت تسمى في ذلك العصر، أما اللغة الفارسية فلم يكن هناك ما يبرر انتشارها الواسع، ويمهد لغلبتها، فظلت لغة العلية من المثقفين يتعلمونها ليشبعوا شغفهم وروحهم الأدبي فحسب، وأما اللغة التركية فقد زاحمت العربية فأصبحت لغة الصفوة كما ذكرنا، وترجمت إليها معظم الكتب التي ترجمت في عشر السنين الأولى من تاريخ الحركة (1822-1832)؛ وذلك لأنها كانت كتبا حربية، غير أن اللغة التي استطاعت أن تخفي لغة الشعب المصري بأسره بعد الفتح العربي بنحو قرنين من الزمان، وتصبح هي اللغة الأصلية، والتي استطاعت أن تتغلب على اللغة التركية قرونا ثلاثة سابقة، لم يكن ليعجزها رغم ضعفها أن تنتصر هذه المرة أيضا. يقول الأستاذ شفيق غربال بك: «وانتشرت التركية في مصر انتشارا جديدا تبعا لأنها لغة ولي الأمر، ولغة الحكومة، ولغة «الصفوة» من القوم، إلا أن تأثير ذلك في الثقافة المصرية كان ضئيلا، فلم تتأثر العربية بالنماذج التركية تأثيرا يعتد به، اللهم إلا في الرسائل، واستمر الكتاب على اتصالهم القديم بالنماذج العربية الأصلية، ولما ابتدءوا التطلع إلى غيرها من المناهل اتجه نظرهم إلى باريس لا إلى القسطنطينية.»
16
أجل اتجه المصريون بنظرهم إلى باريس، والذي وجههم هو محمد علي.
وقد بدأت اللغة التركية بدءا طيبا لأن التنظيمات العسكرية احتفظ فيها بشيء من الروح والتعليمات، والنداءات، والرتب العثمانية؛ ولهذا ترجمت الكتب الحربية الأولى إلى اللغة التركية، فلما افتتح محمد علي المدارس الأخرى؛ كالطب والهندسة والزراعة والألسن إلخ، وكان جل تلاميذها إن لم يكن كلهم من المصريين، ولغة هؤلاء المصريين هي اللغة العربية، ومن هنا بدأت اللغة العربية نهضتها الجديدة.
حقيقة إن العصر العثماني في مصر كان يشعر في نهايته بنهضة جديدة لهذه اللغة؛ ففي هذه النهاية وضع السيد مرتضى الزبيدي قاموسه «تاج العروس» في مصر، وفي هذه النهاية عني بعض شيوخ الأزهر بالأدب - نثره وشعره - كالشيخ الشبراوي والشيخ إسماعيل الخشاب، وفي شعرهما رقة وحلاوة جديدتان لم يعرفهما شعر العصر العثماني، وفيها أيضا ظهر عالم كالشيخ العطار، ومؤرخ كالجبرتي يعنيان بغير ما كان يعنى به علماء عصرهما.
غير أن هذه جهود فردية لم تكن لتستطيع النهضة باللغة العربية كما نهضت بها حركة الترجمة، التي شملت فنونا وعلوما كثيرة مختلفة، والتي زودت المكتبة العربية بعشرات الكتب الجديدة، ونقلت إليها ألوف المصطلحات والألفاظ التي لم تكن تعرفها.
وهناك أمر آخر له أهميته؛ ذلك أن حركة الترجمة تبعتها عناية كبيرة بالقواميس في مختلف اللغات الشرقية والغربية، فترجمت إلى اللغة العربية قواميس إيطالية وفرنسية وفارسية وتركية، وهذه محاولة قيمة جدا لها أهميتها وخطرها في تعريب العلوم الأوروبية الحديثة وتسهيل الصعاب أمام القائمين بالترجمة، وتزويد اللغة بثروة عظيمة من الألفاظ والمصطلحات.
وحركة القواميس الأجنبية استدعت العناية بالقواميس العربية القديمة، ففي عصر محمد علي بدأ التفكير في طبع القاموس المحيط، وفي سبيل طبعه روجع مراجعة دقيقة على نسخ مخطوطة كثيرة، وعلى النسخة التي طبعت قبل هذا العصر في كلكتا، وفي هذا العصر أيضا، وفي القاهرة، ترجم مستر «لين» هذا القاموس إلى اللغة الإنجليزية، ولكنه في سبيل أن تخرج ترجمته صحيحة مضبوطة اضطر إلى مراجعة كثير من القواميس والمعاجم العربية القديمة؛ كالجمهرة لابن دريد، والتهذيب للأزهري، والصحاح للجوهري والمحكم لابن سيده، والأساس للزمخشري، ولسان العرب لابن منظور، وتهذيب التهذيب للتنوخي، والمصباح للفيومي، وتاج العروس للزبيدي إلخ ... إلخ.
17
فالترجمة إذن أفادت اللغة العربية فائدتين - مباشرة وغير مباشرة - أما الفائدة المباشرة فكانت بنقل الكتب الكثيرة في العلم والفنون المختلفة إليها، وأما الفائدة غير المباشرة فكانت بالعناية بالقواميس الأجنبية والعربية جميعا، وضاعف من هاتين الفائدتين وجود المطبعة، فإن طبع آلاف النسخ من هذه الكتب والقواميس ساعد على انتشارها وتداولها بين أكبر عدد ممكن من القراء، وبهذا بدأت اللغة العربية أولى خطواتها في سبيل النهضة الجديدة، فأخذ الأسلوب ينطلق شيئا فشيئا من قيوده البديعية القديمة، ويصطنع لنفسه طرقا جديدة يعنى فيها بالمعنى دون اللفظ، وبالجوهر دون العرض، ومنذ ذلك العصر خطا المصريون خطواتهم الموفقة في سبيل النهضة باللغة العربية خطوة بعد خطوة إلى أن وصلوا إلى الأوج في عصرنا هذا، ولولا ذلك البدء ما كانت هذه النهاية. (7) تأثير الترجمة في المجتمع المصري
ذكرنا في أول هذا الباب أغراض الترجمة في هذا العصر، وعرفنا أن هذه الأغراض كان تزويد المدارس والتلاميذ والمدرسين بالكتب في مختلف العلوم والفنون الجديدة التي يراد نقلها عن أوروبا؛ ولهذا ترجمت الكتب الكثيرة في الطب والهندسة، والكيمياء والطبيعة، والرياضيات، والجغرافيا والتاريخ والعلوم والفنون الحربية، وقد كان تقليد العصر أن يطبع من كل كتاب ألف نسخة، كان العدد الأكبر منها يوزع على تلاميذ المدارس، فالترجمة في معظمها كانت تتجه اتجاها علميا، وكانت دائرتها محدودة لا تتعدى جدران المدارس، حقيقة كانت هناك دائرة علمية أخرى هي دائرة الأزهر بعلمائه وطلابه، ولكن استفادة هؤلاء بالكتب الجديدة كانت محدودة، فلم يقبل منهم على قراءتها إلا نفر قليلون، وخاصة طائفة المصححين والمحررين الذين شاركوا مشاركة فعلية في نقل هذه الكتب، وعدد آخر قليلون من أمثال الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر، يقول عنه تلميذه رفاعة إنه «كان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية ...»
18
أما الغالبية العظمى من شيوخ الأزهر وطلابه فقد وقفوا من هذه الحركة موقفا سلبيا، بل لا نغالي إن قلنا إنهم وقفوا منها موقفا عدائيا في بعض الأحيان؛ فكانوا يسخرون من المعربين الذين تعلموا في أوروبا ويقولون إنهم تعلموا تعليما سطحيا، «وهم كالطائر الذي يحجل ويتهادى في مشيته، دون أن يحسن الطير»
19
ولم يكن الدافع لهم على أن يقفوا هذا الموقف الدين الإسلامي، أو شيئا من تعاليمه كما فهم بعض الكتاب الأوروبيين، بل كان الدافع الحقيقي - فيما نرى - نوعا من الضيق في التفكير أنتجه جهل القرون السالفة، وعشق غريب للمحافظة على القديم، واعتداد أغرب بما درسوا من كتب، وما كان أقلها، وما كان أتفهها؟
والآن لنستمع إلى ما وصف به مستشرق فرنسي عاش في مصر في عصر محمد علي موقف هذه الغالبية من شيوخ الأزهر من الكتب المترجمة في المدارس الجديدة، هذا المستشرق هو الدكتور «برون»، كتب إلى صديقه «جول مول» سكرتير الجمعية الآسيوية خطابا عن مدارس محمد علي ومطبعته، قال فيه: «وهل تعتقد يا صديقي أنهم (أي شيوخ الأزهر) يقرءون كتبنا (أي الكتب المترجمة)؟ لا - فإنهم يتحاشونها، ولكن من السهل أن يتهم الإنسان قبل أن يستمع، وكتبنا هذه مثلها كمثل التوراة والإنجيل؛ فالشيوخ يتحدثون دائما عنها، وليس بينهم من قرأ منها سطرا واحدا.»
ثم روى «برون» أنه كان مرة في ضيافة الشيخ الجوهري، وفي صحبته صديقه وأستاذه الشيخ محمد عمر التونسي، وكانت المائدة تضم عددا آخرين من شيوخ الأزهر، وفي هذا الاجتماع دارت بين «برون» والشيوخ مناقشة طريفة حول رأيهم في الكتب المترجمة ننقلها كما رواها «برون» نفسه، قال: «وبعد تناول العشاء، وبين القهوة والشبك، تحدثنا عن الدراسة والمدارس، فقال شيخي التونسي بعض كلمات عن الكتب التي يراجعها في مدرسة الطب، فسألني شيخ من الحاضرين عن ماهية الكيمياء الحالية في أوروبا؛ لأنهم هنا لا يفهمون من لفظة «كيمياء» إلا فن تحويل المعادن إلى ذهب، وقد حدثتهم عن الكيمياء حديثا مختصرا، فانبرى واحد من الشيوخ وقال: وما فائدة هذه العلوم الدنيوية، لتخش الله، هذا كل ما يجب على الإنسان، وكأن هذا الشيخ كان يريد بهذه الكلمات أن يزيد في قيمة ورعه، ويبرز شخصيته التقية الدينية، فاتخذت لهجة الجد، وقلت له وماذا تعني بهذه الكلمات البعيدة عن الدين؟ ولم تهين هؤلاء العلماء الحاضرين بيننا، وكل العلماء الذين يعتز بهم الإسلام منذ ظهر في العالم؟ إنك ترى أن دراسة العلوم غير الدينية جهد لا طائل تحته.
وإذن فدراسة الشعراء العرب القدامى وأخبار الجاهلية أمر لا فائدة فيه، بل هي دراسة خطرة، إني أقدم لك ثنائي الخالص لأنك تجيد مدح الجهل، وأنت أيضا - فوق ما تظن - تلميذ من تلاميذ الجاهلية، قل لي، أتعرف ما هو الله؟ أليس الله سبحانه هو المعرفة كل المعرفة؟ وهل تتكرم فتقول لي أيضا، أيهما أقرب للذات الإلهية: الجاهل أم العالم؟» فأجاب الشيخ: «ولكن دراسة العلوم الإنسانية تقود إلى الإثم»، فقال «برون»: «إن دراسة العلوم الإنسانية تؤدي بالإنسان المفكر إلى الإعجاب بأفعال الخالق، وإلى إكبار عجائب العالم والعقل الإنساني، ترى هل أضاع علماء الإسلام وقتهم، وارتكبوا إثما عندما توفروا على دراسة الشعراء الجاهليين لكي يصلوا إلى تفسير القرآن؟ إنهم إن ظلوا مثلك، وحكموا حكمك، فمن منكم كان يستطيع فهم القرآن اليوم؟ وذلك العالم الذي كان يحمل اسما شبيها لاسم ضيفنا المبجل، والذي قضى - على الأقل - عشر سنوات من حياته متنقلا بين القبائل العربية في الصحراء لجمع مفردات اللغة العربية، وفي إنشاء قاموسه «الصحاح»، هذا الجوهري، هل كان مجنونا، أو كان غير مسلم، أو غير مؤمن؟» ثم ختم «برون» حديثه بجملة خطابية، فقال: «سادتي، إني أنصحكم أن تقلدوا هذا الشيخ في خوفكم وخشيتكم من الله، وعند ذلك يمكنكم أن تتأكدوا أن انحلال الإسلام سيخطو خطوات سريعة، إن مدح الجهالة هو أخطر علامة على التأخر الاجتماعي.»
20
وأخيرا ذكر «برون»، أن مضيفه الشيخ الجوهري أبدى سروره بهذا الحديث فكان يرمق مناظره في ابتسام، دون أن يقول كلمة واحدة، أما هذا المناظر فلم يعقب على حديث «برون» بكلمة واحدة، بل انتقل إلى آخر المجلس، ثم انسحب دون أن يشعر أحد بانسحابه.
قد يكون «برون» مبالغا في وصف ما حدث، وقد يكون في حديثه غلو في اتهام الشيوخ وفي اعتداده بنفسه وبعلمه، بل إننا نتهمه بهذه المبالغة وهذه المغالاة؛ فقد كتب في خطاب آخر لصديقه يحدثه عن تفكيره في طبع القاموس المحيط في مطبعة بولاق، وهنا انتهز الفرصة أيضا فبالغ في وصف شيوخ الأزهر بالجهل الشديد، فقال: «وليس هناك في القاهرة ولا في مصر كلها عشرة علماء يتقنون هذا القاموس، بل ليس هناك عشرة علماء يعرفون كيف يستعمل القاموس.» ثم ختم خطابه بجملة فيها تهكم مرير، فقال: فلنعط إذن قاموسا للعلماء
Donnons donc un dictionnaire aux Ulémas .
وهذه مبالغة من «برون»، ينكرها الواقع نفسه، فهو عندما وفد على مصر تتلمذ على شيخين جليلين من شيوخ الأزهر، هما الشيخ محمد عياد الطنطاوي، والشيخ محمد عمر التونسي، وبفضلهما تقدمت معرفته في اللغة العربية، وعندما فكر في طبع القاموس كان كل اعتماده في المراجعة على الشيخ التونسي، وعندما فكر المستشرق الإنجليزي «لين» في ترجمة القاموس للإنجليزية، لم يجد من يعينه على فهمه ومراجعته على القواميس والمعاجم الأخرى غير شيخ من شيوخ الأزهر، هو الشيخ إبراهيم الدسوقي، وهذا هو الشيخ العطار وتلاميذه كانوا من المعجبين بالحركة، القارئين لكتبها، بل لقد كان أنبغ من ظهر من تلاميذ المدارس والبعثات هم من أخذوا من تلاميذ الأزهر وشيوخه. وطائفة المحررين والمصححين للكتب المترجمة كانت كلها من شيوخ الأزهر، ولم يكن انحراف المشايخ عن المدارس الحديثة تاما كما وصفه «برون»، بل لقد ابتعد بعض الشيوخ بأولادهم عن الأزهر، وأدخلوهم المدارس، فأدخل الشيخ سالم عوض القنياتي ابنه سالم سالم (الدكتور سالم باشا سالم فيما بعد) مدرسة الطب، وصحب الشيخ نصر الهوريني ابنه سعيدا (الدكتور سعيد باشا نصر فيما بعد) معه في بعثة سنة 1844 إلى فرنسا.
هذه أمثلة مختلفة لا تنفي اتهام «برون»، ولكنها تخفف من حدته، ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن الدائرة العلمية القديمة، ونعني بها الأزهر وشيوخه، لم تقبل على الكتب المترجمة الإقبال الكافي، بل لقد أقبلت فئة قليلة من الشيوخ على قراءة بعض هذه الكتب وتفهمها، وأعرضت الفئة الكثيرة عنها إما حذرا، وإما كرها - شأن الإنسان في كل مجتمع، ونظرته إلى كل جديد واعتداده بكل قديم - بل لعلنا نستطيع أن نتلمس لهؤلاء المعرضين العذر من أن العدد الأكبر من الكتب المترجمة كان كتبا علمية بحتة، تبحث فن التشريح، أو الأمراض وعلاجها، أو الهندسة الوصفية، أو الكيمياء الحديثة ... إلخ. وفهم هذه العلوم كان يحتاج إلى أسس من المبادئ الأولية لم تتح الفرصة لشيوخ الأزهر لتلقيها.
وهنا قد يدفعنا البحث إلى التساؤل: هل كان محمد علي محقا عندما ترك معاهد العلم القديمة كما هي، وأنشأ إلى جانبها المدارس الحديثة إنشاء جديدا؟ وإذا كان محقا في تصرفه هذا، فهل كان محقا أيضا عندما ترك التعليم القديم على قدمه، أم كان من الأفضل أن يحاول تطعيمه بشيء من البرامج والدراسات الجديدة حتى تستطيع هذه المعاهد القديمة أن تقترب - مع مضي الزمن - شيئا فشيئا من المعاهد الجديدة، وحتى يأتي يوم يتقابل فيه القديم والحديث؟
وأخيرا هل كان ينجح محمد علي لو حاول واحدة من هاتين المحاولتين؟
هذه ألوان من الأسئلة يثيرها البحث، ولكنا نجد الإجابة عليها عسيرة؛ لأن هذه الإجابة تتطلب البحث فيما يجب أن يكون ، لا فيما كان.
وغاية ما نستطيع أن نقرره، أن هذا الجمود من شيوخ الأزهر وقف بهم وبمعهدهم عن السير مع القافلة، فتركزت العناية بالعلوم الحديثة، وبالكتب المترجمة في المدارس الجديدة، وتلاميذها ومدرسيها وخريجيها، وبدءوا بهذا يحتلون مقام الزعامة الفكرية في مصر. يقول الدكتور «برون»: «والآن تنبثق من بين تلاميذنا قوة علمية، هذه القوة لو استمرت تحيا بعض الوقت، فإنها تستطيع أن تتغلب على معتقدات العلماء العلمية وأن تقضي على طريقتهم المدرسية العتيقة، وتلاميذنا الآن - نتيجة للثقة التي أكسبتهم إياها دراساتهم التجريبية في العلوم الصحيحة - يحاربون الكتب القديمة، وآراء العلماء البالية، الذين يعتقدون - في قرارة أنفسهم - أن الرأي القاطع في العلوم، هو ما ورد في كتبهم العربية.»
21
مهدت إذن المدارس الجديدة - وحركة الترجمة بوجه خاص - السبيل «للأفندية» كي يخلفوا «المشايخ» في الزعامة الفكرية في مصر، فماذا فعل «الأفندية» لنشر الثقافة بين الشعب؟
عاشت حركة الترجمة في عصر محمد علي نحو العشرين عاما، كان الجهد في خلالها متجها كله إلى الترجمة فقط، ولم يجد تلاميذ المدارس ومدرسوها، وخريجوها الفراغ الكافي ليستجيبوا للثقافات التي تلقوها، فيؤلفون، كذلك كانت ترجمتهم تصطبغ بالصبغة الرسمية، فهم - إن صح التعبير - كانوا مترجمين محترفين لا هاوين، يترجمون ما يؤمرون بترجمته، لا ما يريدون ترجمته، وما يؤمرون بترجمته كان علما خالصا، لا يستطيع القراء العاديون - على ندرتهم - أن يقرءوه، أو يتذوقوه، وهم إن فكروا في قراءته لا يستطيعون فهمه.
كان الواجب إذن أن يؤلف «الأفندية» للشعب، أو يترجموا له، ولكنهم لم يفعلوا للأسباب السابق ذكرها؛ ولهذا كان تأثير الترجمة - في عصر محمد علي - في المجتمع المصري ضئيلا جدا إن لم يكن منعدما حقيقة لقد خطا محمد علي خطوة واحدة في هذا السبيل عندما أشار بتأليف وترجمة كتابي «كنوز الصحة ويواقيت المنحة» و«الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال» لتثقيف الشعب ثقافة طبية، وقد رأينا كيف أقبل المصريون على قراءة هذين الكتابين حتى أعيد طبعهما مرات، ولكنه لم يتبع هذه المحاولة بمحاولة أخرى، وعندما أنشئت مدرسة الألسن، كانت كتبها التي ترجمت في العلوم الاجتماعية المختلفة من تاريخ ورحلات، وجغرافيا وأدب أقرب إلى ذهن القارئ العادي وفهمه، وكان من الممكن أن تؤثر هذه المدرسة وخريجوها التأثير الطيب في ثقافة الشعب المصري لو امتد بها العمر، ولكنها ألغيت بعيد موت محمد علي، وتشتت خريجوها موظفين في المصالح والدواوين المختلفة، وكانت نكسة شملت عصري عباس وسعيد، ولكن الأثر الأول للمدرسة لم يخمد، ولم يمت، بل كان مستقرا مستجما في نفوس تلاميذها، فلما استؤنفت النهضة في عهد إسماعيل كان هؤلاء التلاميذ هم عدتها وعمدها، فانطلقوا يترجمون من جديد، بل لقد خطوا الخطوة الثانية الطبيعية، فانطلقوا يؤلفون، وعاد إليهم أستاذهم رفاعة فانضووا تحت لوائه يعمل ويعملون من جديد؛ فترجموا معا «قانون نابليون»، وترجم وألف أبو السعود، وخليفة محمود، وصالح مجدي في التاريخ والجغرافيا، وترجم عثمان جلال في الأدب، وألف قدري باشا كتبه الخالدة في القانون، وأنشأ أبو السعود أول صحيفة مصرية أهلية، وهي «وادي النيل».
وفي عهد إسماعيل أيضا وضع رفاعة كل مؤلفاته؛ «كمناهج الألباب العصرية في مباهج الآداب المصرية»، و«المرشد الأمين في تربية البنات والبنين»، و«أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل»، و«التحفة المكتبة لتقريب اللغة العربية ...» إلخ ... إلخ.
التاريخ، الأدب، القانون، الصحافة، هذه هي الطرق التي يستطيع قادة الفكر دائما أن ينفذوا من خلالها إلى نفوس الشعب وعقوله، فينشرون فيها الثقافة العامة، ويخلقون فيها الروح القوية، وقد قام بهذا الواجب تلاميذ الألسن القدماء ولكن في عصر إسماعيل - لا في عصر محمد علي - فهذا الأثر في الواقع - وإن تأخر به الزمن - هو أثر الترجمة في عصر محمد علي، بل لعله أقوى آثارها.
الملاحق
مقدمة
كان إدخال المطبعة إلى مصر حادثا فذا أثر في تاريخها ونهضتها - منذ بدء القرن التاسع عشر حتى الآن - أثرا واضحا قويا، وقد ظل علماء الغرب المعنيون بالبحث في شئون مصر والشرق يرقبون هذا الأثر ويثبتون نتائجه طول النصف الأول من القرن التاسع عشر، فكانت كلما مرت سنوات على المطبعة بادر واحد منهم بإحصاء المطبوعات التي تم طبعها فيها.
نشرت أول قائمة لهذه الكتب في: «تاريخ الإمبراطورية العثمانية، الجزء السادس عشر» تأليف «هامر
Hammer »
1
وفيها إحصاء للكتب التي طبعت في بولاق منذ أنشئت المطبعة (1821-1822) إلى سنة 1830، وعدتها 38 كتابا.
وفي سنة 1831 نشر المستشرق الفرنسي «رينو
Reinaud »
2
قائمة ثانية في المجلة الآسيوية (عدد أكتوبر سنة 1831)، وعددها 55 كتابا، وقد قدم لها «رينو» بمقدمة بسيطة تحدث فيها عن المطبعة وأثرها، ثم ذكر الكتب التي طبعت بعد أن قسمها إلى ثماني مجموعات: الأولى وعددها 11 كتابا في النحو العربي (الآجرومية)، والثانية وعددها ثلاثة كتب في القواميس، والثالثة وعددها ثلاثة كتب في التاريخ (وكلها بالتركية)، والرابعة وعددها أربعة كتب في الدين الإسلامي (منها 3 بالتركية وواحد بالعربية)، والخامسة وعددها أربعة كتب في الأدب والشعر (منها اثنان بالعربية واثنان بالفارسية)، والسادسة وعددها 3 كتب في المعارف العامة، والسابعة وعددها ستة كتب في الرياضيات (منها 3 بالتركية و3 بالعربية)، والثامنة وهي كتابان في العلوم الطبية وهما بالعربية، ثم بقيت مجموعة أخيرة وعددها 19 كتابا في الفنون المختلفة؛ كالزراعة والفنون الحربية والبحرية، فجعلها مجموعة وحدها.
أحصت القائمة السابقة الكتب التي طبعت في بولاق في مدى عشر سنوات من إنشاء المطبعة وعددها 55 كتابا منها نحو العشر كتب مترجمة فقط، ولكن النشاط تضاعف في العشر سنوات التالية.
وفي سنة 1837-1838 زار الدكتور «بورنج»
3
مصر، وكتب تقريره عنها وعن جزيرة كريد الذي نشر في لندن سنة 1840، وقد أورد هذا التقرير قائمة بالكتب التي طبعت في بولاق حتى سنة 1838، وعددها 76 كتابا، ثم أردفها بقائمة أخرى للكتب التي ترجمت ولم تطبع والتي بدئ في ترجمتها ولم تتم بعد، وعددها 29 كتابا، فيكون المجموع 105 كتب.
وفي سنة 1842 أرسل «جول مول
Jules Mohl » سكرتير الجمعية الآسيوية في باريس إلى صديقه «الدكتور برون
Dr. Perron » ناظر مدرسة الطب المصرية يطلب منه أن يعد قائمة جديدة للكتب التي طبعت في بولاق حتى سنة 1840 لنشرها في المجلة الآسيوية، وأعد «برون» القائمة، غير أنه قصرها على الكتب العربية والتركية والفارسية القديمة التي طبعت ولم يضمنها الكتب التي ترجمت، ثم أرفقها بمقال طريف عن مدارس محمد علي ومطبعته، وفي نفس الوقت وصلت إلى المجلة الآسيوية قائمة كاملة بالكتب التي طبعت في بولاق (منشورة ومترجمة) حتى سنة 1842، كتبها وقدم لها المستشرق الفرنسي «بيانكي
Bianchi »، فأهمل «جول مول» القائمة الأولى لنقصها، واكتفى بنشر خطاب
4 «برون» عن المدارس والمطبعة ثم ألحقه بالقائمة التي أعدها
5 «بيانكي»، وعددها 243 كتابا، ومنها يتبين أن نشاط المطبعة بلغ في العشر سنوات الثانية أربعة أمثال ما كان في العشر سنوات الأولى.
وقد لاحظت أن قائمة «رينو» قد تضمنت ما نشر في قائمة هامر، ثم زادت عليها، وكذلك قائمة بيانكي قد تضمنت ما نشر في قائمة «برون»، ثم زادت عليها، غير أن أحدا غير هؤلاء في الغرب أو في الشرق لم يحاول إحصاء الكتب التي طبعت في بولاق بعد ذلك، كما أن المطبعة نفسها وحكومة محمد علي لم تحاولا أبدا طبع قائمة بما طبع في ذلك العصر.
فلما اعتزمت وضع هذه القائمة اعتمدت أولا على القوائم السابق ذكرها جميعا، فاخترت من بينها الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي فقط، وأهملت الكتب القديمة التي نشرت والكتب التي سبق أن طبعت في الآستانة ثم أعيد طبعها في بولاق، ثم وجدت أن ما اخترته ناقص؛ لأن القوائم السابقة لم تكن وافية لأسباب كثيرة، أهمها: (1)
أنها لم تعتمد على وثائق رسمية تثبت كل ما طبع في بولاق فكان الجهد فيها شخصيا واجتهاديا. (2)
أنها وقفت بالإحصاء عند سنة 1842، وقد امتد حكم محمد علي حتى سنة 1849، وقد ترجمت فيما بين هاتين السنتين كتب كثيرة طبع بعضها في عهد محمد علي ولم يتم طبع البعض الآخر إلا في عهد عباس الأول. (3)
إن هذه القوائم عنيت بإحصاء الكتب التي طبعت فقط، وليس فيها بيان بالكتب التي ترجمت وظلت مخطوطة لم تطبع.
ولهذا سعيت لإكمال هذا النقص، فراجعت فهارس دار الكتب المصرية - القديمة والجديدة - وفهارس مكتبة البلدية بإسكندرية، ومعجم سركيس للكتب العربية والمعربة المطبوعة،
6
وقرأت هذه الفهارس وهذا المعجم صفحة صفحة وسطرا سطرا، واستخلصت منها ما ينقص القوائم السابقة - وهو كثير - ثم رتبت ما عثرت عليه في قائمتين: جعلت الأولى منها (وهي المذكورة في الملحق الأول) شاملة للكتب التي ترجمت في جميع العلوم والفنون ما عدا الفنون الحربية والبحرية، وهي التي تتضمنها القائمة الثانية في الملحق الثاني.
وقد عنيت في هذين الملحقين بالتعريف أوضح التعريف بكل ما يتصل بهذه الكتب، فكنت أذكر اسم الكتاب بعد ترجمته، واسمه قبل الترجمة
7
إن وفقت للعثور عليه، واسم المؤلف إن وجدته، واسم المترجم، وأسماء المحررين والمصححين، واللغة التي ترجم عنها واللغة التي ترجم إليها، والمكان الذي طبع فيه، وسنة الطبع، والثمن الذي كان يباع به، وعدد أجزائه وصفحاته، والفن أو العلم الذي يتناوله كل كتاب.
وقد اضطررت - لإثبات هذه البيانات - أن أرجع إلى الكتب المترجمة ذاتها، فرجعت إلى كل ما استطاعت أن تصل إليه يدي، ومع هذا فأنا لا أدعي أن هذه القائمة كاملة، ولكني أستطيع أن أقول إنها أقرب ما تكون إلى الكمال والشمول؛ وذلك لأنني عثرت على نصوص مختلفة في المراجع التي أفدت منها تشير إلى كتب ترجمت في ذلك العصر، ولكنها غير موجودة؛ لأنها لم تطبع، أو لأنها طبعت ثم نفدت نسخها، فليس في دور الكتب نسخة واحدة منها، ومع هذا فقد رأيت - إتماما للفائدة - أن أخصص لهذه الكتب ملحقا ثالثا ذكرت فيه هذه النصوص وما تضمنته.
وقد راعيت في الملحقين الأول والثاني أن أرتب الكتب ترتيبا زمنيا حسب سني الطبع ليسهل تتبع الحركة وتطورها واتجاهاتها، ثم أعقبتها أخيرا بتطبيقات إحصائية.
الملحق الأول
قائمة بالكتب التي ترجمت في عصر محمد علي في جميع المواد ما عدا الفنون الحربية والبحرية.
الملحق الثاني
قائمة بالكتب الحربية والبحرية التي ترجمت في عصر محمد علي.
ملاحظات عامة: (1)
معظم هذه الكتب ترجم عن الفرنسية إلى التركية، والنادر منها ترجم إلى العربية. (2)
لم يذكر على كتاب منها اسم المؤلف، وهذا راجع إلى أن جلها، إن لم يكن كلها، كتب قوانين وتعليمات مما تضعه الحكومات لا الأفراد. (3)
كذلك لم يذكر على هذه الكتب اسم مترجميها إلا في النادر؛ كبعض الكتب التي ترجمها عثمان نور الدين أو أحمد خليل . (4)
كانت اللوحات الإيضاحية الملحقة بهذه الكتب تنشر كما هي في الأصل أي بأرقامها وبياناتها الفرنسية، ولكنها منذ سنة 1252 أصبحت تنشر والأرقام والبيانات مكتوبة بحروف عربية. (1) تعقيبات وتطبيقات إحصائية «بنيت هذه التطبيقات الإحصائية على الجدولين السابقين، وفيهما كل ما استطعت الوصول إليه من بيانات عن الكتب التي ترجمت ولا تزال موجودة، أما إن ظهرت هناك كتب أخرى، فإنه يجب إضافتها وبالتالي يجب تعديل هذه الإحصاءات.» (أ) بيان ما ترجم عن كل لغة وإلى كل لغة في كل علم وفن. *
العلم أو الفن
ط. ع
ف. ع
ف. ت
ع. ت
ت. ع
فا. ع
الجملة
قواميس
1
1
أدب
1
1
2
تربية
1
1
منطق
1
1
تاريخ فلسفة
1
1
تاريخ
8
4
2
14
جغرافيا
3
3
رحلات
2
2
4
جيولوجيا
1
1
رسم خرط ومساحة
3
3
اجتماع
1
1
سياسة ونظم حكم
1
1
2
طب بشري
1
31
2
34
طب بيطري
21
1
22
صيدلة
2
2
طبيعة
1
1
كيمياء ومعادن
3
3
زراعة ونبات
3
3
هندسة
5
2
1
2
10
هندسة وصفية
4
4
جبر
1
1
حساب
4
1
5
حساب مثلثات
2
2
ميكانيكا
3
1
4
هدروليكا
2
2
فنون حربية وبحرية
8
53
3
64
الجملة
3
111
61
9
6
1
191 *
ط: إيطالي، ع: عربي، ف: فرنسي، ت: تركي، فا: فارسي. (ب) بيان ما هو مخطوط وما طبع في المطابع المختلفة من الكتب المترجمة.
مخطوط
4
مطبعة بولاق
171
مطبعة ديوان الجهادية
6
مطبعة مدرسة المهندسخانة
5
مطبعة مدرسة الطب بأبي زعبل
2
مطبعة سراي رأس التين بإسكندرية
2
مطبعة الآستانة
1
المجموع
191 (ج) رسم بياني لتطور حركة الترجمة في مدى ثلاثين عاما (1238-1239 إلى 1268-1269)
يتضح من هذا الجدول أن أكثر الكتب التي ترجمت كانت في الفنون الحربية والبحرية؛ فقد ترجم فيها 111 كتابا، وهذا أمر بدهي لا يحتاج إلى تعليل؛ فالجهود الحربية استنفدت معظم وقت وعناية محمد علي وحكومته، ويلي هذه الفنون الطب البشري؛ فقد ترجم فيه 34 كتابا؛ وذلك للصلة الوثيقة بين مدرسة الطب والجيش، ولأن هذه المدرسة كانت أول مدرسة خصوصية أنشئت في عصر محمد علي، وقد كان لنظارها جميعا عناية خاصة بالترجمة، أما الطب البيطري فقد ترجم فيه 22 كتابا، والعلوم الرياضية بفروعها المختلفة ترجم فيها 31 كتابا.
أما الدراسات الأدبية فلم تلق من العناية قدر ما لقيت العلوم والفنون العملية، ومع هذا فقد كان التاريخ أكثرها حظا فترجم فيه 14 كتابا، وتليه الجغرافيا وما يتصل بها من علوم؛ كالرحلات، والجيولوجيا، وترجمت فيها 8 كتب.
وكانت العلوم النظرية البحتة أقل حظا من غيرها، فترجم في الأدب كتابان، وفي المنطق كتاب، وفي الاجتماع كتاب، وهذا أمر طبيعي تفسره روح العصر، غير أنه لو كان قد امتد الأجل بمدرسة الألسن لكان نصيب هذه العلوم أكبر من هذا النصيب.
كذلك نلاحظ من هذا الجدول أن العدد الأكبر من الكتب المترجمة نقل عن الفرنسية إلى العربية، وتفسير هذا راجع إلى أن طلبة المدارس الخصوصية - عدا المدارس الحربية والبحرية في سنيها الأولى - كانوا مصريين، فكان لا بد أن تترجم لهم الكتب إلى اللغة العربية، ويلي هذا الكتب المترجمة عن الفرنسية إلى التركية وعددها 61 كتابا؛ وذلك لأن معظم الكتب الحربية والبحرية قد نقلت إلى اللغة التركية.
وترجم عن اللغة العربية إلى التركية 9 كتب، وكلها ترجمات عن الفرنسية إلى العربية ثم أعيد ترجمتها عن العربية إلى التركية؛ ليسهل على من لا يفقه العربية من رجال الدولة أو تلاميذ المدارس أو المواطنين استعمالها.
كذلك نقلت ستة كتب من التركية إلى العربية، اثنان منها ترجما أصلا عن الفرنسية إلى التركية، ثم أعيدت ترجمتها عن التركية إلى العربية لنفس الغرض السابق.
وهناك 3 كتب نقلت عن الإيطالية إلى العربية، أولها قاموس، وثانيها في السياسة، وثالثها في الطب، وكلها من ترجمة الأب رفاييل زاخور، وترجع للسنين الأولى من تاريخ الحركة.
وأخيرا هناك كتاب وحيد ترجم عن الفارسية إلى العربية، وهو كلستان سعدي، وترجمه جبرائيل يوسف مخلع بدافع من نفسه لا بدافع من الحكومة.
وفي النهاية نلاحظ أن كتابين من الكتب التاريخية كانا في الأصل باللغة الإنجليزية ولكنهما ترجما إلى العربية عن ترجمة فرنسية، وهما: «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في أوروبا»، و«إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شارلكان»، ويشبههما في هذا كتاب من كتب الطب هو «ضياء النيرين في مداواة العينين».
الملحق الثالث
نصوص مختلفة تشير إلى كتب ترجمت في عصر محمد علي غير ما ذكر في الملحقين الأول والثاني، ولم يرد ذكرها في فهارس دور الكتب أو معاجم الكتب المطبوعة. *** (1)
كتاب اللغات
1
الخمس (سريوس أفندي):
قرر مجلس الجهادية في 25 رجب 1247 / 1832 بناء على التماس سريوس أفندي المترجم طبع الكتاب المشتمل على اصطلاحات اللغات الخمس السابق صدور أمر سعادة أفندينا ولي النعم بطبعه بعد ترجمته وإصلاحه بشرط أن يقوم المترجم بمباشرة طبعه وأن يذهب بذاته لمراجعة تصحيحه بالمطبعة، ويكون بمعيته رجل خبير باللغات الثلاث. (الوقائع المصرية، العدد 348، في رمضان 1247) (2)
تعليمنامه
2
الفرسان (كاني بك، اسطفان أفندي):
في 29 ربيع الثاني 1248 / 1832 قرر مجلس الجهادية إرسال كاني بك أمير الآلاي ليكون في معية أفندينا رئيس المعسكر المنصور، وأيضا القائمقام يعقوب أغا من النخيلة، وتعيين بدلهما من يرى فيهم الكفاءة من رجال الجهادية، ويحال على اسطفان أفندي بقية ترجمة كتاب تعليمنامه الفرسان؛ لمهارته في اللغتين الفرنسية والتركية التي كان مكلفا به كاني بك، وترجم معظمه، وأن يسرع في إتمامه. (الوقائع المصرية، العدد 437، في 9 جمادى الأولى 1248) (3)
ترجمة بقية أجزاء
3
تاريخ نابليون (عزيز أفندي): (أ) في 21 رمضان 1248 أرسل إبراهيم باشا إلى سامي بك يوجب على عزيز أفندي القائم بطبع كتاب نابليون بونابرت الجد والنشاط لإخراج الأجزاء الباقية. (وثائق عابدين، محفظة 243 رقم 153 مكرر، انظر أسد رستم، بيان بوثائق الشام، المجلد الثاني، ص252) (ب) في 8 شوال 1248 أرسل زكي أفندي إلى إبراهيم باشا يفيد أنه أرسل إليه ثلاثة أجزاء أخرى من كتاب تاريخ بونابرت الذي طبع حديثا بمعرفة عزيز أفندي. (عابدين. دفتر 210 رقم 401، انظر أسد رستم، المرجع السابق، م2، ص268 و352) (4)
ترجمة تاريخ نابليون إلى اللغة العربية (حسن أفندي التتار):
وفي الدفتر السابق (210) تحت رقم 402 «إشارة إلى أن حسن أفندي التتار نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية». (أسد رستم، المرجع السابق م2، ص268) (5)
ترجمة أطلس جغرافي عن الفرنسية إلى العربية (الشيخ رفاعة):
صدر أمر من محمد علي باشا إلى وكيل الجهادية في 5 ذي الحجة 1249، يشير بطبع ألف نسخة من كتاب
4
الجغرافيا المترجم من الفرنسية إلى العربية، وكذلك ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية التي تعود على تلامذة المدارس. (أمين سامي باشا، تقويم النيل، ج2، ص419) (6)
كتاب علاج الحيوان :
صدر أمر من محمد علي باشا إلى وكيل الجهادية في 4 ربيع الثاني 1250، بطبع ألف نسخة من كتاب علاج الحيوان المختصة بصنعة البيطرية الذي صار ترجمته من اللغة الفرنسية إلى العربية حسب إنهاء سليمان باشا للمجلس لما فيه من الفائدة والمزايا. (تقويم النيل، ج2، ص425) (7)
قانون المستشفيات:
صدر أمر من محمد علي باشا إلى وكيل الجهادية في 16 جمادى الأولى 1250 بطبع مقدار وافر من قانون المستشفيات الذي تمت ترجمته بعد تنقيحه وموافقته لأصول الحكومة. (تقويم النيل، ج2، ص426) (8)
كتاب المناورات الحربية (جمع وتأليف سليمان باشا الفرنساوي، ترجمة «كاني بك»): (أ) صدر أمر من محمد علي باشا إلى سليمان باشا الفرنساوي في 6 جمادى الآخرة 1250 بأنه صار ممنونا جدا من اهتمامه بجمع وتأليف كتاب المناورات الحربية من كتب أوروبا الشاملة لذلك بقصد بث هذا الفن بين عساكره الجهادية؛ إذ إن ذلك مما كان في حيز فكره؛ لأنه من الأمور المهمة الصالحة الخيرية. ولما كان مرغوب سعادته إعطاءه كاتبا ومترجما من المستعدين قد صدر أمره إلى وكيل الجهادية، وبإتمام هذه الخدمة يتضاعف رضاه عليه، فيرجوه الاهتمام في ذلك. (تقويم النيل، ج2، ص428) (ب) صدر أمر من محمد علي باشا إلى وكيل الجهادية في 6 جمادى الآخرة 1250 بتعيين مترجم وكاتب لسليمان باشا الفرنساوي لترجمته كتاب المناورات الحربية الذي جمعه من عدة كتب، ويشير بتعيين كاني وحسن أفندي القزنجي لانتفاع الآلايات المصرية بانتشار هذا الكتاب. (تقويم النيل، ج2، ص427) (9)
كتاب نظامات وترقيات العساكر:
صدر أمر من محمد علي باشا إلى سليمان باشا الفرنساوي في 28 ذي الحجة 1250، بأنه علم من إفادته وورود أمر من سر عسكر باشا إلى وكيل الجهادية باستصواب ترجمة الكتاب الفرنسي الخاص بنظامات وترقيات العساكر، وبناء عليه يشير بأن تكون ترجمة هذا الكتاب من الأمور المهمة المستعجلة يلزم جمع التراجمة، وحل حبكته، وإعطاء كل مترجم كراس منه لسهولة ترجمته في أقرب وقت. (تقويم النيل، ج2، ص434) (10)
ترجمة كتاب التعريبات الشافية لمريد الجغرافية عن العربية إلى التركية:
قال رفاعة الطهطاوي في مقدمة الترجمة العربية لهذا الكتاب: «وإن شاء الله يترجم من اللغة العربية إلى اللغة التركية حيث تكون ثمرته عامة جلية.» (الكتاب السابق، ص4) (11)
مختصر في صناعة الطباعة بالحجر (عن الفرنسية إلى العربية «الشيخ أحمد العطار»):
قال رفاعة الطهطاوي عند كلامه عن تقرير اللجنة التي امتحنته هو والشيخ العطار أحد المبعوثين معه في سنة 1241 / 1826: «والعطار ... يشتغل بالطباعة على الأحجار ... وكان حاضرا في المجلس فقدم لأهل المجلس عدة عينات مطبوعة بيده على الحجر من تصوير وكتابة عربية وفرنساوية ... ولكنه جاء في فرنسا كبير السن فلم يمكنه أن يصور تصويرا صحيحا خاليا من جميع العيوب ... وقد ترجم مختصرا في صناعة الطباعة بالحجر وكتبها على الحجر وطبعها بيده، وكانت نسخة منه موضوعة على باشتخته مسيو جومار.» (رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز، ص194-195، وقد كان هذا الامتحان في 1246 / 1831) (12)
رسالة في التوليد (عن الفرنسية إلى العربية):
وقد تعلم عدد عظيم منهن (أي من تلميذات مدرسة الولادة) القراءة والكتابة باللغة العربية على وجهها الصحيح، ولم يغفلن دراسة رسالة مؤلفة في التوليد ترجمت إلى هذه اللغة. (كلوت بك، لمحة إلى مصر، ج2، ص636-637) (13)
ترجمة كتاب تنوير المشرق بعلم المنطق (عن العربية إلى التركية «خليفة محمود»): ... وترجمت تأليفا عزيزا، وإن كان وجيزا، سميته: تنوير المشرق بعلم المنطق، طبع ونشر، وبالقبول ظفر، وترجم أيضا من العربية إلى التركية. (إتحاف الملوك الألبا، ترجمة خليفة محمود، ص4، المقدمة) (14)
قانون السفرية الجديد (اسطفان أفندي):
صدر أمر من محمد علي باشا إلى وكيل الجهادية في 15 ربيع الثاني 1250 «بإحالة ترجمة قانون السفرية الجديد على المدعو اسطفان أفندي، والتأكيد عليه بالبدء في ترجمته بعد فراغه من ترجمة كتاب التاريخ السابق إحالة ترجمته عليه من قبل (وهو كتاب روضة العمران).» (تقويم النيل، ج2، ص425) (15)
كتاب روضة العمران:
أزمع محمد علي باشا حوالي سنة 1250 نشر كتاب باللغة العربية، وترجمة له فرنسية، يتضمن بيانات وإحصاءات رسمية عن جهود حكومته في الإصلاح الجديد، وقد ذكر أمين سامي باشا في كتابه تقويم النيل أن هذا الكتاب طبع في بولاق باللغتين العربية والفرنسية في سنة 1253. ولو صح ما ذكره لكان هذا الكتاب المثل الوحيد للترجمة عن العربية إلى الفرنسية في عصر محمد علي، وقد بحثت كثيرا فلم أوفق للعثور عليه أو على ما يثبت وجوده، ثم أرسلت إلى أستاذنا العلامة شفيق غربال بك أستفتيه الخبر اليقين، فذكر لي في خطاب خاص أنه لا يعرف شيئا عن هذا الكتاب، ولكنه يرجح أن يكون قد أفاد من هذه البيانات والإحصاءات الرسمية كل من الدكتور «بورنج» في تقريره عن مصر وكريت، والدكتور «كلوت بك» في كتابه لمحة عامة عن مصر. وفيما يلي نصوص مختلفة تشير إلى الأوامر الصادرة من محمد علي باشا بجمع مادة هذا الكتاب وبترجمته إلى اللغة الفرنسية. (أ) صدر أمر من محمد علي باشا إلى خير الله أفندي ناظر الفابريقات في غرة شعبان 1250 «بتحرير كشف ببيان محال فابريقات البصمخانة والورق، ومعمل الكيمياء بمصر القديمة التي تحت إدارته مع إيضاح العملة والأجزاجية، ورجال المعمل الكيماوي، وماهياتهم، وكيفية تشغيلها وإرساله لدرجه (في تاريخ روضة العمران).» (ب) صدر أمر من محمد علي باشا إلى ناظر مصلحة الحرير في غرة شعبان 1250 «بتحرير كشف ببيان فابريقات الحرير، وورش الصرمخانة وديوان الحرير، وبيان مقدار الشغالة، وكيفية أعمالهم، لدرجه (بتاريخ روضة العمران).» (تقويم النيل، ج2، ص429) (ج) صدر أمر محمد علي باشا إلى محافظ دمياط في غرة شعبان1250 «بتحرير كشف بالعزب وقلاعها، والخبخانات، ودوائر الأرز، والمدقات، والرصيف، التي صار إنشاؤها في عصره، واضح به المقاس طولا وعرضا، وإرساله لضرورة درج ما ذكر (بتاريخ روضة العمران).» (المرجع السابق، نفس الصفحة) (د) صدر أمر من محمد علي باشا إلى نظر الكيلار في غرة شعبان 1250 «بتحرير كشف بمعمل الشمع، وعماله الكائن ببولاق، بكيفية صناعة وعمل هذا النوع، وإرساله لطرفه لذكر ذلك في التاريخ الجاري تأليفه (روضة العمران).» (المرجع السابق نفس الصفحة) (ه) صدر أمر منه إلى فاتح أفندي ناظر المطبعة في15 صفر 1251 «بتحرير كشف ببيان الكتب الجاري طبعها وبعدد الملازم التي تنتهي يوميا، والأنفار الشغالة التي تشتغل في طبعها، مبينا بها العملة الشغالة بالمقاولة أو بالماهية، مع بيان ماهيات المصححين لضرورة ذلك بطرفه.» (المرجع السابق، ج2، ص438) (و) صدر أمر منه إلى حبيب أفندي في 11 جمادى الآخرة 1251 «بجمع حاكيكيان أفندي، وأرتين أفندي ، ويوسف أفندي، واسطفان أفندي، وكاني بك، ومختار بك مدير المدارس، وإجراء ترجمة أربعة أجزاء من كتاب روضة العمران من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية.» (المرجع السابق ص451) (ز) صدر أمر منه إلى مختار بك في 17 المحرم 1253: «قد اطلعت على عبارات ونكت الجزء الشامل للباب الثاني من روضة العمران، وأنه لتباين تلك العبارات لأسلوب السير المتخذ في هذا الوقت، وكذلك لعدم عذوبة عباراته بلغاتنا مثل عبارة «محب النجاح» يرى منه أنها لغة أجنبية؛ فلذلك يرى أن طبع وتمثيل ذلك قابل للاعتراض؛ فلهذا ألزم بإعادته لأجل إدخال العبارات السلسة، وإحالة ذلك إلى جناب نوبار، وإفادته بما يتراءى، وبعد إجراء ما يلزم يجري إعادته لطرفنا ثانيا، إذ بدا بأن تلك العبارات لا يتلاحظ منها مساس، وأن ما أبديناه يترتب عليه عدم فهم كل من اطلع عليه لرقة عباراته، وعمق نكته، وحيث إن تلك الكتب والعبارات واضحة الغاية لأربابها، وأنه سيقع هذا الكتاب في يد الأورباوين، ونكته وعباراته لا يخفى فهمها عليهم، وعلى كل يلزم دقة الالتفات لمنع حصول اللغط في هذا الأمر على ما سبق توضيحه.» (المرجع السابق، ص483) (ح) وقال أمين سامي باشا عن هذا الكتاب: «أهم كتاب طبع بمطبعة بولاق سنة 1253 / 1836 هو كتاب روضة العمران باللغتين العربية والفرنسية شاملا كل التفصيلات التي يعلم منها كيف تأسست إدارات ومصالح القطر المصري؛ كتأسيس المدارس والجندية البرية والبحرية، وإنشاءات السفن والمعامل على اختلاف أنواعها، وإنشاء فروع في أنحاء القطر المصري للأقسام الهندسية والمكاتب الصحية حتى استؤصل الجدري والطاعون.» (المرجع السابق، ص579) (ط) وقد ذكر فيما سبق أسماء مترجمي هذا الكتاب، وجاء في المرجع السابق، ص600 أن رفاعة رافع الطهطاوي اشترك أيضا في ترجمته. (16)
ترجمة الباقي من كتاب تاريخ إيطاليا
5 (حسن أفندي):
أرسل حسن أفندي - المترجم - إلى إبراهيم باشا في 9 جمادى الآخرة 1251 «يعرض أنه أنجز الباقي من ترجمة كتاب تاريخ إيطالية». (عابدين، محفظة 252، رقم 20، انظر أسد رستم، بيان وثائق الشام، م3، ص52) (17)
كتاب في مناورات الطوبجية والسواري والبيادة:
بعث إبراهيم باشا إلى سامي بك في 7 شوال 1251 رسالة «تبحث في ترجمة كتاب أفرنسي في مناورات الطوبجية والسواري والبيادة». (عابدين، محفظة 252، رقم 109-203 مكرر، انظر أسد رستم، المرجع السابق، م3، ص83) (18)
كتاب الفنون الحربية:
صدر أمر إلى موطش باشا في 14 ربيع الثاني 1253 بأنه بناء على طلبه قد صدر أمره (محمد علي باشا) لناظر المدارس بطبع 1000 نسخة من الكتاب الحاوي لفنون البحرية، وإرسال ذلك عند ختام الطبع إليه لتوزيعه على أربابه بالثمن. (تقويم النيل، ج2، ص486)
ذكر الدكتور «بورنج
Bowring » في ص144 من تقريره المطبوع في لندن 1840 / 1255 أن الكتب الآتية قد تمت ترجمة بعضها، وبدئ في ترجمة البعض الآخر: (19)
كتاب في الحساب (ترجمة إيديه وحنا مسرة):
Arithmatic, translated by M. M. Aidé et Hanna: Massara . (20)
كتاب في الطبيعة (يترجمه فايد):
vols . (21)
كتاب في الميكانيكا (تأليف «لوس» و«بيتانكور»، يترجمه «أحمد طايل»):
Mécanique de Laus et Betancourt. 1 vol . (22)
موجز في الطوبغرافيا (تأليف «توليه»، يترجمه «إبراهيم رمضان»):
Manuel de Topographie de Thiellet, 1 vol . (23)
كتاب في المنشآت (تأليف «نافيه»، يترجمه «أحمد دقلة»):
Cours de Construction, de Navier, 1 vol . (24)
مقتبسات من كتاب «دوماس» في الكيمياء (يترجمه «أحمد فايد»):
Chimie de Dumas (extracts) 6 vols . (25)
الجغرافيا الطبيعية (تأليف «لاكروا»، يترجمه «أحمد دقلة»):
La Croix, Géographie Plysique, 1 vol . (26)
قطع الصخور (تأليف «دويو»، يترجمه «محمد بيومي»):
Duillet, Coupe de Pierres, 1 vol . (27)
كتاب في الفحم الحجري (تأليف «ديو»، يترجمه «محمد بيومي»):
Duillet, Charpente, 1 vol . (28)
رسالة في الحرارة (تأليف «بيتيه»):
Traité de la Chaleur, de Pietot, 2 vols . (29)
رسالة في الضوء (تأليف «بيتيه»):
Traité de l’Eclairage, de Pietet, vol. 1 . (30)
رسالة في حفر المناجم (تأليف «برار»):
Traité d’Exploitation des mines, par Brard, 1 vol . (31)
كتاب في التطبيق العددي (تأليف «جريمييه»، يترجمه «أحمد دقلة»):
Cours d’Application Numérique, par Gremilliet, 1 vol . (32)
كتاب في الكيمياء (تأليف «تونار»):
Chimie de Thonard . (33)
كتاب في الكيمياء (تأليف «شابتال»):
Chimie de Chaptal . (34)
كتاب في الكيمياء (تأليف «جراي»):
Chimie de Gray . (35)
جريدة المعارف العامة أو المتداولة:
Journal des Connaissances Usuelles . (36)
موجز في المنتجات الكيميائية:
Manuel des Produits Chimiques . (37)
موجز في صناعة الفحم الحجري:
Manuel de Charpentier . (38)
صناعة الحديد (تأليف «كارستون»):
Metallurgie du Fer (Karston) . (39)
علم الخراطة:
Science du Tourneur . (“Bowring Op. Cit. p. 144.”) (40)
رسم محاربة نابليون («باقي بك» عن الفرنسية إلى العربية):
صدر أمر من محمد علي باشا إلى باقي بك في 17 جمادى الآخرة 1256 بترجمة رسم محاربة نابليون من الفرنساوي للعربي بنفسه، والرسم المذكور من وضع المسيو «بون قور». (تقويم النيل، ج2، ص508) (41)
ترجمة التقرير المرافق للرسم السابق (إلى التركية «كاني بك»):
صدر أمر منه إلى كاني بك في 17 جمادى الأولى 1256 «بما أنه سيرسل له المسيو «بون قور» رسم محاربة نابليون فيلزم ترجمة التقرير الذي يرسل مع ذلك الرسم إلى اللغة التركية بنفسه دون أن يأمر أحدا بترجمته، ويرسل سريعا لطرفه.» (تقويم النيل، ج2، ص507)
وذكر مسيو «بيانكي» في مقدمة قائمته أن الكتب الآتية كانت تحت الترجمة في سنة 1842 / 1258. (42)
ترجمة عربية لمجموعة مؤلفات «منتسكيو»:
Une traduction en arabe des oeuvres complètes de Montesquieu . (43)
كتاب في التشريح الوصفي (تأليف «كروفييه»، يترجمه «الشباسي»):
L’Anatemie Descriptive de Cruveillier . (44)
فن التشريح (تأليف «لوت»، يترجمه «الشباسي»):
L’art de disséquer, par Lauth . (45)
الجزء الرابع من قاموس القواميس الطبية (تأليف «فابر»):
La quatrième livraison du Dictionnaire des Dictinnaires de Médscine, par Fabre . (46)
كتاب عطار الملوك (عثمان جلال):
وكنت قبل هذه السنة (1261) ترقيت إلى قلم الترجمة، وترجمت فيها كتابا يسمى «بعطار الملوك»، وهو في العطريات من مياه وزيوت وأدهان وخلاصات. (من حديث عثمان جلال عن نفسه - الخطط التوفيقية - ج17، ص63)
كتب ترجمها صالح مجدي بين سنتي 1260 و1265:
قال علي مبارك باشا: «وكنت قد تعينت في سنة ستين التي التحق هو (أي صالح مجدي) فيها بتلك المدرسة (المهندسخانة) للسفر مع عدة من أمثالي إلى مملكة الفرنسيس لتكميل العلوم الرياضية، فلما رجعت إلى مصر بعد خمس سنين وجدته قد وصل إلى رتبة يوزباشي، وأخبرني أنه أحرزها سنة اثنتين وستين، وأنه عرب في هذه المدة عدة كتب في فروع الرياضيات منها: (47)
كتاب ميكانيكا نظرية. (48)
كتاب ميكانيكا عملية. (49)
كتاب أدروليكا. (50)
كتاب حساب الآلات. (51)
كتاب طبيعة. (52)
كتاب هندسة وصفية. (53)
كتاب في حفر الآبار. (54)
رسالة في الأرصاد الفلكية تأليف الشهير «أرجو».» («علي مبارك»، الخطط التوفيقية، ج8، ص23)
كتب ترجمها صالح مجدي بين سنتي 1266 و1270:
قال علي مبارك باشا «ولما أحيلت علي عهدتي نظارة المهندسخانة وما معها سنة ست وستين، كان لي المترجم (أي صالح مجدي) رفيقا، وقد ترجم في تلك المدة عدة كتب في الرياضة منها: (55)
كتاب في الحساب. (56)
كتاب في الجبر. (57)
كتاب في تطبيق الجبر على الأعمال الهندسية. (58)
كتاب في حساب المثلثات. (59)
كتاب في الهندسة الوصفية. (60)
كتاب في قطع الأحجار والأخشاب.
وهي كتب جار عليها العمل إلى الآن في المدارس، إلخ.» (المرجع السابق، ص23-24)
كتب ترجمها عبد الله أبو السعود: (61)
وله كتاب في الكيمياء الزراعية. (62)
وبعض رسالة في الزراعة. (63)
وأخرى من قصة «جليبيلاس المشهور (؟)».
كتب ترجمها أو كان يترجمها تلاميذ مدرسة الألسن
6
في أواخر سنة 1260: (64)
كتاب تطبيق فنون للكيمياء (المترجم: واطي مصطفى درويش أفندي وسيد حفناوي أفندي وعلي عمر أفندي ومصطفى حسين أفندي وعطا علي أفندي). (65)
تاريخ الدولة العربية (سيد حفناوي أفندي وعلي عمر أفندي ومصطفى حسين أفندي وعطا علي أفندي). (66)
انقلابات الكرة الأرضية (حسن المصري أفندي). (67)
الرحلة الحبشية (سعد نعام أفندي ومحمد زيور أفندي). (68)
تربية الحيوانات (محمد زيور أفندي). (69)
كتاب المعامل (سيد عمارة أفندي). (70)
تاريخ القرون المتأخرة (مصطفى سيد أحمد أفندي). (71)
الأدبيات العملية (مصطفى رضوان أفندي). (72)
سكان البادية (حسن علي جلبي أفندي). (73)
كتاب الزراعة (عبد اللطيف أفندي). (74)
الرحلة إلى الجهات (أحمد صفي الدين أفندي). (75)
كتاب التاريخ القديم (لاظ محمد أفندي). (76)
عجائب الجهات «الدنيا» (محمد الطيب أفندي). (77)
فهرست الأزمنة (سيد عمارة أفندي). (78)
سياحة انكرسيس جوان في بلاد اليونان (عبد الرحمن أفندي، وإبراهيم مرزوق أفندي، ومنصور عزام أفندي، ومصطفى سيد أحمد أفندي، وإبراهيم البياع أفندي، ومصطفى رضوان أفندي، وحسن علي جلبي أفندي، وإبراهيم ستوت أفندي، وعبد اللطيف أفندي، وأحمد صفي الدين أفندي، ومحمد الطيب أفندي، وعلي سلامة أفندي).
كتب ترجمت في الفنون البحرية: (79)
فن الحرب البحري (ترجمة جركس محمود قبودان «محمود نامي باشا»). (80)
مقياس السفائن (ترجمه عبد الحميد الديار بكرلي بك). (81)
قانون البحرية (محمد شنان أفندي «بك»). («سرهنك باشا»، حقائق الأخبار، ج2، ص48) (82)
رسالة تشتمل على مفردات اللغات الثلاث: العربية والتركية والفارسية (محمود خليفة أفندي).
نشر في الوقائع المصري ما يلي: «إن اليوزباشي محمود خليفة أفندي المتخرج من مدرسة الألسن بالأزبكية قد ألف رسالة تشتمل على مفردات اللغات الثلاثة العربية والتركية والفارسية، فصدر الأمر بطبع ما يلزم منها على نفقة الميري وإعطاء الأفندي المومى إليه ربحها ليحصل بذلك على السرور وينال الحظ الموفور.» (الوقائع المصرية، العدد 122، بتاريخ 9 شعبان 1264) (83)
الشذور الذهبية
7
في المصطلحات الطبية:
حوالي سنة 1840 أحضر «كلوت بك» قاموس القواميس الطبية تأليف «فابر»، وأمر جماعة من الأطباء المصريين بترجمته، ثم قام على تصحيحه وتحريره بعض المشايخ المصححين، ثم أضاف إليه الشيخ محمد عمر التونسي الألفاظ والمصطلحات الواردة في كتب الطب العربية القديمة تنفيذا لإشارة الدكتور «برون»، ونسخة هذا الكتاب الخطية لا زالت محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس، ومنها صورتان شمسيتان في دار الكتب الملكية بالقاهرة.
وحوالي سنة 1910 عهدت وزارة المعارف العمومية إلى الدكتور أحمد عيسى بك بطبع هذا القاموس، فطبع منه في سنة 1914 مائة صفحة فقط، ثم تركه فبقي حتى اليوم ينتظر من يعنى بنشره. (84)
ترجمة تقرير الدكتور بورنج:
أرسل محمد علي إلى ابنه إبراهيم باشا رسالة وجيزة بتاريخ 7 جمادى الآخرة سنة 1256 «تفيد أن ترجمة بقية كتاب الدكتور بورنج تمت، وأنها أرسلت إلى السر عسكر ليطلع عليها».
8 (85)
ترجمة مقدمة ابن خلدون إلى اللغة التركية:
9
عني بترجمتها إبراهيم باشا لتدرس لأولاده، كتب يوحنا بحري بك إلى حسين باشا ينوه «بأهمية تاريخ ابن خلدون، ويذكر المساعي التي أمر الجناب العالي ببذلها لاستنساخه عن نسخ المغرب ونقله إلى التركية، ثم يرجو التفضل بإرسال ما ترجم منه إليه كي يمرن أولاده عليه ويعلمهم أصوله».
10 (86)
ترجمة مجموع الشيوخ الجزائرلي في مذهب أبي حنيفة إلى اللغة التركية (ترجمة زائد أفندي):
قال محمد عثمان جلال في ترجمته لنفسه: «ندبت سنة 1261 لتعليم اللغة الفرنساوية لرجل في الديوان الخديوي يسمى زائد أفندي، كان العزيز قد استخدمه لترجمة مجموع الشيخ الجزائرلي في مذهب أبي حنيفة بالتركية.»
11
الملحق الرابع
نموذج لتوزيع الكتب على المترجمين في مدرسة الألسن (نقلا عن وثائق عابدين، دفتر 2098 رقم 24 و25، الحجة سنة 1360).
1 ***
من مدرسة الألسن إلى ديوان المدارس:
ترجم الأفندية المذكورون الكتب الموضحة، وأتموا ترجمتها في المواعيد المحددة، وجار الآن تصحيح بعض هذه الكتب ومراجعتها؛ ولذلك وزعت كتب أخرى على الأفندية لترجمتها بالمواعيد المذكورة.
كشف ببيان أسماء الأفندية الذين أتموا ترجمة ما بأيديهم من الكتب، واستلموا كتبا غيرها لترجمتها:
واطي مصطفى درويش أفندي:
أتم ترجمة الجزء الأول من كتاب تطبيق فنون الكيمياء وسلم الجزء السادس من الكتاب المذكور بميعاد محدد مدته 14 شهرا.
سيد حفناوي أفندي:
أتم ترجمة الجزء الثاني من الكتاب المذكور، وسلم كتاب تاريخ الدولة العربية لترجمته بميعاد تسعة أشهر.
علي عمر أفندي:
أتم ترجمة الجزء الثالث من كتاب الكيمياء المذكور وسلم الجزء الرابع من كتاب تاريخ الدولة العربية لترجمته بميعاد عشرة أشهر.
مصطفى حسين أفندي:
أتم ترجمة الجزء الرابع من الكتاب المذكور، ويسلم الجزء الثاني من كتاب تاريخ الدولة العربية لترجمته بميعاد عشرة أشهر.
عطا علي أفندي:
أتم ترجمة الجزء الخامس من الكتاب المذكور، وسلم الجزء الثالث من كتاب الدولة العربية لترجمته بميعاد عشرة أشهر.
حسن أفندي المصري:
سلم «انقلابات الكرة الأرضية» لترجمته بميعاد خمسة أشهر ونصف.
عبد الرحمن أفندي:
سلم الجزء السادس من تاريخ سياحة أنكرسيس جوان في بلاد اليونان لترجمته بميعاد سبعة أشهر ونصف شهر.
إبراهيم مرزوق أفندي:
سلم الجزء الثالث من الكتاب المذكور لترجمته بميعاد ثمانية أشهر.
منصور عرام أفندي:
سلم الجزء الرابع من الكتاب المذكور لترجمته بميعاد أحد عشر شهرا.
سعد نعام أفندي:
أتم ترجمة كتاب الرحلة الأمريكية، وسلم الجزء الأول من كتاب الرحلة الحبشية بميعاد عشرة أشهر.
محمد زيور أفندي:
أتم ترجمة كتاب تربية الحيوانات، وسلم الجزء الثاني من كتاب الرحلة الحبشية بميعاد 10 أشهر.
سيد عمارة أفندي:
أتم ترجمة الجزء الأول من الكتاب الخاص بالمعامل، وسلم فهرست الأزمنة لميعاد 14 شهرا.
مصطفى سيد أحمد أفندي:
أتم ترجمة الجزء الثاني من تاريخ القرون المتأخرة، وسلم الجزء الثاني من كتاب تاريخ رحلة أنكرسيس جوان لبلاد اليونان لميعاد خمسة أشهر.
إبراهيم أفندي البياع:
أتم كتاب رحلة بلاد الهند، وسلم الجزء الثاني من كتاب أنكرسيس جوان المذكور لميعاد ستة أشهر.
مصطفى رضوان أفندي:
أتم كتاب الأدبيات العلمية، وسلم الجزء الأول من كتاب أنكرسيس جوان المذكور لميعاد خمسة أشهر.
حسن علي جلبي أفندي:
أتم ترجمة الكتاب الذي يبحث عن سكان البادية (الفلوات)، وسلم الجزء الأول من كتاب أنكرسيس جوان.
إبراهيم ستوت أفندي:
سلم الجزء الرابع من كتاب أنكرسيس جوان لميعاد خمسة أشهر.
عبد اللطيف أفندي:
أتم ترجمة الجزء الأول من كتاب الزراعة، وسلم الجزء الخامس من كتاب أنكرسيس جوان لميعاد ستة أشهر.
أحمد صفي الدين أفندي:
أتم ترجمة الرحلة إلى الجهات، وسلم الجزء الخامس من كتاب أنكرسيس جوان لميعاد خمسة أشهر.
لاظ محمد أفندي:
أتم ترجمة الجزء الأول من كتاب التاريخ القديم وسلم الجزء الخامس من الكتاب المذكور لميعاد ثمانية أشهر.
محمد الطيب أفندي:
أتم ترجمة كتاب عجائب الجهات «الدنيا»، وسلم الجزء الرابع من كتاب تاريخ رحلة أنكرسيس جوان لبلاد اليونان بميعاد ثمانية أشهر.
علي سلامة أفندي:
سلم الجزء الثالث من كتاب أنكرسيس جوان بميعاد عشرة أشهر.
الملحق الخامس
بعض السنوات الهجرية وما يوافق أوائلها في التقويم الميلادي 1213-1270 / 1798-1853.
السنة الهجرية
ما يوافق أولها في التقويم الميلادي
1213
15 يونيو 1798
1214
5 يونيو 1799
1215
25 مايو 1800
1216
14 مايو 1801
1217
4 مايو 1802
1218
23 أبريل 1803
1219
13 أبريل 1804
1220
1 أبريل 1805
1221
21 مارس 1806
1222
11 مارس 1807
1223
28 فبراير 1808
1224
16 فبراير 1809
1225
6 فبرير 1810
1226
26 يناير 1811
1227
16 يناير 1812
1228
4 يناير 1813
1229
24 ديسمبر 1813
1230
14 ديسمبر 1814
1231
3 ديسمبر 1815
1232
21 نوفمبر 1816
1233
11 نوفمبر 1817
1234
31 أكتوبر 1818
1235
20 أكتوبر 1819
1236
9 أكتوبر 1820
1237
28 سبتمبر 1821
1238
18 سبتمبر 1822
1239
7 سبتمبر 1823
1240
26 أغسطس 1824
1241
16 أغسطس 1825
1242
5 أغسطس 1826
1243
25 يوليو 1827
1244
14 يوليو 1828
1245
3 يوليو 1829
1246
22 يونيو 1830
1247
12 يونيو 1831
1248
31 مايو 1832
1249
21 مايو 1833
1250
10 مايو 1834
1251
29 أبريل 1835
1252
18 أبريل 1836
1253
7 أبريل 1837
1254
27 مارس 1838
1255
17 مارس 1839
1256
5 مارس 1840
1257
23 فبراير 1841
1258
12 فبراير 1842
1259
1 فبراير 1843
1260
22 يناير 1844
1261
10 يناير 1845
1262
30 ديسمبر 1845
1263
20 ديسمبر 1846
1264
9 ديسمبر 1847
1265
27 نوفمبر 1848
1266
17 نوفمبر 1849
1267
6 نوفمبر 1850
1268
27 أكتوبر 1851
1269
15 أكتوبر 1852
1270
4 أكتوبر 1853
كلمة عن المراجع
لا زال الكثير من وثائق عصر محمد علي مودعا في سراي عابدين، وقد كنت أتمنى أن تتاح لي الفرصة كي أرجع بنفسي إلى هذه الوثائق، لولا وجودي في الإسكندرية أثناء قيامي بهذا البحث، ومع هذا فأنا لم أهمل الرجوع إليها، بل أفدت منها ولكن بطريق غير مباشر؛ ذلك أن الكثيرين من الباحثين نشروا العدد الأكبر من هذه الوثائق، كما فعل المرحوم أمين سامي باشا في تقويم النيل، والدكتور أسد رستم في مجلداته الأربع الموسومة باسم «بيان بوثائق الشام»، كذلك أفاد الدكتور أحمد عزت عبد الكريم من هذه الوثائق في كتابه عن «تاريخ التعليم في عصر محمد علي»، ونقل فيه فقرات كثيرة منها.
وأنا باستعانتي بهذه الكتب، أعتبر أنه لم يفتني الكثير مما يخدم الموضوع أو يعين على كتابة البحث.
وقد رجعت أيضا إلى الكتب العامة - عربية أو معربة أو أجنبية - التي أرخت لعهد الحملة الفرنسية أو لعهد محمد علي في نواحيهما العامة أو الخاصة.
وكان أكثر اعتمادي فيها على كتاب «عجائب الآثار» للجبرتي، وخاصة عند كتابة تاريخ الترجمة في عهد الحملة، وكتب الدكتور أحمد عزت عبد الكريم عن تاريخ التعليم في عصور محمد علي وعباس وسعيد وإسماعيل؛ فقد أفدت منها الكثير جدا للصلة الواضحة بين موضوعي التعليم والترجمة.
وعند التأريخ للمترجمين والمحررين كان عمدتي الأول كتاب الخطط التوفيقية الجديدة لعلي مبارك باشا. ولا غرو فهو مؤرخ معاصر للحركة ورجالها، ولمخطوطة «حلية الزمن بمناقب خادم الوطن» - رغم صغرها - قيمة كبيرة جدا لكل من يريد الترجمة لرفاعة وتلاميذه؛ وذلك لأن مؤلفها - السيد صالح مجدي بك - كان من أقرب تلاميذ رفاعة إليه، وهو أيضا من أنبغ خريجي الألسن ومن أكثرهم إنتاجا في الترجمة.
وقد كان للمقالات والأبحاث التي نشرت في المجلات العلمية المختلفة أثر كبير في إيضاح كثير من نواحي البحث الغامضة، وأهم هذه الأبحاث البحث الذي نشره «المستر دن» في مجلة الجمعية الآسيوية بلندن (عدد يوليو 1940) عن الطباعة والترجمات في عصر محمد علي، وهو - فيما أعلم - الكاتب الوحيد الذي سبقني إلى الكتابة عن هذا الموضوع، غير أن ما كتبه - رغم قيمته - قليل - كما وكيفا - كما أنه قنع بالرجوع إلى المصادر الثانوية؛ كجرجي زيدان، وسركيس، ومقالات إسكاروس في الهلال؛ ولهذا خرج بحثه وبه بعض الأخطاء التي ما كان يقع فيها لو أنه رجع إلى الكتب المترجمة نفسها.
وللأستاذ شارل بشاتلي مقال قيم ترجم فيه للأب روفائيل زاخور ترجمة وافية، وقد اعتمدت عليه اعتمادا كبيرا عند كتابتي عن جهود هذا الرجل في الترجمة.
وللوقائع المصرية أهمية كبيرة لكل من يؤرخ لأي ناحية من نواحي عصر محمد علي؛ فهي سجل لكثير من أوامر الباشا وإصلاحاته، وقد رجعت للأعداد الموجودة منها ما بين سنتي 1244 و1264، وأخذت عنها الشيء الكثير.
وأنا أعتقد أنني لو قنعت بكل هذه المراجع، وأقمت عليها بحثي، لخرج هذا البحث ناقصا مشوها؛ لأن المصادر الأولى لمثل هذا البحث - في نظري - هي الكتب التي ترجمت في تلك العصر؛ ولهذا كانت الخطوات الأولى من عملي هي البحث عن هذه الكتب، والاطلاع عليها، وقد عانيت في هذا السبيل كثيرا لضياع الكثير منها، غير أنني لم أترك كتابا عثرت عليه منها إلا تصفحته وأخذت عنه، وقد كان للمقدمات والخاتمات التي كتبها الشيوخ المحررون لهذه الكتب قيمة كبيرة جدا في بيان الكثير من أغراض الترجمة وأسماء المؤلفين والمترجمين، والمصححين، وسنوات الطبع، ومكانه، وطريقة الترجمة ... إلخ.
وهناك كتب كثيرة مما ترجم في عصر محمد علي لا زالت مخطوطة. أهم هذه الكتب ترجمة الأب رفائيل لكتاب الأمير، وهي محفوظة في دار الكتب المصرية، وقد رجعت إليها عند الكتابة عن هذا الكتاب والأسباب الدافعة لترجمته، ورأي محمد علي فيه، وقد سبقتني بالاطلاع على هذه المخطوطة الآنسة «ماريا نللينو»، ولها مقال طيب نشرته في المجلة الإيطالية «الشرق الحديث» (سنة 1931)، وقارنت فيه بين ترجمتي رفائيل والأستاذ لطفي جمعة بهذا الكتاب، وقد جاءت في مقالها هذا بمعلومات جديدة قيمة أفدت منها كثيرا عند كتابة البحث.
وأخيرا رأيت أن بحثا كهذا يعتبر أبتر ناقصا إذا لم يلحق به ثبت كامل للكتب التي ترجمت في ذلك العصر، وقد بذلت الجهد لكي يكون إحصائي شاملا بقدر الإمكان، فرجعت للمحاولات القليلة التي سبقتني في هذا السبيل؛ كقوائم: «هامر»، و«رينو»، و«بورنج»، و«بيانكي»، واضطررت لإكمال ما بها من نقص أن أراجع معجم سركيس، وفهارس المكتبة البلدية بالإسكندرية، وفهارس دار الكتب المصرية - القديمة والجديدة - ورقة ورقة، وسطرا سطرا، وقد كان في هذا من الجهد المضني ما فيه.
ومع هذا فقد عثرت على نصوص تشير إلى كتب ترجمت في عصر محمد علي، غير أنني لم أوفق للعثور على هذه الكتب، فاكتفيت بإثبات النصوص ومراجعها في ملحق خاص بها.
ولإيضاح تيارات الحركة، وموجهاتها المختلفة فرغت هذه القوائم في جدول واحد يبين عدد الكتب التي ترجمت في كل علم وفن، وعن كل لغة إلى كل لغة، ثم أتبعته برسم بياني يشير إلى تطور الحركة، وعدد الكتب التي ترجمت في كل سنة من سني عهد محمد علي.
مراجع البحث
(1)
المراجع العربية والمعربة: (أ)
كتب مخطوطة. (ب)
وثائق مطبوعة. (ج)
مراجع عامة مطبوعة. (د)
القواميس والمعاجم والفهارس. (ه)
مقالات في صحف ومجلات. (2)
المراجع الأجنبية: (أ)
وثائق مطبوعة. (ب)
مراجع عامة. (ج)
القواميس والمعاجم. (د)
مقالات في صحف ومجلات. (3)
الكتب التي ترجمت في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر:
اطلعت على الكثير من هذه الكتب، وأفدت منها، ولكنني اكتفيت - خشية التكرار - بوضع علامة * أمام كل كتاب رجعت إليه في الملحقين الأول والثاني.
المراجع العربية والمعربة
(1) كتب مخطوطة (1)
أبو السعود (عبد الله أفندي): منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ محبي مصر، وهي قصيدة طويلة في ألف بيت، مخطوط (بدون تاريخ، ولعله بخط المؤلف)، مكتبة البلدية بإسكندرية، رقم 4640ج. (2)
برنار: ترجمة تاريخ الديار المصرية في عهد الدولة المحمدية العلوية، وهو القسم الثالث من الكتاب المسمى «فوائد جغرافية وتاريخية على الديار المصرية»، ترجمه إلى العربية أبو السعود أفندي، مخطوط بمكتبة البلدية بإسكندرية رقم 3344 (نسخة مكتوبة بخط النسخ الجميل في 11 ربيع آخر سنة 1292، وكتبت خصيصا للشيخ علي الليثي الشاعر المشهور في عصر إسماعيل). (3)
الشيال (الدكتور جمال الدين): العلاقات السلمية بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى (بحث لم ينشر بعد). (4)
قائمة تشتمل على بيان الكلف المأخوذة من البلاد الأطفيحية لاحتياج العسكر الفرنساوي المطارد لمراد بك، ابتداء من يوم الأربعاء 21 جمادى الآخرة سنة 1314 لغاية يوم 10 رجب سنة 1214، وهي جداول مبين فيها ما أخذ من الأغنام والبقر وغيرها من كل بلدة من البلاد المذكورة. ورقة واحدة مكتوبة من وجهيها، وفي أحدهما ترجمة باللغة الفرنسية، دار الكتب المصرية رقم 1619 تاريخ. (5)
مجدي (السيد صالح بك): حلية الزمن بمناقب خادم الوطن (رفاعة الطهطاوي)، مخطوط بدار الكتب الملكية بالقاهرة، رقم 1026 تاريخ. (6)
مكيافلي: الأمير في علم التاريخ والسياسة والتدبير، ترجمه عن الإيطالية إلى العربية بأمر محمد علي باشا الأب رفائيل أنطون زاخور الراهبة، مخطوط بخط المترجم في دار الكتب الملكية رقم 435 تاريخ. (2) وثائق مطبوعة (7)
رستم (الدكتور أسد): بيان بوثائق الشام، وما يساعد على فهمها، ويوضح مقاصد محمد علي الكبير (عن المحفوظات الملكية المصرية بعابدين) 4 مجلدات.
المجلد الأول (1225-1247 / 1810-1832) المطبعة الأمريكية، بيروت 1940.
المجلد الثاني (1248-1250 / 1822-1835) المطبعة الأمريكية، بيروت 1941.
المجلد الثالث (1251-1254 / 1835-1839) المطبعة الأمريكية، بيروت 1942.
المجلد الرابع (1255-1256 / 1839-1841) المطبعة الأمريكية، بيروت 1943. (8)
سامي (أمين باشا): تقويم النيل وعصر محمد علي، الجزء الثاني، مطبعة دار الكتب، القاهرة 1346 / 1928. (9)
غربال (الأستاذ محمد شفيق بك): مصر عند مفترق الطرق (1798-1801)، المقالة الأولى، ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية كما شرحه حسين أفندي أحد أفندية الرزنامه في عهد الحملة الفرنسية، القاهرة 1938 (بحث مستخرج من مجلة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول). (10)
قرألي (الخوري بولس): السوريون في مصر، الجزء الأول «عهد المماليك»، القسم الثاني، الوثائق الخطية (1750-1805) مطبعة جريدة العلم، بيت شباب، لبنان 1933. (11)
مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جرى بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر كليبر بمصر القاهرة، بمطبعة الجمهور الفرنساوي، في سنة 8 من إقامة الجمهور. (3) مراجع عامة مطبوعة (12)
أمين (الأستاذ أحمد بك): فجر الإسلام، مطبعة الاعتماد، القاهرة، 1347 / 1928. (13)
ضحى الإسلام، 3 أجزاء، القاهرة، 1352-1355 / 1934-1936. (14)
الباشا (الخوري قسطنطين): محاضرة في تاريخ طائفة الروم الكاثوليك في مصر (ألقاها في النادي الكاثوليكي في القاهرة في 27 شباط 1930)، مطبعة القديس بولس، حريصا، لبنان، 1930. (15)
البتانوني (محمد لبيب): تاريخ كلوت بك، القاهرة، المطبعة الطبية الدرية، 1308 (مترجم عن الفرنسية). (16)
بريك (الخوري ميخائيل الدمشقي): تاريخ الشام (1720-1782) عني بنشره والتعليق عليه الخوري قسطنطين الباشا، مطبعة القديس بولس، حريصا (لبنان)، 1930. (17)
بتولا (الدكتور فردريك بك): مصر والجغرافيا، ترجمه إلى العربية أحمد زكي باشا، بولاق، 1310. (18)
تراث الإسلام - ألفه جماعة من المستشرقين، الترجمة العربية للجنة الجامعيين لنشر العلم، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936. (19)
الترك (المعلم نقولا): ذلك تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية، والبلاد الشامية، باريس، دار الطباعة السلطانية، 1839. (20)
التونسي (الشيخ السيد محمد عمر بن سليمان): رحلة دارفور (النص العربي) طبع حجر، باريس 1850، كتبه بخطه ونشره الدكتور «برون» وبه خريطة وصور إيضاحية. (21)
الجبرتي (الشيخ عبد الرحمن): عجائب الآثار في التراجم والأخبار، 4 أجزاء، المطبعة الأهلية، القاهرة ، 1322. (22)
جوان (إدوار): مصر في القرن التاسع عشر، ترجمه عن الفرنسية محمد مسعود، القاهرة، 1350 / 1931. (23)
جيرا (يوسف): تاريخ دراسة اللغة العربية بأوروبا (بدون تاريخ). (24)
الخشاب (السيد أبو الحسن إسماعيل، الشاعر): ديوان الخشاب، جمعه بعد وفاته صديقه الشيخ حسن العطار، مطبعة الجوائب، الآستانة، 1300. (25)
الرافعي (الأستاذ عبد الرحمن بك): تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، الجزء الأول ويتناول القسم الأول من تاريخ الحملة الفرنسية في مصر، القاهرة، 1347 / 1939. (26)
الجزء الثاني «من إعادة الديوان في عهد نابليون إلى ارتقاء محمد علي أريكة مصر بإرادة الشعب» القاهرة 1347 / 1929. (27)
الجزء الثالث «عصر محمد علي»، القاهرة، 1349 / 1930. (28)
عصر إسماعيل، جزءان، القاهرة، 1351 / 1932. (29)
الرشيد (الدكتور أحمد حسن): عمدة المحتاج في علمي الأدوية والعلاج (ويعرف بالمادة الطبية)، 4 أجزاء، بولاق، 1283. (30)
زيدان (جورجي): تاريخ آداب اللغة العربية، الجزء الرابع، الطبعة الثانية، القاهرة، 1937. (31)
زيدان (جورجي): تاريخ التمدن الإسلامي، 5 أجزاء، القاهرة، 1902-1906. (32)
تاريخ اللغة العربية باعتبار أنها كائن حي تام خاضع لنواميس الارتقاء، القاهرة، مطبعة الهلال، 1904. (33)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جزءان، مطبعة الهلال، القاهرة، 1902-1903. (34)
سامي (أمين باشا): التعليم في مصر، مطبعة المعارف، القاهرة، 1335 / 1917. (35)
شكري (الدكتور محمد فؤاد): الحملة الفرنسية وظهور محمد علي، القاهرة، مطبعة المعارف (بدون تاريخ). (36)
الشيال (الدكتور جمال الدين): رفاعة رافع الطهطاوي - مجموعة أعلام الإسلام - القاهرة، 1945. (37)
تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية، القاهرة، 1950. (38)
شيخو (الأب لويس): الآداب العربية في القرن التاسع عشر، جزءان، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، 1908-1910. (39)
الصباغ (ميخائيل): مسابقة البرق والغمام في سعاة الحمام، نشرة ديسلمي مع ترجمته إلى الفرنسية، باريس، 1805. (40)
الطهطاوي (الشيخ رفاعة رافع بك): تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز، القاهرة، 1223 / 1905. (41)
مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، مطبعة شركة الرغائب، القاهرة، 1330 / 1912. (42)
طوسون (الأمير عمر باشا): البعثات العلمية في عهد محمد علي، ثم في عهدي عباس الأول وسعيد، الإسكندرية، 1353 / 1934. (43)
صفحة من تاريخ مصر في عهد محمد علي، الجيش المصري البري والبحري، القاهرة، 1359 / 1940. (44)
عبد الكريم (الدكتور أحمد عزت): تاريخ التعليم في عصر محمد علي، القاهرة، 1938. (45)
عبد الكريم (الدكتور أحمد عزت): تاريخ التعليم في عصر عباس وسعيد (1848-1863)، القاهرة، 1946. (46)
تاريخ التعليم في عصر إسماعيل وأوائل حكم توفيق (1863-1885)، القاهرة، 1946. (47)
عبده (الدكتور إبراهيم): أعلام الصحافة العربية، القاهرة، 1944. (48)
عبده (الدكتور إبراهيم): تاريخ الوقائع المصرية، بولاق، 1942. (49)
عيسى (الدكتور أحمد بك): التهذيب في أصول التعريب، القاهرة، 1342 / 1923. (50)
غربال (الأستاذ محمد شفيق بك): الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس، ومشروع استقلال مصر في 1801، مطبعة المعارف، 1932. (51)
محمد علي الكبير، القاهرة، 1944 (مجموعة أعلام الإسلام). (52)
فنلون: مواقع الأفلاك في وقائع تليماك، ترجمه عن الفرنسية رفاعة الطهطاوي، بيروت (بدون تاريخ). (53)
قدري (محمد باشا): تعليمات جغرافية وتاريخية خاصة بمصر، القاهرة، 1869. (54)
قرألي (الخوري بولس): السوريون في مصر، الجزء الأول «عهد المماليك»، القسم الأول، علاقات سوريا ومصر من أول التاريخ إلى محمد علي، المطبعة السورية، مصر الجديدة، 1928. (55)
قورتنبير: الدرس المختصر المفيد في علم الجغرافيا الجديد، ترجمه عن الفرنسية أبو السعود أفندي، مطبعة وادي النيل، القاهرة، 1286. (56)
كلوت (الدكتور أنطوان بك): لمحة عامة عن مصر، ترجمه محمد مسعود، مطبعة أبي الهول، القاهرة (بدون تاريخ). (57)
مبارك (علي باشا): الخطط التوفيقية الجديدة، عشرون جزءا، بولاق، 1304-1306. (58)
مجدي (السيد صالح بك): ديوان السيد صالح مجدي بك، بولاق، 1311 (وقام على نشره بعد وفاته ابنه محمد مجدي). (59)
المعلوف (عيسى إسكندر): دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف، المطبعة العثمانية في بعبدا (لبنان)، 1907-1908. (60)
مكيافلي: كتاب الأمير، ترجمه إلى العربية الأستاذ محمد لطفي جمعة بك، القاهرة، 1912. (61)
مؤنس (الدكتور حسين): الشرق الإسلامي في العصر الحديث، القاهرة، 1938. (62)
النديم (السيد عبد الله): مقالات النديم، القاهرة 1327 / 1909، جمعها محمد بن محمد منتصر. (4) القواميس والمعاجم والفهارس (63)
أبو علي (الشيخ أحمد): فهارس المكتبة البلدية بالإسكندرية، 7 أجزاء، شركة المطبوعات المصرية بالإسكندرية، 1343-1347 / 1925-1929. (64)
بقطر (أليوس): قاموس فرنسي عربي، باريس، 1828 (انظر قائمة المراجع الأجنبية). (65)
بهجت (علي بك): قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح، مطبعة التقدم، القاهرة، 1334 / 1906. (66)
التونسي (الشيخ محمد عمر بن سليمان): الشذور الذهبية في المصطلحات الطبية، وقف على تصحيحه وترجمته إلى الفرنسية والإنجليزية الدكتور أحمد عيسى بك، طبع الجزء الأول منه في 100 صفحة على نفقة دار الكتب الخديوية (الملكية)، مطبعة المقتطف 1332 / 1914 (النسخة الخطية الكاملة لهذا القاموس موجودة في المكتبة الأهلية بباريس، وتوجد لها صورتان شمسيتان في دار الكتب المصرية، انظر الفصل الخامس بالقواميس). (67)
راهبة (الأب رفاييل أنطون زاخور): قاموس إيطالياني وعربي، بولاق، 1238 / 1823، انظر قائمة المراجع الأجنبية. (68)
الزركلي (خير الدين): الأعلام، ثلاثة أجزاء، القاهرة، 1347 / 1928. (69)
زكي (أحمد باشا): قاموس الجغرافيا القديمة، بولاق، 1317 / 1899. (70)
سركيس (يوسف أليان): معجم المطبوعات العربية والمعربة، القاهرة، مطبعة سركيس، 1346 / 1928. (71)
عيسى (الدكتور أحمد بك): معجم الأطباء - من 650ه إلى يومنا هذا - (وهو ذيل عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة)، القاهرة، 1361 / 1942، من مطبوعات كلية الطب بجامعة فؤاد الأول. (72)
فهرست الكتب العربية المحفوظة بالكتبخانة الخديوية، 7 أجزاء (وهو الفهرس القديم )، القاهرة، 1308. (73)
فهرس الكتب العربية الموجودة بدار الكتب المصرية، 7 أجزاء (وهو الفهرس الجديد وبه زيادات كثيرة)، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1348-1357 / 1929-1938. (74)
فهرس الكتب التركية المحفوظة بالكتبخانة الخديوية المصرية، المطبعة العثمانية، القاهرة، 1306. (75)
الفيروز آبادي (الشيخ مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي): القاموس المحيط، أشرف على طبعه الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، جزءان، الطبعة الأولى، بولاق، 1272. (76)
لين (إدوارد وليم): مد القاموس، عربي إنكليزي، لندن، 1863، انظر قائمة المراجع الأجنبية. (77)
مختار (اللواء محمد باشا): التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الأفرنكية والقبطية، بولاق، 1311. (5) مقالات في صحف ومجلات (78)
إسكاروس (توفيق): شيء من التاريخ والأدب في بدء النهضة الطبية المصرية، البلاغ الأسبوعي، الأعداد 96-108، يناير-أبريل 1929 (1 مقالات نشرت بمناسبة انعقاد المؤتمر الطبي الدولي في مصر). (79)
تاريخ الطباعة في وادي النيل، مجلة الهلال، الجزء الثاني، السنة 22، نوفمبر 1913، ص105-122.
الجزء الثالث، السنة 22، ديسمبر 1913، ص198-204.
الجزء السادس، السنة 23، مارس 1914، ص426-433. (80)
أمين (الأستاذ أحمد بك): الشيخ رفاعة الطهطاوي، الثقافة، السنة الخامسة، الأعداد 230-235. (81)
الشيخ الدسوقي ومستر لين، الثقافة، السنة الثالثة، العددان 126 و127. (82)
الباشا (الخوري قسطنطين): ترجمة الأب روفائيل زخور، المجلة البطريركية، السنتان السابعة والثامنة (1932)، ص486-488 و561-564. (83)
وصف قنداق قداس يوناني قديم، المسرة، السنة 19، ج3 (1933)، ص159-161. (84)
تيمور (أحمد باشا): الشيخ محمد عياد الطنطاوي، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، م4، ج9، عدد أيلول 1924، ص387-391. (85)
حسين (الأستاذ محمد الصادق بك): رفاعة بك، السياسة الأسبوعية، السنة الثانية، العدد 64، 28 مايو 1927. (86)
الخطيب (محب الدين): الشيخ محمد عياد الطنطاوي، مجلة الزهراء، م. أ. ج7 عدد رجب 1343، ص417-428. (87)
الشيال (الدكتور جمال الدين): الدكتور برون والشيخان محمد عياد الطنطاوي ومحمد عمر التونسي (صورة من الاتصال العلمي بين الشرق والغرب في عصر محمد علي) مجلة كلية الآداب، جامعة فاروق الأول، العدد الثاني، 1944. (88)
الذكاء والوراثة، مجلة العلوم (التي تصدرها جمعية المعلمين) السنة السادسة، العددان 5 و6، مايو ويونيو 1939، ص441-445. (89)
مصر وطريق الهند في القرن الثامن عشر، المقتطف، م98، العدد الخامس، مايو 1941، وم99، العدد الأول يونيو 1941، والعدد الثالث أغسطس 1941 (3 مقالات). (90)
عبد المجيد (عبد العزيز): أول مدرسة مصرية في السودان، الثقافة، السنة الخامسة، العددان 224 و225. (91)
كراتشكوفسكي (المستشرق الروسي أغناطيوس): تصحيحات لمقال تيمور باشا عن الشيخ الطنطاوي، مجلة المجمع العلمي العربي، م4، ج12، عدد كانون الأول 1924 وص562-564. (92)
الوقائع المصرية ، السنوات من 1244 إلى 1264 (صدر العدد الأول في 20 جمادى الأولى 1244 / 28 نوفمبر 1828).
المراجع الأجنبية
(1) وثائق مطبوعة
Artin (Yacoub
Lettres du Dr. Perron, du Caire et d’Alexandrie à M. Jules Mohl, à Paris (1838-1854), Le Caire, 1911.
Bowring:
Report on Egypt and Candia, London, 1840.
Cattaui (René):
Le règne de Mohamed Aly d’après les Archives Russes en Egypte. t.l. (Rapports Consulaires de 1819 à 1833), Le Caire, 1931. • Corresponbances de Napoléen ler., t. IV, V, X, Paris, 1860.
Deny (Jean):
Sommaire des Archives turques du Caire, Le Caire, 1830.
Douin:
l’Egypte de 1802 à 1804. Le Caire, 1925. • Une Mission Militaire Française auprès de Mohamed Ali, Le Caire, 1923. • Pièces relatives à la Procédure et au jugement de Soleyman El-Haleby, assassin du General en Chef Kleber. Le Caire, an VIII. (انظر قائمة المراجع العربية). (2) مراجع عامة
Arnold (Sir Thomas):
The Preaching of Islam. London, 1935.
Artin (Yacoub
l’Instruction Publique en Egypte, Paris, 1890 .
Bainville (M. Jacques):
I’Expédition Française en Egypte. (Précis de l’histoire d’Egypte. t. III, Le Caire, 1933).
Brocchi (G. B):
Giornale delle asservazioni fatte ne’viaggi in Egitto, nella Siria e nelle Nubia. Bassano. 1841, t. I & II.
Carra De Vaux (Baron):
Les Penseures de l’Islam, t. V. Paris, 1926.
Driault (Ed.):
Mohamed-Aly et Ibrahim. (Précis de l’histoire d’Egypte. t. III, Le Caire, 1933).
Ghorbal (Prof. Shafik Bey):
The Beginning of the Egyptian Question and the Rise of Mehemet Ali, London 1928.
Hammer (J. de):
Histoire de I’Empire Ottoman, Vol, XVI, Paris, 1843.
Hamont:
I’Egypte sous Mohamed Ali, 2 ts. Paris, 1834.
Homsy (G.):
Le Général Jacob et I’Expédition de Bonaparte en Egypte (1798-1801), Marseille 1921.
Hoskins:
British Routes to India. New-York. 1928.
Kinght (Rex):
The Intellingence and Intelligence Tests, London, 1993.
Kantorowicz (Ernst):
Frederick II. (1194-1250). Glasgo. 1931.
Lane (Ed. William):
The Manners and Customs of Modern Egyptians, London, 1860 (Everman’s edition).
Lindsay (Lord):
Letters on Egypt, Edom and the Holy land, 2 vols, 2
nd
edition, London 1839.
The English woman in Egypt, 2 vols. London, 1844.
Rigault (G.):
Le général Abdallah Menou et la dernière phase de I’éxpédition d’Egypte. Paris, 1802.
Rousseau (M.F.):
kléber et Menou en Egypte depuis le départ de Bonaparte, Paris, 1900.
Roux (Charles):
Autour d’une Route. • Bonaparte Gouverneur d’Egypte. Paris, 1936.
Sabbagh (M.):
La colombe messagère, plus rapide que l’éclair, plus prompte que la Lune. (Texte Arabe et trad. Française par De Sacy), Paris, 1805.
Saint-John (James Augustus):
Egypt and Mehemet Ali. 2 vols, London, 1834.
Sammarco (Angelo):
Les Régnes de
c
Abbas, de Saͨid et d’Ismail. (1848-1879). (Précis de l’histoire d’Egypte, t. IV.), Le Caire, 1835.
El-Tounsy (Le Cheykh Mohammed Ebn Omar, Réviseur en chef à l’Ecele de médecine du Caire):
Voyage au Darfour, traduit de l’arabe en française, par Dr. Perron; publié par les soine de M. Jomard.
El-Turk (Nakoula):
Histoire de l’Expédition des Français en Egypte publiée et traduite par M. Desgranges Ainé paris, 1839. (انظر قائمة المراجع العربية). (3) القواميس والمعاجم
Boctor (Elios):
Dictionnaire Français Arabe, Paris, 1828.
Haig (It. Colonel Sir Wolseley):
Comparative Tables of Muhammadan and Christian Dates. London 1932.
Lane (E. W.):
Arabic English Lexicon, London 1863. • Notice Historique sur l’Ecole Spéciale des Langues Orientales Vivantes. Paris, 1883.
Rahiba (Pére Raphael Zakhour):
Dizionario Italiano e Arabo. Boulac, 1822.
Al-Tounsy (Muhammad Ibn Omar):
Al-Schoodhoor-Al.Dhahabieh, Dictionary of technichal terms “ancient and modern” used in the medical, natural and veterinary sciences; edited and translated into french and english by Dr. Ahmed Issa Bey, V.I, Caire, 1914. (انظر قائمة المراجع العربية). (4) مقالات في صحف ومجلات
Artin (Yacoub pacha):
Lettres Inédites du Dr. perron a M. j. Mohl, (Bulletin de I’Institut Egyptien, 5me serie t. III 1909, pp. 137-152).
Bachatly (Charles):
Un manuscrit autographe de Don Raphael. (Bulletin de l’Institut d’Egypte t. XIII, 1931, pp. 27-35). • Un Membre Oriental du premier Institut d’Egypte-Don Raphael (1759-1831)-(Bulletin de l’Institut d’Egypte, t, XVII, 1934-1935 pp. 237-260).
Bianchi:
Catalogue Général des livres arabes, persans et turc, imprimés à Boulac en Egypte depuis l’instruction de l’imprimerie dans ce pays. (Journal Astiatique, 4e. serie, 2, 1843, pp. 24-61).
Canivet (R. G.):
l’lmprimerie de l’Expedition d’Egypte, les Journaux, les procès verbeaux de l’Institut. (Bull. de l’Institut Egyptien, 5e. serie, t, III, 1909, pp. 1-26).
Dunne (J. Heyworth):
Muhammed Ali of Egypt, The Foundatian of Modern Arabic. (Journal of the Royal Asiatic Society, part III, July, 1940 pp. 325-349).
Geiss:
Histoire de l’imprimerie en Egypte. (Bull, de I’Institut d’Egypte, 5e, série, t. I, 1907, pp. 133-157; t. II. 1908, pp. 195-320).
Maria Nallino:
Interno a Due Tradusioni Arabe Del “Principe” Del Machiavelli, (Oriente Moderno. 1931, pp. 604-616).
Lettre sur les écoles et l’imprimerie du pacha d’Egypte-a M, J, Mohl. a paris, Kaire 22 Octobre 1842-(Journal Asiatique, 4e, série, 2, 1843, pp. 5-23).
Reinaud:
Notice des ouvrages arabes, persans et turc, imprimés en Egypte, (Journal Asiatique, 2me série, Octobre 1831, pp. 333-344).
অজানা পৃষ্ঠা