وفي سنة 791، تألفت عساكر من الصرب وبوسنه وهرسك والأرناءوط والأفلاق والبغدان، وتعاهدوا على محاربة الجنود العثمانية، والاستيلاء على بلادها، ولما بلغ الخبر مسامع السلطان ألف مجلسا من أمراء العساكر وكبار رجال الدولة للمداولة معهم فيما يجب اتخاذه من التدابير توصلا لعاقبة محمودة، فأبطل ولده بايزيد كل مشورة وهتف قائلا: الحرب الحرب، والقتال القتال. فدقت حينئذ طبول الحرب، وسارت الجنود إلى ساحات الكفاح سير الذئاب الكاسرة، ولما بلغوا ميادين الوغى وثبوا على الأعداء وثبات الأبطال، والتحموا معهم في القتال التحاما لم يعد يرى معه إلا جماجم طائرة، وفرسان غائرة، ودوي سرح تدك الجبال الشامخة. وبعد عدة ساعات، انجلت المعركة عن فوز العساكر الشاهانية، عقبت أن أسروا قرال السرب، ثم بعد ذلك أخذ السلطان مراد يتمشى بين القتلى، وإذ كان ينظر إليها بعين الاندهاش، نهض رجل من بينها ملطخا بالدماء وطعنه بخنجر، فسقط على الأرض يتخبط بدمه، ومات شهيدا بعد بضع ساعات، لكن قبل وفاته أمر بقتل حاكم السرب المأسور، وتقطيع القاتل له إربا إربا، ثم نقلت جثته الشريفة إلى بروسه، وهناك دفنت بكل تعظيم وتبجيل. أسكنه الله دار النعيم.
عاش خمسا وستين سنة، وتوفي سنة 791 بعد أن تربع على تخت السلطنة مدة ثلاثين عاما أعلى فيها شأنها، ووسع نطاقها، وأوجد العلم العثماني وهيئة الطغراء الشاهانية، وشاد أبنية عظيمة من جوامع ومدارس وقلاع وحصون وغير ذلك، ومن أشهر آثاره سراي أدرنه، وكانت غزواته وفتوحاته 37.
كان رحمه الله شديد البأس، عالي الهمة، ثابت العزم، قوي الجأش، واسع العقل، لين العريكة، محبا للرعية. رحمه الله رحمة واسعة.
السلطان الرابع
السلطان بايزيد الأول ابن السلطان مراد الأول
ولد عام 761ه، وجلس على كرسي الملك بعد وفاة والده الطيب الذكر عام 791 وله من العمر ثلاثون عاما، ولقب بالبرق لخفته ومهارته بالحرب، وكان أخوه الأكبر يعقوب خان أولى بالخلافة منه بالنظر لكونه الكبير، ولكي يأمن من منازعته قتله، فلامه رجال السلطنة على ذلك وشدوا عليه النكير باللوم والتعنيف، فقال لهم: إن أمير المؤمنين الذي هو ظل الله في أرضه يجب أن يكون واحدا في الأرض كما أن الله واحد في السماء. ومن ذاك الوقت جرت العادة بين ملوك آل عثمان بقتل إخوة السلطان أو سجنهم في محابس معدة لهم تحت الحفظ، ولم تنسخ تلك العادة إلا على عهد الطيب الذكر السلطان عبد المجيد خان.
وبعد أن جلس السلطان بايزيد على تخت السلطنة جرد جيشا كثيفا زحف به إلى السرب، فاستولى على مدينة أزبورنا وويدين، ولما تقدم حتى يمتلك مدينة سكوب خاف ملك السرب، وعقد للسلطان بايزيد على أخته تقربا منه وتوددا، وليأمن شر غائلته تعهد له بتقديم جانب له من العساكر، وخراجا له سنويا من المال وافر المقدار. وفي تلك الأثناء وقعت منازعة بين «جوان» ملك القسطنطينية، وبين ابنه أندرونيكوس وولد ابنه بشأن الملك، ولما حبسهما الملك جوان استغاثا بالسلطان بايزيد، فأنقذهما وقلدهما الملك، فتعهدا لجلالته بأن يدفعا إليه قناطير مقنطرة من المال في كل عام، ثم سجن مكانهما في برج هناك الملك جوان وولده عمانويل، غير أن الملك جوان فلت مع ولده من السجن، وامتثل بين يدي السلطان بايزيد، وعاهده على أن يقدم له فورا مقدار الذهب المتعهد به ابنه أندرونيكوس، علاوة على ذلك 62 ألف مقاتل، فقبل منه السلطان ذلك، وأجلسه على كرسي الملك، ونفى ابنه أندرونيكوس إلى جزائر البحر الأبيض.
وفي تلك الأثناء وقع الصلح بين السلطان بايزيد وملك السرب، وتعهد هذا الأخير ببناية الجوامع والمدارس والمحاكم. وفي عام 794 أمر ببناء جامعه الشهير في مدينة أدرنه، وخصص لمصاريفه بعضا من دخل مدينة الأشهر التي اغتنمها من أيدي اليونان، وشاد بها جملة جوامع ومدارس، ثم هجم على بلاد علاء الدين، حاكم قرمان، فاستولى على ولاية قونية وسيواس وملاطية، وبعد أن أخضع البلاد في جهة الأناضول عبر البحر للجهة الثانية من قارة أوروبا، طلب من جوان ملك القسطنطينية ما عاهده به، فلبى الطلب، وبعث إليه بقسم من عساكره تحت قيادة ولده عمانويل. وفي ذلك الزمان، توجهت العمارة العثمانية فاستولت على جزيرة رودوس وعلى عدة جزر خلافها، فاستاء الملك جوان من ذلك، وشرع يحصن أسوار القسطنطينية ويستعد للدفاع، ولما بلغ ذلك السلطان بايزيد أعلمه بقوله: إما أنك تهدم أسوار القسطنطينية، وإما أني أطفئ نور عيني ولدك عمانويل. فهاله هذا التهديد، واضطر إلى السمع والطاعة، ولم يلبث طويلا بعد ذلك حتى مات كئيبا حزينا، ولما علم عمانويل بوفاة والده غافل السلطان بايزيد وجاء القسطنطينية يتولى مكان والده، فأرسل السلطان قسما من جنوده لحصار القسطنطينية، وقسما آخر لمحاربة البلغار الفلاق، فاستولوا على عدة مدن منها، ثم أخضع البلاد الجنوبية من جهة الأناضول، وانتقل منها فامتلك جهات قاضي بهران الدين وعلى المقاطعات العشر السلجوقية.
وفي عام 1394 ميلادية، الموافق سنة 796ه، عقيب أن أخمد الفتن في جهات الأناضول، حشد الجيوش وأعد مهمات الحرب لفتح القسطنطينية، فقطع إلى جهة أوروبا، واستولى على مدينة سالونيك وتمركز فيها، ثم ساق الجيوش إلى الجهة الشمالية في بلاد البلغار. ولما بلغ ذلك سيزمان، قرال البلغاريين، خاف كثيرا وجاء إلى أوردي علي باشا، وزير السلطان بايزيد، ومعه ولده، ووضع كل منهما في عنقه منديل الأمان، فأمنهما على حياتهما، وأرسل الأب إلى مدينة فيليبولي، وأبقى الولد في معسكر السلطان، ولم يلبث مدة حتى اعتنق دين الإسلام، ولما علم سيجموند، ملك المجر، افتتاح السلطان بايزيد بعض مدائن البلغار التي تحت لوائه، أنفذ للسلطان رسولا يقول: من أين لك الحق أن تستولي على البولغارستان؟ فلما امتثل الرسول بين يدي السلطان أراه حزمة من القوس والنشاب وقال له: اذهب وأخبر مولاك بما نظرت. وكان هذا الجواب دليلا على مقاومة الجنود العثمانية، فانطلق حالا إلى مدينة رومية، وانطرح على أقدام البابا بونفياس الثاني طالبا منه المعونة والإسعاف، فأنجده البابا مع كارلوس الثالث، ملك فرنسا، بعشرة آلاف مقاتل، وأنفذهم إليه تحت قيادة الشاب نافار ابن ملك بورغونيا. وقد انضم إلى أولئك الجنود شيفالير سنجان في القدس الشريف، وصاحب الفلاق مع جنوده حتى توفر لدى صاحب المجر ثمانون ألف مقاتل زحفوا على عساكر الإسلام، وأقاموا على حصار نيكوبولي.
أما السلطان بايزيد فقد ابتدرهم بالهجوم، واشتبك معهم في الصدام والكفاح في معركة جرت بها الدماء أنهرا وسيولا، وانجلت عن فوز العساكر العثمانية، بعد أن استأسروا من الأعداء 10 آلاف أسير، ولما أحضروهم أمام السلطان ذبحوهم أمامه، إلا الشاب نافار فإنه لم يقتل بأمر السلطان بالنظر لشجاعته وبسالته. وعقيب هذه النصرة أغار بايزيد على بلاد المجر، وفتح فيها جملة حصون، ثم قهر جوان ملك القسطنطينية، وضرب عليه جزية قدرها عشرة آلاف ريال، وأمره بقيام جامع، وتنصيب قاض للإسلام.
অজানা পৃষ্ঠা