وكان ابنه عبد الوهاب مثله من رجال العلم والحجا، تولى القضاء في بعض بلدان العارض فكان عادلا حكيما، وألف رسائل عدة في الفقه والتفسير، ولقن ابنه محمدا شيئا من العلوم التي كان يحسنها، أما سجيته الكبرى تلك التي تميز العالم الحقيقي عن سواه من الناس إنما هي الوداعة والاتضاع. وناهيك بها من سجية تحمل صاحبها على الإقرار بالفضل حيثما كان في ولد صغير أو في خصم كبير. فقد طالما استعان الشيخ عبد الوهاب بابنه محمد في حل المعضلات الفقهية والدينية، وهو القائل: «قد استفدت من ولدي محمد فوائد شتى في الأحكام.»
كانت ولادة محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن سليمان بن علي التميمي في السنة الخامسة عشرة والمائة بعد الألف (1703م) في العيينة بوادي حنيفة، وقيل: في حريملة، على أن المؤرخ ابن بشر يزيل، على ما أرى، الريب في الرواية الأولى؛ إذ يقول: «ولد في العيينة قبل أن ينقل أبوه إلى حريملة.» فكأن عبد الوهاب نقل يوم كان ابنه صغيرا فتضاربت بعدئذ الآراء في أية البلدتين مسقط رأسه، والأقرب إلى الصحة رواية ابن بشر.
ولد محمد على شيء من الشذوذ، وكان سباقا في عقله وفي جسمه، سريع البلوغ في الاثنين، متوقد الذهن، حاد المزاج. فقد أظهر القرآن قبل بلوغه العشر، وبلغ الاحتلام قبل إكمال الاثنتي عشرة سنة، قال أبوه: «ورأيته أهلا للصلاة في الجماعة وزوجته في ذاك العام.» وما عتم بعد ذلك أن حج وأدى المناسك على التمام وأقام شهرين في المدينة، ثم عاد إلى بلده وأخذ في القراءة على والده ولكنه لم يكتف بذلك فرحل طالبا المزيد. زار الحجاز والأحساء والبصرة مرارا، وكان الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف النجدي والشيخ محمد حيوة السندي المدني من أساتذته. فغرست في ذهنه مذاهب دلت في نموها الضئيل على ما تأصل فيه بمسقط رأسه تحت سقف والده من مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
وقد كانت أكثر إقامته في البصرة، حيث قرأ الكثير من كتب اللغة والحديث على الشيخ محمد المجموعي، ولم ينحصر جهده في الدرس بل شرع يبشر هنالك بما تجلى له من حقائق التوحيد. إنما هو القائل: «كان أناس من مشركي البصرة يأتون إلي بشبهات يلقونها علي فأقول، وهم قعود لدي: لا تصلح العبادة كلها إلا لله، فيبهت كل منهم فلا ينطق فاه.»
أما النفوذ الأكبر في البصرة في تلك الأيام فكان لا يزال للشيعة، مكبرة الأولياء، ولكن ابن عبد الوهاب الشاب لم يحجم عن القول الحق حسب اعتقاده، فأدهش الناس وأثارهم عليه؛ فأخرجوه ذات يوم من البصرة. مشى في الهجيرة مطرودا يقصد إلى الزبير، وكان في نيته أن يزور الشام، ولكنه لضيق زاده انثنى عن عزمه وعاد إلى نجد فأقام ووالده عبد الوهاب في حريملة، ثم شرع يبث مبدأ التوحيد وينادي بإخلاص العبادة لله وحده، فكان شديد اللهجة قوي الحجة، وكان في حريملة قبيلتان لإحداهما رهط من العبيد كثيري الفساد والفسق، فحاول الشيخ محمد أن يردعهم فأغضبهم، فقاموا عليه ذات ليلة يريدون قتله ففر هاربا إلى العيينة.
بعد عودته الثانية إلى مسقط رأسه يبدأ فعلا نشر الدعوة، بل قد شبث هناك نيران حربها، فرفعت بين الأنصار أعلام التوحيد، ولمعت سيوف الحق المسلولة. اردعوا المعاندين والمعارضين! وكان الشيخ محمد يزداد شدة يوما فيوما، فاشتهر أمره في جميع بلدان العارض، في حريملة والعيينة والدرعية والرياض والمنفوحة، وتعددت أتباعه وأعداؤه، بل ظهرت الأنصار وكان ثنيان بن سعود وأخوه مشاري في طليعتهم.
ولكن النصير الأول الكبير هو عثمان بن معمر الذي كان يومئذ أمير العيينة، وقد اتفق ابن معمر وابن عبد الوهاب على العمل الأول الخطير في نشر الدعوة، العمل الذي أضرم نار الحماس ونار العداء في الناس.
قلت: إن عرب نجد كانوا يومئذ يقدسون القبور، بل كانوا يعبدون القباب فوق القبور، والأشجار التي يزرعونها في ظل القباب، فأول ما باشره الشيخ محمد هو أنه أمر الأمير عثمان تلميذه الأول من الأمراء الحاكمين بهدم القباب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، وبقطع الأشجار التي كانت تتوسل إليها الناس.
قبل الأمير، وخرج والشيخ وجماعة من الأنصار إلى الجبيلة فهدموا قباب القبور، قبور الصحابة هناك، ثم تناول الشيخ محمد الفأس بيده، وانهال به على الشجرة التي كانت مشهورة في وادي حنيفة بعجائبها، شجرة «الذيب» ولية الفتاة طالبة الحبيب، والأرملة ذات القلب الكئيب، والزوجة حاملة الطيب، تبغي الابن الحبيب.
صاتت الشجرة العجيبة وهي تهوي إلى الأرض، فكان لصوتها الرهيب صدى تردد في شعاب الوادي وفي جبال سدير، ثم اقتدى التابعون بأمرائهم فشرعوا يهدمون القباب ويجعلون القبور مسنمة كقبور الصحابة.
অজানা পৃষ্ঠা