তারিখ মিসর মিন ফাতহ উসমানি
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
জনগুলি
الباب الأول: عهد الدولة العثمانية
1 - الفتح العثماني لمصر
2 - نبذة في تاريخ الدولة العثمانية
3 - حكم العثمانيين في مصر
ملخص بأهم الحوادث التاريخية الواردة في الباب الأول
الباب الثاني: تاريخ مصر من الحملة الفرنسية إلى انتهاء عهد محمد علي
1 - الحملة الفرنسية على مصر
2 - محمد علي باشا
3 - الطريق البري بين الهند وأوروبا
ملخص لأهم الحوادث التاريخية في الباب الثاني
অজানা পৃষ্ঠা
الباب الثالث: تاريخ مصر بعد عهد محمد علي باشا
1 - عباس باشا الأول وسعيد باشا
2 - قناة السويس
3 - إسماعيل باشا
4 - المسألة المالية وانتهاء حكم إسماعيل باشا
5 - أوائل حكم توفيق باشا
6 - الحوادث العرابية
7 - عهد الاحتلال البريطاني
ملخص لأهم الحوادث في الباب الثالث
الباب الأول: عهد الدولة العثمانية
অজানা পৃষ্ঠা
1 - الفتح العثماني لمصر
2 - نبذة في تاريخ الدولة العثمانية
3 - حكم العثمانيين في مصر
ملخص بأهم الحوادث التاريخية الواردة في الباب الأول
الباب الثاني: تاريخ مصر من الحملة الفرنسية إلى انتهاء عهد محمد علي
1 - الحملة الفرنسية على مصر
2 - محمد علي باشا
3 - الطريق البري بين الهند وأوروبا
ملخص لأهم الحوادث التاريخية في الباب الثاني
الباب الثالث: تاريخ مصر بعد عهد محمد علي باشا
অজানা পৃষ্ঠা
1 - عباس باشا الأول وسعيد باشا
2 - قناة السويس
3 - إسماعيل باشا
4 - المسألة المالية وانتهاء حكم إسماعيل باشا
5 - أوائل حكم توفيق باشا
6 - الحوادث العرابية
7 - عهد الاحتلال البريطاني
ملخص لأهم الحوادث في الباب الثالث
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
অজানা পৃষ্ঠা
تأليف
عمر الإسكندري وسليم حسن
مراجعة
أ. ج. سفدج
محمد علي باشا رأس الأسرة المحمدية العلوية (عن صورة بدار الكتب السلطانية).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقص الحق من أنباء ما قد سبق، والصلاة والسلام على محمد أفضل من صدق فيما نطق، وعلى آله ضياء الغسق، ونظام النسق، وبعد؛ فهذا الكتاب يعتبر كجزء ثان لأول، هو «تاريخ مصر إلى الفتح العثماني»؛ غير أن السابق - لتطاول عصوره وتعدد أجياله - كان مجمل العبارة لطيف الإشارة، وهذا اللاحق - لتقارب العهد بحوادثه، وتعاظم العبرة بوقائعها - صار مسهب القول في جملة أغراضه عامة، وفي حوادث مصر الهامة خاصة.
وهو باتباعه هذه الخطة يطابق منهاج دراسة التاريخ لتلاميذ السنة الثانية من المدارس الثانوية المصرية، ملما بوقائع يحتمها المقام ويوجب سردها المنهاج إجمالا وإن لم يصرح بها تفصيلا، كما أنه بمزاياه المعهودة النظير في صنوه يفسح الرجاء لأن يقبل عليه غير التلاميذ من القراء.
وقد استقى هذا الكتاب من أوثق كتب التاريخ المعتبرة عربية وفرنجية، أهمها: تاريخ ابن إياس، تاريخ القرماني، تاريخ الإسحاقي، دولة المماليك للأستاذ السير وليم ميور، تاريخ تركيا للأستاذ استانلي لينبول، تاريخ أوروبا «مجموعة رفنجتون»، الترك العثمانيون تأليف كريسي، اضمحلال الدولة الإغريقية واستيلاء الترك على القسطنطينية تأليف إدون پيرز، دائرة المعارف البريطانية، القاهرة وبيت المقدس ودمشق للأستاذ مرجوليوث، دليل دار الآثار العربية، تحفة الناظرين للشيخ الشرقاوي، حقائق الأخبار عن دول البحار لصاحب السعادة إسماعيل باشا سرهنك، قصة القاهرة للأستاذ استانلي لينبول، مصر في القرن التاسع عشر تأليف كمرون، نابليون في مصر تأليف الحاج براون، الانقلاب المصري تأليف پيتن، تاريخ الجبرتي، البحر الزاخر لمحمود باشا فهمي، مذكرات عن محمد علي تأليف مري، محمد علي ومصر تأليف سنت جون، خطط علي باشا مبارك، بعض كتابات ألسن فلب، «الخديوية» تأليف ديسي، «مصر» تأليف البارون دي ملزتي، مصر والخديوي تأليف إدون ديليون، تكوين التاريخ الأوروبي تأليف هلند روز، دليل دار الآثار المصرية، مصر الحديثة للورد كرومر، الاقتصاد السياسي للطلبة المصريين تأليف الأستاذ طد، تاريخ القناطر الخيرية تأليف الماجور براون، تكوين مصر الحديثة للسير أوكلند كلفن، إنجلترا في مصر تأليف ملنر، تقارير معتمدي بريطانيا العظمى في مصر.
هذا، وإن عظيم الشكران وجزيل الثناء لمن كان لهم آثار مساعدة في تجميل رونق هذا الكتاب بالصور البديعة، وأجدرهم بالذكر حضرة البارع الدقيق علي أفندي يوسف الموظف بتنظيم القاهرة.
অজানা পৃষ্ঠা
وفي نية المؤلفين إعداد كتاب في جزءين في تاريخ أوروبا الحديثة وآثار حضارتها، وفي الرجاء أن ينتهي الجزء الأول منهما قريبا إن شاء الله تعالى.
وحرر بالقاهرة في 8 ذي القعدة سنة 1334 الموافق 6 سبتمبر سنة 1916.
الباب الأول
عهد الدولة العثمانية
الفصل الأول
الفتح العثماني لمصر
كانت الدولة العثمانية منذ استتب سلطانها بآسيا الصغرى على تصادق ومصافاة لدولة المماليك الجراكسة المصرية، تدور بين سلاطينهما رسائل الوداد وعقود المهادنة. وابتدأ ذلك من عصر السلطان الظاهر برقوق المصري ومعاصره السلطان يلدرم «بايزيد» العثماني.
وبقيت هذه الحال مرعية إلى زمن السلطان «بايزيد الثاني» ابن محمد الفاتح؛ إذ نازعه أخوه الأمير «جم» في الملك، فقاتله بايزيد وهزم جيوشه، وفر جم إلى الأشرف قايتباي سلطان مصر ملتجئا فأجاره، وطلب بايزيد تسليمه إليه، فلم يجبه قايتباي، فحقد عليه. وانضم ذلك إلى النزاع القائم بينهما على إمارة أبناء ذي الغادر
1 - التي كانت في حماية مصر، ثم تدخلت الدولة العثمانية في شئونها وادعت حمايتها - وإلى ما بلغ بايزيد من أن قايتباي أخذ من رسول ملك الهند هدايا كان أرسلها إلى السلطان بايزيد؛ فاتخذ بايزيد من كل ذلك ذريعة إلى إعلان الحرب على الدولة المصرية، فجهز جيشا عظيما توغل في البلاد الشامية إلى قرب حلب؛ حيث التقى به جيش للمصريين؛ فكانت الهزيمة على العثمانيين، فأتبعه بجيش آخر كانت عاقبته كسابقه. وزحف الجيش المصري على البلاد العثمانية فالتقى بجيش جرار عثماني، فكانت الحرب بينهما سجالا مدة انتهت بالصلح والمصافاة، إلا أنها صارت سببا لتجسيم التنافس والتزاحم بين الدولتين على الاستئثار بالعظمة وبسط النفوذ والزعامة على الممالك الإسلامية.
من أجل ذلك لم يدم هذا الصلح طويلا؛ إذ أخذ العثمانيون من جهة يحرضون القبائل والإمارات التابعة لمصر على التخلص من سيادتها، ويضعون العراقيل في سبيل تجارتها مع غربي آسيا وأواسطها؛ مما جعل ورود الصوف ومنسوجاته وأنواع الفراء الفاخرة والمماليك الجراكسة إلى البلاد المصرية نادرا جدا، بل ممتنعا في أواخر أيام الغوري، وكان أشدها على المصريين امتناع ورود الرقيق من المماليك؛ إذ هم مادة الجيش ورجال الحكومة. ومن جهة أخرى أخذ سلاطين مصر يجيرون كل من التجأ إليهم من أبناء السلاطين العثمانيين والأمراء الفارين من وجه الدولة العثمانية، ثم استرسلوا في الأمر وهبوا يوادون من عادى العثمانيين من سلاطين الدول المجاورة لهم، مثل «أوزون حسن» سلطان العراق، ثم بعده الشاه إسماعيل الصفوي «المؤسس الثاني لدولة إيران الحالية» وغيرهما، ولم تزد هذه الموادة على أكثر من تبادل المراسلات، مع أن الشاه حاول جعلها محالفة دفاع وهجوم فلم يفلح لبعد ما بين الأمتين في المذاهب؛ وذلك من أغلاط الغوري. واستطار شرر هذه الإحن والأحقاد بسماح الغوري بأن يمر بطريق الشام الوفد الذي أرسله الشاه إسماعيل إلى مملكة البندقية ليعرض عليها أن يتحدا معا على محاربة العثمانيين، وبإجارة السلطان الغوري للأمير قاسم ابن أخي السلطان سليم الأول العثماني، وإجارة الشاه إسماعيل للأمير مراد أخي قاسم، وكان السلطان سليم أراد قتلهما، فطلبهما منهما فلم يجيباه؛ فكان ذلك - إلى خوفه من استفحال دولة الفرس الجديدة أو تحول المودة القليلة بين مصر وفارس إلى حلف سياسي وتناصر حربي - سببا لإعلان سليم الحرب على الفرس أولا ثم على مصر ثانيا.
অজানা পৃষ্ঠা
ولما زحف السلطان سليم على بلاد الشاه إسماعيل وهزمه هزيمة منكرة أراد أن يكتسح جميع بلاده ويقضي على البقية من دولته، فوجد الشاه أتلف كل ما خلفه في مدنه وقلاعه من المئونة والذخائر، وانتظر سليم ورود غيرها من بلاده، فعلم أن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر قد أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه؛ فقلت الأقوات في معسكره واضطرب الجيش، فحرمه ذلك ثمرة انتصاره.
هذه كل المساعدة التي قامت بها مصر للشاه، مع أنها لو سيرت جيشا يقطع خط الرجعة على العثمانيين لكان التاريخ على غير ما هو عليه. فاضطر سليم إلى الرجوع إلى بلاده منتقما في طريقه من إمارة الغادرية؛ فقتل أميرها علاء الدين وضم بلاده إلى ملكه، وولى غيره من أبناء أسرته الغادرية، واحتج الغوري على ذلك، فقابل سليم احتجاجه بإرسال رأس علاء الدين إليه؛ وحينئذ علم الغوري أن الحرب واقعة لا محالة؛ فاستعد لملاقاته بتجهيز جيش عزم على أن يقوده بنفسه، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإن الشاه إسماعيل لم يعد في القوة التي كانت له قبل؛ فقد هلكت أبطاله، وتشتت شمل رجاله، وخربت بلاده، فأمن السلطان سليم غائلته وتفرغ لحرب مصر. ومع كل هذا كان من الممكن انتفاع الغوري بما بقي للشاه من القوة، ولكنه لم يفعل أو لم يقنع الشاه بضرورة ذلك.
أراد الغوري أن يستجمع كل ما عنده من قوة العدد والعدة، وكانت موارد الثروة قد نضبت بمصر لقطع البرتقال طريق التجارة الهندية عليها، فلم يكد يهم بجمع المماليك حتى تخاذلوا وتعللوا عليه بقلة النفقة المصروفة لهم وما هم فيه من العسر. وكان الفساد قد دب في أخلاقهم، وقلت وطنيتهم، وجرأهم على ذلك ميل الغوري إلى مماليكه الخاصة الذين جلبهم لنفسه واتخذهم عدة له يتقوى بهم على المماليك القدماء إذا هموا به، وبعد تساهل من الطرفين أمكن الغوري أثناء شتاء سنة (1515م/922ه) إعداد جيش يخرج به إلى حدود آسيا الصغرى، فجمع في هذا الجيش - على قلته - أكثر من في مصر من رجال القوة الحربية والأدبية؛ فخرج فيه الخليفة العباسي، وقضاة المذاهب الأربعة، ورؤساء مشايخ الطرق الصوفية، وكبار العلماء والأعيان، ورؤساء المغنين والموسيقيين والمضحكين وأرباب الصناعات وغيرهم، وترك بمصر حامية من المماليك تقدر بنحو ألفين، وأناب عنه الدوادار الكبير «طومان باي» ابن أخيه، وبلغه أن الأسطول العثماني يقصد الإسكندرية؛ فعزز حاميتها، وحصن قلاعها بنحو مائتي مدفع، وخرج من القاهرة بموكب عظيم تتقدمه الطبول والزمور وتدق أمامه الكئوس. خرج بهذا الجيش في شدة حمارة الصيف على غير عادة الملوك في خروجهم؛ فقاسى الجنود الأهوال والشدائد في اجتياز صحراء طور سيناء وأودية فلسطين، ودخل كل مدينة في الشام بموكب عظيم وخاصة مدينة دمشق وحلب وحماة.
السلطان الغوري في حاشيته - وهو الجالس على يمين الباب - (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الآثار العربية).
وخرج السلطان سليم من القسطنطينية بجيش عظيم مدرب على الحرب، ذكر بعضهم أنه يبلغ 150 ألف مقاتل مسلحين بكثير من المكاحل والمدافع والبندقيات، فلما صار على حدود الشام أراد أن يكيد للمصريين بمكيدتين، نجح في إحداهما وأخفق في الأخرى؛ ففي الأولى تمكن من أن يستميل إليه «خير بك» نائب حلب من قبل مصر و«جان بردي الغزالي» نائب حماة، ووعد الأول بولاية مصر والآخر بولاية الشام، ومع أن نائب الشام وغيره أخبروا السلطان الغوري بخيانة خير بك، لم يعبأ بكلامهم لما يرى من شدة تواضعه وإخلاصه.
وفي الثانية أراد أن يخدع الغوري بصرفه عن القتال وأخذه على غرة؛ فأرسل إليه أولا أثناء بروزه من القاهرة بتوسط الخائن نائب حلب رسالة يعتذر فيها عما فرط منه في شأن البلاد التابعة لمصر، ويعده بأن يعيدها إليه ويفتح طريق تجارة الرقيق والصوف والفراء، وبالجملة يفعل كل ما يطلبه الغوري؛ وكاد الغوري وأمراء عسكره يخدعون بذلك لولا مراعاتهم جانب الحيطة بالخروج إلى الشام. وأرسل إليه ثانية وهو بحلب رسلا عليهم أحد قواده وقاضي «عسكر الروم إيلي» يصرفون الغوري عن قصده، ويؤكدون إخلاص سلطانهم له وشدة رغبته في المهادنة والصلح، بشرط أن لا يتدخل الغوري بينه وبين الشاه إسماعيل الذي لم يقصد سليم بخروجه غيره، والذي أفتى علماء القسطنطينية بجواز حربه وقتله لرفضه وخروجه عن شعائر أهل الملة. فأكرمهم الغوري وسيرهم معززين إلى معسكر سليم، وأرسل إليه رسله صحبة أمير كبير من المصريين يعرض عليه توسطه في الصلح بينه وبين الشاه؛ فغضب سليم وهم بقتل الرسول، فشفع فيه فأطلقه مهانا مشعثا، وقال له قل لأستاذك: إن إسماعيل الصفوي خارجي وأنت مثله، وسأبدأ بك قبله، وموعدنا «مرج دابق» - على بعد يوم شمالي حلب - فخرج الغوري في نحو ثلاثين ألف مقاتل، وخلف أمواله وذخائره في قلعة حلب الحصينة في حامية لها. فلما كان صبيحة يوم الأحد 25 رجب سنة 922ه - وهو اليوم الذي سقطت فيه الدولة المصرية من عالم الدول المستقلة العظيمة - دهمه العثمانيون بجيش يربو على الجيش المصري بأضعاف، فعبأ الغوري كتائبه. وكان من غلطاته الكبرى في خرجته هذه أنه آثر مماليكه الخواص - الذين اشتراهم بماله - بكل كرامة ورعاية وإنعام، وقصر في استجلاب مودة المماليك القدماء من عتقى السلاطين والأمراء، حتى شاع بينهم أن السلطان يريد أن يجعلهم أمام مماليكه الخواص ليكونوا دريئة لهم من مدافع العثمانيين التي تفوق مدافع المصريين عظما وسرعة قذف وبعد مرمى؛ ففسدت نيات بعضهم، وانضم ذلك إلى خيانة «خير بك» و«جان بردي الغزالي».
فلما التقى الجمعان حملت الميمنة والقلب حملة أزالوا بها العثمانيين من مواقفهم، وقتلوا منهم بضعة آلاف، واستولوا على كثير من أعلامهم ومدافعهم، وكادت الغلبة تكون للمصريين، وهم السلطان سليم بالهرب، لولا أن خير بك انهزم بكتيبته - وكان على الميسرة - وتبعه جان بردي الغزالي؛ فاختل نظام الجيش المصري، واتفق أن وصل للعثمانيين في ذلك الوقت مدد من المدفعية، وظهر كمين لهم أحاط بالجيش المصري، ورأى المماليك القدماء من المصريين أن المماليك الخواص لا يقاتلون؛ ففترت هممهم ووهنت عزائمهم وتخاذلوا ولم يصبروا على نيران المدافع العثمانية، فركنوا إلى الفرار، وبقي السلطان الغوري في جماعة قليلة يناديهم ليعودوا فلم يلتفتوا إليه، ففلج لساعته، وسقط عن جواده. ولما شاع موته في العسكر تفرقوا واستولى العثمانيون على معسكرهم وغنموا منه ما لا يحصى، ولم يوقف للغوري على أثر، واستمرت الواقعة من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر. ولما رجع المنهزمون إلى حلب انقلب عليهم أهلها واستولوا على ودائعهم عندهم وفتكوا بهم، فلاقوا منهم شرا مما لاقوا من العثمانيين. وانتظر أهل حلب قدوم السلطان سليم فسلموه المدينة، واستولى على قلعتها بدون قتال، وغنم منها ألوف الألوف من الأموال والذخائر، وخطب باسمه في مسجدها، وانضم إليه خير بك وغيره من المماليك الخونة، وحلقوا لحاهم أو قصروها، وتزيوا بزي العثمانيين، ثم ذهب السلطان سليم إلى دمشق فاستولى عليها، ودانت له جميع مدن الشام بلا منازع، ومكث بها مدة ثلاثة أشهر يرتب نظامها، ويحكم أمورها.
أما بقية المنهزمين من المصريين فرجعوا إلى مصر في حالة يرثى لها، ورجع معهم جان بردي الغزالي، وكأنه قصد برجوعه إلى مصر أن يفت في عضد المصريين، ويكون عونا وجاسوسا للعثمانيين، وكانت أفعاله كلها في مصر ترمي إلى ذلك؛ لأنه خرج عقب دخوله مصر بحملة إلى الشام لينقذ غزة من العثمانيين، ففرق عساكره في البلاد، ولم يلاق العثمانيين إلا بفئة قليلة لم تلبث أن انهزمت، وكانت هزيمتهم سببا في فشل طومان باي - الذي خلفه الغوري سلطانا على مصر - في تأليف جيش عظيم آخر يدافع عن القاهرة؛ فقد كابد في جمعه مشقات عظيمة، وتخاذل المماليك واشترطوا عليه شروطا أشد مما اشترطوا على الغوري، وبقوا في خلاف: هل يحاربون العثمانيين على حدود جزيرة الطور وهم منهوكو القوى من قطع الصحراء أو في شمالي القاهرة، حتى دهمتهم جيوش العثمانيين وصارت على مقربة من القاهرة؛ فخرج طومان باي في جيش مختلط من جميع أجناس المحاربين، وأسرع في حفر الخنادق ونصب المدافع في ظاهر الريدانية - صحراء العباسية وعين شمس إلى بركة الحج - وكان يظن أن الجيش العثماني يقابله وجها لوجه فيها، فكان غير ما ظن؛ إذ لم يكد الجيشان يتلاقيان يوم 29 ذي الحجة سنة 922ه حتى افترق الجيش العثماني لكثرته إلى ثلاث فرق: فرقة كانت وجهتها المصريين بالريدانية، وفرقة سارت تحت الجبل الأحمر والمقطم وأحاطت بهم من اليمين إلى الخلف، وفرقة سارت إلى جهة بولاق وأحاطت بهم من الشمال.
وصبر المماليك ساعة قتل فيها عدد عظيم من العثمانيين وقوادهم، منهم سنان باشا أكبر القواد والوزراء للسلطان سليم، ولم يدم ذلك إلا ريثما تمت حركة الالتفاف، وعندها وجهت المدافع والبنادق على المصريين من كل صوب، ولم يكن لهم نظيرها، فلم يسعهم إلا الفرار، وصبر طومان وجماعة صبر الأبطال، ولكنهم اضطروا أخيرا إلى الفرار إلى الجيزة، وسار العثمانيون إلى القاهرة فدخلوها فرقا ونزل السلطان سليم بمعسكره الخاص على ساحل بولاق والجزيرة الوسطى
2
অজানা পৃষ্ঠা
ولم يدخل المدينة، وبقي كذلك إلى يوم الثلاثاء رابع المحرم سنة 923ه، فلما كانت ليلة الأربعاء خامس الشهر لم يشعر السلطان سليم بعد صلاة العشاء إلا وقد هجم عليه في معسكره السلطان طومان باي بمن التف حوله من المماليك؛ فاختل نظام المعسكر واختلط الحابل بالنابل، وساعد المماليك كثير من العامة والغوغاء ونوتية بولاق، فما بزغ الفجر حتى قتل من العثمانيين خلق كثير، ثم جاءت فرقة أخرى مددا للمماليك بقيادة الدوادار الأمير علان من جهة الناصرية، وحمي وطيس القتال بين الفريقين من بولاق إلى الناصرية، وملك المماليك أكثر المدينة بعد أن قتلوا الألوف في شوارعها وحاراتها من العثمانيين المتفرقين، ثم جمع العثمانيون شملهم وطردوا المماليك من حي بولاق إلى قناطر السباع - السيدة زينب - حتى تحصنوا - المماليك - بحي الصليبة وحفروا الخنادق حولهم من جميع الجهات. وخطب يوم الجمعة للسلطان طومان باي على منبر جامع شيخون وغيره، واستمر القتال كذلك أربعة أيام بلياليها من ليلة الأربعاء إلى صبيحة يوم السبت 8 المحرم، فحاصر العثمانيون حي الصليبة من كل جهاته، واشتد الأمر على المماليك؛ فتخاذلوا وتسللوا عن السلطان طومان باي، فبقي يقاتل في نفر من المقدمين الأمراء وبعض العبيد، حتى إذا لم يبق للدفاع فائدة فر إلى بركة الحبش - بين الساحل القبلي بمصر القديمة وبين معادي الخبيري - وعدى من ساحل طرة إلى ضفة النيل الغربية بالجيزة، واستولى العثمانيون على المدينة مرة أخرى، وطلع السلطان سليم إلى القلعة بعد ذلك بعشرة أيام، واستحوذ على ما فيها من الأموال والذخائر، وبقي بالقلعة نحو شهر شاع في خلاله أن طومان باي صار في عسكر عظيم ممن تراجع إليه من المماليك والتف حوله من عرب الصعيد، وأنه قادم إلى القاهرة.
وبعد أيام جاءت رسل من عند طومان باي إلى السلطان يعرضون عليه الصلح بأن تكون مصر تحت سيادة العثمانيين في الخطبة والسكة والخراج، وأن يكون طومان باي نائبا عن سلطان العثمانيين في مصر؛ فقبل ذلك السلطان سليم، وأرسل إليه وفدا من قضاة مصر وأعيانها وبعض المقدمين، فلما وصلوا إلى السلطان طومان باي بجهة البهنسا ثار المماليك بطومان باي ولم يرضوا بالصلح وقتلوا بعض رجال الوفد، فلم يسع طومان باي إلا مجاراتهم مكرها، وتقدم إلى بلاد الجيزة لينازل العثمانيين في موقعة فاصلة، فاجتاز السلطان سليم إليه النيل بجيوشه. والتقى الجيشان بقرب «وردان» يوم الخميس (10 ربيع الأول سنة 923ه/1517م)، فدارت الدائرة أولا على العثمانيين وقتل منهم مقتلة عظيمة، إلا أن نيران المدافع والبندقيات العثمانية مزقت جيش المصريين المختلط - الخالي يومئذ من أكثر المعدات الحربية - كل ممزق، فكانت هذه الموقعة الخامسة هي ختام الوقائع الحربية التي دافع بها المماليك المصريون عن بلادهم، ولم يقم لهم بعدها قائمة إلا ما كان من استبداد بعض سلائلهم بشأن مصر كما سيأتي.
أما السلطان طومان باي، فإنه لما فر من وجه السلطان سليم ذهب إلى أحد رؤساء الأعراب بالبحيرة المدعو «حسن بن مرعي» وكان له عليه أياد عظيمة، فاختفى عنده واستحلفه أن لا يخونه، ولكنه نقض الحلف وكاشف السلطان سليما بأمره، فأرسل إليه عسكرا قبضوا عليه منتكرا في زي الأعراب، وجاءوا به إلى السلطان سليم، فحين رآه قام له وعاتبه ببعض الكلام وبقي معه في معسكره سبعة عشر يوما يحضر مجلسه ويسائله السلطان سليم عن شئون مصر وإدارتها وسياسة أهلها وكيفية ريها وجباية خراجها وبقية أمورها؛ مما جعل طومان باي يطمئن إليه ويظن من إقباله عليه أنه سيكون نائبا عنه في ملك مصر.
غير أن ذلك الأمر كان استدراجا من السلطان سليم؛ إذ بعدما وقف منه على كل ما أراد أمر في يوم الاثنين (21 ربيع الأول سنة 923ه/1517م) بأن يعودوا بطومان باي إلى القاهرة، فدخلوا به وهو بزي الأعراب من جهة شارع أمير الجيوش إلى البرقوقية، حتى إذا صار تحت باب زويلة أنزلوه عن فرسه، وكان لا يدري ماذا يصنع به، فلما رأى الحبال مدلاة من حلقة الباب على أنه مشنوق، فتشهد وقرأ الفاتحة وسأل الناس أن يقرءوا له الفاتحة، وشنق بين ضجيح الناس عليه بالبكاء، وبقي مصلوبا ثلاثة أيام، ثم أنزل ودفن خلف مدرسة الغوري - جامع الغوري - وكان له من العمر نحو 44 سنة، ولم يشنق ممن حكم مصر - من الخلفاء والسلاطين - سلطان غيره.
أما السلطان «سليم»، فإنه أقام بمصر نحو ثمانية أشهر؛ فكان معسكره أول الفتح ببولاق والجزيرة الوسطى، ثم أقام بالقلعة نحو شهر، ثم بمدينة الجيزة وإمبابة قريبا من شهر، ثم أقام بجزيرة الروضة والمقياس مدة، ثم توجه بجنده إلى مدينة الإسكندرية، فكانت مدة غيابه وإيابه 15 يوما، ثم رجع وأقام بجزيرة الروضة وبني له بها بجانب المقياس في طرف الجزيرة الجنوبي جوسق من الخشب أقام به بقية المدة إلا زمنا يسيرا أقامه ببيت الأشرف قايتباي المطل على بركة الفيل.
السلطان سليم فاتح مصر (رسم علي أفندي يوسف).
وفي أثناء إقامته بمصر سن لها بعض أنظمة إدارية، ونقل إلى القسطنطينية أكثر ما في القلعة ومنازل الأمراء والسلاطين والمساجد والزوايا والأربطة من النفائس والذخائر والكتب حتى أعمدة الرخام ومركباته.
ونفى من مصر إلى القسطنطينية كل أبناء السلاطين وأكثر المقدمين والأمراء والخليفة العباسي بعدما تنازل له عن الخلافة وأكثر العلماء والقضاة وكل من له نفوذ وإمرة بمصر.
ثم أمر بجمع رؤساء الصناعات المشهورين بإجادة العمل فيها من كل الطوائف؛ فجمعوا منهم نحو ألف صانع ونقلوهم إلى الأستانة ليذيعوا الصناعات الدقيقة فيها، فرجع بعضهم إلى مصر بعد عهده وبقي آخرون. قيل إنه بطل في مصر بذلك نحو 50 صناعة؛ فكان كل ذلك سببا في تأخر مصر في الصناعات.
أما ولاية مصر فاختار لها السلطان سليم أثناء إقامته أكبر وزرائه «يونس باشا» واليا عليها، ثم رجع عن ذلك قبيل سفره من مصر وولى عليها ملك الأمراء «خير بك»، وولى على الشام «جان بردي الغزالي».
অজানা পৃষ্ঠা
وباستيلاء السلطان سليم على مصر صارت البلاد جزءا من الدولة العثمانية.
ويجدر بنا قبل الكلام على حكم العثمانيين في مصر أن نذكر شيئا عن منشئهم ونهوضهم، وأهم الحوادث في تاريخهم أيام حكمهم في مصر، حتى نكون على علم بأهم الأحوال التي أحاطت بمصر في ذلك العهد.
وهي إحدى الدول التركمانية التي أسست على أنقاض دول التتار ورأسها قراجا بن ذي الغادر، وقد استولت على أكثر أرمينية وكردستان وديار بكر، وخضعت أخيرا للمصريين؛ فكان لا يتولى أمير منها إلا بإذن صاحب مصر.
ثم إن أحد أمرائها التجأ إلى العثمانيين مستنصرا فنصروه وولوه الإمارة افتياتا على المصريين، بل أمدوه بما انتصر به على ولاة مصر؛ فكان ذلك سببا للنزاع بين الدولتين المصرية والعثمانية.
هي الجزيرة التي أمام قصر النيل.
الفصل الثاني
نبذة في تاريخ الدولة العثمانية (1) منشأ العثمانيين ونهوضهم
العثمانيون جيل من الأجيال التركية المتشعبة من الجنس المغولي المعتبر من أعظم الأجناس البشرية عددا، وأصل منشئه «بلاد منغولية»، ومنها انتشر غربا وشمالا وتشعبت منه في آسيا أمم وقبائل استقلت بنفسها وصار لبعضها ملك كبير: مثل أمة «الهون» المفتتحة شرقي أوروبا يقودها زعيمها «أتيلا»، ومثل دولة الأتراك السلاجقة
1
المستبدة بملك العباسيين، ومنهم الدولة المعروفة بسلطنة الروم السلجوقية، وقد سبق ذكرها في الكلام على الحروب الصليبية.
অজানা পৃষ্ঠা
2
وفي أوائل القرن السابع الهجري - الثالث عشر المسيحي - قامت للمغول دولة وثنية قوية بقيادة زعيمهم العظيم «جنكيزخان» ثم حفيده «هولاكو»، فاكتسحت ممالك آسيا الوسطى والغربية، وقوضت عرش الخلافة العباسية، وأتت من فظائع التقتيل والتخريب ما لا ينساه التاريخ، وكانت القبائل التركية الإسلامية تفر من وجوههم مؤثرين الهجرة على الخضوع لجورهم. ومن هذه القبائل قبيلة صغيرة تدعى «الأغوز»، خرجت من ديارها في أواسط آسيا وغربت حتى وصلت إلى آسيا الصغرى التي بقي جزء منها وقتئذ في حوزة السلاجقة؛ تلك هي القبيلة التي نشأت منها الدولة العثمانية.
وبينما تتجول هذه القبيلة في آسيا الصغرى يرأسها كبيرها «أرطغرل» إذ وجدت جيشين يقتتلان، أحدهما من المغول والآخر من السلجوقيين؛ فانضمت إلى الجيش الذي كاد ينهزم، وهو السلجوقي، فانتصر بها على المغول وطردهم من بلاده، فرأى السلطان السلجوقي «علاء الدين» وجوب مكافأة «أرطغرل» على معونته له، فأقطعه قطعة من الأرض قرب مدينة «بروسة» على تخوم أملاك الدولة الرومانية الشرقية تسمى «إسكي شهر» - سلطانوني - فكانت مهد الدولة العثمانية، وفيها ولد «عثمان» بن «أرطغرل» الذي تنسب الدولة إليه.
ولد عثمان سنة (656ه/1258م) فنشأ مولعا بالحرب مظفرا فيها، فانتزع في صباه من دولة الروم الشرقية مدينة «قره حصار» وغيرها، فمنحه سلطان «قونية» لقب «بك» ورقاه إلى مرتبة الأمراء.
وفي سنة (699ه/1300م) قضى المغول على البقية الباقية من الدولة السلجوقية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحكموا تلك البلاد بأنفسهم، فاستقلت فيها عشر إمارات تركية؛ إحداها إمارة «عثمان» الذي اعتبر من ذلك الحين المؤسس للدولة العثمانية وأول حاكم مستقل فيها، أما باقي الإمارات التركية فاندمجت في هذه الإمارة على توالي الأيام، وسموا أنفسهم عثمانيين أيضا.
وأخذ عثمان ينظم أملاكه ويوسع نطاقها في الجهة الغربية؛ فاستولى على كثير من أملاك الدولة الرومانية الشرقية. وقبل وفاته فتح ابنه «أرخان» مدينة «بروسة» بعد حصار طويل، فصارت بعد حاضرة للدولة.
وفي سنة (726ه/1326م) خلف عثمان ابنه «أرخان» (726-761ه/1326-1359م)، فواصل الحرب على الدولة الرومانية الشرقية، فافتتح منها «نيقوميدية» و«نيقية» - أزنيق - وكثيرا من البلاد الآسيوية التي كانت لم تزل في حوزتها. ثم جنح «أرخان» إلى السلم، فقضى نحو 20 عاما بلا طعن ولا نزال، عني فيها بتثبيت دعائم ملكه في البلاد التي فتحها، وإصلاح الحكومة وتنظيم الجيش. وقد كان لعمله الأخير أكبر أثر في اتساع رقعة المملكة وتأييد مجدها؛ وذلك بفضل إنشاء طائفة «الإنكشارية» - العسكر الجديد - التي كونها وعني بتدريبها حتى صارت أهم فرقة في الجيش.
ومنشأ هذه الطائفة أن الدولة كانت تأخذ كل عام نحو ألف صبي من أبناء النصارى الذين قتل آباؤهم في الحرب، وتلقنهم الدين الإسلامي، وتربيتهم تربية عسكرية منظمة، منطبقة على أدق القواعد الحربية التي امتاز بها الترك في ذلك الزمان، حتى صارت هذه الطائفة لا مثيل لها في القوة والإقدام والمرانة على الحرب، وكان يفتح أمامهم طريق الرقي إلى أكبر المناصب في الدولة؛ فعد ذلك أكبر مشجع لهم على الطاعة وخوض غمار الحروب، وبقي هذا النظام متبعا نحو ثلاثة قرون. غير أنه تسوهل فيه أخريات هذه المدة؛ فكانت الجنود الجدد تجمع من الأسرات التركية، ومن أبناء الإنكشارية أنفسهم. ولما طال عليهم الأمد استأثروا بالسلطة وأساءوا استعمالها، وأصبحوا منبع الشغب والقلاقل في الدولة، فقضى عليهم السلطان محمود الثاني أوائل القرن التاسع عشر سنة (1241ه/1826م).
بعض ضباط الإنكشارية (رسم علي أفندي يوسف).
ولما أتم «أرخان» تنظيم الجيش وإصلاح الشئون الداخلية عاد إلى العمل على توسيع نطاق أملاكه، فأغار على الشاطئ الأوروبي، واستولى فيه على مدينة «غليبولي» وغيرها من المدن شمالي مضيق الدردنيل (758ه/1357م)؛ فكان ذلك مبدأ الفتوح العثمانية في أوروبا، التي أخذت من وقتئذ تزداد وتعظم ويقفو بعضها بعضا.
অজানা পৃষ্ঠা
ولما تولى الملك «مراد الأول» ابن أرخان (761-792ه /1359-1389م) هم بمواصلة تلك الفتوح؛ فأخضع معظم بلاد «الروملي» - الروم إيلي - واستولى فيها على «أدرنة» - التي أصبحت عاصمة جديدة للدولة - و«فلبو بوليس » - فلبة - وغيرهما من المدن العظيمة، فضاق بذلك نطاق أملاك الدولة الشرقية وهال هذا الفوز الكبير أمراء أوروبا؛ فعزموا على رد الترك إلى بلادهم في آسيا، فخرج لذلك الوجه ملوك «البوسنة» - البشناق - و«المجر» و«الصرب» بجيش عظيم ساروا به إلى «أدرنة»، فهزمهم الترك شر هزيمة سنة (765ه/1363م) ثم قفوا على أثر ذلك بإخضاع «بلغاريا»، وضمها إلى أملاكهم سنة (791ه/1388م) فعاود الفزع إمارات أوروبا الشرقية، وتحالفوا على قهر مراد، فسار إلى الصرب ليردهم، فالتقى بهم في واقعة «قوصوة» الشهيرة سنة (792ه/1389م)، فاصطلم جيوشهم اصطلاما، إلا أنه قتل على أثر الموقعة؛ طعنه صربي ثار به من بين القتلى، وكانت نتيجة تلك الواقعة أن دخلت «الصرب» أيضا في حوزة الدولة العثمانية.
ولم تكن غزوات مراد قاصرة على أوروبا، بل كان سيل جيوشه يتدفق على آسيا؛ فاستولى في أوائل حكمه على مدينة «أنقرة»، وواصل بعد فتوحه فيها، فاندرجت أربع من الإمارات العشر التي قامت على أنقاض دولة السلاجقة في سلك الأملاك العثمانية.
ثم خلفه ابنه «بايزيد الأول» (792-805ه/1389-1402م)، فلم يقل عن أبيه مهارة وإقداما؛ فأخضع باقي الإمارات التركية في آسيا، ووطد أركان دولته في أوروبا، وزاد عليها كثيرا من مدن الروملي، التي كانت لم تزل بعد في يد المسيحيين.
من أجل ذلك عم الهول والفزع معظم الأوروبيين، من كثرة فتوح العثمانيين وسرعة تقدمهم في أوروبا، وقامت بها ضجة دينية للحض على غزاتهم؛ فقام البابا يدعو الناس باسم الدين إلى مقابلتهم، وخرج لذلك جيش أوروبي عظيم بقيادة «سجسمند» ملك المجر، ضم بين كتائبه كثيرا من فرسان فرنسا وألمانيا، وكان بايزيد إذ ذاك غائبا في آسيا؛ ففاز الأوروبيون في بادئ الأمر، واستردوا من الترك كثيرا من المدن، ثم شرعوا في حصار مدينة «نيقوبوليس»، وهي من أمنع المدن على نهر «الطونة»، فلما علم بايزيد بذلك أسرع للقائهم، فهزمهم هزيمة تعد من أنكر الهزائم التي دونها التاريخ؛ بحيث لم ينج من جيوشهم إلا النزر اليسير، سنة (799ه/1396م).
وشرع بايزيد بعد واقعة نيقوبوليس هذه في غزو بلاد اليونان؛ فأخضع منها «تساليا» و«أبيروس»، وكان على وشك التأهب لفتح القسطنطينية، التي طالما تاقت نفسه ونفس الفاتحين من المسلمين لغزوها، لولا أن داهمته غارة التتار على أملاكه الآسيوية بقيادة الجبار الشهير «تيمورلنك»، فخرج بايزيد لصده، وتقابل الجيشان في «أنقرة» سنة (805ه/1402م)، فكانت الهزيمة على العثمانيين، وأخذ بايزيد أسيرا،
3
فبقي في أسره حتى مات كمدا بعد ذلك بثمانية أشهر.
وقد كادت هذه الهزيمة تكون قاضية على العثمانيين لولا أن هلك «تيمورلنك» وتشتت شمل دولته إثر وفاته، وكان لبايزيد أربعة أولاد، بقوا عشر سنين يقتتلون من أجل العرش.
ثم انتهى الأمر بتغلب أحدهم «محمد الأول» (816-824ه/1413-1421م)، فكان من خيرة سلاطين آل عثمان؛ لم شعث الدولة بعد أن مزقها «تيمورلنك»، وكبح جماح الإمارات التي كانت أخذت تتمرد على الدولة لما رأته من انهزامها الشنيع، وأصلح ما أفسدته الفتن التي حدثت بينه وبين إخوته قبل خلوص الملك له. ولم يمض عليه ثمانية أعوام حتى استرجع للدولة كل ما كان لها قبل واقعة أنقرة؛ فكان ذلك من أمجد ما وعاه التاريخ للدولة العثمانية.
ومات السلطان «محمد الأول» سنة (824ه/1421م) في الثالثة والثلاثين من عمره، فخلفه «مراد الثاني» (824-855ه/1421-1451م)، فعمل على مواصلة الفتوح التي وقفتها غارة تيمورلنك، وكان إمبراطور دولة الروم الشرقية قد مالأ أحد المطالبين بالملك من أبناء مراد؛ فقابل ذلك مراد بمحاصرة القسطنطينية، وقد كاد يفتحها لولا أنه اضطر إلى فض الحصار عنها لإخماد ثورة أثارها عليه في آسيا أحد إخوته.
অজানা পৃষ্ঠা
ثم قامت بأوروبا نهضة جديدة لإخراج العثمانيين من هذه القارة؛ فخرج لذلك جيش جرار، جمعت كتائبه من ممالك أوروبية عديدة، يقوده «هونياد» القائد المجري العظيم، الذي لم ير الترك قبل ذلك أحدا من المسيحيين في بأسه وبطشه؛ فاكتسح الجيش كل شيء أمامه حتى اجتاز البلقان، فاضطر السلطان مراد إلى عقد مهادنة مع المسيحيين لمدة عشر سنوات، على أن يتنازل عن الصرب ويعطي «بلاد الأفلاق» للمجر - معاهدة إزجدن سنة 848ه/1444م.
هونياد المجري (عدو الترك العنيد).
ثم رأى مراد أن يستريح من عناء الملك، فتنازل عن العرش لابنه «محمد الثاني» - وكان حديث السن - وأقام بآسيا يطلب الراحة، فلما رأى المسيحيون ذلك طمعوا في الدولة، فنقضوا عهدهم، وزحفت جيوشهم بقيادة «هونياد» على الأراضي العثمانية، واستولت على كثير من حصون بلغاريا، فلما علم مراد بذلك رجع إلى الملك وسار بجيش إليهم، وكانوا قد استولوا على «ورنة»، فالتقى بهم خارج المدينة في معركة فاصلة، انتهت بانهزام المسيحيين هزيمة شنيعة، وقتل فيها بعض ملوكهم وأمرائهم (سنة 848ه/نوفمبر سنة 1444م)، وكان العثمانيون أثناء الموقعة يحملون في جملة أعلامهم لواء معلقة عليه صورة من المعاهدة، تذكرة للأعداء بغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق، ثم أتم مراد إخضاع البوسنة والصرب، ومات عام (855ه/1451م)؛ فترك لابنه محمد الثاني ملكا واسعا ثابت الأركان.
تولى «محمد الثاني» الشهير بمحمد الفاتح (855-886ه/1451-1481م) وهو في الحادية والعشرين من عمره، فبادر بالتأهب لفتح القسطنطينية، وأعد لذلك المعدات العظيمة، وفي سنة (857ه/1453م) تم له فتحها بعد أن أعيا كثيرا من ملوك المسلمين قبله؛ فقضى بذلك على دولة الروم الشرقية القضاء الأخير، ويعد فتح القسطنطينية من أهم الحوادث التاريخية، كما يعتبر عام فتحها (857ه/1453م) مبدأ التاريخ الحديث. (2) اضمحلال الدولة البوزنطية
4
وسقوط القسطنطينية في يد العثمانيين
ذكرنا في كتاب «تاريخ مصر إلى الفتح العثماني» أن قسطنطين الأكبر نقل عاصمة الدولة الرومانية إلى مدينة «بوزنطة» على شواطئ البوسفور سنة 330م، وأنها سميت من ذلك الحين بالقسطنطينية منسوبة إليه، وفي سنة 395م تم تقسيم الدولة إلى قسمين: الدولة الغربية، وعاصمتها رومية، والدولة الشرقية، وعاصمتها القسطنطينية.
فلم تعمر الدولة الغربية طويلا لكثرة غارات الأمم المتبربرة عليها؛ إذ استولى عليها القوط سنة 476م.
أما الدولة الشرقية فلبثت نحو 1000 سنة تمكنت فيها - بفضل مناعة موقعها - من رد غارات الأمم المتبربرة الأوروبية من القوط والسلاف وغيرهم، كما صدت غارات الفرس والعرب عن حاضرتها نفسها، وعن معظم أوروبا، ولكنها لم تستطع الدفاع عن أكثر أملاكها خارج أوروبا؛ فقد رأينا كيف نزع العرب من يدها شرقي آسيا الصغرى وسورية وفلسطين ومصر وبرقة وإفريقية وجزائر البحر الأبيض الشرقية.
أنهكت كل هذه المكافحات قوى الدولة وفتت في عضدها، إلى أن دخلت عليها عوامل فناء أخرى شديدة كان فيها القضاء على البقية الباقية منها. وهذه العوامل الجديدة ترجع إلى ثلاثة حوادث عظيمة، وهي: (1)
অজানা পৃষ্ঠা
غارة الصليبيين على القسطنطينية في إحدى حروبهم الصليبية التي شنوها على المسلمين، وتأسيسهم دولة لاتينية بها استمرت نحو 60 عاما (600-660ه/1204-1261م). (2)
مهاجمة الترك لأملاكها من كل جانب. (3)
انتشار الوباء العظيم المعروف بالموت الأسود.
أما غارة الصليبيين على القسطنطينية فبيانها أن حملة صليبية كبيرة خرجت من غربي أوروبا سنة (600ه/1204م) للإغارة على مصر - قلب الدولة الإسلامية في ذلك الحين - ومرت الحملة في طريقها على القسطنطينية، فطمعت في ثروتها العظيمة وأملاكها الشاسعة، ورأى رجالها من ضعف الدولة الرومانية ما شجعهم على ذلك؛ فنسوا غرضهم الأصلي، واستولوا على القسطنطينية، وأسسوا بها دولة تعرف بالدولة اللاتينية نسبة إلى لغتهم، وبقوا بها نحو ستين عاما خربوا فيها كثيرا من البلاد، ونهبوا معظم نفائسها القديمة، ونقلوها إلى بلادهم، ولم يحدثوا في البلاد أي إصلاح أثناء إقامتهم بها، لجهلهم نظام الملك وإدارة شئون حكومة منتظمة مشيدة على أساس مكين مثل حكومة الدولة الرومانية، وكانت البلاد في أيامهم - لاختلافهم في الرأي وتنافسهم فيما بينهم - ميدانا للفتن والقلاقل الدائمة، أما إمبراطور الروم فإنه انحاز إلى آسيا الصغرى، وجعل مقر ملكه في «نيقية» التي ما زالت حاضرة للروم حتى انتهزوا فرصة ضعف الصليبيين في سنة (660ه/1261م) واستردوا القسطنطيينة، وأعادوا إليها مقر ملكهم.
على أن الدولة لم تتخلص من كل ما لحقها من أذى هذه الحادثة، فإن تشتت شملها أثناء حكم اللاتين كان قد ذهب برجالها الملمين بالقوانين وأنظمة الحكومة؛ فلاقت صعوبة كبيرة في تشييد ما هدمه الصليبيون من جديد. وإن انتشار الفتن في البلاد هذه المدة حمل الكثيرين على المهاجرة من الأرض فباتت خرابا بلاقع بعد أن كانت من أخصب بقاع الدنيا، واضطر أيضا أصحاب المتاجر التي كانت تمر بين الشرق والغرب عن طريق البسفور إلى تحويل متاجرهم إلى جهات أخرى أكثر مأمنا وأقل اضطرابا.
ثم لما رجع مقر الدولة إلى القسطنطينية، وحاول قياصرتها إصلاح ما فسد منها، وجدوا من المنازعات الدينية والاضطرابات الداخلية بين أهل الدولة أكبر عقبة في تحقيق أمنيتهم؛ فإنهم لما علموا أن الصليبيين عازمون على إعادة الكرة عليهم لجئوا إلى التودد إلى «البابا» ليدفعهم عنهم، فوعدهم هذا بمد يد المساعدة في ذلك، وفي رد غارات الترك عن دولتهم إذا عملوا هم على توحيد الكنيستين: الشرقية بالقسطنطينية، والغربية برومية، واعتراف الأولى للبابا بالسيادة؛ فجد القياصرة في ذلك ما استطاعوا وعزلوا من خالفهم فيه من البطارقة؛ فكان ذلك سببا في ظهور أحزاب متضادة، بعضها يؤيد البطريق، وبعضها يعاضد الإمبراطور. وما زال الأمر كذلك حتى تم توحيد الكنيستين في سنة (843ه/1439م) عقب انعقاد مجلس ملي بإيطاليا دعا البابا إليه القيصر وممثلي بطريقية الأستانة؛ فثار غضب أهل القسطنطينية لذلك، ولما رآه بعضهم بنفسه عند انعقاد المجلس من قلة نفوذ البابا بين دول أوروبا الغربية وعدم مقدرته على مساعدة دولتهم بشيء، وازداد حنقهم عند إعلان توحيد الكنيستين. ومن ذلك العهد استفحل خطب الفتن الدينية.
على أن الفتن الداخلية في الدولة لم تكن قاصرة على الأمور الدينية، بل كان عرش الملك نفسه منشأ فتن مستمرة منذ عاد مقر الدولة إلى القسطنطينية؛ فإن أول إمبراطور انتزع هذه العاصمة من اللاتين - وهو ميخائيل الثامن - كان نفسه مغتصبا للملك؛ اغتصبه من طفل كان وصيا عليه، فأشعل الشرارة الأولى من نار المنازعة في شأن العرش، وبقيت هذه النار مستعرة حتى آخر أيام الدولة.
وقد كان لغارة اللاتين على القسطنطينية ضرر آخر لا يقل عن جميع ما تقدم؛ وذلك أن الشعوب القاطنة في البلقان بعد أن كانت خاضعة للدولة، وملتئما بعضها ببعض - لعظم سلطانها وشدة بأسها - وجدت من ضعف الدولة اللاتينية باعثا على استقلال كل منها بنفسها دون مراعاة لما يعود عليها من النفع من اتحادها. ثم استطار الشر بينها وصار بعضها يستعين بالأتراك وغيرهم على اقتناص ما تصل إليه يده من أملاك الدولة؛ وبذلك كثرت غارات البلغار والصرب والمجر والتتار على أملاكها، حتى صارت من أكبر العوامل على فنائها.
وأما ثاني الأمور الأساسية التي أدت إلى سقوط الدولة الرومانية الشرقية، فهو مهاجمة الترك لها من كل جانب بلا انقطاع، مقتلين الكثير من سكان تلك الجهات، ومشردين الباقين أمامهم إلى الفلوات والأطراف القاصية؛ مما خرب البلاد وذهب بغالب أهليها.
وزاد هذا النقص وباء عظيم انتشر في أوروبا نحو قرن من الزمان حتى أفنى ألوف الألوف من أهلها؛ ذلك هو الوباء الهائل المعروف في التاريخ ب «الموت الأسود». ظهر في شرقي أوروبا عام (747ه/1347م)، ثم اطرد إلى باقي أنحاء القارة، فكان أنى انتقل يفتك بالناس فتكا ذريعا، حتى زادت نسبة من ماتوا به في بعض الممالك على النصف،
অজানা পৃষ্ঠা
5
وقد وجد هذا الوباء منبتا خصبا له في مدن الدولة الرومانية الغاصة بالسكان، والتي لم تلق من حكومتها المشتغلة بالفتن الدينية والقلاقل السياسية العناية اللازمة لاتخاذ التدابير الصحية التي تكفي لمقاومته أو لنقص فتكه، حتى أصبح عدد سكان البلاد لا يكفي لجمع الجيوش التي تقوم بالدفاع عن الدولة.
6 (3) الدولة العثمانية في أوج عظمتها (857-974ه/1453-1566م)
هكذا كانت حال الدولة الرومانية عندما جلس محمد الثاني على عرش آل عثمان، فعمل في الحال على تحقيق أمنية بيته، وهي فتح القسطنطينية وجعلها مقرا له؛ فأعد لذلك جيشا عظيما سار به لفتح المدينة في ربيع عام (857ه/1453م).
أما شكل المدينة فسهل التصور؛ إذ هي أشبه بمثلث متساوي الساقين محاط بالأسوار من كل جانب، رأسه بارز شرقا في مياه البسفور، والضلع الشمالية يحدها الميناء المسمى «القرن الذهبي»، والضلع الجنوبية يحدها بحر مرمرة، أما قاعدة هذا المثلث فهي الأسوار الغربية التي تفصل المدينة عن باقي القارة الأوروبية.
فبدأ السلطان بمهاجمة الأسوار الغربية، وكانت تمتد من القرن الذهبي إلى بحر مرمرة، ثم رأى على ضخامة مدافعه
7
أنه لا يستطيع التغلب عليها لمناعتها وعظم سمكها؛ فعول على مهاجمة المدينة من أضعف جهاتها وهي الجهة المشرفة على القرن الذهبي، وكان الروم قد احتاطوا لذلك، ومدوا سلسلة عظيمة على مدخل القرن الذهبي حتى لا تدخله سفن الأعداء لتهاجم الأسوار من تلك الجهة، فلم يثن ذلك من عزم العثمانيين، واحتالوا على نقل سفنهم إلى القرن الذهبي بطريقة صعبة لا تزال من أعجب ما حدث في التاريخ؛ وذلك أنهم مهدوا طريقا بريا بين البسفور والقرن الذهبي يبلغ طوله نحو الفرسخين، ووضعوا عليه عوارض ضخمة من الخشب تتدحرج عليها أسطوانات طويلة من الخشب أيضا «بكر»، وسيروا فوقها 80 سفينة صغيرة من أسطولهم الذي كان بالبسفور؛ فجرت عليها السفن والريح تدفع في شراعها كأنها تجري على الماء، حتى بلغت القرن الذهبي، فنزلت فيه بلا عناء، وكان السلطان محمد أثناء نقل هذا الأسطول يضلل حامية المدينة بالإلحاح على ضربها بالمدافع من باقي الجهات الأخرى؛ وعندئذ اشتركت السفن والجيش البري في ضرب الأسوار، فلم تقو على احتمال هذه النيران. وحمل العثمانيون على المدينة حملة صادقة، فدخلوها بعد قتال عنيف قتل فيه إمبراطور الروم «قسطنطين باليولوغوس»، وكان ذلك في أواخر عام (857ه/1453م)، وبه سقطت دولة الروم الشرقية.
ودخل السلطان محمد عاصمته الجديدة في موكب حافل، وسار توا إلى كنيسة «أياصوفيا»، فصلى فيها ظهر ذلك اليوم، وبقيت مسجدا إسلاميا إلى الآن. وهذا البناء من أجمل آثار دولة الروم الشرقية، ومن أحسن النماذج لفن المباني البوزنطية.
استولى السلطان محمد الفاتح على عاصمة الروم وهو لا يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، فلم تقف فتوحه عند ذلك، ولم يلبث أن تم له إخضاع معظم «المورة» و«الصرب» و«البوسنة»، وأراد الإغارة على إيطاليا وألبانيا، فحال دونها وقوف «إسكندر بك الألباني» و«هونياد المجري» في طريقه إليهما.
অজানা পৃষ্ঠা
وذلك أن أولهما كان أول أمره في خدمة مراد الثاني، ثم نصبه واليا على ألبانيا - موطنه الأصلي - فخرج على الدولة وأراد أن يستقل بألبانيا، وساعدته طبيعة تلك البلاد الجبلية على صد الجند العثمانية سنة بعد أخرى، فلم يقم للسلطان إخضاع ألبانيا إلا بعد عشرين عاما، أي بعد وفاة إسكندر بك في عام (871ه/1467م)، ولم يعش محمد الثاني لتحقيق أمنيته في إيطاليا.
أما «هونياد» فإنه وقف للسلطان في «بلغراد» عام (860ه/1456م) عندما أراد الإغارة على المجر وألبانيا، وهزمه هزيمة كبيرة اضطرته إلى الرجوع من تلك المدينة بعد أن خسر من جيوشه نحو 25000 مقاتل، فانصرف عن تلك البلاد الشمالية.
جامع أياصوفيا.
على أن صد جيوشه في هذين الموضعين لم يمنعه من مواصلة فتوحه في الجهات الأخرى؛ فاستولى في آسيا على «طربزون» - أطرابزندة - من بقية أملاك الروم، وأخضع إمارة «القرمان» التركية إخضاعا نهائيا، وفي سنة (879ه/1475م) دانت له بلاد «القرم» فبقيت خاضعة للدولة نحو ثلاثة قرون من الزمان. ثم كان عاقبة تغلبه على ألبانيا أن أزال أكبر عقبة في سبيل توسيع أملاكه من الغرب؛ فتوغل في أملاك البندقية توغلا فزع منه البنادقة، ولم يسعهم إلا أن عقدوا معه محالفة لتسلم لهم مدينتهم، سنة (882ه/1477م).
محمد الفاتح (رسم علي أفندي يوسف).
أما إيطاليا فلم يبرح أمرها قط من ذهن محمد الثاني، وكان جل أمانيه فتحها ورفع لواء الإسلام على رومية في الغرب، كما رفعه على القسطنطينية في الشرق.
ورأى أن يمهد الطريق لذلك بانتزاع جزيرة «رودس» من أيدي «فرسان القديس يوحنا»، فسير عليهم أسطولا عظيما، وضيق الحصار على جزيرتهم ثلاثة أشهر، ولكنه لم يقو عليهم، وفترت همة جنود الإنكشارية لما علموا أن السلطان منع استيلاءهم على شيء من غنائم الجزيرة، فاضطر محمد إلى فض الحصار، وأبرم مع الفرسان صلحا عام (885ه/1480م).
ثم عاد فوجه همه لفتح إيطاليا، فأرسل جيشا استولى على مدينة «أترنتو» سنة (885ه/1480م).
وكان في العام التالي يشتغل بإعداد حملة عظيمة لإتمام فتح تلك البلاد، فمات فجاءة عام (886ه/1481م)؛ وبموته انصرف العثمانيون عن هذه الجهة، وفي أيام خلفه أخلى العثمانيون «أترانتو» ذاتها، ولم يحتلوا بعدها شيئا من الأراضي الإيطالية.
ثم خلفه ابنه «بايزيد الثاني» (886-918ه/1481-1512م)، فكان أضعف سلاطين آل عثمان إلى ذلك الوقت، ولم يكد يجلس على العرش حتى خرج عليه أخوه الأصغر «جم» مطالبا بالملك، وكان قوي البأس، فلاقى بايزيد صعوبة كبيرة في مكافحته، إلى أن اضطره إلى الفرار إلى مصر. وكان بايزيد محبا للسلم، لا يدخل الحروب إلا مدافعا، ولم يزد في أملاك الدولة إلا بضع مدن في مورة، وقد علمنا ما كان من أمره مع مماليك مصر وانتصارهم على جيوشه في الشام. على أن قوة الأسطول عظمت في عهده، وصارت من ذلك الحين موضع خطر على الممالك الأوروبية، فلم يلبث أن اشتبك مع أسطول البنادقة في موقعة هائلة هي فاتحة الانتصارات البحرية العثمانية على ممالك البحر الأبيض، وكانت جنود الإنكشارية لا يعجبهم انكماش بايزيد وضعفه، فالتفوا حول أصغر أولاده «سليم»، وأرغموا بايزيد على التنازل عن العرش سنة (918ه/1512م).
অজানা পৃষ্ঠা
فتولى السلطان «سليم الأول» (918-926ه/1512-1520م)؛ فكان من أعظم سلاطين العثمانيين وأكثرهم انتصارا وفتحا، وكان مجيدا لقيادة الجيوش والسياسة، كثير الاطلاع، ولوعا بالأدب، إلا أن شيئا يخالطه من القسوة والميل إلى سفك الدماء، وقد قيل إنه قتل من أقاربه وعماله ما لم يقتله أحد قبله ولا بعده من ملوك آل عثمان. ورأى السلطان سليم أن يقف فتوح الدولة في أوروبا فترة، وأن يستعيض عن ذلك بالاستيلاء على شيء من ممالك الشرق النفيسة.
فبدأ بدولة فارس، وكان على عرشها حينئذ الشاه إسماعيل الصفوي، وكان قد ذاع صيته بفتوحه في المشرق، وأصبح لا يبالي بنشر مذهب الشيعة - الذي يمقته العثمانيون - في آسيا الصغرى، ويحرض أمراء تلك الجهة على الخروج على العثمانيين؛ فعزم السلطان سليم على غزو فارس، وعجل ذلك إيواء الشاه إسماعيل لابن أخي سليم، الفار من وجهه.
ففي سنة (920ه/1514م) خرج السلطان سليم بجيش عظيم يريد غزو الفرس، مارا في طريقه على «ديار بكر» و«كردستان»؛ فتراجع الفرس إلى داخل بلادهم وخربوا كل ما في طريق الترك من المرافق كي تضمحل جيوشهم جوعا وتعبا، ولما التقى الفريقان في وادي «جلديران» قرب «تبريز» كانت الجنود العثمانية في شدة التعب، إلا أن الفرس لم يقووا على مقاومة قوة الإنكشارية والمدافع العثمانية، فانهزموا شر هزيمة؛ فدخل السلطان سليم «تبريز» - حاضرة الفرس في ذلك الوقت - وأمر بإرسال ألف من أمهر صناعها إلى القسطنطينية، ثم اضطر بعد أيام إلى الانصراف إلى بلاده، لتمرد جنود الإنكشارية عليه. وكانت نتيجة تلك الحرب استيلاء العثمانيين على «ديار بكر» و«كردستان».
وبعد عامين (1922ه/1516م) خرج السلطان سليم لفتح مصر، ففتحها كما أوضحنا في غير هذا المكان، وجنى بيت آل عثمان من فتح مصر فائدة لم يجنها من فتح غيرها من البلدان؛ إذ إنه بتنازل الخليفة العباسي بمصر عن الخلافة للسلطان سليم الأول سنة (923ه/1517م) صار له ولسلاطين آل عثمان من بعده زعامة على العالم الإسلامي لم تكن لهم من قبل. وكان السلطان يتأهب بعد ذلك لفتح «رودس»، فمات قبل أن يتم عمله، بعد ثمانية أعوام من حكمه.
فتولى ابنه السلطان «سليمان القانوني» (926-974ه/1520-1566م)، وهو أعظم سلاطين آل عثمان، وعصره أزهر عصر في تاريخهم؛ إذ كانت للدولة في أيامه مكانة لم تحزها قبله أو بعده؛ صادفت أيامه تلك النهضة العلمية العظيمة التي انتشرت في أنحاء أوروبا في القرن السادس عشر من الميلاد المسيحي، وحدت بالغربيين إلى تلك الاستكشافات العلمية والجغرافية - التي أسست عليها المدنية الحديثة، والتي كانت سائرة حينئذ بسرعة لم يسبق لها مثيل - فلم يقتصر العثمانيون على السير بجانبهم في ذلك المضمار، بل فاقوهم فيه في عدة أمور، ولا سيما الفنون الحربية. ولم يكن بين ملوك أوروبا في عصر سليمان من يفوقه غزوا أو سياسة أو إدارة.
أما فتوح سليمان فلم تكن بأقل من فتوح سليم أو محمد الفاتح؛ إذ تم له في العامين الأولين من حكمه ما استعصى عليهما قبله؛ ففي سنة (927ه/1521م) استولى على «بلغراد»، وفي قابل فتح «رودس»، انتزعها من فرسان القديس يوحنا بعد حصار أظهر فيه من الكفاءة والدراية بالعلوم الحربية ما عظم به شأن الدولة في أعين الأوروبيين.
على أن معظم غزوات سليمان كانت موجهة إلى الغرب للتغلب على النمسا والمجر، ولا سيما الأخيرة التي طالما وقفت في وجه العثمانيين، ومنعتهم من الزحف في أوروبا إلى ما وراء الصرب والبوسنة؛ ففي سنة (932ه/1526م) غزا بلاد المجر، فلما التقى بجيوشهم في موقعة «موهاكر» الفاصلة لم يثبت جيش المجر أكثر من ساعة واحدة قتل فيها ملكهم «لويس الثاني» وكثير من الأمراء، وفتح السلطان معظم المدن والقلاع التي بالأقاليم الجنوبية، ثم ولى على البلاد ملكا من أهلها وهو «جان زابولي»، وغادرها ومعه أكثر من مائة ألف أسير.
وبعد خروجه من البلاد أغار عليها «فردنند» ملك النمسا، واستولى على مدينة «بودا»، وخلع الأمير الذي نصبه سليمان؛ فاستغاث الأمير بالسلطان، فخرج في جيش عظيم مؤلف من 250000 مقاتل و300 مدفع، فاسترد «بودا» وأعاد «زابولي» إلى عرشه، ثم اتخذ عمل «فردنند» ذريعة للإغارة على النمسا، فسار نحو «ويانا» - فينا - وكان فصل الشتاء قد أقبل وكثر المطر، فاضطر العثمانيون لترك مدافعهم الضخمة بالمجر، فلما وصل سليمان إلى «ويانة» ألقى عليها الحصار عشرين يوما سنة (935ه/1529م)، ثم وجد أن الجو وقلة المدافع يحولان دون الاستيلاء على المدينة، فرجع عنها. وكان هذا أول نزال فشل فيه، فلم ينسه طول حياته.
وبقيت الحرب إلى سنة (940ه/1533م)، فتم الصلح على تقسيم بلاد المجر بين زابولي وفردنند. ولما مات الأول عام (946ه/1539م) أغار فردنند على البلاد جميعها، فغزا السلطان سليمان بلاد المجر كرة أخرى، وكان هذه المرة يترك حامية في كل مدينة يفتتحها، لجعلها من الأملاك العثمانية، ثم تم الصلح بين الفريقين؛ فاعترف فردنند للسلطان بسيادته على المجر وترنسلوانيا، وتعهد أن يدفع له جزية سنوية. وربما كان خذلانه أكبر لو لم يشغل سليمان عن تلك الجهات بحروبه مع فارس وغيرها من بلاد المشرق. ومما فتحه السلطان في المشرق جزء كبير من أرمينية وأرض الجزيرة والعراق وفيه مدينة بغداد العظيمة.
وفي عصر هذا السلطان تقدمت البحرية العثمانية تقدما عظيما حتى صارت تهابها الأمم في جميع البحار، من البحر الأبيض فالبحر الأحمر، إلى المحيط الهندي. وظهر في الدولة إذ ذاك من مهرة الملاحين وأمراء البحر من تفتخر بهم أعظم دولة بحرية، وفي مقدمتهم «أسرة بربروس» الشهيرة، ورأسها «خير الدين بربروس» أكبر قواد أوروبا البحرية في عصره. ولد في جزيرة «لسبوس»، ثم اتخذ هو وأخوه قطع طريق البحر مهنة لهما، وكانت منتشرة وقتئذ في البحر الأبيض المتوسط، ثم عظم شأنه في هذه المهنة وصارت له سطوة عظيمة، واستولى على كثير من ثغور شمالي إفريقية، إلى أن صار صاحب الكلمة العليا في بلاد الجزائر؛ وعند ذلك قدم ولاءه للباب العالي، فنصبه السلطان سليم الأول حاكما عاما للجزائر سنة (926ه/1519م)، وأجزل له العطاء، وأمده بألفي جندي من الإنكشارية، وفي سنة (941ه/1533م) اختاره السلطان سليمان قائدا للأسطول العثماني الذي سيره لمحاربة أساطيل «شارل الخامس » «شرلكان» ملك إسبانيا، وكانت بقيادة أندريادوريا» الجنوي، فقهره «بربروس» وانقض على سواحل إيطاليا فسلب ونهب منها شيئا كثيرا، ثم ولى وجهته شطر تونس يريد الاستيلاء عليها، وكان يحكمها وقتئذ أحد ملوك الدولة الحفصية من بقايا الموحدين؛ فلجأ إلى شارل الخامس المذكور، فذهب شارل بنفسه إلى إفريقية في جيش عظيم، فلم يقدر بربروس على مقاومته وانجلى عن المدينة. ثم وقع خصام بين الدولة والبندقية لاعتداء بعض لصوص البحر من البنادقة على سفير الدولة في وقت السلم؛ فخرج «بربروس» إلى البحر الأدرياتي للانتقام من البندقية؛ فاستغاثت بالبابا وشارل الخامس، فساعداها بأسطوليهما، ولكن بربروس هزم الأساطيل الثلاثة في موقعة «برويزة» سنة (945ه/1538م) وقد حط ذلك كثيرا من شأن البنادقة.
অজানা পৃষ্ঠা
وفي عام (948ه/1541م) أغار «شارلكان» على بلاد الجزائر، فصده بربروس، وساعده الحظ بأن عصفت الرياح على سفن شارلكان فحطمتها، وبقي بربروس مصدر الرعب والفزع في البحر الأبيض إلى أن أرسله سليمان القانوني عام (950ه/1543م) لمساعدة حليفه ملك فرنسا في الإغارة على الأملاك الإسبانية، فاستولى بربروس على «نيس»، وبقي بفرنسا إلى أن خشي بأسه الفرنسيون أنفسهم، وأجزلوا له العطايا والهدايا، حتى جلا عن بلادهم وذهب إلى الأستانة حيث قضى بقية أيامه في هدوء متقلدا منصب قبودان باشا .
سليمان القانوني (رسم علي أفندي يوسف).
ومن أعظم أفراد هذا العصر أيضا «بيري ريس» و«سيدي علي»، وكانت لهما اليد الطولى في بسط نفوذ الدولة على شواطئ بلاد العرب وفارس والهند.
ومنهم «بيالة باشا»، فإنه حارب القائد الجنوي «دوريا» وانتصر على أساطيله انتصارا مبينا عند جزيرة «جربة» من أعمال تونس عام (967ه/1560م).
ومن أشد رجال هذا العصر بأسا «دراغوت» - طرغود - كان مثل بربروس في أول أمره مشتغلا بقطع الطريق في البحر، ولما علم بربروس بما له من الصيت الهائل في ذلك ضمه إليه ونصبه وكيلا له، ومن ذلك العهد أخذ يبدي من المهارة البحرية ما جعله أكبر قواد عصره، وانتصر على «دوريا» في عدة مواقع. ومن أهم أعماله أنه فتح مدينة «المهدية» عاصمة بلاد تونس في ذلك الوقت.
على أن الأساطيل العثمانية على قوتها وشدة بأسها لم تقدر على التغلب على «فرسان القديس يوحنا» أصحاب جزيرة مالطة. وكانت هذه الجزيرة قد أعطاها لهم الإمبراطور شارل الخامس عندما طردهم العثمانيون من جزيرة «رودس» سنة (928ه/1522م)، فبقوا محافظين على مالطة من ذلك العهد، وصدوا عنها العثمانيين مرارا، وفي أواخر أيام سليمان أرسلت الدولة إليها أسطولا عظيما سنة (973ه/1565م) بقيادة مصطفى باشا بيالة ودراغوت، فحاصروها أربعة أشهر ثم اضطروا للجلاء عنها بعد قتال عنيف؛ وذلك لما أبداه فرسان القديس يوحنا من الشجاعة والصبر. ولم يبق من حاميتها بعد هذا الصحار إلا ستمائة فارس، بعد أن كان بها تسعة آلاف.
ومات السلطان سليمان عام (974ه/1566م) أثناء غارته الأخيرة على المجر، وكانت سنه إذ ذاك ستا وسبعين سنة. (4) ابتداء اضمحلال الدولة العثمانية (974-1049ه/1566-1640م)
أجمع المؤرخون على أن عصر سليمان الأكبر هو العصر الذي بلغت فيه الدولة العثمانية أقصى مجدها وعظمتها؛ ففي مدة ثلاثة قرون تسنى لقبيلة آل عثمان الصغيرة أن تبسط سلطانها ونفوذها على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر، وتمد فتوحها من مكة المكرمة إلى بودا من جهة، ومن بغداد إلى الجزائر من جهة أخرى؛ فكان كل من الشاطئين الشمالي والجنوبي للبحر الأسود في قبضة يدهم، وجزء عظيم من مملكة النمسا والمجر الحالية يعترف بسلطانهم، وقد دان لسلطانهم أيضا شمالي إفريقية، من أطراف بلاد الشام إلى حدود بلاد مراكش.
وبعد موت سليمان ابتدأت الدولة في الانحطاط المستمر، اللهم إلا فترات كانت تنتعش فيها وتظهر بعض مجدها العسكري القديم. وترجع أسباب الانحطاط إلى عوامل خارجية وأخرى داخلية؛ فإن نمو الأمة الروسية، وظهور طائفة من أكابر القواد في المجر وبولندا والنمسا، لمن أهم الأسباب الخارجية التي أفضت إلى اضمحلال الدولة التركية، وأدت إلى انتقاصها إلى مساحتها الحالية.
ثم كانت ثمة جراثيم داخلية تفت في عظام الدولة، وتثل عرش مجدها وعظمتها الأثيلين؛ إذ إن حكم ولايات الدولة العثمانية المختلفة الأديان والمذاهب والأجناس، وحفظ نفوذها فيها، يحتاجان إلى نشاط وحكمة يفوقان مثلهما في إدارة شئون الدول الأخرى المؤلفة غالبا من عنصر واحد ودين واحد؛ لأن نفوذ الأتراك المستمد من القوة العسكرية، والذي يتحكمون به في رقاب كثير من الشعوب الأجنبية المختلفة في كل شيء لم يكن ليدوم طويلا إلا بعناية خاصة بإعداد الجيش لكل طارئ فجائي من جهة، وبإرضاء تلك الشعوب المختلفة والتوفيق بينها واكتساب احترامها للدولة من جهة أخرى.
অজানা পৃষ্ঠা
وذلك ما لم يتهيأ للحكومة العثمانية بعد سليمان؛ لأنها لم تعر كل هذه الأمور شيئا من الالتفات؛ إذ بعد أن نهض الملوك السالفون من آل عثمان بالدولة إلى ذروة مجدها - بما أوتوه من الذكاء والحذق - خلف من بعدهم خلف أضاع تلك الأملاك الشاسعة التي نالها أجداده بحد السيف وحافظوا على كيانها بحسن إدارتهم، ولم يكن لهؤلاء السلاطين الضعفاء هم إلا الانغماس في اللذات، غير مكترثين بتضعضع ملكهم.
فلما أصبح الجنود بلا سلطان شجاع يقودهم إلى ساحة الوغى وسقطت هيبة السلاطين من أعينهم، أخذوا يشعرون بما لهم من الحول والقوة، وابتدءوا يعزلون ويولون من السلاطين من يشاءون، مبتزين الأموال الكثيرة والأعطية الجزيلة من كل سلطان يقيمونه على العرش؛ فأدى استئثارهم بالسلطة الواسعة التي كانوا يستعملونها حسب أهوائهم إلى الانغماس في الترف والفساد، ففقد جنود الإنكشارية منهم بالتدريج ما كان لهم من الصفات الحربية القديمة، وأصبحوا لا يوثق بهم في ساحة القتال؛ فكان ما يبذل لهم من العطايا عند تولي كل سلطان تفوق قيمته في أعينهم أعظم انتصار لهم في ساحة القتال.
هذا إلى أن الجيش لم يدخل فيه من الإصلاحات ما يجاري به جيوش الممالك الأوروبية الأخرى من استخدام آلات القتال الجديدة والتفنن في الطرق الحربية التي كانت آخذة في التحسن عندهم.
على أن أعظم نقص ظهر في الجيش كان في قواده وضباطه؛ فلم تكن ترقية القواد بحسب الكفاءة الشخصية، بل بحسب ما يبذلونه من الرشوة لولاة الأمور وبطانة السلطان.
وليس غرضنا هنا أن نذكر بالتفصيل حوادث انحطاط الدولة وتدهورها التي هي في الجملة عبارة عن سلسلة هزائم يتخللها بعض انتصارات، وعدة معاهدات صلح تخسر الدولة في كل منها شيئا من أملاكها، ثم سير ملوك وحكام ضعفاء منهمكين في الشهوات، عمي البصيرة، إلا نفرا قليلا نهضوا بالدولة فترات يسيرة؛ وإنما غاية ما نستطيعه هنا هو أن نذكر بالإيجاز أهم الحوادث التي من أجلها انكمشت الدولة الدولة التركية وأصبحت في حجمها الحالي:
بعد سليمان الأكبر تولى الملك ابنه «سليم الثاني» (974-982ه/1566-1574م) وكان ضعيفا لاهيا سكيرا؛ ولذلك لقب بالمجنون.
ولكن النظام الباهر الذي وضع أساسه سليمان ورجال دولته لم يتلاش دفعة واحدة على يد خلفه؛ إذ كان كثير من عمال سليمان لا يزالون بعد أحياء، يدب في نفوسهم ذلك الروح العظيم الذي بثه فيها مولاهم، ونخص بالذكر منهم وزيره «صقلي محمود» الذي لم يأل جهدا في حكم البلاد على طريقة سيده؛ فكان من أعماله أنه أمر «سنان باشا» فأخضع بلاد العرب عام (978ه/1570م).
وبعد ذلك ابتدأ فتح جزيرة «قبرس» وانتزاعها من يد البنادقة، وقام بأمر هذه الحملة «لالا مصطفى» أحد نظراء «صقلي»، وقد كلف فتح هذه الجزيرة الدولة خمسين ألف مقاتل، أحفظت مصارعهم قائدهم مصطفى، فلم يشتف لهم في ساعة النصر إلا بالانتقام من قائد حامية الجزيرة شر انتقام؛ إذ سلخ جلده حيا .
وبهذا الفتح قويت شوكة العثمانيين في البحر، إلا أن ذلك لم يدم طويلا حتى اتحدت عليهم إسبانيا والبابا والبندقية وغيرها - واشترك معهم فرسان القديس يوحنا - في مايو سنة (979ه/1571م)، وكان غرض البندقية من هذا الاتحاد استرداد جزيرة قبرس فقط، غير أن «فليب» ملك إسبانيا أبى إلا أن يجعله تحالفا عاما؛ فتم الاتفاق على أن تكون إسبانيا والبابا والبندقية متحدة جميعا على مغاربة تونس وطرابلس والجزائر والترك، وأن تحمي كل منها أملاك الأخرى، وألا تعقد إحداهن صلحا على انفراد، وأن تعين كل من دول التحالف قائدا لأسطولها، وأن توكل القيادة العامة إلى «دون جون» النمسوي.
ظهر أسطول الحلفاء في 16 سبتمبر سنة 1571 في مياه «مسيني»، ولما وصل إلى «كرفو» بلغه أن الأسطول العثماني في خليج «ليبنتو». وفي سابع أكتوبر كان الأسطولان على مقربة بعضها من بعض في هذا الخليج، وكان أسطول الحلفاء يشمل 264 سفينة ذات حجوم مختلفة بعضها مسلح بأضخم المدافع، تحمل 26000 جندي و50000 مجذف وبحري. أما الأسطول التركي فكان يحتوي على 300 سفينة، وما لا يقل عن 120000 جندي ومجذف، وكان غرض أمير البحر التركي «بيالة باشا» في الموقعة التي نشبت أن يشتت جناحي أسطول خصمه، غير أن هذه الحركة لم تفلح؛ لأن «بربريجو» قائد سفن البندقية في الجناح الأيسر و«أندريا دوريا» في الجناح الأيمن احتميا بالشاطئ، وبعد ذلك نشبت معركة عنيفة خسر فيها الحلفاء خسارة عظيمة. غير أن البنادقة تمكنوا أخيرا من صد عدوهم بعد جرح قائدهم «بربريجو» جرحا مميتا، وقتل القائد التركي محمود «سيركو» - شلوك - الذي كان يهاجمه. وفي غضون ذلك كان قلب الأسطول بقيادة «دون جون» منتصرا بعد كفاح شديد أشبه بالحرب البرية منه بالحرب البحرية، قتل فيه القائد التركي «بيالة باشا» وسلم معظم المراكب التركية أو حطم. أما «علي الألوج» - داي الجزائر - الذي كان متغلبا على ما أمامه من سفن «جنوة»، فإنه لما رأى ما حل بالترك ولى هاربا؛ فتم بذلك النصر للمسيحيين.
অজানা পৃষ্ঠা
ويمكن معرفة ما لهذه الموقعة التي لم تستغرق أكثر من أربع ساعات من الأهمية إذا علمنا أن الترك لم تكن هزمت في البحار إلى ذلك اليوم. أما الخسائر فلا يمكن تقديرها بالتحقيق، غير أنه من المؤكد أن خسائر الترك كانت ضعفي خسائر الخلفاء، وأن ما نجا من سفنهم لم يتجاوز الخمسين.
وكان المنتظر بعد هذه الهزيمة المنكرة أن تفقد الدولة سيادتها على البحار، إلا أن ذلك لم يكن، وغاية ما أثرت أنها برهنت لدول أوروبا أنه يمكن التغلب على الترك. أما تأثيرها في سيادة الترك في البحر الأبيض خاصة فكان ضئيلا جدا؛ إذ إنهم بعد الهزيمة بمدة وجيزة أنشئوا لهم أسطولا بلغ عدد سفنه 250. ومما يبرهن على قلة تأثيرها أيضا أن البندقية نقضت عهودها مع حليفتيها، وطلبت إلى الباب العالي أن يعقد معها صلحا على انفراد، وقبلت أن تبقى قبرس في قبضة الباب العالي، وأن تدفع له الثمن الذي كلفه فتحها إياه.
بقيت بعد ذلك الدولة ربع قرن في مسالمة مع البندقية ، وذلك لا يرجع إلى تأثير المعاهدة فقط، بل إلى تأثير نفوذ بعض أزواج السلطان؛ إذ لما تولى مراد الثالث (982-1003ه/1574-1595م) الملك بعد موت أبيه سليم الثاني - وكان ضعيفا - ترك مناصب الدولة تباع لمن يدفع فيها أكبر قيمة، وكان طوع إرادة نسائه وخاصة حظيته «صفية»، وأصلها من سبي البندقية؛ فتسلطت عليه في مصلحة وطنها.
ولما مات هذا السلطان خلفه ابنها محمد الثالث (1003-1012ه/1595-1603م)، وهو واحد من أبناء مراد الثالث البالغ عددهم 102، وقد قتل منهم محمد هذا ثمانية عشر عند توليته عرش الخلافة، ولم تضعف في أيامه سلطة «صفية»، وبقيت هي صاحبة النفوذ والسلطان.
وكان أكبر مساعد لها في هذه المدة «سيكالا»، وهو من عنصر جنوى؛ تزوج بإحدى حفيدات سليمان الأكبر، وارتقى في الجيش العثماني بما كان له من الذكاء والحظوة، ولقد أدى خدمة عظيمة للترك في عام (1004ه/1596م)؛ وذلك أنه بعد أن حارب الترك جنود النمسا وترنسلوانيا واستولوا على «إرلو»، قضوا في مكافحتهم في سهل «كرزت» ثلاثة أيام بانت الهزيمة بعدها في الترك، وفكر السلطان مرتين في الهرب، فحمل سيكالا على جيوش الأعداء، وشتت شملها وأفنى من رجالها خمسين ألفا.
على أن هذا النصر لم يخلص الدولة من الثورات العسكرية والحروب الخارجية، وما كانت تشعر به البلاد من الاستياء العام، وأوضح دليل على وهن نفوذها أن النمسا حينما عقدت معها صلحا في عهد السلطان أحمد الأول (1012-1026ه/1603-1617م) وكان يناهز الرابعة عشرة من عمره؛ لم تعاملها إلا معاملة النظير للنظير، لا الضعيف للقوي، ومنعت ما كان مفروضا عليها من الجزية السنوية.
ثم سادت السكينة في الأصقاع التركية الشمالية؛ لأن يدي إمبراطور النمسا كانتا مغلولتين في حرب الثلاثين سنة،
8
وكان من مصلحته أن يكون على وفاق تام مع الترك، على حين أن الدولة نفسها لم تر فائدة من مهاجمته؛ لأنها كانت إذ ذاك قد استرجعت كل فتوحها.
وفي سنة 1032ه تولى السلطان «مراد الرابع» أريكة الملك (1032-1049ه/1623-1640م)، وكان شديد البأس، ولوعا بالحرب، إلا أنه رأى أن يبرم عقد صلح من جديد مع إمبراطور النمسا ليضمن به بقاء السكينة والهدوء في أجزاء الدولة العثمانية مدة النصف الأول من القرن السابع عشر، حتى يتمكن من توجيه كل قواه إلى الفرس.
অজানা পৃষ্ঠা
كان مراد الرابع آخر ملوك آل عثمان الحربيين، وأول حرب أثارها كانت على مملكة فارس، وسببها أنه في مدة مراد الثالث قامت حرب مع الشاه كان النصر فيها حليف الترك، وعقد الصلح في عام (998ه/1590م)، فضمت الترك إلى أملاكها بلاد «جرجيا» و«تبريز» وبعض الأقاليم المتاخمة لجنوبي بحر قزوين، إلا أن الفرس ما زالت تنازع الترك هذه الأقاليم حتى استرجعتها في عام (1028ه/1619م)، وأرجعت حدود الدولة من هذه الناحية إلى ما كانت عليه في عهد «سليم الأول»، فعزم مراد على فتح هذه الأصقاع ثانية، فلاقى في سبيل ذلك أهوالا عظيمة.
فإنه لما تولى عرش الخلافة - وهو في الحادية عشرة من عمره - كانت البلاد في حاجة إلى رجل يقبض على زمامها بيد من حديد، لتوالي المصائب عليها وهبوب عواصف الفتن والثورات فيها؛ فكانت الفرس منتصرة، وآسيا الصغرى في ثورة، وولاة الأقاليم متمردين، وأصبحت بلاد المغرب مستقلة، والخزينة خالية، والجيش ثائرا.
مراد الرابع (رسم علي أفندي يوسف).
إلا أنه رغم كل هذه الصعوبات العظيمة تمكن بمساعدة أمه من حفظ كيان الدولة بعد انهزامات مؤلمة؛ ففي التاسعة من حكمه ثارت الإنكشارية وطلبوا رأس وزيره الأول «حافظ باشنا»، فسلم هذا نفسه إليهم فداء لمليكه، إلا أن السلطان انتقم له بعد من هذه الفئة الضالة شر انتقام؛ إذ تمكن من قتل الثوار في كل إقليم وخصوصا الإنكشارية، حتى تكدست رءوسهم على ضفاف البسفور. وقد قيل إن من قتلوا في هذا الحادث يبلغون مائة ألف أو يزيدون.
ومن ذلك العهد قبض السلطان مراد الرابع على زمام الأمور بكل يقظة؛ فانتشر العدل وساد النظام في كل مكان بحالة لم ير مثلها منذ أيام سليمان الأكبر.
ولما استتب الأمن في نصابه سار مراد الرابع قاصدا حدود الدولة الآسيوية ينشر فيها السكينة؛ ففي عام (1045ه/1635م) أعاد فتح «أريوان»، وعاقب ولاة آسيا الصغرى على تمردهم. وفي عام (1048ه/1638م) قصد «بغداد» ليسترجعها من يد الفرس، فأخذها عنوة بعد أن أظهر في فتحها ضروب الشجاعة، وبعد أن فنيت كل حاميتها إلا ثلاثة آلاف، وتم بعدها عقد الصلح مع الشاه، وكانت نتيجته أن استردت الفرس بلاد «أريوان»، أما بغداد فبقيت من هذا الوقت في يد الأتراك، ودخل «مراد» القسطنطينية دخول المنتصر الظافر.
وفي العام التالي وافته منيته وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وبموته مات آخر سلطان حربي من ملوك آل عثمان. (5) عهد سلطة الوزراء - أسرة كبريلي (1049-1103ه/1640-1691م)
تولى شئون الملك بعد مراد الرابع السلطان «إبراهيم الأول» (1049-1058ه/1640- 1648م)، فلم يكن قوي العزيمة كسابقه؛ فدب في أيامه روح الفساد وسوء الإدارة في داخلية البلاد؛ ولذلك لم يفلح في فتح جزيرة إقريطش «كريت» بعد أن جهز لها أسطولا في عام (1055ه/1645م)، ولم يمكث طويلا حتى عزل وقتل.
وتولى بعده «محمد الرابع» (1058-1099ه/1648-1688م)؛ ففي العام الثاني من حكمه هزم الأسطول التركي في بحر الأرخبيل، وقامت الثورات الداخلية في آسيا الصغرى ، وأصبحت الحال في العاصمة أسوأ حال؛ إذ كان الوزراء يولون ويعزلون تباعا حسب إرادة نساء القصر، وطبقا لرغبات الجنود، واحتل الدردنيل عام (1066ه/1656م) أسطول للبنادقة هدد القسطنطينية نفسها. وقصارى القول أن الدولة في هذه الآونة كادت تتمزق شذر مذر؛ لعدم وجود رجل قوي الشكيمة يدير شئونها، حتى قيضت لها المقادير رجلا شديد البأس، حفظ كيانها هو وأفراد أسرته من بعده، ذلك الرجل هو «محمد كبريلي» رئيس أسرة كبريلي الشهيرة، وهي من عنصر ألباني استوطن القسطنطينية من زمن، وكان محمد هذا وقت ظهوره قد ناهز السبعين من عمره، وكان محترما من الصغير والكبير لقوة عقله وحسن أخلاقه. ولهذه الصفات اختارته أم السلطان «محمد الرابع» - الذي كان لا يزال فتى - صدرا أعظم، فقبل ذلك بشرط أن يطلق له العنان في إدارة شئون البلاد؛ فكانت نتيجة ذلك أنه أظهر شدة بأس مقرونة بعدل؛ فأعاد النظام في كل أصقاع الدولة.
وقضى في ذلك خمسة أعوام على أشد ما يكون وزير يقظة لكيد الكائدين، وضربا على أيدي المفسدين، فلم تر الدولة في كل عصورها رجلا مطاعا مثله، ذلك على شدة فيه ، وقد قتل في أيام وزارته بأمره 36000 شخص في سبيل توطيد السكينة.
অজানা পৃষ্ঠা