ولما كشفت علوم الجيولوجيا (طبقات الأرض) عن بطلان القول بقدم الأنواع رجع المتأخرون من الماديين عنه إلى القول بالحدوث. ثم اختلفوا في بحثين؛ الأول بحث تكون الجراثيم النباتية والحيوانية، فذهب جماعة إلى أن الجراثيم على اختلاف أنواعها تكونت عندما أخذ التهاب الأرض في التناقص، ثم انقطع التكون بانقضاء ذلك الطور الأرضي. وذهبت أخرى إلى أن الجراثيم لم تزل تتكون حتى اليوم خصوصا في خط الاستواء حيث تشتد الحرارة.
وعجزت كلتا الطائفتين عن بيان السبب لحياة تلك الجراثيم حياة نباتية أو حيوانية خصوصا بعدما تبين لهم أن الحياة فاعل في بسائط الجراثيم، موجب لالتئامها، حافظ لكونها. وأن قوتها الغاذية، هي التي تجعل غير الحي من الأجزاء حيا بالتغذية فإذا ضعفت الحياة ضعف تماسك البسائط وتجاذبها، ثم صارت إلى الانحلال. وظن قوم منهم أن تلك الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن كرة الشمس، وهو ظن عجيب لا ينطبق على أصلهم من أن الأرض عند الانفصال كانت جذوة نار ملتهبة، وكيف لم تحترق تلك الجراثيم ولم تمح صورها في تلك النيران المستعمرة؟!
والبحث الثاني من موضع اختلافهم صعود تلك الجراثيم من حضيض نقصها إلى ذروة كمالها (نقول: وصل السيد هنا إلى مذهب النشوء والارتقاء) وتحولها من حالة الخداج والنقص، إلى ما نراه من الصور المتقنة، والهيئات المحكمة، والبنى الكاملة فمنهم قائل: إن لكل نوع جرثومة خاصة به، ولكل جرثومة طبيعة تميل بها إلى حركة تناسبها في الأطوار الحيوية، وتجتذب إليها ما يلائمها من الأجزاء غير الحية ليصير جزءا لها بالتغذية، ثم تجلوه بلباس نوعه. وقد غفلوا عما أثبته التحليل الكيماوي من عدم التفاوت بين نطفة الإنسان ونطفة الثور ونطفة الحمار مثلا وظهور تماثل النطف بالعناصر البسيطة، فما منشأ التخالف في طبائع الجراثيم مع تماثل عناصرها؟!
ومنهم ذاهب إلى أن جراثيم الأنواع كافة - خصوصا الحيوانية - متماثلة في الجوهر، متساوية في الحقيقة، وليس بين الأنواع تخالف جوهري، ولا انفصال ذاتي. ومن هنا ذهب صاحب هذا القول إلى جواز انتقال الجرثومة. الواحدة من صورة نوعية إلى صورة نوعية أخرى بمقتضى الزمان والمكان، وحكم الحاجات والضرورات، وقضاء سلطان القواسر الخارجية.
ورأس القائلين بهذا القول «داروين» وقد ألف كتابا في بيان أن الإنسان كان قردا، ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة، وتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية حتى ارتقى إلى برزخ «اوران اوتان» ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان فكان صنف «البيم» وسائر الزنوج، ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين فكان الإنسان القوقاسي (قد ثبت أن الداروينيين يستندون في النشوء والارتقاء على جماجم وجدت في أوروبا تحت الأرض، وليس هذه الجماجم وهذه الهياكل أقرب إلى الإنسان القوقسي منها إلى الإنسان الزنجي، ولا هي بالعكس، بل هي ناقصة عن كل منهما) وعلى زعم داروين هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك! (لا مبالغة في قول السيد جمال الدين هذا عن مذهب داروين؛ لأن هذا المذهب يجعل البيئة والاحتياج والضرورة والتأثيرات الخارجية هي منشأ التنوع وأن كرور الدهور تحت هذه التأثيرات يؤدي إلى ما يظهر عجيبا وربما يظهر مستحيلا وليس الأمر كذلك عندهم، وإن الذي جعل كيماويا كبيرا مثل «برتلو» يسمي مذهب داروين قصصا متسع الخيال، هو حكم داروين باطراد هذا المبدأ في المخلوقات).
فإن سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند، والنباتات المولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلا ظنا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد؛ فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته، وأشكال أوراقه، وطوله، وقصره، وضخامته، ورقته، وزهره وثمره، وطعمه، ورائحته، وعمره؟ فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والهواء والماء؟! أظن لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه! وهكذا لو عرضت علية الحيوانات المختلفة البنى والصور، والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة، ولا تسلم حياتها في سائر المناطق. أو عرضت علية الحشرات المتباينة في الخلقة، المتباعدة في التركيب، المتولدة في بقعة واحدة ولا طاقة لها على قطع المسافات البعيدة لتخلو إلى تربة جديدة تخالف تربها؛ فماذا تكون حجته في علة اختلافها؟ كأنها تكون كسفا لا كشفا!
بل إذا قيل له: أي هاد هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها؟ وأي مرشد أرشدها إلى استتمام هذه الجروح والأعضاء الظاهرة والباطنة، ووضعها على مقتضى الحكمة وإيداع كل منها قوة على حسبه، ونوطها بكل قوة في عضو إزاء وظيفة، وإيفاء عمل حيوي، مما عجز الحكماء عن درك سره، ووقف علماء الفسيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه. وكيف صارت الضرورة العمياء معلما لتلك الجراثيم، وهاديا خبيرا لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ لا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ، وينتكس بين أمواج البحيرة، يدفعه ريب ويتلقاه شك إلى أبد الآبدين. الخ).
قلنا: يجوز أن يكون في كلام السيد جمال الدين ما يعترض علية بعض العلماء الطبيعيين من جهة أن السيد فيلسوف إلهي يستند على قواعد من الحكمة والمنطق أصبح كثير من الطبيعيين اليوم يرفضونها ولا يجلونها معيارا للحكم، ولكن لا يمكن هؤلاء ولا غيرهم أن يأتوا في نقض كلام السيد في هذا الموضوع بما يشفي الغليل، أو بما يثلج به اليقين، فلا «داروين» ولا «مارك» ولا «بخنر» ولا خصومهم الكثيرون في أوروبا، ولا «السيد جمال الدين» يقدر واحد منهم أن يقول قولا في معضلة كهذه ويسلم من الاعتراض من جهة من الجهات، وإنما هي نظريات يترجح بعضها في نظر بعض العلماء، ولا يكاد يجزم به حتى يقوم في وجهه ما يمنعه من الجزم.
وما أحسن قول جمال الدين: لا يزال يرفعه ريب ويتلقاه شك إلى أبد الآبدين. ولهذا نجد علم التكوين بنوع خاص بين مد وجزر، وأخذ ورد، وعكس وطرد لا ينتهي. وكيف يمكن أن ينتهي والآثار التي بنى أصحاب مذهب النشوء والارتقاء عليها آراءهم هي أثار ضئيلة جدا، نسبتها إلى الموضوع نسبة النقطة إلى الغدير! وقد اعترفوا هم بأن كل ما عثروا عليه في باطن الأرض إن هو إلا هيكلان أو ثلاثة في القارة الأوروبية، ولم يعثروا حتى هذه الساعة على شيء في القارات الأخرى التي هي أوسع من أوروبا بكثير! وما دامت الشواهد ضئيلة إلى هذه الدرجة ومنحصرة في بقعة واحدة؛ فإنه يستحيل القطع بشيء. هذا ولقد كان أول من كتب عن مذهب داروين باللسان العربي الدكتور شبلي شميل اللبناني، نشر في ذلك كتابا في مصر ضمنه مذهب داروين الإنجليزي، وبخنر الألماني، وجعل له مقدمة جاهر فيها بالمذهب المادي مجاهرة لم تسبق لأحد غيره في الشرق، ورد عليه إذ ذاك الأستاذ الشيخ إبراهيم الحوراني من علماء المسيحيين الذين يردون المذهب المادي. وكذلك رد عليه اليسوعيون في بيروت، وبعض القسيسين المارونيين واشتدت المناقشات بين الفريقين، وكنا نطالعها أيام الطلب قبل هذا التاريخ بخمسين سنة. وكان نشر الأستاذ الشيخ محمد عبده رسالة أستاذ جمال الدين التي نقلنا عنها هذه الجمل لذلك العهد أيضا. فمذهب داروين معروف في أوروبا منذ ثمانين سنة، وفى العالم العربي منذ خمسين سنة.
نوح وولده وقضية الطوفان والسلائل البشرية
অজানা পৃষ্ঠা