نشبت هذه المعركة قبل ختام مدة سيطرة فابيوس بنحو سنة، وقد قضى قناصل رومية المدة المعترضة بين انتهاء سيطرة فابيوس، وشبوب نيران المعركة في القيام بحركات عسكرية متعددة لم تكن ذات نتائج جديرة بالذكر، وكان القلق والضجر والتذمر وغير ذلك من دلائل الاستياء شاملة لرومية؛ ذلك لأن وجود مثل هذا القائد القاهر في ضواحي رومية مع أربعين ألفا من رجاله يعتدي على مقاطعات حلفاء رومية، ويهدد المدينة نفسها بالهجوم قد كانت من دواعي القلق الدائم والخوف المستمر.
وتلك الأهوال المروعة التي أحدثها قد عملت على الغض من كرامة رومية وخفض كبرياء الرومانيين، ولا سيما أنهم كانوا مهما حشدوا من الجيوش، وأقاموا من القواد المعروفين بالدربة والحنكة غير قادرين على كبح جماح ذلك العدو ومقاومة هجماته، حتى إن أعظم وأقدر قوادهم في الواقع قد شعر بضرورة اعتزال منصب القيادة، والإصرار على عدم منازلة هنيبال في معركة ما بالكلية.
فأحدثت هذه الحالة استياء شديدا في المدينة، وهب الأحزاب إلى الطعن والانتقاد يوجهه واحدهم إلى الآخر، وقام الناس بعقد اجتماعات عديدة كان معظمها مسرحا للهياج الكثير والضوضاء والمجادلات واللوم والتعنيف، وكل يتهم الآخر بالعجز والإهمال والتراخي، وعلى أثر ذلك قام في الشعب حزبان تألف أحدهما من العامة على الجانب الواحد، والآخر من الخاصة على الجانب الثاني، وأطلق على الحزب الأول حزب العوام وعلى الثاني النبلاء.
وكان بين الحزبين تباعد عظيم في الآراء أقصاهما عن الاتفاق، وأوجد صعوبة كلية في انتخاب القناصل، أخيرا انتخب القناصل واحدا من كل حزب، فكان اسم القنصل المنتخب من النبلاء بولس أميليوس واسم قنصل العوام فارو، استلما زمام الحكومة ومنحا قوة لا حد لها لو تم لها الاتحاد والعمل بقلب وفكر واحد لأتت بالعجائب، ولكن القنصليين لسوء الحظ كانا عدوين سياسيين لدودين، وكان هذا الخلاف كثير الحدوث في الحكومة الرومانية، فالقنصلية كانت حيوانا ذا رأسين ينفق نصف قوته في المقاومة بين شطريه على الدوام.
وصمم الرومانيون على إجهاد نفوسهم في سبيل التخلص من عدوهم، فحشدوا جيشا جرارا مؤلفا من ثماني كتائب ، والكتيبة الرومانية لذلك العهد كانت جيشا قائما بنفسه تحتوي على أربعة آلاف جندي من المشاة وثلاثمائة فارس، ولم يكن من عادتهم إنزال أكثر من كتيبتين أو ثلاث كتائب إلى المعمعة في وقت واحد، على أن الرومانيين في هذه المرة قد خالفوا القاعدة المتبعة بأن أنزلوا إلى ساحة الوغى كتائب أكثر مما كانوا يفعلون في الماضي، وزادوا عدد كل كتيبة خمسة آلاف من المشاة وأربعمائة من الفرسان.
فهم قد أرادوا القيام بما ضمن لهم سلامة مدينتهم ووقاية بلادهم من الدمار والعبودية، ولو مهما كلفهم ذلك، وتأهب القنصلان أميلوس وفارو لاقتياد هذا الجيش اللهام مصممين على جعله من كل وجه واسطة للبطش النهائي بهنيبال، وكان القنصلان مختلفين في السجايا والخلال كما اختلفا في مراميهما السياسية يبدي كل منهما روحا معاكسة لروح الآخر، فإن أميليوس كان صديقا لفابيوس مستحسنا لخطته وسياسته، أما فارو فكان عجولا حاد المزاج بعيدا عن كل ترو.
فهو قد قام بوعود كثيرة مآلها أنه سوف يبطش بهنيبال ويقضي على قوته بضربة واحدة، وقبح خطة فابيوس الذي حاول إنهاك قوى العدو بالإبطاء والتأجيل، وصرح فوق هذا بأن الطبقة النبيلة من الرومانيين تعمل بخطة يراد بها إطالة مدة الحرب بقصد الحصول على الوظائف السامية، والطموح إلى إبداء الأهمية والنفوذ، وأنه لولا ذلك لانتهت الحرب من زمان طويل؛ ولهذا فهو يعد الشعب بإنهائها الآن على عجل وبلا تأخير، وفي نفس اليوم الذي تقع عينه فيه على هنيبال.
أما أميليوس فأبدى نغمة أخرى تدل على التروي والاعتدال، وقال إنه معجب من سماع أي إنسان يدعي الاقتدار على أمر قبل أن يترك المدينة، وهو في الوقت نفسه يجهل كفاءة جيشه وكفاءة جيش العدو وتدابيره، ولا يدري متى وتحت أية الظروف يكون النزول معه في معركة ملائما؛ ولهذا فيقول أميليوس إن الخطط يجب أن تبنى على الظروف؛ لأنه ليس في الإمكان جعل الظروف موافقة للخطط.
ومع هذا يعتقد بإمكان تفوقهم، بل بوجوب تفوقهم على هنيبال في حومة القتال، ولكن أملهم في ذلك وبنجاح تدابيرهم يجب أن يكون مبنيا على التأني والحذر والفطنة؛ لأنه موقن بأن التهيج والاندفاع والطيش تؤدي بهم في مقبل الأيام إلى الفشل والخيبة، كما كانت الحال في الماضي.
ويقال إن فابيوس المسيطر السابق قد تحدث مع أميليوس قبل ذهاب هذا الأخير إلى الجيش، وأبدى له من النصائح ما أوحت به إليه سنه وحنكته وتجاربه، وما يعلمه من سجايا هنيبال وتدابيره، وقال له: «لو كان لك زميل مثلك لما كنت أقدم لك النصيحة؛ لأنك لا تكون إذ ذاك في حاجة إليها، ولو كنت أنت مثل زميلك طائشا ومنخدعا بالذات وكثير الدعوى؛ لكنت أسكت عن النصح والإرشاد لاعتقادي بأنهما يروحان ضياعا، ولكن إذا كانت الحالة على ما أرى وأنت حاذق فطن ولك من درايتك ما يرشدك، فإنك من الجهة الأخرى ستكون في مراكز محفوفة بالخطر والصعوبات العظيمة.
অজানা পৃষ্ঠা