ثم إنه لا يوجد قنصل ثالث نتوقع مجيئه لمناصرتنا، وأي عار يلتحق بنا نحن الرومانيين الذين اقتدنا جيوشنا في الحروب الماضية إلى أبواب قرطجنة بالذات، إذا سمحنا لهنيبال بالسيطرة على كل شمالي إيطاليا بينما نحن نتراجع أمامه بالتدريج خائفين من منازلة جيشه طالما أنزلنا به العبر في الماضي.» ولم يخف على هنيبال ما كان بين القائدين الرومانيين من الخلاف؛ فجواسيسه أنبئوه بكل ما جرى ، وقالوا له إن سمبرونيوس متهوس للقتال أكثر من سيبيو، ففكر هنيبال في استدراج سمبرونيوس للعراك في وقت ومكان، يكونان مناسبين لهنيبال وغير ملائمين لسمبرونيوس.
فرسم لذلك خطة نجحت أيما نجاح، وجاءت نتيجتها مماثلة للخطط الكثيرة التي سطرها التاريخ للقائد القرطجني معترفا له بالدربة والدهاء في التدبير، وهي مع غيرها من تدابيره التي حملت الرومانيين على اتهامه بالخدع والمكر في حروبه. وكانت خطة هنيبال عبارة عن سحب الرومانيين من معسكرهم في إحدى ليالي شهر كانون الأول المظلمة الشديدة البرد وحشرهم في النهر، وذلك النهر كان نهر ثرابيا الذي يجري شمالا، ويصب في نهر «بو» بين معسكر الرومانيين ومعسكر القرطجنيين.
وكان من تدبيره في ذلك أن يرسل قسما من جيشه عبر النهر؛ ليهاجم الرومانيين في الليل أو عند انبثاق الفجر مؤملا من ذلك إرغام سمبرونيوس على الخروج من معسكره ليهاجم القرطجنيين، فإذا فعل تعين على القرطجنيين أن يسرعوا الرجعة، فيعبروا النهر على رجاء أن يلاحقهم سمبرونيوس مدفوعا إلى ذلك بحماسة القتال وما يراه من انهزامهم، عندئذ يكون لدى هنيبال جيش احتياطي قوي بقي مستريحا وفي دفء، فيخرج ويهاجم الرومانيين بنشاط وبسالة لا يعتورهما ضعف، بينما يكون الرومانيون قد تعرضوا للبرد والبلل، وتشوش نظامهم من جراء ارتباكهم في عبور النهر.
وكان من تدابير هنيبال أيضا أن يجعل قسما من جيشه في كمين وراء أشجار غضة، يتخللها الشيء الكثير من الأعشاب العالية وهي كائنة قرب الماء، وذهب هنيبال بنفسه لفحص ذلك المكان فوجد العشب فيه ناميا إلى حد يستر معه الفارس بحيث لا يرى منه شيء، فقر رأيه على إرصاد ألف راجل وألف فارس هناك، وانتخبهم من أبرع وأشجع رجاله وكان اختياره إياهم على الصورة التالية:
استدعى أحد أركان حربه إلى تلك البقعة وأوضح له بعض مقاصده، ثم أمره بأن يذهب وينتخب مائة من الفرسان ومائة من المشاة من أفضل أبطال الجيش، فلما أحضرهم تأمل فيهم هنيبال برضا وارتياح، ثم قال: «نعم، أنتم الرجال الذين أحتاجهم لهذا الموقف ولكن بدلا من مائتين أحتاج إلى ألفين، فارجعوا كلكم إلى الجيش، ولينتخب كل واحد منكم تسعة رجال مثله في النشاط والقوة.» ولا حاجة إلى القول إن أولئك قد سروا كثيرا بما طلبه منهم القائد، وأنموا رغائبه من هذا الوجه.
وهكذا اجتمع ذلك الجيش هناك مختبئا في خلال ذلك الضراء الذي تقدم ذكره حيث رصد للرومانيين؛ ليوقع بهم بعد أن يعبروا النهر، وترك هنيبال أيضا قسما كبيرا من جيشه في معسكره بالذات متأهبا للقتال، وأوصاهم بتناول الأكل والاستراحة والاستدفاء إلى أن يصدر إليهم الأمر بالذي ينتظر منهم القيام به، ولما أتم هذه التدابير على ما تقدم البيان أرسل فرقة من الفرسان لتعبر النهر، وتحاول بعد ذلك إزعاج الرومانيين وإرغامهم على الخروج من معسكرهم واللحاق بها.
قال لهم هنيبال: «اذهبوا واعبروا النهر وازحفوا على معسكر الرومانيين وناهضوا الحراس هنالك، وعندما يهب الجيش إلى مهاجمتكم تقهقروا بتمهل أمامهم إلى أن تعبروا النهر.»
ففعلت تلك الفرقة العسكرية كما أمرها هنيبال تماما؛ وصلت إلى معسكر الرومانيين عند انبثاق الفجر - لأن هنيبال أراد إخراج الرومانيين من معسكرهم قبل أن يتناولوا طعام الفطور - فهب سمبرونيوس عندما أحس بها، وأمر جنوده بالإسراع إلى أسلحتهم متوهما أن الجيش القرطجني بجملته يهاجمه، وكان صباح ذلك اليوم باردا وكانت الرياح تهب بشدة والجو قاتما يتخلله المطر والثلج، بحيث لا يرى الإنسان ما حوله.
وهكذا خرج الرومانيون فرسانهم ومشاتهم صفا صفا من معسكرهم، وهجموا على القرطجنيين الذين تراجعوا إلى الوراء على مهل، فتحمس سمبرونيوس كثيرا عندما بانت له سهولة اندحار مهاجميه، وظن أن النصر قد تم له عليهم فلاحقهم، وثابر على اللحاق بهم إلى أن بلغ النهر - وكما توقع هنيبال لم يقف عند ذلك الحد من تأثرهم، ولا اكتفى بالوقوف عند ضفة النهر، فعندما اندفع فرسان القرطجنيين في الماء طالبين الجانب الآخر، تبعهم الرومانيون فرسانا ومشاة.
وكان ذلك النهر صغيرا إلا أنه في ذلك اليوم طما ماؤه بسبب تهطال الأمطار في الليل الذي مضى، وكان الماء بالطبع باردا جدا، فالفرسان اجتازوه من غير أن يلحقهم أذى، وأما المشاة فقاسوا البلاء المر من البلل والبرد القارس، ذلك فضلا عن الجوع الذي هد قواهم؛ إذ إنهم لم يكونوا أكلوا شيئا في ذلك الصباح لاستعجالهم في مهاجمة الأعداء، فنالتهم النهكة وأثر عليهم التعب إلى الحد النهائي.
অজানা পৃষ্ঠা