ولهذا عمدوا إلى أسلحتهم واجتمعوا في روسينو على عجل، وأخذوا يفكرون في وسائل الدفاع؛ وروسينو هذه هي البلدة التي لقي فيها سفراء رومية مجلس بلاد الغال العالي عند رجوعهم من قرطجنة إلى رومية، وفيما كان المجلس الغالي (أو بالحرى الجيوش المتألبة) تفد إلى روسينو ملتهبة الصدور غيظا وحماسة، كان هنيبال في إيليباريس، وهي بلدة في سفح جبال البيرنيه، ولم يكن هنيبال يتوقع مقاومة من الغاليين ولا يحسب لهم إن قاوموه حسابا، على أنه كان يخشى من أن يعيقوه.
ولم يشأ هنيبال أن ينفق شهور أوائل الصيف الثمينة في مجالدة مثل هؤلاء الأعداء، والطريق إلى إيطاليا مفتوحة أمامه وهي، لا هم، ضالته المنشودة، ذلك فضلا عن أن معابر جبال الألب المشهورة بكونها صعبة الاجتياز إلا في شهري تموز وآب، وهي في كل فصول السنة الباقية تكون، أو إنها كانت، في ذلك الزمن مملوءة بالثلوج التي يتعذر السير فوقها، وفي الأزمنة المتأخرة قد مهدت فيها السبل واحتفرت في صخورها الأروقة والدهاليز وأشباهها، التي تقي السائرين العواصف الثلجية وركامات الجليد التي تنحط عليهم من شواهق القمم؛ بحيث أصبح السفر بين فرنسا وإيطاليا بين تلك الجبال ممكنا في كل فصول السنة إلى درجة معلومة.
أما في أيام هنيبال فلم يكن اجتيازها ممكنا في غير شهور الصيف، ولو لم يكن الإقدام على قطعها ضروريا لعد القيام به من نوع المخاطرة الكلية بل الحماقة المتناهية، ولا سيما مع جيش لهام؛ ولهذا لم يستطع هنيبال إضاعة الوقت، فرأى من الحكمة العمل بالتؤدة والمجاملة ومكارم الأخلاق بدلا من استخدام النكاية والقوة، ومن أجل هذا أنفذ الرسل إلى مجلس روسينو ليقولوا لرجاله بغاية اللطف والملاينة: إن هنيبال يريد الاجتماع بأمرائهم وزعمائهم شخصيا والمفاوضة معهم، وهو إن شاءوا يتقدم إلى روسينو لهذه الغاية، أو يقدمون هم عليه في إيليباريس إن أرادوا حيث يكون في انتظارهم.
ثم دعاهم إلى معسكره مخيرا إياهم بالقدوم، وقال لهم إنه مستعد إذا رغبوا في مقابلته للذهاب إليهم كصديق وحليف، وإنه لا يطمع في شيء سوى المرور ببلادهم، وزاد على هذا قوله إنه قد قطع عهدا على نفسه إذا أتاح له الغاليون إتمامه، لا ينتضى في كل جيشه سيف إلا بعد أن يصل إلى إيطاليا، فانتفى بهذه الرسالة كل ما كان في صدر الغاليين من المخاوف وشعور العداء، وسري عنهم كثيرا، فأعدوا العدد في معسكرهم وساروا قاصدين إيليباريس، ولما وصلوا قصد أمراؤهم وقواد جيشهم معسكر هنيبال، فقوبلوا هناك بمزيد الحفاوة والإكرام على الصورة لم يكونوا يتوقعونها، ورجعوا من عنده مثقلين بالهدايا والتحف، وهم يلهجون بلطفه وكرم أخلاقه وسخائه النادر المثال. وهكذا فبدلا من أن يعملوا على عرقلة مسيره كانوا هم أدلاء الجيش وهداته، فأخذوه أول كل شيء إلى روسينو عاصمتهم، ومن هناك بعد إبطاء يسير زحف الجيش قاصدا نهر الرون.
وكان القنصل الروماني سيبيو في الوقت نفسه قد أعد مراكبه لملاقاة هنيبال، وهي ستون مركبا عبأها بالجنود عند مصب نهر التيبر وأقلع يريد مصب نهر الرون، وكان الجنود في تلك المراكب مكردسين بعضهم فوق بعض، كما تكون الحال على الغالب في الجيش الذي يركب البحار، ولم يستطيعوا التوغل في البحر لعدم وجود الحك (الإبرة المغناطيسية) في تلك الأيام، بحيث يصعب عليهم معرفة الوجهة التي يسيرون فيها إذا كان الجو غائما، أو كانت العواصف تهب إلا بما يرونه من البر.
ومن أجل هذا أقلعت مراكبهم ماخرة ببطء على محاذاة الشاطئ فكانوا يدفعونها أحيانا بالشراع وتارة بالمجاذيف، وبعد معاناة المضني من مشقة السفر والجوع القتال من قلة الزاد والدوار، وما يتسبب من تحرج الصدور عن انحشار ألوف الناس في فسحات ضيقة، الأمر الذي يفرغ معه الصبر وتزهق الأرواح، وصلت المراكب الرومانية إلى مصب نهر الرون، ولم يكن قواد الجيش الروماني يعلمون أن هنيبال قريب من تلك النقطة، بل كل ما اتصل بهم عنه أنه قد اجتاز نهر إيباروس.
ولهذا ظنوا أنه لا يزال خلف جبال البيرنيه، وهكذا دخلوا نهر الرون في أول فرع وصلوا إليه منه - ذلك لأن نهر الرون كنهر النيل يتفرع عند مصبه، وينصب في البحر بمجار عديدة - وثابروا على المسير فيه إلى أن بلغوا مرسيليا؛ ظانين أن عدوهم لا يزال بعيدا عنهم مئات الأميال، وربما كان قد تلبك جيشه في دروب البيرنيه ومضايقه، ومعلوم أن هنيبال على العكس من ذلك كان عندئذ معسكرا على ضفاف نهر الرون فوق المكان الذي وصلوا إليه بمسافة قصيرة، وهو يفكر في إعداد الوسائل لعبوره بصبر وهدوء.
ولما أنزل القنصل كرنيليوس جيشه إلى البر كان جنوده في حالة من التعب والدواخ الكثير، لا يقوون معها على ملاقاة هنيبال إلا بعد أن يأخذوا نصيبا من الاستراحة أياما معدودة، على أن كرنيليوس انتخب من جيشه ثلاثمائة فارس، علم بمقدرتهم على الحركة ووجههم إلى أعالي النهر للاستكشاف، ولكي يعلموا مقر هنيبال ويعودوا ويطلعوه على ذلك في الأسرع الممكن، وبعد إرسالهم عمد إلى تنظيم جيشه والقيام على إتمام صفوفه؛ لكي يكون على أتم الاستعداد حال رجوعهم.
ومع أن هنيبال لم يلق مقاومة شديدة في مسيره ببلاد الغال، فلا يجوز أن نظن أن الناس الذين اجتاز في وسطهم كانوا موالين له أو مسرورين من وجوده بينهم، فالجيش عبء ثقيل على الدوام ولعنة على كل بلاد يدخلها، حتى ولو كان مارا بها غير محارب.
فالغاليون أبدوا كل صداقة لهذا الفاتح الرهيب وجموعه، على اعتقاد منهم أنه سيمر بسرعة ويرتحل عنهم، ولا سيما أنهم كانوا غير متأهبين ولا قوة لهم على محاولة الوقوف في وجهه؛ ولهذا اختاروا أهون الشرين، وقرروا بذل كل خدمة ممكنة له ليسرع في الابتعاد عنهم.
অজানা পৃষ্ঠা