لقد مضينا حتى الآن نفتش في جنبات التاريخ المصري الحديث على حادث يلتئم من حوله الفكر لنتخذه نقطة ابتداء نبدأ منها، ويكون في ذاته سببا في تغير أساليب الفكر في مصر، ولا ريبة في أننا أخفقنا فيما صبونا إليه حتى الآن.
على أنك أينما وليت وجهك في تاريخ مصر الحديث وقعت على آثار نهضة أدبية علمية تشربت الروح الحديثة في البحث، وسعت جادة في سبيل المكافأة بين قوة الذكاء الكامنة في حياة الشعب الفردية والاجتماعية، وبين حاجات العصر الحديث، فهل شبت هذه النهضة بلا بذر كالطفيليات؟ أم كان لها أساس من الجهد المشترك، ودعامة من جهود الأفراد؟
إن عجزنا عن أن نقع على حادث يلتئم من حوله في الفكر في ثمانية العقود الأولى من القرن التاسع عشر في مصر، وأضفنا لذلك معتقدنا في أن الثورة المصرية في سنة 1919 لم تمس إلا ظاهر حياة الأمة لزمنا أن نسعى إلى البحث وراء السبب الحقيقي الذي قام عليه ما ندعوه «نهضة العلم والأدب»، كما يقول بعض الكتاب وإن كنا لا نجاريهم على صلاحية هذا الاستعمال إلا تجاوزا.
أما إذا رجعنا إلى نهضة الصحف والمجلات العلمية والأدبية، فإنا نقع على عصر شبيه بالعصر الذي بدأت فيه نهضة إنجلترا الأدبية في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، فإن العصرين يتشابهان كثيرا، على أننا لا نستطيع أن نمضي في هذه المقارنة، أو نخرج من صلب هذا المقال كتابا، إلا أن هذا لا يحول بيننا وبين القول بأن الفكر العلمي في مصر كان أكثر تأثرا بالمجلات منه بالجرائد السياسية، فالمجلات لها الخطر الأكبر فيما نحس من تقدم ندعوه «نهضة العلم والأدب»، المجلات وحدها هي التي أخذت بيدنا وأفسحت أمامنا سبيل الخوض في عباب الأسلوب اليقيني الحديث، وهي التي قادت دفة الفكر في مصر، وهو يجتاز بحر الأسلوب الغيبي العميق لتتكيف «النهضة» على صورة بددت سحب الحياة القديمة بما فيها من ظلمات الفكر المجرد، لتكشف لنا عن شمس الأسلوب اليقيني الذي لم يصل إلينا من أشعتها إلا قدر ضئيل.
على أنك لا تقع في كل هذا على حادث يلتئم من حوله الفكر، غير أنني أتوقع، وعسى أن يكون ذلك قريبا، أن الخطوة التي خطوناها في سبيل الخروج من ظلمات الأسلوب الغيبي إلى وضح الأسلوب اليقيني، سوف تقودنا سعيا إلى ميدان يتصادم فيه الأسلوبان تصادما يثير في جو الفكر عجاجة ينكشف غبارها عن الأسلوب الغيبي، وقد تحطمت جوانبه واندكت قوائمه، وتترك الأسلوب اليقيني قائما بهامة الجبار القوي الأصلاب مشرفا على الشرق، وقد هب من رقاد القرون، ليسير في الدرب الذي مهدت سبله للأنام نواميس النشوء والارتقاء.
4 (1) أسلوب الفكر العلمي
نقد وعتب
5
قرأت في مقتطف فبراير الماضي مقال «أسلوب الفكر العلمي»، فرأيت كاتبه الفاضل قد تعرض لأفراد وجماعات، فمر بالمرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، وعلى ذكره تحدث عن العقلية العربية أو الفلسفة العربية، كما تحدث عن حركة مصر السياسية الأخيرة، ووردت خلال ذلك قضايا كثيرة يوجب الإنصاف التاريخي وحرمة الحقيقة النزيهة مناقشتها، وذلك ما أريد التعرض لبعضه في كلمتي هذه.
وضع الكاتب العرب في الدرجة الثانية من درجات - أوغست كونت - وهي التي وصفها بأنها لا تعنى في تفسير الظواهر إلا بنسبة كل منها إلى مصدره الأول، وأنها لم تلق بمجهودها في معرفة السنن التي تحكم العالم، ولم يتحد فيها العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة، وأخيرا وصف عقليتهم بأنها «عقلية وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تتعده، وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يصل بها إلى الأسلوب اليقيني»، وأن تلك العقلية في جمال الدين الأفغاني قد ناءت بجماعها على نواة الأسلوب اليقيني التي كانت تجتمع في أفكار الأمة فلم تقو على محوها، ولكن عاقت خطاها ولا تزال تعوقها عن الانبعاث في سبيل الحرية الصحيحة، إلى آخر ما أراد الكاتب أن يهول.
অজানা পৃষ্ঠা