والحقيقة أن كثيرا من الذين نقدوا بشارا، وعلى الأخص الذين قالوا بأن الهجاء أظهر مظاهره لم يستطيعوا أن يفهموا الشاعر فهما صحيحا، والذي أفهمه أن الهجو في شعر بشار كان تبعا لنزعة أخرى، ولم يكن صفة أساسية في نفس بشار، بل إن الصفة الأساسية كانت الإباحة، فهي التي دفعت به إلى الهجاء، وهي التي درجت به في كل ما تقع عليه في شعر بشار من مظاهر الخروج على المألوف، والسبب في هذا أن العقلية الطبيعية الواقعية إذا حف بها من الأسباب المدنية والعمرانية ما حف ببشار في أيام الدولة العباسية انقلبت أبيقورية صرفة، على غرار تلك الفكرات التي احتكمت في العقل الروماني في أواخر أيام الإمبراطورية الغربية، ومن هنا نشأ ما تجد في بشار من ميل للهجاء وإطلاق كل الأشياء إطلاقا أعمى لا حد له ولا غاية.
على أننا قد نتساءل قبل أن نمضي في نقد بشار نقدا أدبيا تحليليا كيف يمكن أن نحكم في بشار حكما صحيحا، ولم يصل إلينا من شعره إلا القليل؟ على أني لا أشك في أن مجموعة ما وصل إلينا من شعر بشار على قلته يزودنا بأقذع ما قيل في الهجاء، وأدق ما قيل في الغزل، وأحلى ما قيل في الوصف، وأمتع ما قيل في التشبيب، وأدق ما قيل في المديح وأعظم ما قيل في الفخر، وأجدد ما قيل فيما يمكن التفريق به بين الأساليب القريبة من عهد النشأة الإسلامية وأول التحضر العربي.
على أنك إذا أردت أن ترى بشارا في حقيقته، فانظر إليه في أخلاقه، فهي المرآة التي تريك بشارا رجل حس صرف يتعلق بالدنيويات؛ لأن طبيعة عقله تنزع إلى الاندماج في الطبيعة، وكانت الحضارة التي قامت من حوله من أكثر الأشياء تحبيبا لأمثاله في الدنيا، أفليس إدمانه الخمر وصبوته إلى النساء وابتذاله وبعده عن العفة إلا أثرا من آثار الحضارة التي حفت به إذ صادفت فيه نزعة ووقعت فيه على بيئة خصبة؟ أما جبنه وخوفه من المقال والحسام فليس له من سبب إلا اعتقاده بأن قول الحق لا يزول، ولا ينسى، وإن فيه من الدنايا ما لو قيل مرة لجرى مثلا، ويقينه أن الحياة ثمينة لا تشترى بمال ولا تباع بشرف ولا بعزة. ولعل في هذا أثرا من نشأته وتربيته الأولى.
روي بأن بشارا هجا روحا، وهو شاعر أدرك الدولتين الأموية والعباسية، وكان من الفضلاء ومن الرواة الذين أكثروا من حفظ كلام العرب، وكان بين بشار وروح مهاجاة، فوصف بشار سيف روح بما يحط من قدره، فأقسم إذا لقيه ليضربنه بالسيف ولو في حضرة أمير المؤمنين، ففزع بشار وخاف وقام من فوره إلى المهدي يستجير به، فلما حضر روح قال: أنا عبد أمير المؤمنين أطيعه في كل شيء إلا بشار، فقد حلفت من أجله يمينا غموسا، فقال المهدي: ومن أجل بشار دعوتك، وجيء بالعلماء فأفتوا بضربه بعرض السيف، فلما هوى عليه روح تألم وتأوه تأوه النساء. وإذا صح هذا كان دليلا على حبه الدنيا وتفانيه في الطبيعة التي ليست الحياة إلا أهم مظاهرها وأبلغ آياتها.
كذلك نجد أنه قد نزع طافرا إلى صفات آبائه المرة بعد المرة، وفي هذا دليل على صفاته الآرية الرسيسة المنبثة في تضاعيف فطرته، فقد سئل مرة بأي شيء فقت أهل عصرك؟ فأجاب على هذا السؤال جوابا عبر في الواقع عن حقيقة عقليته تعبيرا لم يبلغ إليه في شعره، وفضح عناصر نفسه بما لا يمكن أن يبلغ إليه تعبير في وصف الطبيعة الحسية والعقلية الإثباتية في أيما متجه من اتجاهات الحياة مشت وفي أي مظهر ظهرت، أتعلم بماذا أجاب بشار؟
لم أقبل كل ما تورده على قريحتي - فما بالك بما تورده عليه قريحة غيره - ويناجيني به طبعي ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفهم جيد وغريزة قوية فأحكمت سيرها، وانتفيت خيرها، وكشفت عن حقائقها واحترزت من متكلفها، والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به.
هذه المبادئ بذاتها إذا عم تطبيقها على احتكام العقول في حقائق الأشياء كانت بعينها حرية الفكر والنزوع إلى الواقع المحسوس، وتلك صفة يختص بها العقل الآري. والواقع أننا لا نستطيع أن نعرف بشارا إلا من هذه الطريق، فهي مفتاحه الذي لا يمكننا أن نعالج بغيره مستغلق نفسيته.
অজানা পৃষ্ঠা