أولها:
أننا لا نستطيع أن ندرس حقيقة العصر الذي عاش فيه من ناحية النظام الاجتماعي دراسة تولد في أذهاننا صورة غير الصورة التي وصفناها من قبل، وإنها لصورة آثارها كثيرة الذيوع فيما وصل إلينا من شعر بشار.
وثانيها:
أنه لم يصل إلينا من شعر بشار إلا نتف ومقطوعات قصيرة، ولم يصل إلينا من شعره قصيدة كاملة، على أنني أعتقد أن ما وصل إلينا من شعره كاف لدرس قوة شاعريته والاستدلال بها على حقيقة نفسه.
ولن أشك بجانب هذا في أن شعر بشار لو وصل إلينا كاملا، كما وصل إلينا شعر المتنبي، أو أبي العلاء المعري أو غيرهما من الشعراء، لكان لنا منه مورد كبير في دراسة عصره والاستدلال به على حالات قامت في ذلك العصر، فإن ما وصل إلينا من آثار بشار الأدبية على قلتها ، تدلنا دلالة واضحة على أن ذلك الشاعر الكبير كان قد اندمج في جوه اندماجا تاما، وامتزج دمه بعناصر المدنية التي قامت من حوله، فهو صورة من ذلك العصر، صورة أقل ما فيها من الدلالة على الروح التي ذاعت فيه، أنها خارجة من نفس شاعر ملء نفسه الشاعرية، صورة مفضوحة في الشعر غير موشاة بشيء من صناعة الكلام ولا مغشاة بجمال النثر ولا ببيانياته ولا خطابياته، ولا محلاة بالصناعات البديعية التي لجأ إليها كتاب ذلك العصر.
وبعد فأنت لا تبعد عن روح العصر العباسي بقدر ما تلجأ إلى الصناعات النثرية التي ذاعت فيه، فإنها لا تعطيك من صور ذلك العصر إلا صورة مكذوبة قد تستدل منها على شيء من رقي اللغة أو انحطاطها، وقد تستدل منها على شيء من جمال الأساليب أو فسادها، ولكنك لا تلجأ إليها للاستدلال بها على روح ذلك العصر الحقيقية، إلا وتكون لجأت إلى أوهن ناحية من نواحي التنقيب في عصر هو أبعد العصور عن تزويدك بمراجع يصح أن تتخذ دعامة للبحث العلمي الأدبي بحثا يرضي الحق والضمير.
2
إلى هنا ينتهي تحليلنا لعصر بشار بن برد، وكيف كان بشار صورة صادقة لعصره الذي عاش فيه، وكيف أن ما وصل إلينا من بشار على قلته يعبر أحسن تعبير عن النزعات التي قامت في ذلك العصر وعن الانفعالات التي جاشت بها العواطف الثائرة في صدور الرجال والنساء، ولم أشأ أن أتورط في الكلام في هذه الأشياء باستفاضة وأستطرد متخذا من كتب الأدب أمثالا، ومن مجالس العظماء والأمراء أدلة على صدق ما ذهبت إليه حذر الإطالة في شيء يكاد يكون الشعور بصحبته أسبق إلى النفس من الأدلة والبراهين التاريخية والعقلية، على أننا لا نريد بعد هذا أن نتورط في الوصف والشرح لأكثر مما أدلينا به من قبل، لهذا نمضي في تحليل نفسية بشار بن برد لنخلص من هذا التحليل بفكرة في دلالة شعره على نفسيته المتوهجة الثائرة المشبوبة بتلك النيران العاطفية التي صبغت العصر الذي عاش فيه.
أعرف في العربية ثلاثة شعراء لشعرهم في أذني نغم وحده، ولمعانيهم مرمى بذاته، بل يكادون يخرجون من الحيز الذي شغله شعراء العربية إلى حيز لم يلجه من قبلهم، ولا بعدهم شاعر نطق بالضاد.
وليس هذا الحيز مقصورا على متانة في اللغة، ولا سبك في الأسلوب، ولا ترفع في المعاني، ولا ما إلى ذلك مما يتفوق به الشعراء في صناعة الشعر، بل هو حيز العقلية الإيجابية التي تنظر إلى الحقائق كما هي حتى في الهجو والمديح، والنفسية التي تنطبع عليها صور الزمان الذي تحفها نظمه الاجتماعية على اختلاف صورها وألوانها.
অজানা পৃষ্ঠা