نقلنا أقوال هذا المؤرخ العربي الشهير مع بعض تصرف واختصار. قال تحت هذا العنوان «خليج الفيوم والمنهى»: «مما حفره نبي الله يوسف الصديق - عليه السلام - عندما عمر الفيوم كما هو مذكور في خبر الفيوم من هذا الكتاب، وهو مشتق من النيل لا ينقطع جريه أبدا، وإذا قابل النيل ناحية دورة سريام التي تعرف اليوم بدورة الشريف «ديروط» يعني ابن ثعلب النايب في أيام الظاهر بيبرس، تشعبت منه في غربيه شعبة تسمى المنهى تستقل نهرا يصل إلى الفيوم، وهو الآن عرف ببحر يوسف، وهو نهر لا ينقطع جريانه في جميع السنة، فيسقي الفيوم عامته سقيا دائما، ثم ينجز فضل مائه في بحيرة هناك. ومن العجب أن ينقطع ماؤه من فوهته، ثم يكون له بلل دون المكان المندى، ثم يجري جريا ضعيفا دون مكان البلل، ثم يستقل نهرا جاريا لا يقطع إلا بالسفن، ويتشعب منه أنهار، وينقسم قسما يعم الفيوم يسقي قراه ومزارعه وبساتينه وعامة أماكنه، والله أعلم.» ا.ه.
وقال تحت هذا العنوان «ذكر مدينة الفيوم»: «اعلم أن موضع الفيوم مكان مغيض ماء النيل، فلما ولي السيد يوسف الصديق - عليه السلام - تدبير أمور مصر عمرها، قال ابن وصيف شاه: «ثم ملك الريان بن الوليد وهو فرعون يوسف، والقبط تسميه نهراوش، فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق، جميل الوجه، عاقلا، متمكنا، فوعد بالجميل، وأسقط عن الناس خراج ثلاث سنين، وفرق المال في الخاص والعام، وملك على البلد رجلا من أهل بيته يقال له أطفين، وهو الذي يسميه أهل الأثر العزيز، فأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من فضة يجلس عليه، ويغدو فيه ويروح إلى باب الملك، ويخرج العمال والكتاب بين يديه، فكفى نهراوش ما خلف ستره، وقام بجميع أموره وخلاه للذته، فانغمس نهراوش في لهوه، ولم ينظر في عمل، ولا ظهر للناس حينا، والبلد عامر وهو لا يسأل عن شيء. وعمل له مجالس من زجاج ملون وحولها ماء فيه أسماك مفرطة وبلور ملون، فكان إذا وقعت الشمس عليه ظهر له شعاع عجيب، وعملت له عدة منتزهات على عدد أيام السنة، فكان في كل يوم في موضع منها، وعمل له في كل موضع من الآنية والفرش ما ليس لغيره.
فاتصل بملوك النواحي تشاغله بلذته وتدبير أطفين، فسار ملك من العماليق يقال له أبو قابوس عاكر بن يخوم إلى مصر، ونزل على حدودها، فجهز إليه العزيز جيشا عليه قائد يقال له بريانس، فأقام يحاربه ثلاث سنين، فظفر به العمليقي وقتله، وهدم الأعلام والمصانع وقوي طمعه في البلد، فاجتمع الناس إلى قصر الملك واستغاثوا، فخرج إليهم وعرض جيوشه، وخرج في ستمئة ألف مقاتل سوى الأتباع، فالتقوا من وراء الحوف، وكان بينهما قتال شديد، فانهزم العملقي وتبعه نهراوش إلى حد الشام. وبالجملة فقد هاج في صدره حب الحرب، فضرب السودان إلى أن تجاوز بلاد الدمدم الذين يأكلون الناس وغيرهم، حتى خافه جميع الملوك، وتخلص من القول بأنه منغمس في اللذات، ثم رجع إلى بلاده فوجد العزيز المسمى أطفين متوليا الأمور كما تركه، وحينئذ حدث ليوسف السجن بعد أن راودته امرأة العزيز إلى آخر القصة. وبعدها مات العزيز والريان منعكف على الملاذ، وحصل يوسف على خزائن مصر أيام الخصب والجدب، ثم ولي يوسف الأحكام في مصر.
وفي وقته - أي وقت الريان المسمى نهراوش - عمل يوسف الفيوم، فإن أهل مصر كانوا وشوا به إلى الملك، وقالوا قد كبر ونقص نفعه فاختبره، فقال له: «إني وهبت هذه الناحية لابنتي وكانت مغايض للماء، فدبرها لها»، فعملها يوسف، واحتال للمياه حتى أخرجها، وقلع أوحالها، وساق المنهى وبنى اللاهون، وجعل الماء فيها مقسوما موزونا، وفرغ منها في شهور أربعة فعجبوا من حكمته.
ويقال في خبر بناء يوسف - عليه السلام - مدينة الفيوم إنه لما وزر لفرعون ثلاثين سنة عزله، فقال: «لم عزلتني؟» فقال: «لم أعزلك لريبة ولا أنسى بركتك، ولكن آبائي عهدوا إلي أن لا يتولى لنا وزير أكثر من ثلاثين سنة، وإنا نخشى أن يتأصل الوزير حتى يدبر على الملك»، فقال له يوسف: «قد علمت نصحي لك حتى صيرت ديار مصر كلها ملكا لك، فأقطعني أرضا تكون لقوتي وقوت أهلي وعشيرتي.» فقال له فرعون: «اختر حيث شئت.» فمشى يوسف في قفار الأرض حتى رأى أرض الفيوم، وفيها جبل حائل بين النيل وبينها، فوزن ماء النيل حتى رأى أن قاعها يركبه النيل، فخرق خرقا في ذلك الجبل، وساق الماء فيه إلى الفيوم، فسقى الأرض وعمل في جوانب الماء ثلاثمئة وستين قرية على عدد أيام السنة، وشحنها بالغلال والأقوات التي ازدرعها، فكان إذا نقص النيل ووقع الجوع بأرض مصر، باع كل يوم ما جمعه في قرية من قرى ال فيوم، حتى ملك مصر لنفسه كما جمعها للملك؛ فعظم شأن يوسف وكثر ماله، فرده الملك بعد مدة إلى وزارته، وتوفي وهو وزير، فأوصى بخروج جثته إلى الأرض المقدسة، فخرج بها هارون بن أفرايم بن يوسف في مئة ألف من بني إسرائيل، فهزمته الجبابرة فيما بين مصر والشام، وهلك أكثر من معه، وعاد بمن بقي معه إلى مصر، فأقاموا بها حتى بعث الله موسى بن عمران - عليه السلام - إلى فرعون رسولا، فخرج ببني إسرائيل من مصر ومعه جثة يوسف - عليه السلام - وفي ذلك الزمان استنبطت الفيوم.
وقيل: كان سبب ذلك أن يوسف - عليه السلام - لما ملك مصر، وعظمت منزلته من فرعون، وجاوز سنه مئة سنة، قال وزراء الملك له: «إن يوسف قل علمه وتغير عقله ونفدت حكمته»، فعنفهم فرعون، ورد عليهم مقالتهم، وأساء اللفظ لهم، فكفوا ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين فقال لهم: «هلموا ما شئتم من أي شيء اختبروه به.» وكان بلد الفيوم يومئذ يدعى الجوبة، وإنما كانت لمصالة ماء الصعيد وفضوله، فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحنون بها يوسف، فقالوا لفرعون: «سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة عنها، ويخرجه منها، فتزداد بلدا إلى بلدك، وخراجا إلى خراجك.» فدعا يوسف فقال: «تعلم مكان ابنتي فلانة مني، وقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها بلدا، وإني لم أصب لها إلا الجوبة، وذلك أنه بلد بعيد قريب لا يرى بوجه من الوجوه إلا من غابة أو صحراء، وكذلك ليست هي تؤتى من ناحية من النواحي من مصر إلا من مفازة وصحراء، فالفيوم وسط مصر كمثل مصر في وسط البلاد؛ لأن مصر لا تؤتى من ناحية من النواحي إلا من صحراء أو مفازة.» قال: «وقد اقتطعتها إياها، فلا تتركن وجها ولا نظرا إلا بلغته.» فقال يوسف: «نعم أيها الملك، متى أردت ذلك فابعث إلي، فإني إن شاء الله فاعل ذلك.» قال: «أحبه إلي وأرفعه أعجله.»
فأوحي إلى يوسف أن تحفر ثلاثة خلج: خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا، وخليجا شرقيا من كذا إلى موضع كذا، وخليجا غربيا من موضع كذا إلى موضع كذا، فوضع يوسف العمال فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون إلى اللاهون، وأمر البنائين أن يحفروا اللاهون، وحفر خليج الفيوم وهو الخليج الشرقي، وحفر خليجا بقرية يقال لها بنهمت من قرى الفيوم وهو الخليج الغربي، فخرج ماؤها من الخليج الشرقي، فصب في النيل، وخرج من الخليج الغربي فصب في صحراء بنهمت إلى الغرب، فلم يبق في الجوبة ماء، ثم أدخلها الفعلة فقطع ما كان فيها من القصب والطرفاء وأخرجه منها، وكان ذلك ابتداء جري النيل. وقد صارت أرض الجوبة نقية برية، وارتفع ماء النيل فدخل في رأس المنهى فجرى فيه حتى انتهى إلى اللاهون فقطعه إلى الفيوم، فدخل خليجها فسقاها فصارت لجة من النيل. وخرج إليها الملك ووزراؤه، وكان هذا كله في سبعين يوما، فلما نظر إليها الملك قال لوزرائه أولئك: «هذا عمل ألف يوم» فسميت الفيوم، وأقامت تزرع كما تزرع غوايط مصر.
قال: وقد سمعت في استخراج الفيوم غير هذا: أن يوسف - عليه السلام - ملك مصر وهو ابن ثلاثين، فأقام يدبرها أربعين سنة، فقال أهل مصر: قد كبر يوسف واختلف رأيه، فعزلوه. وقالوا: اختر لنفسك من الموات أرضا تقطعها لنفسك وتصلحها وتعمل رأيك فيها، فإن رأينا من رأيك وحسن تدبيرك ما نعلم أنك في زيادة من عقلك رددناك إلى ملكك. فاعترض البرية في نواحي مصر، فاختار موضع الفيوم فأعطيها، فشق إليها خليج المنهى من النيل حتى أدخله الفيوم كلها، وفرغ من حفر ذلك كله في سنة. قال يزيد بن أبي حبيب: وبلغنا أنه إنما عمل ذلك بالوحي، وقوي على ذلك بكثرة الفعلة والأعوان، فنظروا فإذا الذي أحياه يوسف من الفيوم لا يعلمون له بمصر كلها مثلا ولا نظيرا، فقالوا: «ما كان يوسف قط أفضل عقلا ولا رأيا ولا تدبيرا منه اليوم»، فردوا إليه الملك فأقام ستين سنة تمام مئة سنة، حتى مات وهو ابن ثلاثين ومئة سنة.
ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك وأنه إنما كان ذلك على المحنة منهم له، فقال للملك: «عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت» فقال له الملك: «وما ذاك؟» قال: «أنزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت، وآمر أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية - وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر - فإذا فرغوا من بناء قراهم صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض، لا يكون في ذلك زيادة ولا نقص، وأصير لكل قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلا فيه، وأصير مطاطئا للمرتفع ومرتفعا للمطاطئ بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها قبضات، فلا يقصر بأحد دون حقه، ولا يزداد فوق قدره.» فقال له فرعون: «هذا من ملكوت السماء؟» قال: «نعم.» فبدأ يوسف فأمر ببنيان القرى وحدد لها حدودا، وكانت أول قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها سانة، وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون، ثم أمر بحفر الخليج وبنيان القناطر، فلما فرغوا من ذلك استقبل وزن الأرض ووزن الماء، ومن يومئذ حدثت الهندسة، ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك، وكان أول من قاس النيل بمصر يوسف، ووضع مقياسا بمنف. قال جامعه: وفي التوراة إن فرعون ألزم بني إسرائيل البناء وضرب اللبن فبنوا له عدة مدن محصنة منها فيفوم. قال الشارح: هي الفيوم.» ا.ه.
وقال تحت هذا العنوان «ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها»: «قال اليعقوبي: كان يقال في متقدم الأيام: مصر والفيوم؛ لجلالة الفيوم وكثرة عمارتها، وبها القمح الموصوف، وبها يعمل الخيش. وحكى المسعودي أن معنى الفيوم ألف يوم. قال القضاعي: الفيوم، وهي مدينة دبرها يوسف - عليه السلام - بالوحي، وكانت ثلاثمئة وستين ضيعة تمير كل ضيعة منها مصر يوما واحدا، فكانت تمير مصر السنة، وكانت تروى من اثنتي عشرة ذراعا، ولا يستبحر ما زاد على ذلك، فإن يوسف - عليه السلام - اتخذ لهم مجرى ورتبه ليدوم لهم دخول الماء فيه، وقومه بالحجارة المنضدة، وبنى به اللاهون. وقال ابن رضوان: الفيوم يخزن فيه ماء النيل، ويزرع عليه مرات في السنة، حتى إنك ترى هذا الماء إذا خلا يغير لون النيل وطعمه، وأكثر ما تحدث هذه الحالة في البحيرة التي تكون في أيام القيظ سفط ونهيا، وصاعدا إلى ما يلي الفيوم، وهذه حالة تزيد في رداءة أهل المدينة - يعني مصر - ولا سيما إذا هبت ريح الجنوب، فإن الفيوم في جنوب مدينة مصر على مسافة بعيدة من أرضها.»
অজানা পৃষ্ঠা