القسم التاريخي
الكلام على سكان بابل الأولين
قد أشرنا فيما سلف إلى ما وقع من الوهم والشطط في تاريخ البابليين والآشوريين وما كان من مبادئ أمرهم، وأن معظم ما دب في تاريخهم من فساد الروايات وتعارض الأنباء إنما نشأ من قبل كتاب الفرس، وعنهم نقل اليونان ما نقلوه من الأخبار المدخولة والأقاصيص الموضوعة.
وكانت بابل فيما تقدم من تاريخها مجمعا لأمم من الناس وأجيال شتى قد تباينت أصلا وعادات، وكان الملك يخاطبهم بقوله: أيها الشعوب والأمم والألسنة، على ما هو وارد في سفر دانيال عليه السلام (ص3) وكان لكل من أولئك الأجيال سير وأحاديث يروونها فيما بينهم ويتناقلونها خلف عن سلف بعضها له أصل كالنواة من الشجرة، وبعضها مختلق رأسا، وشاعت هذه الحكايات بينهم حتى تأصلت في أذهانهم، ومرور الأيام يلقي عليها ظل الصدق ورونق الصحة، حتى اعتقدوها من الأمور الواقعة ودونها مؤرخو الفرس في مصنفاتهم على ما قدمناه، وأثبتوها فيما أثبتوه من وقائع تاريخهم، فالتبس صحيحه بفاسده وكثرت فيه الخرافات والأساطير وذهب فيه الخلل كل مذهب. ذلك مع شدة إمعان أولئك الأقوام في القدم وكثرة ما لهم من الدول والانقلابات والوقائع والأخبار المختلفة والأحوال المتشعبة، مما أفضى إلى اضطراب في تاريخهم وارتباك لا مزيد عليه، وألجأ أهل البحث إلى معالجة الحرف المسماري ومزاولة قراءته، حتى وفقوا إلى حله فوجدوا كثيرا من تلك الحقائق مسطرا على الآثار من الحجارة والآجر وغيره، وحينئذ انجلى لهم كثير من تلك الغوامض على ما أسلفنا ذكره، ومع ذلك فإن هذا الفوز العظيم والفتح الجليل لم يكن وافيا بما كان يتوقع وراءه من النتائج الكبيرة، فإنهم استوضحوا به أشياء، وبقي من دون ما استوضحوه مشاكل جمة ومعميات شتى لم يهتدوا إلى جلائها وكشفها، ولا وجدوا ثم ما يسفر عن أولية أولئك الأقوام وأصل نشأتهم، مما لا يزال مستورا تحت ظل الإبهام مكتوما في صدور الأيام.
وقد تقدم أن بيروسوس الكلداني في عهد الإسكندر كان قد دون تاريخا للكلدان، أبان فيه عن شئونهم وتاريخ ملوكهم وما لهم من الوقائع والآثار أخذه عن ألواح السجلات التي كانت في هيكل بعلوس، وقد ذهب هذا السفر الثمين في جملة ما ذهبت به الأيام فلم يبق له عين ولا أثر، بيد أنه يستفاد مما تناقله عنه المؤرخون أنه ابتدأه من ذكر الخليقة وما طرأ وراء ذلك من الأخبار، وأنه عدد عشرة من الملوك تداولوا زمام السلطنة من لدن الخلق إلى الطوفان وكانت مدة ملكهم جميعا 43200 سنة، ولا يغرب أن يكون هؤلاء العشرة هم الآباء العشرة المذكورون غير مرة في الكتاب من آدم إلى نوح، كان بيروسوس وجماع الكلدان يعتبرونهم من ملوكهم وسموهم بأسمائهم المدونة في السجلات المذكورة، وسيرد مزيد تفصيل لذلك في الكلام على عقائد البابليين.
ثم إن عامة المحققين من أصحاب التاريخ على أنه لا يصح خبر من أخبار الأمم الأولى إلا بعد أن تمثلت تلك الأمم ممالك وتحيزت شعوبا وقبائل، وما قبل ذلك من أحوالهم وشئونهم فمما لم يبق إلى معرفته سبيل، وأول مملكة ظهرت في العالم وذكرت في مصاحف التاريخ مملكة نمرود التي ورد الإيماء إليها في الفصل العاشر من سفر الخليقة، ولم تكن إذ ذاك إلا أربع مدن وهي بابل وأرك وأكد وكلنة، وقد سلف الكلام على هذه المدن في محله، ونمرود هذا هو ابن كوش بن حام بن نوح - عليه السلام - وكان رجلا جبارا مولعا بالصيد كما يصفه في الموضع المشار إليه، وفي أحاديث اليهود أنه كان ملكا عاتيا على الله تعالى، وأنه هو الذي بنى برج اللغات المعروف ببرج بابل، والعرب تقول إنه ألقى إبراهيم الخليل في أتون النار في خبر ليس هذا موضعه، وهو عندهم مضرب مثل في الظلم يقولون أظلم من نمرود، وينسب إلى نمرود أشياء كثيرة تضاف إلى اسمه منها مدينة نمرود وبرج نمرود وأخربة نمرود، وقد مر ذكرها، ومنها أصنام هائلة نقلها الإفرنج إلى بلادهم تعرف بأصنام نمرود إلى غير ذلك.
وفي روايات المتقدمين أنه بعد وفاة نمرود خلفه على المملكة ابن له يقال له أويخوس، وكان أول من نصب صنما وعبده وسن عبادته في رعيته، وكانت وفاته في أواخر القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، وقام بعده ملك يسمى خوماس فتأله في قومه وعبدوه واستمرت عبادته فيهم بعد موته، ولما هلك تولى بعده بوراو بونغ، واسمه فيما ذكروا محرف عن بعل بيور وهو أحد آلهة الكلدان. ثم عقبه في الملك نيخوبيس وعقب نيخوبيس أبيوس ثم أنيبال ثم خنزيروس وفي عهده دخلت العرب بابل. انتهى باختصار، وهي أخبار لا يعتمد عليها في راجح الرأي وفي الآثار ما يعارضها وينقضها؛ ولذلك قد أجمع أرباب البحث على أن كل خبر روي عن بابل قبل أورخامس غير حري بالوثوق ولا بارز عن ظل الشبهة؛ لأنهم بعد استغراق ما أوصلهم إليه البحث من كتابات الآثار وجدوا أن أقدم ما سطر عليها لم يتخط عهد أورخامس المذكور، ونحن نبدأ هنا بذكر تاريخه، ثم نتطرق إلى ذكر من اشتهر بعده على التوالي، وما بين ذلك من الحوادث الخطيرة والوقائع المشهورة، فنقول:
كان أورخامس من الملوك النمروديين من ولد نمرود المقدم ذكره، وأورخامس - أو أورشامش - لفظة كلدانية معناها نور الشمس، وقد ثبت بعد البحث والنظر في الآثار أنه السابع من هذه الدولة، وهو أول من نقش اسمه على حجر ابتغاء الفخر وبقاء الذكر على الأبد، ويستفاد من بقايا مدينة أور أنه هو الذي بنى سورها وشيد فيها الهرم العظيم الذي ذهب بعض الناس إلى أنه برج البلبلة على ما أسلفنا الكلام عليه، وفيما قرره بعض الباحثين أن أورخامس هو أول من اتخذ أور دارا للملك، وليس بثبت عند المحققين، ولكن لا خلاف في كونه هو أول من جعل لها شأنا وفخامة وساق إليها من الثروة والعمارة ما فاقت به أشهر المدن في ذلك العهد، وحصنها بالسور على ما قدمناه وزينها بكثير من المباني الضخمة والهياكل الأنيقة، وفي جملتها قصر اختصه لسكناه لا تزال جدرانه ماثلة لهذا اليوم، وعلى أحدها صورة تشخصه ليس من ذلك العهد صورة أبدع منها صنعا، وهناك كتابات تشهد بأنه هو باني القصر وفيها بيان كثير من شهير أعماله، ولأورخامس في غير أور أبنية أخرى تعزى إليه منها هيكل لمعبود النار في لارسان، وآخر مثله في صفيرة وهيكلان في نيبور أحدهما لإله الأفلاك، والآخر لتاءوث أم الآلهة، وهي أشهر ما وجدوه من الأبنية موسوما باسمه، وكل هذه المباني على ما كانت عليه من الضخامة والعظم لم يأت عليها إلا قرون قلائل حتى رثت قواعدها وتمزق قائمها خلافا، لما كانت تتوهم عليه في بادئ الرأي من الصلابة والقوة بالقياس إلى ما يعهد من أبنية ذلك العصر ومصنوعاته؛ فإن هيكل لارسان منها كان في عهد بورنبورياس أحد أعقاب كدرلاعومر قد اندكت أركانه وتداعت جدرانه، فجدد هو بناءه على رسمه الأول ورد إليه قديم رونقه، كما يستفاد من كتابة له عليه وبين برنبورياس وأورخامس مدة لا تزيد على ستة قرون.
ولما انقضى عهد أورخامس قام بالملك بعده ابنه أيلغي وله ذكر في بعض الآثار يفيد أنه أتم بناء هيكل بأور كان قد شرع في بنائه أبوه أورخامس، وبعد أيلغي ملك ساغركتياس وكان سريره بصفيرة، ومن أبنيته فيها الهيكل الذي تقدم الكلام عليه عند ذكر هذه المدينة، وقد قدمنا هناك أنهم وجدوا في جملة ما كان في هذا الهيكل آنية من المرمر عليها اسم نارام سين أحد أعقاب ساغركتياس المذكور، وأوردنا الدليل على أن ساغركتياس هذا كان من خلفاء أورخامس الوارثين الملك عنه إرث الولي، ونقول هنا إنه لا يستبعد أن تكون أكثر الآثار التي وجدت موسومة بالأسماء المقرونة بسين كأيرسوسين وريم سين وسين هابال، إنما كانت في هذا الموضع وما يجاوره، وأن أصحابها كانوا من ولد كوش من خلفاء أورخامس وساغركتياس، بدليل أن عبادة سين كانت في بني كوش أعرق وأقدم، وهم الذين بثوها في أمم ذلك العهد؛ لأنهم كانوا كلما افتتحوا إقليما وتغلبوا على شعب تركوا فيهم عصابة منهم تؤيد أمرهم وتبث ما لهم من عادات وعبادات، فيبقى فيهم أثر ذلك الفتح على الأبد، وهذا معلوم من شأن المتقدمين من الآشوريين والمصريين وغيرهم.
وأول مرة افتتحت بابل في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد على يد أزدرخت المادي استفتحها عنوة بعد حصار عنيف، ولما دخلها فتك في أهلها فتكا ذريعا ومثل بهم تمثيلا شنيعا وركب فيهم من العسف والجور ما لم يسعهم معه الصبر، فلجئوا إلى مهاجرة البلاد فرارا بأنفسهم وخرجوا هائمين على وجوههم، وكان من حديثهم بعد ذلك أنهم تألبوا يدا واحدة وجعلوا دأبهم العيث في الأرض، لا يدخلون قرية إلا وطئوها واستباحوا أهلها وأرزاقها، حتى بلغ معظم سوادهم إلى الديار الشامية، فأنزلوا بها البلاء وفشا فيها القتل والنهب والسبي زمانا. ثم زحفوا إلى مصر وقد كثف لفيفهم بمن انضم إليهم من نواحي الشام من أسارى وغيرهم، ونفروا في عرض البلاد وشأنهم ما ذكر حتى انبث شرهم وتفاقم أمرهم. فأجفل لهم المصريون إجفالا شديدا وتأهبوا لقتالهم، فكانت بين الفريقين وقائع عديدة تواترت أزمانا، وكثرت فيها الدماء من الجانبين حتى عجز المصريون عن كشفهم وأجلت عاقبة الأمر عن استيلائهم على معظم بلاد مصر قهرا، ولما استقرت قدمهم هناك ثقلت وطأتهم على البلاد وتمادوا في الظلم والفساد، وبقي ذلك أمرهم مدة خمسمائة سنة أو تزيد إلى أن كان عهد توثمس المصري، فعمد فيهم إلى الحيلة وعمل على تفريق كلمتهم، فقسمهم أحزابا ثم جعل يواقع كل فئة على حدتها حتى بدد شملهم وفرق سوادهم وأجلاهم عن أرض مصر. ا.ه.
অজানা পৃষ্ঠা