ولذلك يثب إلى ذهني في أول البرنامج أن أقرأ بعض الكتب أو أعيد قراءة البعض مما ترك في نفسي شكوكا أو شبهات ثقافية. فمن ذلك مثلا كتاب «الغصن الذهبي». فقد قرأت التلخيص الذي يزيد على ألف صفحة ولكني أنوي قراءة الأصل الذي يزيد على عشرين مجلدا. وهذا الكتاب هو كنز للثقافة القديمة حين شرع الإنسان البدائي يتحسس الدنيا ويتعرف إلى حقائقها ويحاول - في تخبط - أن يستخلص منها منطقا مفهوما. وتربيتي ناقصة نقصا عظيما ما لم أقرأ هذه المجلدات كلها. ثم بعد ذلك أنوي قراءة كتاب الموتى أو «طلوع النهار» كما كان يسميه أسلافنا قبل خمسة آلاف سنة. وهو الذي كان يدفن مع الموتى كي يتعلموا منه الإجابات السديدة وقت الحساب في العالم الثاني. وهذا الكتاب هو زاوية منفصلة للبحث الذي يبحثه «الغصن الذهبي».
أما بعد ذلك فإني أنوي دراسة الذرة. ولو احتاج الأمر إلى استئجار مدرس. لأن خطورتها أكبر من أن يهملها رجل مثقف. وفي المستقبل حين تستغل الذرة لخدمة البشر بدلا من قتلهم، سوف يقسم التاريخ البشري قسمين: ما قبل الذرة وما بعدها.
ولكن هناك دراسة أخرى، قد تكون لها علاقة بالذرة، لا تفتأ تهجس بي كما لو كانت وسواسا هي العلاقة بين القوة والمادة أو الله والكون. وظني هنا أني مع سبينوزا. ولكني لما أهتد إلى همزة الوصل بين القوة والمادة. أعني أني لم أبلغ درجة من الفهم في هذه المشكلة أستطيع بها أن أرتفع إلى التعبير اللغوي عنها.
وقد كان يقال إلى وقت قريب، بل لا يزال هناك من يقول إنه ليس هناك حد تقف عنده المعارف البشرية. ولكن هذا خطأ؛ لأن هذا المعارف محدودة في هذا الكون. وظني أننا نعرف في عصرنا الحاضر أكثر من نصفها أو ثلثيها، ولم يبق علينا غير الثلث أو أقل. ونستطيع أن نستبدل بكلمة «معارف» كلمة «حقائق»؛ فإني لا أستطيع أن أعرف ما يقرب من مائة ألف نوع من الحشرات حشرة بعد أخرى. ولكني بتشريح حشرة واحدة أعرف حقيقة الحشرات جميعها. وعلى هذا الأساس نقول إن حقائق هذا الكون محدودة. وبعد جيلين أو ثلاثة أجيال لن يجد البشر ما يكتشفونه منها سواء على الأرض أم في النجوم أم في الحيوان أم في النبات.
ويجب أن تؤدي هذا الحال إلى التشجيع والتفاؤل؛ فإن هذا الكون ليس من السعة أو العمق إلى الحدود الغيبية التي تثبط عن المحاولة والفهم، فهو مكشوف قليل الحقائق وقد أوشكنا أن نعرفها جميعها ولم يبق سوى استغلالها. وهناك بالطبع مظلمون يحاولون أن يستنبطوا الغيبيات السرية من الماديات المكشوفة. ولم أنخدع قط بهم. وهم عندي والباحثون عن الروح بالنقر على المائدة سواء. وظني أن مشكلتهم عاطفية تحتاج إلى التحليل النفسي وليست ذهنية تحتاج إلى المناقشة الوجدانية.
وفي السنين العشر القادمة سوف أتوسع وأتعمق في السيكلوجية والبيولوجية، وأزداد فيهما نضجا. وهما من غرام الشباب الذي لازمني إلى الشيخوخة. ومن أطماعي الثقافية أيضا أن أجعل علاقتي بأرسطوطاليس حية أكثر مما كانت إلى الآن. فإن «عصرية» هذا الرجل عجيبة. ولو أنه كانت له قدرة أفلاطون الأدبية في التعبير لكانت مؤلفاته على لسان العامة قبل الخاصة. ولو أني بلغت من المعرفة بأرسطوطاليس ما بلغته بجوتيه أو برناردشو لعددت هذا فوزا عظيما في حياتي. ولكن هذه أمنية مستحيلة.
وسيكون لي كفاح ثقافي في مصر، فلن أكف عن تأليف الكتب المقلقة مثل «نظرية التطور» أو «حرية الفكر» ... خمائر صغيرة أبعثها في أنحاء الوادي وغيره إلى الأقطار العربية كي أزعزع التقاليد السوداء وأحرق العفن الذي تركته على العقول المطموسة. ومن مسرات حياتي أن أجد أن مؤلفاتي «تسري» في الجسم الاجتماعي على مهل وفي غير عنف فيأخذ التطور مكان الجمود والنزعة الارتقائية مكان الرجعية الجامدة.
وكذلك أرجو أن يكون لي كفاح صحفي للدفاع عن الديمقراطية في مصر. وظني أني لن أرى انتصارا للديمقراطية في السنين العشر القادمة؛ لأن الرجعية والاستبداد في استقرار واستحكام والديمقراطية عزلاء من كل سلاح. بل إن الصراع القائم في أيامنا بين أمريكا وروسيا سوف يعزز الرجعية والاستبداد في مصر؛ لأن جميع الحركات اليسارية قد أصبح الأمريكيون يشتبهون فيها ويحضون على مكافحتها. ولكن هذه الحال يجب أن تدعونا جميعا إلى الدعاية الديمقراطية بل إلى الإلحاح في هذه الدعاية وإلا عم الظلام مصر بأكثر مما كان يعمها قبل سبعين سنة. ولا أظن أني مسرف هنا في التشاؤم. فإن في مصر الآن قوات كبرى تتأهب وتتكاتف لتحطيم الأنظمة الديمقراطية ومكافحة الاتجاهات الديمقراطية في مصر. وهذه الحال يجب أن تزيدنا حماسة وغيرة لمكافحة الاستبداد والرجعية. وأرجو أن يكون لي نصيب يمتعني بهذا الكفاح الذي أطمع في الاشتراك فيه.
وثم مطامع أخرى تكاد لبعدها عن الواقع تقارب الأماني. منها أن أرى أوروبا وأحس رياح البلطيق في شمال ألمانيا وأسأل عن الكلمات الفرعونية التي لا تزال باقية في فنلندا، وأرى المرأة الأوروبية الجديدة: نورا، التي كتب عنها إبسن وأثار بها خيالي قبل أربعين سنة. وأحب أن أقرأ «جورنال دوجنيف» وهو لا يزال ساخنا فور خروجه من المطبعة. وأحب أن أقعد في قهوة في البولفار في باريس وأناقش في السياسة. أناقش وأنا مطمئن إذ لن يقول لي أحد القاعدين: «اسكت، ليس لك حق في المناقشة، الإنجليز أسيادكم.» ثم أقصد إلى غرفتي وأنا ذليل مهين أتبرز الدم والمخاط. كما حدث لي حوالي 1908. وأحب أن أزور تمبكتو في أفريقيا وبكين في الصين. وأحب أن أقف أمام جبل هملايا وأحس خشوع العبادة للكون. أحب أن أرى كل هذا لأن من واجب من يعيش في الدنيا أن يرى الدنيا. ولكن العالم لم ينظم إلى الآن كي يحس أبناؤه أنهم يملكون هذه الدنيا. ووطنيتنا الكبرى مجزأة وقوميتنا البشرية ممزقة، فنحن في أوطان كأنها أحجار لا نخرج منها إلا بإذن وفي فزع، ونحن نلوي ألسنتنا بأصوات مختلفة فنظن أننا مختلفون.
وأخيرا أحب أن يكون من برنامجي قضاء السنوات الخمس الأخيرة من العمر في الريف حيث أصادق الخراف والحمير والبقر والشجر، وأتحدث إلى النجوم وأحيي الشمس في الصباح وأضحك مع الماء يجري بين النبات وآكل الخس والفجل على حرف القناة.
অজানা পৃষ্ঠা