وحتى بعد أن حصلت الأمة على الدستور في 1922 بقي الإنجليز على خطتهم القديمة وهي مكافحة الحكم النيابي. فكانوا يتحينون الفرص لتزييفه ويختارون الرجال لتحطيمه. ولذلك بقي طراز الصراع الذي كان بينهم وبين الأمة في 1922 كما كان في 1882 بينهم وبين عرابي. وكانوا يبحثون عمن بقي من الأتراك والشركس كي يجعلوهم رؤساء للوزارات التي تناهض الحركة الوطنية الممثلة في الوفد. فرأينا زيور يجمع البرلمان في الصباح ويطرد أعضاءه في المساء في 1925 كأن نواب الأمة غوغاء لا أقل ولا أكثر.
وأرجو القارئ أن يفهم أني لست أشك في وطنية أبناء الأتراك والشركس في مصر الآن؛ فقد اندغموا في الأمة ونسوا الصراع القديم أيام عرابي كما نسوا لغتهم الأصلية. ولكن الإنجليز يحسون هذا الصراع القديم أكثر مما نحسه نحن ثم يسيئون فهمه أيضا. وإن كان مثال زيور يدل على أنهم لم يسيئوا الفهم. فقد حاول هذا المخلوق أن يحطم الحياة النيابية في مصر ونجح في تحطيمها سنين طويلة.
أخشى بعد أن سردت الكوارث التي أنزلها الاستعماريون الإنجليز بشعبنا أن يعتقد القارئ أني أكره الإنجليز أو أن يؤدي ما ذكرته إلى أن يكره هو الشعب الإنجليزي؛ فإن هذا الشعب من أنبل الشعوب في العالم. وما أستمتع به أنا من ثقافة أو قيم بشرية سامية يعزى معظمه إليه. وإنما أنا أكره الاستعماريين الإنجليز فقط. وهؤلاء الاستعماريون ينهبون الشعب البريطاني نفسه ويذلونه بالفقر والجهل كما كانوا ينهبوننا ويذلوننا . وليس الشعب البريطاني ثريا إلى الحد الذي يتخيله وينتظره الإنسان حين يتأمل هذه الإمبراطورية الشاسعة. وصحيح أنه انتفع بموارد الإمبراطورية التي حركت الصناعة. ولكن معظم المنفعة يعود إلى الاستعماريين والاستغلاليين. وهم طبقة واحدة. أي إن الذين يستغلون العمال في منشستر وجلاسجو وبرمنجهام هم أنفسهم الذين كانوا يستغلون المصريين والهنود والجاويين. وفي بريطانيا من الفقر ما ليس في أمة لا تملك أية مستعمرات مثل سويسرا أو نروج أو سويد. وقد ذكر هيوليت جونسون أن الصبيان الفقراء في يوركشر - في إنجلترا - عندما عرض عليهم الموز رفضوا تناوله ولم يعرفوا كيف يؤكل؛ لأنهم لم يأكلوه قبل ذلك. وكذلك فعلوا بالبيض. وذكر السر جيمس أور أن الذين يحصلون على الغذاء الكافي في إنجلترا لا يزيدون على النصف، وأن سدس الأمة الإنجليزية مريض للنقص الغذائي.
ومرتب الكناس في المجلس البلدي - من إحصاء في 1938 - في سويسرا هو 223 جنيها في السنة. وفي سويد 210 وفي دنمركا 150. وليس لهذه الأمم مستعمرات. أما مرتب الكناس في المجلس البلدي في لندن فهو 145 جنيها في السنة فقط. وإني أقصد من ذكر هذه التفاصيل أن أبين للقارئ أن الشعب الإنجليزي بريء من الجرائم الاستعمارية التي يرتكبها دعاة الاستعمار والاستغلال، وأن البرهان على ذلك هو فقر هذه الطبقات الدنيا في إنجلترا، هذه الطبقات التي تعيش فيما يقارب الحرمان والمرض اللذين نقاسيهما نحن المصريين والهنود والجاويين من التسلط الإمبراطوري البريطاني مع تفاوت في الدرجة.
الشعب الإنجليزي شعب متمدن نبيل. ولكن الاستعماريين من الإنجليز أشرار بل أبالسة يجب ألا نذكرهم إلا باللعنات.
فلسفة وديانة
نعيش في ضوضاء تلهينا عن الفلسفة، أي تلهينا عن الدين؛ لأن الفلسفة هي الدين. والرجل العصري الذي يدرس الفلسفات والأديان بروح المتعلم يجد بينهما اختلاطا يشبه الاندغام؛ وذلك لأن قضية الدين هي نفسها قضية الفلسفة، وهي: كيف نفكر التفكير السليم ونعيش العيشة الطيبة؟ ومقاييس الدين هي في النهاية مقاييس الفلسفة، كما نرى مثلا في كلمة برناردشو: إن الرجل الطيب هو الذي يعطي الدنيا أكثر مما يأخذ منها. أي إن الدنيا تجد بعد انقضاء عمره أنها كسبت به ولم تخسر، وأنفقت عليه أقل مما ترك لها. وهذا الذي تركه لها قد يكون حكمة أو قدرة أو علما أو اختراعا أو زيادة في الثروة أو الخير أو السلام.
وهذا المقياس فلسفي ديني. ولذلك حين أتحدث عن فلسفة الحياة التي أعيش بها هذه الأيام وأنا في الستين أو حواليها، أجد أنها مزيج من الفلسفات والأديان. وصحيح أن الدين يطالبنا بالتسليم، والفسلفة تطالبنا بالمنطق. ولكن ليست هذه الحال دائمة أو واضحة الحدود؛ فإن في الدين منطقا كما أن في الفلسفة تسليما في بعض الأحوال.
وقد يقال أيضا إن في الدين غيبيات وليس في الفلسفة غيبيات. ولكن هل هذا صحيح؟ ألسنا نقف مع أينشتين أو غيره إزاء غيبيات علمية حين يتحدثون عن الكون المتمدد الذي يدأب في الاتساع في الخواء؟
إني أذكر أني - حين كنت في حمى المراهقة - شرعت أسائل وأشك في الغيبيات المألوفة. ولم تزدني السنون من ذلك الوقت إلا يقينا بالإنكار. ثم تطورت الفكرة الدينية عندي أو انتقلت من التسليم بالغيبيات إلى الإيمان بالقيمة الاجتماعية للدين أو الفلسفة وإلى تربية الضمير، حتى تتغلب - في اللغة السيكلوجية - الذات العليا على الذاتين الاجتماعية والحيوانية؛ أي تتغلب القيم البشرية على القيم الاجتماعية والمادية.
অজানা পৃষ্ঠা