ومثل هذا المنظر يوهم أن الأمة الفرنسية قد استفاض فيها الكفر والإلحاد. ولكن وقفة واحدة خارج الكنيسة أو داخلها يوم الأحد كانت تكذب هذا الوهم؛ فإن كاهن القرية هو الرئيس الروحي الذي يخاطب السكان بلهجة الأمر تحيط به هيبة التقاليد. والواقع أنه ليس في أوروبا كلها كنيسة حية كالكنيسة الفرنسية .
والحانة - على الرغم من اسمها وشهرتها - هي في باريس والمدن والقرى مؤسسة اجتماعية للسمر بين الرجال أو بين الرجال والنساء. وكثيرا ما يجد فيها الزائر الطعام إلى جنب الشراب. ومع أن في فرنسا آلاف الحانات، ومع أن الأطفال يشربون الخمر، فإني لا أذكر أني رأيت طوال إقامتي في فرنسا في 1908 و1909 رجلا سكران. ولعل مرجع ذلك أن الفرنسي يأكل ويشرب ويسكن ويلبس ويعمل وله في كل ذلك مأرب فتى يحمله على أن يتأنق في معيشته. فهو يتجنب السكر عن تأنق وفن كما يجد في التمالك كرامة ولياقة. والمائدة الفرنسية - بأوانيها وزهورها - هي متعة فنية للعين كما هي لذة للذوق بمهارة طهاتها.
وبدهي أن لتماسك العائلة الفرنسية نتيجة هي أن فرنسا أقل أقطار العالم كله طلاقا. وأن البيت الفرنسي يشبه في كثير من الأحيان متحفا يحوي كثيرا من التحف القديمة والطرف الغالية. والجيل الجديد يرث عن الجيل السابق تقاليد في البيت هي الشعائر الاجتماعية التي يتعارف بها الأفراد كما يرث الأبناء تراث الآباء من أثاث مادي أو ذكريات روحية.
وتعلمت اللغة الفرنسية في سرعة عجيبة. وقد هبطت وحدي بلا معونة على طريقة، وجدت بعد ذلك أن المربين التفتوا إليها، هي أن الجملة - دون الكلمة - هي التي تحفظ وتستذكر. وحين كنت أزور باريس كنت على الدوام أعنى بحضور إحدى الدرامات. وقد أتيح لي أن أستمتع برؤية سارة برنار وهي تمثل «العقاب الصغير» ولكنها كانت في كهولتها قد ذهبت عنها لمعة الشباب مع بقاء البراعة الفنية.
ودأبت في قراءة الجرائد الفرنسية اليومية، وكانت تباع بأثمان التراب. وتعرفت إلى الأحزاب الفرنسية وشغفت بقراءة الأومانيتية التي كانت تعبر عن آراء الاشتراكيين. وكانت الاشتراكية رؤية جديدة حملتني على أن أذكر الطبقة الفقيرة في مصر وأجعلها موضع اهتمامي. وأكسبتني الجرائد الفرنسية العقلية السياسية الأوروبية، واستطعت أن أفهم كثيرا في ضوء المذهب الاشتراكي. وكانت جرائدنا في مصر «محلية» قد أنهكها الكفاح للاستقلال وحال بينها وبين دراسة الشئون العالمية؛ ولذلك انتفعت كثيرا بهذه النظرية الواسعة، وخاصة لأن إقامتي في فرنسا صادفت تلك السنوات التي سبقت الحرب الكوكبية الأولى. فكانت الخمائر تختمر لمن يتشمم الأخبار ويتنسم الطوالع.
ومع أن اللغة الفرنسية هي لغة الإفصاح والإيماض، لغة الأدب الحر الذي يمتاز بعبقرية خاصة في الدقة والوضوح، ومع أن باريس بؤرة الآداب الأوروبية بل شعلة الثقافة التي تعشو إلى ضوئها عيون الأوروبيين، ومع أن فرنسا لا تزال في وجداني فكرة أكثر مما هي قطر، فإني - لاتجاهي العلمي - وجدتني في مستقبل أيامي أميل إلى قراءة الكتب الإنجليزية وأوثرها على الفرنسية؛ لأن الإنجليزية تعبر عن نزعة عملية تحقيقية كثيرا ما نجدها بعيدة أو غائبة عن المزاج الذهني الفرنسي، ولذلك أعزو تربيتي أو بالأحرى معارفي الثقافية إلى الإنجليزية أكثر مما أعزوها إلى الفرنسية.
وإذا سألني القارئ: هل وجدت في الإنجليزية أديبا له مرانة الفن ودقة الحس وأناقة التفكير وجمال التعبير مثل أناطول فرانس؟ أو هل وجدت أديبا في الإنجليزية له حكمة فولتير وثورة روسو وجنونهما المقدس في خدمة الحق والفن؟ فإني أجيب بلا، بل إني أعترف أن هناك آخرين غير أناطول فرانس وفولتير وروسو ممن أثمرتهم الثقافة الفرنسية ولا يوجد من يضارعهم من أدباء الإنجليز أو الأمريكيين. ولكن ميزة الكاتب الإنجليزي، وأسمى كتاب الإنجليز عندي هو برناردشو، ميزته أنه يلصق بالحقائق، وله قدم ثابتة في الأرض حتى حين يرتفع رأسه فوق السحاب. ومع أني ما زلت إلى الآن أؤثر الجريدة الفرنسية في القاهرة على الجريدة الإنجليزية، ولا أترك نزعة أدبية فرنسية تفوتني؛ فإني حين أحتاج إلى دراسة، تطالبني بالهرس والطحن، أعمد إلى الكتب الإنجليزية.
وفضل فرنسا علي أنها جعلتني أوروبي التفكير والنزعة. وقد تركت باريس في نفسي إحساسا بأنها عاصمة العالم المتمدن. ولم يتركني هذا الإحساس إلى الآن، بل إني أرى من الحق أن نصف المصري أو الألماني أو الروسي أو الصيني الذي استشبع بالثقافة الفرنسية بأنه «فرنسي»، كما كان يوصف سكان البحر المتوسط من الرومان والمصريين والمشارقة بأنهم «هلينيون» إذا استشبعوا بالثقافة الإغريقية ونزعوا النزعة الأتينية. لأن إغريقيا لم تكن وطنا جغرافيا للإغريق فقط بل كانت أيضا وطنا ثقافيا لغيرهم من أبناء الأمم المجاورة. وكذلك فرنسا ليست الآن وطنا جغرافيا للفرنسيين وحدهم ، وإنما هي وطن كل مثقف درس الثورة الفرنسية وأحب باسكال وروسو وعرف كلود برنار وأناطول فرانس. ولا يستطيع أحد أن يقول مثل هذا القول عن أي قطر آخر. لقد فتحت لي فرنسا الآفاق الأوروبية التي لا تزال تنبسط أمامي فتكسب حياتي مغزى حتى حين أعيش في وسط ليس له معنى فضلا عن مغزى. وأي عزاء أكبر من هذا؟
أنا أربي نفسي
في 1909 قصدت إلى لندن بعد قضاء شهرين في مصر عقب عودتي من فرنسا. وهنا يجب أن أذكر أن السفر كان في ذلك الوقت حرا، فلا جوازات وتقييدات أو عراقيل حكومية. وكان السفر إلى باريس أو برلين أو لندن لا يختلف عندي من السفر إلى طنطا أو أسيوط. وأذكر أني أخذت إلى لندن باخرة قادمة من الهند عليها موظفون من الإنجليز في الحكومة الهندية، فقاطعوني حتى على المائدة حين يحتاج كل واحد إلى مناولة الملاحة أو إناء الماء أو غيره. ولم أنجح في حمل أحد من هؤلاء الإنجليز على الحديث معي ونحن على سطح الباخرة. وعوملت كما لو كنت هنديا، أنا العبد وهم السادة. ولكني وجدت بعض الهنود الذين عزلوا أيضا - اجتماعيا - مثلي، فكنا نتحدث معا ونحن على وجدان بهذا الاستغراض الإمبراطوري. أجل لقد عرف الإنجليز نظرية «الشعب السائد» ومارسوها حين كان لا يزال الألمان مبتدئين في تفهم مغزاها يكتبون عنها فقط. وكان هذا أول اختباري للاستغراض اللوني؛ لأن أوروبا كلها لم تكن تعرف هذا الاستغراض. وكنا نحن المصريين نجد الاحترام بل الإكرام في عواصم أوروبا إلا في عاصمتين: إستامبول حيث كان الأتراك ينظرون بالاحتقار إلى كل عربي، ولندن حيث كان الإنجليز على وجدان وقح بسيادتهم للهنود والمصريين وسائر الأمم التي استولوا عليها.
অজানা পৃষ্ঠা