ولكن الريف لم يكن كله على غرار هذه المفازع؛ فإن مباهجه والأنسة الديمقراطية التي كانت تنعقد بيني وبين الصبيان الذين كانوا في سني، والليالي التي كنا نحييها في السمر أو اللعب، والاستحمام في القناة، وركوب الفرس، والجولة إلى السوق الأسبوعية، ثم إلى ذلك معيشة الريف الساذجة؛ كل هذا كانت تحفل به حياتنا في الصبا. وكنا نجد اهتمامات تشغلنا، ولم تكن كلها صبيانية؛ فإني أذكر أن ولادة الجاموسة حركت عقلي وقلبي جملة أيام، وما زالت صورتها إلى الآن ترتسم في مخيلتي وهي في حرج الولادة تئن وتلهث وتتلفت، وجميعنا حولها في عطف نتألم لها ، وكان بعضنا يدعو لها بالسلامة كأنها صديق من البشر، حتى خرج المولود بعينيه الواسعتين وهو يترنح ونحن نسنده وأمه تحنو عليه وتلحسه.
وحصلت على الشهادة الابتدائية في سنة 1903، ولا أعرف بالضبط كم كان عمري؛ لأن إثبات الميلاد لم يكن في أيامنا من القواعد الصارمة ولكن أغلب الظن أني ولدت حوالي 1887، ودخلت السنة الأولى في المدرسة الأميرية وأنا في الحادية عشرة، وهي السن التي نال فيها ابني بعد ذاك هذه الشهادة ... ومع ذلك كنت أعد من صغار السن في الفصول؛ إذ كان بيننا من بلغوا العشرين.
وعندما أقارن بين ما تعلمته بالمدرسة الابتدائية بالضرب وسائر العقوبات بما تعلمته عفوا في الريف من اختبارات في الحياة، أجد أن الريف قد علمني أكثر وأكسبني من المعارف الذهنية والروحية ما يعد تربية حقة ما زلت أنتفع بها إلى الآن. فقد اكتسبت من الريف هذا الحب للطبيعة الذي جعلني أحس سائر حياتي أن الأرض هي الأم. وأكاد وأنا في الريف أحس مثلما أحس ذلك الراهب في قصة «الإخوة كرامازوف» لدستوئفسكي، حين انبطح على الأرض يقبلها، مثل هذه العاطفة المقدسة. وظني أن هذه العاطفة هي المبعث الذي انبعث منه بعد ذلك وجداني الديني البشري واستطلاعي الدائم لعالمي النبات والحيوان واهتمامي بشئون العمال.
وكانت حياتنا بالريف سليمة من الناحية الصحية؛ فإنه على الرغم من أننا كنا ندوس الحقول ونخوض القنوات بلا حذاء ونستحم في القناة، فإننا لم نعرف البلهارسيا أو الأنكلستوما؛ وذلك لأن التربة لم تكن قد استشبعت بالماء كما هي الحال الآن، بعد أن عمت مشروعات الري التي أحالت أرض القطر المصري كلها تقريبا إلى عزبة لإنتاج القطن دون أي اعتبار لصحة الفلاحين. وأذكر أن التربة كانت أيام الجفاف تتشقق، وكان عرض الشق يزيد على عشرة سنتمترات ويغور نحو نصف متر. وفي مثل هذا الوسط لم تكن الديدان تستطيع الحياة. وكانت صحة الفلاحين سليمة وأجسامهم قوية. ولكن الإنجليز المتسلطين على بلادنا وقتئذ رأوا أن إنتاج القطن خير لهم من صحة الفلاحين.
وكانت الحياة الدينية أبرز من الحياة الاجتماعية أو المدنية في العائلات القبطية. وهذا على عكس ما نرى الآن، فإني أذكر أنه كان لعيد الميلاد ضجة عظيمة تمتاز بمقدمات ولواحق. وكنا نعد له الأيام ونتهيأ بالملابس والنقل والذبائح. وكانت تفد إلى بيتنا عجوز تقضي في كل عيد نحو شهر، لا أعرف أصلها ولكني أذكر اسمها خريستا، وكانت تقص علينا الأساطير البديعة كما تصنع لنا أنواعا من الكعك المزخرف.
وقد ورث الأقباط التعاليم الكنسية كما كانت حين تجمدت في الدولة البيزنطية فيما بين القرن الرابع والقرن السادس؛ ولذلك كانت «العذراء» بارزة بروزا يبرر وصف الأوروبيين للعقيدة المسيحية في مصر في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر بأنها «ماريلوجية». ولكن انتشار المذهب البروتستنتي في مصر استفز الكنيسة القبطية وأثارها إلى الوجدان المسيحي. وكثير من الأقباط يأسفون على انتشار المذهب البروتستنتي في مصر، ويجدون فيه شقاقا لم يكن ضروريا. ولكني أظن أنه لولا هذا المذهب لما تنبهت كنيستنا الأرثوذكسية ولما استيقظت من نعاس القرون الماضية.
وكانت المرأة - مسلمة أو قبطية - تعيش في ظلام الحجاب لا تجالس الضيوف من الرجال. وكان هؤلاء يزورون أو يزارون في «منظرة» لا تشترك في لقائهم المرأة. وكان البرقع عاما لا تخرج امرأة إلا ووجهها مقنع. وأذكر أن أمي وإخوتي المتزوجات التزمن البرقع إلى حوالي سنة 1907 أو 1908 حين تركنه. وظني أن هذا الترك كان من أثر البروتستنت أيضا؛ لأنهم كانوا ألصق بالغربيين وأكثر أخذا بطرقهم منا نحن الأقباط الأرثوذكس.
أمي وإخوتي
لا أذكر أبي لأنه مات وأنا دون السنتين في 1889، ولكن جو البيت في طفولتي كان حافلا بذكراه؛ فقد كانت أمي تصف سنة وفاته ب «السنة السوداء»، وبقيت بذلته معلقة إلى الحائط جملة سنوات كما كانت يوم وفاته. حتى القميص المنشى بياقته المتصلة لم يكن يبرح مكانه. وكنت أسمع القصص عنه. وقد بقينا عقب وفاته نتناول مؤخر مرتبه عشرين شهرا تقريبا. وهذا بالطبع غير المعاش. ومن هنا يعرف القارئ مقدار الإفلاس الذي كانت قد هوت إليه الحكومة؛ فقد كان الموظفون تتأخر مرتباتهم سنة أو سنتين . وكانت الرشوة تتفشى لهذا السبب . وكانت وظيفة أبي «رئيس تحريرات مديرية الشرقية» ولم يزد مرتبه على سبعة جنيهات ونصف جنيه ومع ذلك ترك لنا وقت وفاته أكثر من مائة فدان. وكان الثمن المعتاد في تلك السنين عشرة جنيهات أو عشرين جنيها للفدان. وقد اطلعت على عقد بيع لجدي في نحو سبعين فدانا (حوالي 1840) وكان اهتمام الكاتب في العقد بشأن أدوات الزراعة، كالمحراث والنورج، وأوصاف الماشية، من بقرة إلى جاموسة إلى حمار، أكبر جدا من اهتمامه بالأرض التي لم تستغرق سوى ثلاثة سطور، بينما استغرقت الأشياء الأولى أكثر من أربعين أو خمسين سطرا. وكان اتخاذ البذلة الأوروبية جديدا في تلك السنين - أي قبل وفاة أبي - بين الموظفين. وكانت البذلة المألوفة شيئا يسمى «السترة الإستامبولية» وكانت سوداء بين الردنجوت والبونجور. وكنا نسمع القصص التي تروى عن التجارب الأولى في خلع الملابس القديمة واتخاذ البذلة الأوروبية. وكانت هذه القصص مجالا للتنادر والضحك.
والطفولة في أيامنا كانت أكثر إمتاعا، ولكن أقل تنبها مما هي الآن؛ لأننا قضيناها في الزقازيق والريف. وكانت الزقازيق تخلو من تلك الحركة الصاخبة الخطرة التي ترى الآن في القاهرة، فكنا نجول فيها مطمئنين أو نخرج منها إلى الحقول المجاورة، ولكن لم يكن هناك ما ينبه الذهن ويبعث الاستطلاع.
অজানা পৃষ্ঠা