তারাজিম মাশাহির
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
জনগুলি
وأراد ليلة 21 دسمبر سنة 1847 كتابة شروط التسليم فلم يستطع؛ لتساقط الأمطار وهبوب العواصف، فبعث اثنين من خاصته دفع إليهما ختمه شاهدا على صدق نيابتهما عنه أمام قائد المعسكر الفرنساوي الجنرال لاموريسير، فذهبا وعرضا الشروط، ومن مقتضاها أن يبارح الأمير بلاده ويسكن في الإسكندرية بمن معه من الرجال والنساء والأولاد أو في مدينة بورصة، فقبل الجنرال الشروط بدون تردد، وسر لانتهاء متاعب فرنسا في حروب هذا الأمير، وأخبر فرنسا بذلك فابتهجت باريس، وهكذا سلم الأمير ولكنهم احتفلوا به عند قدومه المعسكر احتفالا عظيما.
وفي 25 منه سافر الأمير بمن أراد مرافقته من رجاله وعددهم ثمانون على دارعة إلى طولون فقوبلوا بالترحاب، ثم طلبوا إليه التنازل عن اشتراطه السكني في الإسكندرية أو غيرها من المدن العثمانية، وأن يقيم في فرنسا بكل احترام وبكل ما يحتاج إليه من النفقات فأبى، ثم انقلبت حكومة فرنسا من الملكية إلى الجمهورية، وبعد أخذ ورد أجابوه إلى ما أراد، ولكنهم اشترطوا عليه التعهد بعدم الذهاب إلى الجزائر فتعهد بذلك كتابة هو ورجاله في آذار (مارس) سنة 1848 وبات ينتظر الأمر بالذهاب، فورد عليه الجواب على غير المراد، ومفاده أن الجمهورية تعتبره أسيرا كما تركته الحكومة السالفة، وزجوه في السجن مع رجاله، فتكدر الأمير كدرا لا مزيد عليه، ولكنه كان يتأسى في سجنه بالكتابة والتأليف، ورأى رجاله يتذمرون من الأسر، فألح عليهم أن يتركوه ويذهبوا لأنهم غير مكلفين باحتمال الأسر من أجله، فأبوا إلا مرافقته في السراء والضراء، وبقوا في ذلك الأسر إلى أكتوبر سنة 1852.
فقدر الله أن البرنس نابليون كان متجولا في أنحاء المملكة فمر بأبيس حيث كان الأمير مأسورا فزاره ووعده بالإنقاذ، وبعد بضعة أيام أطلق سراحه، ودعاه لزيارته في باريس، فقوبل فيها بالتجلة والإكرام والباريسيون مطلون من الشبابيك والكوى لمشاهدة الأمير البدوي الذي شغل دولة فرنسا 15 سنة بالحروب، ثم دعي لزيارة البرنس نابليون في قصره فسار مع أربعة من أخصائه، وكانت الحفلة حافلة فتكلم الأمير معتذرا عن عدم معرفته العادات الجارية في فرنسا وطلب الإغضاء عما ربما يأتيه مما يخالف ذلك، وتعهد له بعدم الرجوع إلى الجزائر، فشكره البرنس، وبعد الغداء طاف به في القصر وأهداه جوادا عربيا، وبالاختصار إن احتفال البرنس نابليون بالأمير عبد القادر كان عظيما جدا، وبعد مضي شهر في باريس اتفق إجماع الفرنساوية على إرجاع الإمبراطورية، فكان الأمير في جملة المنتخبين، ووقع الانتخاب على البرنس نابليون، ولما تنصب زاره وهنأه، فلاقى منه كل رعاية وأعطاه سيفا مكتوبا عليه: «من الإمبراطور نابليون الثالث إلى الأمير عبد القادر بن محيي الدين.» وفي 21 دسمبر سنة 1851 برح الأمير فرنسا فوصل الآستانة، فاحتفل به سفير فرنسا هناك احتفالا شائقا، وبعد أيام سار إلى بورصة على نية الإقامة فيها، وله نفقات معينة من فرنسا تبلغ أربعة آلاف جنيه سنويا تنفق عليه وعلى رجاله، ولم يطب له المقام هناك فاستأذن بالعود إلى فرنسا، فعاد ومكث فيها مدة ثم عاد إلى بورصة قضى فيها بضعة أسابيع ريثما أعد نفسه ورجاله ومتاعه وبرحها إلى بيروت فوصلها في 24 يونيو (حزيران) سنة 1856 ومنها إلى دمشق، فخرج إلى لقائه جماهير كبيرة بالاحتفاء اللائق رجالا ونساء حتى وصل المحل المعد لإقامته، ثم اتخذ مسكنا له في محل يقال له: «العمارة» في دمشق، وقام فيه، وقد طابت له المعيشة في تلك المدينة الفيحاء إلى آخر أيامه؛ لما لاقى من لطف أهلها وأنسهم، وكان يقضي معظم وقته في المطالعة والصلاة والتأليف لا يخلو مجلسه من العلماء والفضلاء.
وفي سنة 1860 كانت الثورة المشهورة في دمشق، وهي المذبحة التي ذبح فيها المسيحيون، وكان الأمير من أكبر المعارضين لإجرائها، ولما نفدت حيلته في منعها أصر على بذل قصارى جهده في كف الأذى عن المسيحيين.
فلما علم يوم الإثنين في 9 يوليو (تموز) سنة 1860 بابتداء المذبحة تكدر جدا وبعث حالا إلى كل مغربي في دمشق وفرقهم في أحياء المدينة لإنقاذ من يستطيعون إنقاذه من المسيحيين فكانوا يهجمون كالأسود بقلوب لا تهاب الموت، ورءوس قد ثارت فيها الحمية والمروءة فيأتون بمن يستطيعون إنقاذه رجالا ونساء وأولادا إلى دار الأمير، ولما علم النصارى بما عزم عليه الأمير كانوا يفرون إليه من تلقاء أنفسهم ويقيمون في بيته حتى غصت داره فأخذ البيوت المجاورة له وأخلاها وأقام فيها اللائذين به وفي جملتهم قناصل الدول وغيرهم، وكان ينفق عليهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام وغيره، وممن عاضده في هذا العمل الخيري العالمان الشريفان: محمود أفندي حمزة، وأخوه أسعد أفندي، رحمهم الله أجمعين.
في ثالث يوم من المذبحة هجم الأكراد الثائرون على بيت الأمير للقبض على النصارى، فدافعهم الأمير ورجاله والشريفان بكل ما في وسعهم فعاد الأكراد خاسرين، ثم إن والي دمشق إذ ذاك وعد النصارى إذا سلموا ودخلوا القلعة أنهم يكونون فيها آمنين من القتل، فاجتمع فيها نحو من خمسة آلاف وكأنه أراد بهم الغدر بعد ذلك بجماعة من الدروز كانوا قادمين للنهب، فخرج إليهم الأمير ورجاله وهددهم بالرصاص فخافوا وكروا على أعقابهم، وبقيت الثورة سبعة أيام متوالية لم يفتر فيها الأمير لحظة عن نصرة المظلومين وإنقاذهم من القتل وتطبيب الجرحى وتعزية الثكالى والأرامل واليتامى.
وكان يقضي أكثر الليالي ساهرا والبندقية في يده حرصا على من هم في حماه، فإذا غلب عليه النعاس أسند رأسه إلى فمها قليلا، وفي 15 يوليو سنة 1860 جاء دمشق وال جديد وعزل القديم وأخذت الأحوال في الهدوء، وقد كان في حمى الأمير من النصارى يوم جاء ذلك الوالي نحو أربعة آلاف نفس وفي القلعة نحو ستة آلاف، وبعد يسير جاء فؤاد باشا لتحري المسألة ومقاصة المعتدين، وهكذا انتهت المذبحة.
أما النصارى فهم كافة مدينون لفضل هذا الرجل العظيم؛ لأنه جاء عملا برهن على عظم نفسه ومروءته وشهامته، وقد نال جزاءه من الدول الأوربية فبعثت إليه بوسامات الشرف ورسائل الثناء وخصوصا الدولة العلية أيدها الله.
ولما هدأت الأحوال عاد إلى السكينة، وعكف على المطالعة والصلاة والتدريس.
وفي سنة 1863 استأذن الإمبراطور في الذهاب إلى الحج فأذن له، فزار الحرمين وقضى فروض الحج كما يجب، وزار الطائف والمدينة المنورة، وكان حيثما حل يلاقي كل رعاية وإكرام، وفي أثناء عوده من الحجاز سنة 1864 مر بالإسكندرية وانتظم في سلك الجمعية الماسونية في 18 يونيو (حزيران) من تلك السنة، وبعد أيام عاد إلى دمشق ، وعكف على ما اعتاده من التدين والصلاة، واشتهر بالتقوى حتى كان الصوفيون يعتبرونه مكاشفا وينزلونه منزلة سيدي محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي، وكان له في قلوب أعيان دمشق منزلة رفيعة جدا، وقد كتب كتبا في التصوف والتوحيد، ولم يترك ملابسه العربية مطلقا، ونظرا لمحافظته على عهوده مع نابليون كان يدعوه صديقه الباسل.
অজানা পৃষ্ঠা