ولما فرغ هذا أخذ يبين أن هذا الجرم الكريم غير كائن ولا فاسد، ولا يقبل النمو ولا النقصان ولا الاستحالة الانفعالية، ولا بالجملة ما كان من الكيفيات تابعا للاستحالة الانفعالية، مثل الصحة والمرض والشباب والهرم. وهو يبرهن ذلك أولا بمقدمتين: احداهما ان كل كائن وفاسد فاما أن يكون من ضده ويفسد إلى ضده، وأنه واجب ان يكون لهما شيء مشترك موضوع للضدين. والمقدمة الثانية أن الجسم المستدير ليس له ضد. فيلزم عن هاتين المقدمتين ان الجرم المستدير ليس بكائن ولا فاسد. فاما المقدمة الأولى فظاهرة بنفسها وبالاستقراء. وأما (ان) الجسم المتحرك دورا ليس له ضد فهو أيضا يستعمل في ذلك مقدمتين: احداهما أن الأجسام البسيطة المتضادة يلزم ضرورة أن تكون حركتها متضادة، إذ كانت الأجسام انما توصف بالتضاد من جهة صورها التي هي مبادئ الحركات، ولذلك وجب أن تكون حركات المتضادة متضادة. والمقدمة الثانية ان الجرم المستدير ليس لحركته ضد فيلزم عن ذلك ان الجسم المستدير ليس له ضد. فأما ان الأجسام المتضادة يجب أن تكون حركاتها متضادة فبينة بنفسها. واما ان الحركة المستديرة ليس لها ضد فهو يبين هذا المعنى في آخر هذا القول. قال: فقد وفقت الطبيعة الالهية إذ كان قصدها ان تصير هذا الجرم غير مكون ولا فاسد بأن باعدته عن الأضداد. فان الكون والفساد يكون في الأضداد لا محالة. وكذلك يبين (أيضا) أنه غير قابل للنمو ولا للنقصان. وذلك ان النامي انما ينمو بالغذاء الشبيه الوارد عليه، وذلك إذا انحل إلى المادة القريبة من جوهر المغتذى والنامي ثم صار جزءا من جوهر النامي والمغتذى. مثال ذلك الخبز، فانما يغذو إذا انحل الى صورة الدم ثم صار جزءا من الحيوان. وبالجملة فالنمو هو كون في أجزاء النامي، والنقصان فساد فيها. وإذا امتنع فيه الكون والفساد باطلاق، امتنع فيه النمو والنقصان. وكذلك تمتنع فيه الاستحالة الانفعالية، لأن كل منفعل بهذه الاستحالة كائن فاسد ضرورة، إذ كان من شرط هذه الاستحالة وجود الضد والموضوع، ولذلك يمتنع عليه أيضا سائر الكيفيات التي الاستحالة الانفعالية شرط في وجودها، مثل الصحة والمرض والشباب والهرم. وأعني هاهنا بالاستحالة الانفعالية، التي في الكيفيات المحسوسة، وبخاصة الكيفيات الأربع التي هي أسباب الكون والفساد، أعني الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة. فاما ما كان من سائر الكيفيات ليست هذه الكيفية شرطا في وجودها فليس يمتنع وجودها فيه مثل وجود الشكل والاضاءة. قال: فمن وقف على ما نسقناه من المقدمات والبراهين، وتبينها بيانا واضحا، تبين له من أمر هذا الجرم الكريم أنه لا يقبل شيئا من هذه التغايير. ( قلت: إذا تبين من أمر هذا انه ليس له ضد ولا موضوع فهو بسيط غير مركب من هيولي وصورة، وهو كالعنصر بالفعل للصور المفارقة، وهو أشبه بالعنصر منه بالصورة، وإن كان فيه شبه من كليهما، لأنه يشبهه من قبل أنه محسوس ومشار إليه، وان فيه قوة في الأين، وانه جسم، ويشبه الصورة من جهة ما هو بالفعل، وليس جوهره بالقوة). قال: والعيان يشهد لهذه البراهين والبراهين تشهد للعيان. يعني انه ليس يظهر للحس في هذا الجسم شيء من أنواع [4 ظ] التغير. قال: وقد يدل من جهة الاقناع أنه كذلك، ان جميع الأولين الذين اقروا بالله والمالائكة قد اتفقوا على أن هذا الجرم هو موضع الروحانيين والملائكة الذين لا يلحقهم كون ولا فساد. وانما اتفقوا على ذلك لأنه واجب أن يكون موضع [2 و: ع] الأشياء التي لا تقبل الكون رلا الفساد غير كائن ولا فاسد. وأيضا فقد اتفقوا على أنه موجد الكون والفساد والتغيير ومخلقه، وواجب أن يكون مخلق التغيير غير متغير. قال: وقد يقنع أنه غير متغير ولا وستحيل، انه لم يزل في الدهور السالفة والاحقاب الماضية بهذه الحال، وانه لم ينقل عنه أحد قط أنه تغير لا في كليته ولا في جزئيته، ويستحيل أن يكون من شأنه أن يقبل (التغيير)، ولم يظهر ذلك فيه بعد في هذا الزمان الطويل الذي نقلت الينا (فيه) حوادثه. قال: و(قد) يدل على أن ريتنا فيه ليس هو بدعا ان الأولين كانوا يرون فيه مثل هذا الرأي، يعني الكلدانيين الذين كانت فيهم الحكمة موجودة قديما ثم بادت. وذلك أنهم كنوا يعتقدون في هذا الجرم الأول أنه غير الأرض وغير النار وغير الماء و(غير) الهواء، وانه دائم الحركة سريعها. وعلى هذا المعنى منه كانوا يدلون عليه باسم الأثير، ولذلك سموه به، (لا) على ما ذهب إليه انكساغورش فإنه كان يرى ان اسم الأثير انما يدل به على النار. قال: فأما ان عدد الأجسام البسيطة خمسة، فذلك يبين بما وضعنا ان عدد الأجسام البسائط على عدد الحركات البسائط، وان الحركة البسيطة اثنتان فقط مستقيمة ومستديرة، وان المستقيمة تنقسم إلى أربع حركات متضادة. وأما انها ليست أكثر من خمسة فذلك يبين إذا تبين أن الحركة المستديرة ليس تنقسم إلى حركات متضادة، كانقسام الحركات المستقيمة، فتكون هنالك أجسام مستديرات متضادة كما هاهنا أجسام مستقيمة متضادة. فأما ان الحركة المستديرة ليس لها ضد، وهو الذي وضعناه قبيل وضعا، فأرسطو يبين ذلك على هذه الجهة التي أقول: وذلك انه ان كان للحركة المستديرة حركة متضادة، فالحركة المستقيمة أحرى وأولى أن تكون لها ضدا من سائر الحركات. لكن إذا كانت الحركة المستديرة ليست مضادة للحركة المستقيمة فليس يوجد للحركة المستديرة ضد ألبته، وذلك انه إذا وجد ما هو أحرى وأولى أن يكون مضادا غير مضاد، كان ما هو أقل في ذلك أبعد من أن يكون مضادا. فأما ان الحركة المستقيمة أحرى الحركات أن يظن انها ضد للحركة المستديرة، فذلك يظهر من أن الحركة المستديرة تخالف الحركة المستقيمة بجزئيها اللذين تركبت منهما. وذلك أن حركة المستديرة مؤلفة من حركة المحدب وحركة المقعر، وكلاهما مخالف للحركة المستقيمة. وذلك أن المستدير يخالف المستقيم بمحدبه ومقعره. ولما كانت الحركة المستديرة تخالف الحركة المستقيمة بهاتين الحركتين، مع أن كل واحدة منهما مضادة لصاحبتها، أعني حركة المحدب والمقعر، كانت المستقيمة أحرى الحركات بأن تكون مضادة لها. وبالجملة فإن المستقيمة يظهر أنها أشد خلافا للمستديرة من المستديرة للمستديرة. وأما أن الحركة المستقيمة ليست ضدا للحركة المستديرة، فذلك يبين من أن الحركة المستقيمة تضاد الحركة المستقيمة. فلو كانت الحركة المستقيمة تضاد المستديرة لكان للضد الواحد أكثر من ضد واحد. وأيضا فإن الحركة المستقيمة انما تضاد الحركة المستقيمة من جهة تضاد الأماكن التي تتحرك إليها، ولسنا نجد تضادا بين مكان المستدير ومكان المستقيم. وذلك ان الحركات انما تتضاد بما منه وما إليه. أعني بما منه (الحركة) وبما إليه الحركة. واما الحركات المستديرة فلما كان فيها ما منه [5 و] وما إليه واحدا بعينه، لم يمكن أن يكون بينهما تضاد. ولذلك يقول أرسطو إن من زعم انه يوجد تضاد فيما منه الحركة المستديرة وما إليه، ، شبه ما يوجد ذلك في المستقيمة، فقد أخطا، مثال ذلك (أنه) ان توهم متوهم متى فرضنا متحركين تحركا على قوس أب احدهما من طرف <من> أإلى ب والآخر من ب إلى أأن الحركة التي من أإلى ب على قوس أب، <ليست> تضاد الحركة من ب إلى ا. كما أن الحركة من أإلى ب على خط مستقيم، تضاد الحركة من ب إلى أعلى ذلك الخط بعينه، وذلك أن الحركة من أإلى ب ليست حركة بين شيئين هما في غاية البعد (من ب أو أ) من جهة ما هي حركة على قوس، إذ كان يمكن أن يفرض بين نقطة ألف [2 ظ: ع] ونقطة ب قس ى لا نهاية لها. وقد قيل في حد الأضداد انهما اللذان البعد بينهما غاية البعد، أعني انه لا يوجد بينهما بعد أعظم منه، إذ كل بعد يقع بين نقطتين على طريق الاستدارة يوجد بعد أعظم منه. وإذا كان ذلك كذلك فالحركة من ا إلى ب انما تضاد الحركة من ب إلى ا من جهة ما هي على بعد مستقيم. فان قيل انه إذا فرضنا قوس أب نصف دائرة لم يمكن أن يقع بين أوب نصف دائرة غير ذلك النصف المفروض، فيكون البعد الذي بين ا وب على نصف الدائرة واحدا، ولا يمكن أن يكون هنالك بعد أعظم منه من جهة ما هو نصف دائرة، فيكون (بعد) أمن ب على نصف الدائرة في غاية البعد، إذ كان ليس يقع بين أوب نصف دائرة غير النصف المفروض، قيل انه ليس يظهر بين نصف الدائرة والقسي التي تقع بين طرفي القطر مقايسة، إذ ليس ينطبق جزء نت نصف الدائر على جزء من تلك القسي ولا يساوي جزء منها جزءا، لأن المقايسة إنما تكون بين المنطبقة المتساوية. ولذلك يظهر ان المستقيم هو المأخوذ في حدود المتضادة. وذلك أن الخط المستقيم هو الذي يقدر به (أبعد) البعد، والمقدر يجب ضرورة أن يكون من نوع المقدر فالبعد الذي هو نهاية البعد بين المتضادين هو مستقيم ضرورة. وانما كان الخط المستقيم هو الذي يقدر به أبعد البعد بين الشيئين لأنه أصغر الخطوط الواصلة بين نقطتين، ولذلك قيل فيه انه مكيال، وانه أقصر الخطوط. [Picture] وإذا كان الأمر هكذا فالمضادة التي بين الحركة من أوالحركة من ب، ان وجدت بينهما مضادة، فانما توجد من جهة ما هي على بعد مستقيم. وأيضا لو سلمنا ان الحركة على نصف الدائرة من أإلى ب مضادة للحركة التي (عليها) من ب إلى أ، لم يمكن أن يتصور ذلك فيهما إلا من حيث يتحركان نصف الدائرة فقط ولا يتممانها، لا من خيث يتحركان (في) الدائرة كلها. لأن (حركة) الدائرة لهما واحدة بعينها، إذ كان ليس عليها نقطة بالطبع هي مبدأ ولا منتهى بالطبع، أعني على المحيط. وإذا كان ذلك كذلك فالمبدأ المنتهى لهما واحد بالطبع، وقد قلنا ان الحركات المتضادة هي التي تكون من وبادئ متضادة وإلى نهايات متضادة. أعني من نقط متضادة وإلى نقط متضادة. مثل: الحركة من فوق الى أسفل، ومن اليمين إلى الشمال. وأيضا فإن أرسطو يقول انه لو كانت الحركة المستديرة تضاد الحركة المستديرة، لكان وجود أحد الضدين باطلا. وذلك انه يزعم انه يلزم عن ذلك اما الا توجد حركة مستديرة، أو يكون وجود أحد الضدين باطلا. فاما كيف يلزم ذلك فعلى ما أقوله: وذلك انه لما كان ظاهرا من أمر الحركة المستديرة انها واحدة بالنوع، فقط يلزم ضرورة. متى وضع أن حركة مستديرة تضاد حركة مستديرة، ان يكون التضاد منها يوجد في النوع الواحد. وإذا فرضنا تضادا موجودا في نوع من الأنواع لم يمكن أن يتوهم الا في أجزاء شخص (شخص) من أشخاص ذلك النوع، وذلك ان المتضادين لما كانا هما اللذان البعد بينهما في الجوهر غاية البعد لم يمكن أن يتوهم ذلك في الأشخاص التي هي واحدة بالنوع، أعني أن يضاد شخص منه شخصا (بكليته). وإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلا أن يكون الشخص فيه أجزاء [5 ظ] متضادة. فمتى أنزلنا حركة ما مستدبرة مضادة ففي الحركة المشار إليها أجزاء متضادة، فان تمانعت تلك الأجزاء لم تحدث هنالك حركة أصلا. فان غلب أحد الضدين كان وجود الضد الآخر باطلا، وليس يلزم من وجودنا الحركات السماوية مختلفة الحركات في الجهات، أعني أن بعضها يتحرك من المشرق إلى المغرب وبعضها بالعكس، أن نقول أن هذه الحركات متضادة. فإنه ليس كل خلاف ضدا، وإنما الضد الذي في غاية الخلاف. ولو كانت هذه المخالفة بينهما في الغاية لما كانت الحركة المستديرة واحدة بالنوع، كما ان العربي لو كان يخالف الرومي مخالفة تامة لما كان الانسان واحدا بالنوع. فالخلاف الذي يوجد للحركة المستديرة في هذا المعنى ليس هو خلافا يوجب أن يكون بينهما تضاد، (والا لم تكم الحركة المستديرة واحدة بالنوع، كما أن الخلاف الذي بين الرومي والبربري ليس خلافا بوجب أن يكون بينهما تضاد) إذ كام من شرط المتضادة على الاطلاق ألا تكون واحدة [3 و: ع] بالنوع. ولو سلمنا أن الحركات المستديرة المختلفة الجهات، كثيرة بالنوع، لما لزم عن ذلك أن تكون متضادة باطلاق. فإنه ليس يجب أن يكون كل ماهو غير <واحد> بالنوع أن يكون مضادا باطلاق <فانه ليس يجب> كما يلزم فيما كانا متضادين باطلاق أن يكونا غيرين بالنوع. (فقد تبين من هذا أن الحركات المستديرة ليس فيها تضاد. وإذا كان ذلك كذلك فالجسم المستدير طبيعة واحدة وليس بكائن ولا فاسد). وقد يظهر أن الجسم المستدير ليس فيه تضاد، وذلك أن علة التضاد هو الفوق والأسفل، وعلة الفوق الأسفل هو الجسم المستدير، فالجسم المستدير هو علة التضاد فليس فيه تضاد. وهذا البرهان صحيح وان لم يذكره أرسطو.
الجملة السابعة
পৃষ্ঠা ৯৪