فإذا أخذنا عن الأسلاف منظار العقل، الذي استخدموه وهم أشداء أقوياء، انبثقت لنا على الفور أسس جديدة نقيم عليها حياتنا الفكرية بدل الأسس السائدة. والأسس الجديدة المرجوة هي أسس الحوار الحر الذي تتعادل فيه قامات الناس، وإن تفاوتوا بعد ذلك في سداد الرأي وقوة الحجة. وأما الأسس التي نريد لها الزوال، فهي تلك التي تجيء فيها الفكرة من عل، لتهبط كالقدر على رءوس الناس، وعندئذ يكون الصواب هو المعيار الذي تمليه تلك الفكرة «السامية»، ويكون الخطأ هو الجرأة على مناقشتها فضلا عن الجرأة على تجريحها والتمرد عليها.
الأصل في الفكر - إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم - هو أن يكون حوارا بين «لا» و«نعم» وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكرا، ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكرا، ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد. الله وحده هو الذي وسع كرسيه السموات والأرض، فاتسع علمه للحق كله، يعلمه علم اليقين، علما ليس فيه «إما ... وإما ...» أما علمنا نحن البشر، فأقصاه معرفة تحتمل البدائل، نرجح فيها بديلا على بديل، فما من فكرة إلا وتحتمل أن يكون نقيضها هو الصواب، وكل ما يسعنا - ونحن نفكر في مشكلة معروضة - هو أن نتقصى جميع الممكنات، ليقوم بينها حوار، يثبت أحدها ويقصي سائرها. وغالبا ما تتمثل هذه الممكنات الكثيرة في أفراد كثيرين، كل منهم يعرض حلا ممكنا على أنه هو الرأي الذي يراه، ومن الأخذ والرد خلال عملية الحوار، نقبل من الآراء المعروضة ما نقبله، ونرفض ما نرفضه؟ على أن القبول هنا يكون قبولا لما «نظن» أنه الصواب، ويكون الرفض رفضا لما «نظن» أنه الخطأ، وهذا الظن الذي هو سمة لا مندوحة عنه في فكر البشر، هو الذي يجعل الصواب المقبول صوابا يحتمل الخطأ، كما يجعل الخطأ المرفوض خطأ يحتمل الصواب. وبمثل هذه النظرة إلى «نعم» و«لا» يصبح نسبيا ما حسبناه بادئ الأمر مطلقا، ويصبح مبصرا ما كان بادئ الأمر مكفوف البصر، في مواقف القابلين والرافضين.
لم تكن مصادفة أن أخذ سقراط يطوف في الأسواق محاورا، كلا ولا هي مصادفة أن ساق لنا أفلاطون فكرة في حوار، ولكنه كان في الحالتين أمرا مدبرا منهما مقصودا؛ ليكون أمام الناس من بعد، بمثابة الإعلان عن حرية الفكر كيف تكون، بل ليكون بمثابة الإعلان يعلنه الفكر ذاته في أول مرحلة له عن طريق التاريخ (فما قد كان قبل تلك المرحلة إنما كان اعتقادات تؤمن بها القلوب، أو تطبيقات شهدت بنجاحها الممارسة والفعل). أقول إن أسلوب الحوار عند سقراط وأفلاطون، قد كان بمثابة الإعلان يعلنه الفكر ذاته في أول مرحلة له على طريق التاريخ، بأنه يريد لنفسه أن يكون سؤالا وجوابا، أخذا وعطاء، يريد لنفسه أن يكون حصيلة مداولة ومجادلة ومقاولة، تنصب على العقدة المعروضة للحل، إلى أن تنحل العقدة خيوطا خيوطا، وحتى تنفصل لحمة المشكلة عن سداها، وتتعرى هياكل الأفكار والمذاهب، عندئذ نبصر في جلاء أين في تلك الأنسجة مصادر الخطأ وأين فيها موارد الصواب، أين في بنيانها حكم العقل وأين نزوة الهوى؟ حتى إذا ما غربلنا الخليط، وأبعدنا الغلال عن الحصى، كان لنا عندئذ أن نضم الصواب إلى الصواب فتكتمل في أذهاننا صورة الحق الذي نسير به على صراط الهدى.
تلك هي طبيعة الفكر الحر؛ أن يكون حوارا متعادل الأطراف، لا يأمر فيه أحد أحدا، ولا يطيع فيه أحد أحدا، إلا بالحق، ليس فيه رجحان للموتى على الأحياء، ولا تفضيل لطائفة من الأحياء على طائفة. أما إذا انقلب الوضع وانعكس، فأصبح ما نسميه «فكرا» هو أن يأمر آمر ليصدع بأمره مطيع، واختصر الطريق الذي كان بين المتحاورين جيئة وذهابا، فبات طريقا في اتجاه واحد؛ أعني أن يكون جيئة ولا ذهاب، أن يكون هبوطا ولا صعود، أن يكون قولا من هناك وسمعا وطاعة من هنا، فعندئذ قل على حرية الفكر السلام. ومن يتوهم في نفسه الحرية يومئذ، يكن كالحجر الذي تحدث عنه سبينوزا في الكون الذي صوره محتوم السير؛ فنظام الكون المجبر يقتضي أن يلقى الحجر، وأن يتخذ المسار الفلاني، وأن يسقط عند النقطة الفلانية من الأرض، في اللحظة الفلانية من لحظات الزمن، لكن الحجر - في سيره المجبر المرسوم - إذا فرضنا أنه ذو وعي يعي ولسان ينطق، لسمعناه يقول إنه قد قرر لنفسه أن يسير حيث يسير، وأن يقع على الأرض حيث يقع. •••
أس البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة، فإذا جلا لك صاحب السيف صارمه، وتلا عليك باطله، زاعما أنه هو وحده الصواب المحض والصدق الصراح، فماذا أنت صانع إلا أن تقول له «نعم» وأنت صاغر؟ ... هذه صورة رسمها أبو العلاء بقوله:
جلوا صارما، وتلوا باطلا
وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم
وهكذا كانت الحال في جزء من تراثنا، هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت، فلقد يكون للأمير أو للوزير رأي، فيكون الويل عندئذ لمن خالف ... يجلس الأمير أو الوزير، ورأيه في رأسه، والسياف إلى جواره، ثم يمثل المخالف بين يديه، وفي مثوله هذا يكون الختام؛ وهل تظن أن صاحب السلطان عندئذ يقصر حكمه على المعلن المنطوق من فكر خصمه؟ لا، والله، فإنه ليكفيه أحيانا أن تكون الفكرة قد دارت في سريرة الخصم دون أن يعلنها أو ينطق بها. فانظر - مثلا - إلى موقف الخليفة المهدي من بشار:
دعا المهدي بشارا إلى حضرته، وأحضر معه النطع والسياف.
قال بشار للخليفة: علام تقتلني؟
অজানা পৃষ্ঠা