ومن العجب ينتقل المؤلف إلى الفصل السابع من كتابه في الحسد، ويحلل الحسد إلى عنصرين يجتمعان هما: البخل والشره، فالحسد أعم وأوسع من البخل على حدة، ومن الشره على حدة، إذ البخيل لا يحب أن ينال أحد مما يملكه شيئا، لكن الحسود يضيف إلى ذلك جانبا آخر، هو ألا ينال أحد خيرا، حتى ولو لم يكن ذلك مما يملكه هو.
ومحال على «عاقل» أن يكون «حسودا»؛ لأن الحسد والعقل ضدان؛ ذلك لأن الحسود لا يحسد البعيدين عنه، فهو لا يحسد من بالهند والصين - على حد تعبير الرازي - وإنما ينصب حسده على الأقربين منه، فإذا احتكمنا هنا إلى العقل، قلنا إنه إذا كان حمقا أو جنونا أن يحزن الحاسد لخير ناله البعيدون عنه، فإن حمقا مثله أن ينال الخير من هو بحضرته وقريب منه، إذ الأقربون هنا - كالأبعدين - في أنهم لم يسلبوه شيئا مما في يديه، ولا منعوه بلوغ شيء كان يقدر عليه.
واقرأ هذه العبارة النافذة من كلام الرازي في الحسد: «إنا نرى الرجل الغريب يملك أهل بلد ما، ولا يكادون يجدون في أنفسهم كراهة لذلك، ثم يملكهم رجل من بلدهم، فلا يكاد أن يتخلص ولا واحد منهم من كراهته لذلك ، هذا على أنه ربما كان هذا الرجل المالك - أعني البلدي - أرأف بهم وأنظر إليهم من المالك الغريب. وإنما يؤتى الناس في هذا الباب من فرط محبتهم لأنفسهم، وذلك أن كل واحد منهم - من أجل حبه لنفسه - يحب أن يكون سابقا إلى المراتب المرغوب فيها، غير مسبوق إليها، فإذا هم رأوا من كان بالأمس معهم اليوم سابقا لهم مقدما عليهم، اغتموا لذلك، وصعب، واشتد عليهم سبقه إياهم إليها، ولم يرضهم منه تعطفه عليهم، ولا إحسانه إليهم؛ لأن أنفسهم متعلقة بالغاية مما صار إليه هذا السابق، لا غير، لا يرضيهم سواه، ولا يستريحون دونه، وأما المالك الغريب، فمن أجل أنهم لم يشاهدوا حالته الأولى، لا يتصورون كمال سبقه لهم، وفضله عليهم، فيكون ذلك أقل لغمهم وأسفهم، وقد ينبغي أن يرجع في مثل هذا إلى العقل.»
ومما يمحو الحسد عن النفس - هكذا يمضي الرازي في قوله - أن يتأمل العاقل أحوال الناس، فإنه سيجد أن حالة المحسود عند نفسه خلافها عند الحاسد، فلا يزال الإنسان يستعظم الحالة، ويتمنى بلوغها، حتى إذا بلغها لم يسر بها إلا مديدة يسيرة، بقدر ما يستقر فيها ويتمكن منها ويعرف بها، ثم تسمو نفسه إلى ما هو فوقها ... إنه عندئذ يصير بين هم وخوف، خوف من النزول عن الدرجة التي بلغها، وهم لما يتمنى بلوغه.
وينتقل المؤلف إلى حالة الغضب ووجوب دفعه؛ لأن الغضب إذا اشتد وأفقد الغاضب عقله، «فربما كانت نكايته في الغاضب وإبلاغه إليه المضرة أشد وأكثر منها في المغضوب عليه»، والحق أنه «ليس بين من فقد الفكر والروية في حال غضبه وبين المجنون كبير فرق.»
ثم يتناول الكاتب حالة الكذب وكيف يقضي العقل عند العاقل بوجوب اطراحه؛ لأن الكذب يدعو إليه الهوى؛ إذ كثيرا ما يكون الدافع إلى الكذب هو رغبة «الإنسان في التكبر والترؤس» - هذه عبارة الرازي - فيقول القول الكاذب إذا رآه مما يهيئ له الرفعة على سامعه، «وقد قلنا إنه ينبغي للعاقل أن لا يطلق هواه فيما يخاف أن يجلب عليه من بعد هما وألما وندامة، ونجد الكذب يجلب على صاحبه ذلك.»
إنني لألفت نظر القارئ إلى طريقة الرازي في التفرقة بين ما يجوز فعله وما لا يجوز؛ إذ هو يجعل المدار كله على «المنفعة» في المدى البعيد لا على تطبيق المبادئ أيا كانت نتائجها في حياة الإنسان، ولما كان الفعل الواحد كثيرا ما يختلط نفعه بضرره، كان دور العقل هنا هو أن يوازن بين النفع والضرر، وأيهما يكون له الرجحان يحدد للإنسان طريق سلوكه إقبالا على الفعل المعين أو إدبارا عنه. وبعد هذه الملاحظة منا، اقرأ هذه الموازنة الطريفة في حالة الكذب: «ليس يصيب الكذاب من الالتذاذ والاستمتاع بكذبه - ولو كذب عمره كله - ما يقارب - فضلا عما يوازي - ما يدفع إليه - ولو مرة واحدة في عمره كله - من هم الخجل والاستحياء عند افتضاحه، واحتقار الناس» ...
ويجيء بعدئذ حديث المؤلف عن البخل، وها هنا نجد تفرقة غاية في اللطافة والدقة، وذلك أن البخل ليس دائما من فعل الهوى، بل منه ما قد يكون نتيجة روية عقلية وبعد نظر إلى المستقبل البعيد. ولما كان «العقل» هو مدار أحكامنا، كان البخل الذي نحاربه هو ذلك الجانب منه المبني عند البخيل على مجرد خوف من الفقر خوفا لا يقوم على أساس معقول؛ لأن ذلك من قبيل الهوى، وأما ما ينبني على تدبر العقل فهو مقبول.
ويمضي الرازي في تطبيق معيار العقل على ضروب النقص التي تفقد الإنسان صحته النفسية، فيتحدث عن حالة «الغم» ووجوب دفعها، وما الوسيلة لهذا الدفع إلا أن يحد الإنسان من رغباته وشهواته ومواضع حبه؛ إذ الغم هو في صميمه خوف عند المغموم من أن يفقد ما يملك، فلو درب نفسه على الاستقلال عن الأشياء بحيث إذا ضاع منها ما ضاع لم يحس مرارة ضياعه، كان بذلك قد أبرأ نفسه من علة الغموم.
وعلى هذا الأساس نفسه يحدثنا المؤلف عن حالات «الشره» و«السكر» و«شهوة الجنس» وما إليها من رغبات الجسد، التي لا تبلغ أبدا حد الإشباع، وإذن فالعلاج هو الوقوف منها جميعا موقف القصد والتوسط، فلا نئدها ولا نندفع وراءها إلى آخر المدى.
অজানা পৃষ্ঠা