على أن الاعتراض الأقوى لما نزعمه من أن الروح العربي الأصيل روح عاقل، قد يجيء من قبل الشعر، أكثر مما يجيء من جهة التصوف؛ إذ لا مراء في أن سمة من أهم سمات الثقافة العربية القديمة، سيادة الشعر وأهمية مكانته، وماذا يكون الشعر إن لم يكن صادرا عن «وجدان»؟ فحتى الجاحظ الذي يمكن القول عنه إنه نقل الثقافة العربية من شعر إلى نثر، تعبيرا عن انتقالها من بداوة إلى حضارة، حتى الجاحظ بكل نثره وكل عقله وكل منطقه، لم يغمض عينه عن الحقيقة البارزة في ثقافة العرب، وهي أنها ثقافة شعر، فيقول في ذلك وهو في معرض الموازنة بين الأمم في خصائصها المميزة: «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب» (الحيوان، ج1، ص75)، وكذلك يقول في موازنة أخرى بين مميزات الأمم، إن العرب «وجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة، وتصاريف الكلام» (رسالة «في مناقب الترك»).
وهذا هو أبو العلاء، يكتب - في رسالة الغفران - عن الجنة والجحيم، فإذا هو لا يكاد يطلعنا منهما إلا على زمرة من الشعراء، يلتقي بعضهم ببعض ليتبادلوا نقد الشعر وروايته. إنك لا تصادف في جنة أبي العلاء أحدا من رجال السياسة والحكم، بل توشك ألا تصادف فيها أحدا من عباد الله إلا الشعراء، وحتى من غفر له من الشعراء، فقد غفر له بسبب بيت أو أبيات من شعره، ومن لم يغفر له منهم، وزج به في الجحيم، فإنما كان - كذلك - لزندقة وردت فيما نظم من شعر. وحين جيء بآدم عليه السلام في سياق الوصف، فإنما جيء به ليحكم في بعض قضايا اللغة والشعر، بل حين يجعل أبو العلاء ركنا للجنيات والعفاريت، فهو يجعل هؤلاء من الشعراء، أو ممن خلده الشعر. وفي جنته قيان ومغنون، لكنهم هناك لإحياء مأدبة دعي إليها الشعراء، فجنة أبي العلاء - كما يقول نكلسون - «صالون» فخم أعد لطائفة عربيدة من الشعراء، لكنها على عربدتها ظفرت بالخلود بسبب شعر قالوه فأجادوا. الشعر هو كل شيء أو يكاد، في جنة أبي العلاء. وكذلك قل في الجحيم، فليس فيها من غير الشعراء الزنادقة إلا إبليس - وإلا نفرا من جبابرة الملوك - وحتى إبليس هناك قد لبس شخصية الأديب حين ينفث الشر في أدبه. وشعراء الجحيم: ومنها امرؤ القيس، وعنترة، وعلقمة، وبشار، لم تشغلهم جهنم عن مناقشة بعضهم بعضا عن أشعارهم وأشعار سواهم، وكل منهم يدفع عن شعره عبث الناقلين وأخطاء الرواة.
للشعر - إذن - مكانة عليا في الثقافة العربية فكيف نوفق بين صفة الشعر الغالبة، وبين زعمنا بأن العرب قد تميزوا بنظرة عقلية؟
وأنا أسأل هذا السؤال لأسد الطريق على من يسأله، كأنما بين الأمرين تناقض يحول دون أن يجتمعا معا، فكم وقع لنا - في خبراتنا الشخصية المحدودة - من أمثلة لرجال جمعوا بين العقل العلمي إذا ما كان المجال مجال عقل وعلم، ووجدان الأديب كلما استثارت وجدانهم أحداث الحياة! وإذا صدق هذا على أفراد من الناس، فماذا تكون الأمم إلا مجموعات من أفراد؟ وهو على كل حال أصدق في الأمة العربية منه في أي أمة أخرى مما نعرف، فنحن هنا إذ نثبت للثقافة العربية حظها من العقل، لا يطوف لنا ببال أن ننفي عنها الوجدان الشاعر.
نقول: إن هذا الجمع بين العقل والوجدان لا يتمثل في تراث ثقافي بمثل الوضوح الذي يتمثل به في الثقافة العربية وتراثها، فلئن غلبت ثقافة الوجدان على تراث الشرق الأقصى من هند وصين، وغلبت ثقافة العقل - فلسفة وعلما - على تراث أوروبا من يونانها فنازلا إلى يومنا، فقد كان في شرقنا العربي هذا الجمع المتزن بين عقل ووجدان. ولست أقول ذلك عن زهو ودفاع، وإنما أقوله من وقفة المؤرخ للثقافة، المحلل لخصائصها، ينظر فيما قد حدث بالفعل، وما قد نتج بالفعل، ثم يصدر الأحكام.
لقد تمثلت الثقافة العربية فلسفة أرسطو بكل ما فيها من علم وعقل، بنفس القوة التي تمثلت بها صوفية أفلوطين بكل ما فيها من ركون إلى الحدس بالوجدان. إن الأمر هنا لم يكن أمر جوار، بحيث نجد الفلسفة الأرسطية في غرفة وفلسفة أفلوطين في غرفة مجاورة لها، بل الأمر أمر دمج ومزج في نظرة واحدة.
وإن هذه المزاوجة الثقافية بين العقل والوجدان، لتلائم المزاج العربي واللغة العربية ملاءمة كاملة، فبحكم ذلك المزاج يفصل العربي بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا، يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكل عالم من العالمين أهلا غير أهل العالم الآخر بل عنده أن أهل هذا هم أنفسهم أهل ذلك، غير أن الواحد تمهيد للثاني، كما تكون المقدمة للكتاب؛ فإذا أساغ غير العربي أن يكون لقيصر عالم ولله عالم، وأن تكون مملكة الأرض غير مملكة السماء، فالعربي يفضل أن يجعل العالمين كليهما لله ولقيصر، ليكون الله حاكما في كليهما، وقيصر محكوما في كليهما. وجاءت اللغة العربية فشاركت في هذه المزاوجة مشاركة عجيبة، فهي حين تزخرف نفسها وتصقل بدنها، يخيل إليك أنها ليست لغة لأهل هذه الأرض، إنما هي إلى ملكوت السماء أقرب وأدنى فإذا شاءت أن تمشي مع الناس في أسواق التجارة ودواوين الحكم والسياسة، استقامت وكأنها قد باتت لغة أخرى. ولا عجب بعد ذلك أن نحس شيئا من الحيرة حيالها: ألها من القداسة نصيب، أم أنها اتفاق صرف تواضع عليه أصحابها؟ •••
على أنني - بعد هذا كله - كلما قرأت شعرا عربيا، أحسست بما لست أحس نظيره إذا ما قرأت شعرا إنجليزيا؛ إذ يخيل إلي عند قراءة الشعر العربي، أن الشاعر يعمل عقله في التركيب والصياغة، وأن «الصنعة» جزء لا ينفك قائما في بناء الشعر العربي، مهما أوتي الشاعر من تلقائية الطبع. نعم، يخيل إلي هذا دائما، وقد لا يعدو الأمر أن يكون خيالا عندي، لكني أجد له في كثير من الأحيان ما يبرره، فأولا: أجد في الشعر العربي من اللقطات الحسية - أعني مما يقع عليه البصر أو السمع فعلا في دنيا الأشياء - أكثر مما ألحظه في شعر سواه، واللقطة الحسية من الواقع المشهود، هي أول خطوة في طريق العقل. وثانيا: يحتوي الشعر العربي على قدر من «الحكمة» أكثر مما أجد في سواه، والحكمة حقيقة موضوعية يعمم بها الشاعر حكمه على الناس والعالم، لا تختلف في أحيان كثيرة عن تعميمات علم النفس وعلم الاجتماع. وثالثا: لم يكن نادرا بين شعراء العرب أن يقصدوا بشعرهم أهدافا غير الشعر نفسه، أعني أن الشعر قلما كان عندهم من أجل الفن الشعري، بل كان في حالات كثيرة وسيلة لغايات، تتبدل تلك الغايات بين يوم ويوم فتتبدل معه الوسيلة. وهذا من قبيل النشاط العقلي، أكثر مما يكون من دنيا الوجدان، ولو صدق ظني هذا، كان العربي القديم - حتى وهو شاعر - رجلا يملك العقل زمامه. •••
قد كان لا يطعن في عقلانية النظر عند العرب، ألا ينظروا إلى لغتهم النظرة التي تحاول أن تعلل قواعدها على أسس منطقية؛ لأن اللغة مسموعة منقولة بمفرداتها وقواعد تركيبها، فلا ضير على قوم أن يقولوا عن لغتهم، هكذا سمعناها ونقلناها، فقد نرفع الفاعل وننصب المفعول لغير علة مفهومة إلا أن نجري في ذلك مجرى الأسلاف، دون أن يكون الأخذ بالتقليد في هذا الجانب مأخذا ينتقص من صفة العقلانية فينا، فما بالك - إذن - أن تجد العرب قد حاولوا - حتى في جانب اللغة وقواعدها - أن يلتمسوا العلل المفسرة؟ إنه إيغال منهم في طلب العلة المعقولة حيثما صادفتهم ظاهرة، اجتماعية كانت أو طبيعية.
وحسبنا أن نطالع في ذلك كتابا واحدا، هو كتاب «الخصائص» لابن جني، لنرى - ونعجب - كيف راح يبحث لكل وضع من أوضاع اللغة عن علة تفسره، فهو يسأل - ابتداء - عن اللغة العربية أكلامية هي أم فقهية؟ (راجع الخصائص، ج1، 488 وما بعدها).
অজানা পৃষ্ঠা