فإذا كان العربي متخلفا عن عصره، فذلك لأنه لا علما بالطبيعة اكتسب ولا فنا معبرا عن ذاته أنشأ. فالعلم - حتى إذا ألممنا بأطراف منه - هو من اكتساب غيرنا ثم حفظناه حفظ التلميذ لدرسه. والفن - إذا زعمناه - هو سلعة منقولة عن سوانا (ولا فرق بين نقل عن أسلافنا ونقل عن معاصرينا) فإذا كان في المنقول فن فالفن لغيرنا، عبر به عن ذاته هو، وأما نحن فذواتنا ما زالت مطمورة تنتظر الفنان الأصيل.
فإذا اتخذنا من هذه النقطة منطلقا؛ حقيقة علمية عن الواقع نتشابه جميعا في الخضوع لها، وعبارة فنية تصور الذات، نتشابه جميعا في الحرية عند صوغها، أسلمتنا هذه النقطة إلى نتيجة لازمة، وهي أننا سواسية أمام العلم وأمام الفن معا، لا يفاوت بيننا أن فلانا أعلى منصبا أو أقوى جاها أو أكثر ثراء من فلان، بل يفاوت بيننا أن فلانا أصاب الحق في العلم، والصدق في الفن. بالعلم المشترك نعرف العالم ونغيره، وبالفن الذاتي نعرف الإنسان ونقومه. بالعلم المشترك تنشأ الحضارة بنظمها وذواتها ومصانعها وتجارتها وزراعتها، وبالتعبير الفني عن الذات تنشأ الثقافة بقيمها التي تفرق بين الحسن والقبيح ، والمقبول والمرذول. العلم ملك مشاع للإنسانية جمعاء، والفن يحمل ملامح منشئه، وبهما معا يتحقق الإنسان متحضرا ومثقفا.
ففي اليوم الذي تخرج لنا فيه البيوت والمعاهد مواطنين، توافر لهم التزام بالحقائق العلمية الموضوعية، التزاما يديرون عليه خطط البناء الحضاري الجديد، وتحرر من كل التزام في التعبير عن ذوات أنفسهم، تحررا يسقط ذواتهم على عالم الأشياء، ليفاضلوا في حياتهم بين شيء وشيء، في ذلك اليوم الذي تخرج لنا فيه البيوت والمعاهد مواطنين يدركون أين يكون الفاصل بين القيد والحرية، بين الصحو والحلم، بين الواقع والخيال، بين الموضوع والذات، بين «هو» و«أنت» و«أنا». في مثل ذلك اليوم يمكن أن يقال إنه قد تم للمواطن العربي ميلاد جديد.
الفصل التاسع
قيم باقية من تراثنا
(أ) قيمة العقل في تراثنا
أما أن الأمة «العربية» لا تكون «عربية» إلا إذا لحقت بثقافتها صفات تبرر هذه التسمية المميزة، ثم لا تكون هذه الصفات مبررة للتسمية تبريرا كافيا، إلا إذا كانت هناك حلقة رابطة بين العربي اليوم والعربي بالأمس، فذلك قول يحمل صدقه في لفظه، لا يحتاج منه إلى براعة في التدليل ولا مهارة في البرهان، وإلا فمن ذا الذي يطالبنا بالدليل وإقامة البرهان على أن ما هو «عربي» لا بد أن يكون «عربيا». •••
لكن الذي يتطلب منا العناية حقا، ويقتضي شيئا من العناء والحذر، حتى لا تزل القدم، هو الجواب عن سؤالنا: «كيف»؟ كيف تقوم الحلقة الرابطة بين أمسنا ويومنا؟ كيف تكون الصلة بين الأسلاف وبيننا - في مجال الفكر والثقافة - بحيث تجيء هذه الصلة طبيعية فيها نبض الحياة، لا متكلفة ولا مصطنعة، فنصون تراث الأسلاف من جهة، ولا نطغى على شخصية الأحفاد من جهة أخرى؟
قد يكون الجواب عن هذه الأسئلة قريبا ميسورا عند بعضنا، وهم أولئك الذين يحسبون أن إعادة طبع الكتب القديمة - مهما بلغ الجهد في تحقيقها - فيها الكفاية. أليس «الجاحظ» قاعدا هنا على رف - هكذا أتخيلهم يقولون - و«التوحيدي» مستريحا هناك على رف؟ ألست ترى «الخليل وسيبويه» يعمران ذلك الركن، و«الأمالي » و«العقد الفريد» و«نهاية الأرب» تعمر هذا الركن من أركان المكتبة؟
أما كاتب هذه السطور فلا يرى الجواب على سؤالنا: «كيف»؟ بهذا القرب كله وهذا اليسر كله، فإذا ما استوت كتب الأسلاف محققة على رفوف المكتبات، فعندئذ «يبدأ» العمل ولا ينتهي، عندئذ نطالع هذا التراث، ونلم به، لنسأل أنفسنا بعد ذلك: كيف يتاح للعربي المعاصر أن يتابع أسلافه ليسير معهم على خط فكري واحد، فيصبح عربيا بقدر ما كانوا هم عربا، ويحق له القول في صدق إنه هو الحفيد وإنهم هم الأسلاف؟ •••
অজানা পৃষ্ঠা