صلى الله عليه وسلم
وأنت محتاج إلى هجرة؛ لأنك ما زلت حتى الآن عارض أزياء الآخرين. ليست الأزياء أزياءك، لا أنت تملكها ولا أنت صنعتها. إنك تتحول شخصا بعد شخص، بانتقالك من رف إلى رف في مكتبتك. فإذا تصادف أن وجدت كتابا فيه «س» من الناس أصبحت «س»، وأنت إذا وجدت كتابا آخر فيه «ص» أصبحت «ص»، وكأنك دودة تتلون بلون أرضها؛ تصفر عند سيرها على رمال الصحراء، وتخضر عند سيرها على الزرع. منذ هذه اللحظة لا بد أن تكون أنت هو أنت. عليك أن تهاجر هجرة تشبه هجرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - من مكة إلى المدينة، وقد كان ... وجدت البداية التي اتضحت على مر السنين، والبداية كانت في هذا السؤال: ماذا تريد لنفسك أن تكون؟ والذي أردته لنفسي هو أن أسير على خطين في وقت واحد: خط عقلي وخط وجداني؛ لأنني أراني لا أستطيع أن أستغني عن أحدهما؛ فهنالك مسائل عقلية لا ينبغي أن يشوبها وجدان، وهنالك مسائل وجدانية لا ينبغي أن يشوبها عقل. والإنسان مؤلف من هذين الجانبين، ولكل منهما أداة إدراكية تختلف عن الأداة الإدراكية الأخرى. الوجدان أداة حدسية مباشرة، لا تقدم مقدمات تستدل منها النتائج، وإنما ترى رؤية مباشرة كما يرى الإنسان قيمة لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو قصيدة من الشعر، وكما يحب من يحبه أيضا بغير تحليل أو تعليل أو استنباط واستنتاج.
وأما الأداة الثانية فأدرك بها الحقيقة العلمية، سواء في مجال الرياضة أو مجال الطبيعة، وأطبق بها منهج التحليل المنطقي، مع الحرص على عدم الخلط بين هذا وذاك؛ لأن الإنسان من هذا وذاك معا. هذا هو الخط الفكري الذي التزمته وما زلت ألتزمه حتى اللحظة التي أتحدث فيها. و«قصة عقل» ترسم سيري في هذين الخطين، وكيف ازداد وضوحا وعمقا خلال قراءاتي ودراساتي وتدريسي أيضا. وقد حاولت فيها أن أبرز في الفصول المختلفة الحقائق الفرعية التي تندرج تحت كل خط على حدة.
لاحظت أمارات التعب والإرهاق على وجهه الذي يفيض بالرضا والسماحة، وإن بدا في بعض الأحيان كأن التجهم أو الذكريات أو خيبة الأمل أو السخرية قد حفرت فيه أخاديد متعرجة وغائرة. واسترحنا قليلا مع كوب جديد من الشاي الدافئ، مع قطع مستطيلة من الكعك المكسو والمحشو بالشيكولاتة. وتحرك في نفسي مع جرعات الشاي - الذي ارتبط دائما عندي بميل مفاجئ إلى التأملات المجردة! - سؤال عن مشكلة الميتافيزيقا، التي توهم كثير من الدارسين من عابري السبيل أيضا في طرق الثقافة، أنه هو عدوها «الكلاسيكي» في عالمنا العربي، وكيل له من الاتهامات والإدانات ما هو أفظع وأوجع بكثير مما أصاب «كانط» في زمانه، عندما شنع عليه البعض - ومنهم للأسف شاعر كبير وبصير مثل هيني - بأنه هو هادم معبد الميتافيزيقا وقاتلها السفاح؛ ومن ثم فهو عدو الدين أيضا؛ لأنه هو أبوها وهي ابنته العاقلة! وكانت قد صدرت في الفترة لأخيرة - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - طبعة جديدة من «خرافة الميتافيزيقا»، مع مقدمة جديدة وبعنوان جديد غير مثير، هو «موقف من الميتافيزيقا». وهمست لنفسي: أتراني أنكأ جرحا قديما لو وجهت إليه هذا السؤال؟ وإذا كنت أعلم - مع كل منصف - أنه فرق منذ البداية - على نحو قريب مما فعله كانط، الذي أهاب به بعض أصحابه من الوضعيين المناطقة - بين ميتافيزيقا مقبولة مهمتها النقد وتحليل العقل والمعرفة، وأخرى مرفوضة تقرر أقوالا عن العالم والوجود والجوهر والروح والحرية والخلود ... إلخ، مما يستحيل التحقق من صدقه أو كذبه في مجال الواقع، أو بأي سند من التجربة، ويخرج به عن دائرة القول العلمي. وإذا كنت أعرف كذلك أن موقفه هذا - كما أكد معظم نقاد الوضعية القديمة والحديثة - موقف ميتافيزيقي بالضرورة - مهما يكن من سلبيته أو عناده وانغلاقه! - وأنه لم يكف أبدا عن الاهتمام بالميتافيزيقا، منذ أن كتب في منتصف الأربعينيات رسالته - التي سبقت الإشارة إليها في التمهيد - عن مشكلة ميتافيزيقية عريقة، هي مشكلة حرية الإرادة بين الجبر والاختيار، تحت عنوان «الجبر الذاتي»، وحتى تحليلاته الأخيرة في أواسط الثمانينيات للمعاني المختلفة للحرية (التي ظهرت بعد ذلك في كتابه عن الحرية أتحدث). إذا كانت هذه الأصداء كلها قد ترددت في نفسي، فقد ترددت كذلك ترددا شديدا عن طرح السؤال، وخطر لي أن أعرف رأيه في مسألة أخرى يطرحها الناس في غير قليل من الحسرة، وغير قليل من اللهفة الساذجة إلى «العالمية» المفتقدة . ومع شعوري بفجاجة الكلمات على لساني، فقد حاولت أن أسوغه من وجهة نظر الرجل العادي، الذي صورت لنفسي أنني أنطق بلسانه، وأعبر عن رأيه: هل لدينا اليوم فلسفة عربية؟! وإذا كانت الإجابة بالنفي لافتقاد النسق الكلي المحكم، فما هي العقبات التي تحول دون قيامها؟ وإذا كانت لدينا - مع افتراض حسن الظن! - مشروعات واجتهادات مختلفة باختلاف الأوصاف التي تطلق عليها، والرؤى أو «الأيديولوجيات» التي تعبر عنها - من إسلامية ووجودية وشخصانية وجوانية وبراجماتية وعلمية وعقلانية ... إلخ - فما هو رأي الفيلسوف العلمي والوضعي فيها؟ ثم ماذا يقول هو نفسه عن «مشروعه»، وهو الذي يجاهد منذ سنوات طويلة لتأكيد صيغة ثقافية وفلسفية، توحد بين أصالة تراثنا ومقومات هويتنا، وبين ثقافة العصر وحضارته العلمية في عبارة «الأصالة والمعاصرة»، التي ابتذلها التكرار والثرثرة الإعلامية، وبرع الكثيرون في التهجم عليها دون أن يفكروا في تقديم بديل مقنع لها، أو يدخلوا في تجربة إبداع أصيل من أي نوع؟ وظلت الأسئلة تطن في رأسي حتى انطلقت في هذا السؤال المكرر الذي يردده كل من هب ودب: هل لدينا أو يمكن أن تكون لدينا فلسفة عربية؟
قال وهو يثبت في نظراته الأبوية، وعلى فمه ظل ابتسامة: لكي تكون الإجابة عن هذا السؤال واضحة للقارئ، يجدر بنا أولا أن نلقي الضوء على حقيقة الفلسفة؛ ما هي؟ قبل أن ندلي برأي في وجودها اليوم أو عدم وجودها لدينا. لكل عصر مناخه الثقافي الخاص الذي يدور حول محور الاهتمامات العقلية أو الوجدانية التي تسود ذلك العصر، ويمكن القول بأن اهتمامات العصر المعين الرئيسية إنما تتبلور عادة في فكرة واحدة كبيرة، أو في عدد قليل من الأفكار الأساسية. فمثلا كان اليونان الأقدمون يديرون اهتماماتهم العقلية حول الفكر الأخلاقي؛ بمعنى تحديد صورة السلوك التي تتألف منها الحياة الفاضلة. بعبارة أخرى كانت فكرة «الخير» - الذي هو غاية الغايات في حياة الإنسان من وجهة نظرهم - هي الأساس العميق والمضمر في كثير جدا من النشاط الفكري، الذي يطلق عليه اسم الفلسفة اليونانية، ثم انتقل التاريخ إلى العصر المسيحي والعصر الإسلامي من بعده، فتغيرت الاهتمامات الرئيسية التي تشغل الناس، وتنبع منها عوامل تكون المناخ العام للفكر والثقافة. كانت تلك الاهتمامات بالطبع هي أسس العقيدة الدينية في كلتا الحالتين؛ في المرحلة المسيحية والمرحلة الإسلامية على السواء. ولما كانت العقيدة الدينية تنزل من المؤمنين بها في أول الأمر منزلة الإيمان الصرف الذي لا يحتاج إلى تحليل عقلي للعناصر المكونة له، فقد كان من الطبيعي أن تمر فترة بعد كل ديانة منزلة يكون فيها إيمان بغير فلسفة، ولكن سرعان ما يقف الناس عند المفاهيم الرئيسية في ذلك الإيمان؛ ليوضحوها لأنفسهم توضيحا يقتضي تحليلها إلى عناصرها، وإرجاعها إلى مبادئها الأولى. ومن أمثال هذه التحليلات تكونت الفلسفة المسيحية، وتكونت الفلسفة الإسلامية.
لنلاحظ هنا أن الفلسفة الإسلامية مثلا كان هدف الفلاسفة بعد اطلاعهم على الفلسفة اليونانية، هو أن يبحثوا ليعرفوا إن كان هنالك فرق بينها وبين ما نزل في الكتاب الكريم، ثم وجدوا أن الحقيقة في المصدرين واحدة، وإن جاءت بلغتين مختلفتين، وأصبحت الفلسفة في هذه الحالة هي أن تكتب الفلسفة اليونانية بلغة إسلامية.
هذه أمثلة توضح للقارئ أن الفكر الفلسفي يأتي أساسا ليحلل مناخا ثقافيا قائما بالفعل؛ ابتغاء الوصول إلى الجذور والأصول المضمرة، التي هي منبع ذلك المناخ الثقافي الذي يعيشه الناس. ولو انتقلنا بعد هذا التوضيح إلى عصرنا الحالي في الوطن العربي، لوجدنا أن المناخ الثقافي الذي يعيشه عدد كبير من المثقفين هو في صميمه شيء منقول، وهو منقول إما عن التراث الماضي، وإما عن ثقافة الغرب كما هي قائمة، وفي كلتا الحالتين ليست هنالك إضافة كبيرة أضافها العربي المعاصر لعصره، وتأتي الفلسفة لتحلل هذا المناخ الثقافي كما هو شأنها دائما، فإذا بها إما أن تكون صورة من الفلسفة الإسلامية القديمة - وذلك إذا كان النظر منصبا على الجانب التراثي بيننا - وإما أن تكون فلسفة مأخوذة من فلاسفة الغرب، إذا كان النظر منصبا على الجانب الغربي من مناخنا الفكري. وبعبارة مختصرة نقول إنه حتى إذا سلمنا بوجود العقل الفلسفي، من حيث منهج التفكير النقدي والتحليلي عند بعض أبناء الأمة العربية اليوم، فلن يجد ذلك العقل موضعا لمنهجه يخرج منه شيء جديد لا هو مأخوذ من التراث فقط، ولا هو مأخوذ من الغرب فقط، لكن إذا نحن قلنا إنه على ضوء ما أسلفنا لا تقوم بيننا فلسفة عربية مبتكرة الآن، فلا بد أن نتحوط في هذا التعميم؛ حتى لا يغيب عن أنظارنا كثير جدا مما ينتجه أصحاب العقل الفلسفي من جزئيات يبدعون فيها فكرا عربيا جديدا؛ إذ يتناولون جوانب من هنا ومن هناك في حياتنا الفكرية، ولكن أحدا من هؤلاء لم يستطع حتى اليوم أن يقيم «منظومة متسقة» من الفكر الفلسفي يمكننا على ضوئها أن نقول: هذه هي الحياة العقلية للأمة العربية، أو جانب منها على الأقل، معبرا عنه بلغة الفلسفة. كما نقول بذلك مثلا عن برتراند رسل في إنجلترا، أو جان-بول سارتر في فرنسا، أو جون ديوي في أمريكا، أو هسرل وأتباعه في ألمانيا، أو غيرهم وغيرهم.
ابتسمت قائلا: لقد احتطتم فذكرتم «المنظومة المتسقة» التي نفتقدها، ولم تقولوا النسق أو المذهب الذي ينكر معظم الباحثين إمكان قيامه في العصر الحاضر، مؤكدين أن فلسفة الفيلسوف يمكن أن تتجلى في مبحث صغير، يتناول فيه بطريقته الكلية أصغر الجزئيات، وأنه قد آن للمشتغلين بالفلسفة - كما يقول رسل فيما أذكر في إحدى مقالات كتابه «التصوف والمنطق» - أن يتعلموا التواضع من أصحاب العلوم المتخصصة؛ فيعالجوا مشكلة مشكلة لينتقلوا منها إلى غيرها، صارفين النظر نهائيا عن محاولة بناء نسق شامل، أو تشييد مذهب يضم أطراف الوجود والمعرفة والقيم ... إلخ. قال والابتسامة ما تزال تضيء وجهه بالنور الخفي الذي يشع من باطنه: حقا؛ بدليل أنني استشهدت باسم سارتر.
قلت بعد أن أثارت عباراته في نفسي أسئلة واعتراضات عديدة، وجدت أن الوقت والمجال لن يسمحا بإبدائها جميعا، وأنني لا أستطيع أن أكتم عنه واحدا منها على الأقل:
إن كلامكم عن تحليل المناخ يذكرني بتعريف «هيجل» للفلسفة بأنها هي بنت عصرها، أو هي عصرها وقد تبلور في أفكار. وهو تعريف أومن بصدقه وإن كنت أعتقد أن المفارقة الكامنة في الفلسفة نفسها تقتضي القول بأنها لا تقف عند مضمون عبارة هيجل، وإنما تجاوزها - كما حدث في فلسفته ذاتها - طامحة إلى العام والدائم، أو الجوهري والمطلق، مهما تبين بعد ذلك من عجزها وقصورها عن بلوغه. والمهم - كما يفهم من هذا التعريف - أن أي فلسفة لا بد أن تنطلق من الواقع والحاضر الموجود هنا والآن؛ لكي تعود فتصب عليه؛ ابتغاء المزيد من الفهم والوضوح والوعي بالمواقف والقيم والأوضاع المختلفة التي يواجهها الإنسان أو يتحداها. وكل تحليل عقلي يتعمق جذور المشكلات والقضايا والأزمات التي يحياها الإنسان العربي اليوم، أو يشقى بها بالأحرى وتشقى به، لا يمكن إلا أن يكون «فلسفة» أو جهدا واجتهادا يمت بصلة للفلسفة. ولا يقلل من شأن هذه الاجتهادات أن تجيء من غير المشتغلين بالمعرفة الفلسفية بمعناها الدقيق، أو من غير القائمين على تعليمها. ولن يتسع المجال لذكر العديد من الكتاب والشعراء والمثقفين من مختلف البلاد العربية، الذين يحملون هموم الإنسان الحاضر هنا والآن، ويعبرون عنها في صيغ وأشكال ربما تظل بحاجة إلى الصقل والتحليل والتوحيد والاتساق واللغة المحكمة المحددة؛ لكي يسمح لها بالدخول من أبواب الفلسفة. ولكن لماذا أذهب بعيدا وأمامي أقرب دليل على ما أقول؟ فجهودكم التي أشرت إليها، والتي قدمتموها أخيرا في «ثلاثيتكم» (تجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، ثقافتنا في مواجهة العصر) بجانب عشرات المقالات التي نشرتموها في السنوات الأخيرة، ومن بينها المقالات التي تحللون فيها مفاهيم الحرية والتقدم والثقافة والعروبة ... قاطعني بإشارة حاسمة من يده، وقال بتواضعه الكريم وزهده وترفعه النادر: لا أنكر شيئا من هذا كله عندي أو عند غيري، لكنها جميعا قفزات مجزآت أو طرقات على باب الفلسفة. إنها تحليلات أقرب إلى التنبؤ والتمني منها إلى التحليل الدقيق للمناخ القائم بالفعل. ولو كانت لدينا وحدة ثقافية ...
অজানা পৃষ্ঠা