وفي شهر نوفمبر سنة 1925م وصله تكليف مفاجئ من الدوق الفيلسوف هيرمان كيزرلنج (1885-1946م) بإلقائه محاضرة في «مدرسة الحكمة»، وهو اسم المنتدى الفلسفي الذي أسسه هذا الراعي الحكيم سنة 1920م في مدينة دار مشتان، ضمن سلسلة محاضرات الموسم الثقافي الذي يقام في شهر أبريل سنة 1927م تحت عنوان جامع هو «الإنسان والأرض». وألقى شيلر محاضرته التي استغرقت أربع ساعات متصلة في موعدها المحدد، وكانت تحمل هذا العنوان الدال: «الوضع الخاص للإنسان»، وتتضمن في صيغة مختصرة خلاصة «الأنثروبولوجيا الفلسفية»، التي شغلته قبل ذلك بكثير، وقدر لها أن تكون عملا ضخما، بينما قدرت الأيام والأعمال والمتاعب الصحية أن تظهر في شهر أبريل سنة 1928م قبل رحيله بشهر واحد، تحت العنوان الذي تعرف به اليوم وهو «وضع الإنسان في الكون»، وأن يكتب بنفسه مقدمة هذا الكتاب الصغير الهام الذي لم يتجاوز التسعين صفحة، والذي نشره في فرانكفورت نفس الناشر فرانكه، الذي تولى بعد ذلك طبع أعماله الكاملة.
19
لم تكن هذه المحاضرة هي بداية انشغاله بمشكلات الأنثروبولوجيا الفلسفية؛ إذ سبق أن دون أجزاء متفرقة منها في كراسات منفصلة، كما تطرق إليها في بعض محاضراته بجامعة كولونيا منذ سنة 1925م على أقل تقدير. ويبدو أن زحام الأعباء الجامعية والمصاعب النفسية والجسدية التي عاناها أثناء وجوده في مدينة كولونيا، مع الهاجس الملح عليه بالتقدم في العمر، وتضاؤل فرص الاختيار الحر، والتحكم في الوقت، والقدرة على العمل والإنجاز. وقد ألحت عليه هذه المشاعر المحبطة قبل إلقاء المحاضرة السابقة الذكر بأيام قليلة، وأثناء قضاء إجازة قصيرة في أسكونا بإيطاليا، فكتب لزوجته السابقة مريت رسالة مؤرخة بنهاية شهر مارس عام 1927م يقول فيها: «ليتني أستطيع البقاء هنا والعمل في هدوء، دون أن أضطر للعودة إلى كولونيا! لكن الإنسان كلما تقدمت به السن أصبح عبدا لتاريخه الشخصي، وقلت قدراته على تغيير حياته، بيد أن ذاتي لن تكف أبدا عن محاولة اقتلاع هذه الشوكة، ولن تتوقف عن التطلع إلى غد أفضل، والأمل في مستقبل أجمل.» وها هو يرجع إلى أسكونا بعد إلقاء محاضرته في مدرسة الحكمة، فيقبل كالمحموم على العمل، ويدون تخطيطا كاملا للأنثروبولوجيا المرتقبة، وذلك بعد أن شجعه الانطباع القوي الذي تركته المحاضرة في نفوس المستمعين، وبعد أن اندمج بكل كيانه - إلى حد التفاني كما هي عادته! - بكل كلمة قالها فيها. وها نحن نحاول تقديم الخطوط الأساسية فيها بصورة نرجو ألا تكون مخلة.
يبدأ شيلر بإصدار حكم قاس - ولكنه غير ظالم! - على عصره، والموقف العقلي والروحي السائد فيه، فيؤكد أننا لا نملك فكرة موحدة عن الإنسان، ولا تعريفا محددا نتفق عليه بالإجماع؛ لذلك يحاول الإجابة على الأسئلة المثارة عن ماهية الإنسان، ووضعه في الكون، والعلاقة التي تربطه بالنبات والحيوان والحياة في مجموعها. هذه المحاولة تؤدي به إلى البحث عن وضع الإنسان داخل البناء الكلي للعالم الحيوي والنفسي (البيوسيكولوجي)، وهو العالم الذي يرى أنه مكون من مستويات متدرجة للقوى النفسية والدوافع الشعورية. وأدنى هذه المستويات هو مستوى الدافع الشعوري الخالي من الوعي والإحساس والتصور، ونجده متحققا في الحياة النباتية. ومع أنه يجرد النبات من أي وعي أو إحساس، فهو يرى أنه يمتلك حالة باطنية تساعد على تفسير استجاباته أو ردود أفعاله. والمهم أن الدافع العام إلى النمو والتكاثر هو الذي يميز هذا المستوى الأدنى للحياة النفسية. والطريف أن هذه التأملات عن الحياة النباتية قد أثارتها أو على الأقل عمقتها، مشاهدته مع صديقه عالم النفس الجشطلطي فيرتهيمر لفيلم تسجيلي رائع في برلين عن النبات وغرائب سلوكه ونموه. كان الفيلم - كما يقول في رسالته إلى مريت، في الثالث من شهر مارس سنة 1926م - كان يختصر في ثانية واحدة ما يجري في حياة النبات في أربع وعشرين ساعة، فنحن نرى النبات وهو يتنفس وينمو ويموت، ونحس أثناء ذلك بأن الانطباع الطبيعي عن النبات بأنه بلا نفس أو روح قد تلاشى تماما من أذهاننا. لقد كنا نشاهد الدراما الكاملة ذاتها بكل ما تنطوي عليه من متاعب ومجهودات هائلة، وكان من أجمل ما شاهدناه تلك الفروع من النبات العليق المصطفة على أربعة أعواد خشبية متجاورة، والباحثة بحثا مستميتا عن شيء تستند إليه. كنا نوشك أن نرى حالة الرضا أو الإشباع التي تنتابها عندما تعثر على أحد الأعواد التي تحمل أحد الفروع، ثم نعاين حالة الذعر والفزع التي تصيبها عندما تصل إلى العود الرابع والأخير، وتحاول عندئذ أن تتخطاه فتجد نفسها تهوي يائسة في الفراغ، ولا تلبث بعد المحاولات اليائسة أن تستدير راجعة إلى العود الرابع. كم هزتني هذه المشاهد، وجعلتني أحبس دموعي! وكم شعرت بأن «الحياة» في كل مظاهرها حلوة ونابضة وموجعة، وأن الحياة كلها كيان واحد لا يتجزأ. هكذا يتبين لنا أن ما يقصده شيلر بالنبات، وما يوصف بأنه نباتي، إنما هو في رأيه دافع شعوري يتجه دوما إلى الخارج، أو يتحرك نحو الانفتاح على العالم بطريقة غير واعية؛ لذلك يفتقر النبات إلى ما يسميه ب «التمركز» الذي يتميز به الحيوان. ولا يختلف الإنسان في هذا عن بقية الكائنات الحية؛ فهذا المستوى الأدنى أو الباطني للحياة، أي الدافع الشعوري، يدخل أيضا في تكوينه. وهو يعبر كذلك عن «وحدة» جميع الانفعالات والدوافع التي تحرك الإنسان؛ أي إنه - وهذه هي الركيزة التي تقوم عليها فلسفة شيلر - هو الإساس الذي تعتمد عليه تلك التجربة الأولية للمقاومة، التي تمثل الجذر الأصلي لإحساسه ب «الواقع» و«الواقعية»؛ ذلك أن واقع «الإنسان أو واقعيته» لا تتمثل في أنه «كائن عاقل» بقدر ما تتمثل قبل كل شيء في أنه كائن دافعي؛ ومن ثم تكون تجربة المقاومة هي التجربة الأولية والأساسية في حياته، وهي التي تسبق أي وعي أو أي معرفة عقلية أو تصورية لديه. ويأتي المستوى الثاني للحياة النفسية الذي يتمثل في الغريزة والأفعال الغريزية، وهنا يلجأ شيلر إلى أحدث البحوث النفسية التي حددت خصائص الغريزة في عصره، كما يستفيد من لقاءاته ومحاوراته المتصلة مع علماء النفس. وقد استخلص من قراءاته وعلاقاته أن السلوك يوصف بأنه غريزي إذا تحقق فيه شرطان: الأول أن تكون له ضرورته وأهميته القصوى بالنسبة للكائن الحي ككل، والثاني أن يتم على شكل إيقاعات مطردة وثابتة.
أما المستوى الثالث للحياة النفسية، فيعبر عنه السلوك الذكي الذي تتحكم فيه العادة أو التعود. ويصف شيلر هذا السلوك بأنه ذاكرة ارتباطية أو مترابطة، وأنه هو الذي يحدد جميع قدرات الكائن الحي على الربط بين الأشياء والأفعال، وإعادة إنتاجها بصفة مستمرة. ونصل إلى المستوى أو الشكل الرابع من مستويات الحياة النفسية وأشكالها، فنجده يصفه بأنه هو الذكاء العملي الذي يظل
20
مرتبطا بالحياة العضوية، ولكن تتوفر معه إمكانيات الاختيار؛ ومن ثم إمكانيات التوقع. ومعنى هذا أن سلوك الكائن الحي لا يقتصر هنا على إعادة إنتاج شيء أو فعل سابق كما رأينا على المستوى الثالث، وإنما يشمل كذلك جانب الإنتاج نفسه، بحيث يصبح قادرا على تجربة الجديد وابتكاره وصنعه. وأخيرا نصل إلى الإنسان بعد أن نظرنا في جوانب الحياة النفسية ودرجاتها؛ لعلنا نقف على جوهره وماهيته؛ فالواقع أنه يعلو فوق المستويات السابقة على الرغم من مشاركته فيها جميعا ، ومن كونها تدخل في تكوين نظام وجوده، بيد أن المبدأ الحقيقي الذي يكون الإنسان، ويميزه بحق عن سائر الكائنات الحية، يقع فوق أو وراء تلك السلسلة المتدرجة. هذا المبدأ الجديد هو العقل الذي يقف كما سبق القول موقف الضد من كل ما هو واقع، ومن الحياة بأسرها، بل ومن حياة الإنسان نفسها. إنه هو المبدأ الذي يتيح للإنسان إمكانية التجاوز، وتخليص نفسه ووجوده الماهوي الحقيقي، مما هو عضوي، أو من الحالة العضوية؛ أي باختصار شديد هو الذي يمنحه الحرية والقدرة على تجريد الأشياء من واقعيتها وشيئيتها، واستخلاص ماهياتها العقلية المحضة. ومعنى هذا بعبارة أوضح أن هذا الكائن العاقل لا يبقى مقيدا بعالم الدوافع وبالبيئة المحيطة به، ولا أسيرا لهما، وإنما يصبح كائنا منفتحا على «العالم» انفتاحا مبدئيا؛ أي يصبح وله «عالم» لا مجرد «بيئة» محيطة به. بهذا الانفتاح المبدئي لا يستطيع الإنسان أن يجعل كل ما حوله وما فيه موضوعا لبحثه ونظره فحسب، بل الأخطر من هذا أن يتولد داخله على الدوام نزاع أو صراع لا يتوقف بين الدافع من ناحية والعقل أو الروح من ناحية أخرى، وأن يكون هذا الصراع من أهم الخصائص المميزة للإنسان، والحافزة له على «تعقيل» عالم الواقع، أو إشاعة العقل وقيم الخير فيه.
كان من الطبيعي أن يهتم شيلر، وهو بصدد تحديد ماهية الإنسان، بظاهرة الوعي الذاتي للإنسان، وأن يضعها في سياق أشمل من السياق المألوف، وأن يلجأ لتحقيق ذلك إلى كل ما توفره العلوم الحديثة من معلومات؛ ذلك أن الإنسان، على عكس الحيوان الذي يحيا بأكمله في الواقع الراهن والملموس، يمارس دائما، من حيث يدري أو لا يدري، طريقته الخاصة في وقف الطابع الواقعي للأشياء «على سبيل التجريب»؛ حتى يتمكن من الوقوف على ماهية تلك الأشياء. ولا شك أن هذا الفعل للإنسان «النافي» أو «القائل لا» لواقعية الأشياء، يقترب مما سماه هسرل ب «الأيوخية»؛ أي تعليق الحكم ووضع العالم أو واقعية العالم بين قوسين؛ حتى لا يصرف نظرنا عن استخلاص ماهية الشيء، أو يعوقنا عما يسميه هسرل وشيلر ب «الرد الماهوي
ideierung »، خلال عملية حدس عقلي أو وجداني تستخلص فيه الماهية من الموجود الواقعي المباشر.
21
অজানা পৃষ্ঠা