لا شك عندي في أن القارئ قد فطن من الكلام السابق إلى أن التجارب التي أشرت إليها وشيجة القرب من تيار فلسفي ازدهر منذ عشرينيات القرن الماضي حتى أربعينياته، وذلك بفضل فيلسوفين كبيرين هما دلتاي (1833-1911م) الألماني وبرجسون (1859-1941م) الفرنسي، وبعض المعاصرين لهما مثل زيميل وكلاجيس وكيزرلبنج وفرويد وهانز دريش وغيرهم، على الرغم من أن تاريخها بعيد الجذور في الفلسفة والأدب الغربي بدءا من أنبادوقليس وبعض الرواقيين، حتى بعض خصوم عقلانية عصر التنوير المتطرفة، مثل هامان وهيردر وجوته الذي لم يتوقف في إنتاجه الأدبي كله عن الدعوة إلى الاندماج والتوحد مع الكل الحي، ومشاركة الفاعل الأبدي الخلاق في فعل الخلق والإبداع، ثم بعض فلاسفة الحركة الرومانسية والمثالية الألمانية - مثل شيلنج وشلاير ماخر حتى شوبنهور ونيتشه وعدد من الأخلاقيين وفلاسفة الوجود أو الوجوديين الذين تأثروا بغير شك بفلسفة الحياة ومناهجها القائمة على الفهم أو التفهم - لسبر أغوار الحياة وتبين معناها والغاية منها من ناحية، وللبحث في العلوم الإنسانية أو علوم الروح عن طريق هذا الفهم المزود بالتعاطف الوجداني، والبصيرة الكاشفة، والذوق اللماح والحدس - أو العيان - المباشر الذي يمكننا - على حد تعبير برجسون - من التوصل إلى ما هو فريد ونسيج وحده في الإنسان وفي الظواهر التاريخية والاجتماعية والأدبية والفنية التي تحاول أن تصل إلى مضامينها العقلية والروحية؛ وذلك تمييزا له عن منهج التفسير أو التعليل الخاص بالعلوم الطبيعية والمادية. وقد كان من الطبيعي أن يتعرض هذا المنهج الحدسي للنقد الشديد من عدد كبير من العلماء البارزين في العلوم الإنسانية نفسها، مثل ماكس فيبر وريكمان - الذي قدم فلسفة دلتاي للعالم الناطق بالإنجليزية - وهابرماس (الذي يقف اليوم على رأس فلاسفة الحداثة والتنوير والحوار والتواصل مع النزعة النقدية الاجتماعية التي أخذها عن مدرسة فرانكفورت النقدية)؛ إذ حاول هؤلاء العلماء أن يضفوا الصبغة العلمية الدقيقة على منهج الفهم أو التفهم؛
1
حتى لا يسقط في الذاتية والنسبة، أو في النزعة الصوفية والشعرية الخالصة لدى تعمق معاني التجارب الإنسانية عبر العصور، ومحاولة تكرارها أو معيشتها واستعادتها مرة أخرى (كما يفعل المؤرخ والروائي!) وذلك من خلال بعض الخطوات والإجراءات التي تسير عليها العلوم الطبيعية والتجريبية بعد أن يتم تطويعها للتطبيق على علوم الروح، أي العلوم الإنسانية، مثل الملاحظة وفرض الفروض والتحقق منها والقياس الإحصائي والاستقرائي؛ وبذلك لا يكتفي الباحث في العلوم الإنسانية بالفهم الغامض والحدس والتعاطف والحب والمعرفة النابعة منه ومن القلب، بل تخلع عليها الطابع العلمي والتعميمي المقنع.
هكذا نرى أن فلسفة الحياة لا تخلو في نهاية المطاف من الذاتية والنسبية، التي أخذتها - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - عن كتابات جوته وبعض الداعين إلى اللامعقولية في مواجهة العقل التنويري الجاف كما سبق القول، وعن الإبداعات الرومانسية سواء في ذلك الإنشائية أو النقدية، وعن الثورة الهائلة التي أطلق نيتشه رياحها العاتية على المفاهيم التقليدية الراسخة عن العقل والحقيقة والتاريخ لكي تصبح مفاهيم حية، تخدم الحياة نفسها وتزيدها حياة عن طريق إرادة القوة - التي هي في النهاية إرادة الحياة - أي إرادة هذه الأرض وهذا العالم الذي نعيش فيه، التي تتجسد أو سوف تتجسد فيما سماه الإنسان الأعلى، الذي سيعلو على نفسه وحياته بالمزيد من عشق الحياة بكل لحظة فيها، وملئها بالإبداع والخلق المتحرر من ثقل الماضي ومن خوف المستقبل؛ حتى يجعل إرادة الحياة أكثر قوة وبراءة وتجددا وحياة.
أعتقد أنني لا أبالغ في شيء إذا قلت إنني قد طبقت على الدوام منهج التفهم أو الحدس والتعاطف القلبي والوجداني مع النصوص الأدبية والفلسفية، التي كنت أعكف على كتابتها أو قراءتها قبل أن أعرف أي شيء يذكر عن فلسفة الحياة وأصحابها وتياراتها وجذورها التاريخية التي سبقت الإشارة إليها. ولعلي - إذا أذن لي القارئ - قد «فهمت» منهج الفهم الحدسي وتقمصت روحه بفضل التعاطف، وهو الموهبة الوحيدة التي حبتنيها السماء والفطرة والوراثة أيضا (كانت أمي - رحمة الله عليها - رمزا حيا ومجسدا للتعاطف مع الخلق كله إلى حد البكاء المر عندما أقرأ عليها أخبار الحوادث أو الكوارث الطبيعية التي تصيب بلادا بعيدة عنا وبشرا لا صلة لنا بهم، ولا تعرف شيئا عن طبيعة حياتهم أو تاريخهم أو لغاتهم ... إلخ).
وإني لأتذكر الآن كيف كنت أتفهم - أي أتغلغل - في أعمق أعماق النص الشعري والأدبي الذي أقرؤه أو أحاول أن أترجمه وأدرسه، سواء كان نصا لبسافو الإغريقية أو لاو-تزو الصيني، أو لدستوفسكي أو تشيخوف اللذين أحببتهما أكثر من كل من حولي وما حولي، إلى الحد الذي كدت معه أن أفقد هويتي، وأصبح شبحا هائما في بيوت ونفوس شخصيات رواياتهم وقصصهم، أو كان نصا عويصا لأبي العلاء الذي أدمنت قراءته منذ أن كنت لا أزال صبيا حالما في المرحلة الثانوية، أو لجبران أو توفيق الحكيم اللذين عاشا في وعشت فيهما إلى حد التقمص أو التوحد اللذين أخشى ألا أكون قد استطعت حتى اليوم الحاضر - بعد أن بلغت العقد الثامن من عمري - أن أنجو من تأثيرهما، أو كان في النهاية نصا لقصيدة من مئات القصائد التي ترجمتها ودرستها، أو نصا فلسفيا من النصوص التي نقلتها من أفلاطون إلى هيدجر. لا أقول ما قلت بدافع من الزهو أو الغرور، فأنا بحمد الله متواضع تواضع القديسين، أو على الأقل أحاول أن أكون كذلك، منذ أن أمسكت القلم ودونت أول مقال أو قصيدة أو قصة أو مسرحية، كانت كلها - وربما ما فتئت كذلك! - متدثرة من الرأس حتى القدم بأثواب السذاجة والرومانسية الراسخة الجذور في كياني، والحزن الذي لم أفلح أبدا في الخلاص من حضور شبحه الجهم المتجهم في كل لحظاتي وكلماتي وأفعالي.
بقي الحال كذلك حتى قدر لي - أو قدر علي - منذ منتصف الستينيات أن أنتظم في سلك التعليم الجامعي، وأقوم بتدريس تاريخ الفلسفة الغربية من طاليس إلى هيدجر! وكان من الضروري أن أتطرق في دروس الفلسفة المعاصرة، إلى جذور فلسفة الحياة الكامنة في مذاهب الكانطيين الجدد، بشقيهم العلمي والتاريخي والأخلاقي، وأن أتعلق بأدب «جوته» وشعره ونثره تعلق الفراشة الصغيرة بالشجرة الضخمة الوارفة الظلال، والغنية بالثمار الناضجة، والزهور العبقة، والأوراق المتجددة الخضرة. ويبدو أن حماسي وانفعالي مع حبي الذي كنت أنقل به معلوماتي القليلة عن فلسفة الحياة، قد أعدى بعض طلابي النابهين الذين واصلوا الدرس الجامعي، ونبغوا فيه بعد أن اختفوا عقودا كاملة عن عيني . يؤكد هذا كتاب قيم أصدره في العام الماضي تلميذي الفاضل الكريم الدكتور محمود سيد أحمد، وتقدمت الإشارة إليه في هامش سابق. والواقع أنني شعرت بعد قراءة الكتاب بالعجز عن التعبير عن سعادتي وشعوري بأنني حققت - مع هذا الطالب السابق أو غيره ممن لا يزالون يذكرونني في جامعات القاهرة والخرطوم وصنعاء والكويت - ذلك المعنى الكبير الذي ينطوي عليه الدرس والتدريس بوجه عام، وهو أن يوجد بين الأجيال التي تجيء بعدنا من يتسلم الأمانة ويحافظ على سطوع شعلتها المضيئة، والأهم من ذلك وجود الأوفياء الذين يتمون ما عجزنا نحن عن إتمامه، ويحققون ما لم تسعفنا ظروفنا البائسة اليائسة من تحقيقه.
من المتفق عليه أن الفلسفات المختلفة، مهما أوغلت في التجريد وأمعنت في التنظير والنسقية، لها جذورها المؤكدة في الظروف والأوضاع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي نشأت فيها، وفي «حالة الوعي» العام الذي كان سائدا أثناء عكوف الفيلسوف على بناء نسقه أو رؤيته الشاملة. ويظل من الصحيح أيضا أن الفلسفة، كغيرها من الأبنية الفوقية المختلفة كالأدب والفن، لا بد أن تعكس بصورة غير مباشرة ومتعالية أو متجاوزة نبض اللحظة التاريخية التي تكونت فيها، وتظل كذلك كلمة هيجل أو تعريفه للفلسفة في تقديري المتواضع صادقين صدقا مطلقا، وهو أن الفلسفة بنت عصرها، أو هي عصرها معبرا عنه ومبلورا في الأفكار. وقد سبق لي، في موضعين سابقين من كتاباتي في الفلسفة، تأكيد هذا المعنى بصورة ربما تكون أكثر رومانسية وشاعرية، أو أكثر التصاقا بالتجربة الإنسانية الحية؛ ففي الموضع الأول من كتابي المبكر مدرسة الحكمة (الطبعة الثانية، دار شرقيات، القاهرة، 2006م، ص9) ترد هذه العبارات: «إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث في المشكلات الفلسفية، قبل أن يكون مجموعة من المذاهب والنظم والنظريات. والفلاسفة أناس مثلنا من لحم ودم، لا آلات مفرغة تصنع أفكارا مجردة وكلمات جافة مخيفة. لقد واجهوا مشكلات عذبتهم، ووقفوا أمام ألغاز في الكون وفي أنفسهم حاولوا أن يجدوا لها حلا.» وفي الموضع الثاني (من مقدمة كتابي «لم الفلسفة؟» منشأة المعارف بالإسكندرية، 1981م، ص11 ) ترد العبارات التالية: «إن المشروعات الفلسفية بطبيعتها متعددة الأهداف، وهي بالرغم من طموحها إلى المطلق، أعمال بشرية مؤقتة ومحدودة كسائر أعمال البشر. ومع ذلك فأنت محق إذا وجدت نفسك تختار إحداها وتفضلها على غيرها؛ فطبع الإنسان هو الذي يحدد فلسفته - كما تقول عبارة وليم جيمز - واختيار الإنسان لإحدى الفلسفات يتوقف على طبيعته كإنسان كما يقول فشته. وكل واحد منا يميل في النهاية إلى فلسفة دون غيرها. قد تكون وراء هذا الميل نزعة عقلية أو علمية أو واقعية، رغبة في الإصلاح والتغيير الاجتماعي، أو حاجة إلى الراحة والتدبر والعزاء، شغف بالمعرفة لذاتها أو ... إلخ، ولكنه في النهاية يميل إليها بدافع غلاب يمتد إلى جذوره نفسها؛ إذ لا يكفي - إذا كان جادا ومخلصا بحق - أن يكون له حظ من البراعة والذكاء لمعرفة إحدى الحقائق، بل لا بد أن تملك هذه الحقيقة عليه نفسه، أن يجربها ويتعذب بها بما هو شخص وإنسان، خاصة إذا كانت تتعلق بمعنى وجوده وبمعنى العالم وحقيقة الحياة.»
من هذين النصين «القديمين» نلاحظ مدى قربي «الفطري» من فلسفة الحياة، حتى قبل أن أقرأ في بعض أعمال أصحابها، وفي مقدمتهم برجسون (من خلال الكتاب الرائع عنه لأستاذي وزميلي الدكتور زكريا إبراهيم رحمة الله عليه) ودلتاي (لا سيما من خلال كتابه التجربة والأدب)، وبعض الأعمال القليلة للودفيج كلاجيس وجورج زيميل وماكس شيلر القريب منهم، وكذلك مدى قربي بحكم العاطفة والتعاطف والفهم عن طريق القلب والحب قبل العقل، من فلاسفة الوجود أو الوجوديين (من باسكال ونيتشه وشوبنهور، وبعض أعلام التصوف في الشرق والغرب، إلى هيدجر وكاسبرز وكامي، الذين وضعنا لكل منهم كتابا مستقلا ...)
بهذه المعاني السابقة التي تتحول معها الفلسفية والانشغال بها والكتابة فيها إلى تجربة حية، أعتقد - إن لم أكن مخطئا أو مبالغا - أن معظم المقالات والدراسات التي ستطالعك وتطالعها في هذا الكتاب هي تجارب عشتها؛ أي كابدتها وعانيتها، حتى ولو كانت تتسم في بعض الأحوال بالنزعة النقدية والتحليلية، أو تميل إلى أن تكون علمية، ولا تخلو من موضوعية بعيدة عن الذات وهمومها وتجاربها، حتى هذه الدراسات والمقالات من النوع الأخير كنت كثيرا ما أحولها أو تتحول عند صياغتي لها إلى تجارب ذاتية وشخصية.
অজানা পৃষ্ঠা