40
حتى إذا توالى نشر مخطوطاته في السلسلة المشهورة «كتابات هسرل أو الهسرليانا» منذ سنة 1950م، طلع على الناس واحد من أهم كتبه، وهو «أزمة العلوم الأوروبية والظاهرات المتعالية»، الذي لم يقتصر فيه على تناول مفاهيم من عالم الحياة كالمجتمع والأخلاق والتاريخ، وإنما تعرض فيه قبل كل شيء لأزمة العلم الأوروبي ومحنة الوجود والضمير والإنسانية الأوروبية، وكلها للأسف لديه شيء واحد، وكأن العلم والوجود والإنسانية تكون أوروبية أو لا تكون!
لم يكن من قبيل المصادفة أن ترد كلمة الأزمة (كريزيس) في عنوان هذا الكتاب؛
41
إذ كان من الطبيعي أن يعمق إحساسه بها بعد عناء السير على طريق طويل، تصور في نهايته التي اقترنت بالشيخوخة وهواجس النهاية المحتومة أنه قد أكمل واجبه، وأتم تأسيس فلسفته، واطمأن إلى إقامة العلم الشامل، أو «الماثيزيس يونيفرساليس» الذي ظل هو الشغل الشاغل لعدد كبير من فلاسفة الغرب، بدءا بأفلاطون في نظريته عن المثل، إلى ديكارت وليبنتز وكانط، حتى البنائيين أو البنيويين ورودلف كارناب (1891-1970م)، وزملائه من التجريبيين أو الوضعيين المناطقة في مشروعهم عن «العلم الموحد».
ومن المعروف أن منهج العلوم الطبيعية والرياضية بقي هو المثل الأعلى لعدد كبير من الفلاسفة، على أقل تقدير منذ عصر النهضة حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ فالاقتداء بهذا المنهج كان عندهم هو شرط اليقين والدقة والموضوعية، حتى لقد طبقوه على مشكلات ليست بطبعها رياضية ولا طبيعية، من الميتافيزيقا والأخلاق والظواهر النفسية والاجتماعية، حتى البراهين على وجود الله! وعلى الرغم من التقدم الذي تحقق في بعض العلوم الإنسانية، كالاجتماع والاقتصاد وعلم النفس بوجه خاص، باتباع ذلك المنهج العلمي الدقيق، فقد برزت في أوائل القرن العشرين مشكلة المنهج في العلوم الإنسانية، وثار حولها الجدل الذي لم يخمد لهيبه بعد؛ إذ تبين للبعض من أمثال برجسون ودلتاي وهسرل نفسه ومعظم تلاميذه والمستفيدين من منهجه النظري - من أصحاب فلسفة الوجود وفلسفة التأويل (الهيرومينويطيقا) والنقديين الجدليين الاجتماعيين - أن الظاهرة الإنسانية من نوع مختلف عن الظاهرة الطبيعية، وأنه لا يمكن قياسها والتنبؤ بها والتحكم النهائي فيها بالوسائل المعملية والتحليلات والإحصاءات الرياضية؛ لأن الإنسان في رأيهم ليس موضوعا وليس كما، وإنما هو ذات وحرية وكيف وتجربة حية وعالم حياة متفردة. وتفاقمت أزمة العلم الأوروبي (الطبيعي والرياضي) نتيجة إخفاقه - المؤقت على أقل تقدير! - في تطبيق مناهجه على الظواهر والعلوم الإنسانية، وأصبحت أزمة هذه العلوم في جوهرها وفي نظر هسرل، هي أزمة الشعور الأوروبي نفسه بعقدة «التجربة الحية» وإضاعته رأيه مصدر العلم ومادته. وعلى مشارف هذه الأزمة المضاعفة (من الناحيتين المادية والصورية) وبسببها، بدأت الفينومينولوجيا في البحث عن منهج خاص للعلوم الإنسانية يحفظ نوعية الظاهرة، ويميزها عن الظاهرة الطبيعية والظاهرة الرياضية؛ ومن ثم يشق طريقا ثالثا هو الذي سماه هسرل ب «الفينومينولوجيا».
42
وهكذا تطورت الظاهرات مع تطور معالجتها بصورة أو بأخرى لهذه الأزمة، عبر مراحلها المختلفة وفي إنتاج هسرل الذي نشره في حياته، حتى تبلورت إشكاليتها الحادة الناقدة في كتاب الأزمة، الذي سنقف عنده الآن وقفة قصيرة.
حاول هسرل أن يواجه أزمة العلوم الإنسانية، والخروج من أسر النموذجين الطبيعي والرياضي اللذين أديا بها كما تقدم إلى الوقوع في تلك الأزمة، عن طريق تأسيس فلسفته التي تعددت المسميات التي أطلقها عليها؛ من علم شامل ، إلى علم بالماهيات والبدايات، إلى فلسفة أولى، إلى نظرية كلية في المعرفة والوجود، إلى علم آثار (أركيولوجيا) الشعور ... إلخ. ولعل أقرب هذه المسميات إلى غرضنا أن هذه الفلسفة نظرية في الذاتية المتعالية (الترنسندنتالية) والذاتية المشتركة، أو أنها في اختصار هي علم الشعور. وقد تناول في كتابه الذي نحن بصدده التجربة المشتركة للحضارة الأوروبية، أو - بتعبير آخر - الشعور الحضاري أو الجماعي الأوروبي (بشقيه العقلي والتجريبي)، منذ بداياته عند اليونان والرومان إلى بلوغ ذروته العقلية الخالصة عند ديكارت، حتى اكتماله في فلسفة الظاهرات أو الفينومينولوجيا نفسها. بذلك أضاف إلى تصوره لهذه الفلسفة بوصفها علما أو نظرية خالصة تصورا آخر لها بوصفها فلسفة للتاريخ، بل مقصدا له وغاية نهائية. وقد سبقت الإشارة إلى هذين البعدين في محاضراته تأملات ديكارتية، وهي التي أهداها إلى ذكرى ديكارت الذي بدأ عنده الشعور الأوروبي على الحقيقة. لم يهتم هسرل بالحديث عن الأصول والمصادر المعروفة لما سماه بالشعور الأوروبي، باستثناء المصدر اليوناني الذي أولاه الجانب الأكبر من عنايته؛ لسبب بسيط، هو أنه يعد الحضارة الأوروبية خلقا أصيلا على غير منوال، وأنها، دون غيرها من الحضارات القديمة في الشرقين الأقصى والأدنى، التي ظلت أسطورية وأخلاقية وعملية، قد أخذت على عاتقها عبء البحث عن الحقيقة النظرية، وتحقيق مشروع الإنسانية العلمي الأول الذي طالما راود فلاسفتها كما سبق القول، وهو إقامة علم شامل مرادف للحقيقة ومطابق للواقع على السواء.
43
অজানা পৃষ্ঠা