إهداء
تمهيد
الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
الأزمة أم الإبداع
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
العقل على عرش العالم
حديث معه
جلجاميش وجذور الطغيان
أحب الكتب إلى قلبي
عالم صوفيا
ثورة إلى الأبد، وتفسير لشذرة جوته المسرحية عن بروميثيوس
ثورة إلى الأبد: شذرة مسرحية لجوته «بروميثيوس»
سيرة وحوار
إهداء
تمهيد
الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
الأزمة أم الإبداع
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
العقل على عرش العالم
حديث معه
جلجاميش وجذور الطغيان
أحب الكتب إلى قلبي
عالم صوفيا
ثورة إلى الأبد، وتفسير لشذرة جوته المسرحية عن بروميثيوس
ثورة إلى الأبد: شذرة مسرحية لجوته «بروميثيوس»
سيرة وحوار
تجارب فلسفية
تجارب فلسفية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إهداء
إلى ذكرى أصدقائي الأعزاء
محمود فهمي زيدان
ومحمود رجب
وأحمد محمود صبحي
حبا وتقديرا لتجاربهم الفلسفية الحية،
وعرفانا بجهودهم الصادقة في سبيل الحقيقة، المبرأة من الزيف والكذب والمنزهة عن الأنانية والادعاء والاستعراض.
تمهيد
هذه مجموعة من التجارب الفلسفية التي عشتها خلال العشرين سنة الماضية، أحاول اليوم أن أضمها بين دفتي كتاب بعد أن كانت مشتتة في كثير من المجلات الثقافية في القاهرة والكويت.
وما دمت قد أطلقت عليها صفة التجارب أو الخبرات، فليس لهذا الوصف من معنى سوى أنها نابعة من الحياة نفسها كما نعيشها ونكابدها كل يوم، ومن بحثنا عن المعنى الكامن في علاقاتنا بمن حولنا من الناس، وبالحياة والعالم والوجود في مجموعه، وبالرؤية الشاملة التي كوناها أو ما زلنا بصدد تكوينها، لكي يصبح لنا موقف أو دور نؤديه في العالم وفي المجتمع الذي نعيش فيه، ونحاول مع غيرنا أن ننقذه من أوجه الفساد والتدهور والانهيار التي تتهدده في كل لحظة؛ نتيجة للنظرة الضيقة إلى الحياة نفسها، وانحصار تجاربنا الضحلة فيها على قيم - أو بالأحرى لا قيم! - المنفعة والمصلحة، بعيدا عن معايشة الأسرار والأعماق والمنابع الحقيقية للحياة في ثرائها وقيمتها، التي لا تعلو عليها قيمة سوى الحياة ذاتها التي هي القيمة والحقيقة الكبرى والنهائية.
لا شك عندي في أن القارئ قد فطن من الكلام السابق إلى أن التجارب التي أشرت إليها وشيجة القرب من تيار فلسفي ازدهر منذ عشرينيات القرن الماضي حتى أربعينياته، وذلك بفضل فيلسوفين كبيرين هما دلتاي (1833-1911م) الألماني وبرجسون (1859-1941م) الفرنسي، وبعض المعاصرين لهما مثل زيميل وكلاجيس وكيزرلبنج وفرويد وهانز دريش وغيرهم، على الرغم من أن تاريخها بعيد الجذور في الفلسفة والأدب الغربي بدءا من أنبادوقليس وبعض الرواقيين، حتى بعض خصوم عقلانية عصر التنوير المتطرفة، مثل هامان وهيردر وجوته الذي لم يتوقف في إنتاجه الأدبي كله عن الدعوة إلى الاندماج والتوحد مع الكل الحي، ومشاركة الفاعل الأبدي الخلاق في فعل الخلق والإبداع، ثم بعض فلاسفة الحركة الرومانسية والمثالية الألمانية - مثل شيلنج وشلاير ماخر حتى شوبنهور ونيتشه وعدد من الأخلاقيين وفلاسفة الوجود أو الوجوديين الذين تأثروا بغير شك بفلسفة الحياة ومناهجها القائمة على الفهم أو التفهم - لسبر أغوار الحياة وتبين معناها والغاية منها من ناحية، وللبحث في العلوم الإنسانية أو علوم الروح عن طريق هذا الفهم المزود بالتعاطف الوجداني، والبصيرة الكاشفة، والذوق اللماح والحدس - أو العيان - المباشر الذي يمكننا - على حد تعبير برجسون - من التوصل إلى ما هو فريد ونسيج وحده في الإنسان وفي الظواهر التاريخية والاجتماعية والأدبية والفنية التي تحاول أن تصل إلى مضامينها العقلية والروحية؛ وذلك تمييزا له عن منهج التفسير أو التعليل الخاص بالعلوم الطبيعية والمادية. وقد كان من الطبيعي أن يتعرض هذا المنهج الحدسي للنقد الشديد من عدد كبير من العلماء البارزين في العلوم الإنسانية نفسها، مثل ماكس فيبر وريكمان - الذي قدم فلسفة دلتاي للعالم الناطق بالإنجليزية - وهابرماس (الذي يقف اليوم على رأس فلاسفة الحداثة والتنوير والحوار والتواصل مع النزعة النقدية الاجتماعية التي أخذها عن مدرسة فرانكفورت النقدية)؛ إذ حاول هؤلاء العلماء أن يضفوا الصبغة العلمية الدقيقة على منهج الفهم أو التفهم؛
1
حتى لا يسقط في الذاتية والنسبة، أو في النزعة الصوفية والشعرية الخالصة لدى تعمق معاني التجارب الإنسانية عبر العصور، ومحاولة تكرارها أو معيشتها واستعادتها مرة أخرى (كما يفعل المؤرخ والروائي!) وذلك من خلال بعض الخطوات والإجراءات التي تسير عليها العلوم الطبيعية والتجريبية بعد أن يتم تطويعها للتطبيق على علوم الروح، أي العلوم الإنسانية، مثل الملاحظة وفرض الفروض والتحقق منها والقياس الإحصائي والاستقرائي؛ وبذلك لا يكتفي الباحث في العلوم الإنسانية بالفهم الغامض والحدس والتعاطف والحب والمعرفة النابعة منه ومن القلب، بل تخلع عليها الطابع العلمي والتعميمي المقنع.
هكذا نرى أن فلسفة الحياة لا تخلو في نهاية المطاف من الذاتية والنسبية، التي أخذتها - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - عن كتابات جوته وبعض الداعين إلى اللامعقولية في مواجهة العقل التنويري الجاف كما سبق القول، وعن الإبداعات الرومانسية سواء في ذلك الإنشائية أو النقدية، وعن الثورة الهائلة التي أطلق نيتشه رياحها العاتية على المفاهيم التقليدية الراسخة عن العقل والحقيقة والتاريخ لكي تصبح مفاهيم حية، تخدم الحياة نفسها وتزيدها حياة عن طريق إرادة القوة - التي هي في النهاية إرادة الحياة - أي إرادة هذه الأرض وهذا العالم الذي نعيش فيه، التي تتجسد أو سوف تتجسد فيما سماه الإنسان الأعلى، الذي سيعلو على نفسه وحياته بالمزيد من عشق الحياة بكل لحظة فيها، وملئها بالإبداع والخلق المتحرر من ثقل الماضي ومن خوف المستقبل؛ حتى يجعل إرادة الحياة أكثر قوة وبراءة وتجددا وحياة.
أعتقد أنني لا أبالغ في شيء إذا قلت إنني قد طبقت على الدوام منهج التفهم أو الحدس والتعاطف القلبي والوجداني مع النصوص الأدبية والفلسفية، التي كنت أعكف على كتابتها أو قراءتها قبل أن أعرف أي شيء يذكر عن فلسفة الحياة وأصحابها وتياراتها وجذورها التاريخية التي سبقت الإشارة إليها. ولعلي - إذا أذن لي القارئ - قد «فهمت» منهج الفهم الحدسي وتقمصت روحه بفضل التعاطف، وهو الموهبة الوحيدة التي حبتنيها السماء والفطرة والوراثة أيضا (كانت أمي - رحمة الله عليها - رمزا حيا ومجسدا للتعاطف مع الخلق كله إلى حد البكاء المر عندما أقرأ عليها أخبار الحوادث أو الكوارث الطبيعية التي تصيب بلادا بعيدة عنا وبشرا لا صلة لنا بهم، ولا تعرف شيئا عن طبيعة حياتهم أو تاريخهم أو لغاتهم ... إلخ).
وإني لأتذكر الآن كيف كنت أتفهم - أي أتغلغل - في أعمق أعماق النص الشعري والأدبي الذي أقرؤه أو أحاول أن أترجمه وأدرسه، سواء كان نصا لبسافو الإغريقية أو لاو-تزو الصيني، أو لدستوفسكي أو تشيخوف اللذين أحببتهما أكثر من كل من حولي وما حولي، إلى الحد الذي كدت معه أن أفقد هويتي، وأصبح شبحا هائما في بيوت ونفوس شخصيات رواياتهم وقصصهم، أو كان نصا عويصا لأبي العلاء الذي أدمنت قراءته منذ أن كنت لا أزال صبيا حالما في المرحلة الثانوية، أو لجبران أو توفيق الحكيم اللذين عاشا في وعشت فيهما إلى حد التقمص أو التوحد اللذين أخشى ألا أكون قد استطعت حتى اليوم الحاضر - بعد أن بلغت العقد الثامن من عمري - أن أنجو من تأثيرهما، أو كان في النهاية نصا لقصيدة من مئات القصائد التي ترجمتها ودرستها، أو نصا فلسفيا من النصوص التي نقلتها من أفلاطون إلى هيدجر. لا أقول ما قلت بدافع من الزهو أو الغرور، فأنا بحمد الله متواضع تواضع القديسين، أو على الأقل أحاول أن أكون كذلك، منذ أن أمسكت القلم ودونت أول مقال أو قصيدة أو قصة أو مسرحية، كانت كلها - وربما ما فتئت كذلك! - متدثرة من الرأس حتى القدم بأثواب السذاجة والرومانسية الراسخة الجذور في كياني، والحزن الذي لم أفلح أبدا في الخلاص من حضور شبحه الجهم المتجهم في كل لحظاتي وكلماتي وأفعالي.
بقي الحال كذلك حتى قدر لي - أو قدر علي - منذ منتصف الستينيات أن أنتظم في سلك التعليم الجامعي، وأقوم بتدريس تاريخ الفلسفة الغربية من طاليس إلى هيدجر! وكان من الضروري أن أتطرق في دروس الفلسفة المعاصرة، إلى جذور فلسفة الحياة الكامنة في مذاهب الكانطيين الجدد، بشقيهم العلمي والتاريخي والأخلاقي، وأن أتعلق بأدب «جوته» وشعره ونثره تعلق الفراشة الصغيرة بالشجرة الضخمة الوارفة الظلال، والغنية بالثمار الناضجة، والزهور العبقة، والأوراق المتجددة الخضرة. ويبدو أن حماسي وانفعالي مع حبي الذي كنت أنقل به معلوماتي القليلة عن فلسفة الحياة، قد أعدى بعض طلابي النابهين الذين واصلوا الدرس الجامعي، ونبغوا فيه بعد أن اختفوا عقودا كاملة عن عيني . يؤكد هذا كتاب قيم أصدره في العام الماضي تلميذي الفاضل الكريم الدكتور محمود سيد أحمد، وتقدمت الإشارة إليه في هامش سابق. والواقع أنني شعرت بعد قراءة الكتاب بالعجز عن التعبير عن سعادتي وشعوري بأنني حققت - مع هذا الطالب السابق أو غيره ممن لا يزالون يذكرونني في جامعات القاهرة والخرطوم وصنعاء والكويت - ذلك المعنى الكبير الذي ينطوي عليه الدرس والتدريس بوجه عام، وهو أن يوجد بين الأجيال التي تجيء بعدنا من يتسلم الأمانة ويحافظ على سطوع شعلتها المضيئة، والأهم من ذلك وجود الأوفياء الذين يتمون ما عجزنا نحن عن إتمامه، ويحققون ما لم تسعفنا ظروفنا البائسة اليائسة من تحقيقه.
من المتفق عليه أن الفلسفات المختلفة، مهما أوغلت في التجريد وأمعنت في التنظير والنسقية، لها جذورها المؤكدة في الظروف والأوضاع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي نشأت فيها، وفي «حالة الوعي» العام الذي كان سائدا أثناء عكوف الفيلسوف على بناء نسقه أو رؤيته الشاملة. ويظل من الصحيح أيضا أن الفلسفة، كغيرها من الأبنية الفوقية المختلفة كالأدب والفن، لا بد أن تعكس بصورة غير مباشرة ومتعالية أو متجاوزة نبض اللحظة التاريخية التي تكونت فيها، وتظل كذلك كلمة هيجل أو تعريفه للفلسفة في تقديري المتواضع صادقين صدقا مطلقا، وهو أن الفلسفة بنت عصرها، أو هي عصرها معبرا عنه ومبلورا في الأفكار. وقد سبق لي، في موضعين سابقين من كتاباتي في الفلسفة، تأكيد هذا المعنى بصورة ربما تكون أكثر رومانسية وشاعرية، أو أكثر التصاقا بالتجربة الإنسانية الحية؛ ففي الموضع الأول من كتابي المبكر مدرسة الحكمة (الطبعة الثانية، دار شرقيات، القاهرة، 2006م، ص9) ترد هذه العبارات: «إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث في المشكلات الفلسفية، قبل أن يكون مجموعة من المذاهب والنظم والنظريات. والفلاسفة أناس مثلنا من لحم ودم، لا آلات مفرغة تصنع أفكارا مجردة وكلمات جافة مخيفة. لقد واجهوا مشكلات عذبتهم، ووقفوا أمام ألغاز في الكون وفي أنفسهم حاولوا أن يجدوا لها حلا.» وفي الموضع الثاني (من مقدمة كتابي «لم الفلسفة؟» منشأة المعارف بالإسكندرية، 1981م، ص11 ) ترد العبارات التالية: «إن المشروعات الفلسفية بطبيعتها متعددة الأهداف، وهي بالرغم من طموحها إلى المطلق، أعمال بشرية مؤقتة ومحدودة كسائر أعمال البشر. ومع ذلك فأنت محق إذا وجدت نفسك تختار إحداها وتفضلها على غيرها؛ فطبع الإنسان هو الذي يحدد فلسفته - كما تقول عبارة وليم جيمز - واختيار الإنسان لإحدى الفلسفات يتوقف على طبيعته كإنسان كما يقول فشته. وكل واحد منا يميل في النهاية إلى فلسفة دون غيرها. قد تكون وراء هذا الميل نزعة عقلية أو علمية أو واقعية، رغبة في الإصلاح والتغيير الاجتماعي، أو حاجة إلى الراحة والتدبر والعزاء، شغف بالمعرفة لذاتها أو ... إلخ، ولكنه في النهاية يميل إليها بدافع غلاب يمتد إلى جذوره نفسها؛ إذ لا يكفي - إذا كان جادا ومخلصا بحق - أن يكون له حظ من البراعة والذكاء لمعرفة إحدى الحقائق، بل لا بد أن تملك هذه الحقيقة عليه نفسه، أن يجربها ويتعذب بها بما هو شخص وإنسان، خاصة إذا كانت تتعلق بمعنى وجوده وبمعنى العالم وحقيقة الحياة.»
من هذين النصين «القديمين» نلاحظ مدى قربي «الفطري» من فلسفة الحياة، حتى قبل أن أقرأ في بعض أعمال أصحابها، وفي مقدمتهم برجسون (من خلال الكتاب الرائع عنه لأستاذي وزميلي الدكتور زكريا إبراهيم رحمة الله عليه) ودلتاي (لا سيما من خلال كتابه التجربة والأدب)، وبعض الأعمال القليلة للودفيج كلاجيس وجورج زيميل وماكس شيلر القريب منهم، وكذلك مدى قربي بحكم العاطفة والتعاطف والفهم عن طريق القلب والحب قبل العقل، من فلاسفة الوجود أو الوجوديين (من باسكال ونيتشه وشوبنهور، وبعض أعلام التصوف في الشرق والغرب، إلى هيدجر وكاسبرز وكامي، الذين وضعنا لكل منهم كتابا مستقلا ...)
بهذه المعاني السابقة التي تتحول معها الفلسفية والانشغال بها والكتابة فيها إلى تجربة حية، أعتقد - إن لم أكن مخطئا أو مبالغا - أن معظم المقالات والدراسات التي ستطالعك وتطالعها في هذا الكتاب هي تجارب عشتها؛ أي كابدتها وعانيتها، حتى ولو كانت تتسم في بعض الأحوال بالنزعة النقدية والتحليلية، أو تميل إلى أن تكون علمية، ولا تخلو من موضوعية بعيدة عن الذات وهمومها وتجاربها، حتى هذه الدراسات والمقالات من النوع الأخير كنت كثيرا ما أحولها أو تتحول عند صياغتي لها إلى تجارب ذاتية وشخصية.
بعد هذا التمهيد يمكنني أن أستعرض مع القارئ باختصار شديد بعض الظروف النفسية والاجتماعية التي أحاطت بنشأة هذه المقالات، وبعض التجارب الحياتية والفكرية التي دفعتني إلى تدوينها في لحظتها قبل أن تغرق كالأسماك الصغيرة في بحور النسيان والغياب والسأم التي تكتسحنا موجاتها كل يوم وبلا رحمة، ولعل هذه البحوث والمقالات - إذا جاز هذا التعبير - أن تكون جزءا لا يتجزأ من سيرة حياتي العقلية والروحية التي تمزقت طويلا بين البحث والإبداع، وتكسرت أمواجها على صخور الغدر والتجاهل اللذين طالما واجهتهما وحاولت أيضا أن أتجاهلهما؛ حتى أستطيع على الأقل أن أواصل التنفس.
وأبدأ بالمقال الأول في هذا الكتاب، فأقول إنني كتبته في العام 1993م متأثرا بالصور المؤلمة التي كانت تبثها وسائل الإعلام عن الحرب أو بالأحرى المجزرة التي أقامها «أبطال» الصرب لمسلمي البوسنة، ووقف العالم فترة طويلة من مذابحهما موقف المتفرج. كنت أيامها أعمل في جامعة الكويت، وأفكر كثيرا في جدوى الفلسفة ودورها الممكن والضروري في الاهتمام بحياة الناس اليومية وبالقضايا التي تشغل وعي وضمير الإنسان العادي البسيط (أو الرجل الصغير)، وإمكانات تواصل الفلسفة معه لتوسيع آفاق هذا الوعي، ومعرفة المعايير التي يبني عليها أحكامه وقيمه، ومساعدته على تكوين رؤية للعالم والحياة تساهم في دفع حركة تاريخه ومجتمعه المحلي نحو التطور والاستنارة، وترسيخ قيم الحرية والعدل والخير والتسامح، والتواصل مع الغير أفرادا وشعوبا وثقافات لزرع شجرة الأمل في مستقبل بشري أفضل وأجمل. ودفعتني مذابح البوسنة أيضا إلى التفكير الطويل في إمكان وضرورة قيام محكمة للضمير على المستوى المحلي والدولي، على غرار محكمة راسل وسارتر وغيرهما من كبار حكماء العالم وعلمائه وكتابه، لا لإدانة حرب فيتنام وحدها، بل كل أشكال الظلم والقهر والقمع وإذلال الإنسان وتشويهه وإهدار كرامته وحقوقه الطبيعية في الحرية والسعادة والتفكير والتعبير الحر.
مرت الأيام ولم أستطع أن أبدأ المشروع الأول، ولا حتى استطعت أن أعرف من أين أبدؤه، ثم داهمتنا أشكال أخرى من العنف وإرهاب الجماعات المتطرفة والدول، وتابعنا العدوان الوحشي على لبنان، والعدوان اليومي المستمر على أشقائنا في فلسطين، والغزو الهمجي للعراق الذي حول أم التراث والشعر والعلم العربي الإسلامي إلى عماء دموي، أو مقبرة جماعية لا ندري متى سيخرج منها هذا البلد العزيز. لقد آن الأوان للدعوة الملحة لتشكيل محكمة الضمير من كبار حكماء البشرية وعلمائها وكتابها بكل وسيلة ممكنة، كما آن أوان مساهمة المتفلسفين الصادقين من شتى البلاد في جعلها حقيقة حية لإنقاذ مصير البشرية من حمق الإرهابيين والمستبدين وكل مجانين العصر. هل ستصادف الكلمات السابقة أي صدى لدى شباب المشتغلين بالفلسفة وبالمعرفة بوجه عام؟ وهل يمكن أن يظهر من بين الأمواج العكرة والاضطراب والإحباط واللامبالاة من يهتم بالكتابة عن «فلسفة» رجل الشارع أو الرجل العادي البسيط؟ ربما لا تتحقق هذه الآمال - إن قدر لها أن تتحقق وترى النور! - إلا بعد أن أصبح أنا وأمثالي ترابا وذكرى لا يتذكرها أحد، لكن المهم قبل كل شيء وبعد كل شيء هو بقاء شجرة الأمل باسقة وشعلة نجمته متوهجة، مهما ادلهمت الظلمات من حولنا.
وتأتي مقالة «الأزمة أم الإبداع» التي أشعر اليوم - بعد كتابتها بأكثر من خمس عشرة سنة - أنها كانت صدى «نظريا» أو انعكاسا تجريديا غير مباشر للأزمة الناجمة عن أم المحن (الغزو العراقي الغاشم الأحمق لدولة الكويت الصغيرة المستنيرة) في تاريخنا العربي والإسلامي الحديث والقديم على كثرة محنه وفتنه. كنت أيامها أعيش مع أسرتي في القاهرة خلال الإجازة الصيفية. قضت المحنة بأن أمضي عاما كاملا في انتظار تحرير الكويت والعودة إلى عملي بجامعتها، وكان من الطبيعي أن تجدد أم المحن تفكيري وانشغالي الدائم بمشكلة التسلط والطغيان، وأن تؤكد سوء ظني به وإلحاحي المستمر في معظم كتاباتي الفلسفية والأدبية السابقة، بل في أكثر قصصي ومسرحياتي، على التخلص من جميع أشكاله وصوره المحبطة في شتى ميادين حياتنا، وكنت قبل ذلك بشهور قليلة قد فرغت من كتاب ضخم عن أدب الحكمة البابلية، وأتاح لي أن أتعمق «جذور الاستبداد» والطغيان في العراق القديم، وأن أطيل التفكير في قضية الحرية الغائبة عن حياتنا العربية لا عن العراق وحده، وأنشغل بطبيعة الحال بطاغيته وبطله الملحمي «جلجاميش»، واغتنمت فرصة الإجازة الإجبارية، فعكفت على تجسيد المخطط القديم عن هذا البطل في مسرحية ملحمية سميتها «محاكمة جلجاميش» (ونشرتها دار الهلال في كتابها الشهري سنة 1992م)، ثم فاجأني صديقي العزيز العالم الكبير والناقد الأدبي الفذ الدكتور عز الدين إسماعيل - رحمة الله عليه - بأن طلب مني مقالا عن الإبداع في الفلسفة لينشر في أحد أعداد مجلة «فصول» المرموقة التي كان يرأس تحريرها. لم يكن همي في الحقيقة هو الوقوف عند نقد الفلاسفة لمذاهب بعضهم البعض ومناهجهم لإبداع مذاهبهم وأذواقهم ومناهجهم الجديدة؛ فتاريخ الفلسفة منذ أن نقد أنكسمسمندروس أستاذه طاليس هو تاريخ النقد المتصل ونقد النقد. أضف إلى ذلك أنني كنت مشغولا بتهيئة نفسي لإعداد بحث عن المقولة التي شاعت في السنوات الأخيرة، خصوصا عند هيدجر ورورتي - كما سبق القول - وإن كانت جذورها واضحة عند ماركس ونيتشه، وهي مقولة نهاية الفلسفة والميتافيزيقا التقليدية، وضرورة تجاوزها بلغتها ومصطلحاتها ومشكلاتها الأبدية لإبداع «فكر وجود» جديد، أو تكييفها للممارسة العملية والثقافية في الواقع العملي. صحيح أنني لم أتم هذا البحث أبدا، ولم تبق لدي رغبة ولا قدرة على إتمامه، لكن الأمر في نظري كان وما يزال هو إبداع الذات العربية لذاتها ووجودها وقدرها وحاضرها ومستقبلها من خلال كفاحها التقدمي المستنير وعلى ضوء تراثها العظيم، إبداعا جديدا تؤكد به حريتها ورسالتها وجدارتها بالإسهام في الجهد المشترك لإنقاذ البشرية التي تقف على شفا الاندثار.
وحتى لا أقع في التعميم الإنشائي كتبت هذا البحث عن أزمات التناقض المنطقي والتاريخي، التي رأى بعض الفلاسفة أن يخرجوا منها بإبداع رؤى ومناهج أخرى جديدة. هل وقع في ظني آنذاك أن تخرج أمتي العربية - التي شقت المحنة جسدها، وصرعت حلمها بالوحدة والتضامن - من تلك الأزمة، وتبدع ذاتها وحاضرها إبداعا جديدا؟ وكيف تصورت هذا وما زلت أتصور إمكانه مع تفاقم المحنة، وتحول العراق بعد الغزو الأمريكي إلى جحيم دموي، واستمرار العدوان الصهيوني اليومي على شعب فلسطين، وتصميم القوة الكبرى وحلفائها على التربص بنا ونهب ثرواتنا وإذلالنا؟ إنني لم أتخل أبدا حتى في شيخوختي الراهنة عن التمسك براية الأمل، ويقيني أن «أم المحن» قد أكدت في الوعي العربي العام حتمية الحرية والديمقراطية إذا أردنا أن يكون لنا إبداع أو حتى أثر للوجود في أي مجال. ولقد أخذت بعض دولنا بالتجربة الديمقراطية، حتى ولو بقيت في بعضها على المستوى الشكلي والقانوني وحده، واقتنع الجميع - الذين تكتل بعضهم بالفعل لتحقيق مصالح مشتركة - بحتمية الوحدة العربية على أسس واقعية ومصلحية جديدة، وبقي على المشتغلين بالفلسفة وبالهموم الثقافية بوجه عام أن يواصلوا إضاءة الطريق نحو إبداع وجود عربي يرتكز على بديهية الحرية، وتحرك تاريخه وحاضره القيم الحية والضمائر اليقظة الطاهرة. والواقع أن تتابع موجات الاجتهادات الفلسفية المبدعة، منذ جيل أساتذتنا إلى الجيل الحاضر من إخوتنا وأبنائنا الذين يصعب حصر أسمائهم، يجعلني أزداد تشبثا براية الأمل على الرغم من كل المحن، ومن خطر الوقوع كل لحظة - أنا ورايتي! - في مستنقع التشرذم والفساد والغدر والتآمر والتبلد، الذي تزكم روائحه الكريهة أنف كل عربي مؤمن بأن التوحد هو قارب الإنقاذ الوحيد من مشانق المصاب التي تزحف ليل نهار على رقابنا.
أما عن «النظرية النقدية»، فقد كتبت هذه المقالة أثناء الإجازة الاضطرارية التي سبق أن أشرت إليها، وكانت مجلة «الوحدة» التي يصدرها المجلس القومي للثقافة العربية هي التي طلبتها مني لتنشر في عدد نوفمبر 1992م، الذي كرسته للفلسفة والفكر المعاصر. وقد رحبت بهذا التكليف - على الرغم من كراهيتي لأي تكليف من أي نوع كان - لأنني كنت وما زلت مقتنعا بأن الحياة والفكر لا يستقيمان بغير نقد حر مستقل، وأن ممارسة النقد في كل ميادين الحياة الاجتماعية والروحية هو الدليل الناصع على الاعتراف بحرية الناس وحقهم المقدس في التعبير والتفكير بعيدا عن كل المخاوف والضغوط. والحقيقة أن قصتي مع النقد قصة طويلة وطريفة؛ فقد بدأت أومن بضرورته القصوى بعد أن فرغت من قراءة «نقد العقل الخالص» كلمة كلمة وسطرا سطرا أثناء دراستي في جامعة فرايبورج تحت إشراف أستاذي فولفجانج شروقه، الذي درس على يدي هسرل وهيدجر عندما كانا من أبرز الأساتذة فيها، تشرفت بعد رجوعي إلى الوطن بترجمة كتابه الأساسي «فلسفة العلو» (حوالي سنة 1972م). لم يكن أستاذي من النقديين بأي شكل من أشكالهم وتياراتهم العديدة؛ إذ اتجه نحو تصوف دنيوي أو عالمي لم يزل يتابع كتابة حكمه وشذراته العميقة فيه. كان أستاذي الأول إذن في النقد هو كانط صاحب الفلسفة النقدية المعروفة، لكني - مع إعجابي به إلى حد الانبهار والإكبار - لم ألبث أن مارست عليه النقد المعروف، وهو أن نقده للعقل معرفي بحت، ويفتقر إلى الأبعاد التاريخية والاجتماعية المتغيرة التي تغير معها بنية العقل وأدواته، ثم حانت فرصة أخرى للتعرف على أحد التيارات النقدية المعاصرة التي لم تخل من العدوانية والتهجم الشديد على التيارات الفلسفية المعاصرة لها، كما لم تخل - في تقديري - من الرومانسية ومحاولات التشويه المغرض لكل من الماركسية في الشرق والليبرالية الديمقراطية في المجتمعات الصناعية الغربية دون تقديم بديل مضاد ومقنع. كان ذلك عندما عكفت في أواخر سنة 1978م، وفي ليل صنعاء الطيبة الأصيلة المنعم بالصمت والسكينة والهدوء، على قراءة بعض أعمال رواد النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. وكنت منذ الأيام الأولى لوجودي باليمن قد بدأت الإعداد لكتابين؛ عن أفلاطون (وهو الذي ظهر بعد ذلك تحت عنوان: المنقذ، قراءة لقلب أفلاطون)، وعن جدوى الفلسفة أو عدم جدواها بالنسبة لعالمنا العربي المتخلف والممتحن بالهزائم والمصائب والأخطار التي تهدده من داخله ومن خارجه. وظهر الكتاب في سنة 1981م تحت عنوان «لم الفلسفة؟» كان من المحتم علي أن أقدم دفاعا نقديا عن ضرورة الفلسفة في ذلك الوقت وحتى الآن أكثر من أي وقت مضى. وتيسر لي أن أطلع على بعض كتابات أدورنو، مثل كتابه عن المصطلح الفلسفي ومقاله عن ضرورة الفلسفة، إلى جانب كتاب زميله ومؤسس مدرسة فراكفورت النقدية ماكس هوركهيمر عن الوظيفة الاجتماعية للفلسفة، والكتاب الشهير الذي اشتركا في تأليفه، وهو «جدل التنوير». لم تف هذه القراءات بالحاجة إلى معرفة هذه المدرسة معرفة كافية، وجاء تكليف مجلة «الوحدة» بعد ذلك، فنبهني إلى ضرورة التعمق في أفكار هذه المدرسة على قدر الطاقة، وبلغ إلى علم أستاذي الحبيب فريتس شتيبات - رحمة الله عليه ورضوانه - من إحدى رسائلي إليه أنني مشغول بالنقد وبهذه المدرسة، فأرسل إلي على الفور كتاب فيجرهاوس الضخم عن مدرسة فرانكفورت النقدية - تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية. وغرقت في الكتاب، وفي تدوين ملاحظاتي النقدية على هذه المدرسة، في مقال طويل نشر في المجلة السابقة الذكر، ورجعت إليه بعد ذلك فنشرته في سلسلة حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت (الحولية الثالثة عشرة، الرسالة الثانية والثمانون، 1413ه/1993م)، وذلك بعد إضافة تعريفات وافية بأهم أعلام هذه المدرسة (أدورنو - وهوركهيمر - وماركوز - وهابرماس، إلى جانب أهم الرواد الذين أثروا عليهما، وهما جورج لوكاتش والفيلسوف الطوباوي إرنست بلوخ).
سأكون مقصرا في حق نفسي وثقافتي لو اقتصرت على ذكر المصادر والمنابع الغربية السابقة؛ فقد طالما تأثرت ببعض الأعلام العرب المعاصرين من أساتذتي الذين أدين لهم بكل العرفان والتقدير؛ لفضلهم العظيم في تكوين عقلي ورؤيتي النقدية. وإذا كانوا أكثر من أن تحصيهم الذاكرة، فأكتفي بتسجيل هذه الأسماء الكريمة: زكي نجيب محمود رحمة الله عليه، الذي هزتني وزلزلتني - منذ استمعت إلى محاضراته التي كان يلقيها علينا في أواخر الأربعينيات - ثوريته النقدية ونقده الثوري لمعظم المفاهيم والمعايير والقيم، التي صور لنا التلقين والتقليد أنها راسخة وثابتة وأبدية؛ وأستاذي وصديقي العظيم فؤاد زكريا - شفاه الله وعافاه - الذي طالما بهرتني بصيرته النقدية الحادة الثاقبة في كل ما كتبه على وجه التقريب. وأخيرا يسعدني تزايد الاهتمام بهذه المدرسة في السنوات الأخيرة في كل من لبنان ومصر، وإقبال بعض أبنائنا على تسجيل رسائلهم العلمية عن بعض أعلامها البارزين، وبعض القضايا التي تركتها معلقة ودون حسم، ومن أهمها قضية «النظرية النقدية» نفسها التي لم يوفق أصحابها إلى بلورتها في صورة مقنعة.
ونأتي إلى المقال التالي عن ماكس شيلر، الذي أعده نموذج الفيلسوف الذي اقترب على الدوام من هموم الناس وقضاياهم ومشكلاتهم اليومية الملحة، كما لم يغب عنه شيء من تطورات العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية في عصره . كان في نيتي أن يكون هذا المدخل مجرد مقدمة عامة لكتاب كبير عن فيلسوف «القيم المادية» القائمة على عواطف وانفعالات الشخص الإنساني، وأن يكون تمهيدا للأنثروبولوجيا الفلسفية التي احتشد لها سنوات طويلة، وكان في عزمه أن يصدرها في مجلد ضخم، لكن الظروف والمشاغل والهموم التي عصفت بحياته المضطربة لم تسعفه لتحقيق مشروعه الكبير، فتمخض في أواخر حياته عن كتاب صغير هو «وضع الإنسان في الكون»، استطاع بشق النفس أن يرسم فيه المعالم الرئيسية لتلك الأنثروبولوجيا التي يعد أحد مؤسسيها الكبار، وصدر قبل رحيله المفاجئ (عن دار فراتكه في برن وميونيخ) بأسابيع قليلة عندما داهمته أزمة قلبية غادرة، وكنت كذلك قد نويت على ترجمة هذا الكتاب الصغير، لكن قراءتي المتأنية له أثبتت عجزي عن فهم المعلومات والمصطلحات العلمية الواردة فيه فهما صحيحا، بجانب عجزي عن متابعة التطورات اللاحقة في العلوم الطبيعية والإنسانية، التي لا شك في أنها غيرت كثيرا من الحقائق والمعطيات التي ذكرها، واستند إليها في تمييزه لوضع الإنسان العاقل والقادر على الحب عن أوضاع جميع الكائنات الأخرى في سلم الوجود الطبيعي والحيوي والعقلي. أضف إلى هذا ندرة المراجع التي وجدتها تحت يدي، لا سيما في مؤلفاته التي تعذر علي التوصل إليها، بجانب ما أصابني مع التقدم في السن من ضعف الصحة والبصر؛ لذلك اكتفيت بهذا المدخل الشامل الذي لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون تضمينا أمينا لكتاب واف عن حياة الفيلسوف وفكره الفلسفي للأستاذ فيلهلم مادير، وهو الكتاب الوثائقي الذي صدر سنة 1980م في سلسلة «روفولت» الشهيرة، التي تضم وثائق مصورة عن حياة وأعمال عدد كبير من مشاهير الفلاسفة والأدباء والفنانين في كل العصور والثقافات. للأمانة أقول أيضا إن الإشارات إلى أعمال شيلر نفسه مأخوذة عن الكتاب المذكور، وإنني لم أتصرف فيه إلا في القليل النادر. وأملي أن يكون فيه بعض الفائدة لشباب المشتغلين بالفلسفة الذين أتمنى أن يهتموا، في دراسات أعمق وأوسع، بفيلسوف القيم الكبير في وقت ما أحوجنا فيه إلى القيم الحقيقية، التي كادت أن تنسى وتداس بالأقدام بعد أن غلبت على حياتنا وفكرنا وسلوكنا «اللاقيم» السلبية والنفعية التي شوهت شخصية المصري، وسلبته الوعي بحاضره ومستقبله ورسالته الإنسانية والأخلاقية والقيمية، على يد عدد هائل من الشطار والانتهازيين واللصوص الكبار والصغار، الذين لم يرعوا للوطن ولا للحرية والعدل الاجتماعي حرمة ولا ذمة، ولا تذكروا للحظة واحدة أن بلدهم هي مهد الضمير، وموطن «معات» حارسة الحقيقة، والناموس الأخلاقي والكوني الخالد.
وهذا الحوار الذي أثبته هنا مع الأب والمعلم الحكيم، الذي أتمنى أن يستمد منه الشباب المثل الأعلى والقدوة السامية، هو في الحقيقة تجربة حية بالمعنى الذي وصفته في بداية هذا التمهيد، وهي تجربة لا أكف عن استعادتها بالمعنى الذي ألح عليه فيلسوف الحياة دلتاي، ولا أمل اللجوء إلى دفئها وحنان صاحبها وحكمته ورعايته (التي أسبغها على عدد كبير من أبنائه العقليين والروحيين الذين تشرفت بأن أكون واحدا منهم).
أقول إنني كثيرا ما أستعيد هذه التجربة الحية النادرة بين تجارب حياتي القليلة، التي قدر لي فيها أن أحب أو أفرح أو أسعد لحظات برعاية راع أو بنظرة محب وفي، وذلك كلما ضربتني شمس صحراء الغربة والوحدة والإحباط والمرارة. إن في تجربة هذا الحوار الشيق والعميق عزاء أي عزاء، وهو يغنيني ويغني القارئ عن المزيد.
ليس عندي كذلك ما أضيفه إلى هذا المقال سوى بعض المعلومات التي لا تهم القارئ العادي، وإن كان من الممكن أن تفيد أحد الباحثين أو المؤرخين «لأم المحن» وتوابع زلازلها الجهنمية، التي ما زالت تهز العراق الشقيق، وتغرقه في جحيم دموي، وتمزق الصف العربي، وتكسر أجنحة حلم الوحدة العربية التي لا بديل عنها إن أردنا أن نوجد ونكون: (أ)
كنت في أوائل التسعينيات قد كلفت من قبل رئيسي فؤاد زكريا، الذي هو في الوقت نفسه أستاذي وصديقي العظيم، بتدريس الفلسفة الشرقية بجامعة الكويت. قبلت التكليف راضيا وشاكرا، ورحت أشبع جوعي وظمئي القديمين (طوال أربع أو خمس سنين) للاطلاع على ما أقدر عليه من نصوص الفلسفة الشرقية؛ من الحكماء الدينيين والأخلاقيين في مصر القديمة وفي سومر وبابل وآشور، إلى الزرادشتية والبوذية والطاوية والكونفوشيوسية، وذلك على الرغم من التحفظ الذي أبديته للأستاذ والصديق الكريم، وهو أن دراسة «الحكمة» أو الفلسفة الشرقية دراسة جادة لا تتسنى أبدا بغير العلم بالنصوص الأصلية، وما أقل العارفين بها في بلادنا العربية! (ب)
وشاء حظي - السعيد في هذه المرة! - أن أعثر في مكتبة جامعة الكويت (كنا في أواخر الثمانينيات، وقبل المحنة التي أطبقت كوارثها على الكويت وعلينا جميعا في أول شهر أغسطس سنة 1990م)، أقول شاء حظي أن أعثر على كتاب قيم لعالم الآشوريات الإنجليزي الكبير لامبرت، يضم صورا للألواح الأكدية للنصوص الكاملة لما يسمى بأدب الحكم البابلية (صدر الكتاب تحت عنوان أدب الحكمة البابلية، سنة 1967م، أكسفورد، مطبعة كلاريندوز). شدني الكتاب كما جذبتني الحضارة البابلية بجلالها وسحرها وغموضها أكثر من أربع سنوات، تسنى لي فيها أن أعرف عن السومريين - شعب الثقافة الأولى في وادي الرافدين - ما لم أكن أعرف، وأن أعيش تجربة حية وإن تكن كئيبة وقاسية مع التاريخ البابلي والآشوري السياسي والاجتماعي، بل مع عالمهم الأخروي الذي لم ألمح فيه شعاع أمل واحد، وعكفت على ترجمة أدب الحكمة البابلية بأكمله، وقدمت له بمقدمة طويلة عن الحكمة الشرقية بوجه عام، وجدارتها بأن تكون هي فجر الفلسفة العقلية التي نعيش تراثها العظيم، منذ طاليس وفيثاغورس حتى هيدجر وهابرماس ورورتي وغيرهم، وكان أن أتممت كتابي «حكمة بابل» بعد جهد ثلاثة أعوام متصلة، وسلمته لسلسلة عالم المعرفة، التي ظهر فيها في عدد ديسمبر سنة 1994م تحت عنوان مختلف وهو جذور الاستبداد، قبل رجوعي للقاهرة في إجازة العام الدراسي، ثم صدمتي في أم المحن التي أطلق كارثتها شيطان العراق الأحمق وطاغيته الغبي. وكان من الطبيعي أيضا أن أغرق في دراسة درة الحضارة البابلية، وهي ملحمة جلجاميش، التي توفرت عليها في «الإجازة الاضطرارية» التي سبق أن أشرت إليها، واستوحيتها في نفس الوقت مسرحية ملحمية ظهرت في سلسلة كتاب الهلال سنة 1992م. ولما رجعت إلى مقر عملي بعد التحرير بدا لي من الواجب أو من الخير أن ألحق المسرحية بترجمة جديدة للملحمة الشهيرة (إذ لم ترضني الترجمات العربية السابقة كل الرضا)، وتفضل قسم النشر بجامعة الكويت بنشر هذه الترجمة عن الألمانية بعد أن تكرم صديق العمر العزيز والمتخصص في الساميات، وهو الدكتور محمد عوني عبد الرءوف، بمراجعتها على الأكادية مراجعة دقيقة (وقد نشرتها بعد ذلك دار النشر أبولو، ثم هيئة قصور الثقافة ...)
وأخيرا لا أجد ما أقوله عن الملحمة وافتتاني بكنوزها الأدبية والفلسفية التي لا تنفد، أكثر مما قلته في المقدمة المسهبة للترجمة، وفي سياق كتابي «جذور الاستبداد». ها هي المحنة ما زالت مستمرة، وها هو شعب العراق الحبيب الموهوب، والغني بتراثه من العلماء والشعراء منذ عهد العباسيين، بل منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، ها هو يذبح أبناؤه كل يوم، وينهب تراثه، ويدمر تدميرا. والمؤامرة الصهيونية-الأمريكية تحكم على رقبته شبكتها العنكبوتية الدموية، وأخطبوطها الكابوسي الرهيب، ومشنقتها الكئيبة التي قضت على الطاغية المغرور بطريقة مهينة لكل العرب. ولسنا ندري متى يرجع العراق الحبيب لأمته مرفوع الرأس موفور الكرامة، ولا متى نخرج نحن من موقفنا المخجل المهين، موقف المتفرج، فيشارك كل منا على قدر طاقته في البعث الجديد لنهضة هذا الشعب البطل، الذي جنى عليه وعلينا الطاغية الذي طالما تمسح في جلجاميش، ووضع صورته - كما سمعت - إلى جانب صورة للبطل السومري القديم على مدخل مدينة كربلاء، وليته تعلم شيئا منه أو حاول أن يتطهر مثله من ذنوبه القاتلة التي أوقع شعبه في حفرتها المميتة كما أوقع العرب أجمعين. «تا-وتي-كنج»: لست في حاجة للكلام عن هذا الكتاب الشهير عند كل المثقفين الحقيقيين، سوى أنه كان وما يزال أحب كتاب إلى قلبي. والمقال الذي ستطالعه عنه كان في الواقع استجابة لمجلة الهلال، وجوابا على سؤالها الطريف عن أحب الكتب إلى قلبك. لم أتردد في القول بأنه هو كتاب الطريق (أو التاو، وهو مصطلح فلكي في الأصل، لكنه أصبح عند أتباعه الطاويين هو طريق الحقيقة أو طريق الحكمة)، والفضيلة (تي) التي تترجم أحيانا بالحياة وأحيانا أخرى بالحقيقة.
وقد سبق أن نقلت هذا الكتاب الخالد إلى العربية حوالي سنة 1964م، وظهر في سلسلة الألف كتاب الأولى عن دار النشر سجل العرب، وقرأه الكثيرون الذين أمكنهم التوصل إليه، وأحبه الكثيرون ممن تجاوبوا مع فلسفته الصوفية التي تتلخص في البساطة والوداعة وعدم الفعل؛ أي البعد عن كل ما يجرح السكينة ويورث العنف والقلق والصراع. إنه كتاب الديانة الطاوية التي تدعو للرجوع إلى الطبيعة أم الخير كله، والتمسك بالهدوء الذي يغلب القوة والطغيان والجبروت، كما تفتت الصخر الجامد قطرات الماء الرقيقة.
قلت إني لا أجد عندي ما أضيفه عن هذا الكتاب؛ لأن المقال يكاد أن يكون تلخيصا وافيا لمعناه ومضمونه الذي عرضه الحكيم لاو-تزو (من القرن الخامس قبل الميلاد) في واحد وثمانين مقطوعة شعرية، قمت بنقلها إلى العربية (عن الترجمتين الألمانية والإنجليزية لكل من ديبون وآرثر والي ...)
أستطرد قليلا فأقول إني قلت في مقدمة الكتاب الذي مرت على ترجمته للعربية أربعون سنة ما معناه أنني أدعو الله أن يقيض له من أبنائنا من يترجمه عن الصينية مباشرة. وقد سمعت قبل أيام أن أحد أساتذة اللغة الصينية في كلية الألسن، وهو الدكتور محسن سيد الفرجاني، قد ترجمه إلى العربية ونشره ضمن سلسلة المشروع القومي للترجمة (التي سبق للمترجم الفاضل نفسه أن نشر فيها محاورات كونفوشيوس). لا أملك الآن إلا الترحيب بهذه الترجمة التي لم أطلع بعد عليها ولا أستطيع الحكم عليها، ولكنني آمل أن تكون قد وفقت في التعبير عن المعاني الصوفية والإنسانية العميقة في هذا الكنز الصوفي بلغة عربية مكافئة للنص. ويبقى في النهاية أنني استلهمت من هذا الكتاب قصة طويلة نشرت في الكتاب التذكاري الذي أعده الأبناء والتلاميذ الأوفياء لأستاذهم الناقد الكبير الدكتور محمد حسن عبد الله (كلية دار العلوم، الفيوم، 2001م).
لا أحسبني في حاجة لإطالة الكلام عن «عالم صوفيا»، ولا عن «ثورة إلى الأبد»؛ فالأولى رواية تحقق الزواج السعيد بين الفلسفة والفن؛ إذ تعرض أهم الأفكار والشخصيات والمذاهب في تاريخ الفلسفة الغربية، وتضعها في قبضة صبية صغيرة؛ ومن ثم في قبضة أي إنسان عادي بسيط، ليعرف نفسه، ويسأل السؤالين الكبيرين: من أنا؟ وما العالم أو الوجود الذي يحيط بي؟ ولم يكن هدف المؤلف النرويجي هو إلقاء دروس في الفلسفة على فتاة صغيرة بريئة، وبلبلة خاطرها بالاندهاش والحيرة والارتباك التي هي أصل التفلسف، بل كان هدفه في تقديري هو إيقاظ وعي البشر العاديين على حقائق عالمهم وأباطيله، ودعوتهم لجعل الحقائق الفلسفية حقائق حية، والتكاتف مع بعضهم لتغيير الواقع وتخليصه من الظلم والجهل والقبح والشر والعدوان. هو في النهاية حلم يوتوبي جميل في رواية شديدة الجمال، ليتنا نظل نحلم به، ونواجه به واقع العالم السيئ والعصي على التغيير! أما الثورة إلى الأبد فتعود إلى أب الثوار في كل العصور والحضارات، بل أب البشر وخالقهم العطوف عليهم في الأساطير الإغريقية، وهو بروميثيوس سارق النار الشهير من آلهة الأوليمب، وذلك من خلال شذرة مسرحية ألفها جوته الشاب في مرحلة الجموح والإيمان بالعبقرية لدى الفرد العبقري المبدع، وهي التي تسمى مرحلة العصف والدفع في تاريخ الأدب الألماني. هل ينجح هذا المقال في إقناع القارئ بضرورة الإيمان بالثورة الخالدة والتمسك بها في كل مجال؟ وهل يغري المبدعين بأن يكونوا بروميثيين في كل ما يبدعون؛ أي يكونوا ثوريين بحق؟
وأخيرا تأتي سيرة قصيرة وحوار قصير أيضا، ربما ساعدا مع التجارب السابقة على إلقاء شيء من الضوء على تجربتي الفلسفية المتواضعة والمحدودة. في هذه السيرة وفي الحوار شيء من الاعتراف الصادر عن القلب بعد رحلة العمر مع الفلسفة والأدب، نشرت السيرة في باب التكوين الذي دأبت مجلة الهلال على مدى سنوات طويلة على استكتاب عدد كبير من الأدباء والفنانين والعلماء والأعلام في شتى الميادين ودعوتهم للمشاركة فيه، وذلك في عدد سبتمبر سنة 1990م أثناء الإجازة الإجبارية التي سبقت الإشارة إليها، وربما انعكست عليه ظلال من نيران الحزن والفجيعة التي أشعلتها أم المحن التي لم نزل نعيش في آثارها المدمرة.
أما الحوار فقد أجراه معي صديقي الرقيق شاعر قصيدة النثر جرجس شكري، ونشرته مجلة «نزوي» العمانية، التي يرأس تحريرها الشاعر سيف الرحبي، وقد وقعت عليه بالصدفة ضمن ركام أوراق منسية، فراجعته ووجدت أنه يستحق أن يضاف إلى هذه التجارب بما فيها من اعترافات ظاهرة أو مضمرة.
وفي النهاية أسأل هذا السؤال: هل يوحي هذا التمهيد مع المقالات والدراسات التالية، بالإضافة إلى ما سبق أن نشرته قبلها، بأنني قد أصبحت فيلسوفا؟ أجيب على الفور: قطعا لا! إنما هي طرقات على باب الفلسفة، كما قال لي الأب والمعلم العظيم زكي نجيب محمود في حديثي معه. لقد كانت غاية جهد جيلنا كله وجهود الأجيال التي سبقتنا هو تمهيد الأرض للتفلسف الحقيقي المبدع، والأمل معقود على الأجيال التالية لتحقيق هذا الهدف الكبير، ولن تحققه حتى تبدأ من القضايا والمشكلات والعلاقات اليومية من حولها، ثم تعمم وتنظر على طريقة الفلسفة، وعلى هدي خلفية واسعة من تراثها العريق في الشرق والغرب. وليتها تبدأ بالاهتمام بفلسفة الأخلاق ومبحث القيم؛ فما أشد حاجتنا لاستعادة القيم الحية التي داستها أقدام العصر، ومرغتها ثقافة الانحطاط في الوحل والطين!
القاهرة
في شهر شعبان 1428ه
الموافق شهر سبتمبر 2007م
هوامش
الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
هذه أفكار دامعة أو دموع فكرية، أذرفها استجابة لطوفان الدموع التي تفيض أمامنا كل يوم في نشرات الأخبار وفي الصحف اليومية، من عيون الألوف المؤلفة من ضحايا العدوان الصربي الوحشي والقتل الجماعي وذبح النساء والعجائز والأطفال، ومن عيون الرضع والشيوخ والشباب الجائعين في جنوب السودان والصومال، ومن فواجع اللاجئين والمشردين نتيجة الاضطراب الشامل على أعتاب ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. وهي تنبع من حيرة المتفلسف أو المشتغل بالفلسفة (ولا أقول الفيلسوف؛ لأنه لم يزل غائبا عن ساحة الاضطراب العالمي والمحلي)، كما تعبر عن يأسه وغضبه من عجزه وعجز معرفته وفكره عن مواجهة البركان المتفجر في كل مكان بأدواته وإمكاناته التقليدية، وعن خيبة «الحكمة الخالدة» إزاء الجنون الذي يوشك أن يغرق جنس «الحيوان العاقل» ويدمر وجوده، ويزري بكل ما يعتز به من تقدم وتطور واستنارة وحضارة وعلم وفن ... إلخ، كادت كلها - أمام أهوال الفظائع الفاجعة - أن تستحق الإلقاء بها في أقرب صندوق للقمامة.
وهي تنطلق من فكرة توقفت عندها طويلا لفيلسوف الحياة والاجتماع جورج زيميل (1858-1918م)، عبر فيها عن دهشته من أن الفلسفة في تاريخها الطويل لم تكترث بعذاب الإنسان وتعذيبه عبر العصور.
1
وقد التقط هذه الفكرة فيلسوف آخر معاصر - هو أدورنو (1903-1969م) - أحد أعضاء الجيل الأول البارزين للمدرسة النقدية الجدلية المعروفة باسم مدرسة فرانكفورت، فأقام عليها فلسفة متشائمة عن التاريخ الذي لم يكن في رأيه سوى تاريخ القمع والقهر والتسلط على الإنسان والطبيعة، كما اعتمد عليها في مراجعته النقدية مع زميله هوركهيمر لفكرة التنوير بوجه خاص بعد نكسته المروعة مع زحف جحافل النازية والفاشية، وبشاعة الكوارث التي تسببت فيها أسطورتها اللاعقلانية المدمرة. ومن الصعب إذن أن أكون «عقلانيا» وأنا أرى العقل يتردى في ظلمات «اللاعقل» الإرهابي المتشدد، والمهووس بالتعصب الديني أو العرقي أو القومي؛ هذا اللاعقل المجنون الذي يجوس خلال العالم كالكابوس، ويتربص بنا جميعا في حياتنا اليومية وفي كل الزوايا والأركان؛ على الرغم من اقتناعي الكامل بأن تحكيم العقل والإهابة به هو المطلب الأسمى في وجه الكوارث العاصفة.
ومن الصعب أن أكون نقديا وتحليليا لأضع عناصر الموقف الإنساني الراهن في ميزان النقد الموضوعي الهادئ بينما تختل كل الموازين وتهتز، وذلك على الرغم من اقتناعي أيضا بأن «النقد الفلسفي» مدعو، في هذه اللحظة أكثر من أي لحظة أخرى، إلى القيام بدوره في تحليل الواقع بكل أبعاده، وتجاوز أوضاعه القائمة، ومراجعة قيمه ومعاييره السائدة بغية تغييره من جذوره، كما أنه مدعو كذلك، أو ربما قبل ذلك، إلى ممارسة النقد على الفلسفة ذاتها؛ على مفهومها وطبيعتها ومناهجها والغاية منها، على نحو ما حدث على الدوام في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى، ومع ولادة كل فيلسوف عظيم وكل فلسفة أصيلة منذ القدم وحتى اليوم.
ومع اعترافي بعجزي تجاه المحن والمآسي المتلاحقة عن أن أكون عقلانيا ونقديا كما ينبغي لكل منتم إلى الفكر الفلسفي، فسوف أجدني مضطرا - بحكم الطبع أو بحكم الضرورة التاريخية القاسية - إلى اتخاذ موقف أقرب ما يكون إلى مواقف فلاسفة الحياة، الذين يلجئون إلى الشعور والتعاطف والحب والتفهم أكثر مما يلجئون للعقل، الذي يحددون مجاله ويقصرون استخدامه على ميادين العلم والعمل، كما يتبنون منهج الحدس، أو الفهم الأقدر في رأيهم على النفاذ إلى صميم الحقيقة الحية، والتغلغل في نهر الصيرورة والفعل المتدفق؛ هذا الفعل الذي بلغ كما أشرت من قبل حد التفجر والتدهور والجنون الوحشي المستعر.
لذلك لن أستطيع أن أعد القارئ بأكثر من أفكار مؤقتة تحتاج إلى جهد أكبر، وقراءات وتأملات وتأويلات أعمق ربما تتيحها الأيام في وقت لاحق وتساعدها على النضوج، وسيكون حالي أشبه بمن يحاول التأمل بينما ينهار السقف فوق رأسه ويهتز الأساس تحت قدميه، أو بمن يحاول رسم لوحة أو وضع لحن موسيقي في الوقت الذي تشتعل فيه نيران الحرب من حوله، أو تنهال سياط الجلادين في معتقلات العذاب والتعذيب على جسده.
أمامنا المسرح العالمي المخيف تدور على خشبته الأحداث المخيفة؛ تطرف وتعصب، عنف وإرهاب، عصابات «مافيا» وشركات احتكار عابرة للقارات ومصاصة للدماء، شعوب كاملة مهددة بالإبادة والتشريد والأوبئة والمجاعات، حوالي بليونين من البشر يعيشون تحت المستوى الأدنى للحياة الإنسانية، حكام بالاسم وحده وهم في حقيقتهم سفاحون بالجملة، كأنما انشقت عنهم قبور الآشوريين أو الرومان أو المغول والتتار، تخريب للبيئة والأرض - مهد البشر ولحدهم - تحت ضغط الضرورات الاقتصادية أو التجارب النووية أو التكنولوجيا الصناعية التي أفلتت من كل الحدود، وأوشكت أن تغتال الخضرة في كل مكان، سخط وتمرد وبطالة وجريمة وضجيج وفقدان للمعنى، لا سيما بين الشباب الثائر بلا ثورة في أرجاء العالم كله. وعلى الجملة، غياب الحكمة واغترابها عن الواقع اليومي للبشر العاديين الذين تزداد تعاستهم وشقاؤهم، واغتراب البشر العاديين والمتخصصين المحترفين على السواء عن الحكمة ومقاصدها العالمية، والإنسانية التي لم تغب أبدا عن ألباب الحكماء الحقيقيين في الشرق والغرب منذ آلاف السنين.
ونسأل السؤال الخالد الأليم: ماذا نفعل؟ ماذا يفعل المتفلسف لإنقاذ الفلسفة أو الحكمة من اغترابها عن الواقع، وينقذ الواقع من اغترابه عنها؟ ماذا يفعل لإنقاذ الإنسان من أهوال القوى الوحشية التي تشوه إنسانيته، وتمسخ حقيقته، وتزيف معناه ورسالته على الأرض؟ هل يبقى في مقاعد المتفرجين، مع العلم بأن النار التي تلتهم المسرح يمكن أن تمتد ألسنتها إلى القاعة؟
هل يمكن أن يشارك بجهده وشخصه وكتاباته مع زملائه، في الاقتراب من الغايات والأهداف الكبرى المنوطة بالعقل والفلسفة، منذ أن وجد الإنسان وبدأ الوعي التأملي في حقائق الوجود والفعل والقيم والمصير، وفي وضع الإنسان في الكون ودوره فيه، والأمانة التي يحملها خلال الفترة القصيرة لوجوده في العالم، بعد أن أبت أن تحملها السموات والأرض والجبال؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من تأكيد الاحترام والتقدير للمعرفة الفلسفية بأنظمتها وفروعها المختلفة؛ فهذه الأنظمة المتخصصة تتقدم وتمضي في طريقها المعرفي الدقيق، ولا بد أن تتابع السير فيه وأن يساهم كل منا بجهده في هذه المسيرة. هذا شيء لا غنى عن تأكيده منذ البداية بكل ما نملك من قوة ومن احترام للمعرفة العلمية الدقيقة، التي لا يشك أحد في كونها شعاع الأمل المضيء، وربما الوحيد، وسط الظلمات المدلهمة التي تزحف اليوم على وجود «الحيوان العاقل»، وتحاصر حقه في الحياة والسعادة والأمن والسلام والوعي والمعرفة.
والأسئلة التي طرحناها الآن قد لا تدخل بصورة مباشرة في الكثير من التخصصات الفلسفية الدقيقة، التي أمعنت في التخصص استجابة لروح العصر العلمي والتقني؛ لأنها إما أن تقع وراءها أو فوقها، دون أن تكون لهذا السبب هامشية أو من قبيل التزيد والفضول. أضف إلى هذا أن الإجابات الممكنة عنها والغايات المأمولة منها قد تنعكس عليها، فتخرجها قليلا من أبراج تخصصها أو تؤثر على اتجاهها، أو تقرب بينها وتساعد في النهاية على تحقيق الوحدة الكلية المنشودة، وهي وحدة الثقافة والمعرفة والإنسانية (التي طالما تطلع إليها وفكر فيها الفلاسفة بأشكال مختلفة، من بعض حكماء الشرق القديم إلى بعض السفسطائيين إلى أفلاطون والرواقيين، إلى ديكارت وليبنتز وهيجل وهسرل وياسبرز وراسل وتوينبي وعدد من الماركسيين الجدد والوضعيين المناطقة ...) ويزيد من ضرورة التفكير والعمل في سبيل هذه الوحدة الشاملة ما يتردد اليوم على كل لسان من أن الأرض قد أصبحت قرية عالمية صغيرة، وأنها مهددة بالفناء على يد أعظم وأتعس المخلوقات التي تدب عليها وأخطرهم على مصيرها، وهو الإنسان.
إننا نلاحظ اليوم أن الحكمة قد خلعت عن عرشها، وأن الفلسفة قد اغتربت عن مجتمعاتها كما اغتربت هذه المجتمعات عنها في الغرب والشرق على السواء. وطبيعي أن تختلف الأسباب هنا وهناك، وأن يبلغ الأمر حد تحريمها أو تشويه سمعتها والافتراء عليها عندنا أكثر مما هو الحال عند غيرنا. وإذا صبرت عليها «السلطة» هنا أو هناك؛ فلأنها جزء من الترف الأكاديمي الذي يستكمل به الديكور الثقافي، أو لأنها ثرثرة محصورة بين الجدران الجامعية ولا خطر منها ولا أثر لها. ولعل السبب الأعمق هو فقدان الثقة في الفلسفة، والاعتقاد بعجزها عن التأثير في مجرى الأحداث العامة وفي الوعي والرأي العام، أو في الحياة الخاصة للمواطنين المشغولين عنها بهمومهم الخاصة. وحتى إذا قلنا إن لكل إنسان بالضرورة فلسفته، فلن تكون هذه في النهاية سوى فلسفة شعبية غامضة، تتكون في الغالب من أخلاط متناقضة يحصلها الإنسان العادي من التقاليد والآراء الشائعة والأفكار والعواطف المتدفقة ليل نهار، من أجهزة الإعلام ووسائطه وأبواقه وأقماره الصناعية (التي حجبت ظلماتها المنهمرة وجه قمرنا القديم الحنون!)
إن الأسباب الحقيقية لاغتراب الحكمة وعجزها يمكن أن تنحصر في نوعين: أسباب داخلية تتعلق بالمشهد الفلسفي المعاصر عند الآخرين وعندنا، وأسباب خارجة عن الفلسفة نفسها أو خارجة عن إرادتها. وسوف أناقش هذه الأسباب على ضوء الغايات والأهداف والمثل الإنسانية العامة، التي يمكن أن تسعى الفلسفة لتحقيقها «هنا والآن»، أو بالأحرى التي يبغي عليها أن تسعى لتحقيقها على نحو أكثر تصميما، وعلى نطاق أوسع مما حدث حتى الآن.
أما فيما يتعلق بالأسباب الداخلية، فأقصد بها فجوة الاختلافات والفروق الفنية والموضوعية الدقيقة التي تفصل بين الاتجاهات والتيارات الفلسفية المختلفة، سواء بين القارة الأوروبية والأمريكية من ناحية، أو بينهما وبين الاتجاهات والتيارات المتأثرة بها أو المنقولة عنها ، أو التي تحاول مع افتراض حسن الظن الشديد أن تتميز وتستقل عنها في عالمنا الثالث من ناحية أخرى.
والسبيل إلى التقريب بين هذه الاتجاهات والتيارات وتحقيق نوع من التقارب في الأهداف والغايات والمثل المشتركة ليس مستحيلا كما يبدو لأول وهلة، لا سيما إذا تذكرنا أن هذا التقارب والتفاعل قد تم على سبيل المثال في الفلسفة الأمريكية، التي تأثرت في العقود الأخيرة، وفيما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، بفلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة التأويل (الهيرومينويطيقا)، خصوصا في الدراسات المتصلة بفلسفة الفن والجمال وبالنقد الأدبي. كما أن التقارب والتفاعل قد تحقق أيضا في الفلسفة الأوروبية المعاصرة، التي أدمج بعض أعلامها عناصر هامة من العقلانية العلمية والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة التي ازدهرت جميعها في العالم الأنجلو-أمريكي، وذلك مثل «هابرماس» الماركسي الجديد في فلسفته النقدية. وسبل التقارب والتفاعل الذي تم وينبغي التوسع فيه هي من الوضوح بحيث يمكن الاستغناء عن ذكرها: تعميق الحوار بين الأطراف المختلفة في المؤتمرات واللقاءات المحلية والعالمية، التقريب بين الاتجاهات والمدارس المتعددة؛ بتمثيلها وإفساح المجال لسماع أصواتها في أقسام الفلسفة ومعاهدها في الجانبين. ولا شك أن التوسع في الحوار ليشمل الأقسام التي تدرس الفلسفة الغربية خارج نطاق العالم الغربي كله، سيساعد على تنمية بذور الاتجاهات المستقلة داخل العالم الثالث نفسه، بشرط أن يعتمد في كل الأحوال على المعايير والأسس التي تضمن تحقيق الحوار الحر القائم على الاحترام والتفاهم المتبادل، والمعرفة الكافية من الأطراف كافة بالخصوصيات الثقافية المتميزة والعموميات والقيم المشتركة في وقت واحد. وإذا كان المفكرون والعلماء وأساتذة الفلسفة من أبناء حضارة «اللوجوس» الغربية لا يكفون عن اللقاء والتعاون في مشروعات مشتركة، فما أحرانا نحن أبناء العالم الثالث بالسعي إلى التواصل فيما بيننا من ناحية، وفيما بيننا وبين أبناء الغرب من ناحية أخرى؛ بغية التعرف على العوامل المشتركة، ومحاولة تجاوز الحدود المصطنعة بين شرق وغرب كما سيأتي بعد قليل! ستبقى الفروق النوعية في أساليب البحث والتفكير قائمة بغير شك، ولكن ربما يتم قدر كبير من التقارب والتلاقي إذا تواصل الحوار حول موضوعات وإشكالات تهم البشرية العاقلة بأسرها، وقد يتم هذا التقارب إذا تصورنا أن موضوع الحوار هو، على سبيل المثال، غياب الحكمة والعقل في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الذي استشرت فيه مختلف ظواهر الجنون الجماعي، بحيث لم يعد يكفي أن نسميه عصر القلق، ومشكلة السلام العالمي التي تركت حتى الآن للساسة والقادة العسكريين، وقضية الحكومة العالمية التي تجسد الضمير العالمي، وتردع الحكومات الفردية المعتدية - كما تصورها كانط مثلا في مشروعه المشهور عن السلام الدائم - وتغيير النظم التربوية على أساس الاحترام المتبادل بين شتى الثقافات، وتنمية هذا الاحترام عند أبناء الغد، والعمل على زيادة التواصل «والتثاقف» بينها؛ للتخلص تدريجيا من أشكال التعصب العرقي والقومي والتطرف الديني والمذهبي. التفكير المشترك - بصوت مسموع يصل إلى آذان الساسة والعامة - في مستقبل البشرية - المهددة في كل لحظة بالفناء والاندثار - والعوائق التي تسد الطريق إلى وحدة الحيوانات التي نسيت أو كادت تنسى أنها حيوانات عاقلة، وآن أوان إعادة الذاكرة إليها. باختصار: تشكيل محكمة ضمير عالمي دائمة تمارس الإدانة والضغط المعنوي على كل معتد على الضمير العام، وكل آثم في حق الإنسان وحريته وكرامته وحرمة حياته وجسده وشخصيته وحقوقه الأولية. والمهم أن نتذكر على الدوام أن «السعي إلى الحكمة» لم تكن الحاجة إليه أشد إلحاحا منه في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين؛ قرن العنف والتدمير والضوضاء وسعار الانتحار الجماعي المجنون.
غير أن أخطر الأسباب الداخلية يأتي من الفلسفة نفسها؛ فعليها أن تراجع طبيعتها ومفهومها وتعريفاتها التقليدية ومناهجها وأساليب رؤيتها، إذا شاءت أن تصبح «حكمة عالمية» كما سماها كانط، أو «حكمة خالدة» كما وصفها ليبنتز وياسبرز وهكسلي وغيرهم. ولا يقتصر الأمر على تغيير الوصف والتسمية، وإنما يتعداه إلى المهام الجديدة التي تلزمها اليوم، أكثر من أي يوم مضى، بأن تكون عالمية وإنسانية، وأن تتحول - على الأقل في المجالات المختصة بالقيم والغايات الأخلاقية والمثل والأحلام والأهداف المستقبلية التي يمكن الإجماع عليها - إلى حكمة مناضلة تتسلح بأسلحة النقد والمقاومة لكل من يعطل العقل، ويغيب الوعي، ويشوه الإنسانية، ويطمس البديهيات الأولية التي انكفأت اليوم على وجهها في بحور الدم المراق، وطوفان الكذب والتزييف المنهمر من أجهزة البث المرئي والمسموع، ووسائل غسل المخ وأبواقه ليل نهار . وعليها أخيرا أن تحافظ على حريتها؛ لكي تستطيع الدفاع عن الحرية، وإلا سقطت في الهاوية التي سقطت فيها فلسفات سيئة الحظ تبنتها سلطات إرهابية (كما حدث أخيرا للماركسية وللصحوة الإسلامية، في ظل النظم الأيديولوجية المتحجرة والنظم العسكرية الطاغية المختلفة).
قلت إن غياب الحكمة من أبرز سمات العقود الأخيرة للقرن العشرين، سواء أخذناها بالمعنى المألوف أو بمعناها في التراث السقراطي والأفلاطوني والأرسطي.
إن الحكمة بأوسع معانيها تدل على الحكم الصائب الرزين على الأمور المتعلقة بالحياة والسلوك، وتقترن باتساع المعرفة وحدة الذكاء وعمق التأمل، لكن هذه ليست شروطا ضرورية لوجودها؛ إذ يمكن أن تستغني عنها بالفطنة والبصيرة. إنها (كما يقول الفيلسوف المثالي بلانشار)
2
لا تعنى بتأكيد حقائق أو تكوين نظريات، بقدر ما تعنى بوسائل الحياة العملية وغاياتها، وربما أضفنا إلى هذا أنها تتضمن نوعا من السعي إلى تحقيق الحياة الطيبة المتجانسة، كما تكشف عن بصيرة بالنفس في علاقتها بالعالم والمجتمع المحيط بها.
أما في التراث السقراطي، فيقصد بالحكمة معرفة «الأمور القصوى» أو «الحقائق النهائية». وطبيعي أننا لا نطالب الإنسان العادي أن يملك «الحقيقة النهائية»، سواء كانت هي معرفة الله أو المثل الأفلاطونية أو أي حقيقة أخرى؛ فحكمة الحكيم تتجلى قبل كل شيء في معرفته بنفسه وبغيره، وفي نفاذ بصيرته إلى الطبيعة الإنسانية والحياة بوجه عام، بحيث يكون قادرا على الرؤية الكلية لهذه الحياة في وحدتها وشمولها، كما يكون أقدر من كثيرين غيره على أن يهتدي بالعقل في أفعاله، ويدرك الأهداف الصحيحة إدراكا واضحا، ويحسن اختيار الوسائل المؤدية إلى بلوغها. ولا حاجة للقول بأن من مقومات حكمته كذلك أن يرى الأشياء رؤية نزيهة ومن مسافة بعد كافية، وأن يتحكم في عواطفه وانفعالاته ليحتفظ بهدوئه واتزانه العقلي في الأوقات العصيبة، والظروف التي تفرض عليه اتخاذ القرارات والمواقف من الأشخاص والأشياء قبل الإقدام على الفعل. وكلها ألوان من الحكمة التي يمكن أن نجدها عند فلاح بسيط ولا نجدها عند أغلب من نسميهم «أساتذة» الفلسفة. ويكفي «محب الحكمة» بهذا المعنى القريب المألوف أن يسعى لفهم «الموقف » أو «الشرط الإنساني»، ورؤيته رؤية كلية من خلال مظاهره وتجلياته وتعبيراته المختلفة في خضم ملحمة التاريخ البشري. ولا شك أن هذه الرؤية ستنطوي على التأمل في فناء الإنسان أو تناهيه، وفي دلالة هذا الفناء والتناهي على مقومات وجوده التي أفاض في شرحها الوجوديون، وسينعكس هذا أيضا على موقفه من الزمان؛ إذ لن يكون حكيما من لا يتأمل ماضي الإنسان وحاضره؛ لكي يكون أقدر على التبصر بمستقبله، والإعداد له، والاستجابة لمطالبه، واستشراف آفاقه وممكناته، والتأهب لمواجهته بالمعرفة والإرادة، وفي هذا يقول شاعر الألمان الأكبر «جوته»: «من لم يحط علما بما مر بالبشرية عبر ثلاثة آلاف عام، فسيبقى طوال حياته تائها يتخبط في الظلام.»
إن الإنسان في هذا القرن يفتقر إلى الحكمة؛ لأسباب يصعب حصرها وتحديد أنواعها. ربما يكفي القول بأنه في لهفته على معرفة الطبيعة والسيطرة عليها بمعلمه ووسائله التقنية، قد أهمل السعي الذي لا يقل عنه أهمية لمعرفة نفسه ورعاية باطنه وضميره وأخلاقياته، وكانت النتيجة - كما يقول أينشتين في عبارة معروفة - أن اكتملت وسائله، واضطربت غايته، وظهر عجزه عن مواجهة حقيقة نفسه وعالمه الذي صنعه، ثم أخذ يدمره بأشكال مختلفة؛ في خداعه لنفسه أو استسلامه لمختلف الأساطير والأوهام والخرافات التي خدعته بها قوى نسجت شباكها حوله (كالقوى والمصالح الموجهة للسوق الاستهلاكية العالمية، والاتجاهات العنصرية والطائفية والمذهبية المتعصبة، التي تصورت أنها استأثرت بالحقيقة المطلقة؛ مما جعله في النهاية أداة لأعمالها الإرهابية أو ضحية لها). ولا شك أن من أخطر مظاهر انعدام الحكمة هذا الانفلات الصاخب من كل الحدود والمعايير على كل المستويات، باسم التجديد والتجريب تارة، وباسم الحياة أو الحب أو الثورة على كل الأنظمة المتسلطة تارة أخرى. وليس من قبيل المصادفة أن تكثر الطقوس العجيبة وممارسات الجماعات الشاذة والجرائم البشعة كثرة هائلة في أقوى الدول وأعظمها سيطرة على العلم والتقنية.
كان من نتائج ذلك أيضا أن اتسم عصرنا كما قلت بالانفلات من كل الحدود، وما نسميه عادة بإيقاع العصر المتسارع ليس إلا تعبيرا عن التطرف والشطط والاندفاع الجنوني الذي انجرفت إليه الأفراد والشعوب بدرجات وصور مختلفة. ولقد ظهر هذا التطرف وما يزال يظهر في أشكال وأفعال متباينة في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والعسكرية والثقافية، تاركا وراءه الموت والدم والخراب والاضطراب والفوضى، وشاهدا على تدمير العقل والمعقول والضمير والحكمة.
3
نعود إلى السؤال: ما العمل لإنقاذ الإنسان من نفسه؟
ما العمل لإيقاف اندفاعه إلى اللاعقل والجنون المدمر؟
وبماذا يمكن أن يساعد الفلاسفة في هذا الإنقاذ؟
إن هذه الأسئلة تقع بالضرورة في التبسيط والتعميم، والمشكلات التي يدعى الفيلسوف لمواجهتها شديدة التشابك والتعقيد، والدور الذي يمكن أن يقوم به مشكوك فيه منذ البداية؛ بسبب الشك أصلا في قدرة الفكر على التأثير والتغيير، بجانب الشك الشائع في ثقافتنا في قيمة الفلسفة وضرورتها ووجودها أصلا.
مع ذلك فإن المتفلسف لا يمكنه - كما سبق القول - أن يقف موقف العاجز المتفرج، في الوقت الذي يدمر فيه العقل، وتهدد فيه «القرية الأرضية» بأسوأ مصير. وأول ما يخطر على البال هو دعوته للقيام مرة أخرى بدوره السقراطي،
4
حتى ولو أن بدا هذا الدور قد أصبح مستحيلا أو باعثا على السخرية. صحيح أن دور «لغز» الفلسفة ونموذجها الحي كان محدودا بحدود دولة «المدينة»، كما كان في صميمه دورا عقليا وجدليا يتوسل بالاستقراء والحوار والتوليد الذهني للوصول إلى الحد والماهية (اللهم إلا إذا صدقنا كيركجارد، وجعلناه - أي سقراط - أول الوجوديين والذاتيين في تاريخ الغرب، أو حملناه من ناحية أخرى مسئولية تحلل الغرب وانهياره، كما زعم نيتشه في هجومه الغاضب عليه عندما حمله مسئولية بداية مسيرة العقلانية والجدلية المسرفة على حساب إرادة الحياة وقواها الأصيلة ...) لكننا لو تذكرنا وصف سقراط لنفسه - منذ أن بدأ تساؤله وحواره مع الناس العاديين في شوارع أثينا ومجالسها حتى خطبته الطويلة في محاكمته الأخيرة - لو تذكرنا وصفه لنفسه بأنه «الذبابة» التي تلسع ظهر الحصان الأثيني كلما أخلد للنعاس وغاب عن الوعي، بحقيقة نفسه ومجتمعه وعالمه؛ لاستطعنا القول بأن دور المتفلسف السقراطي المعاصر سيكون أشمل، ومهمته أصعب وأخطر؛ فهو مطالب بإيقاظ الحصان العالمي المندفع اندفاع المجنون الأعمى على أرض «القرية العالمية الصغيرة»، ومعنى هذا - بعيدا عن لغة المجاز - أن يكون حارس هذه القرية الضئيلة البائسة، كما كان سقراط وكل «الموقظين» العظام في الشرق والغرب حراس مدن العقل والقيم والاستنارة والحرية والوعي.
هذه الكلمة الأخيرة تنبهنا على الفور لدور المتفلسف في الدعوة إلى «الوعي العالمي والإنساني»، الذي كان وما يزال غائبا عن كثير جدا من كبار المفكرين في الغرب بوجه خاص (من أرسطو إلى هيجل وحتى ياسبرز وفلاسفة مدرسة فرانكفورت. دع عنك غيابه عن كثير جدا من أساتذة الفلسفة في نفس البلاد والمناطق، التي تتم فيها في هذه الأيام واللحظات أبشع مذابح الإبادة والتطهير العرقي والتعصب الديني والاضطهاد العنصري، وسجن شعوب بأكملها ومحاصرتها من قبل بعض الدول الإرهابية، بجانب الألوف المؤلفة من الجرائم التي تنفذ في غياهب السجون والمعتقلات وزنازين التعذيب، فضلا عن المقابر الجماعية التي لا يسمع الناس عنها إلا عن طريق بعض الصحفيين والمتطوعين الشجعان أو مؤسسة العفو الدولية، وإذا سمعوا عنها أصلا فبعد فوات الأوان).
إن الفلسفة - في مجموع تراثها العريق وفي شتى الحضارات - أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي العالمي، وتأكيد وحدة البشر على كوكبنا الضئيل أو قريتنا الصغيرة. والذين يحملون على أكتافهم أمانة تعليم الفلسفة يمكنهم، إذا استقام فهمهم لرسالتها، وتجردوا من تحيزاتهم وتطلعاتهم وصراعاتهم الصغيرة، يمكنهم أن يلقوا الضوء على المسلمات والافتراضات، والقيم وأساليب الحياة، والاتجاهات والنزعات الخفية، والتحيزات المغرضة العميقة الجذور في عقول الناس في كل مكان، وربما استطاعوا كذلك بأساليب تحليلهم ونقدهم «العلاجية» - على حد تعبير فتجنشتين - أن يشفوا أصحاب السلطة من أفراد ومؤسسات سياسية واجتماعية وعلمية ودينية من نزعاتهم اللاعقلية واللاإنسانية، ويقربوهم من آفاق الوعي العالمي والإنساني الشامل الذي يتحد فيه الأنا مع الأنت، بل يصبح هو الأنت، وفي استطاعتهم أخيرا أن يفيدوا من تخصصاتهم المحددة في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي ... إلخ، في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تصبح أمراضا مزمنة، كالعنف وتغييب الوعي بالمخدرات والشعارات والتهالك على اللذات والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والإحباط واللامبالاة، خصوصا في المدن المكدسة بملايين البشر المقضي عليهم بالعذاب اليومي في جحورها وأوكارها ومكاتبها ومصانعها وسجونها وحافلاتها وأماكن لهوها، وكأنهم جيوش فيران شرسة تعسة، ناهيكم عن كثير من المشكلات الطاحنة التي تستحق ألا يشيح المتفلسف «البرجوازي» ببصره واهتمامه عنها، بينما هي تصدمه كلما فتح جريدة الصباح أو أدار مفتاح التلفاز؛ مشكلات الطفولة والشيخوخة وصراع الأجيال، الشذوذ الجنسي وإدمان الشباب، ضياع ملايين اللاجئين المشردين الجائعين من ضحايا صراعات القوة والسيطرة بين النظم والحكام والأفراد، وركام التخلف والاستبداد والعجز واليأس والحرمان الذي ما فتئ ينهال على رءوس التعساء في الشرق التعس منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
لن يستغني النقد والفحص والتحليل «العلاجي» الفلسفي الذي أشرت إليه عن التعاون والتفاعل مع بقية العلوم الإنسانية والإفادة من نتائج بحوثها النظرية والميدانية، كالاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا واللغة والتاريخ والقانون والاقتصاد السياسي ... وربما انعكس على مناهج النظر والبحث في هذه العلوم نفسها، كما سينعكس بالضرورة على تخصصاته النوعية الدقيقة في مباحث الأخلاق والقيم وتاريخ الفلسفة والعلم ... إلخ، فيخلصها من العناصر الذاتية والاهتمامات المحلية والتمركز الشعوبي والاجتماعي والحضاري، بحيث يوسع من آفاق عالميتها وإنسانيتها وتجردها وتسامحها، بل إن المتفلسف لن يستطيع أن يغفل دور العلم والتقنية في خلق الوعي العالمي من الناحية العقلية، وتوحيد أساليب الحياة ونماذج السلوك لأعداد متزايدة من البشر في كل القارات، بصرف النظر عن الآثار المدمرة للتقنية، والأضرار الفادحة الناجمة عن التهاون في الاهتمام بأخلاقيات العلم وعدم ربط نتائجه بالقيم الإنسانية، وأخيرا فإن المتفلسف لن يستغني عن النظر بقدر الطاقة في الأعمال الأدبية والفنية المعبرة عن معاناة البشر ومشقاتهم وآمالهم وآلامهم في مختلف الآداب والفنون المعاصرة؛ لأن قدرة الأدب والفن على توحيد الوجدان الإنساني - بغض النظر عن اللون والجنس والقومية والعقيدة - ومد جسور التفاهم والتجانس والاحترام المتبادل بين الشعوب والحضارات؛ أمر معروف ومشهود منذ أن وجد الأدب والفن. وتبقى المهمة «الهرقلية» - كما يقول أستاذ الفلسفة الأمريكي الأرمني الأصل هيج خاتشا دوريان في مقال أخير له بمجلة «الفلسفة البعدية»
5
تبقى هذه المهمة ملقاة من الناحية العقلية البحتة على أكتاف الفلاسفة، أو بالأحرى على ضمائرهم ومدى قدرتهم على استشراف المستقبل.
والأمر الثاني الذي يخطر كذلك على البال، ويتصل مباشرة بما ذكرته عن دور الفلسفة في التعجيل ب «الوعي العالمي والإنساني»، هو مساهمة المشتغلين بها في الجهود العالمية والإقليمية الموجهة لإيجاد عالم يسوده السلام والتضامن والأمن، وتسترد فيه القيم الأخلاقية والجمالية قيمتها بعد طول ضلال وضياع؛ عالم لا يروعه الإرهاب المنظم من بعض الحكومات والمنظمات والعصابات، ولا تهدده الانقلابات العسكرية المفاجئة وأشكال العنف والاضطهاد السياسي والتعذيب والأحكام الجائرة بالسجن والإعدام على أصحاب الرأي الآخر (وكفى البشر ما يلقونه من الأعاصير والزلازل وانفجارات البراكين والفيضانات، وما يعانونه من الأورام والآلام النفسية والجسدية، بسبب تدخل الإنسان في الدورة الطبيعية وإخلال ساعتها الحيوية وتخريب البيئة بغير وازع أخلاقي). ويستطيع أصحاب الفلسفة أن يشاركوا في الجمعيات والمنظمات والهيئات العالمية والمحلية، المعنية بالسلام العالمي، ورعاية البيئة والطفولة والشيخوخة، والدفاع عن حقوق الإنسان (مثل منظمة العفو الدولية، وحركة السلام العالمي، واليونيسيف، وأحزاب الخضر ...)، وذلك عن طريق التعليم والبحث والكتابة والقدوة الشخصية وإقامة الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، أو بالتعاون على تأسيس اتحادات فلسفية تختص بدراسة الموضوعات والمشكلات التي تهم البشر كافة ولم تعد مقصورة على شعب دون شعب أو مكان دون مكان.
6
والمهم بعد كل شيء أن يخرجوا أحيانا من ثياب وظائفهم التي تفرضها لقمة العيش وتأدية الدور الاجتماعي، ويتشجعوا - كما يقول كانط في مقاله المشهور عن التنوير - على الاستخدام العلني العام لعقولهم، ويستمعوا للنداء الذي أطلقه ماركس وزميله إنجلز ذات يوم في بيانهما المعروف بعد تعديله على هذه الصورة: يا فلاسفة العالم، اتحدوا في سبيل إنقاذ العقل والإنسان!
وطبيعي أنهم لن يتمكنوا من الاقتراب خطوة واحدة من الوعي العالمي والإنساني أو من التضامن والسلام بين البشر، حتى يبدءوا بتحقيق هذا السلام بينهم كأشخاص واتجاهات وتيارات، ويراجعوا مفاهيمهم التقليدية عن الفلسفة وفاعليتها ووظيفتها وغايتها، ويتذكروا المهام والآمال المعقودة عليها، لا كمعرفة موضوعية دقيقة وحسب، بل كأداة تحرير - بطيء ولكنه أكيد! - للإنسان العادي أو «الرجل الصغير»، الذي طالما تجاهلته وأهملته مع أنه هو الضحية الأولى والأخيرة لما يحدث اليوم من مآس وفواجع ترتبت - في جزء منها على الأقل - على بعض أنظمتهم و«أيديولوجياتهم» وشطحاتهم. ويزداد هذا المطلب إلحاحا في وقتنا الحاضر الذي تعلو فيه بعض الأصوات التي تعلن نهاية الفلسفة (مثل هيدجر ورورتي).
لا شك أن تعريف أرسطو للإنسان بأنه الحيوان الناطق أو العاقل قد يبدو اليوم خطأ لا يغتفر، اللهم إلا إذا وضعناه في إطار فلسفته النسقية المحكمة، ومنطقه الصوري الذي كان منطق الثبات والتحدد. فلم يزل العقل الحي يصارع خلال التاريخ لإثبات جدارته وإبداعه وحيويته، ولم يزل يتصادم مع القوى العمياء للشر والجنون واللاعقل واللامنطق (وهي القوى التي لم تغب عن بال أرسطو نفسه، وإن لم يتصور أنها يمكن أن تبلغ ما بلغته اليوم وفي أوقات المحن والكوارث الكبرى من تدمير للعقل والمعنى). نعم! ليس الإنسان مجرد حيوان ناطق، وإنما هو قيمة مجسدة وشخص حي حر مريد، يغير الواقع، ويتمرد على المألوف، وينزع للامحدود ويصنع الحضارات، ويبدع الفنون والآداب والعلوم، ويشرع نفسه على الممكن والمستقبل لتحقيق ما لم يتحقق بعد، ويعقل اللامعقول، وينظم الفوضى، ويقفز فوق ظلال جسده وبيئته وجنسه ولونه ومعتقده، بل يتخطى حدود عالمه وكل ما هو في عالم لعله يعرف نفسه التي لا تنفك تعذبه وتفلت كل تحديد؛ حتى يدرك وحدتها الجوهرية مع كل ما ينبض بالحياة أو يسمو على الحياة. وهنا أيضا يثبت سقراط أنه الحكيم الذي لم يزل واقفا على عتبة باب الغرب المتسلط المغرور بمنجزات عقله وعلمه وصناعته، ولم يزل هو اللغز الساخر والسؤال المحير الذي يلح عليه أن يعرف نفسه، كما يلح علينا أيضا أن نعرف أنفسنا!
إن الأدب القومي لم يعد له اليوم من معنى. لقد آن أوان الأدب العالمي، وعلى كل امرئ أن يشارك بجهده في التعجيل به. هذه العبارة الشهيرة التي قالها «جوته» (1749-1832م) قبل وفاته بسنوات قليلة في أحد أحاديثه العذبة مع صديقه وتلميذه الوفي الأمين «إكرمان»،
7
يمكن التنويع عليها فيما نحن بصدده، فنقول: (ربما بثقة أكبر مما يفعل ناقد الأدب ومؤرخه؛ لأن عالمية الفكر الفلسفي وعموميته تطغى على خصوصيته وقوميته التي لا تكاد تظهر إلا في ملامح شخصية المفكر وبيئته وعصره ولغته وتراثه، دون أن تؤثر تأثيرا جوهريا على شمولية مشكلاته وتساؤلاته وإجاباته) لقد آن أوان الوعي العالمي الذي طالما حاولت الفلسفة تحقيقه، لا سيما في العصور والمذاهب والحركات العقلية والروحية التي أكدت إنسانية الإنسان ودعت إلى احترام «طبيعته» وعقله وشخصه وحرمة حياته وكرامته وحريته. ولا يتعارض هذا بحال - كما قد يتصور البعض - مع تأكيد الوعي الذاتي للشعوب والثقافات والمجتمعات «والبنى» السياسية والأخلاقية والقانونية والفكرية والفنية ... إلخ، ولا مع ضرورة استمرار الكفاح المتصل للتعرف على الهوية أو على الأصح إيجادها وتجديدها وإبداعها؛ لأنه (أي الوعي العالمي) سيكون بمثابة الوحدة الكلية التي تؤلف بين الأفراد والذوات المتنوعة، وستكون أداته هي الحوار الحر الذي تنخرط فيه الأطراف الحرة. وإذا كان الأمر يقتضي - في تقديري المتواضع على الأقل - تجاوز مشكلة الشرق والغرب (التي اشتعلت في السنوات الأخيرة، واحتدم حولها اللجج واللغط، وارتفعت الأصوات المتشنجة والمشوشة!) إلى مشكلة القرية البشرية المهددة بالدمار والتلوث بكل أشكاله؛ فإن هذا يزيد من ضرورة تكاتف كل العقلاء لإطفاء الحريق الجنوني الذي يلتهم كل القيم التي صارع «تراث الحكمة» المشترك لإقرارها ووضعها في مرتبة البداهات الواضحة المتميزة. وعندما تصل المأساة إلى حد تصليب الطفل الرضيع أمام عيني أمه، واغتصاب العجوز ذات الثمانين عاما أمام أبنائها وأحفادها - كما حدث ويحدث اليوم على يد «أبطال» الصرب - وعندما يحاصر إرهاب الدولة المنظم شعوبا بأكملها على مرأى ومسمع من العالم المتواطئ أو غير المكترث - كما يجري الآن لأبناء أمتنا في الأرض المحتلة أو للسود في جنوب أفريقيا - فلا بد أن يصحو الوعي العالمي والضمير الإنساني، ويرتفع فوق المصالح والتحيزات والتميزات والخلافات، وإلا فمتى يصحو؟ وكيف تستحيل الحياة إلى كابوس مرعب ولا يتحرك؟!
وتسألني: ما الموضوعات التي يمكن أن تناقشها محاكم الضمير والعقل المحلية والعالمية التي حان الوقت للم شملها من العقلاء في كل مكان، سواء أكانوا علماء وأدباء وفلاسفة أو مشتغلين بالفلسفة، أم كانوا من الشباب العالمي الضائع المضيع وبسطاء الناس العاديين الذين كانوا على الدوام ضحايا كل عدوان على العقل والضمير؟ وأرد على سؤالك بقولي: إن الموضوعات لا حصر لها، والإضافة إليها أو التعديل فيها أمر ممكن، وما يحضرني منها يمكن أن يفتح آفاقا للنظر والعمل ظلت مغلقة أو مهملة حتى الآن. ومن يدري؟ فربما تصل إلى جمهور الرأي العام، فتساهم في التغيير الحقيقي من أسفل إلى أعلى، وربما «تفلح في إقناع المتشككين بقدرة الفكر على التأثير على الواقع؛ إعادة التفكير في حقيقة الإنسان وتأسيس ماهيات» وجوده وقيمه الباقية في مواجهة احتمالات الفناء والدمار الشامل، على ضوء مكابداته التاريخية وإنجازاته الفنية والعلمية والتقنية وإمكاناته المستقبلية، وعلى ضوء الدراسات المتنامية ل «الأنثروبولوجيا الفلسفية» بشتى فروعها التي أهملناها في عالمنا العربي إهمالا شبه كامل. استكناه أبعاد إنسانيته، وإطلاق طاقاته الخلاقة - وفق برنامج عالمي - لا كحيوان ناطق وحسب، بل كحيوان مبدع ولاعب ومصور وفاعل وصانع للحضارة وسائر على الطريق إلى المستقبل الإنساني الحق؛ السلام العالمي والأمن من الخوف والقلق والفقر والجوع والحرمان والعدوان؛ الحب والتعاطف والأمل والتواصل والحوار؛ الحرية والمسئولية والضمير والخير والحب والحق والعدل والجمال، وسائر القيم المادية (على حد تعبير ماكس شيلر!) المغروسة في طبيعته، في إطار نظام أو ميثاق أخلاقي عالمي؛ وحدة البشر المشتركة التي لا تتعارض كما سبق القول مع فروقهم الفردية وخصوصياتهم الثقافية والحضارية والدينية؛ تكامل الجهود العلمية والفلسفية والقانونية ... إلخ المشتركة في مركب جديد لمجتمع عالمي مفتوح؛ مراجعة التراث الفلسفي وتاريخ الفلسفة في الشرق والغرب والقديم والحديث، من منظور وحدة البشر ومحبتهم الشاملة وتضافرهم الممكن وطبيعتهم الأصلية الخيرة لمقاومة العوامل التي أدت إلى تشويهها والانحراف بها، لا سيما من قبل بعض الفلاسفة والفلسفات والأيديولوجيات المتعصبة، ومن جانب صغار الطغاة وكبارهم في كل العصور وعلى كل المستويات؛ أولئك المتلذذين بالنظر في مراياهم، المصابين بنزعات التدمير الفردية والجماعية أو عشق الموت - النيكروفيليا على حد تعبير إريك فروم - نتيجة نرجسيتهم المرضية المستفحلة؛
8
الاهتمام بظواهر التعذيب عبر التاريخ حتى بلوغها ذروة التفنن التقني في عصر التقنية، لا سيما في أكثر البلاد تخلفا في العلم والتقنية، بحيث باتت أرض البشر جحيما يمكن بالقياس إليه أن يعد جحيم دانتي والمعري روضة من رياض الجنة؛ تأسيس «فلسفة بعدية» تحلل وتراجع الفلسفات المتباينة من منظور الوعي العالمي والإنساني الشامل، وتجدد مسيرة الحركة الإنسانية التي طالما انتكست قديما وحديثا، كما تؤكد قيمها الأساسية في التنوير والتحرير والتقدم والتسامح بين الأديان والمذاهب. التفاؤل بمستقبل العربة البشرية الواحدة، التي يقودها العلم والعقل والإخاء، وانتشالها من مستنقع تاريخها المعاصر الملطخ بالأوحال والدماء والدموع.
ربما تقول: إن هي إلا آمال «يوتوبية» عريضة، غارقة في ضباب الشك والقلق والقنوط، مما يجري اليوم وفي هذه اللحظات التي تقرأ فيها هذه السطور. لكن الإنسان هو كائن الأمل والمستقبل، وعليه أن يرفع راية الأمل حتى لو امتلأت الأرض من حوله وتحت قدميه بالأنقاض والأشلاء، بل إن من واجبه أن يرفعها في هذه الأرض بالذات التي لم تعترف حتى الآن بقيمة الإنسان كإنسان.
ومع أن هذه الآمال تبدو «يوتوبية» حالمة كما قلت، فإن أحلامها ليست مستحيلة كأحلام اليوتوبيين على اختلاف العصور والثقافات والحضارات، وعند مختلف الأدباء والمفكرين الذين طالما رسموا لنا جزرا ومشروعات ومدنا سعيدة أو شقية، ونظما إيجابية أو سلبية، ومجتمعات مثالية كأنها الفردوس الأرضي أو مجتمعات ضدية وعدمية كأنها الجحيم البشري. والدليل على هذا أن بشائر الأمل تلوح في الأفق وإن كانت أضواؤها ما تزال شحيحة خافتة. ألم تتحرك ضمائر الناس وقلوبهم في كل شبر من قريتنا العالمية الصغيرة تعاطفا مع ضحايا الفظائع الوحشية في البوسنة، وضحايا المجاعة المخجلة في الصومال وجنوب السودان، وضحايا الحرب الأهلية في لبنان وأفغانستان، وضحايا الإرهاب الإسرائيلي الذي يحاصر شعب فلسطين ويجوعه ويعربد في أرضه، وضحايا الصراعات الطائفية والمذهبية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وضحايا العدوان العراقي الوحشي على الكويت وكردستان؟ ألم يتحرك قبل ذلك لضحايا الزلازل والبراكين والفيضانات وكوارث الطيران؟ ألم يتكون حزب للخضر في معظم بلاد العالم يقاوم بوسائله المحدودة تلويث البيئة ومخاطر التجارب والنفايات النووية؟ ألم تتحرك الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها - على الرغم من ترددها وعجزها وسيطرة القوى الكبرى عليها، وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن تمثيل الحكومة العالمية المأمولة، أو تجسيد الضمير العالمي الرادع - وأخيرا فلنسأل أنفسنا: ألم يتحرك ضمير الجنس البشري لإنقاذ «شركائه» على الأرض وفي المياه من الدببة والحيتان والأسماك المهددة بالانقراض؟!
إن العقبات أكبر من كل التوقعات، والسلام والسعادة والأمن والتضامن والتراحم والأخوة البشرية ما فتئت تضرب رءوسها على جدران المستحيل، لكن الفلسفة تعمل على الدوام في دائرة الممكن الذي يبدو أحيانا على صورة المستحيل، وفلسفة المستقبل العالمية والإنسانية هي أخطر تحد يواجه المشتغلين بها والمنتمين إليها. إنها من قبيل المستحيل الممكن، أو قل من قبيل الممكن الذي يبدو اليوم كالمستحيل.
هوامش
الأزمة أم الإبداع
محاولة لتفسير بدايات الإبداع الفلسفي
لنفترض من البداية أن «الأزمة» هي أم «الإبداع»، وأنها وراء كل جديد ومغاير مغايرة حقيقة لما سبقه في الفلسفة وفي غير الفلسفة، لكن «الأزمة» مفهوم واسع متشعب الأبعاد، وهو معرض لخطر النظرة الذاتية إليه، بحيث تختلف رؤيتك للأزمة عن رؤيتي أو رؤية غيري، وبحيث لا أستبعد أن تتهم العبارة التي وضعت عنوانا لهذا المقال بأنها إنشائية مبتذلة، أو عاطفية حالمة، في مجال لا يسمح بغير المعرفة الدقيقة الصارمة. ولكي لا نضل معا في متاهات الأسئلة عن معنى الأزمة، والأشكال التي يمكن أن تعبر عنها في منهج الفيلسوف أو نسقه الفكري أو اللحظة التاريخية والاجتماعية التي يعيش فيها؛ أسارع فأحصر مفهوم الأزمة في مشكلة «التناقض» بشقيه؛ المنطقي-الجدلي، والزمني- التاريخي. على أن التناقض ليس بالمشكلة الهينة، ولا بد من فهمه بصورة تسمح بتفسير المبدع والجيد في الفكر الفلسفي الذي يوصف بالجدة والإبداع. وهنا أيضا تتعدد مفاهيم التناقض؛ فالحس السليم أو الموقف الطبيعي والعملي للإنسان العادي يرفضه منذ القدم، وسوف يظل على رفضه له، والمنطق الصوري القديم مع المذاهب الفلسفية التي قامت عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من أفلاطون وأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حتى «كانط» في القرن الثامن عشر، قد بذلت كل ما في وسعها لاستبعاده وتلافيه، بل جعلته علامة التهافت والخلل، ومصدر الأغلاط والمغالطات، والنقائض والمفارقات التي يلزم الفكر المتسق - أي الخالي من التناقض! - أن يحاربها ويتحاشاها.
1
لكن المهم في هذا السياق أن «الأزمة» قد تجلت بصور مختلفة، لدى الفيلسوف المبدع، في التناقض الذي أحس بوجوده وعرفه وانطلق منه، فكان هو المحرك والدافع لقيام فلسفته التي لا يختلف أحد حول جدتها وأصالتها. ربما اختلفنا في الرأي حول اسم الفيلسوف الذي يمكن أن يستشهد به كل منا، وربما ارتجف القلم في يدي - ومن ورائه القلب - وحاول أن يجمح بي إلى عدد من المفكرين-الشعراء في تاريخ الفلسفة والأدب، من أولئك الذين أحب تسميتهم «المنقذين»، أو إلى بعض الفلاسفة الذين وصفهم ياسبرز ب «الموقظين العظام» (وفي مقدمتهم باسكال وكيركجارد ونيتشه من رواد التفلسف المعاصر)، لكنني سأقصر حديثي في هذا المجال المحدود على أربعة من فلاسفة العصر الحديث، هم ديكارت وكانط وهيجل وهسرل، الذين كانت «أزمة التناقض» وراء إبداعهم لمناهجهم الأصيلة. وسوف أسبق الأحداث فأقول على الإجمال إن ديكارت (1596-1650م) قد رأى التناقض - الذي حاول رفعه والتخلص منه - في حيرة الفكر مع نفسه؛ إذ تشكك في كل شيء، ولم يستطع مع ذلك أن يتشكك في كل شيء؛ أعني أنه لم يجد مناصا من إثبات حقيقة وجود الفكر ويقينه في أثناء الشك نفسه ومن خلاله؛ ومن ثم انتقل إلى إثبات وجود «أناه» المفكرة، ويقين بساطتها وتميزها من الجسم وخلودها، إلى آخر ما هو معروف ومشهور من فلسفة ديكارت.
أما كانط (1724-1804م)، فقد انطلق من معرفته - القائمة على إيمانه بثبات المنطق الأرسطي وصحته - بأن التناقض مظهر ووهم خداع من أوهام العقل الخالص ، ثم بين أن تناقضات المعرفة والنقائض التي يقع فيها هذا العقل بسبب طموحه إلى معرفة المطلق دون أساس تجريبي أو عيني يستند إليه، هي ظواهر حدية أو نهائية للمعرفة ينبغي تلافيها إذا أردنا للفلسفة أن تكون نقدية وعلمية عامة الصدق. ثم يأتي هيجل (1770-1831م) (ومن خلفه موكب الجدليين على اختلاف تصوراتهم لماهية الجدل وأشكاله)، فيؤكد أن التناقض وجود، وأنه عنصر أساسي من عناصر المعرفة، ومحرك هائل للفكر والواقع جميعا، بل إنه ليجعله روح المنهج الجدلي الذي زعم أنه المنهج العلمي الوحيد، وأراد له أن يجب المناهج السابقة ويلقي بها في هوة الموت والبلى والنسيان، وذلك إذا أردنا أن تخلع الفلسفة اسمها القديم، وهو محبة الحكمة، لتصبح علمية بحق. وأخيرا يأتي هسرل (1859-1938م) - صاحب فلسفة الفينومينولوجيا (أو الظاهراتية) ومؤسس منهجها - فيكشف عن تناقضات النزعة النفسية في المنطق والرياضيات، ويعري نسبيتها الخطرة، ثم لا يلبث أن يخرج من هذا التناقض ليؤمن بحقيقة الفكر وموضوعيته، ويردد نداءه الشهير: فلنرجع إلى الموضوعات ذاتها! أو بالأحرى فلنحي حقائقها الموضوعية وماهياتها الثابتة وكأننا نراها رأي العين.
يكمن التناقض، أو بالأحرى التناقض الذاتي الذي انطلق منه ديكارت في بحثه عن المنهج، وفي تشييد البناء المتكامل لفلسفته، في دليل الشك المشهور. وهو الدليل الذي أدى به إلى التوصل إلى يقينه الأول، الذي صاغه في عبارة طالما تعرضت للنقد، وكثرت التنويعات عليها والتندر بها: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.» ونستأذن القارئ في أن نقصر حديثنا عن تجربته مع الشك، وعن هذا الدليل في كتابه «التأملات»، الذي قدم فيه أفكاره ببساطة محببة تقربها من الاعتراف المباشر، وبصورة بالغة الدقة والإيجاز والحسم، لن نجد لها بعد ذلك مثيلا في تاريخ الفلسفة كله.
لعل أفضل طريقة لعرض دليل الشك هي طريقة ديكارت نفسه في التأملين الأول والثاني؛ فهو يحدد مهمته في بداية التأمل الأول بتقرير عزمه على إيجاد منهج مأمون في الفلسفة، ويتأكد وعيه أو علمه في الوقت نفسه بأنه كان على الدوام عرضة للوقوع في الخطأ والخداع؛ ولذلك صمم منذ البداية على ألا يسلم بشيء على أنه حق، ما لم يتبين له أنه كذلك على نحو يقيني وموثوق به ثقة مطلقة لا يتطرق إليها الشك. لقد لاحظ على نفسه منذ صباه الباكر أنه كان يأخذ الباطل مأخذ الحق، وأن أكثر ما بناه على هذا الأساس الواهي قد كان لهذا السبب غير مأمون ولا يطمئن عليه؛ ولهذا عقد العزم على أن يبدأ بداية جديدة كل الجدة، ولن يتسنى له أن يفعل هذا حتى يستبعد كل ما ورثه من آراء، وما تلقاه من «حقائق» ومعلومات، وحتى يشك في كل شيء يجد فيه مبررا للشك. وهكذا يبدأ الشك في كل شيء؛ في الحواس وصدق إدراكاتها، في وجود جسمه ووجود العالم الخارجي، في أبسط الحقائق الرياضية، بل إن الشك ليمتد أخيرا - ضمنا وعلى استحياء - في وجود الله نفسه بوصفه منبع كل حقيقة.
بدأ صاحبنا الشك الكامل المطلق إذن وفي نيته ألا يوقفه شيء، وألا يستثني منه شيئا يزعم لنفسه الوجود، حتى لو كان هو وجوده ذاته. ثم يبدأ التأمل الثاني بتأكيد طابع الشمول في هذا الشك، ويسأل سؤالا يوجه حركة فكره في اتجاه جديد، إذا فرض أن كل شيء باطل وخادع، أفلا يوجد ثمة شيء صادق أو حقيقي؟ أيكون هو هذا الشيء الواحد، وهو أن لا شيء يقيني؟ هذه الإجابة - التي يقدمها على سبيل المحاولة - عن سؤاله تنطوي على تحديد سلبي للحقيقة، وتلخص نتائج شكه النهائي الحاسم؛ فعلى فرض أن الحواس تخدعني، وأنه لا يوجد شيء في العالم، وأن روحا شريرا أو جنيا ماكرا قد دأب على مخادعتي وإيقاعي في الخطأ كلما تصورت أنني عثرت على الحق، فلا بد مع ذلك أن يبقى شيء لا يناله الشك، ولن يمكنني، وأنا أشك في كل شيء، أن أشك في كوني أشك.
ويمضي ديكارت في تأمله الذاتي أو في فكره السلبي المنعكس على نفسه، فيقول إنه ما من شيء مما سبق أن افترضته بقادر على أن يجعل مني لا شيء؛ إذ لا بد أن أكون موجودا على نحو من الأنحاء أثناء شكي أو أثناء تفكيري؛ لأن الشك نوع من التفكير. ولا بد أيضا أن أكون موجودا حتى يستطيع الجني الماكر أن يخدعني أو يوسوس لي بأني غير موجود، ولن يستطيع أن يجعلني غير موجود، ما دمت أفكر في أني شيء موجود. ولو اتجهت خلال شكي المطلق نحو هذا الشك نفسه لوجدت أنني كائن أو موجود؛ فكأن عجزي عن الشك في شكي قد حول تفكيري من السلب إلى الإيجاب، ووضع نهاية لحجتي الأساسية في الشك، ونقلني إلى هذه العبارة التي قلتها في التأمل الثاني: «أني أكون، وأني أوجد، أمر صادق بالضرورة كلما نطقت به أو أدركته بذهني.» وبهذا أكون قد انتقلت من تفكير سلبي أو لا موضوعي إلى تفكير موضوعي أو معرفة موضوعية، عثرت معها على الموضوع الفلسفي الأساسي، واليقين الأول الذي سأنطلق منه، ألا وهو الذي تبلور بعد ذلك في عبارتي المشهورة: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.»
2
هكذا انطوى دليل الشك على أكثر من تحول؛ فمن الشك إلى التفكير، ومن هذا إلى الوجود (أنا أكون، وأنا أوجد). ولقد بدأه ديكارت وهو يسلم بإمكان الوقوع في الخطأ والخداع بصورة شاملة، وجره التسليم بهذا الإمكان والوعي به إلى تجربة الشك الكامل والشامل، الذي يجري على كل شيء ولا يوقفه شيء. ومع بداية التجربة ظهر التحول الأول: أخفق الشك في كل شيء عندما ارتد على نفسه، وتبين - كما رأينا - أنه لا يستطيع أن يمتد إلى الفكر؛ أي عندما عجز عن الشك في الشك، الذي انطبق على نفسه فألغى نفسه أو «رفعها»، كما يقول أصحاب المنطق الجدلي.
هكذا تم التحول من السلب إلى الإيجاب؛ أي من الشك في كل شيء إلى التفكير الذي انشق عنه وبقي خارج دائرته. ثم بدأ مع تطور التجربة تحول جديد نتج عنه منطلق جديد هو إثبات وجود «الأنا» بعد إثبات وجود الفكر: «ما دمت أفكر، فأنا موجود.» ولو شئنا أن نضع التحولات السابقة في صورة أحكام لانقسم دليل الشك إلى هذه الأحكام الثلاثة: (أ)
يمكن أن يتعلق الشك بكل شيء. (ب)
لا يمكن أن يتعلق الشك بالتفكير. (ج) «أنا موجود» صادقة بالضرورة ما دمت أفكر فيها.
ربما ذهب بنا الظن - كما ذهب ببعض نقاد ديكارت الذين رد عليهم في مجموعة ردوده الأولى والثانية
3 - إلى أن البناء الثلاثي السابق للأحكام يتخذ شكل قياس صوري، وأن مسار «التجربة السلبية» نوع من أنواع الاستنباط. غير أن ديكارت قد رفض هذا التفسير. صحيح أنه أراد لدليل الشك أن يكون دليلا، ولكنه استنكر أن يفهم منه أنه دليل قياسي. وهنا نقترب من دائرة التفكير الجدلي التي حاولنا أن ندخل إليها في رفق وحذر. والحق أن كل شيء حتى الآن يبرر - من الناحية الموضوعية - أن نتصور الدليل تصورا جدليا لا قياسيا، فنجعل من الحكم الأول قضية، ومن الثاني نقيضها. بيد أن المشكلة تتمثل في الحكم الثالث؛ فنحن لا نجد فيه تأليفا واضحا كما يقضي بذلك المنطق الجدلي، أضف إلى هذا أن الجدل الهيجلي لم تكن ساعته قد دقت بعد، فهل يجوز لنا أن ننسب إلى ديكارت شيئا لم يفكر فيه، أو لم يسمح به تركيب الدليل ولا روح العصر؟ إذا كانت حركة الفكر في هذا الدليل لا تدخل في بنية منطقية صورية ولا جدلية، فكيف نفهم طابع السلب الذي يسوده، والذي اكتشف ديكارت من خلاله نقطة «أرشميدس»، التي سينطلق منها ليقيم منهجه ويصوغ معياري الصدق واليقين عنده (وهما الوضوح والتميز الشهيران، اللذان اعتمد عليهما في إبطال الشك الشامل وإثبات استحالته)، كما يبدأ منها لإثبات يقينية الآخرين (وهما وجود الله، ثم وجود العالم) بطريقة لم تخل في رأي نقاده من رواسب التقاليد الوسيطة، ولم تبرأ من التكلف والتصنع؟
ليس من غرضنا أن ندخل في تفصيلات النقد المتجدد ل «الكوجيتو» الديكارتي منذ أيامه إلى يومنا الحاضر، ولا يدور في الخاطر أن نجعل من ديكارت جدليا على الرغم منه أو برضاه؛ فالمهم لدينا هو الحركة الفكرية التي تحولت من سلب إلى إيجاب، ومن تناقض للفكر مع نفسه إلى رفع لهذا التناقض؛ ومن ثم إلى مجاوزة أزمة منطقية وتاريخية، بإيداع منهج وفلسفة تبلورت فيها حرية إنسان عصر النهضة، وإرادته التي صممت على اكتشاف «الحقيقة» من داخله وبقدراته المستقلة عن كل سلطة أو تقليد، ومضت تستقبل عصرا جديدا، وفكرا وعلما جديدين، لا يلتفتان إلى الظلام الذي تركاه وراءهما.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يؤكد ديكارت أنه لم يكتسب بداهة «الكوجيتو إرجوسوم» (أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود) عن أي طريق منطقي أو تأليفي.
4
ولو فهمنا دليله على أنه قياس لأخطأنا حركته الفكرية، وربما أخطأنا كذلك حركة الفكر الحديث كله في عصر النهضة. ولقد أوضح ديكارت نفسه أن الشك في كل شيء يحد من الشك نفسه، وأن هذا التحديد يفضي إلى الاعتراف بوجود الأنا المفكرة؛ ولهذا فإن قوة الدليل تكمن في نوع من الربط الغريب الذي يختلف عن المنطق الصوري والقياس التقليدي، ويؤدي من الحكم الأول إلى الحكمين التاليين. فالربط هنا مختلف عن القياس الذي يتم فيه الربط بين حكمين واستنتاج حكم ثالث عن طريق حد أوسط، وليس لدينا في دليل الشك سوى مفهوم واحد، هو الذي يمثل مضمون أحكامه الثلاثة؛ هذا المفهوم هو الفكر نفسه. وديكارت يضع هذا الفكر - على سبيل التجربة - في صورة تفكير سلبي أو سالب؛ أعني في صورة الشك في كل شيء. ولقد كان من المنتظر أن يؤدي هذا الشك الحاسم إلى العدم أو اللاشيء، غير أنه يتمخض من خلال التأمل الذاتي المنعكس، وبما يتفق مع الرغبة في استبعاد التناقض، عن تجربة غريبة أو عن شيء غريب، هو أن ثمة شيئا واحدا يستثنى منه؛ فلا فعل الشك الذي أقوم به، ولا الخطأ والخداع عن طريق مخادع واسع الحيلة، بقادرين على إبطال وجود الشك بوصفه فكرا. من ثم ينشطر مفهوم الشك هنا إلى فعل الشك وموضوعه؛ إلى تفكير محدد، وموضوع ينصب عليه هذا التفكير. وهنا يتجلى استحالة الشك في الشك نفسه بما هو تفكير، ويبزغ وجود الفكر من ظلمات الشك ومن ضبابه العدمي. ثم يقوم هذا الفهم أو هذا المفهوم المختلف للشك بتحول جديد؛ إذ تبزغ منه الأنا بعد أن أصبح تفكيرا، وتتميز عنه؛ لأن التفكير - كما تصور ديكارت، صوابا أو خطأ - لا يستقيم بغير وجود أنا مفكرة. وما دام الشك والخداع كلاهما عاجزين عن الحيلولة بيني وبين التفكير، فلا بد أن تكون «الأنا» متضمنة في هذا التفكير.
لقد كان في إمكان ديكارت أن يصوغ مفهومه أو تجربته الفكرية بخطواتها الثلاث (من الشك في كل شيء، إلى تناقض هذا الشك مع نفسه، إلى إثبات وجود الفكر الذي لم يستطع - أي الشك - أن يمتد إليه) على هيئة قياس من هذا النوع:
الشك تفكير.
وكل تفكير هو وظيفة الأنا.
إذن فالشك وظيفة الأنا، ويفترض وجودها.
وكان في إمكانه أن يضع «الكوجيتو» في صورة قياس آخر، على نحو ما فعل الفيلسوف المنطقي والرياضي هينريش شولتس (1884-1956م):
في كل مرة أفكر، أوجد.
أنا أفكر الآن؛
فأنا موجود الآن.
5
غير أن هذه الأشكال القياسية وما شابهها لا تستطيع أن تكون بديلا عن دليل الشك؛ ذلك لأنها تغفل نوعية الربط الذي ينطوي عليه، ويختلف - كما سبق القول - عنه في أي شكل من أشكال القياس المعروفة؛ لأن تجربة الشك السلبية قد ألغت نفسها بنفسها، ورفعت تناقضها الذاتي - كما رأينا - على نحو جدلي لا غبار عليه ولا شبهة فيه.
وسواء كان هذا جدلا من النوع المأثور أو لم يكن، فإن جدلية الشك أو النقد السلبي الشامل على عتبة العصر الحديث تشهد من الناحية التاريخية والواقعية شهادة كافية على حرية الإنسان الأوروبي الحديث (التي لم يفقدها بعد ذلك أبدا، كما قال شلينج عن ديكارت)، وربما تشهد كذلك بصورة غير مباشرة على قدرته الإبداعية على مواجهة الأزمة التاريخية والحضارية التي عاناها وخرج منها، ليمضي منذ ذلك الحين على طريق السيطرة على الباطن والظاهر؛ أعني على ذاته وعلى الطبيعة جميعا. والمهم في هذا السياق أنه عاش تجربة الأزمة والتناقض من خلال تأمل ذاتي سلبي، انعكس فيه تفكير فيلسوفه ديكارت على نفسه، وعبر - بتجربته الفكرية والمعرفية - عن تجربة الإنسان الحديث، الذي نفض عن نفسه أغلال القديم المأثور، وخطا أول خطوة إيجابية على طريق الحداثة الطويل، وهو طريق لم تنته أزماته وتناقضاته، ولن ينتهي نداؤه بمواجهتها بالشجاعة والجرأة والصدق؛ أي بمغامرة إبداع الذات والوجود باستمرار. وهل من سبيل للإبداع إلا بالحركة الفكرية المستمرة بين قطبي السلب والإيجاب، ومن أزمة تناقض ترفع إلى حين لكي تتولد عنها أزمة تناقض جديد تتطلب بدورها إبداعا من نوع جديد؟ ألم تجاوز الحركة الفكرية، التي أطلقها ديكارت لأول مرة، منطق أرسطو الصوري وعقلية العصر الوسيط، إلى فكر جديد كان عليه أن ينتظر أكثر من قرن من الزمان، ليجد صورته الجدلية على يدي هيجل وأتباعه من رواد العصر الحديث والتفلسف الحديث؟
هل بدأ مؤسس الفلسفة الحديثة كما بدأ أبوها من التناقض؟ هل انطلق فيلسوف المثالية النقدية في بحثه عن المنهج «الترنسندنتالي» (أي الشارطي المتعلق بالشروط والمبادئ الأولية أو القبلية للمعرفة) من أزمة تبدت في صورة تناقض أرقه وحفزه لالتماس الحل الإيجابي لإشكاله السلبي المدمر للعقل؟ وما هي نقطة الانطلاق إلى منهجه النقدي الذي اختبر به إمكان أن تصبح الفلسفة في النهاية علما دقيقا ووثيقا كسائر العلوم (الطبيعية والرياضية) الجديرة بالاحترام؟!
يبدو الأمر مع «كانط» أصعب مما كان عليه مع ديكارت، ومما سيكون عليه مع «هسرل»، اللذين تطورت بحوثهما عن المنهج، ومحاولاتهما لتأسيسه في خط طبيعي واضح؛ فبناء الكتاب النقدي الأكبر لكانط وللفلسفة الحديثة كلها وهو «نقد العقل الخالص» بناء شديد التعقيد. ومن المحتمل في رأي بعض المؤرخين والدارسين أن يكون كانط قد بدأ حقيقة من النتيجة التي توصل إليها من جهوده التي بذلها طوال سنوات عدة لإيجاد مخرج من الأزمة وحل للتناقض، وإن كان ترتيب فصول الكتاب لا يكشف عن ذلك بسهولة. وبيان هذا أن الباب المهم الذي يتعرض فيه لنقائض العقل الخالص (وهو المعروف تحت عنوان الجدل المتعالي أو الديالكتيك الترنسندنتالي) قد جاء في نهاية الكتاب، وشغل منه أكثر من ثلاثمائة صفحة، وكان حريا أن يبدأ به؛ لأنه هو المنطلق الحقيقي لفلسفته النقدية كلها، لكن الذي حدث هو أن كانط قد وضع آخر ما توصل إليه تطور تفكيره في الأزمة كلها في أول الكتاب (وهو النظرية الشارطية التي قدم فيها نظريته الأصيلة عن «حدسي المكان والزمان»، وهما شرطا كل عيان أو إدراك حسي وإطاراه الملازمان، في حين أخر بداية تفكيره المنهجي كما قلنا، على نحو قد يحمل على الظن بأنه نتيجة بحثه عن المنهج، وهو في الواقع منطلقه ومفجره إن صح التعبير).
سنفترض إذن أن هذا الاحتمال صحيح وإن كان تعقيد بناء الكتاب الشهير لا يوحي به، وتؤيد هذا الافتراض رسالة مهمة كتبها كانط إلى معاصره الفيلسوف (الشعبي) كرستيان جارفة (1742-1789م)، وذكرها مؤرخ الفلسفة الحديثة المعروف «بنو إردمان» في بحث
6
أكد فيه أن المثالية الترنسندنتالية لم تكن هي الفكرة التي قام عليها كتاب كانط الرئيسي، وإنما هي النقائض التي يقع فيها العقل الخالص بسبب تحليقه فوق حدود التجربة الممكنة، وطموحه المتهور إلى تحقيق مثله المطلقة المتعالية كوجود الله وخلود النفس ... إلخ، وإثبات صحتها وضرورتها اعتمادا على قواه التأملية المجردة وحدها.
عبر كانط في الرسالة المذكورة عن أن واقعة وجود المتناقضات هي التي حركت تفكيره، فقال بالحرف الواحد: «لم يكن البحث في وجود الله وخلود النفس ... إلخ، هو النقطة التي انطلقت منها، بل كانت هي نقيضة العقل الخالص (التي تقول في أحد طرفيها إن العالم له بداية، وتقول في طرفها المقابل ليس للعالم بداية ... إلخ)، حتى النقيضة الرابعة التي تثبت وجود الحرية الإنسانية مرة وتنفي وجودها مرة أخرى مؤكدة أن كل شيء فيه (أي في الإنسان) خاضع للضرورة الطبيعية، كانت هذه «النقيضة» هي التي بدأت بإيقاظي من النعاس الدجماطيقي (أي نزعة القطع والتأكيد المتزمت بغير سند من التجربة)، ودفعتني إلى نقد العقل نفسه؛ وذلك بغية القضاء على فضيحة التناقض الظاهر للعقل مع ذاته.»
7
يتضح من هذا النص أن الفكرة التي انطلق منها كانط لتكوين منهجه النقدي، أو إن شئت لإبداعه، متفقة إلى حد كبير مع الفكرة التي انطلق منها ديكارت ثم هسرل من بعده، كما سنرى في الجزء الأخير من هذا المقال. لقد صدروا جميعا عن المنبع نفسه. والمنبع هو الفكر المناقض لذاته، وهو التناقض أو التناقضات التي تظهر في سياقات معرفية معينة، فيدخل الفيلسوف في صراع معها، ويستقصي معانيها، ويحاول تفسيرها والخروج منها، يحدوه في ذلك الاعتقاد - المستند إلى مبادئ المنطق الصوري - بأن المعرفة الصادقة والعلم الدقيق المحكم لا يستقيمان مع وجود التناقض؛ ومن ثم تبدأ عجلة البحث عن المنهج الجديد الكفيل بإزالة هذا التناقض في الدوران.
هنا يفرض هذا السؤال نفسه: أهو تناقض واحد هذا الذي يقع فيه العقل أم هو أكثر من تناقض؟ وهل يصنعه العقل بإرادته أم بغير إرادته؟ يصرح كانط بأنه ليس تناقضا واحدا، بل هو نظام كامل من أفانين الغش والخداع الذي يعشي البصر، يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وتتوحد تحت مبادئ مشتركة.
8
فإذا سألنا: وكيف ينشأ هذا التناقض أو النظام الكامل من التناقضات، وجدنا عدة أجوبة تدور حول محور واحد، وترجع إلى أصل واحد؛ فالتناقضات لا تنشأ إلا عندما تؤخذ الظواهر أو عالم الحس الذي يضمها جميعا مأخذ الأشياء في ذاتها، وهي ليست بالمصطلح الكانطي «ظواهر»، وإنما هي «مظاهر» وأوهام، وهي في الأصل لا تنشأ عن التجربة ولا عن العيان
9 (الإدراك الحسي) ولا عن الظواهر، وإنما يوجدها العقل البشري نفسه عندما يندفع (بحكم ميله الطبيعي) إلى مجاوزة عالم التجربة، أو على حد تعبير كانط إلى مجاوزة «الاستخدام التجريبي»،
10
ثم إنها أوهام طبيعية لا مفر منها، ولا سبيل إلى تجنبها؛
11
لأنها ترجع إلى طبيعة العقل نفسه في نزوعه لتخطي عالم التجربة.
وهو يشبه هذه الأوهام بأنواع مختلفة من الخداع البصري الذي يصيبنا - على سبيل المثال - عندما يبدو سطح الماء في وسط البحر وكأنه ليس أعلى من سطحه على الشاطئ، أو عندما يبدو القمر أثناء طلوعه أصغر مما هو عليه في الحقيقة، وكما يتحتم علينا في مثل هذه الأحوال أن نخطئ في إدراك الأشياء، كذلك يصعب علينا أن نتحاشى الوقوع في وهم «المظهر الترنسندنتالي» وخداعه؛ فالأمر هنا يتعلق بنوع من «الديالكتيك» أو الجدل الذي يلتصق بالعقل البشري على نحو ضروري لا مناص منه، بل إنه بعد أن نكشف عن خداعه الذي يغشي البصر، لا يكف عن مخايلة العقل، ولا يتوقف عن الإلقاء به كل لحظة في أنواع من الضلال التي تحتاج على الدوام إلى التخلص منها.
12
هكذا نجد أن تناقضات العقل ذات طبيعة خاصة؛ فهي لا تنشأ بإرادة العقل كما هو الحال - على سبيل المثال - مع التناقض المشهور عن «الدائرة المربعة»، حين أجمع بطريقة تعسفية بين مفهوم المربع ومفهوم الدائرة، ثم إنها (أي تناقضات العقل) لا تنشأ من الواقع؛ لأنها - كما أكد في تشبيهه لها بأنواع الخداع البصري - أوهام فكرية متنوعة الأشكال. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نتابع شرح كانط لتناقضات العقل الخالص، كما عرضه في باب الجدال المتعالي على صورة جدول مفصل للنقائض المختلفة والحجج المؤيدة لطرفيها المتضادين (العالم له بداية في الزمان أو العالم قديم ولا بداية له، الجوهر يتألف من أجزاء لا متناهية أو متناهية، افتراض وجود كائن ضروري أو عدم ضرورة افتراضه، افتراض الحرية الإنسانية أو الحتمية ... إلخ)؛ فالذي يعنينا في هذا المقام هو «الأزمة» التي أثارها وجود التناقض - بل فضيحته كما عبر أكثر من مرة! - في تفكير كانط، والجدية التي جعلته يأخذ على عاتقه عبء تخليص العقل الحديث من أخطاره وتحذيره من مهاوي التردي فيه، والرسالة السابقة التي كتبها إلى «جارفة» تشهد على هذا، كما تشهد عليه الشكوى المتصلة من وجود التناقض. ويكفي أن نستمع إلى هذه النغمة الحزينة التي يرددها في «نقد العقل الخالص» وغيره من مؤلفاته؛ لنشعر بمدى إشفاقه على مصير الإنسان الحديث إذا استسلم للتناقضات المغروسة في فطرته العقلية. إن وجود التناقض بوجه عام في العقل الخالص، لأمر يدعو إلى الشعور بالكمد والإحباط، كما أن من المحزن أن يقع هذا العقل في نزاع مع نفسه، مع أنه يمثل أعلى محكمة تفصل في جميع المنازعات.
13
وإنه لمما يصيب العقل البشري بالخيبة والخذلان ألا يحقق شيئا من وراء استخدامه المحض (الخالص)، بل أن يحتاج - بالإضافة إلى ذلك - إلى نظام يلجم شطحاته، ويجنبه أسباب الخداع التي تجرها عليه وتعشي بصره.
14
هذا التناقض السلبي أو «الفضيحة» التي يقع فيها العقل بحكم طبيعته هي الدافع والمنطلق لتكوين المنهج النقدي وتطويره. وإذا قبلنا الفرض السابق بأن «الجدال المتعالي» الذي يقوم فيه كانط بتحليل النقائض ونقدها، هو البداية الحقيقة لمذهبه النقدي كله ولكتابه نقد العقل الخالص، فلا بد من القول بأن هذا النقد السلبي أو غير الموضوعي (أي غير المرتبط بموضوع) يذكرنا بدليل الشك عند ديكارت، وتجربته في التأمل الذاتي المنعكس، حيث استطاع كانط أن يخرج من تحليله السلبي للنقائض بمنهج إيجابي وموضوعي في نقد المعرفة وتعيين حدودها؛ أي في نقد العقل البشري لنفسه بنفسه. وها هو ذا يستطرد بعد النص الأخير الذي أكد فيه حاجة العقل لنظام يلجم شطحاته، فيقول: «إلا أن مما يزيد من ثقته (أي العقل) واعتزازه، بأن يكون قادرا على تطبيق هذا النظام بنفسه، وأن يحس بضرورته دون أن يسمح لأي جهة أخرى بممارسة الرقابة عليه، وأن تكون الحدود التي يضطر لوضعها للحد من استعماله التأملي المجرد قادرة كذلك على الحد من المزاعم التي يثيرها أي خصم ويلبسها لباسا عقليا مصطنعا، وأن يؤمن بالإضافة إلى ذلك كل ما تبقى من مطالبه السابقة المبالغ فيها من كل هجوم ممكن.» بهذا يثبت العقل وجوده عندما يطبق نظام النقد، ويبرهن كذلك على أن «هذه المحكمة العليا لكل حقوق تأملنا المجرد وتطلعاته ومطامحه، محال أن تتضمن هي نفسها أي لون من ألوان الغش الفطرية والخداع الذي يعشي البصر.»
15
هكذا يؤدي نقد شطحات العقل الخالص (لإثبات مثله وحقائقه المطلقة المتعالية دون أي سند تجريبي وعلمي كما سبق القول)، أي نقد الأخطاء والتناقضات التي يقع فيها، إلى معرفة العقل لذاته، على نحو ما أدت تجربة الشك عند ديكارت إلى يقينه الذاتي؛ ومن ثم يضع كانط الوحدة المنهجية لتفكير العقل النقدي في مقابل تناقضات التفكير الميتافيزيقي، كما يضع الوحدة الباطنة للعقل نفسه في مواجهة وحدة العالم التي عجز العقل التأملي عن التوصل إليها. وإذا كانت تجربة ديكارت قد أثبتت أن «الأنا» تظل موجودة داخل الشك في كل شيء، وأنها تعطي لنفسها فيه عطاء سلبيا، فإن العقل عند كانط يجرب كذلك يقينه الذاتي من خلال السلب. ويتضح الطابع السلبي للعملية النقدية كلها في هذه العبارة: «يترتب على هذا أن أكبر فائدة تقدمها فلسفة العقل الخالص، وربما تكون الفائدة الوحيدة منه، هي فائدة سلبية فحسب؛ ذلك لأنها (أي فلسفة العقل الخالص) ليست أداة صالحة للتوسع (في المعرفة)، وإنما هي نظام يصلح لتعيين الحدود. وبدلا من أن «تنسب لنفسها فضل» اكتشاف الحقيقة يقتصر فضلها على الحماية في هدوء من الوقوع في الأخطاء.»
16
صحيح أن كانط لم يبسط لنا طريقة ظهور مواقفه المنهجية الإيجابية خطوة خطوة كما فعل ديكارت، ولكنه وصف على كل حال علاقة منهجه بالتناقض وصفا دقيقا في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه نقد العقل الخالص، حيث يقول:
17 «إن المنهج المقتبس من دارسي العلوم الطبيعية، يتكون من البحث عن عناصر العقل الخالص فيما يمكن تأييده أو دحضه عن طريق التجربة، بيد أن قضايا العقل الخالص، وبخاصة عندما تخاطر بتجاوز كل حدود التجربة الممكنة، لا تسمح بإجراء أي تجربة مع موضوعاتها (كما هو الحال في العلم الطبيعي) لاختبار تلك القضايا؛ ولهذا لن يكون في وسعنا إجراء هذا الاختيار إلا على مفاهيم ومبادئ نسلم بها قبليا ونتناولها، بحيث يمكن النظر إلى هذه الموضوعات نفسها من وجهتي نظر مختلفتين، فتكون من ناحية موضوعات للحواس وللفهم المتعلقة بالتجربة، ومن ناحية أخرى موضوعات يكتفى بالتفكير فيها بوصفها موضوعات للعقل الخالص المنعزل الذي يسعى جهده لتخطي حدد التجربة. فإذا وجدنا أن النظر إلى الأشياء من وجهة النظر المزدوجة هذه يؤدي إلى الاتفاق مع مبدأ العقل الخالص، وأن النظر إليها من وجهة نظر واحدة يؤدي حتما إلى تصارع العقل مع نفسه؛ فإن التجربة هي التي ستفصل في صحة تلك التفرقة.»
يصف هذا النص عملية نقد العقل الخالص بأنها تجربة. وهي تجربة مختلفة في طابعها عن التجارب التي تتم في العلوم الطبيعية؛ لأنها لا تجري على موضوعات بالمعنى العيني المتعارف عليه لهذه الكلمة؛ ولهذا كانت في الواقع تجربة ذاتية يقوم بها العقل على نفسه. وللتجربة بهذا المعنى شقان: أحدهما سلبي، ينشأ عنه صراع العقل أو نزاعه مع نفسه؛ والآخر إيجابي، يتم فيه التوافق مع مبدأ العقل الخالص. ومن الواضح أن الشق السلبي للتجربة يحمل في تضاعيفه الشق الإيجابي؛ أي إن حل التناقض يقتضي أن يقوم العقل الخالص بوضع ذلك المبدأ الذي يلزمه (أي العقل) بالتوافق معه. لا بد إذن أن يجد العقل مبدأه، وأن يتوافق معه لكي يتسنى التخلص من فضيحته التي جرها عليه اندفاعه لما فوق حدود التجربة الممكنة، ونزوعه للتساؤل غير المحدود عن أمور غير محدودة (الله، والحرية، والخلود، وتناهي العالم في الزمان أو عدم تناهيه ... إلخ). وهل يكون لهذا كله غير تسمية واحدة هي تحديد العقل لحدوده، أو بمعنى آخر نقد العقل؟ وهل يفضي الطريق الذي يمضي عليه العقل في بحثه لتلك المتناقضات إلا إلى التبصير بمبدئه الخاص؟ صحيح أن الأمر هنا لن يكون شبيها بظهور «يقين الأنا» ظهورا مفاجئا من طوايا الشك الشامل كما حدث مع ديكارت؛ لأن التفكير المتأني الدقيق في كل أخطاء العقل وضلالاته، هو الذي سيسمح بمطالعة وجهه الأصيل وتعرف جوهره الحق؛ ولذلك فلن تنهض أمامنا هذه الصورة التي يصفها كانط في ختام كتابه إلا بعد مراجعة الإمكانات السلبية للعقل مراجعة نقدية متعمقة (لا يجوز تشبيه عقلنا بسطح مستو يتعذر تعيين حدود مساحته الشاسعة، بحيث لا يعرف عنها إلا أنها تند عن التحديد، وإنما يجب أن يشبه بشكل كروي يمكن تعيين نصف قطره عن طريق الخط المنحني على سطحه (أي وفق طبيعة القضايا التأليفية القبلية)، كما يمكن كذلك تعيين محتواه وحدوده بطريقة مؤكدة، أما خارج هذا الشكل الكروي (أي خارج مجال التجربة) فليس ثمة شيء يمكن بالنسبة إليه أن يعد موضوعا، بل إن الأسئلة التي تطرح عن أمثال هذه الموضوعات المزعومة، لن تتناول المبادئ الذاتية للتحديد الدقيق للعلاقات التي يمكن أن توجد داخل هذا الشكل الكروي بين تصورات الفهم (أو الذهن)).
18
لا شك أن العبارة السابقة - على الرغم من صعوبتها الكانطية! - قد قدمت لنا صورة حية عن شكل كروي محدد، في مقابل سطح مستو يتعذر تحديده لشدة اتساعه، والعقل هو هذا الشكل الكروي الذي تحدده القضايا التأليفية القبلية (التي يعرف عنها قارئ كانط أنها شرط قيام العلم؛ فلولا توافرها في العلوم الطبيعية والرياضية لما أصبحت علوما بالمعنى الدقيق) كما يحدد الخط المحني نصف قطر الدائرة. أما ما يقع خارج هذه الدائرة فلا ينتمي للعقل، ولا يخضع لمبدئه الذي تحدده كذلك الأحكام التأليفية القبلية. والأمر في النهاية يتعلق بمعرفة الحد؛ فكما كانت ال «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود»، التي اكتسبها ديكارت من تطبيق الشك على كل شيء تحاشيا للوقوع في الخطأ، هي التي وضعت حدا لذلك الشك، وبدأت طريق البحث المنهجي عن اليقين، كذلك كان بحث كانط لتناقضات العقل الخالص هو سبيله للعثور على الحد، ومعرفته بالحد هي التي رسمت الطريق إلى المنهج الشارطي والمعرفة الشارطية (أو الترنسندنتالية التي لا تتعلق بالموضوعات، بل بطريقة معرفتنا بهذه الموضوعات، بقدر ما تكون هذه الطريقة قبلية)، وهي كذلك التي بصرته بمبدأ العقل الخالص، الذي عبرت عنه ثورته «الكوبرنيقية» الشهيرة (نسبة إلى كوبر نقوس (1473-1543م) صاحب التحول الشمسي المعروف، وخلاصتها أن إدراكنا أو عياننا الحسي ومفاهيمنا أو تصوراتنا الذهنية لا تتوجه وفقا للموضوعات، بل إن هذه الموضوعات هي التي تتوجه وفق ملكة عياننا وتصوراتنا)؛ ومن ثم تكون المعرفة السلبية بالمتناقضات التي يقع فيها العقل الخالص بسبب شطحاته الميتافيزيقية المجردة، هي التي أدت به إلى المعرفة الإيجابية بحدود العقل والمعرفة البشرية التي رسمها منهجه الشارطي وفلسفته النقدية الكفيلتان بالتخلص من تلك المتناقضات. والواقع أن الحديث عن تطور هذا التحديد الإيجابي للعقل وتفصيلاته معناه الحديث عن الإستطيقا والأنالوطيقا الترنسندنتالية (نظريته عن المعرفة الحسية والمعرفة الذهنية) اللتين تؤلفان مع الديالكتيك الترنسندنتالي وحدة واحدة لا تنفصم عراها؛ أي عن «النقد» كله في جانبه المعرفي. وهنا يتوقف القلم الذي يعرف حدوده مكتفيا بالغرض الذي قدمه عن المنطق الجدلي لفلسفة النقد التي لا تخرج - في بنائها وغايتها - عن أن تكون معرفة بالحد.
ربما يكون السر الكامن وراء كل منهج فلسفي أصيل - ولعله كذلك أن يكون سر الإبداع، أو جانبا منه على أقل تقدير في التفكير الفلسفي على وجه العموم - هو التحول الذي يحدثه التفكير النقدي السلبي أو غير الموضوعي في أزمة التناقض، فيتجه إلى تفكير إيجابي يبني الموضوع ويكون حقيقة وجوده. ولقد تم هذا التحول عند كل من ديكارت وهسرل، كما سنرى بعد قليل، على أساس البداهة التي تأذت من كون التناقض محالا. لم يحتج أحد منهما لاختبار إمكانية هذا التحول؛ إذ شعرا بما يشبه الإيمان الساذج بأن التناقض الذي تبدى لهما محال، واستند هذا الإيمان على اعتقاد ميتافيزيقي مطلق في صحة المنطق الصوري، واعتقاد لا يقل عنه إطلاقا في صحة العلم (الطبيعي والرياضي) ويقينه. كان كلاهما شديد الإقناع بأن التناقض قيمة سلبية، وأن ظهوره علامة أكيدة على مشروعية «المعطى الإيجابي» الذي وضعاه في مقابله كما يوضع الصدق في مواجهة الكذب والزيف. ويختلف الأمر قليلا مع كانط الذي احتاج للمضي على طريق مضن وغير مباشر، لتدعيم وجهة نظره الإيجابية أو منهجه الشارطي الذي لم يعط له ببساطة البداهة التي عرفناها عند ديكارت، والتي سوف نعرفها عند هسرل، وإن بقي التناقض ومحاولات حله - كما سبق القول - وراء تحوله نحو المنهج الجديد، بحيث لا يمكن فصله عنه إلا إذا أمكن فصل الجذر عن ساق الشجرة وفروعها وثمارها. يدل على هذا قوله في المقدمة المهمة التي أضافها إلى الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص (1787م):
فإذا سلمنا بأن معرفتنا التجريبية تتوجه حسب الموضوعات بما هي أشياء في ذاتها، ووجدنا أن المطلق لا يمكن التفكير فيه بغير تناقض، ثم سلمنا - على العكس من ذلك - بأن تمثلنا للأشياء كما هي معطاة لنا لا يتوجه حسب هذه الأشياء بما هي أشياء في ذاتها، بل الأصح أن هذه الموضوعات، بوصفها ظواهر، هي التي تتوجه حسب طريقتنا في التمثل، ووجدنا أن التناقض قد سقط، وأن المطلق - تبعا لذلك - لا يوجد بالضرورة في الأشياء من حيث إننا نعرفها (أو من حيث إنها تعطى لنا)، وإنما يوجد فيها من حيث إننا لا نعرفها؛ أي بما هي موضوعات في ذاتها؛ عندئذ يتبين أن ما سلمنا به في البداية
19
ربما يوافقني القارئ على أن النص الأخير يعبر عن الدافع الذي حرك كانط كما حرك غيره من الفلاسفة إلى إيجاد المنهج، وهو أن استبعاد التناقض والتغلب على أزمته هو الأمر الحاسم في وجود المطلق أو الحقيقة التي يضعها أو التي تعطى له. وطبيعي أن يختلف تصور فيلسوف للتناقض عن الفيلسوف الذي سبقه باختلاف تصورهما للنقد، وأن يحدد اختبار نوع التناقض طريقه المنهجي. والمهم أن موقفه النقدي من التناقض يحدد مبادئه المنهجية ويثبتها، بحيث تصبح الحقائق التي تعطى نفسها حقائق منهجية وموضوعية بقدر ما تتميز من التناقضات، وتستبعدها بسبب كونها محالة. وطبيعي أيضا أن يضيق هذا المنهج من مجال الحقيقة ومن مفهوم الوجود. فالحقيقة عند ديكارت هي حقيقة الأنا؛ ولذلك اقتصر الوجود عنده على وجود الفكر أو «الأنا» المفكرة. وهي عند كانط وجود المعرفة الضرورية العامة الصدق؛ ومن ثم اقتصر الوجود عنده على التحديدات والشروط القبلية الكفيلة بعرفته. أما عند هسرل فسوف نجد أنها هي الحقيقة في ذاتها بوصفها منطقية خالصة؛ ولذلك اقتصر مفهوم الوجود لديه على الوجود الظاهري أو «الفينومينولوجي»، الذي أعطيه عطاء مباشرا حيا في الشعور. ويبقى الشيء المشترك بين «مبدعي» المنهج في كل هذه الأحوال هو انطلاقهم الساخط والناقم على سلبية التناقض، الذي يجعلهم يبحثون عن «الوجود» من خلال محاولاتهم لحل التناقض.
إذا كان الأمر كذلك، فماذا نقول عن فيلسوف أزاح «الحد النقدي» الذي أقامه كانط لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة من المعرفة الميتافيزيقية الشاطحة في فراغ التناقض وعدمه، بل جعل من التناقض القلب النابض لفلسفته ومنهجه ورؤيته الجدلية كلها للفكر والوجود جميعا؟ ماذا نقول باختصار عن منهج هيجل، وفيم اتفق مع مناهج السابقين عليه وفيم اختلف عنهم؟
لا شك أن قراء هيجل (وهم بحمد الله كثيرون، ووجودهم يؤكد أن «الجدية الصامتة» لم تنقرض من بلادنا، برغم الضجيج الكاذب الذي يحاصرنا ويكاد أن يصيبنا باليأس القاتل داخل دوائر الثقافة والأدب والفن والفلسفة نفسها وخارجها أيضا) أقول إن قراء هيجل يذكرون بغير شك عبارته الشهيرة الواردة في مقدمة كتابه «ظاهريات الروح»: إن الأمر الذي عقدت عليه العزم هو المشاركة بجهدي في أن تقترب الفلسفة من هدفها، وتتمكن من طرح الاسم الذي توصف به، وهو حب العلم؛ لكي تصبح علما حقيقيا.
20
هذا الجهد الذي يذكره هيجل جهد منهجي قبل كل شيء! وهو يختلف عن كل الجهود التي بذلها أصحابها لكي يسيروا بالفلسفة «على الطريق الأكيد للعلم»، واضعين تقدم المعرفة ودقتها في العلوم الرياضية والطبيعية نصب أعينهم. لم يحاول فيلسوف الجدل الأكبر في العصر الحديث أن يجعل من منهجه الجدلي نموذجا للمعرفة الموثوق بها، بالمعنى المتعارف عليه في العلوم «الدقيقة»، ولم يذهب إلى حد القول بأن يقين الرياضيات هو اليقين العلمي الحق؛ إذ صرح في أكثر من موضع من كتاباته برفض المنهج الرياضي وعدم الاعتماد عليه.
21
وإذا كان قد أسس منهجا فلسفيا وصفه بأنه هو المنهج الحقيقي والعلمي الوحيد، فقد أسقط جميع شروط المنهج الدقيق التي افترضها غيره من السابقين أو اللاحقين. والسبب في هذا بسيط، فموقفه المختلف كل الاختلاف من التناقض هو الأساس الذي أقام عليه منهجه؛ ذلك أن التناقض عنده لا يأخذ ذلك المعنى المزدوج الذي نجده عند الفلاسفة الباحثين عن المنهج الدقيق؛ فقد رأينا كيف يمثل من ناحية نقطة الانطلاق الفعلية لتطور بحثهم عن المنهج، كما يحدد طبيعة الفكرة التي ستكونه، واتجاه هذا التطور نفسه. ورأينا من ناحية أخرى أنهم نظروا إليه (أي إلى التناقض) نظرتهم إلى طريق مسدود للمعرفة، أو وهم ينسج العقل خيوطه، وخطأ فظيع يقع فيه بإرادته أو بحكم ميوله وفطرته. ولكن هيجل يدير ظهره لكل هذه المفاهيم والتحديات الرافضة للتناقض؛ فالتناقض عنده هو المبدأ المحرك للعالم، وهو من أكثر المبادئ تعبيرا عن حقيقة الأشياء وماهيتها، وهو مصدر كل حركة وكل حياة؛ فالشيء لا يتحرك إلا لأنه يحوي في صميمه تناقضا وقوة دافعة ونشاطا.
22
والنقائض لحظات ضرورية للتفكير ونسقه الحي المتطور، أي نسق المنطق نفسه؛ فهي شروط تقوم عليها المعرفة، وليست عقبات في طريقها، ولا تتعارض مع مفهومها كما كان الحال عند أولئك الفلاسفة؛ إذ لا يمكن - في رأيه - تحديد ماهية المعرفة مع استبعاد التناقض. بهذا يكون قد قطع الخيط أو كسر السلسلة التي وصلت ديكارت بكانط، ثم التفت حول هسرل، وربطتهم جميعا فكرة محددة عن «علمية» الفلسفة ومنهجها الصارم المحكم، مهتدين في ذلك - كما سبق القول - بالعلوم الدقيقة من جهة، ومن جهة أخرى بالمنطق الصوري الذي رفض التناقض في الوجود والفكر، وعده علامة التهافت والفساد. وبهذا أيضا تكون الفلسفة قد فقدت على أيديهم أهم ما يميزها في نظر هيجل، وهو أن تكون معرفة بالكلي الشامل، أو علم الكل الذي لم يكن المنهج الجدلي إلا عرضا لتطوره في إيقاعاته الثلاثية أو مثلثاته الكثيرة.
ولقد أدى حرص أولئك الفلاسفة على المنهج الدقيق والمعرفة الخالية من التناقض إلى فتح جرح عميق، أو إحداث صدع غائر، في التفكير نفسه، لم يتوقف عن الظهور والتجدد باستمرار؛ فقد شقه إلى نصفين متضادين إلى أقصى حدود التضاد: فكر سلبي ووهمي أو مظهري خاطئ يرفع نفسه بنفسه، وفكر صحيح أو إيجابي. والجهود المضنية التي بذلها كانط لرأب هذا الصدع ومد جسر بين الشقين معروفة؛ وقد أدت في النهاية إلى التمييز بين العقل الخالص والعقل العملي؛ بحيث برهن في الأول على نوع من المعرفة (العلمية الضرورية العامة الصدق) لا سبيل للبرهنة عليه في العقل الثاني (وهي المعرفة الأخلاقية والدينية)، وبحيث أمكنه أن يقول في النهاية فيما يشبه اليأس أو التسليم: «وهكذا اضطررت إلى رفع (استبعاد أو إلغاء) المعرفة لكي أفسح مجالا للإيمان (أو الاعتقاد)».
23
وبذلك قضى على الوحدة الباطنية للتفكير، وتم الفصل - عند كانط بوجه خاص - بين معرفة متناقضة وغير منهجية (فيما سماه الميتافيزيقا الدجماطيقية؛ أي التي تقطع بالحكم في أمور الحقائق المطلقة بغير دليل أو سند كاف)، وأخرى علمية أو منهجية دقيقة .
واجه هيجل هذا الصدع الغائر، وحاولت فلسفته كلها إعادة الوحدة الباطنة للفكر والوجود. ونقده الشديد للمناهج السابقة دليل على وعيه الحاد بتصدع العقل أو الروح الحديث، وعلى إيمانه بأن منهجه الجدلي هو الذي سيعيد للميتافيزيقا معناها المنهجي، ويرد إليها كرامة العلم. وسوف نستشهد على نقده للمناهج السابقة ببعض النصوص التي تقربنا من جوهر فلسفته أو تدور حول محورها.
ونبدأ بنقده للمنطق الصوري الذي آمن كانط بثباته
24
دون تغيير يذكر منذ عهد أرسطو، وسؤاله إن كانت صورة المنطق الذي اعتمد عليه كانط في جهوده لإقامة المنهج الفلسفي الدقيق هي الصورة النهائية التي تمثل المعرفة الفلسفية الدقيقة، أم إن المنطق نفسه معرفة متطورة بذاتها.
إن المنطق القديم يحتاج إلى تغيير شامل. والواقع أن الشعور بالحاجة إلى تعديله شعور موغل في القدم، وهو من ناحية الشكل والمضمون التي يظهر بها في المراجع الدراسية قد حظي - إن جاز هذا القول - بالاحتقار. وإذا كان الناس لا يكفون عن التمسك به، فما ذلك إلا لإحساسهم بأن المنطق بوجه عام شيء لا غنى عنه، وتعودهم على الاعتقاد بأهميته المرتكزة على تراث طويل، لا عن اقتناع بأن ذلك المضمون المألوف، والانشغال بتلك الأشكال الفارغة، لهما قيمة أو نفع حقيقي.
25
ثم يستطرد قائلا عن منهجه الجدلي: «وإذا كنت لا أنكر أن المنهج الذي اتبعته في هذا النسق المنطقي - أو بالأحرى الذي يتبعه هذا النسق نفسه - يحتاج إلى المزيد من الاستكمال، وأنه يقبل إدخال تفصيلات جزئية عليه، فإنني أعلم في الوقت نفسه أنه هو المنهج الحقيقي الوحيد. ويتجلى هذا بوضوح إذا عرفنا أنه ليس شيئا مختلفا عن موضوعه ومضمونه؛ لأن المضمون في ذاته، أي الجدل (الديالكتيك) الذي ينطوي عليه في ذاته، هو الذي يدفعه على الحركة المستمرة. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يتصف أي عرض بصفة العلم ما لم يتبع مسار هذا المنهج ويتفق مع إيقاعه البسيط؛ لأنه هو مسار الموضوع ذاته.»
26
ولو رجعنا بالذاكرة إلى كانط لوجدناه يصور الجدل في صورة «فن مظهري» يخلع على جميع معارفنا شكلا ذهنيا، حتى إذا تحققنا من مضمونه وجدناه أجوف شديد الفقر، وتأكد لنا أن ذلك المنطق العام (أي الجدل)، الذي لا يخرج عن كونه قانونا للحكم، قد أصبح أشبه بآلة (أورجانون) تستخدم، أو بالأحرى يساء استخدامها ، لإنتاج مزاعم تخدعنا بمظهرها الموضوعي.
27
هذه الصورة لا يمكن بطبيعة الحال أن تقارن، من قريب أو من بعيد، بصورته الحقيقية والعلمية عند هيجل، ومع ذلك فإن هيجل يعترف بفضل كانط، ويقره على قوله بأن التفكير الجدلي جزء لا يتجزأ من تكوين العقل، وإن خالفه بالطبع في إدانته لمعرفته «المظهرية» أو الوهمية: «لقد وضع كانط الجدل في مكان رفيع، وهذا من أجل أفضاله؛ فقد نزع منه مظهر التعسف الذي ألصقه به التصور العادي، وعرضه في صورة فعل ضروري من أفعال العقل.»
28
وهكذا تحول المظهر الضروري، وتحولت المعرفة الوهمية العقيمة، إلى لحظة موضوعية ومنهجية من لحظات التفكير، بل إن هذه اللحظة المعبرة عن الحركة الذاتية للتفكير تصبح في نظره هي «النواة» المنهجية والموضوعية للفلسفة نفسها. وما أكثر نصوص هيجل التي تؤكد أن الفلسفة ليست هي حركة الفكر المدرك فحسب، وإنما هي - قبل كل شيء - حركة الفكر الذي يدرك ذاته، وبه تبدأ الفلسفة بدايتها الحقيقية؛ فالفلسفة تبدأ حيث يدرك العام بوصفه الوجود الشامل، أو حيث ينظر إلى الوجود بطريقة عامة يظهر معها التفكير في التفكير.
29
ولقد سارت في مرحلتها الأولى - عند الإغريق والإيليين بخاصة - من الفكرة المجردة إلى الفكرة التي تحدد نفسها بنفسها.
30
وفي نهاية العصر الفلسفي (وهو الذي يشعر هيجل أنه عصره الذي يمثل اكتمال تاريخها السابق!) بلغت الفلسفة مرحلة الفكرة الحية الشاملة التي تعرف ذاتها،
31
أو الفكرة التي تفكر في ذاتها، والحقيقة التي تعرف نفسها، كما جاء في نهاية كتابه موسوعة العلوم الفلسفية.
32
لن نستطيع هنا تناول انعكاس المعرفة أو التفكير على ذاته؛ لأن معنى ذلك أن نتناول فلسفته كلها، وكيف تطور مضمونها، أو فض نفسه بنفسه، على حد تعبيره. ويكفي في هذا السياق أن نتعرض للطابع المنهجي لهذه الفكرة، وكيف تحولت العلاقة الذاتية للتفكير إلى منهج. ولا شك أن فكرة «الإيقاع الثلاثي» للجدل الهيجلي (من موضوع مباشر، إلى نقيض موضوع «متوسط»، إلى مركب يؤلف بينهما ويرفعهما معا، والمحافظة عليهما في مستوى أعلى وأكثر خصوبة) قد قفزت إلى ذهن القارئ بعد أن أصبحت ملكا مشاعا للوعي المثقف في العالم كله، وربما مال إلى الظن بأن فكرة هذا الإيقاع الثلاثي هي نفسها فكرة المنهج الجدلي ومساره. غير أن شكل المسار الجدلي ليس هو سر حياته وحيويته، ولو وقفنا الجهد عليه لدارت بنا طاحونة المثلثات الجدلية الشهيرة، كما دارت من قبل طواحين الأشباح المخيفة بالفارس الطيب الحالم (دون كيشوت)، وجنينا على أنفسنا وعلى هيجل، وربما شاركنا عن غير قصد في إثارة رياح الاتهام والسخرية التي طالما هبت عليه؛ ذلك أن قراءة هيجل بمنظار المثلث الشهير قد تدخلنا إلى عالمه، وقد تعيننا على قراءة الوجود الحي في الخارج، والفكر الحي في الداخل، ولكنها لن تضع أيدينا على «الفكرة الحية الشاملة» التي بدأ منها المنهج، ليعود إليها في نهاية المطاف بعد ملحمة الصراع والعناء.
إن بداية هذه الفكرة هي تفكيرها في تفكيرها، وبداية المنهج هي أن التفكير في التفكير يتولد عنه رفعه (نفيه أو سلبه) لنفسه وتوسعه في معرفة نفسه. بعبارة أوضح، يكون نقيض الموضوع هو رفع الموضوع، ويكون المركب هو الوحدة الجديدة التي تؤلف بينهما، وكلها لحظات ضرورية في «التطبيق الذاتي» للفكرة الحية الشاملة، أي لفكرة الفكرة، أو التفكير في التفكير، أو وعي الوعي (العقل أو الروح) لذاته.
33
ربما تبين لنا الآن أن هيجل يضع على كاهل فكرته تجربة الفلسفية كلها (ربما باستثناءات مادية وواقعية قليلة)، وهذه التجربة تنطق بأن العقل نفسه هو الذي يولد تناقضاته مع نفسه، وتبريراته أو «تأسيساته» لنفسه. بهذا نجد أنفسنا أمام الاستعمال المزدوج لما سميناه بالتفكير في التفكير، أو التأمل الذاتي، أو انعكاس الفكر والوعي والعقل على مرآة ذاته؛ فالفكرة تحمل نفيها في داخلها، مصداقا لقول هيجل في كتابه «علم المنطق»: «إن ما تنمو به الفكرة نفسها وتتطور، هو النفي (أو السلب) المعطى قبل ذلك، وهو الذي تطويه في ذاتها، وهذا هو الذي يكون الجدل الحقيقي،
34
وتلك هي اللحظة المنهجية الأولى.» أما اللحظة الثانية فيعبر عنها قوله في الكتاب السابق الذكر بأنها هي: «إدراك التضاد في وحدته، أو إدراك الإيجابي في السلبي.»
35
وهذه اللحظة الثانية هي التي تحول دون فهم «السلب أو النفي الذاتي للفكرة»، وكأنما هو تدمير لها أو قضاء عليها؛ فالواقع أنها تؤكد وجودها مرة أخرى في شكل أغنى وأوسع كما سبق القول، كما تنقل النفي الذاتي إلى إيجاب ذاتي على مستوى أعلى. وبهذا المعنى أيضا يمكن إجمال الخطوة الثلاثية الإيقاع للمنهج الجدلي في خطوة أو حركة واحدة، هي الحركة الذاتية للفكرة الشاملة؛ فكأن العلاقة الذاتية التي تظهر مرة في صورة سلب، وتظهر مرة أخرى في صورة إيجاب، هي التي تؤلف وحدة الشروط المختلفة التي تسير في حركة نموها؛ من الموضوع، إلى نقيض الموضوع، إلى المركب منهما. وعن طريق هذه العلاقة الذاتية تتراجع المرحلتان الأوليان لتتصلا بالفكرة الكلية التي بدأ منها؛ فما دام «الحق هو الكل» - على نحو ما تقول العبارة الشهيرة لهيجل - فلا بد أن يحتل التناقض موضعه المنهجي من هذا الكل، وأن يكون هو موضع القلب من الجسد العضوي الحي.
لم يكن هدفنا من هذا العرض - المخل! - لمنهج هيجل الجدلي هو النظر في تطبيقاته الحية على أعماله الثرية المتنوعة، ولم يكن كذلك هو الهدف من عرض منهجي الفيلسوفين السابقين، أو منهج الفيلسوف الذي سنتناوله الآن (وهو هسرل صاحب فلسفة الظاهرات أو الفينومينولوجيا)؛ فقد اقتصر جهدنا المتواضع على التحقق من الغرض الذي بدأنا به، وهو أن التفكير أو التأمل الذاتي الذي يصطدم بالتناقض وأزماته، ويحاول حلها وبيان أنها محالة، هو الذي يمثل نقطة الانطلاق إلى المنهج الجديد، كما أنه يعبر عن الإبداع، أو جانب منه على أقل تقدير، في فلسفتهم.
وقبل أن نختم حديثنا عن هيجل ومنهجه الجدلي، لا بد من كلمة عما يجمعه بالفلاسفة الثلاثة وما يميزه عنهم؛ فالتأمل الذاتي أو «فكر الفكر» هو مركز فلسفته التي لا تخرج عن كونها محاولة كبرى ل «الوعي الذاتي»، وهو يؤسس مثلهم منهجا علميا محكما، سماه - كما رأينا - بالمنهج الحقيقي الوحيد، وإن لم يتخذ نموذجه من العلوم الدقيقة، والرياضيات بوجه خاص، بل رفض أن تكون هي الأساس أو المثل الأعلى. بيد أنه لم يجارهم في الفصل بين المعرفة الإيجابية التي اتفقوا على أنها هي المعرفة الصحيحة، والمعرفة السلبية التي بذلوا كل جهدهم لاستبعادها ورفع تناقضاتها، أو بالأحرى لإثبات أنها ترفع نفسها بنفسها. وهو لم يأخذ كذلك بالمعيار الذي وضعوه ل «المنهج الدقيق»، وهو أن التناقض سمة المعرفة الخاطئة، وعلامة التفكير الخادع أو الكاذب. ومعنى هذا أنه قد عرف بوضوح أن البناء النظري للعالم العقلي محال بغير الاعتراف بالتناقض؛ فليس التناقض - كما سبق القول - مجرد دفعة أولية تنطلق منها حركة المنهج وحركة العقل أو الروح معا، وإنما يشغل مكانه المنهجي من الكل الحقيقي، أو إذا شئت من الحقيقة الكلية التي تنمو بذاتها نموا جدليا على إيقاع المنهج الجدلي. ولا شك في أن هذا يعبر عما يسمى ب «وحدة المنهج والمذهب»، وبصورة قد لا نجدها بمثل هذه القوة وهذا الترابط عند أي فيلسوف قديم أو حديث.
وأخيرا ننتقل - بحكم التطور التاريخي وحده - إلى فيلسوف اختلف عن هيجل، وربما لم يستفد - في رأي البعض - من ثورته المنهجية والجدلية شيئا يذكر، وإن كان قد نافسه في محاولة كبرى وأخيرة لجعل الفلسفة علما كليا شاملا؛ أقول هذا لأذكر القارئ بأن الفيلسوف الذي سنتحدث عنه - وهو هسرل - يرتبط بالفيلسوفين السابقين (ديكارت وكانط)، ويعد امتدادا أو بالأحرى ذروة للذاتية المتعالية، أكثر مما يرتبط بهيجل أو بغيره من الجدليين.
كيف «ظهر» المنهج الجديد لصاحب فلسفة الظاهرات؟ وكيف أدى به «سلب التناقض» الصارخ في نزوع بعض المناطقة لتفسير حقائق المنطق والرياضيات تفسيرا نفسيا، إلى «الإيجاب» الذي يتمثل في تأمين حقيقة الموضوع، بل إلى تأمين الحقيقة ذاتها، وحمايتها من الشك والنسبية النفسية والإنسانية؟
لا يعنينا هنا أن نفصل القول في طبيعة المنهج الظاهراتي وخصائصه ومراحله ومدى خصوبته في التطبيق، بقدر ما يهمنا أن نبرز الملمح المشترك بينه وبين بقية المناهج التي نعرض لها، وهو خروج الجديد الإيجابي من حطام السلبي والمتناقض. ويكفي أن نطلع على الجزء الأول من «البحوث المنطقية» لنتأكد من هذا الحرص على تأمين حقيقة الفكر ، ثم نتبين كذلك قرب نهاية هذا الجزء كيف يتحول المنهج النقدي السالب لتناقضات النزعة النفسية، إلى منهج إيجابي لإثبات حقيقة الموضوع أو حقيقة التفكير الموضوعي: «لا يتسنى وجود شيء بغير أن يتحدد على هذا النحو أو ذاك. وكونه موجودا ومحددا على هذا النحو أو ذاك، معناه أن هذه هي الحقيقة في ذاتها؛ الحقيقة التي تؤلف التضايف الضروري للوجود في ذاته.»
36
ويستطرد هسرل في شرحه لمعنى موضوعية الموضوع، فيقول: «عندما نحقق فعلا من أفعال المعرفة، أو - كما يحلو لي أن أعبر - عندما نحيا فيه، فإنما ننشغل بالجانب الموضوعي الذي يقصده ذلك الفعل، ويضعه بطريقة معرفية بطبيعة الحال، وكلما كانت معرفتنا معرفة بأدق معاني الكلمة، أي كلما أصدرنا حكما قائما على البداهة، فقد أعطينا الموضوعي عطاء أصيلا. وفي هذه الحالة لا يبدو لنا أننا نواجه الواقعة الموضوعية، وإنما تتمثل هذه الواقعة بالفعل أمام أعيننا كما يتمثل فيها الموضوع ذاته، من حيث ماهيته وما هو عليه؛ أي - تحديدا - على هذا النحو المقصود في هذه المعرفة، لا على نحو آخر؛ أي بوصفه حاملا لهذه الخصائص، وحلقة في هذه العلاقات، وما أشبه ذلك. وهو كذلك لا يبدو لنا بهذه الخصائص، وإنما يتقوم بها الفعل، وبهذه المثابة يعطي لمعرفتنا؛ أي إن المعنى الوحيد لهذا أنه لا يقتصر على أن يبدو لنا كذلك (أو لا يقف الأمر عند حكمنا عليه بذلك)، وإنما يكون قد عرف على ما هو عليه، أو أصبحت كينونته على هذا النحو حقيقة فعلية، متفردة في التجربة الحية للحكم البديهي، فإذا ما تأملنا هذا التفرد، وقمنا بتحقيق التجريد الفكري،
37
أصبحت الحقيقة ذاتها، بدلا من ذلك الجانب الموضوعي، هي الموضوع المدرك؛ عندئذ ندرك الحقيقة بوصفها المتضايف المثالي مع فعل المعرفة الذاتي العابر، ومن حيث هي الحقيقة الواحدة بالقياس إلى التنوع غير المحدود لأفعال المعرفة الممكنة للأفراد العارفين.»
38
لا يقتصر النص السابق، وعلى الرغم من صعوبته، على التعبير عما يعنيه هسرل بالموضوعية، وإنما يتعداه إلى وصف الطريق الذي اتبعه، وتلخيص المنهج الذي سار عليه؛ فنحن حين نحكم حكما قائما على البداهة، أي حين تكون لدينا معرفة دقيقة، فذلك لأن موضوع المعرفة قد أعطي لنا عطاء مباشرا أصيلا. والواقع أن هسرل قد أقام براهينه على فساد النزعة النفسية في فهم المنطق على أساس البداهة، وأثبت أن هذه النزعة تؤدي بالضرورة إلى التناقض. ولا بد في سبيل هذا الإثبات، وتلك البراهين التي تؤمن حقيقة المعرفة، من ظهور الحقيقة المعنية في صورة موضوعية؛ فالمقصود هو الحقيقة التي تصبح موضوعا، أي حقيقة في ذاتها؛ ومن ثم يكون النقد السلبي للشك والنسبية التي تؤدي إليها النزعة النفسية في المنطق قد تمخض عن موضوع إيجابي، كما تكون حقيقة هذا الموضوع، بل الحقيقة في ذاتها، قد خرجت بهذه الصورة الجدلية عن سلب أو تناقض. فكأن تفكيره في وضع منهجه الفلسفي، الذي سيعتمد عليه في الكشف عن حقيقة الموضوع أو موضوعية الحقيقة، قد ارتبط بتفكير نقدي وسلبي في مفارقة أو نقيضة معينة. ولم يكن هذا الارتباط من قبيل المصادفة؛ إذ تكرر - كما رأينا من قبل - مع منهج الشك عند ديكارت، ومع المنهج الشارطي (الترنسندنتالي) عند كانط؛ لأن إيجابية المنهج تقوم على خلفية سلبية، كما أن تكوين هذه الخلفية السلبية مرتبط ارتباطا ضروريا بتكوين الموضوع والحقيقة.
إذا كان هسرل قد قطع هنا تأملاته عن المنهج، وأخذ يجمع النتائج التي توصل إليها في مفهوم «المعطى» و«المعنى المثالي»، فقد عكف في الجزء الثاني من البحوث المنطقية على مواصلة تحليلاته للموضوع؛ فلا بد لهذا الموضوع أن يعطى عطاء أوليا أصيلا، وكونه معطى هو أسلوبه في الوجود الذي يربط الذات بالموضوع، كما أنه ينطوي في وقت واحد على وجوده، وعلى ضرورة أن يكون هذا الوجود بالقياس إلى شخص ما؛ أي ضرورة ظهوره لوعي أو شعور أو ذات معينة، وإلا انتفى كونه معطى. ومن هنا بدأ المنهج خطاه وتوسع فيها، وصارت مهمة «الظاهري» أن يبحث الموضوعات من جهة كونها معطاة لشعور أو وعي يتوجه إليها ويقصدها بأفعاله «القصدية»، وغدت «رؤية الماهيات» و«تحليلات المعنى» هي أدواته في هذا البحث .
بهذا يكون هسرل قد حدد مجال الظاهرات ووضحه. إنه هو المجال الذي تبحث فيه الموضوعات، ويعطي لكل من الموضوع والذات حقوقا متساوية؛ فالموضوع «يظهر»، والذات «ترى» وتصف ما تراه، وتكون الحقيقة حيثما ظهر الموضوع على ما هو عليه، وحيثما تمت رؤيته، أو بالأحرى رؤية ماهيته، على نحو ما يظهر للشعور وفيه ظهورا خالصا مباشرا. بذلك تتجه الظاهرات إلى الموضوعات، وتبقى معها. إنها لا تحلق فوقها بالتأمل المجرد، ولا تشغل نفسها بكيانها المادي الذي تعلق الحكم عليه أو تضعه بين قوسين، وإنما تحياها وتجربها وترى ماهياتها رؤية حدسية معيشة. ويضيق المجال عن تتبع خطوات المنهج الظاهري، ومراحله في الرد، وتحويل الموضوعات إلى موضوعات مثالية، وتأمين وجودها بوصفها ماهيات ثابتة في الشعور أو الوعي المتعالي، على نحو ما فصله وأفاض فيه في كتابه الأفكار؛ إذ يكفينا أن المنهج نفسه قد انبثق من أزمة تناقص ليصب في عمليات إيجابية لا آخر لها؛ لتكوين موضوعية الموضوعات، وتأمين حقائقها الثابتة في مملكة الشعور المتعالي، التي تعد بمعنى من المعاني مملكة الوجود المطلق.
39
ويكفينا كذلك أن نشير إلى أنه أراد بهذا المنهج أن يرفع الفلسفة إلى مرتبة المعرفة العلمية الدقيقة. أما عن نجاحه أو إخفاقه في تحقيق هذا الأمل القديم فشيء آخر؛ ذلك أن المنهج الظاهري الذي بدأ بالفصل بين المنهج والموضوع - كما هو الشأن في العلوم الدقيقة - قد انتهى إلى جعل المنهج نفسه موضوعا للبحث؛ وبهذا فتح للمعرفة الفلسفية وللسؤال النفسي أفقا شاسعا لم يكن من الممكن أن يحيط به منهج محدد ولا موضوع محدد.
شرع هسرل في اقتحام مملكة الشعور أو الوعي المتعالي، التي تعد بمعنى من المعاني مملكة الوجود المطلق في المرحلة المثالية المتعالية، التي بدأت مع نشر كتابه «أفكار عن ظاهرات خالصة وفلسفة ظاهرية» بين سنتي 1913م و1928م؛ فقد اتجه إلى نوع جديد من المثالية الذاتية المتعالية، لم يكتف بتقرير التضايف الضروري بين الموضوعية المقصودة والتجربة الحية للقصد، وإنما أسند إلى الشعور، أو الذات المتعالية الخالصة في سعيها المنهجي لرؤية الماهيات، عمليات التكوين أو البناء التي تضفي المعنى على العالم والوجود. وقد عاد في وقت متأخر من حياته إلى اقتحام مجال الذاتية المتعالية الخالصة بصورة نهائية حاسمة، فأكد في تأملاته الديكارتية (1931م) إمكان التوصل إلى الأنا المحضة المتعالية، التي هي الأساس الأخير لكل تفكير. وبدا الأمر لنقاده وكأن هذه الأنا أو الذات قد بقيت «رهينة محبسها» الذاتي والفردي العالي، ولم تتطرق للشروط التاريخية والاجتماعية التي تحددها. صحيح أن عالم الحياة - وهو عنده تعبير آخر عما نسميه عادة بالظواهر الاجتماعية والتاريخية - ظل من أهم مهام الأنا أو الذاتية المتعالية، التي أثبت أن علاقتها بالآخر وبغيرها من الذوات (فيما سماه الذاتية المشتركة) يدخل في صميم تكوينها، ولا غنى عنه لتأسيس الموضوعية العلمية، غير أن القراء والنقاد افتقدوا مواقفه المحددة من المشكلات المحددة عن المجتمع والتاريخ، وكاد بعضهم أن يتهمه بإغفال جوانب العمل والممارسة الإنسانية في العالم.
40
حتى إذا توالى نشر مخطوطاته في السلسلة المشهورة «كتابات هسرل أو الهسرليانا» منذ سنة 1950م، طلع على الناس واحد من أهم كتبه، وهو «أزمة العلوم الأوروبية والظاهرات المتعالية»، الذي لم يقتصر فيه على تناول مفاهيم من عالم الحياة كالمجتمع والأخلاق والتاريخ، وإنما تعرض فيه قبل كل شيء لأزمة العلم الأوروبي ومحنة الوجود والضمير والإنسانية الأوروبية، وكلها للأسف لديه شيء واحد، وكأن العلم والوجود والإنسانية تكون أوروبية أو لا تكون!
لم يكن من قبيل المصادفة أن ترد كلمة الأزمة (كريزيس) في عنوان هذا الكتاب؛
41
إذ كان من الطبيعي أن يعمق إحساسه بها بعد عناء السير على طريق طويل، تصور في نهايته التي اقترنت بالشيخوخة وهواجس النهاية المحتومة أنه قد أكمل واجبه، وأتم تأسيس فلسفته، واطمأن إلى إقامة العلم الشامل، أو «الماثيزيس يونيفرساليس» الذي ظل هو الشغل الشاغل لعدد كبير من فلاسفة الغرب، بدءا بأفلاطون في نظريته عن المثل، إلى ديكارت وليبنتز وكانط، حتى البنائيين أو البنيويين ورودلف كارناب (1891-1970م)، وزملائه من التجريبيين أو الوضعيين المناطقة في مشروعهم عن «العلم الموحد».
ومن المعروف أن منهج العلوم الطبيعية والرياضية بقي هو المثل الأعلى لعدد كبير من الفلاسفة، على أقل تقدير منذ عصر النهضة حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ فالاقتداء بهذا المنهج كان عندهم هو شرط اليقين والدقة والموضوعية، حتى لقد طبقوه على مشكلات ليست بطبعها رياضية ولا طبيعية، من الميتافيزيقا والأخلاق والظواهر النفسية والاجتماعية، حتى البراهين على وجود الله! وعلى الرغم من التقدم الذي تحقق في بعض العلوم الإنسانية، كالاجتماع والاقتصاد وعلم النفس بوجه خاص، باتباع ذلك المنهج العلمي الدقيق، فقد برزت في أوائل القرن العشرين مشكلة المنهج في العلوم الإنسانية، وثار حولها الجدل الذي لم يخمد لهيبه بعد؛ إذ تبين للبعض من أمثال برجسون ودلتاي وهسرل نفسه ومعظم تلاميذه والمستفيدين من منهجه النظري - من أصحاب فلسفة الوجود وفلسفة التأويل (الهيرومينويطيقا) والنقديين الجدليين الاجتماعيين - أن الظاهرة الإنسانية من نوع مختلف عن الظاهرة الطبيعية، وأنه لا يمكن قياسها والتنبؤ بها والتحكم النهائي فيها بالوسائل المعملية والتحليلات والإحصاءات الرياضية؛ لأن الإنسان في رأيهم ليس موضوعا وليس كما، وإنما هو ذات وحرية وكيف وتجربة حية وعالم حياة متفردة. وتفاقمت أزمة العلم الأوروبي (الطبيعي والرياضي) نتيجة إخفاقه - المؤقت على أقل تقدير! - في تطبيق مناهجه على الظواهر والعلوم الإنسانية، وأصبحت أزمة هذه العلوم في جوهرها وفي نظر هسرل، هي أزمة الشعور الأوروبي نفسه بعقدة «التجربة الحية» وإضاعته رأيه مصدر العلم ومادته. وعلى مشارف هذه الأزمة المضاعفة (من الناحيتين المادية والصورية) وبسببها، بدأت الفينومينولوجيا في البحث عن منهج خاص للعلوم الإنسانية يحفظ نوعية الظاهرة، ويميزها عن الظاهرة الطبيعية والظاهرة الرياضية؛ ومن ثم يشق طريقا ثالثا هو الذي سماه هسرل ب «الفينومينولوجيا».
42
وهكذا تطورت الظاهرات مع تطور معالجتها بصورة أو بأخرى لهذه الأزمة، عبر مراحلها المختلفة وفي إنتاج هسرل الذي نشره في حياته، حتى تبلورت إشكاليتها الحادة الناقدة في كتاب الأزمة، الذي سنقف عنده الآن وقفة قصيرة.
حاول هسرل أن يواجه أزمة العلوم الإنسانية، والخروج من أسر النموذجين الطبيعي والرياضي اللذين أديا بها كما تقدم إلى الوقوع في تلك الأزمة، عن طريق تأسيس فلسفته التي تعددت المسميات التي أطلقها عليها؛ من علم شامل ، إلى علم بالماهيات والبدايات، إلى فلسفة أولى، إلى نظرية كلية في المعرفة والوجود، إلى علم آثار (أركيولوجيا) الشعور ... إلخ. ولعل أقرب هذه المسميات إلى غرضنا أن هذه الفلسفة نظرية في الذاتية المتعالية (الترنسندنتالية) والذاتية المشتركة، أو أنها في اختصار هي علم الشعور. وقد تناول في كتابه الذي نحن بصدده التجربة المشتركة للحضارة الأوروبية، أو - بتعبير آخر - الشعور الحضاري أو الجماعي الأوروبي (بشقيه العقلي والتجريبي)، منذ بداياته عند اليونان والرومان إلى بلوغ ذروته العقلية الخالصة عند ديكارت، حتى اكتماله في فلسفة الظاهرات أو الفينومينولوجيا نفسها. بذلك أضاف إلى تصوره لهذه الفلسفة بوصفها علما أو نظرية خالصة تصورا آخر لها بوصفها فلسفة للتاريخ، بل مقصدا له وغاية نهائية. وقد سبقت الإشارة إلى هذين البعدين في محاضراته تأملات ديكارتية، وهي التي أهداها إلى ذكرى ديكارت الذي بدأ عنده الشعور الأوروبي على الحقيقة. لم يهتم هسرل بالحديث عن الأصول والمصادر المعروفة لما سماه بالشعور الأوروبي، باستثناء المصدر اليوناني الذي أولاه الجانب الأكبر من عنايته؛ لسبب بسيط، هو أنه يعد الحضارة الأوروبية خلقا أصيلا على غير منوال، وأنها، دون غيرها من الحضارات القديمة في الشرقين الأقصى والأدنى، التي ظلت أسطورية وأخلاقية وعملية، قد أخذت على عاتقها عبء البحث عن الحقيقة النظرية، وتحقيق مشروع الإنسانية العلمي الأول الذي طالما راود فلاسفتها كما سبق القول، وهو إقامة علم شامل مرادف للحقيقة ومطابق للواقع على السواء.
43
وبغض النظر عما في هذا الموقف من مركزية أوروبية، بدأت على أقل تقدير مع أرسطو وبلغت قمتها القبيحة عند هيجل (لا سيما في عرضه لفلسفة التاريخ في الشرق القديم)، فإنه يكرر رأي عدد كبير من مؤرخي الفلسفة الغربيين، وهو أن حضارة اليونان وفلسفتهم بوجه خاص قد اهتمت - دون غيرها من الحضارات - بالتنظير الخالص أو بالفكرة، وأنها قد قطعت، حسب مستواها العقلي وتقدمها الحضاري، أولى الخطوات الجادة على طريق الظاهرات أو العلم الشامل بالمعنى الذي فهمته منه (وتمثل في نظرية فيثاغورس، وفلسفة الحياة عند سقراط الذي يعده إمام الذاتية الأوروبية، ونظرية الصور أو المثل عند أفلاطون، وفلسفة الطبيعة ونسق المنطق الصوري عند أرسطو، وأخيرا في هندسة إقليدس). غير أن الحضارة أو بالأحرى الفلسفة اليونانية التي بلغت مستوى رفيعا من العقلانية، لم تستطع أن تحقق مشروعها في إقامة نظرية العلم الشامل؛ إذ انهار التنظير العقلي باتجاهها إلى المذاهب المادية ومذاهب الشك والمسائل الأخلاقية عند الأبيقوريين والرواقيين، الذين لمع عندهم آخر بريق للموضوعية المثالية في فكرتهم عن «اللوجوس» الكوني.
أين تقع إذن نقطة البدء في الشعور الأوروبي الخالص كما فهمه وفسره هسرل؟ إنه يبدأ مع الكوجيتو الديكارتي الشهير؛ ولهذا كان ديكارت هو المكتشف الحقيقي لعالم الذاتية، والمؤسس الأول لعلم الظاهرات. وقد أكد هسرل ذلك في تأملاته الديكارتية السابقة الذكر، وإن أخذ على أب الفلسفة الحديثة أن ذاتيته شابتها عناصر نفسية وتجريبية، وأن «الأنا» عنده عرفت الأنا المفكرة ولم تعرف موضوع التفكير، ولا عرفت الآخر بما هو طرف مقابل لها؛ ولذلك فإنه (أي هسرل) قد سبر أغوارها، وخلصها من الشوائب النفسية والحسية؛ وبذلك أكملها بالتوصل إلى الذات أو الأنا المتعالية المحضة (التي يمكن تصور فناء كل شيء في العالم، واندثاره فيما عداها!) وحقق مشروع الحضارة الأوروبية وهو إقامة الظاهرات (الفينومينولوجيا)؛ أي الصورة النهائية للفلسفة المتعالية وللمثالية الألمانية، بل لتاريخ الفلسفة الغربية كلها!
ويحلل هسرل التجريبية بأشكالها المتعددة (من طبيعية وحسية ومادية ووضعية ... إلخ)، ويبين أنها كانت رد فعل للاتجاه العقلي ونسيان العالم والقضاء على الأشياء، ثم انقلبت إلى الضد، فأصبح العالم فيها عالما ماديا، وصارت التجربة الحية مجرد انطباعات حسية، وغدت النفس - على ما يقول لوك - صفحة بيضاء تنقش عليها الإحساسات ما تشاء، أو - على حد تعبير هيوم - مجرد حزمة من الانطباعات؛ وبذلك اختلطت التجربة الداخلية بالتجربة الخارجية، وانتفت الخبرة المشتركة بين الذوات، وأصبحت الموضوعية العقلية محالا. وجاءت محاولة كانط النقدية للتأليف بين الحسي والعقلي (أو - بكلماته - بين الحدوس أو العيانات، والتصورات أو المفاهيم)، فجاء معها الحل القاصر لمشكلة الثنائية على طريقة الصورة والمادة أو الشكل والمضمون الأرسطية، ثم لم تلبث أن ضحت بهما معا - أي بصورة العقليين ومادة التجريبيين - عندما تخلت عن المعرفة لصالح الأخلاق والدين، وظل الشعور مجرد نسيج عنكبوت وظيفته اصطياد المادة من العالم الخارجي دون اكتشاف الشعور الحي والتجربة المعيشة.
44
وفي النهاية لم تستطع مثالية كانط النقدية أن تحقق شيئا من مشروع «الشعور الأوروبي»، وهو إقامة العلم الشامل الذي اتخذ اسما جديدا هو الظاهرات؛ فهي التي تلافت النقص في فلسفة كانط، ووسعت من نطاق الحساسية المتعالية عنده (التي تشمل نظريته في المكان والزمان والإدراك الحسي)، وجعلتها تتسع لكل مظاهر مجال الحياة، كما أعادت الفاعلية لمنطقه المتعالي، وحولت الحدس الحسي إلى حدس فكري أو نظري أو رؤية عينية للماهيات.
وإذا كانت المثالية المطلقة بأشكالها المختلفة عند فشته وهيجل وشلنج، قد حققت تقدما ملموسا في المشروع الأوروبي لإتمام العلم الشامل؛ إذ تمكنت من القضاء على الثنائية العتيقة، وأعادت الوحدة الباطنة بين العقل والتجربة، والروح والطبيعة، والفكر والوجود، حتى لقد جرى لفظ «الفينومينولوجيا» على قلم هيجل في كتابه الشهير عن ظاهريات الروح، الذي وصف فيه بناء الشعور الأوروبي وتطوره؛ إذا كان هذا كله صحيحا فإنها (أي المثالية المطلقة) لم تستطع تحويل الفلسفة إلى علم محكم دقيق، وبقيت غامضة مختلطة بالشاعرية الرومانسية كما بقيت مرتبطة بالدين.
إلام انتهى مشروع الحضارة الأوروبية أو حلمها التاريخي بإقامة العلم الشامل؟ الجواب بسيط؛ فقد انتهى إلى ظاهريات هسرل نفسه، وإلى «الكوجيتو» الظاهراتي، الذي جمع في شعوره القصدي بين العقل والتجربة، والذات والموضوع، والأنا والآخر؛ وبهذا تحقق الأمل الذي طالما سعى إليه العقل الأوروبي، وحاول التعبير عنه في صور مختلفة.
هكذا تقمص هسرل في أواخر حياته مسوح المتنبئ والداعية، الذي راح ينبه الحضارة الأوروبية إلى الخطر المحدق بها؛ فأزمة العلم الأوروبي هي في النهاية أزمة الإنسان الأوروبي نفسه، ولا سبيل للنجاة إلا بإعادة بناء شعوره، الذي فقد عالم الحياة وأضاع الحقيقة عندما استسلم للنزعات العقلية الصورية من ناحية، وأغرق في التيارات التجريبية والمادية من ناحية أخرى. بيد أن هذا الشعور الحي المتعالي، الذي أقام عليه هسرل العلم والتجربة معا، يظل أمرا محيرا؛ فهل نصف دعوته لاستكشافه بأنها دعوة مثالية جديدة إلى إنسانية جديدة، أم بأنها نزعة صوفية وإشراقية من نوع غريب، حدت بصاحبها لأن يحتمي بأعماق الشعور - المعرفي والمنطقي - ويختبئ في متاهته اتقاء لضغوط العالم التاريخي المحيط به، وهربا من ثورات العصر السياسية والاجتماعية؟ وإذا كان هسرل قد نجح في تغيير الشعور الباطن لكثير من أتباعه وقرائه، فهل استطاعت فلسفته أن تصبح أداة للتأثير على الواقع، ولا أقول لتغييره أو تنويره؟ إن معيار الحقيقة الذي تقاس به الفلسفة لا يمكن أن يقتصر على تماسك أفكارها واتساق منطقها الداخلي؛ فكم من فلسفة متسقة لم يخرج عنها فعل يذكر، وبقيت - على جلالها وعمقها! - أشبه بأطلال معبد قديم أو قصر خرب مهجور. ولست أقصد بالفعل مقدار التأثير المادي أو العملي الظاهر من حيث القوة والانتشار والنفوذ؛ إذ لو كان الأمر كذلك لعددنا الفلسفات التي تبنتها أو تتبناها الأنظمة الشمولية ذات القوة والسطوة الغاشمة أصدق الفلسفات وأقربها للحقيقة، في حين أن التجربة التاريخية الأليمة تشهد بأنها أبعدها عنها، وأكثرها غلوا في التهافت والضلال والبطلان. ومع أن المشكلة تحتاج إلى تفصيل لا يتسع له المقام، فإن صدق الفلسفة وحيويتها لا يكمن - في تقديري المتواضع - في مواجهة أزمة أو أزمات راهنة، واقتراح مخرج منها أو حل لها (وليس في الفلسفة ولا في العلم حل نهائي أبدا!) بقدر ما يكمن في خلق أزمات جديدة تتحدى الفكر ليجرب فيها أسلحته. ولعل مكمن القوة والصدق والإبداع أيضا في فلسفة الظاهرات، أن الأزمة المنهجية التي أثارتها قد بعثت إلى الحياة أزمات أخرى عند طائفة كبيرة من تلاميذ مؤسسها، سواء في ذلك من تابعوه على الطريق أو من رفضوا مثاليته الذاتية المتعالية في مرحلتها المتأخرة، وآية ذلك تعدد التطبيقات الخصبة للمنهج الظاهري وتنوعها، بجانب تعدد المستفيدين من هذا المنهج، وتنوع اتجاهاتهم وحقول بحثهم واهتمامهم (مثل أوسكار بيكر في فلسفة الرياضة، وألكزندر بفندر في المنطق وعلم النفس، وماكس شيلر وهاتز رايير في الأخلاق، ورومان أنجاردين في الفن والجمال، ونيقولاي هارتمان في المعرفة ونظرية الوجود وطبقاته، وهيدجر وسارتر في فلسفة الوجود والأنطولوجيا الظاهرية، وميرلو بونتي في الإدراك واللغة، وأويجن فينك في عالمية العالم، وجادامر وريسكور وبولنو في فلسفة التأويل أو الهيرومينويطيقا، وأدورنو وماركوز من أعضاء مدرسة فرانكفورت في نظريتهما النقدية للواقع الاجتماعي والمجتمع الصناعي والرأسمالي ... إلخ). وإذا صح أن هذا كله يؤكد الجانب الإبداعي في الظاهرات من حيث هي منهج قبل كل شيء، فلا شك أنها كفلسفة للباطن قد أكدت - من ناحية أخرى - عجز كل الفلسفات المثالية الذاتية المتجهة إلى الباطن إلى التأثير في حركة الواقع التاريخي والاجتماعي.
ولا يرجع هذا فحسب إلى غياب التفكير الجدلي عن هسرل، أو بالأحرى إلى رفضه إياه، وإنما يعود كذلك إلى كشف مثاليته الذاتية عن أزمة الاغتراب التي تعاني منها الفلسفات المثالية، وتعد هي نفسها امتدادا لها، على الرغم من حرصها على تمييز نفسها عنها بشتى الصور والأسباب. وكل من يتصور أن مهمة الفلسفة - أو إحدى مهامها الأساسية على الأقل - هي نقد الواقع السائد انطلاقا من رؤية شاملة تعمل على تغييره وتحويله، لا بد أن يأخذ على الظاهريات أنها قد نقلت الفعل الحقيقي في نظرها إلى باطن الشعور، وأنها أهملت الفعل الاجتماعي أو كادت، اللهم إلا من بعض الإشارات الشحيحة الغامضة إلى «عالم الحياة» والذاتية المشتركة، و«العمل-في-العالم»، كما سبق القول، أو إلى اجتماع ظاهراتي، لم يكد يخرج من أسوار الأبراج الأكاديمية إلى الواقع المضطرب، الذي كانت الثورات الاجتماعية والسياسية في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن تهزه وتزلزل أركانه، كما زحفت عليه - في حياة هسرل نفسه - جحافل البربرية (النازية) محققة نبوءته المخيفة التي أعلنها في ختام كتابه عن أزمة العلوم الأوروبية، عن سقوط أوروبا في غربتها عن معنى حياتها العقلي، وترديها في حضيض الوحشية والعداء للروح . لا عجب بعد هذا كله أن يوجه أصحاب الماركسية التقليدية سهام نقدهم إلى الظاهرات، وأن يضعوها في صفوف الفلسفات «البرجوازية» التي اغتربت عن الواقع التاريخي-الاجتماعي، وأغفلت الشروط الواقعية والجدلية المادية التي تحدد الشعور من وجهة نظر فلسفتهم، التي هي في نهاية المطاف نظرية للفعل والممارسة الثورية، بل إن الظاهرات تعبر في رأيهم - أكثر بكثير من غيرها من الفلسفات البرجوازية المتأخرة - عن أزمات المجتمع البرجوازي-الرأسمالي، وفساد رؤيته - الليبرالية الإمبريالية - للعالم والواقع؛ فقد حاولت أن تكون مخرجا مما سماه «أزمة الحياة» وأزمة العقل والعلم، لكن جهودها ومحاولاتها للوصول بالفلسفة إلى مرتبة العلم الصارم الدقيق كتب عليها الإخفاق في ظل المناخ الرأسمالي- الاستعماري، وممارسته التسلطية واللاإنسانية على الخارج والداخل وعلى الطبيعة والإنسان جميعا (وعالمنا العربي يشهد اليوم تجدد هيمنته في صور أبشع وأفظع من كل ما عرفه التاريخ العالمي ...)
ولعل أهم ما في النقد الماركسي للظاهراتية أنها قد عانت من التناقض الصارخ بين النزعة التنويرية التي تغذت عليها في ظل المناخ الليبرالي للمجتمع الغربي البرجوازي، والنزعة الشمولية واللاعقلانية المتمثلة في الذاتية المثالية المتعالية أو المتطرفة، التي انتهت إليها في مرحلتها المتأخرة. والواقع أن هذه شهادة حق وإنصاف، على الرغم مما قد يبدو في ظاهرها من الإدانة والإجحاف؛ فهي تؤكد - على طريقتها - ما حاولنا أن نؤكده من أن فلسفة الظاهرات لم تعان من التناقض فحسب، وإنما كانت أزمة التناقض هي الدافع المحرك لها، وربما كانت كذلك وراء الإبداع الأصيل الذي لا ينكره عليها إلا جاهل أو جاحد.
هكذا يتبين لنا أن التناقض وحدة صراع متفاعلة بين ضدين متلازمين، يشرط أحدهما الآخر ويستبعده في وقت واحد. ولا بد من أن نستحضر في أذهاننا فكرتي الوحدة والصراع أو الخاصتين الأساسيتين في كل أشكال التناقض وتشكيلاته المتعددة، التي لم يخل منها ماضي الفكر الفلسفي ولن يخلو منها مستقبله. فبقدر ما تختلف طبيعة الأضداد (منطقية ومعرفية كانت أو موضوعية وواقعية)، ونوع العلاقة الجدلية (في وحدة واقعية وتاريخية، أو في ترابط فكري محض)، تختلف كذلك طبيعة التناقض الجدلي الكامن في الأشياء والعمليات والأنساق الحية المتطورة، عن طبيعة التناقض المنطقي الذي يتم في مجال الفكر الخالص. وإذا كنا قد قصرنا جهدنا في هذا المقام على «منطق» التناقض الذي ينعكس فيه الفكر على نفسه في نوع من التأمل الذاتي في مرآته، وحاولنا أن نحصر حديثنا في «الأزمة» التي أدت بالفلاسفة السابقين إلى الخروج منها بإبداع منهج (أصبح كذلك نقطة انطلاق جديدة لأزمات منهجية عند فلاسفة آخرين!) فإن ذلك لا يمنع القول بوجود أشكال أخرى للتناقضات الأساسية التي عرفناها (ولصورتها الهيجلية بوجه خاص)، وهي أشكال أو تشكيلات انعكس فيها تفكير الفيلسوف حينا على صراعاته وتناقضاته العاطفية والباطنية، التي كابدها في سبيل الوصول إلى المطلق الديني (كما عند كيركجارد)، أو اتجه بوعيه حينا آخر إلى واقع الصراعات والتناقضات المادية، التي فسرها تفسيرا «علميا» بتطور الطبيعة والعمل والاجتماع البشري في ماضيه وحاضره، كما حدد بها منهج الممارسة والتغيير الثوري على طريق مستقبله (كما هو الحال عند ماركوز وأصحاب المادية الجدلية)، أو ركز تفكيره حينا ثالثا على صراعات أخرى تمخضت عن تشكيلات جدلية يصعب حصرها والوفاء بحقها.
45
والمهم في هذا السياق أن التناقض المنطقي الذي يتحتم على كل فكر صادق وعلم دقيق أن يستبعده ويقضي عليه، لا ينفي وجود التناقض أو التناقضات الجدلية في الواقع والمعرفة السائدة؛ ذلك أن التناقض الأول لا يقول شيئا عن أشكال التناقض الثاني (اللهم إلا بصورة ضمنية وميتافيزيقية أو أنطولوجية، ومن خلال فهم وتحليل لا يقوم بهما إلا أصحاب النزعات النفسية والإنسانية- العملية للمنطق الخالص)، ولكنه مع ذلك شرط لا غنى للأخير عنه، بحيث يمكن القول بأننا لا نستطيع أن ندرك التناقضات الجدلية التاريخية على الوجه الصحيح بغير التسليم بمبدأ التناقض المنطقي، وعدم تزييفه أو الخروج عليه؛ حتى يستقيم كل فكر وعلم صحيح، كما سبق القول، كما يمكن تمثل التناقضات الجدلية للطبيعة والواقع الاجتماعي تمثلا موضوعيا خاليا من التناقض، والتماس حلول منهجية لها خالية كذلك من التناقض.
ربما أمكننا الآن أن نجتهد في استخلاص بعض السمات العامة التي تطبع المنهج على اختلاف أنواعه وتطبيقاته وغاياته: (أ)
ليس ثمة منهج واحد، بل مناهج متعددة؛ فدائما ما تتعاصر المناهج الفلسفية - وإن لم تتعايش في سلام! - مهما زعم أحدها أنه هو المنهج العلمي الأوحد. (ب)
وليس ثمة منهج كامل مكتمل ونهائي ؛ فهو في الحقيقة «مشروع» يجرب إمكاناته - على يد مؤسسه أو تلاميذه وتابعيه - ويحاولها بصورة مستمرة على مجالات تطبيقه المختلفة؛ وبذلك ينمو ويزداد ثراء وتأكيدا لأسسه ومبادئه النظرية، أو يعدل فيها، أو ينقح بعضها خلال حركته الحية (كما حدث - على سبيل المثال لا الحصر - مع المنهج الشارطي أو الترنسندنتالي بعد كانط، من بقية المثاليين الألمان إلى الكانطيين الجدد، ومع المنهج الهيجلي المثالي مع كثير من المثاليين، ومع المنهج الجدلي المادي مع أصحاب الماركسية الجديدة في العقود الأخيرة، والمنهج الظاهراتي مع كثير من أتباع هسرل المباشرين وغير المباشرين، والمنهج البنيوي الذي تفرغ إلى بنيويات مختلفة وأحيانا متعارضة ... إلخ). (ج)
يبدأ المنهج ويظل في حالة ابتداء لا تنتهي؛ فهو ينقد نفسه باستمرار، ويضع نفسه موضع السؤال الذي لا يتوقف، ولولا هذا النقد والتساؤل الدائب لما أمكن أن يتجدد ويتحول. وحتى لو تعصب مؤسسه لمبادئه، وشجب أي خروج على قواعده، فلا يلبث اللاحقون أن يأخذوا منه شيئا قد لا يزيد عن روحه العامة، ويتخلوا عن أشياء (والأمثلة السابقة توضح هذا). (د)
ليس المنهج مجرد حدس إبداعي، حتى لو اهتدى صاحبه إلى نقطة بدايته في لحظة كشف مفاجئة (كما حدث مع ديكارت). إنه ثمرة جهد صبور، قد يستغرق عمرا بأكمله، أو عمر أجيال لا تنفك تجدده وتدعمه بالنظر والممارسة، وتجرب مدى إنتاجيته وفاعليته واستجابته أو عدم استجابته للظروف المعرفية والعملية المتغيرة. لا عجب إذن أن تصبح بعض المناهج التي أثبتت صلاحيتها في عصرها وفي نسقها المذهبي الخاص، مجرد أثر تاريخي دارس (كما حدث للمنهج الغائي الأرسطي منذ عصر النهضة إلى اليوم، بعد تخلي المناهج العلمية الدقيقة عن البحث عن الغاية، واستعاضتها ب «الكيف» عن «اللماذا»، وإن لم يعدم الأمر قلة قليلة من الفلاسفة الذين حاولوا إحياءه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، من ليبنتز وكانط إلى الفيلسوف الحيوي هانز دريش). على أن نسبية المناهج الفلسفية وتحددها بظروفها المكانية والزمانية والثقافية والحضارية لا يمنع القول بأن «المنهجية» نفسها ملزمة لكل من يتفلسف، وفي كل الأوقات والظروف. (ه)
قد يمتزج المنهج بالمذهب، بحيث يصبح من المحال الفصل بينهما (كما نجد عند هيجل وبرجسون). وقد تكون فلسفة الفيلسوف هي المنهج الذي يصعب أن نحدد له مذهبا أو رؤية أو «أيديولوجية» (كما هو الحال عند هسرل مثلا). وقد تتحدد معالم المنهج وخطواته قبل تطبيقه أو بعده. وقد لا تتبلور بصورة محددة، أو لا يهتم صاحب المنهج نفسه ببلورتها، فيحاول ذلك غيره (كما نرى مع المنهج التحليلي عند رائده جورج مور)، دون أن يقلل هذا من أصالته وإبداعه عند تطبيقه على مشكلات ميتافيزيقية ومثالية عدة، ليثبت بالتحليل اللغوي والمنطقي لعباراتها أنها ليست مشكلات على الإطلاق. ولأن «الموضوع» في الفلسفة كلي وشامل وغير محدود، فلا يستطيع أي منهج أن يستوعبه من جميع أطرافه، وكل منهج حاول هذا أو ادعاه قد جنى على ذلك «الموضوع»، وأضاع الروح الأصلية للمنهج نفسه. فموضوع الفلسفة، إذا صح تسميته بهذا الاسم، لا يحدد المنهج ويتحدد به كما هو الحال في العلوم الجزئية، وإنما يقع قبل المنهج وبعده، ولا يسمح بأن يقتنص في شبكة منهج واحد أبدا؛ ومن ثم تتعدد المناهج في الفلسفة وتتجدد، أو تنسخ وتنتهي كأي مشروع ثبت عجزه عن تفسير «الواقع الكلي» مع تغير الظروف والأدوات والغايات وصيغ السؤال الفلسفي ومحاولات الجوانب المنتجة والمغيرة لبناء المعرفة والوعي والوجود. (و)
وأخيرا فلا يمكن فصل المنهج عن الحضارة، سواء في سقوطها وانحدارها أو في بعثها ونهضتها، ولعل الانعطافات الحضارية الكبرى أن تكون انعطافات في طرق النظر المنهجي (ومن أشهر الأمثلة المتكررة على ذلك أفول منهج النظر العقلي اليوناني في العصر الهللينستي، وقيام عصر النهضة مع ظهور المنهج العلمي والطبيعي والرياضي الدقيق، وتدعيمه على يد علمائه الكبار).
لا حاجة بنا إذن إلى بيان أهمية المنهج ودوره في العلم والحياة ؛ إذ اقتصر حديثنا في مجمله على الجانب الإبداعي المتمثل في نقطة بدايته. وعلى الرغم من أن ضيق المجال لن يسمح بالتعرض للظروف التاريخية والحضارية - المواتية أو غير المواتية - التي يبدأ فيها، فإن اللحظة التاريخية والحضارية التي نحياها اليوم تلزمنا بالالتفات إلى واقعنا العربي، الذي يكاد يصرخ مطالبا بمصباح المنهج الكفيل بتبديد ظلماته وتخطي عثراته ونكباته، وما دام الحديث منصبا على بداية المنهج دون تفصيلات بنائه وتطبيقه ونتائجه، فسوف نقتصر في نهاية هذا المقال على هذه البداية وشروط تحقيقها، والعقبات التي تحول دون هذا التحقق على الصورة العلمية المبدعة التي يسعى إليها المتفلسف، أو على الصورة الفعالة المغيرة التي ينتظرها المواطن، ويعول عليها في الاستجابة لمطالبه الحيوية والإجابة على الأسئلة المصيرية التي تحيك في صدره بشكل غامض، وتؤرق المتفلسف - أو ينبغي أن تؤرقه - بشكل عقلي حاد. وطبيعي أن نكتفي بطرح مجموعة من الأسئلة وإلقاء بعض الإشارات؛ لأن القضية أكبر من أن نواجهها ببعض الإجابات الجاهزة، والمشكلة أخطر من أن نحسمها ببعض «المناهج» التي يتصور أصحابها أنها مطلقة اليقين؛ فالواقع الذي بلغ في الشهور الأخيرة ذروة تأزمه وتناقضه، وما يزال عرضة للمزيد من التأزم والتناقض، لا يمكن أن يتمخض فجأة عن إبداع أو مبدع معجزة، ولا بد أن يلقي الأمر على كاهل كل المتيقظين لعمق الأزمة ومداها، المشفقين على مصير حضارة يتهددها الانقراض والإبادة المعنوية والمادية، ولا مفر من أن يدور حوله حوار عام وشامل، وأن يكون حوارا نقديا حرا، يؤمن كل مشارك فيه بأن على النقد أن ينقد نفسه، وأنه ما من نقد يعلو على النقد.
من الطبيعي أن يكون «القلق المنهجي» هو أعلى اشكال القلق التي تمور بها نفوسنا القلقة، ولا مراء في أن هذا القلق ليس ابن اللحظة الحاضرة؛ إذ إن عمره قريب من عمر النهضة العربية الحديثة، والسؤال عنه والحاجة إليه مستعرة منذ ما يقرب من قرنين على أقل تقدير. ويمكننا القول - دون مجاوزة أو وقوع في المبالغة - إن مشكلة المنهج تختمر في ضمير أمتنا منذ عصر التدوين إلى ما يسمى بعصور الانحطاط. غير أنها قد تحولت عند المعاصرين إلى قلق متسلط؛ فذهب البعض إلى أننا نعاني من غيبة المنهج ومن الفراغ المنهجي،
46
في حين رأى البعض الآخر أن سبب المصيبة هو الفوضى المنهجية، والصراع المحتدم بين المناهج المتعددة (النابعة من ثقافتنا أو المستعارة من ثقافة الآخر)، ونادى فريق ثالث بمنهج قومي مستقل، تمثل في «مشروع نهضوي» كثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة. ولما كانت الفلسفة - كما علمنا هيجل - هي ابنة عصرها وزمانها، وكان الفيلسوف هو الذي يبلور في نسقه الفلسفي ثقافة عصره وزمانه، ويضع أمامه المرأة الفكرية التي تعكس وتكثف معالم واقعه الحقيقي وتنقده في وقت واحد؛ فإن «المتفلسف» العربي - الذي اتخذ في الأغلب الأعم صورة المصلح الديني والاجتماعي والعقلي المستنير - لم يقصر منذ مطلع النهضة في أداء دوره المنهجي. والنتيجة - باختصار شديد - أن تزايد عدد «المناهج» (بغض النظر عن كونها تستحق هذه التسمية أو لا تستحقها!) واشتد تراوحها بين قطبي القديم والجديد، والمنقول والمعقول، والتراث والحداثة، والمحافظة والثورية، والاتباع والإبداع، إلى آخر هذه الثنائيات الباطلة التي لم تعدم من يحاول التوفيق بينها في الصيغة المشهورة عن «الأصالة والمعاصرة»، وكان من الطبيعي كذلك أن يكثر التأليف والكتابة عن المنهج والمنهجية، وأن يتوالى ظهور الدراسات الجامعية عن مناهج البحث في العلوم المختلفة، وتعقد الندوات والمؤتمرات لمناقشة مشكلة المنهج، ويصبح الحديث عن المنهج عن كل قلم ولسان، وكأن الجميع يؤدون طقوس التكفير عن ذنوبهم في حقه. تعددت كذلك محاولات الأخذ بالمناهج الفلسفية الغربية المعاصرة، وتأصيلها وزرعها في التربة العربية، ومحاولات تطبيقها وتجربتها في دراسة تراثنا القديم، أو في تحليل بعض قضايانا ومواقفنا ومشكلاتنا على ضوئها وبأدواتها المنهجية، وكان أن جربت كل الفلسفات والمنهجيات الغربية ولم تزل تجرب؛ من وضعية ومثالية ووجودية وشخصانية ومادية جدلية، إلى تحليلية وعقلانية نقدية وظاهراتية وتأويلية (فينومينولوجية وهيرومينويطيقية) وبنيوية بمختلف اتجاهاتها حتى التفكيكية. ولا شك أن هذه كلها جهود طيبة تستحق التقدير والعرفان، كما تنتظر المراجعة النقدية الشاملة التي تبين ما لها وما عليها، وتكشف عن مدى نجاحها أو إخفائها، وإنتاجها أو عقمها، وقدرتها على التأثير على الوعي وتغيير الواقع وتنويره، أو إخفاقها على مستوى النظر أو مستوى العمل أو كليهما معا. وإذا كانت كل هذه الجهود المشكورة تبعث على الرضا والإعجاب، فإنها في الوقت نفسه تضاعف من القلق والحيرة والبلبلة! ذلك أنه إذا جاز القول بأن القلق المنهجي علامة صحة وعافية على الصعيد المعرفي والحضاري، فمن الصحيح كذلك أنه يعيدنا إلى مشكلة أكبر، وهي مشكلة أزمتنا الحضارية وتناقضها الأساسي، فما حقيقة هذه الأزمة؟ وما طبيعة هذا التناقض؟
47
لا يسع الكاتب العربي الذي يتحدث عن الأزمة والتناقض، أن يمر مرور الكرام على الأزمة الأخيرة التي زلزلت وجوده ووجود الملايين من أبناء أمته. ولأن كلمة الأزمة أصبحت مبتذلة مستهلكة، فإنها تستحق أن تسمى محنة المحن وكارثة الكوارث (هنا حذفت المجلة صفحة كاملة عن المحنة الأخيرة).
48
فإذا نظرنا الآن في التناقض الأساسي الكامن وراء ما حدث، وجدنا الآراء تختلف بالضرورة حول طبيعته وصيغته، ووجدتني أجازف بتصوره ووضعه على هذه الصورة: إنه التدمير الذاتي المتصارع مع الوعي بضرورة التقدم. وسوف يتساءل القارئ على الفور: أليس هذا هو تناقض ازدواجية القول والسلوك المعروفة عن العرب منذ القدم، ولا شأن له بالتناقض العقلي الذي شرحت أشكاله وأسبابه من قبل؟ أليس صورة من صور الفصام الذي أشرت إليه منذ قليل، ولا يمكن أن يكون تعبيرا عن الصراع المستمر بين القديم والجديد، والرجعي والثوري، والماضي المشرق المزدهر، والحاضر الذي ليس حاضرنا، ولكنه حاضر الغرب الأوروبي الذي يفرض نفسه كذات للعصر كله وللإنسانية جمعاء،
49
أم تراه تعبيرا آخر عن الصراع الطبيعي بين قوى البناء والحياة وقوى الهدم والموت، أو عن التضاد المشهور في مفهوم ابن خلدون بين قوة العصبية ورخاوة الحضارة؟ وهل يصلح هذا التناقض لتفسير «شقاء الوعي العربي» واغترابه، ومحاولات تغييبه وتزييفه طوال تاريخه وفي لحظته الراهنة؟ وأخيرا ماذا يمكن أن يعنيه للإبداع الفلسفي أو غير الفلسفي؟ وكيف تتوقف الفلسفة - وهي التي اتجهت دائما نحو الكل والعام والمطلق والحقيقة - عند أزمة مهما تكن قسوتها؛ فهي جرح لن يلبث أن يندمل، وشدة عارضة لا بد أن تنفرج؟
من حق القارئ أن يثير هذه الأسئلة والشكوك، وأن يجتهد في تصور التناقض في صور أو صيغ أخرى. وبغير حاجة للاستطراد عن ارتباط الفلسفة بسياقها المكاني والزماني والاجتماعي، وعن بدء الفلاسفة دائما من «هذا» العالم ومن «هذا» الواقع المباشر بأشيائه وموجوداته وأحداثه وعلاقاته وقيمه ... إلخ، أقول: نعم من «الهنا والآن» يبدأ الإبداع الفلسفي قبل أن يمضي قدما في رحلة تجريده وتعميمه وتركيبه ونقده وتقييمه، من القضايا والمواقف والمشكلات التي يحياها ويعانيها الإنسان «العربي» في هذه اللحظة من تاريخها «العربي» وتاريخ العالم في مجموعه.
50
من تجارب هذا الواقع السائد الذي يسعى إلى مجاوزته، وتجارب الناس الذين يحيون فيه ويحلمون ويتألمون ويأملون ويتكلمون ويصمتون ويعرفون ويتعذبون ويسألون ويموتون ... إلخ، يبدأ صياغة أحكامه وقضاياه «العامة» التي لا تؤيدها التجربة ولا تفندها التجربة، ويبني فلسفته التي لا تغترب عن نفسها ولا عن واقعها. فعل هذا كل الفلاسفة الحقيقيون بطريقة ضمنية أو صريحة، مباشرة أو غير مباشرة؛ إما ليعقلوا هذا الواقع أو ينقدوه ويقاوموه ويتخطوه، أو يعملوا في لحمه نصل التحليل، أو يفتشوا وراءه عن واقع آخر حقيقي، أو يفسروا القوانين التي تتحكم في حركته التاريخية الاجتماعية، أو يجمعوا شتاته في وحدة أعلى، إلى آخر ما هنالك من أنساق وتيارات واتجاهات ونزعات.
ويتساءل القارئ: وهل يهتدي «المبدع المنتظر» إلى منهجه قبل بداية تجربته أم أثناءها أم بعدها؟ فأجيب: إنه لا يستطيع بطبيعة الحال أن يجرب أو يفكر بغير منهج، ومحنة التناقض أو تناقض المحنة التي يجد نفسه فيها تفرض عليه أن يكون نقديا وجدليا وثوريا. نقديا لأن مسئولية اللحظة قد وضعت على كاهله عبء مراجعة كل شيء مراجعة جذرية، بما في ذلك وعيه النقدي الذي يحتاج إلى النقد المستمر والارتباط بذاته التاريخية والاجتماعية؛ حتى لا يكتفي بمنظور الذات الأخرى. وجدليا لأن مجاوزة الواقع السائد والساكن والثابت تحتم عليه إدراك منطق التحول والإمكان في كل شيء. وثوريا لأن التحرير والتغيير - لا الاتساق وصحة التفسير وحدهما - هو المقياس الأخير الذي يحتكم إليه في تقييم فكره وعمله. ومن الطبيعي أن يتصور بعضنا بدايات أخرى لا تتنافى مع ضرورة البداية من قضايانا ومشكلاتنا وأزماتنا الملحة «هنا والآن»، وإنما تفرضها وتحفز عليها؛ فالتعريف الأمين بالمذاهب والمدارس والشخصيات الكبرى من الشرق والغرب، ودراستهم، والترجمة الدقيقة والواضحة عنهم، مع الحرص على الحوار معهم واتخاذ موقف نقدي منهم؛ هو عمل لا شك في إبداعه (ولذلك فهو شديد الندرة في مكتبتنا العربية!) ونقل الأمهات الفلسفية إلى لغتنا نقلا ينم عن التمكن والتفهم والتعاطف لا يمكن أن يخلو من إبداع، فما أكثر الكتب التي فجرت ثورات فكرية بين أبناء اللغة «المستقبلة» التي نقلت إليها! وما أشد فقرنا وخجلنا حين ننظر إلى لغتنا، فلا نجد الأعمال الكاملة المحققة لفيلسوف واحد من الكبار! والإسهام في الجهود الفلسفية العالمية في مجالات البحث الفلسفي المتخصص (كالمنطق الرمزي وفلسفة الرياضيات وفلسفة اللغة ونظريات المعرفة ومبحث القيم وآفاق التفلسف المعاصر التي نشأت نتيجة التطورات التقنية المذهلة ... إلى آخر ذلك) - وهذا مبلغ علمي - شبه معدومة، والمراجعات الجذرية للتعليم الفلسفي الذي غرق في الصراعات الصغيرة، وأخفق طوال السنوات الأخيرة إخفاقا ذريعا في تحقيق الحد الأدنى من الحس النقدي المستقل لدى الدارسين، أو تأصيل اتجاه أو تيار أو مدرسة بالمعنى العلمي المتعارف عليه، فغلب عليه التقليد واجترار القديم والحديث، والتأليف المترجم، والترجمة المؤلفة، من ناحية، أو ارتفاع الشعارات والأصوات الأيديولوجية التي خنقت الصوت العلمي من ناحية أخرى. بيد أن المجال يضيق عن طرح المزيد من الأسئلة والمشكلات والتمنيات، وربما اتسع يوما من الأيام - إذا أعان الله وشاءت رحمته - لبدايات أخرى نابعة من الأزمات والتناقضات التي تعذبنا «هنا والآن».
هوامش
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
تمهيد
لا تستغني الحياة الواعية عن النقد، ولا يشك أحد في ضرورة النقد المتجدد للواقع السائد في نظم المعرفة والقيم والاجتماع وأنماط الفكر والفعل والسلوك؛ إذ إن إحياء الحس النقدي معناه إحياء الحس بالحرية والاستنارة، وضرورة التغيير والتقدم والحوار المستمر.
وعلى الرغم من تعدد مفاهيم النقد وتنوع أساليب تطبيقه وميادينه، فهو في تصوره البسيط المباشر يتضمن مناهج المراجعة والتقييم للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معايير معينة، كما يستهدف الكشف عن تعارض تلك الأفكار والوقائع والأفعال مع هذه المعايير التي أصابها العجز والفساد بغية العمل على «رفعها » وتجاوزها.
هذا السلب أو النفي الدائب للمعايير السائدة والوقائع والأوضاع القائمة، يكمن كذلك في النقد الذاتي الذي يزاوله الفرد أو المجتمع، أو ينبغي أن يزاولاه على مختلف الظروف والقيم والمواضعات والمؤسسات والنظم التي قد تبدو للوعي غير النقدي مطلقة وثابتة ومستقرة؛ ولهذا يظل النقد والنقد الذاتي هو التعبير الحي الفعال عن صحوة الوعي الفردي والاجتماعي، وأهم الأسس التي يعتمد عليها الصراع الدائم مع النزعات المحافظة والتقليدية والسلبية التي تبرر كل وضع سائد وتباركه، وتقاوم التغيير والتطوير والتجديد والإبداع. وطبيعي أن يبقى النقد الذي يكتفي بنفي الواقع القائم ونقضه وتعرية عيوبه وأخطائه في أدنى مستويات النقد؛ لأن النقد الصحيح هو الذي يضع «الضد» في مواجهة «القائم»، ويؤلف بينهما في «جديد» أعلى وأشمل وأكثر وعيا وخصوبة.
مثل هذا النقد «السالب» أو «النافي» - بالمعنى الحقيقي للسلب أو النفي - عنصر أساسي في تكوين المنهج الجدلي الذي أثبت، منذ هيجل على أقل تقدير وحتى ماركس وأصحاب النظرية النقدية الذين سنتحدث عنهم، أنه بطبيعته نقدي وثوري، وأنه يؤدي إلى التغيير الإيجابي عن طريق سلبه لكل ما هو فاسد في الواقع السائد، وتطوير ما يقبل منه التطوير إلى جديد ملائم للحاجات المستجدة، وقادرة - في حدود الممكن لا المستحيل، وبصورة عقلانية وعلمية، لا بصورة عاطفية متمردة وعشوائية! - على الخروج من الأزمات والمشكلات، وإحلال قيم ومعايير مختلفة محل القيم والمعايير التي أصبحت تقليدية جامدة، واقتضت «الجدلية» الجذرية أو الثورية تخطيها, ولا بد في النهاية أن يعمل مثل هذا النقد على تغيير القائم أو السائد تغييرا فعليا، وألا يقتصر على تعريته وتحليله تحليلا نظريا وفكريا وحسب؛ لأنه إما أن يتحول إلى فعل ثوري واع يستبدل ببناء اجتماعي ومعرفي وقيمي منهار بناء آخر أصلح وأقرب للواقع الحي، ويضع تصورا لتغيير مستقبلي ينفي السائد الذي دب فيه الفساد ويزلزل ثوابته المزعومة، وإما ألا يكون نقدا على الإطلاق، بل شيء من قبيل الأوهام الزائفة والأحلام المستحيلة، والوعود البلاغية والإنشائية التي لا يلبث الواقع العيني أن يكذبها ويخذلها.
بهذا المعنى يصبح النقد هو الجهد العقلي والعملي، الذي يتجه لعدم تقبل الأفكار وأساليب القول والفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية وسائر العلاقات التي تربط الإنسان بعالمه ومجتمعه تقبلا أعمى، وهو جهد يبذل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز المظهر فيها من الجوهر، والبحث في أصول الأشياء وجذورها، وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح ... إلخ؛ أي معرفتها معرفة حقة تفضي إلى تغييرها من أساسها على هدي «نموذج ضدي» متصور وممكن في آن واحد.
1
وبهذا المعنى أيضا نصل إلى مفهوم النقد عند أصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، أو نقترب منه على أقل تقدير؛ فقد كانوا رواد فلسفة اجتماعية أو علم اجتماع نقدي، توحد فيه التأمل الفلسفي النظري مع العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية التجريبية، ونظروا - على حد تعبير رائدهم ماكس هوركهيمر (1895-1973م) - إلى المجتمع بوصفه «كلا ضديا» حافلا بالصراعات والتناقضات، وأسسوا فلسفة اجتماعية تركز موضوع بحثها على البشر المغتربين عن أشكال حياتهم التاريخية في المجتمعات الرأسمالية والصناعية الشمولية، التي أنتجوها كما كانوا نتاجا لها، واغتربوا عنها كما كانت السبب في اغترابهم.
وعنوان هذا التمهيد يثير مشكلة تستحق الإشارة إليها؛ فهل نسمي مجموعة الفلاسفة وعلماء الاجتماع اليساريين، الذين بدأ جيلهم الأول نشاطه النظري والتجريبي في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن، مع تأسيس معهدهم الشهير «معهد البحث العلمي» في مدينة فرانكفورت (على نهر الراين) قبل هجرتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد عودة معظمهم من هذا المهجر أو المنفى سنة 1951م إلى المدينة نفسها، حتى وفاة واحد من أهم أعضاء هذه المجموعة وأنبغهم، وهو تيودور فيزنجروند أدورنو (1903-1969م)، وبروز الجيل الثاني وعلى رأسه الفيلسوف المشهور المرتفع الصوت يورجين هابرماس (1929م) وتلاميذه؛ هل نسميهم باسم «مدرسة فرانكفورت»، وهو الاسم الذي عرفوا به بعد الحرب العالمية الثانية، أم نسميهم من ناحية المنهج الذي اتبعوه في النظر والتطبيق، واستندوا فيه إلى روح الفلسفة الماركسية مع الابتعاد عن معظم مقولاتها الأساسية، باسم أصحاب «النظرية النقدية»؟
2
الحق أن التسميتين واردتان، وهما متفاعلتان عند من يعرف الجهود المشتركة لهذه المجموعة من المثقفين اليساريين وعلماء الاجتماع ونقاد الحضارة والأدب والفن، الذين أعملوا مبضع النقد الثوري في أمراض حضارتهم «البرجوازية» التي ضلت طريقها، وتزايدت في رأيهم سرعة اندفاعها إلى هاوية اللاعقل وكارثة السقوط المحتوم عن طريق عقلها نفسه أو عقلانيتها التقنية، هؤلاء الذين سيطرت عليهم فكرة «الخلاص» والكفاح في سبيل عالم أفضل تسوده الاستنارة والرشد، ويختفي منه القهر والقمع، ويتم فيه إنقاذ الحياة المباشرة السعيدة؛ الحياة الأصيلة المبدعة. هؤلاء المفكرون والعلماء أصحاب الرسالة الاجتماعية والإنسانية يمكن أن يكون شعار «مدرسة فرانكفورت»، الذي عرفوا به علامة مميزة لجهودهم وسماتهم المشتركة، كما يمكن وصفهم بأصحاب النظرية النقدية، أو الاكتفاء بالاسم الذي يدل على منهجهم وهو «النظرية النقدية»، وبصورة أدق «النظرية النقدية الاجتماعية»، أو «النظرية النقدية الجدلية». كل هذا على الرغم من الاختلافات الدقيقة بينهم في تحديد معناها، ومن تفاوت طرقهم في البحث والنظر، بحيث يمكننا الحديث في الحالتين عن موضوعات وسمات عامة، تؤلف بين أعضاء جماعة تنوعت اهتماماتهم وتخصصاتهم أكثر من إمكان الحديث عن مدرسة علمية موحدة ومتماسكة، ولا سيما أنها لم تزل عند أبرز رواد جيلها الثاني (وهو هابرماس الذي سبق ذكره) فلسفة مفتوحة، ولم تزل تسعى إلى إتمام بنائها النظري والعلمي، وإدماج عناصر جديدة فيه من فلسفات العصر الأخرى المؤثرة (كالفلسفة التحليلية والتحليل النفسي والفينومينولوجيا أو الظاهرية والوجودية والهيرومينويطيقية أو فلسفة التفسير ... إلخ) إلى الحد الذي تتهم معه من جانب خصومها بأنها لم تعد نقدية ولا ماركسية، وأنها انتهت عند بعض أعلامها في أواخر حياتهم إلى نوع من اليسارية العدمية!
ربما كان من أهم السمات المشتركة التي ذكرناها، أن أعضاء الجيل الأول ينحدرون من أصول يهودية، وقد ألح عليهم ذلك الشعور الذي لازم اليهود في كل المجتمعات القديمة والحديثة التي عاشوا فيها، حتى قيل: إنه جزء من طبيعتهم، ألا وهو الشعور بالاغتراب عن مجتمعاتهم «البرجوازية» والشمولية - رأسمالية كانت أو شيوعية - وإحساسهم المعذب بافتقاد الحياة الذاتية الأصيلة وسط بشر مثلهم مقهورين ومغتربين. ولعل هذا الشعور المعذب أن يكون كذلك سببا في اقترابهم من الطبقة العاملة المطحونة والمغتربة عن تلك المجتمعات، واهتمامهم من بداية أمرهم بتكريس قدر كبير من بحوثهم الاجتماعية لقضايا هذه الطبقة ومشكلاتها وألوان الظلم التي تتعرض لها
3 (مع العلم بأن معظم أعضاء المدرسة قد نشئوا في عائلات يهودية موسرة، وأن معهد البحث الاجتماعي نفسه قد أسسه وأنفق عليه بسخاء ابن مليونير يهودي هو فليكس فايل).
وربما كان من أهم السمات العامة التي تميز كذلك معظم أعضاء المدرسة من أصحاب النظرية النقدية، أنهم التفوا - لفترة طويلة على الأقل، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ورجوع معظمهم من المهجر - حول معهدهم ومجلتهم، والتزموا إلى حد كبير بالبيان «المانيفيستو!» الذي وضح اتجاههم العلمي والنقدي، وألقاه راعيهم ومديرهم «ماكس هوركهيمر» في محاضرته الافتتاحية بجامعة فرانكفورت سنة 1931م بعنوان: الوضع الحاضر للفلسفة الاجتماعية ومهام معهد البحث الاجتماعي. كما التزموا بالأفكار الأساسية التي وردت في مقاله الذي يرجع لعام 1937م عن النظرية التقليدية والنظرية النقدية. أضف إلى هذا كله أنهم عدوا أنفسهم ورثة هيجل وماركس (الشاب بوجه خاص!) وأدمجوا في ماديتهم التاريخية والنقدية عناصر مختلفة من التحليل النفسي الفرويدي، وأفكارا ومشاعر عديدة من رواد فلسفة الحياة وأصحابها الذين نقدوا العقل والميتافيزيقا (مثل شوبنهور ونيتشه ودلتاي وكلاجيس وبرجسون)؛ مما جعل بعض خصومهم يصفونهم بأنهم ماركسيون وجوديون أو وجوديون متمركسون، وبأنهم عاطفيون مصابون بالتشاؤم الحضاري والعدمية التاريخية، التي حاولوا الفرار من أسوارها الكثيفة المظلمة بأجنحة أحلامهم الغامضة عن الإنقاذ والخلاص، عن طريق الإبداع والفن حينا، أو على يد أنبياء العصر الجدد حينا آخر، من المنبوذين والمضطهدين والهامشيين وصعاليك الفنانين وشباب الجامعات المتمردين.
ولا بد في هذا التمهيد من كلمة موجزة عن ماركسية أصحاب النظرية النقدية؛ فقد ذكرنا أنهم تبنوا الماركسية من حيث المبدأ أو من حيث الجوهر وروح المنهج ، ولكنهم لم يتقيدوا بصورتها الحرفية ومقولاتها التقليدية، التي تركزت حول نقد الرأسمالية كنسق اقتصادي تعتمد عليه «البنية الفوقية» والمنظومة الفكرية (الأيديولوجية) بمختلف جوانبها. لقد قامت ماركسيتهم المبدئية - كما قدمت - على نقد العلاقات المغتربة والمسببة لاغتراب الإنسان في المجتمعات الرأسمالية والصناعية القائمة على الشمولية والعقلانية التقنية والإدارية التي ادعت التقدمية والاستنارة، وتباهت بالسيطرة على الطبيعة والإنسانية في الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي على السواء. ولم يكن المصدر الأساسي لهذا النقد هو النظرية الماركسية في مجموعها، ولا الارتباط بالطبقة العاملة، بقدر ما كان - في معظم الأحوال، لا في جميعها - هو التأثر بتجربة ماركس الشاب الذي اكتشفوه مع اكتشاف «مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام 1844م» في مطالع هذا القرن في باريس، بحيث وجدوا في آرائه تأكيدا لاغتراب الإنسان في المجتمعات السابقة الذكر عن ماهيته الحقيقية، واغترابهم كيهود مضطهدين من تلك المجتمعات. لقد أدركوا أن الرأسمالية كارثة تحيق بالإنسان؛ بحقيقته وآماله في حياة حرة ومبدعة وسعيدة، وعرفوا أن نقدهم لها ينبغي ألا يقتصر على الإصلاح الاقتصادي والسياسي، بل يستوجب الثورة الشاملة عليها؛ على «صنميتها» السلعية وعقلانيتها واستنارتها المزعومة التي تقف حجر عثرة أمام كل حياة إنسانية أصيلة (وهذا هو الذي فعله «أدورنو» في مقاله المبكر سنة 1932م عن الوضع الاجتماعي للموسيقى، وفي الكتاب الذي اشترك فيه مع «هوركهيمر» عن «جدل التنوير»، 1945م).
غير أن هذه النظرة النقدية المشبعة بروح الخلاص والوعي المسئول ب «رسالة» أصحابها، لم تخل في الوقت نفسه من الازدواج والتمزق والتشكك في دور النظر العقلي والبحث العلمي والتقني، في ظل حضارة تندفع - في رأيهم - إلى هاوية لا عقلانية، وتتسلط على وعي الإنسان وتزيفه، في الوقت الذي تسيطر فيه على المادة والطبيعة، وتتحكم فيهما بوسائل القمع والقهر الرهيبة. ولم تتجرد تلك النظرة كذلك من الإحساس الفاجع القاتم، الذي فرضته عليهم روح العصر المتدهور أو الآفل للغروب (على حد تعبير شبنجلر، وتحت تأثير شوبنهور وفلاسفة الحياة)، ولا من الإيمان الشجاع بضرورة «الإنقاذ» عن طريق المعرفة العلمية والموضوعية بالعلاقات والأشكال الاجتماعية، ومن خلال الأمل «الرواقي» الصامد رغم كل شيء، الواعد بحياة إنسانية «أصيلة» وبريئة من القمع والزيف والبؤس والاغتراب.
وإذا كانت الإبداعات والإنجازات الكبرى قد تولدت - في تقديري المتواضع - عن الأزمات التاريخية والاجتماعية والفكرية، التي أحسها الأفراد العظام ووعوا شروطها وإرهاصاتها تمام الإحساس والوعي، فإن النظرية النقدية لهذه المدرسة ليست استثناء من ذلك؛ فهي أيضا وليدة أزمات العصر وعصر الأزمات، ونتاج الصراعات والمتناقضات على اختلاف درجاتها ومستوياتها وأسبابها ونتائجها، بل إن اسم مدرسة فرانكفورت ليثير مشكلات ويوحي بتداعيات تقفز على الفور إلى الذهن، وتؤكد أنها من إفراز النظم الشمولية الحديثة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، على الرغم مما قد يبدو بينها من تنافر وتنوع في أبعادها. ويكفي أن نذكر منها: النازية وهجرة المثقفين الألمان فرارا من إرهابها، أهوال الحرب العالمية الثانية، مشكلة اليهود في أوروبا، جمهورية فيمار الهشة التي اكتسحها الطغيان النازي، عصر «مكارثي» الذي عاش أعضاء المدرسة تحت نير مباحثه أثناء وجودهم في نيويورك ولوس أنجلوس، حركة الطلاب المتمردين أو الرافضين في أواخر السبعينيات، أزمة الماركسية سواء تمثلت في عجز الأحزاب اليسارية الأوروبية تجاه التصاعد النازي، أو تجلت بعد الحرب في محاولات تجديدها من الداخل وتفجير تزمتها المذهبي وشموليتها البوليسية والبيروقراطية، أزمات الفكر الفلسفي «البرجوزاي» التي تبدت واضحة في تهاوي المثالية، وجمود الفلسفة الأكاديمية، وانسحاب فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الوجود إلى الباطن عجزا منهما عن إدراك الواقع الحي وتفسيره وتغييره، أو خوفا من المد الثوري الاشتراكي.
أضف إلى هذا كله أزمة الحركة التعبيرية في الأدب والفنون التشكيلية قبل الحرب وبعدها، واتهام أنبغ المبدعين الألمان بالتحلل والزيغ، واضطرارهم للهرب من وطنهم، بجانب عدد من النزاعات الجدلية والخصومات الفلسفية والعلمية التي شارك فيه بعض أعضاء المدرسة - وبخاصة أدورنو وتلميذه هابرماس - مثل النزاع حول النزعة الوضعية عند علماء الاجتماع التقليديين في الجامعات الألمانية، وحول النقد الثقافي والحضاري، وحول فلسفة «هيدجر» في الوجود (الأنطولوجيا)، وهي الفلسفة التي كان لها «نصيب الأسد» من الهجوم الحاد الذي صبه عليها الاسمان الأخيران على فترات متباعدة بين الستينيات والثمانينيات، وكلها أزمات وصراعات تستحق مزيدا من التفصيل الذي يضيق عنه هذا المجال المحدود.
يترتب على ما سبق حقيقة بالغة الوضوح وإن كنا لا ننتبه إليها عادة، وهي أن النظرية النقدية نفسها «تاريخية» وليست ثابتة ولا مطلقة. ومعنى هذا أنها تخضع للنقد، شأنها شأن كل الظواهر التي يغمرها نهر الصيرورة وتحركها أمواج التاريخ، ومعناه كذلك أن «نقد النقد» أمر وارد وواجب، وإلا فنحن لم نتعلم من النقد شيئا. وطبيعي كذلك أن يكون نقدنا لها نقدا تاريخيا؛ أي مشروطا بأوضاعنا وظروفنا الذاتية والموضوعية، ومرتبطا بسياقنا الاجتماعي والسياسي والثقافي ومدى قدرتنا على استيعابه؛ ولذلك فهو بدوره لن يكون معصوما من النقد ولا من نقد النقد، وسوف نؤجله إلى ما بعد العرض الإجمالي للنظرية النقدية وتطورها وجذورها التاريخية وأهم سماتها ومعالمها وأبرز أعضائها، وذلك كما قلت في الإطار المحدود الذي يتسع له هذا البحث. (1) النظرية النقدية الجدلية (1-1) جذورها التاريخية وأهم ممثليها
ترتبط النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أوثق ارتباط ب «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي»، الذي أسسته في سنة 1923م نخبة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والنفس والنقد الأدبي والجمالي المنحدرين من أصول يهودية، وقد حددوا وضعه وهدفه منذ البداية، بحيث يكون معهدا حرا غير مقيد بالنظم الجامعية والأكاديمية، يتفرغ لبحث مشكلات الاشتراكية والماركسية والعنصرية وحركة العمال، مع الاعتماد بصورة عامة على المنهج الماركسي في التحليل النقدي الاجتماعي. وقد كان من بين أعضائه في العشرينيات والثلاثينيات عدد من الأعلام الذين ذاعت شهرتهم بعد ذلك في الحياة الفكرية والأدبية، مثل عالم النفس الاجتماعي والكاتب الفيلسوف «إريك فروم» (1900-1980م)، والناقد الأدبي الماركسي فالتر بنيامين (1892-1940م)، وعالم الاجتماع الأدبي ليو لوفنتال، وبوجه أخص الفيلسوفان: تيودور فيزنجروند أدورنو (1903-1969م) وهربرت ماركوز (1898-1979م)، وفيلسوف الاجتماع ماكس هوركهيمر (1895-1973م)، الذي تولى إدارة المعهد من سنة 1930م إلى سنة 1934م عندما أغلقته السلطات النازية، فاستمر في الإشراف عليه بعد ضمه إلى جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية (من 1934-1950م)، بجانب إشرافه على إصدار «مجلة البحث الاجتماعي»، ورئاسة تحريرها من سنة 1932م إلى سنة 1941م. وتجمع الآراء اليوم على أن أصحاب الأسماء الثلاثة الأخيرة هم مؤسسو «النظرية النقدية الجدلية» وأهم ممثليها من الجيل الأول، بالإضافة إلى أهم ممثليها من الجيل الثاني وأشهرهم، وهو المفكر والفيلسوف الاجتماعي يورجين هابرماس (ولد سنة 1929م).
بلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية، وعلى تفكير الرأي العام المثقف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات، عندما تبنت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية، وأدمجتها في «أيديولوجيتها» اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السلطة والتسلط. وقد تأثر رواد هذه الحركة الثورية بأفكار «ماركوز» على وجه الخصوص، كما راجت آراؤه النقدية للمجتمع الرأسمالي الصناعي، في أعقاب مظاهرات الاحتجاج على التمييز العنصري، واضطهاد الأقليات، وحرب فيتنام التي هزت الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما ساعد على انتشار «النظرية النقدية» على الأقل في أوساط المثقفين والطلاب المتمردين.
ومن أهم الجذور التاريخية والعقلية التي تغذت عليها النظرية النقدية، ونمت في تربتها: (1)
تراث الفلسفة المثالية الألمانية، وفي مقدمته تراث جورج فيلهيلم فريد ريش هيجل (1770-1831م). (2)
كتابات الشباب المبكر لكارل ماركس (1818-1883م)، وبخاصة المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لعام 1844م، التي تحتل فيها فكرة اغتراب الإنسان في ظل مجتمع علاقات الإنتاج الرأسمالي مكانة كبيرة. (3)
الفلسفات الاجتماعية الألمانية، وبخاصة عند ماكس فيبر (1864-1920م)؛ مما أثر على بحوثهم في علم اجتماع المعرفة والأدب والفن. (4)
فلسفة التحليل النفسي وفلسفة الحضارة عند سيجموند فرويد (1856-1939م) (خصوصا بعد تطويرها بمنظور اجتماعي عند فيلهيلم ريش وإريك فروم وماركوز). (5)
الأفكار والتصورات الماركسية والهيجلية الجديدة، التي عبر عنها في العشرينيات من هذا القرن كل من كارل كورش (1886-1961م)، وجورج لوكانش (1885-1971م)، لا سيما في كتابه التاريخ والوعي الطبقي (1923م)، الذي عرض فيه لفكرة «تشيؤ» الإنسان واغترابه، التي كان لها تأثير قوي على رواد النظرية النقدية، بجانب التأثر بصورة غير مباشرة بفلسفة الأمل عند أكبر فيلسوف «يوتوبي» في العصر الحاضر، وهو إرنست بلوخ (1885-1977م)، الذي جعل من مبدأ الأمل مقولة أنطولوجية أساسية نظر من خلالها نظرة موسوعية إلى تطور المادة، وإلى كل إبداعات العقل الأوروبي والتراث الحضاري البشري، ورصد حركته نحو «يوتوبيا» إنسانية لم تتحقق بعد ولن تتحقق إلا في ظل المجتمع الشيوعي الذي سيكون - في تقديره - «وطن» الإنسانية والحرية والعدل والإخاء. (6)
التأثر ببعض أفكار فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الحياة وفلسفة الوجود، التي انطلق منها بعض أعلام مدرسة فرانكفورت؛ مما جعل فلسفتهم تتهم في كثير من الأحيان - كما سبق القول - بأنها ماركسية وجودية. ونخص منهم بالذكر هربرت ماركوز، الذي درس في شبابه على يدي هسرل مؤسس الظاهرات (1859-1938م)، ثم هيدجر (1889-1976م) الذي أعد رسالته في الدكتوراه تحت إشرافه، وكذلك هوركهيمر وأدورنو اللذين لا يخفى تأثير فلسفة شوبنهور (1788-1860م) ونيتشه (1844-1900م) وفيلسوف الحياة والتاريخ والحضارة وعالم الاجتماع جورج زيميل (1858-1918م) على تفكيرهما الجاد، وحسهما المأسوي، وتصورهما المتشائم لتاريخ العقل البشري بوصفه تاريخ عذاب الإنسان وتعذيبه من قبل قوى فظة غاشمة وشبه مجهولة، بحيث بلغ ذروة سلبيته وتجرده من أقنعته الحضارية وتصدعه واغترابه في ظل المجتمعات الصناعية «المتقدمة»، ومع تصاعد الإرهاب النازي ثم الرأسمالي والشيوعي.
4 (1-2) خصائصها وسماتها العامة
تكاد مقولة «التشيؤ» و«الاغتراب» أن تكون إطارا مرجعيا لمعظم الأفكار التي يطرحها فلاسفة النظرة النقدية، ونواة مركزية يدور حولها الجانب الأكبر من مناقشاتهم وتحليلاتهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي «العقلاني» الحديث، وتعبر هذه المقولة في أبسط أشكالها عن أن المجتمع والبشر ليسوا في واقع حياتهم ما يمكن أن يكونوه بحسب ماهيتهم وإمكاناتهم؛ ذلك أنهم في الحقيقة مغتربون عن هذه الإمكانات وتلك الماهية؛ فالمجتمع الصناعي المتقدم الذي ينصب عليه حديثهم عن هذه المقولة يكشف عن اغتراب الإنسان وتشيئه في ظواهر عديدة ومتنوعة. من هذه الظواهر أن الإنسان قد تحول في ظل علاقات العمل الصناعية والرأسمالية إلى مجرد عنصر أو جزء ضئيل من جهاز الإنتاج الهائل الذي تحدده «الأتمتة» و«الميكنة»، وصار عجلة صغيرة مجهولة قابلة لأن يستبدل بها غيرها داخل «العالم التقني» الضخم، الذي يصعب الإحاطة بشبكته المعقدة، أو بالقوى التي تحرك خيوطه.
فالإنسان واقع تحت ضغط الآلات التي تفرض عليه ألوانا من السلوك النمطي الرتيب، وتسد عليه منافذ المبادرة الشخصية الحرة، وتعوق تحديده لذاته، وتخنق فاعليته الخلاقة.
وتتجلى ظاهرة التشيؤ والاغتراب بجانب ذلك في تسلط النظم البيروقراطية وأساليب القمع الإداري المختلفة، التي تجعل الإنسان نهبا لمظاهر القهر الخفية والسافرة في المجتمع الصناعي المتقدم، الذي أحكمت أجهزة «الإدارة» قبضتها عليه، بحيث سلب البشر فرديتهم، وانحطت قيمتهم الإنسانية والذاتية تحت ضغط عملية الإنتاج الآلية إلى مستوى «الشيء» الذي تشكله القوى المسيطرة كيفما شاءت. أضف إلى هذا ظاهرة ثالثة توضح مدى اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث ، وهي «توحيد» الحاجات البشرية، وتقنين أنماط السلوك أو «التسوية» بينها عن طريق عملية الإنتاج السلعي الضخم، وصناعة التسويق والاستهلاك على أوسع نطاق. ويصور للإنسان الفرد (على حد تعبير أدورنو وهوركهيمر في كتابهما المشترك عن جدل التنوير)
5
من خلال شركات الإنتاج ووكالاته التي لا حصر لها، ومن خلال ثقافتها الإعلامية، أن أنماط السلوك الموحدة أو المقننة هي وحدها الأنماط الطبيعية المحترمة المعقولة.
وقد تتبع بعض ممثلي النظرية النقدية - وبخاصة أدورنو وهوركهيمر - تأثير ظاهرة الاغتراب والتشيؤ على الفن والإبداع، وبينوا كيف انحط العمل الفني في ظل المجتمع الصناعي، وظروف صناعة الثقافة وعملائها وأجهزة إنتاجها والإعلام عنها، إلى حضيض السلعة في سوق الاستهلاك والمزايدة؛ مما أفقده أصالته وشموله وفعله المباشر في القلوب والعقول، بحيث أصبح مجرد «شيء» يقصد به الاستمتاع السطحي والتسلية في أوقات الفراغ، ولم يبق أثر للعلاقة الحية بالعمل الفني، ولا للفهم المباشر لوظيفته بوصفه تعبيرا عما كان يسمى يوما باسم الحقيقة (على حد قول هوركهيمر في كتابه عن نقد العقل الأداتي).
6
ويحدد أصحاب النظرية النقدية أسباب التشيؤ والاغتراب التي ترجع للنظام الاقتصادي الرأسمالي؛ فعلاقات الإنتاج والسوق الرأسمالية هي المسئولة عن «عبادة السلع» أو «صنميتها» (الفيتيشية)، التي أضفت على علاقات الناس بالأشياء وببعضهم بعضا طابع السلعة، وحصرتها في نطاق المنافع والوسائل المجردة من كل لمسة شخصية أو إنسانية. أضف إلى ذلك تقسيم العمل الموغل في التخصص خلال عملية الإنتاج، وميكنة العمل نفسه، وبيروقراطية الإدارة، وصناعة الدعاية والإعلام ووسائطهما الجماهيرية ... إلخ، ويأتي في مقدمة العوامل والأسباب التي أدت إلى اغتراب الإنسان المعاصر في ظل المجتمعات الصناعية المتقدمة أسلوب أو نمط معين من التفكير، يسميه أصحاب النظرية النقدية باسم «العقل الأداتي» حينا و«العقلانية التقنية» حينا آخر، مما سيرد ذكره بعد قليل. والواقع أن النظرية النقدية تختلف في هذه النقطة اختلافا أساسيا عن وجهة النظر الماركسية اللينينية، التي ترجع الاغتراب لأسباب اقتصادية محضة، كما تجعل القضاء عليه مرهونا بالقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
يقصد فلاسفة النظرية النقدية ب «العقل الأداتي» أو «العقلانية التقنية» نوعا من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث، يطلقون عليه كذلك اسم العقل الذاتي والتقني والشكلي، ويصفونه - على لسان ماركوز في كتابه الشهير - بالتفكير «ذي البعد الواحد». ويتضح هذا التفكير بأجلى صورة في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراجماتية «العملية».
وإذا كانت فلسفة التنوير الحديثة - بما تنطوي عليه من التجرد من النزعة الأسطورية والخرافية، ومن محاولة السيطرة الكاملة على الطبيعة - قد دفعت بهذا النوع من التفكير إلى حدوده القصوى، فليس من الصعب أن نتلمس جذوره في الفلسفة الغربية القديمة. والدليل على هذا - في رأي ماركوز - أن المنطق الأرسطي يكشف عن الميل لإخضاع جميع الموضوعات، سواء كانت عقلية أو جسمية، وسواء تعلقت بالمجتمع أو بالطبيعة، لنفس القوانين العامة للتنظيم والحساب والاستنتاج. هذا الميل يعبر اليوم عن نفسه في صورة «منطق السيطرة» الكامن في أسلوب التفكير العلمي والتقني الحديث، كما يعبر هذا الأسلوب بدوره عن إرادة السيطرة التي تميزه ولا تنفصل عنه، ويمثل نوعا من «القبلي التقني» الذي ينظر للطبيعة ويتعامل معها بوصفها مجالا للوسائط أو الوسائل الممكنة، ومادة للتحكم والتنظيم، ثم يمد سلطانه على البشر والعلاقات البشرية، فيضعها أيضا تحت تصرفه وتحكمه وسيطرته، بحيث لا يكون للعقل في النهاية إلا طابع أداتي، وتصبح قيمته الإجرائية ودوره في إحكام السيطرة على البشر وعلى الطبيعة، هو «المعيار الأوحد» (راجع في هذا الصدد كتاب ماركوز المشهور عن الإنسان ذي البعد الواحد، دراسات عن أيديولوجية المجتمع الصناعي المتقدم، نويفيد وبرلين، 1967م، ص152 ، 161، 167 وبعدها؛ وكذلك كتاب هوركهيمر السابق الذكر عن نقد العقل الأداتي، فرانكفورت، 1967م، ص30؛ والكتاب المشترك لأدورنو وهوركهيمر عن جدل التنوير، ص33).
7
ولا ينفصل هذا الاتجاه «الأداتي» للعقل التقني والعلمي الحديث عن اتجاهات أخرى تتمثل في فرض المقولات الكمية على الواقع، ومحاولة إخضاع جميع الظواهر والوقائع للقوانين الشكلية والقواعد القياسية. ويتضح «طغيان النزعة الكمية أو التكميم» (على حد تعبير أدورنو في كتابه عن الجدل السلبي، فرانكفورت، 1966م، ص51) في العصر الحاضر في المنطق الرياضي، والاتجاه المتزايد إلى «ترييض» العلوم المختلفة حتى الإنسانية منها (أي صبغها بالصبغة الرياضية)، بل في تطبيق المعايير الكمية على تقييم فرص العمل، وتنظيم السلوك في أوقات الفراغ. وقد ترتب على هذه العقلنة الشكلية والرياضية لمختلف ميادين الحياة الإنسانية أن تضاءلت جوانب كيفية هامة لا غنى عنها لحياة الإنسان، وتمت التسوية بين الفروق الفردية الأساسية، والتضييق على إمكانات الحرية والتعبير الحر التي لا تستقيم الحياة بغيرها. ويؤكد فلاسفة النظرية النقدية في هذا الصدد أن الإنسان الذي تحكمت فيه العقلانية التقنية لا ينفك يفرض تقنياته المتجددة على الطبيعة والمجتمع؛ تحقيقا لإرادته في عقلنتهما وصب ظواهرهما في مقولاته؛ ومن ثم فرض سيطرته عليهما. غير أنه لا ينتبه من ناحية أخرى إلى أن هذه التقنيات ذاتها هي نتاج تفكيره، وإن كان يعدها في النهاية حقائق موضوعية ثابتة ومستقلة عنه، ويتعامل معها كأنه واقع تحت رحمتها وخاضع لسلطانها. ويسوقه هذا إلى الوقوف العاجز إزاء كل ما هو قائم ومستقر، أو إلى موقف التصالح معه (والمراد بالقائم والمستقر هي أساليب التفكير السائدة والمؤسسات والنظم والقيم والعلاقات الاجتماعية والسياسية ... إلخ). ويلح فلاسفة النظرية النقدية على هذه الفكرة التي ترتبط بسمات وخصائص أخرى مميزة للعقل التقني أو الأداتي، كالاتجاه لتثبيت دعائم السلطة، وتأمين علاقات القوة والسيادة في مجتمع معين، والميل إلى اضطهاد النزعات التلقائية الخلاقة والأفكار المبدعة الجسور التي تطمح إلى تجاوز المألوف والمعتاد، والعجز عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سياقها التاريخي الشامل الذي يتخطى الجوانب الجزئية والأحداث المعزولة، والنزوع إلى توحيد أساليب التفكير والحاجات وأنماط السلوك تحت تأثير وسائل الدعاية والإعلام والتسويق، التي ترتبط بنظام الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الصناعي والرأسمالي، وتؤكد مصلحته في «تنميط» أشكال التفكير والسلوك، وحمل الناس على التكيف مع ظروف القهر والقمع التي تفرضها العقلنة والميكنة التي سبق شرحها، ثم الاتجاه أخيرا إلى استبعاد القرارات الأخلاقية والسياسية من دائرة المعقول والحط من شأنها؛ لأنها تنتمي إلى مجال اللامعقول والقرارات «الذاتية» البعيدة عن «الموضوعية».
وطبيعي أن يكون القمع والتسلط الذي يطبع المجتمع الصناعي المتقدم بطابعه من أهم المقولات التي تؤكدها النظرية النقدية، ويرجع الفضل في ترويج هذه المقولة والإلحاح عليها ل «هربرت ماركوز»، الذي حاول أن يجد لها مبررا معقولا من كتابات «فرويد» عن فلسفة الحضارة، ومن فلسفة التحليل النفسي بوجه عام. فقد استند إلى زعم فرويد - وبخاصة في كتابه «الضيق بالحضارة»
8 - أن التطور الاجتماعي والحضاري الذي حققته البشرية لم يتم إلا بالقمع المستمر للدوافع والحاجات الإنسانية الأولية، ويسري هذا القمع أو «الكبت» الضروري على تطور شخصية الفرد؛ إذ لا بد لكل إنسان أن يتعلم منذ طفولته كيف يتحكم في دوافعه المتجهة بطبيعتها لإشباع حاجته إلى اللذة والسعادة إشباعا لا حد له؛ لكي يتسنى له المحافظة على بقائه والتعايش مع غيره. ومن هنا يكون احترام القواعد والنظم الاجتماعية على الدوام نوعا من القمع الواعي أو غير الواعي للدوافع والرغبات والحاجات الأولية. ويزيد ماركوز على فرويد، فيذهب إلى أن هذا القدر الضروري من قمع الدوافع في جميع المجتمعات البشرية قد أضيف إليه قدر آخر غير ضروري أو «فائض» من القمع الذي فرضته مصالح السلطة الحاكمة ومؤسساتها وتنظيماتها. ومجتمعات «الرخاء» الصناعية الحديثة لا تستثنى من هذه القاعدة؛ إذ جعلت من هذا القمع غير الضروري مؤسسة ذات قوة وسيطرة. وبدلا من أن تقضي على ذلك القدر الضروري من قمع الدوافع والرغبات الذي استلزمه التطور التاريخي، نتيجة لارتفاع معدل الإنتاجية ومستوى الرخاء اللذين وصلت إليهما، تحولت إلى نظام شامل للقمع والهيمنة والسيطرة، وعرضت الإنسان لأشكال مختلفة من القهر الظاهر والباطن، والقمع الواعي أو غير الواعي الذي ينطلق من أجهزة الإنتاج الضخمة، والمؤسسات الإدارية والبيروقراطية والاستهلاكية والإعلامية، التي تشبه آلات هائلة يحاول الناس أن يكيفوا أنفسهم مع ضغوطها ومطالبها، ويضطرون في سبيل ذلك إلى قمع طبيعتهم، بل يبلغ بهم الأمر في كثير من الأحيان إلى عدم الإحساس بالقمع الذي تمارسه عليهم تلك الأجهزة التقنية المخيفة، التي تتحكم حتى في حياتهم الخاصة، فتشكل دوافعهم، وتوحد أنماط سلوكهم، وتخلق فيهم حاجات مادية وروحية زائفة، يشبعها مجتمع الاستهلاك والرفاهية بكافة السبل، فيتوهمون أنهم يحيون حياة سعيدة هانئة، في الوقت الذي تطيل فيه أمد عبوديتهم وشقائهم، وتضاعف القهر غير الضروري لدوافعهم وحاجاتهم الحقيقية. وواقع الأمر أن القوى المسيطرة على تلك المجتمعات هي التي أوحت إليهم بالحاجات المزيفة؛ لتحقيق مصلحتها في إقرار الأوضاع القائمة، مستعينة على ذلك بوسائط الإعلام وتقنيات التأثير على الجماهير، التي استطاعت أن تشكل إحساسهم الفردي بالسعادة، كما شكلت حاجاتهم الأولية ووحدتها وأخضعتها لمطالب الاستهلاك وصناعة اللذة والتسلية والرفاهية. وأخطر ما في الأمر أن الناس يستسلمون لهذه الأوضاع، ويقاومون أي محاولة ثورية لتغييرها، متصورين أن هذا التغيير ضد مصالحهم لا ضد مصالح القوى المسيطرة عليهم.
ومن أبرز خصائص النظرية النقدية أنها نظرية ثورية؛ فهي تريد أن تكون بديلا عن النظرية التقليدية التي تقر الواقع القائم بحكم موقفها النظري وأسلوبها في التفكير؛ ولذلك يوجه أصحاب النظرية انتقاداتهم الحادة للاتجاهات الفلسفية الأخرى (كالوضعية والبراجماتية)، ومناهج التفكير العلمي المتفق عليها، وأوضاع المجتمع الصناعي الذي يسلطون عليه النقد الجذري الشامل كما رأينا قبل قليل، وهم يعبرون من خلال هذا النقد عن مطالبتهم بتغيير هذا المجتمع من أساسه تغييرا ثوريا، لا يقتصر على أشكاله وتنظيماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل يمتد إلى بنية التفكير والمواقف والحاجات واللغة التي يستخدمها الناس في ذلك المجتمع، وتظهر هذه الروح النقدية الجذرية أوضح ما تكون عند ماركوز (وبخاصة في كتابه محاولة عن التحرر).
9
ويعبر آخر هذه الخصائص المميزة للنظرية النقدية عن مقولة كثر الجدال حولها، وتتعلق بالمصالح التي توجه المعرفة في عمليات البحث العلمي. ويرجع الفضل في بيان هذه المقولة لهابرماس (وإن يكن هوركهيمر هو أول من تنبه إليها، وصاغها صياغة مبدئية في مقاله المبكر عن النظرية التقليدية والنظرية النقدية الذي نشره سنة 1937م).
10
ويحدد هابرماس في إطارها ثلاثة أنماط من العلوم، أو بالأحرى من أساليب التفكير العلمي، وهي العلوم التجريبية والتحليلية، والعلوم التاريخية والتفسيرية (الهيرومينويطيقية)، وعلوم الفعل والسلوك المنهجية. ويقابل هذه الأنماط الثلاثة من العلوم ثلاثة أنواع من المصالح الموجهة - بصورة متعالية - لعملية المعرفة والمحددة لطبيعة المعارف والنظريات في هذه العلوم، بحيث تناظر العلوم التجريبية والتحليلية مصلحة معرفية تقنية «تتصرف دائما في الواقع من وجهة نظر تقنية، وتكفل نجاح السلوك في مختلف المواقف»، كما تناظر العلوم التاريخية والتفسيرية مصلحة معرفية علمية تضمن التفاهم القائم على العمل بين الذوات المشتركة (راجع كتاب هابرماس التقنية والعلم من حيث هما أيديولوجية، وبالأخص كتابه المعرفة والمصلحة).
11
أما علوم الفعل والسلوك المنهجية كالاجتماع والاقتصاد والسياسة، فتتجه لتحقيق مصلحة من نوع آخر، هو تحرير الإنسان من ألوان القهر الفطرية، وتمكينه من الخلاص منها؛ بمساعدته على بلوغ الرشد عن طريق التأمل الذاتي المستقل. ومع أن هذا التصور للمصالح الحياتية والعملية التي توجه أنماط المعرفة العلمية يبدو للوهلة الأولى شديد الجاذبية، إلا أن النظرة المتأنية تكتشف غموضه والتباس معانيه، فضلا عن أنه لا يجيب إجابة شافية عن كثير من الأسئلة المتعلقة بطبيعة تلك المصالح الموجهة للمعرفة، ودورها الفعلي في المعرفة العلمية. وأخيرا فإن هابرماس لا يوضح طبيعة المقولات التي تدخل فيها المصالح الموجهة للمعرفة، وهل هي مقولات تجريبية (سيكولوجية وأنثروبولوجية) أم مقولات متعالية؟ وهل تحدد تكوين المعارف العلمية ونشأتها منذ البداية، أم يقتصر دورها على تبرير صدقها وتفسير قيمتها؟ (2) تعقيب نقدي
لعل من أهم ما يذكر لأصحاب النظرية النقدية أنهم أكدوا الدور النقدي والثوري للفلسفة، وحددوا - من خلال تحليلاتهم النافذة للمجتمع الصناعي والرأسمالي «المتقدم»، وللقوى والمصالح المحركة لعقلانيته العلمية والتقنية، المسئولة في رأيهم عن ظواهر الاغتراب والشقاء والقمع والقهر الجاثمة على أنفاسه - حددوه بتجاوز الأوضاع والقيم والمعارف والمناهج وأساليب التفكير السائدة فيه، وضرورة الالتزام بنقدها ومقاومتها تمهيدا لتغييرها من جذورها. بذلك نجحوا إلى حد كبير في التوحيد بين الفلسفة والثورة، وفي مطالبة الفيلسوف بأن يكون ثائرا، والثائر بأن يكون فيلسوفا، بشرط أن يلتزم كلاهما بطبيعة الحال بالدقة والموضوعية العلمية الكافية. والدليل على هذا أنهم نادوا منذ البداية بالتفاعل والتكامل بين النظرية أو الفلسفة الاجتماعية - التي حاولوا وما زالت أجيالهم التالية تحاول بلورتها - وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية التجريبية؛ ولذلك كان معظمهم فلاسفة وعلماء اجتماع في وقت واحد، وأثمرت جهودهم بحوثا ودراسات عديدة تولى معهد البحث الاجتماعي نشرها - كما سبق القول -
12
في مجلته أو في صورة كتب مستقلة قام بإصدارها. ولقد تنبهوا إلى تفاعل الأنظمة العلمية منذ أن أعلنوا عن برنامج هذا المعهد، وهو تجاوز أزمة الماركسية عن طريق تحقيق التفاعل بين الفلسفة الاجتماعية والعلوم الاجتماعية التجريبية، بل إن بعضهم - مثل هوركهيمر وماركوز وأدورنو بوجه خاص في أعماله العديدة عن جماليات الموسيقى - قد طبقوا وجهة نظرهم النقدية الجدلية الاجتماعية على الفن والأدب والإبداع، وحاولوا أن يستخرجوا الدلالات الاجتماعية للأعمال الأدبية والفنية وتعبيرها عن السياق التاريخي والحضاري والاجتماعي الذي نشأت فيه، ومدى تقدميتها وحداثتها أو رجعيتها وتخلفها. ولا شك أن الدور النقدي والثوري للفلسفة يمثل بعدا هاما، لم يلتفت إليه التفلسف ولا المشتغلون بالفلسفة في عالمنا العربي وفي العالم الثالث بصورة كافية حتى الآن، وسوف يظل غائبا عنا ونظل غائبين عنه ما بقيت عجلة التعليم الأكاديمي للفلسفة تدور دوراتها العقيمة، وتجر المعلمين والمتعلمين إلى مهاوي النقل والترديد والاجترار والتقليد، والاكتفاء بالعرض والتقديم والتعريف وتجميع المادة، دون الفحص والنقد والتمحيص، أو بالانزلاق إلى البلاغية والإنشائية والثورية الزائفة في خطب أيديولوجية رنانة تفتقر إلى كل أساس علمي وموضوعي، بل تفتقد الدقة والتحديد الضروريين لأية لغة فلسفية. إن تنمية النزعة النقدية أمر بالغ الأهمية لتكوين الوعي الحر والدفاع عنه، وإيقاظ الحصان الأثيني - على حد تعبير سقراط الذي يصدق على أي حصان آخر - كلما استسلم أو أخلد إلى النعاس؛ وهو أشد ما يكون أهمية لكل مشتغل بالفلسفة يدرك دورها في نقد الواقع والفكر السائد. وإذا كان من الممكن أن نتعلم من أصحاب النظرية النقدية كيف نقف من كل ما نجرب ونقول ونفعل ونكتب ونقرأ موقفا نقديا، يقوم على الوعي بالواقع والناس الأحياء «هنا والآن»، ويلتحم بهمومهم وآمالهم، ويكشف عن التناقضات في هذا الواقع، ويعمل على تجاوزها؛ فإن نقد النقد يكون خطوة هامة على الطريق المؤدي لأن يصبح النقد فلسفيا وتصبح الفلسفة نقدية بحق.
ربما يؤخذ على النظرية النقدية أنها لم تستطع أن تقيم أبنية منهجية أو نسقية محكمة متماسكة؛ ولذلك بقيت فلسفة حرة مفتوحة، تعتمد على حدوسهم الثاقبة أكثر مما تعتمد على التطوير التصوري الصارم للأفكار، وتعبر عن نفسها في صورة مقالات وشذرات متفرقة لا في بناء مترابط دقيق. وربما يرجع السبب في هذا إلى تنوع اهتماماتهم ومواهبهم، وتمزق شخصياتهم بين العالم الاجتماعي والجدلي الصارم وبين الفنان العاطفي أو الرومانتيكي الحالم، وحرصهم على البعد عن صورة الفيلسوف والعالم بالمعنى الحرفي - على الرغم من أن بعضهم قد شغل منصب الأستاذية في الجامعة - رغبة منهم في الاحتفاظ بصورة الفيلسوف والعالم الحر، واستجابة لطبيعتهم القلقة ومزاجهم الثوري، الذي جعلهم ينخرطون في تناقضات عصرهم وأزماته وأمراضه، ويحاولون تشخيصها ووصف العلاج الحاسم للخلاص منها.
لم يشأ «أدورنو» - على سبيل المثال - أن يكون فيلسوفا ولا عالم اجتماع بالمعنى الحرفي أو المهني للكلمة. وباستثناء دراساته عن كيركجارد وهيجل، وكتابيه الشهيرين: جدل التنوير (بالاشتراك مع صديقه هوركهيمر) وجدل السلب أو الجدل السالب، لا نكاد نجد له كتابا متخصصا سوى كتاب واحد مبكر (إذ يرجع للثلاثينيات وطبع طبعة جيدة في الستينيات)، وهو كتابه عن ظاهريات هسرل: «النقد البعدي لنظرية المعرفة، دراسات عن هسرل والنقائض الظاهراتية». لقد كان همه الأول في كتاباته الفلسفية والاجتماعية والأدبية والجمالية، هو تصعيد عقلانية الذات العارفة إلى الحد الذي تحس معه بالأبنية المتناقضة في الوعي والأشياء. ولم تكن الفلسفة عنده مجرد معرفة تصورية، بل نقد شامل للواقع الإنساني الحي، وللتناقضات الاجتماعية التي عذبته وعذبت الناس من حوله؛ أي فلسفة واقعية حرة، خالية من قلق الوقوع في هاوية بلا قرار ولا أرض صلبة تقف عليها؛ هذه الأرض الصلبة التي لن تكون إلا تجربة الواقع الحي الذي تشتبك فيه الذات العارفة مع الموضوع على نحو جدلي ونقدي، يخلص هذا الواقع ويخلصها من كل أشكال الاغتراب والقهر والقلق، ويجرده من كل النزعات الأسطورية والوهمية عن فلسفة أولى تعتمد على تصور أولي مطلق (سواء أكان روحا مطلقا كما عند هيجل، أو وعيا محضا متعاليا يقصد إلى الموضوعات كما عند هسرل، أو كينونة عامة ووجودا على الإطلاق يضم كل الموجودات كما عند هيدجر )؛ لأن مثل هذه الفلسفة لا بد أن تنتهي إلى مثالية جرداء جوفاء، مغتربة عن الواقع الحي وعن الفلسفة الواقعية الحية على السواء.
ظل أدورنو يعتقد بهذه الفلسفة التي تتمثل في نظرية نقدية عن المجتمع، وتحتفظ بدقة النظرية واستقلالها وغناها بالمضمون من ناحية، وبقدرتها على تفسير الواقع وتغييره من ناحية أخرى. غير أن هذه النظرية لم تكتمل أبدا، ولم يزد ما أنجزه منها على عدد من المحاولات والمقالات المتنوعة، التي بقيت على صورة نماذج وشذرات ناقصة كما سبق القول. وتوضح هذه العبارة الواردة في كتابه «جدل السلب» صعوبة المشكلة، كما تذكر القارئ بعبارة ماركس وإنجلز الشهيرة في كتابهما عن «الأيديولوجيا الألمانية»، من أن الفلاسفة قد اكتفوا حتى اليوم بتفسير العالم، وقد آن أوان تغييره:
فالفلسفة التي بدا في وقت من الأوقات كأن زمانها قد انقضى، تستمر في الحياة؛ لأن لحظة تحقيقها قد أغفلت فيما مضى. والحكم المبتسر بأنها اقتصرت على تفسير العالم حكم عليه هو ذاته بالشلل؛ بسبب الإحساس بمرارة الخذلان أمام الواقع، وتحول إلى هزيمة للعقل بعد أن فشلت محاولات تغيير العالم. ربما «يرجع السبب في ذلك» إلى قصور التفسير الذي وعد بالتغيير العملي.
هذه العبارة العسيرة تشبه أن تكون نوعا من الاعتراف الذاتي الأمين أو من الرثاء الحزين؛ فلم يستطع «أدورنو» أن يقدم النظرية المستقلة التي فكر فيها؛ إما لأن وقتها لم يكن قد حان، وإما لأنها اختنقت في تناقضات العصر وأزماته وتحيزاته وأساطيره اللاعقلية البشعة التي حجرت على الحريات، ولم تمكن الفلاسفة ولا الفلسفة من إدراك «الكل» الذي تطمح دائما إلى الإمساك به في الفكرة. لقد كان الواقع الأوروبي قد بلغ في رأيه حدا من الزيف واللامعقولية يصعب معه إدراكه بالعقل؛ ولذلك صرف جهوده - في الكتب السابقة الذكر عن الجدل - إلى تحليل لاعقلانيته المقنعة بأقنعة العقل والعلم، والتمس النجاة في مناطق تقع وراء حدوده (في النظرية الموسيقية، وفي أدب الحداثة وشعره ومسرحه - خصوصا عند باول سيلان وبيكيت - وجماليات العمل الفني)؛
13
ليتحقق له الوعد بالسعادة والحقيقة الذاتية الأصيلة غير المزيفة (التي كانت من أهم ما جمعه بفلسفة «هيدجر»، على الرغم من هجومه البشع عليه وعلى كل الأنطولوجيات (أي نظريات الوجود) الجديدة في كتابيه: لغو الأصالة، وجدل السلب ...)
14
ومن ثم بقيت يوتوبياه - إذا جاز الحديث أصلا عن يوتوبيا بالمعنى الدقيق لديه! - هي الحلم بواقع إنساني «متصالح»، يحيا فيه أفراد غير مغتربين عن الناس الأحياء وعن عالم الأشياء، ويشاركون بلا خوف في كل اجتماعي لا يقهرهم، وينطلقون من تجاربهم الخاصة إلى الحقائق الفلسفية العامة.
غير أن «اليوتوبيا» بهذا المعنى المتواضع، لم تتحقق في حياته ولا في حياة سائر أعضاء مدرسة فرانكفورت. ومع تصاعد اليأس من إمكان الثورة الحقيقية على الأوضاع الظالمة في المجتمع الصناعي المتقدم، وتزايد الشك في الأحزاب اليسارية المتصدعة، وفي حركة تمرد الطلاب الذين رفعوا في البداية بعض شعاراتهم وتغذوا على فكرهم؛ مع كل هذا بقي لديهم الإصرار على تأكيد دور المعرفة العلمية والتنظير الدقيق في إحداث الثورة المؤجلة والتعجيل بالمجتمع الإنساني الجديد، وواصلوا جهودهم المخلصة لإقامة النظرية النقدية، وتعرية كل أشكال التبرير للأوضاع السائدة، ونشر الوعي بضرورة التغيير الجذري. لم يتخلوا عن الأمل في الخلاص - على الرغم من نظرتهم الفاجعة إلى التاريخ البشري وكأنه تاريخ الرعب والتسلط والتعذيب - ولا عن إيمانهم بالتضامن الإنساني وقوة الحب، وتعاطفهم مع العمال والفقراء والمضطهدين والمستغلين، والتزامهم بالنظرية الماركسية في روحها الإنسانية العامة كما تجلت في «المخطوطات لسنة 1844م»، وفي الإطار التاريخي الواسع الذي يمتد من كانط والتنوير الفرنسي إلى هيجل وماركس، بل لقد أدخلوا عليها نوعا من الوجودية المادية (إذا جاز هذا التعبير عن الشقاء المادي والجسدي للفرد المعذب والجماهير المطحونة، بما يؤكد تناهي الإنسان وفناءه وتعاسته جنبا إلى جنب، مع تأكيد النظرة التاريخية والاجتماعية النقدية إليه).
والمهم أن عزوفهم عن الاشتراك في العمل السياسي، وخيبة أملهم في كل الممارسات الثورية على عهدهم، قد زاد من تشبثهم بالنظرية التي جعلوها - على حد تعبير ماركوز - أعلى صور الممارسة. وإذا كانوا قد عجزوا عن بلورة هذه النظرية في نسق واضح متماسك كما سبق القول، فإن ذلك لا يطعن في جهود الجيل الأول منهم على أقل تقدير؛ لأن الجيل الثاني لا يزال يواصل العمل على بنائها (كما نرى على سبيل المثال في نظرية هابرماس عن فعل التواصل - 1981م - ومحاولته إقامة نسق من المبادئ والمعايير التي تحدد أسس الحوار والتفاهم الإنساني الحر)، وإن كانت فكرة «النسق» نفسها قد أصبحت متعذرة التحقيق وغير مستساغة في عصرنا الحاضر.
تستحق الأفكار التي تتردد بصورة مختلفة عند معظم أصحاب النظرية النقدية، عن التنوير والعقلانية وما يرتبط بهما من تقدم وتصنيع، ومنهجية وإدارة، وهيمنة على الطبيعة الداخلية والخارجية، وتجرد من النزعة الأسطورية والطبيعية (خصوصا عند هوركهيمر وأدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير، وعند ماركوز في كتبه المختلفة، كالإنسان ذي البعد الواحد والحب والحضارة ومحاولة عن التحرر)، تستحق أن نقف عندها وقفة نقدية قصيرة؛ حتى لا يتصور القارئ أنهم كانوا أعداء العقلانية والتنوير في ذاتهما.
لقد كان هدف هوركهيمر وأدورنو هو بيان الازدواجية الكامنة في مفهوم التنوير الغربي، وتمزقه منذ بداياته الأولى، وارتداده بصور مستمرة إلى الأسطورة واللاعقلانية التي حاول باستمرار أن ينتزع نفسه منها، وتمثلت لهما في البربرية النازية التي كانت هي اللعنة والكارثة؛ ولذلك حاولا معرفة الأسباب «العقلية» التي جعلت البشرية الغربية تسقط في أمثال هذه البربرية «اللاعقلية» طوال تاريخها المبتلى بالرعب والقهر والقتل والتعذيب، بدلا من أن تبدأ وضعا إنسانيا حقيقيا تسوده السعادة والتصالح بين البشر وبينهم وبين الطبيعة.
ولقد رصدا تاريخ الحضارة الغربية بوصفه تاريخ العقلنة أو التعقيل؛ أي تجريد الطبيعة من سحرها الأسطوري القديم (كما قال ماكس فيبر)، والإصرار الدائم على السيطرة عليها والتحكم فيها (كما أفاض في ذلك فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس)، بحيث تتحدد حالة العالم في رأيهما من ناحية العلاقة الودية أو العدائية بين الإنسان والطبيعة. وفلسفة التاريخ الغربي تكشف في تقديرهما عن استمرار سيطرة «العقل الذاتي» أو «العقل الأداتي» وتسلطه على الطبيعة، على الرغم مما لقيه في ذلك من مصاعب وتردى فيه من عثرات، كما تكشف عن امتداد هذا التسلط وتلك السيطرة على الطبيعة الباطنة للإنسان، بحيث تحكمت في دوافعه الأولية وزيفتها. ومن هذه الفكرة المحورية استنتجا الأشكال المختلفة للاقتصاد والسلطة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وللثقافة والفن والمعرفة العلمية وبعض أشكال التفلسف، كالوضعية والبراجماتية بصورهما المختلفة.
وإذا كان هدف التنوير العقلي منذ القدم (وقد تتبعه الفيلسوفان الاجتماعيان من أوديسة هوميروس إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر وحتى عصرهما) هو تحرير البشر من الخوف، وجعلهم سادة على الأرض وملوكا عليها أو مالكين لها (كما قال ديكارت)، ومساعدتهم على بلوغ الرشد (كما عبر كانط في مقالته الشهيرة عن التنوير)،
15
فإن الأرض التي تم تنويرها لا تزال تغمرها ظلال الكارثة - والكارثة في مفهومهما هي سيادة الأسطورة (النازية اللاعقلانية!) - هكذا كانت الأسطورة نفسها نوعا من التنوير، ولكن التنوير كان يرتد دائما إلى الأسطورة ويدمر نفسه بنفسه. وهو في الحقيقة لم يدمرها من الخارج؛ لأن الخطوة الأولى التي بدأت مع الأسطورة للتحرر من الطبيعة لم تكن خطوة فاشلة فحسب، بل كانت في الوقت نفسه بداية السير على طريق التنوير المدمر؛ أي إن تاريخ التمدن والتنوير حتى اليوم ظل متلبسا بالأسطورة أو مطويا فيها، كما أن التنوير نفسه ما فتئ يخرب منذ القدم بذرة كل محاولة للخروج من الأسطورة، ويقضي كذلك على كل محاولة للتحرر منها في مهدها، وكأن التنوير لا يزال في حركة دائمة كحركة الفكرة المستمرة، التي وصف بها هيجل حركة التنوير في القرن الثامن عشر، غير أن حركته تفضي به دائما إلى الوقوع في أسر الأسطورة. ومعنى هذا أن الأساطير تولد وتحقق التنوير الذي يتعثر بعد ذلك مع كل خطوة من خطواته، ويتردى في الأسطورة التي استمد منها مادته، ثم دمرها وجعل من نفسه قاضيا مهيمنا عليها؛ وبذلك سقط فيها مرة أخرى، وهكذا دواليك.
وأول ما ينبغي توضيحه هو أن النقد الذي يوجهه بعض أصحاب النظرية النقدية إلى التنوير والعقلانية، ليس نقدا موجها إلى التنوير نفسه، ولا إلى العقل في ذاته، كما سبق القول، وإنما هو موجه إلى إفسادهما وإساءة فهمهما وتحريفهما المستمر، الذي بلغ ذروته أو بالأحرى حضيضه اللاعقلاني واللاإنساني في ظل المجتمع الرأسمالي والصناعي وعلاقاته المكرسة لاستعباد الإنسان؛ ولذلك فإن هذا النقد لا يلغي التنوير وإنما ينوره، ولا يمجد «اللاعقلانية» التي انتهت إليها «العقلانية» الغربية، وإنما ينقدها نقدا عقليا، ويجعل المهمة الأساسية للفلسفة هي القيام بعملية مراجعة عقلية لتلك العقلانية؛
16
ذلك أن أخطر ما في هذه العقلانية التي مدت سلطان الذاتية المتسلطة على كل شيء في الداخل والخارج، هو أنها لم تقتصر على تشييء «الطبيعة»، بل تعدت ذلك إلى تشييء الوعي الفردي والاجتماعي وتغريبه؛ الأمر الذي أدى إلى القضاء على التواصل الحي بين أفراد المجتمع، وبينهم وبين الطبيعة كما سبق القول. وطبيعي أن يركز فلاسفة النظرية النقدية هجومهم على العقل «الذاتي» أو «الأداتي»، وعقلانيته العلمية والتقنية المهيمنة على المجتمع الصناعي الغربي الحديث، وأن يحاولوا تجاوزه إلى عقل «موضوعي» أو عقلانية موضوعية، يؤصلونها ويتتبعون ملامحها ومعالمها في آفاق وميادين مختلفة.
وإذا كان العقل الذاتي يوظف لإيجاد الوسائل الكفيلة بتحقيق الغايات المنحصرة في المحافظة على وجود الذات وهيمنتها وتفوقها، فإن العقل الموضوعي المستقل هو الذي يعرف غايات أشمل وأبعد من المحافظة على وجود الذات، كما يقدر على الحكم بمعقولية هذه الغايات الشاملة، ويتجه للبنية الموضوعية للأفكار والأفعال، ويؤكد الموضوعية الكلية في الوجود، وهي التي تستمد منها معايير كل حياة، ولا تخرج الذاتية عن أن تكون جزءا محدودا منها لا بد من «رفعه» أو تجاوزه إذا أردنا أن نصل إلى شيء اسمه الحقيقة في أي شيء. فالعقلانية بهذا الفهم نظام موضوعي يجب أن يتلاءم معه كل شيء، بما في ذلك حياة الإنسان ونزوعه الفطري للبقاء، كما أن تأكيد العقلانية الذاتية وحدها هو المسئول عن ضلال المذاهب الميتافيزيقية الغربية، وانغلاقها في فلسفات «الباطن» المثالية والظاهراتية والوجودية والحياتية (نسبة إلى فلسفات الحياة الحدسية)، التي انتهت من بعض الوجوه إلى تبرير اللاعقلانية.
ولا شك أن القارئ يرى الآن مدى تأثر هذه الأفكار بفلسفة هيدجر، الذي ظل يردد طوال حياته أن الميتافيزيقا الغربية، من أفلاطون إلى نيتشه، هي ميتافيزيقا الذاتية التي ضلت طريقها ، ولم تسأل أبدا عن الوجود نفسه، ولا فكرت في معناه (راجع إن شئت لكاتب هذه السطور مؤلفه نداء الحقيقة، مع ثلاثة نصوص لهيدجر، القاهرة، دار الثقافة، 1976م).
والملاحظة النقدية الثانية على نقدهم للعقلانية والتنوير، هي أنهم نظروا إليه من منظور غربي وحسب؛ وبذلك وقعوا في التمركز حول الذاتية الغربية، التي تصورت، وما زالت تتصور إلى حد كبير، أن تاريخها هو «التاريخ» العالمي، وأن حضارتها هي «الحضارة» والنموذج المطلق. ولو كانوا موضوعيين حقا لما أسقطوا الشرق من حسابهم، ولأدركوا أن للعقل تاريخا آخر وبناءات أخرى، منذ الحضارات الشرقية القديمة حتى العصر الحديث (عندما دخلت معظم هذه الحضارات في فلك العقلانية الذاتية الغربية، وتبنت مناهجها العقلية وأنساقها العلمية بكل ما نتج عنها، من علم وصفي وتقنية وسيطرة على الطبيعة)، ولعرفوا أخيرا أن موقف هذه الحضارات أو الرؤى الشرقية القديمة للعالم، لم يكن بحال من الأحوال هو موقف التسلط على الطبيعة والأشياء والتحكم فيها، واستغلالها كوسائل للمزيد من التسلط والسيطرة (كما حدث في التاريخ الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية، وبصورة أوضح وأفظع منذ بداية العصر الصناعي والاستعماري، ونهب الشعوب والحضارات الأخرى)، بل كان بوجه عام هو موقف التعاطف والرعاية والتوافق والتجانس والمحبة. ولو فعلوا ذلك لتبين لهم أخيرا أن هنالك أشكالا وبنى أخرى للتفكير، وراءها أشكال للحياة والنظر، وبنى وأساليب أخرى للإنتاج لا بد أنهم سمعوا عنها (على الأقل من ماركس وإنجلز وإشارتهما الموجزة إلى نمط الإنتاج الآسيوي ). والمهم من هذا كله أن «تاريخية» العقل والعقلانية لا بد أن تحفزنا على مراجعة ما قالوه عنهما، ووضعه في السياق التاريخي والاجتماعي الخاص به، كما تحثنا من ناحية أخرى على وضعهما في سياقنا التاريخي والاجتماعي الذي يختلف عنه في ظروفه وتحولاته وعوامل تكوينه وتطوره وصراعه ... إلخ، بحيث لا نردد نقدهم لتلك المفاهيم ترديد الببغاوات، ولا نتصور لحظة واحدة أن ضلال العقلانية والتنوير الغربي، وانحرافهما المستمر إلى اللاعقلانية والتعمية الأسطورية والسيطرة اللاإنسانية، يؤدي بالضرورة إلى التشكيك في العقل والتنوير والعلم والتقنية؛ ذلك لأن حظنا من هذا كله ما يزال جد قليل، كما أن القوى التي هددتها وخربتها في تاريخنا العربي والإسلامي، ولم تزل تهددها وتخربها، قوى من نوع آخر، ولها مصالح أخرى (كالاستبداد المطلق من جانب الفرد أو الدولة، وعبادة الأشخاص، والتسلط المتغلغل في حياتنا و«نظمنا»، من قمة هرم الظلم إلى قاعدته المستسلمة الصامتة على مر العصور، بجانب الأشكال المختلفة ل «اللاعقلية» و«اللاعلمية» و«اللاإنسانية»، التي بلغت أشدها في ظل النظم الفردية الطاغية في تاريخنا الحديث والمعاصر بوجه خاص، سواء كانت عسكرية باطشة تدعي التقدمية أو الاشتراكية أو الأصولية، أو رجعية متخلفة تزعم لنفسها حقوقا إلهية مطلقة، أو تتمسح في الشجرة النبوية الطاهرة).
ولا ننسى أخيرا - وهذه مسألة تستحق المزيد من التفصيل - أن تعميم الهجوم على العقلانية وراءه دافع «يهودي» خاص للهجوم على اللاعقلانية النازية، كما يكشف عن تجاهل متعمد للاعقلانية الصهيونية ودولتها المغروسة في قلب الوجود العربي والإسلامي.
والخلاصة أننا أحوج ما نكون إلى الفهم الصحيح للعلم والتقنية والعقلانية والتنوير في ظروف محنتنا التاريخية والحضارية الراهنة، حاجتنا إلى الحياة الديمقراطية الحرة التي لن يتحقق شيء من ذلك كله بغيرها. ولعل محنة العقل والفكر والضمير، التي بلغت أبشع صورها في «أم المحن والكوارث» العربية، التي نعايش اليوم آثارها المدمرة لكل وجودنا وأحلامنا، أن ترينا إلى أي مدى وصل بنا سوء الفهم والاستخدام لتلك المفاهيم والمعاني المضيئة التي لم نتوقف عن ترديد شعاراتها. ولعلها تحثنا على تحليلها تحليلا اجتماعيا نقديا يضعها في سياق تطورنا التاريخي والحضاري والعقلي، فلا نكتفي بدق الطبول لها ادعاء للتقدمية، وسعيا وراء الشهرة، وتلهفا على الأمجاد الزائفة؛ عندئذ يمكن أن يكون نقدنا فلسفيا وعلميا بحق، كما تكون «فلسفتنا» نقدية بالمعنى الصحيح.
ويرتبط بالنقطة السابقة نقد أصحاب النظرية لصور الاغتراب في المجتمعات الرأسمالية والشمولية الغربية، وأكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى أن صور الاغتراب التي نعانيها ليست كذلك بالضرورة من نفس النوع الذي وجهوا نقدهم إليه؛ فقد تكون للاغتراب العربي على مدى تاريخه الطويل جذور أخرى وأسباب مختلفة، كما أن صور القمع والإحباط والقهر والتعاسة والاكتئاب ... إلخ - التي صارت بمثابة خبزنا اليومي المر - ربما تكون قد نتجت عن ألوان أخرى من التسلط والهيمنة غير التي يرجعونها إلى السيطرة على الطبيعة والعقلانية العلمية والتقنية (التي لم نزل صفر الأيدي منها كما سبق القول!) ولا يكفي أبدا أن نتتبع صور الاغتراب وتطور مفاهيمه وأبعاده في الفكر الغربي، منذ عهد اليونان والرومان إلى فلاسفة التنوير والعقد الاجتماعي وحتى كانط وهيجل وماركس وفلاسفة مدرسة فرانكفورت أنفسهم، على نحو ما فعل بعض باحثينا مشكورين، وإنما يحتم علينا الواجب والحرص على الهوية جميعا أن نفحص الاغتراب وصوره المختلفة في ثقافتنا وتاريخنا الخاص حتى اليوم الحاضر (ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الصور موجودة منذ الحضارة المصرية القديمة وحضارة وادي الرافدين والحضارة الكنعانية، وتكرر نفسها بأشكال مختلفة في غربتنا واغترابنا هنا والآن!) ولا شك عندي أن هذا النقد التاريخي والاجتماعي لم يزل مفتقدا إلى حد كبير في فكرنا وبحوثنا وأدبنا الحديث، وأن من علمائنا ومفكرينا وأدبائنا من يملك القدرة على التصدي له بصورة أصيلة، بدلا من الاقتصار على النقل والترديد غير النقديين، أو الهروب إلى القوالب المذهبية الجاهزة بغير تمحيص، أو اللجوء إلى «الخطاب» الأيديولوجي والبلاغي الصارخ الطنان، الذي يتنكب سبل العلم والنقد جميعا.
ومن جملة الانتقادات التي يمكن أن توجه للنظرية النقدية، تلك النظرة «اليوتوبية» المرتبطة بالمجتمعات «المثالية» البديلة عن المجتمع الصناعي والشمولي بكل سوءاته ومظالمه؛ ففلاسفة النظرية يلحون بصفة مستمرة على ضرورة التغيير الجذري والثوري الشامل للأوضاع القائمة فيه اعتمادا على أفكار غامضة عن الخلاص، وأحلام شبه مستحيلة بقدر ما هي غريبة عن الواقع والممكن معا. صحيح أن بعضهم، مثل ماركوز (في كتابه عن الثورة المضادة والتمرد، فرانكفورت، 1973م، ص67 وبعدها)
17
وهوركهيمر (في مقدمته لكتابه السابق الذكر عن النظرية النقدية)، قد قصروا خطوط أحلامهم اليوتوبية بعد الفشل الذي منيت به ثورة الطلاب في السبعينيات، وبعد تغير الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية، ولكنهم لم يتخلوا عن حلمهم بمجتمع إنساني جديد، ومستقبل مبرأ من القمع والقهر والاغتراب. ولا يعبر هذا في الحقيقة عن تفاؤلهم بقدر ما يعبر عن تشاؤم حضاري عميق، تدخلت في تكوينه عناصر رومانتيكية جديدة ووجودية وحيوية (نسبة إلى فلسفة الحياة)، فضلا عن عناصر أخرى مثالية هيجلية وصوفية قبالية (نسبة إلى الكتابات الصوفية اليهودية)، وكأن فلاسفة النظرية قد اشترطوا التدمير النهائي للعالم الصناعي، القائم قبل ظهور «الصفحة البيضاء» التي ستكتب عليها سطور المجتمع الإنساني الجديد.
والدليل على هذا أنهم عجزوا عن تقديم تصورات محددة عن المجتمعات البديلة «غير المغتربة»، أو عن نظمها ومؤسساتها وفلسفتها ومناهجها الفكرية والعلمية وحاجات البشر «الحقيقية» فيها؛ ولذلك بقيت تأملاتهم الجدلية عن الموضوع ونقيضه مجرد تأملات أو تمنيات غامضة، كما ظلت معايير «الجدل السلبي» و«جدل التنوير» ومثلهما وقيمهما كذلك غامضة غير محددة. ومع أن المشروع اليوتوبي الذي طرحه «ماركوز» يصور مجتمعا خاليا من القهر والقمع والبؤس، ونموذجا جديدا لإنسان مبدع يتمتع بحساسية جديدة، ويتطلع لحاجات جديدة، ويعمل عملا أقرب إلى اللعب الخلاق؛ فقد علق تحقيق هذا المشروع بالثورة الجذرية على المجتمع القائم، ووضع مسئوليته على أكتاف الفئات الهامشية والمنبوذة والمضطهدة، دون الفئات الثورية الواعية بالمعنى الحقيقي الفعال، ولم يخرج في النهاية عن التصورات اليوتوبية التي ربطها ماركس بقيام المجتمع الشيوعي، ولا عن «أرض الأحلام»
18
البعيدة عن الواقع بعدها عن الممكن.
ومع ذلك فلا بد من الإشادة بفضل فلاسفة مدرسة فرانكفورت في نقد المفهوم الزائف عن العلم، وهو الذي يتصور أصحابه أن العلم متحرر من القيم، ومستقل تمام الاستقلال عن الاهتمامات والمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية. وقد أثر هجومهم الشديد على التصور الذي يضع العلم في «برج عاجي» على عدد كبير من العلماء المختصين، ونبههم إلى أهمية العوامل والدوافع والمصالح التي تؤثر على نشاطهم البحثي، واختيارهم للموضوعات والمشكلات ووجهات النظر، كما تشارك في كثير من الأحيان في تحديدها. وقد ساعد النقد الموجه لمفهوم العلم من ناحية أخرى على إدراك أهمية «الأيديولوجيا التكنوقراطية»، التي تكمن وراء كثير من القرارات السياسية والمواقف الأخلاقية التي تتخذها القوى ذات المصلحة في المجتمعات الصناعية الحديثة، متذرعة بأنها قرارات «موضوعية» تحتمها المعرفة العلمية والخبرة التقنية.
ويرتبط بالنقطة السابقة تأكيد المسئولية الاجتماعية للعلم؛ فمن واجب العالم
وتبرير أسسها المنطقية والموضوعية، بالتفكير في قيمتها ونتائجها التي يمكن أن تؤثر على المجتمع. ولا يجوز أن يقف العلماء جهدهم على إنتاج المعرفة، بل ينبغي عليهم أن يتدبروا نتائجها بوحي من ضمائرهم، على الرغم من القيود والضغوط المادية والمعنوية التي تكبل حريتهم، وتعوقهم على اتخاذ القرارات الأخلاقية وإعلانها على الرأي العام. وإذا كان من المتعذر على العالم أن يقدر جميع النتائج المترتبة على بحوثه وكشوفه، فلا أقل من أن يكون على وعي بتأثيراتها المباشرة والممكنة، وأن ينبه إليها وعي الآخرين، وأن يحميها بكل شجاعة العالم والتزامه الأخلاقي من عواقب سوء الاستخدام والاستغلال، من قبل السلطة، أو من جانب مؤسسات التجارة والربح بأي ثمن، وذلك بقدر جهده وعلى قدر طاقته.
ومن الأفضال التي تحسب لفلاسفة النظرية النقدية، أنهم قد أثروا تأثيرا كبيرا على الجدل الدائر حول الماركسية، ومحاولات تجديدها والخروج من أزمتها.
وإذا كان الماركسيون التقليديون أو الحرفيون قد اشتدوا في الهجوم عليهم، واتهموهم بالمثالية الذاتية «البرجوازية»، والتشاؤم الحضاري، والنظرة التجزيئية لأعمال ماركس؛ فإن الإنصاف يقتضينا القول بأنهم قد وجهوا الأنظار إلى أفكار ماركس الفلسفية والإنسانية (وبخاصة مقولة التشيؤ والاغتراب كما تقدم)، واعتمدوا عليها في تحليلهم ونقدهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي، ولم يكتفوا بالتفسير الاقتصادي والأحادي لأعماله، كما جددوا الماركسية ، وكشفوا عن الطاقات النقدية الكامنة فيها، مهما يكن من فهمهم غير التقليدي لمقولاتها الأساسية. ولا شك في أن القارئ الذي عاصر الزلزلة الأخيرة للمجتمعات والدول الاشتراكية، وللنموذج الماركسي الذي طبق فيها على أبشع صورة، سيتساءل إن كان لفلاسفة النظرية النقدية دور غير مباشر في تصعيد أزمة الماركسية وتخريبها من داخلها، أم كان لهم فضل المشاركة في محاولات تجديدها وبعثها في صورة إنسانية حرة وخلاقة لكي تصمد أمام الغول الرأسمالي.
وينبغي الإشادة بمآثر النظرية النقدية في نقد مجتمع الرفاهية والرخاء والتقدم المزعوم، وتعرية عوراته وأوضاعه اللاإنسانية المزرية. وإذا كان الناس - حتى في العالم الثالث أو النامي - يشكون من تأثير أجهزة الدعاية والإعلام على تشكيل الأذواق والحاجات، وتغذية سعار الاستهلاك بوقود متجدد مع البث والإرسال ليل نهار، وإذا كانوا يتذمرون من التصعيد الأعمى للقدرات الإنتاجية دون اعتبار لآثاره المدمرة والملوثة للبيئة، وإذا كان سوء استخدام المعرفة العلمية في صنع أسلحة الدمار الشامل، ومن ثم في مد السيطرة الشاملة، وتردي الظروف المعيشية لملايين المضطهدين والمسخرين والمستغلين في ظل العلاقات الرأسمالية والصناعية، والمحاولات الجهنمية لتزييف الوعي، وخلق الشعور الوهمي بالحرية والسعادة لدى الملايين من الناس، واختناق الطاقات المبدعة تحت أقدام الأجهزة البيروقراطية والإدارية والمباحثية، ونفاق العالم «المتقدم»، وانعدام مثله الإنسانية وقيمه الحضارية المزعومة في تعامله مع العالم «المتخلف»، إذا كانت هذه كلها وكثير غيرها قد أصبحت حديث كل يوم، فلا بد أن نعترف بفضل النظرية النقدية في إشاعة قدر كبير من هذا الوعي النقدي والثوري في أوساط الرأي العام على المستوى الدولي. وليت هذا يكون حافزا للكثيرين عندنا من دعاة العلمية والموضوعية والعقلانية إلى مراجعة هذه المفاهيم كلها مراجعة نقدية، وأن يدفعهم - كما سبق القول - إلى وضعها في سياقها الحضاري والاجتماعي قبل أن يحاولوا فرضها على سياق تاريخي وحضاري مختلف عنه.
ولا يفوت ناقد النظرية النقدية أن يلاحظ أن فلاسفتها يديرون مناقشاتهم ويقدمون أفكارهم، بطريقة يغلب عليها الإسراف في التعميم والجزم القاطع. وتتجلى هذه النزعة الخطيرة على سبيل المثال في هجومهم على «الوضعية»، التي يدرجون تحت اسمها اتجاهات فلسفية شديدة التباين (كالوضعية الجديدة أو المنطقية، والتحليلية، والعقلانية النقدية، والبراجماتية). وتظهر أيضا في نقدهم المشروع للفكرة الخاطئة عن خلو المعرفة من القيمة، ناسين أن التحرر من النظرة القيمية معيار كامن في التفكير العلمي نفسه، وأنه مطلب أساسي يقتضيه منطق البحث المحايد عن الحقيقة أو الصدق أثناء تحليل الظواهر وتبرير المعارف والقضايا العلمية. ومع أنهم محقون في نقدهم لتلك الفكرة الفاسدة (بالنسبة للنتائج المترتبة على المعرفة العلمية، لا بالنسبة للعملية المعرفية ذاتها) على ضوء التحليل الاجتماعي والسياسي، فإن حديثهم عنها يوحي في كثير من الأحيان بأنهم يضحون بالموضوعية لحساب النظرة الجدلية الاجتماعية والسياسية، وأنهم يخلطون العلمي بالأيديولوجي. ويمكننا أن نلمس تأثير التعميم المتسرع أيضا في نقدهم للمنطق الاستنباطي القديم والحديث، ولمناهج التفكير السائدة في العلوم الطبيعية والتطبيقية، وكأنها تتحمل مسئولية سوء استخدام المعارف العلمية والخبرات التقنية في إحكام قبضة القهر على الإنسان المعاصر، أو كأن القمع والتسلط عنصران كامنان في طبيعتهما. وقد بالغ «ماركوز» بوجه خاص (لا سيما في كتابه المعروف عن الإنسان ذي البعد الواحد، ص25 وبعدها؛ وفي كتابه عن الحضارة والمجتمع، الجزء الثاني، ص92) في أمثال هذه التعميمات على النظام الاجتماعي «المتقدم» بأسره؛ مما جعل بعض ممثلي الجيل الثاني لفلاسفة النظرية النقدية، مثل هابرماس وتلاميذه، يوجهون إليه انتقادات شديدة (في كتابهم المشترك: ردود على ماركوز)،
19
ويحملون حملة قاسية على البدائل التي طرحها للصورة السلبية المطلقة التي رسمها عن المجتمع الصناعي، وهي بدائل تعلق آماله في التحرر والخلاص على الأفراد والجماعات «الهامشية»، من المضطهدين والمنبوذين والفنانين المشردين والمحتجين والرافضين.
وأخيرا فقد تشتت أبناء الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت مع بداية الثمانينيات، وبقيت أفكارهم الثورية بغير أثر علمي ملموس، وانفضت عنهم حركة الطلاب المتمردين، وأحكمت الدولة الرأسمالية الليبرالية قبضتها البوليسية والبيروقراطية على زمام الأمور لتثبيت الأوضاع القائمة، وراحت تطارد اليسار الجديد كله - وعلى رأسه رواد المدرسة وتلاميذهم - وتتهمهم بإشعال نيران الفوضى والإرهاب، وتدمير التراث المسيحي للغرب! ولكن المدرسة ظلت حية في الجيل التالي، الذي ما يزال ممثلوه ممسكين بالخيوط التي نسجها الرواد، عاكفين على مواصلة تراثها النقدي الثوري وبلورة نظريتها النقدية، متمسكين بالأمل في واقع إنساني جديد، يسوده الحرية والعقل والاستنارة، والتفاهم والتضامن بين البشر، ويختفي منه القمع والقهر والظلم وتزييف الوعي. وإذا كان المصير الذي لقيه رواد المدرسة شبيها إلى حد كبير بمصير الحركة التعبيرية في الفن والأدب،
20
فإن استمرار جهود الجيل الحاضر من المنظرين النقديين (وعلى رأسهم يورجن هابرماس وأوسكار نيجت)، وتزايد الاهتمام بهم في دوائر البحث الفلسفي والاجتماعي، وترجمة أعمالهم إلى معظم اللغات الحية، يقوي كذلك من أمل كاتب هذه السطور في أن يساعد هذا التمهيد المتواضع على دراستهم وتعلم التفكير النقدي (العلمي والثوري) منهم. لعل ذلك أن يعجل بتغيير واقعنا الراكد الجامد، وينقذنا من اغترابه عنا واغترابنا عنه.
هوامش
العقل على عرش العالم
مدخل إلى حياة ماكس شيلر وفلسفته
ولد ماكس فرديناند شيلر في الثاني والعشرين من شهر أغسطس سنة 1874م في مدينة ميونيج، لأب بروتستانتي من ملاك الأراضي هو جوتليب شيلر (1831-1900م). تحول إلى الديانة اليهودية لكي يتزوج من الأم صوفيا فيرنز، التي ولدت سنة 1844م، وعاشت في ضيعة بالقرب من مدينة بايرويت قبل أن تنتقل للحياة مع زوجها في مدينة كوبرج - ولاية فرانكن العليا - ثم تستقر مع أسرتها في مدينة ميونيخ.
وجد الصغير ماكس نفسه منذ البداية في جو عائلي مشحون بالتوتر والصراع والقلق؛ فالأم التي تنحدر من أصل يهودي امرأة نرجسية متسلطة بجانب نزعتها المتزمتة، وإسرافها إلى حد البذخ في حياتها العادية. لقد سعدت بالانتقال إلى ميونيخ لتعيش بالقرب من شقيقها الثري الأعزب الذي يفترض أن يرثه ابنها؛ ولذلك أرغمته أن يكون صورة من خاله، وقهرته على مجاراته في تصوراته وعاداته وطقوسه الدينية، في الوقت الذي كان فيه الأب يتحمل في صمت واستسلام، والابن يتألم من معاملة أمه الباردة لشقيقته هيرمن (انتحرت فيما بعد)، التي كان هو وأبوه يحبانها كل الحب. وخضع الصغير لقهر الأم - التي تركت في نفسه من الاضطراب والتمزق ما لم يمحه الزمن أبدا - فاضطر لتعلم طقوس العبادة، والمواظبة على حضور دروس الديانة اليهودية؛ الأمر الذي دفعه بعد ذلك للتحرر من كل القيود التي تفرض عليه، وتحكيم شعوره وعاطفته في كل ما يؤمن به عن اقتناع باطن، لا سيما في شئون العقيدة التي طالما شهدت تحولاته المفاجئة.
لم تترك ظروف الأسرة المتصدعة للطفل الصغير أي فرصة للإحساس بأنه «في بيته»، كما لم تسمح له بأي وسيلة للخروج من هذا البيت والانفصال عن عائلته، وتضاعف شعوره منذ الطفولة بالتناقضات والصراعات التي عششت كالظلمات في جذوره كأنها ميراث عائلي لا فكاك منه. وإذا كان كل من اتصل به أو تعامل معه بعد ذلك قد لفحته أنفاس طفولته وعبير براءته وطيبته المطلقة، فقد لازمه الشعور بأن هذه «الطفولة» هي مكمن الأخطار التي تهدد وجوده؛ ولذلك ظل شديد الحرص على أن يقرن النزعة الطفلية البريئة بالعقل من ناحية، والطيبة والخير والإحسان من ناحية أخرى، وكأنهما جناحا طائر لا غنى لأحدهما عن الآخر. وهكذا دأب طوال حياته على احتضان الجوانب الخيرة من ذلك الصراع المستمر، سواء في أعماق روحه أو في الآخرين أو في التاريخ البشري العام. ومرت الأيام ودارت به رحى الدرس والدراسة والتدريس، فأصبح فيلسوف الحب والتعاطف الذي لم يكن همه أن يتوسع في الأفكار الموروثة عن الحب عند أفلاطون أو القديس أوغسطين أو باسكال وغيرهم، بل أن يضيء هذا الجانب الطفولي الخير المستقر في أعماقه بأنوار العقل. ولعل هذا هو السر الكامن وراء طفراته وتحولاته القلقة المفاجئة؛ إذ يحكى أنه استعان في صباه المبكر ببعض زملاء الدراسة الكاثوليكيين لكي يتعرف عن قرب على العقيدة والكنيسة الكاثوليكية، اللتين أصبح بعد ذلك من كبار الدعاة المروجين لهما، قبل أن ينفصل عنهما انفصالا باتا في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، ويتجه بكليته وتحت تأثير حبه وإجلاله لاسبينوزا إلى رؤية شمولية أقرب ما تكون إلى مذهب وحدة الوجود.
لم تجر حياته في المدرسة الثانوية على ما يشتهي الأب والأهل المقربون منه؛ فقد تعثر كثيرا في معظم المواد الدراسية حتى وصف بالكسل والبلادة . وكان أن أدخله أهله معهدا خاصا شهد مديره ومعلمه في نفس الوقت بأنه حول إليه من الصف السادس الثانوي بعد حصوله في أكثر المواد على أسوأ العلامات، وأن كل ما كان يدور في ذلك المعهد لم يكن يهز وترا واحدا في قلبه. ولكنه بالرغم من اضطرابه الشديد كان واضح الموهبة، وتجلت هذه الموهبة في عشقه للأدب وسعة اطلاعه فيه، كما ظهرت في ذلك العمر المبكر في اتجاهه للفلسفة والفلاسفة، وبالأخص نيتشه، الذي شجعه أحد أخواله على قراءته، واستمر تأثيره عليه حتى بعض أعماله المتأخرة التي يصعب تصورها بدون تعمقه في دراسة فيلسوف إرادة القوة ومناقشته لآرائه. وحصل شيلر سنة 1894م على شهادة الثانوية من مدرسة لودفيج في ميونيخ وهو يبلغ من العمر تسعة عشر عاما. ويشهد أحد زملاء دراسته في المعهد الخاص الذي سبق ذكره، على حضور بديهته وقدرته على إفحام الخصوم، بحيث كان دائما سيد الموقف. لم يكن الصبي يضع اعتبارا لأي شيء أو أي شخص مهما علا شأنه؛ لأن الشيء الوحيد الذي كان يهمه أمره هو الجهر بالحقيقة كما يراها من وجهة نظره. ويستطرد زميل الدراسة، فيقول إنه كان في ذلك الوقت مقتنعا بأفكار الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ثم تحمس فجأة للماركسية. وسوف نعرف بعد ذلك ما لم يعرفه زميله أو ما لم يسمع به، وهو تحوله بكل كيانه إلى الكاثوليكية، ثم تحوله المباغت عنها. وبدأت الدراسة الجادة في خريف سنة 1894م، سجل نفسه في البداية لدراسة الفلسفة وعلم النفس، وفي الفصل الدراسي التالي قيد نفسه في كلية الطب، وشد الرحال إلى برلين وهدفه دراسة الطب، ولكنه لم يستمع إلا إلى المحاضرات الفلسفية التي كان يلقيها آنذاك فيلسوف الحياة فيلهلم دلتاي (1833-1911م)، وفيلسوف الاجتماع والمعرفة والتاريخ والحضارة جورج زيميل (1858-1918م). وبعد مرور عام آخر واصل دراسته في جامعة «يينا»، وأنهاها بالحصول على الدكتوراه الأولى سنة 1897م عن رسالة تحت إشراف الأستاذ الذي أحبه وأجله، وتعلم منه التزامه ومسئوليته الجادة عن إحياء الحياة الروحية للبشر، وهو رودلف أويكن، وكانت تحت عنوان «مساهمات لتحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية».
حدث ذلك وهو في الثالثة والعشرين من عمره. ولم يتوقف شيلر بعدها عن التنقل من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد آخر، يدفعه من ناحية طموحه العلمي الذي وجهه منذ البداية وجهة فلسفية، ومن ناحية أخرى ارتباطه بزوجته الأولى أماليا فون ديفتس كريبس. كانت عينه قد وقعت على هذه المرأة لأول مرة أثناء رحلة مولها أبوه على سبيل الهدية بعد حصوله على الثانوية العامة، في منطقة التيرول بإيطاليا. كانت تكبره بسبع سنوات، وكان لديها ابنة عمرها سبع سنوات من زوجها الأول، الذي انفصلت عنه بسبب إدمانه للمخدرات . ويبدو أن سحرا غامضا جذبه إلى هذه المرأة الجميلة كما جذبها إليه. ارتبط بها على الفور، وخطبها لنفسه، وكانت هي من الحنان والحرص عليه بحيث شجعته على مواصلة دراسته للحصول على لقب الدكتور الذي سيؤهله للعمل بالجامعة. ويبدو أيضا أنه سجل اسمه في فصلين متتاليين لدراسة الطب تحت تأثير محبوبته، وعن اقتناع بأن الفلسفة «لا تطعم دارسها خبزا، ولا تضمن له مستقبلا». ومع ذلك لم يقبل بصورة جدية على دراسة الطب، وإنما واصل الاستماع إلى نداء قلبه - كما يقول الحكيم المصري القديم - واستأنف دراسة الفلسفة.
كان هدفه الأول من قضاء فصلين دراسيين في برلين، هو الحياة بالقرب من أماليا التي تسكن هذه المدينة. وحرك وجوده في برلين وسماعه لمحاضرات «دلتاي» و«زيميل» أمواج مشروعه الفلسفي، بل يمكن القول بأنهما قد أثرا على فلسفته اللاحقة تأثيرا لا يقل في دلالته وعمقه عن تأثير نيتشه عليه في أواخر صباه. وزادته الإقامة في العاصمة الزاخرة بالتيارات والصراعات السياسية والحزبية اهتماما بالقضايا الاجتماعية والاشتراكية في حياة الناس العاديين، وربما كان هذا وراء إقامته بعض الوقت في هيدلبرج، وانضمامه إلى دائرة الملتفين حول فيلسوف الاجتماع الشهير «ماكس فيبر».
وجاءت سنة 1898م ومعها أحداث فاصلة ومواقف حاسمة؛ فقد تقدم إلى جامعة يينا بالرسالة المؤهلة للتدريس بالجامعة تحت عنوان «المنهج الترنسندنتالي والمنهج السيكولوجي، شرح أساسي للمنهجية الفلسفية». وبدأ التدريس بنفس الجامعة بعد حصوله على وظيفة الأستاذ المساعد (بعقد خاص). وفي العشرين من ديسمبر سنة 1899م تحول إلى العقيدة الكاثوليكية، وتم تعميده في كنيسة القديس أنطوان في مدينة ميونيخ، ولم تمض قبل ذلك إلا أيام قليلة حتى كان قد عقد قرانه في الثاني من شهر أكتوبر من السنة نفسها على زوجته الأولى أماليا في مدينة برلين. تلك هي التواريخ الجافة لأحداث تلاطمت خلفها تجارب مخيفة ومؤلمة. راحت الزوجة الحساسة ذات الإرادة الصلبة تعالج من أمراض نفسية جسمية شخصها الأطباء بأنها هستيرية، وكانت هي أيضا مثل الزوج الفيلسوف قد تربت تربية يهودية صارمة قبل أن تتحول إلى البروتستانتية؛ حبا في زوجها الأول الذي هجرته كما سبق القول بعد إدمانه للأفيون. كانت أماليا تعيش مع أمها الكاثوليكية المذهب، وربما كان هذا وراء تحول شيلر قبل زواجه بأسبوعين إلى الكاثوليكية، التي كانت زوجته مقتنعة بها على الرغم من تحولها السابق للمذهب البروتستانتي. مهما يكن الأمر فقد حملت زوجته منه، وأنجبت بعد ذلك ابنه الذي ظلت أمه تتكفل برعايته وعلاجه من الخلل النفسي والتخلف العقلي، قبل أن تطلب من شيلر - الذي كان قد طلقها وتزوج بأخرى! - أن يتولى العناية بالصبي الميئوس من شفائه (وقد روينا قصته بشيء من التفصيل على الصفحات التالية، وذكرنا أن شفاءه تم بعد رحيل أبيه بسنوات على يد زبانية النازية، الذين كانوا يصفون المرضى النفسيين والعقليين في معتقلاتهم المخيفة). لم يقصر شيلر في الإنفاق على ابنه، ولكنه لم يشعر نحوه أبدا بعاطفة الأب نحو ولده. وبذلت الزوجة والأم كل ما في وسعهما لكي يترك شيلر عمله في يينا ويتجه إلى ميونيخ، وكانا هما السبب أيضا في الفضائح التي ألصقتها الصحافة بالفيلسوف وأخذت في ترويجها، حتى اضطر بعد سنوات قليلة من عمله بالجامعة، ثم بعد أن نزع عنه الحق في التدريس، أن يكسب قوت يومه من إلقاء المحاضرات في المدن والجمعيات المختلفة، وأن يسعى عبثا للعمل في أي جامعة خارج بلاده؛ في اليابان وروسيا أو مصر. وراح يواصل مسيرته الفلسفية الطموح على الرغم من الأحوال البائسة التي عاش فيها وذاق مرارتها، وربما كانت هي الشوكة التي لم تفتأ تدفعه إلى العمل، حتى وجد فرصة في مدينة كولونيا التي ضاق بعد ذلك ذرعا بالحياة فيها، وإن لم يتوقف أبدا عن الاستمرار في إنضاج تجربته الفلسفية والحياتية على السواء. وأخيرا وصلته الدعوة المشرفة للعمل بجامعة فرانكفورت، التي انتقل إليها وهو لا يدري أن الموت الذي طالما هجس به خاطره يتربص به ويزحف نحوه، حتى باغته بعد أشهر قليلة من إقامته بالمدينة.
كان كثيرا ما يردد لسانه أو قلمه هذه العبارة المأثورة عن جوته: «أقرب الناس إلي هو ذلك الإنسان الذي يتحول باستمرار.» ونظرة واحدة إلى حياة ماكس شيلر (1874-1928م) الشخصية وعناوين كتبه وبحوثه الفلسفية، كفيلة بالكشف عن مدى عمق تحولاته، وقسوة ما كابده من ورائها من ويلات وعذابات، وما واجهه من جرائها من إساءة فهمه في عصره وبلده إلى حد التجاهل والنسيان؛ من اتهامات ظالمة بأنه مجرد «حرباء» فلسفية متلونة، أو عاشق عاطفي متيم بالفلسفة، وأن أعماله التي بقي الكثير منها شذرات ناقصة تفتقد الوحدة الباطنية والطابع الفلسفي والمنهجي. وإذا كان واقع سيرته وتفكيره كما عرفنا من قبل يقدم شهادة واضحة على تحوله من ناحية العقيدة، من اليهودية إلى الكاثوليكية التي لم يلبث أن أعلن خروجه منها، وتبنيه وجهة نظر كونية وشمولية، كما يشهد أيضا من الناحية الفكرية على تأثره في البداية بالكانطية الجديدة، ثم انتمائه - بطريقته الخاصة! - إلى فلسفة الظاهرات أو «الفينومينولوجيا»، واعتناقه في النهاية لنوع من وحدة الوجود القائمة على أسس تطورية، تضع العقل في مكانة سامية فوق النظام الطبيعي كله، إذا كان واقع السيرة والفكر يدل على هذا دلالة واضحة، فإنه يبين كذلك أن شيلر لم يتخل أبدا عن النسقية، التي كان يشدد دائما على ضرورتها لأي نظام فلسفي، وذلك بشرط ألا نقصد النسق بمعناه الكلاسيكي المغلق، الذي يستنبط قضاياه وتحليلاته من مجموعة من المبادئ الأولية أو القبلية، بل نقصد به النسق المفتوح، الذي يتغلغل في كل ميادين الحياة والعمل والفكر والمعرفة، ويتسم بالثراء والتنوع الشديدين، دون التفريط في التماسك والاتساق والإحكام الذي يميز كل تفكير فلسفي حقيقي. وإذا كان هذا النسق المفتوح يعكس الأزمات الشخصية التي عاناها شيلر إلى حد القلق والتمزق، فإنه يعكس في الوقت نفسه أزمات عصره وتياراته المصطخبة في مهب العاصفة الثورية، التي هزت الحياة الثقافية الغربية في الفترة الواقعة بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كالتعبيرية والرومانسية الجديدة والظاهراتية وبدايات الوجودية والتحليل النفسي ... إلخ.
فلنحاول الآن أن نرصد الملامح العريضة لتحولات الفيلسوف كما تتجلى من عناوين كتبه المهمة، وذلك قبل أن نقف وقفة متأنية عند بعض أعماله، لا سيما الأنثروبولوجيا الفلسفية التي يعد أحد روادها ومؤسسيها الكبار، والتي سجلها في كتابه الصغير الهام «وضع الإنسان في الكون»، وبقيت مع ذلك شذرة لم تتم، شأنها في ذلك شأن الكثير من جوانب فلسفته.
تأثر شيلر أثناء دراسته للفلسفة، كما سبق القول، بالكانطية الجديدة، وظهر هذا التأثر في رسالته الأولى التي قدمها لجامعة يينا تحت عنوان مساهمات في تحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية، وظهر هذا التأثر كذلك في رسالته الثانية التي قدمها للجامعة نفسها تحت عنوان المنهج الترنسندنتالي والمنهج السيكولوجي؛ وبذلك ظل منشغلا بمشكلات الأخلاق ونظرية المعرفة التي تغلب عليها الروح الكانطية الجديدة.
راجع الفيلسوف آراءه بعد دراسته لكتاب هسرل الهام «بحوث منطقية»، وانضم إلى حلقة الظاهراتيين في جامعة ميونيخ بعد مغادرته لمدينة «يينا»؛ بسبب المشكلات التي ورطته فيها زوجته الأولى. وتصاعدت حدة الأزمات الشخصية المربكة التي أدت إلى فقد وظيفته في الجامعة، وطلاقه من تلك الزوجة، ثم زواجه للمرة الثانية في سنة 1912م من مريت، أي المحبوبة في اللغة المصرية القديمة، ابنة عالم الآثار فورتفنجلر، واضطراره لكسب لقمة عيشه من المحاضرات العامة، ومن بعض الكتابات في الصحف والمجلات الثقافية. في هذه الفترة ظهرت أولى مجموعات بحوثه الفينومينولوجية في سنة 1915م في مجلدين تحت عنوان بحوث ومقالات، ثم تحول هذا العنوان في طبعة سنة 1919م إلى «انقلاب القيم». وقد أكد مقال آخر تأثر فيه تأثرا شديدا بنيتشه، وهو «الضغينة في بنية الأخلاق»، أكد قدراته النقدية وتحليلاته النافذة لأشكال الحياة الانفعالية في المجتمع المعاصر له. أما كتابه الأساسي الذي هاجم فيه فلسفة الأخلاق الصورية عند كانط، وهو الشكلانية في الأخلاق وأخلاق القيم المادية، فقد ظهر في المجلة التي أسسها هسرل، وهي حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي بين سنتي 1913 و1916م. وهو في هذا الكتاب يعارض أخلاق كانط الشكلية الصارمة بأخلاق وقيم مادية، تقوم موضوعيتها على مضامين قبلية واضحة وجلية، يمكن أن يدركها الإنسان من خلال الشعور القصدي. وتتدرج هذه القيم في نظام أو نسق موضوعي وتراتبي، يبدأ بالقيم الحسية ك «السار وغير السار» إلى القيم الحيوية ك «النبيل والحقير»، ثم العقلية ك «الخير والشرير، والجميل والقبيح، والصادق والكاذب»، حتى يصل إلى قيم المقدس المحرم.
كان شيلر قد ترك اليهودية ودخل الكاثوليكية بسبب زواجه الأول في سنة 1900م، ثم أخذ في هذه المرحلة الظاهراتية من تطوره وأثناء الحرب العالمية الأولى، يفسر الكاثوليكية تفسيرا يقوم على فكرة الحب في التراث الأفلاطوني والأوغسطيني، فكتب أروع الصفحات عن الحب، حتى عده المؤمنون بتلك العقيدة أخلص الدعاة للدخول في الكنيسة الكاثوليكية. وتمخض انشغاله العميق بالتجربة الدينية عن كتابه الأساسي في فلسفة الدين، وهو «مشكلات الدين وتجديد الدين»، الذي ظهرت طبعته في سنة 1921م مع مجموعة أخرى من المقالات تحت عنوان «الأبدي في الإنسان». ومما يدل على تحولاته وقفزاته المذهلة أنه فاجأ الجميع في هذه الفترة نفسها بالكتاب الذي كان قد أصدره سنة 1915م، وناقض فيه روح المرحلة الدينية العميقة التي مر بها، وهو كتابه «جني الحرب والحرب الألمانية»، الذي احتفى فيه بالحرب العالمية، وصورها في صورة النداء القدري الذي يحث البشرية على أن تولد ولادة جديدة، وتتخلص من ظواهر الفساد والانهيار التي تسببت فيها الرأسمالية. وهو خطأ فادح لم يكن هو الفيلسوف الوحيد منذ أفلاطون وحتى هيدجر الذي وقع فيه ثم ندم عليه. ويعين شيلر سنة 1919م مديرا لمركز البحوث الاجتماعية في مدينة كولونيا، ثم يدعى بعد ذلك بقليل لتقلد منصب الأستاذية للفلسفة والاجتماع في جامعة كولونيا، التي أعيد افتتاحها في ذلك الوقت. ويباغت الرأي العام بين سنتي 1922 و1923م بتخليه النهائي عن العقيدة الكاثوليكية، وكذلك بطلاقه من حبيبته، زوجته الثانية «مريت»، وزواجه في سنة 1924م من السيدة ماريا شيلر التي رعت تراثه بعد وفاته، وأشرفت على صدور طبعة أعماله الكاملة، وأنجبت ابنهما ماكس يعقوب، الذي قدر له كما سبق القول أن يولد بعد رحيل أبيه في شهر مايو سنة 1928م.
مر شيلر بالمرحلة الثالثة من تطوره الفلسفي منذ أوائل العشرينيات، وتميزت هذه المرحلة باتجاهه للكتابة عن الأنثروبولوجيا الفلسفية، واهتمامه بالبحوث الاجتماعية، لا سيما علم اجتماع المعرفة، جنبا إلى جنب مع محاولة تأسيس نسقه الميتافيزيقي الذي لم يمكنه رحيله المبكر من إتمامه. وقد اهتم في بحثه الهام عن وضع الإنسان في الكون (1928م) بتقديم مشروع موجز لتصوره عن الأنثروبولوجيا الفلسفية، التي سنتناولها بشيء من التفصيل بعد هذا العرض الإجمالي. ويكفي أن نقول الآن إنه يميز في هذا البحث أربع طبقات تتكون منها النفس البشرية، وهي على الترتيب: الدافع الشعوري، والغريزة، والذاكرة المترابطة، والذكاء العملي؛ ثم يقابل هذه الطبقات الأربع بمبدأ العقل، الذي يختلف عنها جميعا كل الاختلاف، والذي يخلص الإنسان تماما من السياق الطبيعي، ويرفعه فوقه. ومع أن الحياة الطبيعية أو العضوية والعقل مختلفان من حيث الماهية تمام الاختلاف، إلا أنهما متعلقان ببعضهما بصورة لا غنى لكل منهما؛ فالعقل ينفذ بأفكاره في الحياة التي تخلو بدونهما من أي معنى، كما أن الحياة تمكن العقل من ممارسة فعله ونشاطه، ومن تحقيق أفكاره في الحياة بالطاقة التي تغذيه بها باستمرار. أما في ميدان علم الاجتماع، فقد اهتم شيلر بقضايا ومشكلات علم اجتماع المعرفة؛ فتناول بالبحث العلاقات الأساسية بين أشكال المعرفة وأنماط العادات والتقاليد الاجتماعية لدى الجماعات المختلفة. وقد حدد أهم أشكال المعرفة في الأشكال الثلاثة التالية: معرفة الإنجاز والهيمنة الخاصة بالعلوم الوضعية والمعرفة الثقافية والتربوية، التي تقدمها المذاهب الفلسفية، ثم المعرفة التي تتيحها الأديان المختلفة، وتبين لمعتنقيها سبل النجاة أو الخلاص. وكل شكل من الأشكال المعرفية السابقة يحدد نوع الدافعية الخاصة به، وأفعال المعرفة وأهدافها التي يسعى لتحقيقها، وأنماط الشخصيات التي تجسد القدوة والنموذج، والجماعات المختلفة التي تتكفل بإنتاج المعرفة ونشرها، وأنواع الحراك التاريخي المرتبطة بكل ما سبق. والملاحظ في هذا العرض السريع أن بحوث شيلر الاجتماعية يغلب عليها التأثر بالتضاد الأساسي الذي أكده الفيلسوف في أنثروبولوجياه الفلسفية، وهو التضاد بين الحياة والعقل؛ فالعقل بذاته عاجز عن تحقيق أفكاره في الواقع، كما أن قوى الحياة ودوافعها تظل بغير تدخل العقل قوى عمياء ضالة. لا بد إذن من تفاعل العقل والحياة وتعاونهما، مع العلم بأن العقل لا يستطيع أن يحقق في الواقع إلا الأفكار التي تحتاج إليها، وتحددها المصالح الواقعية للجماعات المختلفة، كما أن هذه المصالح أو العوامل الواقعية ترد في النهاية إلى الدوافع الأولية التي تتحكم في حياة الإنسان، وهي الدافع الجنسي أو دافع التكاثر، والدافع إلى القوة والسيطرة وإثبات الذات، ودافع البحث عن الطعام والغذاء. وقد عرض شيلر الخطوط الأساسية لنظرية في علم اجتماع المعرفة وفي العلوم الوضعية، في البحث الذي نشره قبل وفاته بسنتين، وهو أشكال المعرفة والمجتمع (1926م). وأخيرا فإن بحوثه الاجتماعية والأنثروبولجية تتداخل وتتفاعل مع المشكلة الميتافيزيقية الأساسية، وهي مشكلة التغلب على ثنائية العقل والحياة وتجاوزها. وقد تأثر شيلر في هذا الصدد تأثرا قويا بفلسفة اسبينوزا، عندما وصف العقل والحياة أو العقل والدافع بأنهما أهم صفتين للوجود في أساسه الأول والأعمق. ويذهب الفيلسوف في النهاية إلى أن التاريخ العالمي بأكمله يقوم على تغلغل كلتا الصفتين أو المبدأين السابقين بعضهما في البعض الآخر؛ وذلك لأجل أن تتحقق ماهية المطلق تحققا تاما من خلال التعاون والتضافر الكامل بين الألوهية والإنسانية في مسعاهما المتواصل عبر التاريخ الشامل. عندئذ تلوح إمكانية تجاوز الثنائيات الكبرى: العقل والطبيعة، الفكر الغربي والفكر الشرقي، الأديان والعلوم الوضعية، الرأسمالية والاشتراكية، العمل الجسدي والعمل العقلي؛ بل إن ثنائية الرجل والمرأة لن يتم تجاوزها إلا من خلال صيرورة التاريخ العالمي نحو تحقيق المطلق في الواقع.
بعد هذه النبذة الإجمالية السريعة عن حياة شيلر المضطربة التي لم تخل يوما من القلق والتمزق، وعن تحولاته الفلسفية المتعددة التي تتجلى في اهتمامه بمجالات معرفية وأخلاقية واجتماعية مختلفة، ودراساته وبحوثه التي تنوعت تنوعا شديدا، إلى حد اتهام نقاده لها بأنها تفتقد النسقية والوحدة الداخلية؛ سنحاول أن ننتقل من الإجمال إلى التفصيل، وأن نقف وقفة متأنية عند جوابه على السؤال الأساسي الذي شغله طوال حياته، وهو: من هو الإنسان؟ وما هي ماهيته الحقة؟
1
ونبدأ بالبدايات الأولى أثناء دراسته، ثم تكليفه بالتدريس لمدة عشر سنوات في جامعة يينا. كان أول ما جذبه للانخراط في هذه الجامعة هي الشخصية الساحرة الآسرة لأحد أساتذها، وهو الفيلسوف الملتزم رودلف أويكن (1846-1926م)، الذي راح يدعو ويكافح في سبيل تأسيس مثالية جديدة، تبعث الحياة الأخلاقية والروحية الأصيلة بعثا جديدا يوحد صفوف الجميع؛ لكي يعيشوا حياة مشتركة مفعمة بالنشاط العقلي والأخلاقي والديني الخلاق، ولكي يواجهوا انحراف المدينة الحديثة، وفساد العمل الثقافي المفتقر للمشاركة الشخصية، ويتجاوزوها لحياة عقلية وروحية أصيلة ومتجددة. وقد كان لقرب شيلر من هذا الفيلسوف، واختياره له مشرفا على رسالتيه الصغرى والكبرى للدكتوراه، أثره الكبير على تفكيره المستقبلي في مسارات شتى، كالاهتمام بقيمة الشخص والشخصانية، وتقدير مكانة العقل الحي بين مستويات الوجود الحيوي المختلفة أو بالأحرى فوقها، ثم القراءة النقدية المتأنية لفلسفة كانط، بحيث يتحول - أي شيلر - بعد ذلك إلى أكبر مناهض لها، وأهم قطب مضاد لشكلانية حكيم كونجسبرج، وصوريته الأخلاقية الحاسمة. «ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتولى شيلر بعد ذلك رئاسة جمعية كانط في مدينة كولونيا، وأن يؤسس قبل وفاته بأسابيع قليلة جمعية كانط الأخرى في مدينة فرانكفورت. ويبقى أهم ما تأثر فيه بأستاذه هو السؤال الذي لم يكف عن طرحه عن وضع الإنسان في الطبيعة، بحيث صار السؤال عن ماهية الإنسان ومكانه في الوجود - كما سيقول قبل وفاته بسنوات قليلة - هو أهم ما شغله منذ الصحوة الأولى لوعيه الفلسفي، كما بقي هو السؤال المقدم على أي سؤال فلسفي آخر.»
2
والدليل على صدق هذا القول أنه لم يخل فحسب في كتابه الصغير عن وضع الإنسان في الكون، بل كذلك في عناوين بعض كتبه الأخرى، مثل الأبدي في الإنسان، والإنسان في عصر التوازن، والإنسان والتاريخ.
حملت رسالة شيلر الأولى (1897م)، كما سبق القول، هذا العنوان: مساهمات في تحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية. وقد عالج فيها مشكلات أساسية شغلت كل مراحل تطوره أو تحوله بعد ذلك على دروب الفكر والحياة، وجعلته يحمل على عاتقه مسئولية النهوض بمهمة جليلة وجديدة، وصفها بأنها هي النقد القيمي للوعي. ولا شك أن هذا الوصف يذكرنا بفلسفة كانط النقدي في كتبه الثلاثة المعروفة، كما يوضح كيف أن النقد الثقافي أو التاريخي والحضاري يمثل الأفق الدائم أو الخفية المستمرة لبحوث شيلر الفلسفية، وقد تثنى له في وقت لاحق أن يميز هذه المهمة عن مشروع كانط الضخم في نقد العقل. وأهم أوجه الاختلاف بينهما هو أن ما يفترضه هذا المشروع، وهو وجود تصور مسبق ومكتمل عن العقل، لا يصح أن يفترضه نقد القيم الذي سينهض هو نفسه به؛ إذ يتحتم على هذا النقد أن يتبع منهجا يستفيد فيه من النتائج التي توصل إليها علم النفس الحديث مع غيره من العلوم مثل علم الأحياء وعلم الفيزياء، بحيث تقوم بتحويل الأحداث النفسية المتفرقة إلى قدرات أو ملكات جديدة، ترفعها فوق الوجود النفسي المحض لتصبح وظائف نفسية ذات قيم أخلاقية.
3
والحق أن هذا الاهتمام المبكر للشاب البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، لا يكشف فحسب عن تأثره بأستاذه السابق الذكر، وبالنزعتين السيكولوجية والوضعية الشائعتين على أيامه، بل يضع الأسس الأولى لعدد من الأعمدة التي يرتكز عليها نسقه الفلسفي في المستقبل: استقلالية كل من الفكر والإرادة والمعرفة والسلوك والخير والحق، وبذل الجهد الخارق لردم الهوة أو الفجوة التي تفصل كلا منهما عن الأخرى، ثم الدخول قبل ذلك كله في حوار أو صراع نقدي حول مشكلة القيم، ومحاولة الكشف عن القوانين التي تتحكم في مملكتها، مع الاستفادة من النتائج التي توصلت إليها علوم عصره. ولعل هذا يبين مدى إحساسه الجاد في ذلك العمر المبكر بعمق الفجوات وألوان التضاد والتناقض القائمة بين الفكر الخالص والواقع التاريخي. ومن أدل عباراته على ذلك قوله:
إنني على وعي تام بأن اتساع وعمق التجربة التاريخية، التي استوعبها أي نسق فكري وفلسفي، إنما تقف موقف التعارض الحاد مع استقامته المنطقية، بل تقف دائما في علاقة عكسية معها. إن التاريخ كما هو معروف هو عالم التناقض، ومن ذا الذي يمكنه أن يحافظ على النقاء المنطقي كلما أراد أن يدخله (أي التاريخ) في تفكيره؟ ومن ذا الذي لا يتحتم عليه أن يستوعبه في ذاته إذا أراد أن يقدم شيئا أكبر من التأمل الوهمي؟
4
بهذه العبارات الواضحة التي تنظر إلى العالم نظرة تاريخية، يكون شيلر الشاب قد ميز نفسه عن زملاء المستقبل من الفلاسفة الظاهراتيين (الفينومينولوجيين )، المعادين للتاريخ أو غير التاريخيين. وينشر شيلر في سنة 1899م - أي في الفترة الواقعة بين رسالة الدكتوراه الأولى ورسالة التأهيل الثانية للتدريس الجامعي - ينشر أول عمل فلسفي مستقل يتناول مشكلة اجتماعية وسياسية، ويعبر عما يمكن وصفه بفلسفة العمل، ونقصد به كتابه «العمل والأخلاق»، الذي يناقش فيه مفهوم العمل عند أصحاب النزعة الليبرالية، وعند أنصار النظريات الاشتراكية. وهو ينطلق في بداية الكتاب من وجهة نظر نقدية لحضارة عصره الذي طغت فيه التطورات التقنية على الفكر، وارتفعت فيه الدعوات الصاخبة للعمل دون التوقف للسؤال عن قيمة هذا العمل والغاية منه، وتضخمت قدرات التقنية على تغيير العالم وأساليب النشاط الاقتصادي للجماهير، فتراكمت الوسائل التي تصدت لتحديد الأهداف أو الغايات، بدلا من أن تترك هذه المهمة للأهداف أو الغايات الأخلاقية التي أزاحتها بعيدا عن رؤية العصر؛ مما أدى إلى تفجير النظم الكبرى للغايات بواسطة الوسائل التي تركت فيها وعليها؛ ذلك أن العمل وحده لا يمكنه أن يوجد قيمة، ولن يكون هناك معنى لأي عمل إنساني إن لم ينتظم داخل نسق اجتماعي له قيمه وغاياته الأخلاقية. ويأخذ شيلر على الليبرالية أنها تعيش في الوهم الصوفي، الذي تتصور معه أن الهدف الموضوعي يكمن في العمل الذاتي لكل فرد على حدة ، وكأن الحياة الاقتصادية في نظرها مجرد آلة كبرى تدور بشكل طبيعي وعقلي، وكأن كل من يعمل بذاته ولذاته يساهم في خلق أفضل مجتمع يمكن تصوره، أو كأن الهدف الموضوعي والقيمي متضمن في بحثه واختياره الذاتي للوسائل. أما النظريات الاشتراكية، وبالأخص الماركسية، فإن نظرتها لمفهوم العمل نظرة متعددة الوجوه، وليس أهم ما يميز المنظرين للاشتراكية أنهم يستبعدون العمل العقلي تماما من مفهومهم للعمل، بل هم يضمونه تارة هذا المفهوم ويغفلونه تارة أخرى، وذلك كلما أرادوا تبرير المعقولية والغائية الكامنة في العمل، وتأكيد طبيعته الخلاقة للقيم، أو كلما فكروا في الطبقة الاجتماعية التي تنطق باسم هذه النظريات، وهي الطبقة التي تعمل عملا جسديا قبل كل شيء. أما شيلر نفسه فيقصر مفهوم العمل على كل نشاط بشري يضع لنفسه نظاما موضوعيا من الغايات والقيم، وبغير ذلك لا يستحق القائم بهذا النشاط أن يوصف بأنه «عامل».
5
بهذا وحده يمكن لهذا العامل أن يشارك بعمله في تحقيق أسمى الأهداف والغايات السياسية والقانونية في المجتمع الذي ينتمي إليه، وأن يساهم به في تشكيل نظم قيمه الموضوعية المستقلة. ومما يلفت النظر إلى شخصية شيلر وتفكيره، ويدل عليها في الوقت نفسه دلالة قوية، أنه يرجع بعد عشرين سنة إلى هذا المفهوم المحدد للعمل البشري الخلاق للقيم، ويعيد على ضوئه طرح السؤال الجذري للأخلاق في عصره، لا سيما في العشرينيات من القرن الماضي، وفي السنوات التي أعقبت الخراب الذي تسببت فيه الحرب العالمية الأولى، وتصاعد الصيحات المتحمسة للعمل، وكأنه في ذاته وبوسائله العملية وحدها هو الأسطورة التي تستحق الإنقاذ والخلاص. ويواصل شيلر في هذه المرحلة المتأخرة من مسار تفكيره التي عبر عنها في بحثه العمل ووجهة النظر الشاملة للعالم، يواصل محاولاته المبكرة لتجريد العمل من الأساطير التي أطلقتها الدعوات المرتفعة الصوت للعمل بأي ثمن، ويجيب على السؤال السابق بتحديد الاتجاه الذي سيتبعه تفكيره المتأخر. هكذا نجد أنفسنا بالضرورة مدفوعين إلى مستوى متعال، يحمل في ذاته قانونا يسري على كل الناس، ويتحتم أن تشارك فيه جميع الذوات مع ممارستهم لواجباتهم الخاصة، وقبل كل شيء مع مشاركتهم في تشكيل نظم الأهداف والغايات الموضوعية، وذلك إذا صحت إرادتهم على أخذ هذا التشكيل مأخذ الجد.
6
هكذا تثبت لنا متابعة شيلر لسؤاله النظري المبكر عن مفهوم العمل، ومدى ارتباطه بمنظومة القيم الموضوعية، أنه فيلسوف التحول القلق الذي لا يحصر نفسه في بعد واحد، ولا يحب السير المتصلب في خط واحد مستقيم، وإنما يتيح لأسئلته فرص النضج والنمو البطيء على نار تجربته الاجتماعية، وانغماسه في مشكلات عصره، وتياراته الفكرية المتصارعة. ويغادر الفيلسوف الشاب جامعة يينا ومدينتها في سنة 1906م بعد فضائح سببتها زوجته الأولى، وبعد موت ابنه الصغير متأثرا بالمرض، وولادة ابن جديد، لن يطول به العمر أيضا، مات في سنة 1905م. والمهم أنه بدأ في ميونيخ عهدا جديدا هو عهد تكوينه وإنتاجه الفينومينولوجي .
انجذب الفيلسوف الشاب للرجوع إلى مدينة ميونيخ والإقامة بها لأسباب عدة. كان أبوه قد مات هناك في سنة 1900م، وكان خاله الثري يرعى أمه، ويسدد ديونها، ويتحمل نفقات علاجها في مستشفى الصليب الأحمر. ولا بد أن موت أخته الصغيرة الحبيبة هيرمينه، وكانت قد انتحرت سنة 1903م وهي في عامها السادس عشر، قد فتح في قلبه جرحا داميا لم يلمسه بعد ذلك أبدا، ولم يقل أو يكتب عنه كلمة واحدة، بل تركه ينزف مأساته في صمت. وربما كان أهم العوامل التي أغرته بالانتقال للمدينة الكاثوليكية العريقة، هو البحث عن فرصة عمل بجامعتها لتأمين حياته؛ لذلك كان أول سعيه أن يتقدم برسالته الكبرى للتأهيل للتدريس بعد تعديل صورتها التي كانت عليها أثناء وجوده في يينا، وأن يلجأ لكل من يستطيع أن يزكيه لدى المسئولين، ويتوسط له عندهم. ومن أهم من لجأ إليه إدموند هسرل مؤسس الظاهريات، فكتب إليه في شهر مارس سنة 1906م، ولم يتردد الرجل في التوصية عليه، والإشادة بتمكنه من علمه، واستقلاله في الرأي، وكفاءته في التدريس. وكللت المساعي الطويلة بتعيينه في شهر ديسمبر سنة 1906م مدرسا للفلسفة بجامعة ميونيخ، وشاء حظه أن يجد أمامه الظروف المواتية للتعمق في فلسفة الظاهريات ، والانضمام إلى حلقة الفينومينولوجيين الشبان، الذين التقوا حول الفيلسوف وعالم النفس هانز ليبس، الذي عرف بتطبيقه للمنهج الفينومينولوجي في فلسفة الجمال، وراحوا يتدارسون كتاب هسرل الهام «بحوث منطقية»، ويفحصون مشكلات هذه الفلسفة من وجهات نظر مختلفة باختلاف اهتماماتهم وميادين تخصصهم، ويوثقون صلاتهم بمؤسس الظاهريات الذي كان في ذلك الوقت لا يزال يعمل بجامعة جوتنجن، وقام في صيف سنة 1904م بزيارتهم وتنسيق العمل معهم، بحيث ختمت هذه المجموعة طابعها على المرحلة الأولى من الظاهريات. وتمخض التعاون بينهم في وقت لاحق على تأسيس المجلة الناطقة باسم الحركة، وهي «حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي»، التي استمرت في الصدور من سنة 1913م إلى سنة 1930م، ونشر فيها شيلر كتابه الأساسي عن النزعة الشكلية في الأخلاق وأخلاق القيمة المادية (نشر في الحولية في سنة 1913 و1916م على جزأين، وكتب قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى).
اندمج شيلر في الجماعة المذكورة، واستطاع بسرعة مذهلة أن يستوعب المنهج الفينومينولوجي، ويتعمقه، ويطبقه تطبيقا حرا مستقلا في بحثه للإشكالات التي كانت تشغله في الأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع. لم تجتذبه الدقة المتناهية لفلسفة الظاهرات في تحليل المعطيات والتمييز بينها - كما قال عنه زميله في الجماعة موريتس جيجر سنة 1907م - إذ لم يكن ذلك ليوافق طبيعته المندفعة العاصفة، وإنما أخذ منها شيئا جوهريا آخر، وهو المنهج الحدسي الذي تهدف خطواته المفصلة إلى الرؤية الحية المباشرة للماهيات، وإن كان قد استبدل الحدس الوجداني بالحدس الذهني الخالص عند هسرل، كما اجتذبه شيء مهم آخر بجانب الحدس، وهو المعرفة بالقوانين الماهوية العامة والبنى الصحيحة صحة مطلقة. وقد استطاع في بحوثه المتوالية أن يثري تلك الفلسفة، في مناهضتها الشديدة للنزعات السيكولوجية والنسبية والتاريخية، بحجج إضافية وبراهين جديدة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ رأى بثاقب بصره أن النتائج التي توصله إليها الظاهريات بقيت في النهاية نتائج جزئية متفرقة، فعجز منهجها عن تطوير رؤية شمولية للعالم تكون خلفية لها؛ ولذلك دفعه إيمانه الشديد بالكاثوليكية في هذه المرحلة من حياته وتفكيره، أن يضيف إلى تلك الفلسفة خلفيتها الدينية ، وأن يدمج هذا المذهب الديني في شبكة الفلسفة الحديثة. وقد ترك هذا التوجه الحضاري والشمولي الجديد للظاهريات - كما يستطرد العضو السابق في جماعة ميونيخ - انطباعا بالغ القوة على سائر الأعضاء. والغريب حقا أن يتمكن شيلر في تلك الفترة الخصبة، على الرغم من المنغصات الشخصية والعائلية التي زلزلت حياته، من وضع الخطوط الأساسية لفلسفته الظاهرية خلال السنوات القليلة التي قضاها في التدريس، بين سنتي 1906 و1910م في جامعة ميونيخ، وقبل عزله عن منصبه بسبب الإشاعات والافتراءات التي لفقت له؛ ومن ثم فوجئ قراؤه ابتداء من سنة 1913م بظهور عدد من أهم أعماله بصورة متتالية، وعلى فترات شديدة القصر، وهي أعمال يرتكز معظمها على محاضراته التي كان يلقيها عن الأخلاق وفلسفة الحياة وفلسفة التاريخ.
تعرض شيلر في هذه الفترة العصيبة لمهزلة مأسوية، أدت فيها الإشاعات المغرضة والحملات الصحفية المتجنية عن علاقاته النسائية، ومحاولاته المتصلة للطلاق من زوجته الأولى، دورا فاجعا وصل إلى حد تقديمه لمحاكمة تأديبية، ثم حرمانه من حق التدريس وفصله من الجامعة.
والتفت حبال الإشاعات والحملات الصحفية - في جريدة بريد ميونيخ - حول شيلر، فنغصت حياته، وأعجزته عن التخلص منها. وبعيدا عن التفاصيل التي لا داعي للخوض فيها عن علاقة غير مشروعة بامرأة غير زوجته الأولى الشديدة الغيرة، وعن استغلال المقالات الصحفية في التشهير بأستاذ جامعي؛ «لإثبات أن الذين يحاضرون عن الأخلاق، والذين يسلكون سلوكا يكذب أقوالهم وأفكارهم»، بعيدا عن تلك التفصيلات نقول باختصار إن زوجته الأولى وافقت في ربيع سنة 1912م على الطلاق، بعد أن دفع لها مبلغا ماليا كبيرا بناء على طلبها؛ وإن شيلر تزوج من أخرى شغفت بمحاضراته، وأحبته كما أحبها، وهي الفتاة الصغيرة مريت ابنة عالم الآثار فورتفنجلر، في شهر ديسمبر من العام السابق، وذلك بعد تعقيدات لا ضرورة للتطرق لها؛ وإنه فصل من الجامعة، وراح يكسب لقمة عيشه من المحاضرات التي يلقيها في أماكن وبلاد مختلفة، ومن كتابة وتلخيص المقالات لإحدى المجلات المهتمة بعلم الاجتماع. تأزمت كل أحواله في تلك الفترة، إلى حد التفكير في مغادرته بلده وأوروبا بأكملها إلى بلد آسيوي أو أفريقي؛ ليخلصه من ضائقته المادية والنفسية. والعجيب أنه قام في تلك الفترة، وربما لآخر حياته، باتصالات كثيرة لم تسفر عن شيء. والطريف الذي نستخلصه من بعض خطاياه الشخصية، أنه كتب مرة لأمه قائلا إنه قد وصلته برقية من أحد الأمراء الألمان، يخبره فيها برغبة الأمير فؤاد في حضوره إلى مصر؛ ليشغل منصب الأستاذية في جامعة القاهرة، بشرط أن تلقى محاضراته بالعربية. ويسعى شيلر للحصول على توصيات تزكية للعمل بالخارج، ومن بينها توصية رائعة من هسرل، تشيد بمواهبه المتنوعة، ويوافق على السفر إلى مصر وترجمة محاضراته إلى العربية، ولقاء الأمير فؤاد نفسه عند حضوره من باريس لزيارة ألمانيا. ولم يقتصر الأمر على هذه الدعوة التي لم تتمخض عن شيء، بل تلقى كذلك دعوة أخرى من الحكومة اليابانية للتدريس بجامعة كيوتو، ولكن سرعان ما سقطت هذه الدعوة بعد تغيير الحكومة بحكومة أخرى.
وهكذا لم يتحقق أبدا ذلك الحلم الذي شغله طيلة حياته بالعمل خارج بلاده، وظل شبح العوز المادي يجوس كل مكان أقام فيه، حتى وفاته المفاجئة في صيف سنة 1928م في مدينة فرانكفورت، التي كانت جامعتها قد وجهت إليه الدعوة في نفس العام للتدريس بها.
والعجيب حقا أنه عاش في تلك السنوات المشحونة بالمشكلات الشخصية أخصب فترات إنتاجه؛ فاستطاع أن يطور فلسفته الظاهرية، ويربطها بنزعته الشخصانية التي كان لإيمانه العميق بالكاثوليكية دور كبير في تنميتها وتعميقها، سواء في نفسه أو في نفوس كثير من زملائه الذين شاركوه ذلك الإيمان. وعلينا الآن أن ننظر في ثمرات عبقريته التي نضجت في تلك المرحلة القاسية من حياته: النزعة الشكلية في الأخلاق وأخلاق القيم المادية 1913م، الذي عارض فيه نسبية القيم عند نيتشه، كما ناهض أخلاق الواجب الصورية الصارمة عند كانط بأخلاق قيم مادية وقبلية في وقت واحد؛
7
وكتابه الذي ظهر في العام السابق نفسه عن فينومينولوجيا ونظرية مشاعر التعاطف، وعن الحب والكراهية، جانب البحث الذي نشره في العام السابق عن الضغينة وحكم القيمة الأخلاقي؛ ثم العديد من كتاباته في ذلك الوقت نفسه عن مشكلات الخير، والقيمة، والمبادئ الأخلاقية، وماهية الإنسان، وغيرها من الأعمال التالية التي قربت فلسفة الظاهريات من الرأي العام، وجعلت منها حركة عقلية وروحية ذات تأثير كبير على الوجدان الجمعي في بلده وخارج بلده.
سبق القول بأن شيلر صبغ الظاهريات صبغة خاصة به؛ إذ جعل الرؤية الشاملة للعالم خلفية لها، واهتم بتجربة الإنسان بوصفها علاقة فلسفية تربط الإنسان بالعالم، وتتجه قبل كل شيء إلى رؤية ماهيات جميع الموجودات رؤية حية. ويتضح هذا كله في نظريته للإنسان باعتباره كائن الحب، وفي اهتمامه بالشخص والشخصانية، وفي ترتيبه للقيم المادية القبلية القائمة على أساس المشاعر والعواطف، ومناقشته للعوامل المثالية والواقعية لحركة التاريخ ... إلخ.
ونبدأ بتعريفه أو تحديده للإنسان ككائن محب.
والواقع أنه ليس مجرد تعريف أو تحديد، وإنما هو أشبه بقوس كبير أو دائرة واسعة تضم في داخلها سائر أجزاء فلسفته، وتربط بينها برباط حميم. ولا تقتصر أهميته على «أنثروبولوجيا» الفلسفية المتأخرة، وإنما يمتد كذلك للأخلاق والميتافيزيقا، ويتحول لديه إلى رؤية أو موقف يطور منه ترتيبه للقيم القبلية، التي يهتدي بها الإنسان في المعرفة والإرادة والفعل، كما يهتدي بنجم قطبي باهر الضوء ومتألق في السماء. وينطلق هذا الترتيب من علاقات الإنسان بالعالم التي هي صميمها علاقات حب ومشاركة تنبع من شخصيته، وتجد فيها وحدتها. هذه اللمسة الشخصية أو الشخصانية التي تميزه عن غيره من الظاهراتيين، هي ثمرة نظرته الخاصة لمنهج «الرد» الفينومينولوجي الذي خلصه من خطواته المعقدة، فأصبح لديه موقفا فلسفيا من العالم، وتمخض عن اكتساب مجموعة من الحقائق المتميزة عن النظرة الطبيعية أو النظرية العلمية للعالم. أضف إلى هذه النتائج أو بالأحرى الأعمدة التي ترتكز عليها فلسفته عمودين آخرين، يتمثلان في نظريته عن أشكال المعرفة، وعن العوامل السببية التي مكنته من التغلغل في مشكلات المجتمع وفلسفة التاريخ. ونبدأ متابعتنا للأفكار السابقة بالمبدأ الذي قامت عليه فلسفة شيلر وحياته الشخصية، وسيطرت عليهما، وهو المبدأ القائل ببساطة إن الإنسان كائن محب قبل أن يكون كائنا عارفا أو مريدا؛
8
فالحب هو «القبلي» الذي يتقدم على المعرفة والإرادة، وهو فعل أولي أو أصلي يمكن الإنسان من الخروج من حدود نفسه، والعلو عليها، والمشاركة في العالم. وإذا كانت المعرفة نوعا معينا من المشاركة، فإن القبلي الذي يؤسس هذه المعرفة ويجعلها ممكنة، هو فعل المشاركة الذي نسميه الحب، والذي يقوم عليه التفلسف نفسه بكل أشكاله وأفعاله. يقوله شيلر في هذا الصدد: «إن ماهية الموقف العقلي الذي يقوم عليه كل تفلسف هو فعل المشاركة الذي يحدده الحب، وهي المشاركة التي تأتي من نواة شخص إنساني متناه فيما يكون ماهية جميع الأشياء الممكنة.»
9
ويكرر شيلر هذه الفكرة في صياغات عديدة مشابهة وفي كل مراحل تفلسفه، لا سيما في محاولاته لتحديد مفهوم المعرفة بوصفه علاقة بوجود تفترض أن له أشكالا كلية وأشكالا جزئية، وهي علاقة تقوم على مشاركة موجود في «طبيعة» أو «مائية» موجود آخر، بحيث لا تغير منها شيئا ، وبحيث يكون المعروف جزءا من العارف دون أن يغير منه كذلك أي شيء. هذه العلاقة بالموجود ليست مكانية ولا زمانية ولا سببية، وما نسميه العقل هو ذلك المجهول أو مجموعة الأفعال القصدية التي تتم داخل الموجود العارف، وتجعل المشاركة التي وصفنا بها فعل المعرفة ممكنة؛ لأنها في الأصل متجذرة فيما أطلقت عليه اسم الحب. وإذا لم يتوفر في الموجود الذي «يعرف» ذلك الميل أو التوجه للخروج عن ذاته والعلو فوقها بغية المشاركة في موجود آخر، فلن تكون المعرفة ممكنة على الإطلاق. إنني لا أجد اسما آخر أطلقه على هذا الميل أو التوجه أو عطاء الذات؛ أي ما يمكن وصفه بأنه تفجير حدود الوجود الخاص والطبيعة أو المائية الخاصة عن طريق الحب.
10
هكذا تكون علاقة المشاركة هي العلاقة الأساسية بين الإنسان والعالم وأهم علاقاته به، بل يصل الأمر بالفيلسوف إلى حد أن يجعل أولوية فعل الحب وتقدمه على المعرفة والإرادة قانونا أو ما يشبه القانون. هذا المسلك المحب من العالم هو في تصور شيلر مسلك انفعالي محمل بالقيمة، ومن شأن المسالك أو الأفعال المحملة بالقيم والمحددة بالمصالح أو الاهتمامات، أن تكون سابقة ومتقدمة على جميع أفعال التصور والإدراك والتذكر. ولما كانت الأفعال التي وصفناها بأنها محملة بالقيم لا تستغني في وجودها عن القيم، كان الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة شيلر يعتمد بالتبادل على نظرية في الفعل ونظرية في القيمة. ويمكن القول بأن هذا الأساسي المزدوج يمثل القلب النابض لفلسفة شيلر عن الإنسان؛ ومن ثم يكون من الطبيعي أن يشترك تراتب القيم وتراتب الأفعال المحملة بالقيم في تكوين «نظام الحب»، الذي يقول عنه: «من يمتلك نظام الحب الخاص بأي إنسان فإنه يمتلك الإنسان نفسه، ويمكن القول أيضا بأن ترتيب القيم عنده بمثابة النجم القطبي الذي يهتدي به الإنسان في الظلام، وهو في نفسه صميم نظام العالم أو نواته الباطنة.»
ويقابل هذا النظام المرتب للقيم وللأفعال المحملة بالقيم، نظام من «النماذج» أو الأنماط المثالية التي جسدت تلك القيم والأفعال، واقترب منها الناس قليلا أو كثيرا في الدافع الحي المعيش لأي عصر وأي مجتمع، فحددوا من خلاله موقعهم من العالم، ولكن كيف يبدو «نظام الحب» الذي يتوقف عليه تحديد وضع الإنسان وعصره وواقعه، أو تحديد قدره في مسيرة الكون؟
لا بد لتحقيق هذه الغاية من معرفة نظام القيم التي يتكون منها نظام الحب. ولا بد أن تنظر الآن في ترتيب القيم أو تراتبها، الذي يحكمه قانون صارم دقيق.
ويفترض الحديث عن تراتب القيم أن تقدم له بهذه الحقائق الأربع التي تتحكم في تكوين البنية الدقيقة لنظام الحب: (أ)
عالم القيم وتراتبها. (ب)
أنماط الشخصيات ونظام النماذج التي تجسد عالم القيم تجسيدا حيا. (ج)
الأفعال أو المسالك التي يقوم بها الأشخاص، وتتحقق فيها القيم بالفعل. (د)
الحالات التي يستشف منها وجود القيم.
واللافت للنظر أن شيلر في معظم أعماله لا يمل الحديث عن هذا التراتب القبلي للقيم مهما اختلفت أشكال حديثه وصياغاته؛ فهو في بعض الأحيان يقسمه إلى أربعة أقسام، وفي أحيان أخرى إلى خمسة، ثم يعود فيقصره في بحوثه الأنثروبولوجية والميتافيزيقية المتأخرة على اثنين. والترتيب الأول والأدنى في سلم القيم يتألف من قيم السار وغير السار أو الملائم وغير الملائم والنافع، وهي التي تشعر بها من خلال الحواس، ونجربها في اللذة والألم الحسيين، وكلها كما نرى وشيجة الصلة بطبيعتها الحسية، ولا توجد إلا حيث يكون ثمة حس وإحساس. والنموذج أو نمط الشخصية الذي يضع هذه القيم هو فنان المتعة أو التذوق، أو «فنان الحياة» الذي يسير في حياته، هي مبدأ واحد هو تفضيل السار على غير السار. أما الشكل الاجتماعي الذي يطابقه فهو «الجمهور». وأما قيم النفع أو المنفعة فتمثلها في المجتمع المدني شخصيات العلماء، وخبراء التقنية، والمقاولون للمشروعات المختلفة.
ويتكون الترتيب الثاني لمنظومة القيم من قيم النبيل والوضيع، ونتعرف عليهما في الشعر الحيوي، كما نجربهما تجربة حية في إحساساتنا بالصحة والمرض والشيخوخة والموت، وهكذا يتعلقان بالحياة التي يعتبرها شيلر ماهية مستقلة.
أما نمط الشخصية التي تقابل هاتين القيمتين وتمثلهما، فهو شخصية البطل الذي يعطى له العالم الواقعي قبل كل شيء كعالم يشتبك معه ويقاومه، ويتصدى له هو وجماعة الأبطال من خلال المقاومة. وتتألف المنظومة الثالثة في سلم تراتب القيم من قيم «الجميل والقبيح، والحق والباطل، ومعرفة الحقيقة» (وهنا نتذكر المتعاليات الثلاثة القديمة، وهي الجمال والخير والحق ...) وكلها تتحقق في الشعور العقلي، وتجرب في الفرح والحزن. أما الأنماط الشخصية التي تتمثل فيها فهم الفنان والمشرع والفيلسوف. وأما شكل الجماعة التي تتطابق معها فهي الأمة.
وتأتي أخيرا إلى قمة هرم التراتيب القيمي الذي تتبعناه حتى الآن من قاعدته، فنجد قيم المقدس وغير المقدس، التي تتحقق في الحب الشخصي، وتجرب في حالتي السعادة واليأس. ومن الطبيعي أن يكون «القديس» هو الشخصية التي تتمثل فيها هذه القيمة العالية، وأن تكون الجماعة المطابقة لها هي الجماعة المؤمنة؛ «الكنيسة أو المسجد أو المعبد».
11
هكذا نكون قد تتبعنا القيم التي تكون نظام الحب في تربيتها من الأدنى إلى الأعلى، كما تعرفنا على نسبيتها واقتصار كل منها على مجال محدد. ومعنى هذا أن أسمى القيم تتعلق بمجال شديد الضيق، كما تقتصر على الوجود الشخصي أو المطلق وحده؛ وأن أدنى القيم يمكن أن تتعلق بكل ما هو موجود؛ وبذلك وصفناها مجازا بقاعدة الهرم، وبهذا أيضا نتحقق صورة البناء القيمي للعالم، في الإنسان وفي الجماعات الإنسانية على اختلاف أشكالها، كالدولة والأمة وجماعات المؤمنين
12 ... إلخ.
كما نتمثل أيضا في شتى العصور التاريخية. وتخلص من هذا كله إلى أن «نظام الحب» موجود داخل الإنسان وخارجه، وهذا هو الذي يجعل المشاركة ممكنة؛ ذلك لأن ما نسميه الوجدان، أو نصفه مجازا بأنه «قلب» الإنسان، ليس على الإطلاق عالما عشوائيا ومضطربا من المشاعر العمياء، التي تدخل وفق قواعد مصطنعة في علاقات ترابط أو تفكك مع معطيات نفسية أخرى، بل هو - أي الوجدان أو القلب - صورة مقابلة لكون يضم كل ما هو محبوب وممكن؛ أي إنه بهذا المعنى كون مصغر لعالم القيم. إن للقلب - كما قال باسكال - حججه أو أسبابه.
13
هذه القيم التي تحدثنا عنها لا تسبح في سماء عالم مثل أفلاطوني كما اتهمه بعض الناقد بسبب استخدامه لمصطلحات تذكر بالفيلسوف اليوناني الكبير، كالصور والنماذج والرؤية والمرئي والماهيات ... إلخ.
فالواقع أن شيلر يعتمد على مصدر جديد للمعرفة هو الشعور أو الإحساس، ثم على أساس هذا «القبلي المادي الانفعالي» فلسفة معارضة لفلسفة كانط الأخلاقية والصورية الصارمة. وهو من ناحية أخرى يعتبر أن الوجود الشخصي هو أعلى أشكال الوجود؛ فالأشخاص لا يقفون من القيم موقف التلقي السلبي، بحيث يهتدون بها أو يتوجهون في حياتهم على ضوئها، بل هم في الحقيقة «يملكونها» وينمون داخل أنظامها؛ وبذلك يجسدونها ويحققونها في التاريخ. هذا هو الذي يقصده شيلر عندما يؤكد أن أخلاقه وفلسفته تتضمنان أو تؤسسان شخصانية قيمة أو شخصانية أخلاقية. لقد طالما سأل الفلاسفة عن ماهية الإنسان، واختلفت إجاباتهم منذ العصور القديمة، لكن إجابة شيلر عن السؤال المحوري إجابة جديدة ومغايرة: الإنسان هو كائن الحب، وهو بذلك وقبل كل شيء شخص واحد ومستقل. وقد كان من الأمور الطبيعية والمعقولة أن يستمد شيلر مذهبه عن أولوية الحب ويطوره من خلال الشخصانية. وكان الطريق العكسي كذلك أمرا ممكنا؛ فمن الناحية المعرفية يمكن أن تكون الشخصانية هي الشرط الضروري لقيام مذهب في أولية الحب، ولكنها - أي الشخصانية - تظل من الناحية الميتافيزيقية معتمدة على هذا المذهب. وقد سبق أن رأينا أن الحب هو الذي يحدد العلاقة الأساسية للإنسان مع العالم، وأنه هو الذي يؤدي به إلى مذهبه عن الشخص الإنساني ومنه إلى الفينومينولوجيا والميتافيزيقيا. والواقع أن أنثروبولوجيا شيلر - التي سنعرض لها بشيء من التفصيل، والتي يقدم فيها إجابته على السؤال عن ماهية الإنسان ووضعه في الكون - قد نمت وبلغت أوج نضجها من خلال انشغاله بقضايا فلسفة الأخلاق والظاهريات والميتافيزيقا. ويكفي الآن أن نقول إنه نظر إلى الإنسان نظرته إلى كون صغير منظم داخل الكون الكبير، وليس كعماء مضطرب ومختلط من المشاعر والانفعالات والأفكار، ويكفيه أيضا أنه لم يتوقف عن التنبيه بكل طاقته إلى الوجود الشخصي والعقلي للإنسان في كل ما تطرق إليه من قضايا الواقع، سواء كانت علمية أو سياسية أو اجتماعية وثقافية، وذلك في عصر تعرض فيه شخص الإنسان للنسيان أو النكران، بل زادت محنة إهانته وتعذيبه وإلغائه وسحقه بعد وفاة شيلر نفسه مع اغتصاب النازية للحكم في بلاده، وهيمنتها هي وغيرها من النظم الشمولية التي أضاعت حقوق الإنسان (التي ما تزال ضائعة وغائبة عن حياة معظم البشر).
14
ولعله أن يكون قد استشعر ما أحس به شاعرنا العربي القديم عندما قال بيته المشهور:
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
والواقع أن فكرة الإنسان ككون صغير فكرة قديمة ومأثورة في الفكر اليوناني القديم وفي أواخر العصر الوسيط.
ونرجع إلى تصور شيلر للشخص والشخصانية، فنقول إنه يميز بين الوظائف والأفعال، فمن الوظائف على سبيل المثال وظائف حسية كالشم والبصر والسمع، وإذا بقي الموضوع المدرك من خلال هذه الوظائف موحدا وغير متفرق أو منقسم، فلا يمكن تفسير وحدة الموضوعات التي يدركها آلات الإنسان أو يعرفها من خلال الوظائف الحسية وحدها؛ إذ يتم في نفس الوقت شيء آخر يجعل الموضوع المعروف موحدا، وهذا الشيء يسميه شيلر بالنشاط الفعلي والقصدي، الذي يتجلى في أفعال محددة كالإحساس والتصور والحكم. ويترتب على ذلك تمييز الفيلسوف بين الأنا أو الوعي الذاتي من جهة، والشخص الإنساني من جهة أخرى؛ فالأنا تتعلق بالوظائف والبيئة المحيطة، أما الشخص فتتعلق به الأفعال والعالم ككل. وقد حرص شيلر على تخليص مفهومه عن الشخص من مفاهيم علم النفس، وتنقيته من أي تفسير أو وصف أو ملاحظة تقوم بها النزعة النفسية. ولو لم يفعل ذلك لما كان من حقه الانتساب إلى فلسفة الظاهرات، التي شنت حربا ضارية على النزعة النفسية في المعرفة والمنطق؛ ذلك لأنه يبحث أساسا عن مبدأ يمكن أن يفسر كل ما يجريه الإنسان أو يلاحظه نفسيا، وهو مبدأ لا يمكن أن يكون نفسيا لأنه مبدأ فلسفي متعال، وهذا المبدأ هو الذي نطلق عليه اسم الشخص. ويشرح شيلر هذا كله بعبارات أوضح، فيقول إن جميع الوظائف هي في المقام الأول وظائف الأنا، ولا تنتمي أبدا إلى مجال الشخص . أضف إلى هذا أن الوظائف نفسية، بينما الأفعال غير نفسية. الوظائف تفترض بالضرورة وجود جسد وبيئة محيطة تتعلق بهما «ظواهرهما»، أما مع الشخص والفعل فلا يفترض وجود جسد، كما أن الشخص ينتمي إلى عالم لا إلى بيئة محيطة به، والأفعال تصدر عن الشخص وتحقق في الزمان، بينما الوظائف وقائع تتم في المجال المتعالي أو الظاهري للزمن. والخلاصة أن المقصود بالشخص في مقابل الأنا
15
أنه، أي الشخص، «يتصف بالكلية أو الشمول المكتفي بذاته». ويستطرد الفيلسوف فيقول إن «الأنا» يتعلق بها بالضرورة «أنت»، وليس الحال كذلك مع الشخص؛ فالشخص مطلق، بينما الأنا المتعلقة بالأنت شيء نسبي. ولما كانت القصدية الفعالة والأفعال القصدية - التي تنشأ معها موضوعات المعرفة والشعور - لا توجد إلا بوجود الشخص الإنساني، فينتج عن ذلك ضرورة ألا يكون هذا الشخص موضوعا، وألا يعامل معاملة الموضوع؛ فالشخص هو ذلك الذي يربط الأفعال المختلفة في وحدة واحدة؛ ومن ثم يقدر على تفسير الوحدة أو الهوية. وهكذا يكون من الطبيعي أن نتوقع إمكان الوجود الشخصي كلما ظهرت أمامنا وحدة «للعالم أو للإنسان»؛ فوجود الشخص هو الذي تتأسس عليه جميع الأفعال الماهوية المختلفة. وينبهنا شيلر إلى ضرورة تمييز الشخصي من الفرد وعدم الخلط بينهما؛ فالوجود الشخصي غير مقصور على الوجود الإنساني، كما أن الوجود الشخصي داخل هذا الوجود الإنساني لا يعني الوجود الفردي أو الجزئي فحسب، وإنما ينصرف دائما وفي نفس الوقت إلى وجود وحدة اجتماعية أو جماعة مؤلفة من أشخاص. وكثيرا ما يتكلم شيلر عن الشخص المفرد وعن الشخص المجموع أو الجماعي، وهو يوضح ذلك بأن الأفعال الفردية، كالوعي بالذات أو احترام الذات أو حب الذات، تكملها الأفعال التي تتصف بالجماعية، وتنبع من الحياة المشتركة والشعور والوعي المشترك. بهذا يمكن النظر إلى المجتمعات المختلفة وإلى تاريخها باعتبارها «وحدات»، يختلف بعضها عن بعض باختلاف عالم القيم المرتبط بوجود الأشخاص الذين حققوه أو جسدوه في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذه الحقيقة أو تلك من تاريخه. وهكذا يمثل المجتمع المعين «كونا جزئيا» من نظام أو عاما للقيم، كما يصبح التاريخ هو الحركة التي يستكمل فيها شمول نظام القيم أو بنيته الكلية. وهذه الأفكار نفسها ستكون هي الأساس الذي سيبني عليه شيلر فلسفته المتأخرة في نظرية المجتمع وفي الميتافيزيقا. ونسأل في النهاية: أين وكيف يمكن التعرف على وجود الشخص إذا كان من المستحيل أن يكون موضوعيا أو يتحول إلى موضوع؟
إن الأسلوب الوحيد والمطلق لوجوده هو تحقيقه لأفعاله؛ فالشخص هو الوحدة الحية أو الوحدة المباشرة للتجربة الحية، وليس على الإطلاق شيئا يصطنعه الفكر وراء أو خارج ما نجربه تجربة مباشرة. ويترتب على هذا ألا يكون الشخص - كما تقول لغة كانط - فكرة تنظيمية، ولا وعيا متعاليا نسلم بوجوده لكي نعيد بناء سياق تبريري «معقول»؛ ذلك لأن الشخص يحيل إلى التجربة، كما أن التجربة تحيل إلى الشخص، وما دام الشخص غير موضوعي ولا يمكن أن يكون موضوعا، فإنه لا يتحقق إلا من خلال تجربة جماعية مشتركة وأفعال محققة للقيم، يقوم بها أشخاص مع الجماعة ومن أجلها. ولو تذكرنا الآن ما سبق قوله عن تراتب القيم لوجدنا أن القيم العليا وحدها في ذلك التراتب هي القيم الشخصية بحق، وأن هذه الطبيعة أو الماهية الشخصية مرتبطة أوثق ارتباط بأفعال المشاركة التي يحددها الحب، وهذه الأفعال هي التي تبث في ذلك التراتب كله حركة ديناميكية نشطة، تهدف لبلوغ المستويات الشخصية التي تستطيع وحدها تحقيق القيم العليا، بل إن الحب والإنسان جميعا ليتحولان إلى حركة تتفتح فيها أسمى القيم الشخصية، وتفسير ذلك ببساطة أن الإنسان ليس «شيئا»، وإنما هو اتجاه.
عرفنا مما سبق كيف يؤكد شيلر أن الفينومينولوجيا أو فلسفة الظاهرات، هي في صميمها موقف عقلي يتخذه الإنسان من العالم، وتتحقق من خلاله رؤية «ماهيات» جميع الموجودات رؤية مباشرة حية وعميقة إلى أبعد حد ممكن. وقد أوضح ذلك بتمييزه لهذه الرؤية عن الرؤية الطبيعية للعالم، وهي التي تعبر عن موقف العقل الطبيعي العام، أو العقل والحس السليم الذي يسلم بواقعية الأشياء وحقيقتها كما تتبدى للنظرة الطبيعية العامة، وتميزه لها كذلك عن الرؤية العلمية في العلوم الوضعية المختلفة، التي تنطلق من الأسئلة والمشكلات التي ترصدها الملاحظة، وتتذرع بالمنهج العلمي المألوف في الإجابة على تلك الأسئلة، عن طريق التجربة وفرض الفروض واختبار صحتها واستخلاص النتائج الضرورية، وعامة الصدف التي يعبر عنها في معظم الأحوال تعبيرا رياضيا؛ فشروق الشمس وغروبها كما تظهر للرؤية الطبيعية تحولها الرؤية العلمية إلى صيغ رياضية معبرة عن هذا المسار الفلكي. وقد طبق شيلر رؤيته الظاهرية
16
على مجالات شديدة التنوع كالأخلاق والقيم والمعرفة والاجتماع، كما طبقها على الأنثروبولوجيا والميتافيزيقا في فلسفته المتأخرة. وسنضرب الآن مثلين مختصرين على هذه الرؤية في المرحلة الوسطى من مراحل تفلسفه (وهي المرحلة التي أعقبت فصله من جامعة ميونيخ حوالي سنة 1910م، وقضائه ما يقرب من ثمانية أعوام من حياته كفيلسوف وكاتب حر، يعيش على كتاباته ومحاضراته العامة).
ونبدأ بتلخيص محاضرة ألقاها في برلين عن أشكال المعرفة والثقافة، ثم نقدم فكرة موجزة عن رؤيته للتاريخ، ومفهومه عن العوامل الواقعية والمثالية المحركة لأحداثه. يعتقد شيلر أن هناك ثلاثة أهداف عليا يمكن أن تحققها المعرفة، بل ينبغي عليها أن تحققها: الهدف الأول يتعلق بصيرورة أو بمستقبل الشخص العارف وازدهاره ونضجه، وتتكفل به المعرفة الثقافية. أما الهدف الثاني فينصب على معرفة مسيرة العالم أو صيرورته وأصله الأول أو علته الأولى؛ أي معرفة الله أو الموجود في ذاته، وهي المعرفة الدينية التي يصفها بأنها معرفة الخلاص أو النجاة. وأما الهدف الثالث فيتجه نحو السيطرة على العالم وتغييره لتحقيق المصالح والغايات البشرية، ويتجلى هذا في نمط المعرفة التي يسميها معرفة السيطرة أو الإنجاز العملي، التي يختص بها العلم الوضعي والمذهب النفعي، أو البراجماتية التي لا تضع نصب عينها هدفا غيره.
وإذا كانت ثنائية العقل من ناحية والحياة (أو الدوافع الحيوية) من ناحية أخرى، تسود فلسفة شيلر في آفاقها المختلفة، فإنها تثبت وجودها أيضا في هذه الأشكال الثلاثة للمعرفة والثقافة؛ فعلى الدوافع المتجهة إلى تحقيق القوة والهيمنة تبني المعرفة التي سميناها معرفة الإنجاز والسيطرة، وعلى أساس الشعور أو الإحساس القصدي والاندهاش أو التعجب تقوم المعرفة الثقافية، أما المعرفة بالخلاص والنجاة فتعتمد على الدافع الروحي لإنقاذ الوجود والمصير وضمان السعادة الأخروية. والمهم في هذا الهيكل المعماري كله أن الأنماط الثلاثة للمعرفة ترجع أصولها إلى الأنماط المختلفة للدوافع، وأن هذه الدوافع بدورها تتفاوت في مستوياتها؛ فمنها ما هو جسدي وبيولوجي، ومنها ما هو عقلي وروحي. والاندهاش أو التعجب الذي جعله شيلر أساس المعرفة الثقافية هو بالنسبة له، كما كان بالنسبة لأفلاطون، التعبير الانفعالي أو العاطفي عن هذا الأساس؛ ومن ثم فهو مبدأ التفلسف ومنبعه الأصيل. أضف إلى هذا أن شيلر لا يقصر مفهوم الدافع على التكوين الطبيعي والحيوي للإنسان، وإنما يرى على العكس من «أوجست كونت» أن أنماط المعرفة الثلاثة ليست مراحل متتالية في التاريخ البشري كما تصور فيلسوف الوضعية في نظريته أو قانونه الثلاثي المعروف (الأسطوري والديني، يتلوه الميتافيزيقي أو الفلسفي، ثم المرحلة الثالثة والأخيرة مع العلم الوضعي)، وإنما تنشأ نشأة مستقلة وأصيلة عن قوة دافعيتها الذاتية، ويمكن كذلك أن تتغير وتغير نفسها بحيث تكون طبقات ذات مستويات مختلفة من المعرفة الجماعية أو الاجتماعية. ويحاول شيلر أن يجيب على السؤال العريق : كيف نفهم التاريخ، وكيف نفسره عن طريق ما يسميه بالعوامل الفعالة التي تحرك مسيرته، وتتحكم في أحداثه؟ فهو يفرق بين «سوسيولوجيا» أو علم اجتماع حضاري أو ثقافي، وسوسيولوجيا أو علم اجتماع واقعي، وكلاهما يقع تحت مظلة ثنائيته الميتافيزيقية الأساسية التي سبقت الإشارة إليها؛ فالأول يقوم بالضرورة على نظرية عن العقل، والثاني عن نظرية عن الدوافع التي تحرك حياة الإنسان. والواقع أن شيلر يقترب في هذه الثنائية من المقولة الماركسية المعروفة عن البنية الفوقية والبنية التحتية، فيصبح علم الاجتماع الثقافي بمثابة البنية الفوقية، وعلم الاجتماع الواقعي ممثلا للبنية التحتية. ومع ذلك فليس للعوامل المثالية التي يتضمنها الأول ولا للعوامل الواقعية في الثاني، نفس القوة ولا نفس التأثير على مسار التاريخ الذي لا يستغني عن تفاعلهما معا. فالآفاق أو المجالات التي يمكن أن تنمو فيها العوامل المثالية هي التي تتيحها العوامل الواقعية؛ ولهذا كانت لها دلالتها ودورها السببي في تحديد مصير الواقع. وفي إطار تلك الأفاق والمجالات الواقعية يستطيع العقل أن يضع الأهداف والقيم، أما تحقيقها فهو أمر متروك للعوامل الواقعية. ولو حاول العقل أن يضع الأهداف والقيم خارج إطار المجال الواقعي لكان أشبه بمن بعض في الجرانيت أو يبدد قيمه وأهدافه في «يوتوبيا» وهمية. هكذا تتبين العلاقة الجدلية بين النوعين السابقين من العلاقات، ولا أمل في فهم مسار التاريخ العيني إلا إذا عرفنا ترتيب تلك العلاقات الواقعية والمثالية، وسياقاتها المختلفة، وتفاعلها المستمر؛ فالمجموعات الرئيسية للعلاقات الواقعية هي علاقات الدم، والقوة أو السلطة، والاقتصاد؛ وهي ليست علاقات ثابتة أو دائمة، وإنما هي متغيرات مستقلة يمكن فهمها وتقدير تأثيراتها خلال الحقب والمراحل التاريخية المتعاقبة.
هكذا ينظر شيلر إلى المفاهيم المختلفة للتاريخ والتأريخ نظرة نسبية؛ فلم تبدأ سيادة العوامل الاقتصادية على مجرى التاريخ إلا مع ارتفاع موجة العصر الرأسمالي المتأخر. ولا يعني هذا أنه يوافق على التفسير الماركسي، الذي يجعل العوامل الاقتصادية هي العوامل الأساسية والوحيدة التي تحرك مسار التاريخ؛ إذ يرى أن هذا التفسير الأحادي ينطوي على تعميم شديد، ولا يصدق إلا على العصر الرأسمالي. وأخيرا فقد وضع شيلر أسس فلسفته وطورها قبل نشوب الحرب العالمية الأولى وأثناءها، لكن محنة الحرب ألزمته بمواجهة التحدي بالمزيد من التطوير والنقد والمراجعة لتلك الفلسفة.
كانت السنوات الفارقة بين فصله من جامعة ميونيخ ونشوب الحرب العالمية الأولى ثم انتهائها، من أصعب السنوات في حياة شيلر، ومن أحفلها أيضا بالمشاركة والإنتاج الفلسفي والسياسي المتدفق. لم يكن من الممكن أن يقف فيلسوف التعاطف والمشاركة والناطق بلسان القيم موقف المتفرج من الانهيار الثقافي والحضاري، الذي سببته الحرب في ألمانيا وأوروبا بوجه عام، وأدى إلى تساقط القيم العليا التي نادى بها تحت سنابك «اللاقيم» النفعية والاستغلالية، التي ارتفعت أصواتها وأخطارها مع زحف الرأسمالية. حتمت عليه طبيعة المحارب الذي تجيش نفسه بالانفعالات المضطربة إلى حد التمزق، أن ينخرط بل أن يغوص بكل كيانه في محنة القيم التي تمر بها الحضارة والثقافة الأوروبية والمسيحية، وذلك عن طريق «المشاركة» التي تعبر عن أهم مبادئ فكره، وتمثل في وقت واحد سقف وجوده ودعامة حياته. وكان من الطبيعي أن يشارك زملاءه المتينين لفلسفة الظاهريات الجديدة في تحرير المجلة الناطقة باسمها والمروجة لأفكارها، منذ أن بدأت في الصدور سنة 1913م، وهي «حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي»، لكن تدفق بحوثه وإلحاحه على نشرها بأكملها في المجلة (مثل تحليل التعاطف، وقيم الحياة ومكانها في ترتيب القيم، إلى جانب كتابه الأساسي الذي انتهى منه في تلك الفترة، وهو النزعة الشكلية في الأخلاق والأخلاق المادية) أوقع شيئا من الجفوة بينه وبين مؤسس الظاهريات، الذي لم يسمح له بنشر أكثر من مائة صفحة! وكشف عن الاختلاف الشديد بين طبيعتهما، وتراكم الثلوج على دروب العلاقة بينهما. أثبتت اهتمامات شيلر خلال محنة الحرب أن الفيلسوف الحقيقي لا يمكنه أن يعيش أو يفكر بعيدا عن أزمات عصره، وأن فيلسوف القيم لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين أمام تصاعد الفردية والأنانية والتدهور والانحلال الأخلاقي والروحي وانهيار القيم الحقيقية. وبدأت مواجهة المحنة، والدخول في الحوار النقدي معها بتطوعه للانخراط في السلاح الجوي، ثم رفض قبوله فيه بسبب إصابة عينيه بالانحراف البصري «الاستجماتيزم»، وضعفه الصحي العام. وكان أول كتبه المعبرة عن معاناته لمأساة الحرب هو كتابه «مارد الحرب»، الذي تعمد أن يوجهه للرأي العام، ويتجاوز فيه دائرة الفئات الثقافية والفلسفية المحدودة. وسرعان ما ارتفعت أصوات التأييد والمعارضة بعد صدور الكتاب بقليل؛ فقد أثار الغضب والاحتجاج لدى عدد من الأدباء والمفكرين اليهود، مثل ماكس برود وفرانز فيرفل وأرنولد تسفايج ومارتن بوبر، ولكن الأصوات المعارضة لم تمنعه من المثابرة على استخلاص عالم القيم السائد التي تكمن وراءها. والظاهر أنه استطاع بالرغم من بعده عن ميادين القتال، وانعزاله في ذلك الوقت بالقرب من بحيرة تيجر، أن يعبر عن آراء الكثيرين الذين انهالت عليه رسائلهم المؤيدة، والذين وقعوا مثله ضحية الوهم الحالم والمدمر بأن الحرب يمكن أن تطلق الطاقات الحيوية والإبداعية من أسر التحجر والجمود، بيد أن سحر الانجذاب والانبهار بنيران الحرب وضجيج المدافع والطائرات، سرعان ما ذبلت شعلته المتأججة التي جعلت الفيلسوف في الكتاب المذكور يرحب بالحرب، ويتصور أنها قوة قادرة على إنقاذ أوروبا من التخلف والتدهور الأخلاقي، الذي زحف عليها مع زحف الرأسمالية بقيمها وأشكالها الاجتماعية، كما توهم كذلك قدرتها على الكشف عن قوى أخلاقية جديدة في إطار حضاري جديد. وجاء كتابه التالي «الحرب والبناء» لينظر إلى «مذبحة الشعوب» وكأنها صيحة التجديد الكامل والثورة الشاملة للحياة الأوروبية بأسرها. ويعترف الفيلسوف بأن من الصعب وسط الفوضى السائدة أن يتعرف الإنسان على أي معنى سياسي أو اقتصادي للحرب، لكن المؤكد أن هذه الحرب تضع الأوروبيين تجاه واجباتهم ومسئوليتهم عن التطهر والندم والتوبة والإنابة إلى التجدد الروحي. هذه المسئولية تقع في رأيه على عاتق الكاثوليك الألمان، الذين يطالبهم بأن يضعوا أيديهم في أيدي الكاثوليك الأوروبيين لتحقيق البعث الأخلاقي والروحي الجديد. لا شك في أن هذه الأوهام الرومانسية القاتلة، وهذه النغمة الإيمانية الدافئة، تعبران عن عمق التجربة الدينية في المرحلة الكاثوليكية من حياة شيلر، وهي المرحلة التي بدأت منذ أن كان صبيا في المدرسة وتم تعميده، كما سبق القول سنة 1899م، في دير القديس أنطوان ، ثم بلغت ذروتها في تفانيه في تلك التجربة، وزياراته المتكررة للأديرة المختلفة، وإعلائه من شأن القيم الدينية العليا المتجسدة في القداسة والقديسين، إلى الحد الذي جعل الكنيسة نفسها تعتبره من أهم المفكرين الكاثوليكيين، وتكلفه مع بعض القوى السياسية والحزبية، بل وبدعوة صريحة من المسئولين في وزارة الخارجية، بالسفر إلى بعض المدن والعواصم الأوروبية، مثل بيرن فيينا والهاج، لإلقاء المحاضرات فيها، وتعبئة الجماعية الكاثوليكية لتكون يدا واحدة وصفا واحدا وراء دولة الرايخ المنهارة، ومواجهة القوى المتحالفة ضدها في الحرب. والثابت أن شيلر كان على اقتناع تام، أثناء تلك المرحلة الدينية التي غاص في قيمها وطقوسها بعمق وإخلاص شديدين، بأن الكاثوليكية تملك القدرة والإمكانيات اللازمة لمكافحة الرأسمالية بقيمها الفاسدة وأشكالها الاجتماعية المنحلة. وفي هذه المرحلة أيضا تمكن الفيلسوف من تطوير فكرته عن الاشتراكية المسيحية، التي أصبحت بعد ذلك وبفضل ريادته تيارا فلسفيا شديد القوة والتأثير على الساحة الفكرية والأخلاقية من ناحية، وفي مواجهة الرأسمالية وتحدي «لاقيمها» من ناحية أخرى. وقد تمخضت هذه المرحلة عن بعض أعماله ذات الطابع القومي والتربوي الواضح: أسباب كراهية الألمان، الندم والبعث الجديد، فكرة الحب المسيحية والعالم المعاصر، التعمير الثقافي - أو الحضاري - لأوروبا، وغيرها من المقالات التي شارك بها أثناء الحرب في المجلة الكاثوليكية «هوخلاند»، بجانب المحاضرات التي ألقاها في برلين وغيرها من العواصم الأوروبية، وكادت أن تحوله إلى داعية الكنيسة الكاثوليكية، ومروج لأفكار السلطة التقليدية الحاكمة والمنهارة، واللسان الناطق باسمها. ولا بد أن الفيلسوف قد مزقه هذا النشاط السياسي الذي تورط فيه بإرادته أو بطيبته وحسن ظنه شر ممزق، ولكنه بقي على وعي دائم بضرورة الفصل بين تجربته الدينية وتجربته العلمية والفكرية، ولكم سعى في هذه المرحلة للتوصل إلى شغل كرسي في إحدى الجامعات؛ لعله يتيح له العكوف على عمله العلمي البحت، ويخلصه من الضياع في دوامة الحياة العامة الملفقة والمغرقة!
وعندما وصلته الدعوة للعمل في معهد العلوم الاجتماعية في مدينة كولونيا، وجدته مستغرقا في بحث «لم يكتمل أبدا!» عن الاشتراكية المسيحية كقوة مضادة للروح الرأسمالية. كان ذلك بين سنتي 1919 و1920م؛ أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بعدة سنوات، ولكنه لم يكن أول بحوثه التي حلل فيها الروح الرأسمالية تحليلا نقديا شاملا، وحمل نظام القيم فيها مسئولية الفساد الذي سبق نشوب الحرب، وكان كذلك من أهم العوامل تأثيرا في اندلاع نيرانها. وكان قد سبق لشيلر أن نشر في سنة 1914م ثلاثة بحوث تحت العناوين الثلاثة التالية: البرجوازي، والبرجوازي والقوى الدينية، ومستقبل الرأسمالية. وفيها يبين أن الروح الرأسمالي هو السبب الأول في قيام النظام الاجتماعي الرأسمالي وليس العكس؛ ذلك أن الرأسمالية في تقديره ليست مجرد نظام اقتصادي يحدد توزيع الملكية، وإنما هي قبل كل شيء نظام شامل للحياة والحضارة والقيم المقلوبة على رءوسها؛ نظام يستطلع في الأفق علامات انهياراه وبوادر انحسار روحه القديمة، التي ستملأ مكانها روح أخرى جديدة تقوم على قيم أخرى جديدة. بيد أن الحرب انتهت، ولم تنحسر الروح الرأسمالية، ولا تراجعت الاضطرابات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، التي تسببت فيها عبر السنوات التي أعقبت الحرب. صحيح أنه لم يتخل أبدا عن موقفه الرافض للرأسمالية ونظامها القيمي، ولم يتوقف عن حواره النقدي مع ماركس والماركسية، ولكنه بدأ يتشكك في إمكان تجاوز الرأسمالية في المدى القريب؛ ولذلك تبنى شعار الاشتراكية المسيحية، وأخذ يدعو لها على أمل أن تكون هي النقيض للرأسمالية من ناحية، والبديل عن البلشفية من ناحية أخرى. «إن القدر المفزع الذي يئن منه الآلاف من الناس هو الذي يوصف بكلمة «الرأسمالية»؛ فالرأسمالية نوع من الطاعون أو الوباء الذي يموت بسببه الطبيب المعالج قبل أن يقترب من المريض الذي أصيب به.» ولهذا يتفق شيلر مع ماركس في أن الرأسمالية ليست في المقام الأول مقولة اقتصادية، وإنما هي مقولة اجتماعية يتحتم فهمها فهما تاريخيا عاما وغير محصور في التاريخ الاقتصادي وحده؛ ولذلك كانت تحليلاته لما سماه الروح الرأسمالية متسقة مع نظريته المبكرة عن القيم والدوافع، بحيث أصبح نظام المجتمع الرأسمالي - كما سبق القول - نتيجة مترتبة على الروح الرأسمالية وليس العكس؛ ومن ثم تكون النتيجة الطبيعية لتراتب القيم، كما تصوره شيلر، أن يصبح السعي إلى الربح من أجل الربح ذاته، وهو ما يعبر عن جوهر الرأسمالية كموقف روحي أو عقلي من العالم، لا مجرد حقيقة اقتصادية أو تطورا فاسدا للبشرية، وقلبا للتراتب الموضوعي للقيم كما عرضناه من قبل. أضف إلى هذا أن مقولة الرأسمال والرأسمالية، كما فهمها ماركس، يمكن أن تفسر النظام الفاسد للقيم والحضارة في العصر الرأسمالي وفي التاريخ الغربي، لكنها تعجز عن تفسير عصور ونظم اجتماعية سابقة على هذا العصر الرأسمالي الأوروبي والأمريكي، الذي يحدد بدايته بحوالي سنة 1885م لا تزال تئن تحت سطوة الاستعمار في الهند ومصر على سبيل المثال؛ ومن ثم تصبح محاربة الرأسمالية هي السبيل الوحيد لمنع نشوب حرب؛ أي مذبحة جديدة للشعوب، أو وباء يمكن أن يعدي البشر أجمعين. هنا بالتحديد يتأكد الدور الذي حاول شيلر أن يلقي تبعته على أكتاف الاشتراكية المسيحية والمسيحية الكاثوليكية بوجه خاص؛ فهذه الاشتراكية يمكن أن تكون هي الطريق الثالث بين الإمبريالية العالمية للبروليتاريا من جهة، والرأسمالية الليبرالية من جهة أخرى، شريطة أن تقوم الكنيسة بتبني الاتجاهات المعادية للرأسمالية بين الشباب، وأن تكف عن مغازلة النظام الرأسمالي الذي لا تنفك تخطب وده بين الحين والحين. بهذا تقف هذه الاشتراكية المسيحية القائمة على فكرة الفداء والتضحية للآخرين، وعلى تضامن الكل من أجل الكل، تقف ضد دكتاتورية أي طبقة، وضد جميع أشكال الإمبريالية، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية. ومن المفارقات العجيبة أن يتطلع شيلر في هذه المرحلة من تفكيره إلى رؤية بابا «الكنيسة» الكاثوليكية على رأس هذه الاشتراكية المتدينة، مع أن الأيام أثبتت أن هؤلاء البابوات كانوا، ولم يزالوا حتى اليوم، هم الخدم المخلصين للرأسمالية وأطماعها العنصرية والتوسعية التي لا تقف عند حد. ومن حسن حظ شيلر، أو من سوء حظه لا أدري، أنه لم يقدر له أن يعيش حتى يرى اشتراكيته المسيحية القائمة على القيم الإنسانية الرفيعة، تتحول إلى اشتراكية الوطنية (أي النازية)، التي جعلت وطنه في النهاية مسرحا تتدفق فيه دماء شعبه الذي تتصارع عليه جيوش الشيوعية والرأسمالية. ولا شك في النهاية في أن دعوته للاشتراكية المسيحية خلال فترة إيمانه بالكاثوليكية، لم تأت فحسب من منبعها الحقيقي، وهو فلسفته في الحب والشخصانية ونظام القيم، وإنما ارتبطت كذلك بطموحه لبعث التراث المسيحي الأصيل القائم على المحبة والتضحية والإيثار؛ تدعيما لتلك الفلسفة ذاتها وسندا لها.
ويدخل شيلر مرحلة جديدة من حياته ونشاطه الفلسفي القلق الجياش كالبحر الثائر، مع افتتاح الجامعة الجديدة في مدينة كولونيا ومعهد البحوث الاجتماعية بها. كان كونراد أديناور، الذي قاد السفينة الألمانية بعد تحطمها في الحرب العالمية الثانية، هو عمدة هذه المدينة الذي أراد أن يجعل منها عاصمة ثقافية لمنطقة «الراين» بأسرها. ويبدو أن شدة إعجابه بشيلر، ونشاطه الهائل في بث الروح الكاثوليكية وتأصيلها والدعوة إليها في مواجهة التيارات الرأسمالية والاشتراكية، هي التي دفعته للإصرار على استدعائه للحضور إلى المدينة، إلى حد الربط بينه وبين افتتاح جامعتها ومعهد البحوث السابق الذكر بها. ولبى شيلر الدعوة الملحة، وأصبح رئيسا لأحد الأقسام الثلاثة بذلك المعهد، الذي روعي في اختيار رؤساء أقسامه الثلاثة أن يكون أحدهم كاثوليكيا، والآخر ليبراليا، والثالث من الديمقراطيين الاشتراكيين.
وانتظر الجميع من شيلر أن يواصل نشاطه الكاثوليكي، أو بالأحرى أن يكون بوقا للكنيسة، لكن تصميمه على أن يكون هو نفسه، وأن يسير على دربه، سواء في حياته الخاصة أو في فلسفته، جعله يخيب الآمال التي عقدها الكثيرون عليه من ناحية، وزاد إصراره على الصدق مع نفسه من ناحية أخرى. إنه يؤكد، في إحدى رسائله إلى زوجته مريت، أنه لن يستطيع أبدا أن يقدم على فعل شيء ترفضه مشاعره الصحيحة، أو يتعارض مع حقيقته وكيانه الحميم، حتى ولو أدى ذلك إلى تعاظم محنته الخارجية أو المادية. ولعل هذا الإصرار على الصدق مع النفس هو مبعث الإشعاع القوي الذي قاضت به بحوثه ومحاضراته ومشروعاته، في تلك الفترة المتأزمة من حياته في عاصمة بلاد الراين؛ ففي هذه الفترة العصيبة جمع بحوثه ومقالات في فلسفة الدين سنة 1921م في كتاب بعنوان «عن الأبدي في الإنسان». كان لهذه البحوث والمقالات صداها القوي في العالم الكاثوليكي، وكان شيلر نفسه لا يزال على إيمانه بإله التوراة والإنجيل، الذي اعتبره الأساس الأعمق والأسمى للوجود العام ولوجوده الخاص. لكن هل كان هو نفسه يعلم شيئا عن تحولاته المفاجئة؟ هل كان يدري أنه سينغمس بعد ذلك في بحوث ودراسات متنوعة في فلسفة الاجتماع والعلوم الطبيعية، وأنه سيبدأ بشكل جاد في التخطيط لمشروعيه عن الأنثروبولوجيا الفلسفية وعن الميتافيزيقا، وتدوين شذرات منهما لم يقدر لها أن ترى النور إلا بعد رحيله، بما يقرب من نصف قرن من البدء في نشر أعماله الكاملة؟ وكيف كان له أن يحدس بما ينتظره أثناء وجوده وعمله في كولونيا، وما لقيه فيها من أزمات شخصية وتحولات فلسفية، زلزلت كيانه وهزت صورته أمام الناس؟
كم كانت حياته الجديدة في مدينة كولونيا أشبه بحياة ذكر النحل البائس المجد وسط الخلية المزدحمة بالنشاط والصراع والطنين! وكم تضاعف حنينه إلى التفرغ والعكوف على البحث والكتابة، بعدما وجد نفسه داخل شبكة كثيفة من العلاقات مع أعلام عصره! لا شك في أن حيويته الفياضة، ونزوعه الفطري إلى الانغماس في الواقع المحيط به، وإيمانه القوي بأن المفكر الحقيقي إنما يستمد مادة فكره من ثقافة عصره ومشكلاته وقضاياه الملحة وأحداثه، حتى اليومية منها. لا شك في أن هذا هو الذي دفعه للانخراط في علاقات حميمة مع أعلام عصره على اختلاف اتجاهاتهم واهتماماتهم، وتنوع إنتاجهم وإبداعهم. وتتملكنا الدهشة إذا عرفنا أسماء هؤلاء الأعلام الذين حرص على التواصل معهم والحوار معهم، وإذكاء شعلة فكره المتوهج على ضوء أفكارهم والتعلم منهم، وتشجيع الشباب الواعد ورعايتهم. ويمتد قوس هؤلاء الأعلام من الفلاسفة المحترفين والشعراء ونقاد الأدب والفن، إلى الموسيقيين والمصورين وعلماء النفس والفيزياء واللاهوت، إلى جانب البسطاء من الناس العاديين، الذين كان يحلو له أثناء أسفاره العديدة أن يتحدث معهم، ويتعرف على آرائهم وهمومهم، سواء في محطات السكك الحديدية والمطاعم والمقاهي والشوارع، أو حيثما وجد ما يثير أمواج فكره، ويستوحي منه مادة تفلسفه، ويزيده قربا من الإنسان الذي شغل على الدوام بالسؤال عن ماهيته وموقعه من الكون والكائنات من حوله.
17
كان كل من اتصل به شيلر وتحاور معه، قد أثر في نفسه على نحو من الأنحاء، ولكن ربما كان لقاؤه مع الرسام أوتو ديكس، الذي رسم له سنة 1926م صورة دقيقة وصادقة، أبرزت على حد قوله الملامح الصلبة التي تميز كيانه، من أعمق اللقاءات التي هزت وترا في نفسه، ولمست جرحا قديما في قلبه. يقول في إحدى رسائله المتأخرة إلى حبيبته وزوجته السابقة مريت فورتفنجلر، التي تزوجها في شهر ديسمبر سنة 1912م، وظل على حبه لها، واتصاله له المستمر بها، حتى انفصاله عنها بسبب عقمها، وزواجه من ماريا شيلر سنة 1924م. يقول في إحدى الرسائل التي كتبها في شهر مارس سنة 1926م، بعد أن يصف لها مسكن ذلك الرسام الفقير، ويشيد بطيبته وإنسانيته، إن له طفلة ساحرة تبلغ من العمر عامين ونصف العام، وتكاد أن تكون قطعة من أبيها. «لقد هزتني الصغيرة بصورة لا توصف، وجعلتني أبكي رغما عني؛ لأنني لم أرزق بمثلها ولن أرزق أبدا.»
كان هذا هو الجرح الذي فتحته هذه الطفلة، وظل يوجعه كلما رأى طفلا أمامه في إحدى زياراته لمعارفه وأصدقائه. لقد كان يعلم بالطبع أن تلميذته وزوجته السابقة وحبيبة قلبه إلى آخر العمر وهي مريت، لا ذنب لها في عدم الإنجاب. وإذا كانت إرادة الله لم تشأ لهما أن يرزقا بطفل، فإنه لا يكتفي بتبرئتها من قدر لا يد لها فيه، بل يتحمل معها المسئولية بشجاعة حين يقول لها في رسالة أخرى سابقة (أبريل سنة 1923م) إنه قد كتب عليه فيما يبدو أن يعيش فردا ومنبتا معزولا، بلا ماض ولا جذور عائلية، ولا مستقبل ولا ذرية، «لكنني لا أشعر بالمرارة حين أفكر في هذا الأمر، إنما هو الحنين الذي يفيض به القلب.» والغريب حقا أن هذه الحسرة على الحرمان من الولد لم تفارقه حتى آخر نفس في صدره، وذلك على الرغم من علمه بأن له ابنا من زوجته الأولى أماليا فون ديفتس كريبس، التي احتفظت بهذا الابن، ونهضت برعايته حتى بلغ السادسة عشرة من عمره، فطلبت من الجهات القضائية أن تنقل مسئولية كفالته إلى الأب، بعد أن عجزت تمام العجز عن الاستمرار في تحمل أعباء مرضه. والواضح أن هذا الابن - فولفجانج هينريسن فولف - كان معوقا وغير سوي، ويبدو أن أمه عجزت عن الإنفاق على تعليمه وعلاجه في أكثر من مصحة وإصلاحية، كما أن الابن نفسه قد حاول بكل وسيلة أن يتوصل إلى أبيه أستاذ الفلسفة المرموق لكي ينفق عليه، كما لم تقصر زوجتا أبيه لم يكن أبوه يحس نحوه بأي عاطفة أبوية - مريت ثم ماريا - في مساعدة الابن المسكين الذي، بل بدا له أنه ورث عنه وعن أمه أسوأ ما فيهما من عيوب، وأن القدر قد حرمه من أفضل خصالهما. أخذ من أمه اعتدادها بنفسها، وحبها للظهور، وطبيعتها الهستيرية؛ ولم يأخذ قوة إرادتها، وصلابتها الخلقية، وشدة حرصها وتدبيرها. وورث عن أبيه ضعف إرادته، وشدة اندفاعه، وقوة خياله؛ ولم يرث شيئا من عقله النافذ، ولا من قلبه الدافئ. والمهم في قصة هذا الابن الضعيف العقل والمضطرب الشخصية، أنه ذكر أباه - الذي لم يقصر في النهاية في أداء واجبه نحوه - ذكره بجذوره العائلية المرة، وتمزقه بين أمه وأبيه، وبشعوره منذ طفولته وصباه بأنه وحيد ومنبت ومحروم من الحب والحنان والأمان؛ لذلك لم يكن عجيبا أن يفصل بينهما حاجز ضبابي من القسوة والبرود، وأن يلازم الأب ذلك الشعور اليائس المحبط بالحرمان والعقم، رغم وجود ابنه فولف كالشبح الشريد الهائم على حافة حياته. ومن مفارقات الدهر أن الزمن هو الذي تكفل، بعد فوات الأوان، بحل مشكلة الابن والأب معا. مات الابن، أو على الأصح قتل بين سنتي 1938 و1940م في معتقل أورانينبورج، وهو أحد المعتقلات النازية التي كانت تتخلص من مشكلات المرضى النفسيين وضعاف العقول بالتخلص من حياتهم. أما الأب الذي مات في شهر مايو سنة 1928م، فقد رزق من زوجته الأخيرة، وراعية تراثه ماريا شيلر، بابنه ماكس جورج في شهر ديسمبر من العام نفسه؛ أي بعد رحيل أبيه بسبعة شهور. وهكذا وضع القدر خاتمه الأسود على حياة فاضت كالنهر الصاخب بالحيوية والجدية والإبداع المتجدد، وامتلأت كذلك بالقلق والتمزق والحنين الذي لم تنطفئ ناره، ولم يرتو ظمؤه أبدا للمرفأ الآمن الحنون. وأخيرا ربما يفسر هذا الشوق الدائم إلى المرفأ الحنون سر النغمة الحزينة المكتئبة، التي تكمن في كتاباته المتلاحقة المحمومة، التي لم يكن يجد الوقت الكافي لاستقبال مطرها الفلسفي المنهمر عليه بغزارة. وربما يفسر لنا كذلك الدوافع الخافية وراء نهمه الفظيع للقراءة؛ فهو لا يكتفي بمتابعة الفلاسفة والعلماء الطبيعيين المعاصرين له، وإنما يتجول على الدوام في متاهات أدباء شديدي التنوع؛ من دستوفسكي وتولوستوي وجوركي وطاغور وأونا مونو، إلى أناطول فرانس ويلزاك وتوماس مارتن وتيودور وغيرهم. ويبدو أنه لم يكن أقل حرصا على متابعة شعراء العصر، مثل رلكه وجئورجه وفاليري كما ذكرنا من قبل، بيد أن صلته بالشاعر والقاص الأمريكي الكبير «إدجار ألن بو»، كانت أشد عمقا وخصوصية من صلته بأي شاعر أو كاتب سواه، كما أن حبه لقصيدته «أنا بيل لي»، التي بكى فيها زوجته، قد فاق حبه لأي شعر آخر، وما أكثر ما كان يعاود قراءتها وهو يحاول عبثا أن يمنع عينيه من البكاء وهما يمران على القطعتين الأخيرتين منها:
كم كان حبنا أقوى وأعمق بكثير
من حب الذين يكبروننا في السن أجمعين،
ومن حب الذين علينا في الحكمة يتفوقون!
حتى الملائكة في عليين
لن تقدر على مثله، ولا الشياطين في أعماق الجحيم،
لن يقوى أحد منهم أبدا أبدا
أن يفرق روحي وروح الجميلة أنا بيل لي. •••
ما من قمر يبزغ إلا وتحمل لي أضواؤه
الأحلام السابحة في جمال أنا بيل لي،
ولا من نجمة تسطع في السماء
إلا وتكشف لعيني جمال حبيبتي أنا بيل لي.
وفي كل ليلة أرقد بهدوء،
بجوار حبيبتي المزدانة بإكليل العروس،
حتى في القبر أقبلها، حتى في القبر أعانقها بالقبلات.
ولن يدهشنا إزاء هذا الحب الجارف لأدب «بو» أن نجده يقول في إحدى رسائله، وفي عيد الميلاد لسنة 1924م، إلى حبيبته وزوجته مريت، التي أهدته بهذه المناسبة أحد كتب الشاعر الأمريكي: «أشكرك على الكتاب! كم من ملمح وجدته فيه يهز كياني، ويذكرني بحياتي الخاصة، ويكشف لي مدى ضعفي وعجزي عن التعبير عن حبي بكل عمقه وجديته، حتى لأحس بالنزعات الشديدة إلى الموت تتولد من تلقاء نفسها من هذا الصراع، وتتملكني في قبضتها ...»
18
والواقع أن هذا النزوع إلى الموت كان يدفعه في بعض الأحيان إلى التفكير في الانتحار، بل كان مجرد التفكير في تقصيره نحو الذين أحبهم من كل قلبهم لا ينفصل عن شعوره المزمن بالذنب والعجز والاكتئاب. وما أكثر ما نصحه الأطباء الذين تحيروا في أمره بالكف عن التدخين؛ رحمة بعضلة قلبه التي يستحيل أن تتحمل من ستين إلى ثمانين سيجارة في اليوم الواحد! وأنى له أن يكف عن التدخين، أو يلتزم في حياته وعمله بالاعتدال، أو يتجنب «الاحتراق» الذي دأب عليه حتى تحول في وهجه وعنفوانه إلى حطام؟ وهل يدهشنا بعد ذلك أن يديم التفكير في الموت خلال السنوات التي قضاها في كولونيا (وتشهد على هذا محاضرة شهيرة عن الموت، ألقاها سنة 1923م في هذه المدينة)؟ وهل نبالغ في القول لو زعمنا أن موته المبكر والمفاجئ في مدينة فرانكفورت ربما لم يكن مفاجأة له؟! صحيح أنه كان قد تصالح مع الموت، بل عشقه أيضا قبل أن يداهمه في ذلك اليوم الحزين (كما تشهد على هذا رسالة كتبها إلى مريت في السابع من شهر مارس سنة 1927م)، ولكن المؤكد أن حزنه وهمه كان مصدرهما الأعمق هو قلقه ويأسه من التمكن من تدوين كل ما يتدفق على عقله وقلبه، من أفكار وطموحات ومشروعات فلسفية كان يعي تمام الوعي أن العمر القصير، مهما طال في حساب الأيام والسنين، لن يتسع لتسجيلها على الورق؛ ومن ثم لم يتسن لهذا القلق الممزق على نفسه أن يجد الراحة في دنياه، أو يكمل ميتافيزيقاه وأنثروبولوجياه الفلسفية على النحو الذي خطط له وتمناه. هكذا تعرضت شجرة حياته، خلال السنوات التي قضاها في كولونيا، لشتى الرياح والأعاصير التي هبت عليها من كل ناحية، ولكنها ظلت تحمل من الثمار الفلسفية أكثر مما تستطيع أي شجرة حية. هاجمته الكنيسة الكاثوليكية التي أعلن انفصاله عنها، وسخطت عليه الإدارة المحلية التي لم تستدعه إلى العمل بجامعتها إلا بصفة فيلسوف الكاثوليكية، وانتشرت الشائعات المسمومة في المجتمع بسبب طلاقه وزواجه، وسائر علاقاته النسائية القديمة والجديدة.
وفكر جديا في مغادرة بلاده، كما سبق القول، للعمل في اليابان أو في مصر؛ ليتفرغ للكتابة بعيدا عن الجو الموبوء الذي أطبق على أنفاسه، فلم يتحقق من ذلك شيء. وعبثا حاول الحصول على إجازة تفرغ من التدريس، فلم يوافق أديناور الذي كان غاضبا عليه. ومع ذلك وجد نفسه يندفع إلى العمل بصورة مذهلة، كأنما يحركه هاجس غامض بقرب انتهاء أجله. وبينما هو مستغرق في إعداد مقالاته ودراساته - لا سيما عن الميتافيزيقا والأنثروبولوجيا الفلسفية - إذ فاجأته الدعوة الموجهة إليه للعمل في جامعة فرانكفورت؛ أي في المدينة التي مات فيها بالسكتة القلبية بعد تلبية الدعوة بشهور قليلة؛ أي في اليوم التاسع عشر من شهر مايو سنة 1928م، وفي الوقت الذي كانت فيه الحياة الفلسفية تنتظر إنتاجه، كما كان طفله الذي حلم به يتخلق في رحم زوجته الثالثة.
وفي شهر نوفمبر سنة 1925م وصله تكليف مفاجئ من الدوق الفيلسوف هيرمان كيزرلنج (1885-1946م) بإلقائه محاضرة في «مدرسة الحكمة»، وهو اسم المنتدى الفلسفي الذي أسسه هذا الراعي الحكيم سنة 1920م في مدينة دار مشتان، ضمن سلسلة محاضرات الموسم الثقافي الذي يقام في شهر أبريل سنة 1927م تحت عنوان جامع هو «الإنسان والأرض». وألقى شيلر محاضرته التي استغرقت أربع ساعات متصلة في موعدها المحدد، وكانت تحمل هذا العنوان الدال: «الوضع الخاص للإنسان»، وتتضمن في صيغة مختصرة خلاصة «الأنثروبولوجيا الفلسفية»، التي شغلته قبل ذلك بكثير، وقدر لها أن تكون عملا ضخما، بينما قدرت الأيام والأعمال والمتاعب الصحية أن تظهر في شهر أبريل سنة 1928م قبل رحيله بشهر واحد، تحت العنوان الذي تعرف به اليوم وهو «وضع الإنسان في الكون»، وأن يكتب بنفسه مقدمة هذا الكتاب الصغير الهام الذي لم يتجاوز التسعين صفحة، والذي نشره في فرانكفورت نفس الناشر فرانكه، الذي تولى بعد ذلك طبع أعماله الكاملة.
19
لم تكن هذه المحاضرة هي بداية انشغاله بمشكلات الأنثروبولوجيا الفلسفية؛ إذ سبق أن دون أجزاء متفرقة منها في كراسات منفصلة، كما تطرق إليها في بعض محاضراته بجامعة كولونيا منذ سنة 1925م على أقل تقدير. ويبدو أن زحام الأعباء الجامعية والمصاعب النفسية والجسدية التي عاناها أثناء وجوده في مدينة كولونيا، مع الهاجس الملح عليه بالتقدم في العمر، وتضاؤل فرص الاختيار الحر، والتحكم في الوقت، والقدرة على العمل والإنجاز. وقد ألحت عليه هذه المشاعر المحبطة قبل إلقاء المحاضرة السابقة الذكر بأيام قليلة، وأثناء قضاء إجازة قصيرة في أسكونا بإيطاليا، فكتب لزوجته السابقة مريت رسالة مؤرخة بنهاية شهر مارس عام 1927م يقول فيها: «ليتني أستطيع البقاء هنا والعمل في هدوء، دون أن أضطر للعودة إلى كولونيا! لكن الإنسان كلما تقدمت به السن أصبح عبدا لتاريخه الشخصي، وقلت قدراته على تغيير حياته، بيد أن ذاتي لن تكف أبدا عن محاولة اقتلاع هذه الشوكة، ولن تتوقف عن التطلع إلى غد أفضل، والأمل في مستقبل أجمل.» وها هو يرجع إلى أسكونا بعد إلقاء محاضرته في مدرسة الحكمة، فيقبل كالمحموم على العمل، ويدون تخطيطا كاملا للأنثروبولوجيا المرتقبة، وذلك بعد أن شجعه الانطباع القوي الذي تركته المحاضرة في نفوس المستمعين، وبعد أن اندمج بكل كيانه - إلى حد التفاني كما هي عادته! - بكل كلمة قالها فيها. وها نحن نحاول تقديم الخطوط الأساسية فيها بصورة نرجو ألا تكون مخلة.
يبدأ شيلر بإصدار حكم قاس - ولكنه غير ظالم! - على عصره، والموقف العقلي والروحي السائد فيه، فيؤكد أننا لا نملك فكرة موحدة عن الإنسان، ولا تعريفا محددا نتفق عليه بالإجماع؛ لذلك يحاول الإجابة على الأسئلة المثارة عن ماهية الإنسان، ووضعه في الكون، والعلاقة التي تربطه بالنبات والحيوان والحياة في مجموعها. هذه المحاولة تؤدي به إلى البحث عن وضع الإنسان داخل البناء الكلي للعالم الحيوي والنفسي (البيوسيكولوجي)، وهو العالم الذي يرى أنه مكون من مستويات متدرجة للقوى النفسية والدوافع الشعورية. وأدنى هذه المستويات هو مستوى الدافع الشعوري الخالي من الوعي والإحساس والتصور، ونجده متحققا في الحياة النباتية. ومع أنه يجرد النبات من أي وعي أو إحساس، فهو يرى أنه يمتلك حالة باطنية تساعد على تفسير استجاباته أو ردود أفعاله. والمهم أن الدافع العام إلى النمو والتكاثر هو الذي يميز هذا المستوى الأدنى للحياة النفسية. والطريف أن هذه التأملات عن الحياة النباتية قد أثارتها أو على الأقل عمقتها، مشاهدته مع صديقه عالم النفس الجشطلطي فيرتهيمر لفيلم تسجيلي رائع في برلين عن النبات وغرائب سلوكه ونموه. كان الفيلم - كما يقول في رسالته إلى مريت، في الثالث من شهر مارس سنة 1926م - كان يختصر في ثانية واحدة ما يجري في حياة النبات في أربع وعشرين ساعة، فنحن نرى النبات وهو يتنفس وينمو ويموت، ونحس أثناء ذلك بأن الانطباع الطبيعي عن النبات بأنه بلا نفس أو روح قد تلاشى تماما من أذهاننا. لقد كنا نشاهد الدراما الكاملة ذاتها بكل ما تنطوي عليه من متاعب ومجهودات هائلة، وكان من أجمل ما شاهدناه تلك الفروع من النبات العليق المصطفة على أربعة أعواد خشبية متجاورة، والباحثة بحثا مستميتا عن شيء تستند إليه. كنا نوشك أن نرى حالة الرضا أو الإشباع التي تنتابها عندما تعثر على أحد الأعواد التي تحمل أحد الفروع، ثم نعاين حالة الذعر والفزع التي تصيبها عندما تصل إلى العود الرابع والأخير، وتحاول عندئذ أن تتخطاه فتجد نفسها تهوي يائسة في الفراغ، ولا تلبث بعد المحاولات اليائسة أن تستدير راجعة إلى العود الرابع. كم هزتني هذه المشاهد، وجعلتني أحبس دموعي! وكم شعرت بأن «الحياة» في كل مظاهرها حلوة ونابضة وموجعة، وأن الحياة كلها كيان واحد لا يتجزأ. هكذا يتبين لنا أن ما يقصده شيلر بالنبات، وما يوصف بأنه نباتي، إنما هو في رأيه دافع شعوري يتجه دوما إلى الخارج، أو يتحرك نحو الانفتاح على العالم بطريقة غير واعية؛ لذلك يفتقر النبات إلى ما يسميه ب «التمركز» الذي يتميز به الحيوان. ولا يختلف الإنسان في هذا عن بقية الكائنات الحية؛ فهذا المستوى الأدنى أو الباطني للحياة، أي الدافع الشعوري، يدخل أيضا في تكوينه. وهو يعبر كذلك عن «وحدة» جميع الانفعالات والدوافع التي تحرك الإنسان؛ أي إنه - وهذه هي الركيزة التي تقوم عليها فلسفة شيلر - هو الإساس الذي تعتمد عليه تلك التجربة الأولية للمقاومة، التي تمثل الجذر الأصلي لإحساسه ب «الواقع» و«الواقعية»؛ ذلك أن واقع «الإنسان أو واقعيته» لا تتمثل في أنه «كائن عاقل» بقدر ما تتمثل قبل كل شيء في أنه كائن دافعي؛ ومن ثم تكون تجربة المقاومة هي التجربة الأولية والأساسية في حياته، وهي التي تسبق أي وعي أو أي معرفة عقلية أو تصورية لديه. ويأتي المستوى الثاني للحياة النفسية الذي يتمثل في الغريزة والأفعال الغريزية، وهنا يلجأ شيلر إلى أحدث البحوث النفسية التي حددت خصائص الغريزة في عصره، كما يستفيد من لقاءاته ومحاوراته المتصلة مع علماء النفس. وقد استخلص من قراءاته وعلاقاته أن السلوك يوصف بأنه غريزي إذا تحقق فيه شرطان: الأول أن تكون له ضرورته وأهميته القصوى بالنسبة للكائن الحي ككل، والثاني أن يتم على شكل إيقاعات مطردة وثابتة.
أما المستوى الثالث للحياة النفسية، فيعبر عنه السلوك الذكي الذي تتحكم فيه العادة أو التعود. ويصف شيلر هذا السلوك بأنه ذاكرة ارتباطية أو مترابطة، وأنه هو الذي يحدد جميع قدرات الكائن الحي على الربط بين الأشياء والأفعال، وإعادة إنتاجها بصفة مستمرة. ونصل إلى المستوى أو الشكل الرابع من مستويات الحياة النفسية وأشكالها، فنجده يصفه بأنه هو الذكاء العملي الذي يظل
20
مرتبطا بالحياة العضوية، ولكن تتوفر معه إمكانيات الاختيار؛ ومن ثم إمكانيات التوقع. ومعنى هذا أن سلوك الكائن الحي لا يقتصر هنا على إعادة إنتاج شيء أو فعل سابق كما رأينا على المستوى الثالث، وإنما يشمل كذلك جانب الإنتاج نفسه، بحيث يصبح قادرا على تجربة الجديد وابتكاره وصنعه. وأخيرا نصل إلى الإنسان بعد أن نظرنا في جوانب الحياة النفسية ودرجاتها؛ لعلنا نقف على جوهره وماهيته؛ فالواقع أنه يعلو فوق المستويات السابقة على الرغم من مشاركته فيها جميعا ، ومن كونها تدخل في تكوين نظام وجوده، بيد أن المبدأ الحقيقي الذي يكون الإنسان، ويميزه بحق عن سائر الكائنات الحية، يقع فوق أو وراء تلك السلسلة المتدرجة. هذا المبدأ الجديد هو العقل الذي يقف كما سبق القول موقف الضد من كل ما هو واقع، ومن الحياة بأسرها، بل ومن حياة الإنسان نفسها. إنه هو المبدأ الذي يتيح للإنسان إمكانية التجاوز، وتخليص نفسه ووجوده الماهوي الحقيقي، مما هو عضوي، أو من الحالة العضوية؛ أي باختصار شديد هو الذي يمنحه الحرية والقدرة على تجريد الأشياء من واقعيتها وشيئيتها، واستخلاص ماهياتها العقلية المحضة. ومعنى هذا بعبارة أوضح أن هذا الكائن العاقل لا يبقى مقيدا بعالم الدوافع وبالبيئة المحيطة به، ولا أسيرا لهما، وإنما يصبح كائنا منفتحا على «العالم» انفتاحا مبدئيا؛ أي يصبح وله «عالم» لا مجرد «بيئة» محيطة به. بهذا الانفتاح المبدئي لا يستطيع الإنسان أن يجعل كل ما حوله وما فيه موضوعا لبحثه ونظره فحسب، بل الأخطر من هذا أن يتولد داخله على الدوام نزاع أو صراع لا يتوقف بين الدافع من ناحية والعقل أو الروح من ناحية أخرى، وأن يكون هذا الصراع من أهم الخصائص المميزة للإنسان، والحافزة له على «تعقيل» عالم الواقع، أو إشاعة العقل وقيم الخير فيه.
كان من الطبيعي أن يهتم شيلر، وهو بصدد تحديد ماهية الإنسان، بظاهرة الوعي الذاتي للإنسان، وأن يضعها في سياق أشمل من السياق المألوف، وأن يلجأ لتحقيق ذلك إلى كل ما توفره العلوم الحديثة من معلومات؛ ذلك أن الإنسان، على عكس الحيوان الذي يحيا بأكمله في الواقع الراهن والملموس، يمارس دائما، من حيث يدري أو لا يدري، طريقته الخاصة في وقف الطابع الواقعي للأشياء «على سبيل التجريب»؛ حتى يتمكن من الوقوف على ماهية تلك الأشياء. ولا شك أن هذا الفعل للإنسان «النافي» أو «القائل لا» لواقعية الأشياء، يقترب مما سماه هسرل ب «الأيوخية»؛ أي تعليق الحكم ووضع العالم أو واقعية العالم بين قوسين؛ حتى لا يصرف نظرنا عن استخلاص ماهية الشيء، أو يعوقنا عما يسميه هسرل وشيلر ب «الرد الماهوي
ideierung »، خلال عملية حدس عقلي أو وجداني تستخلص فيه الماهية من الموجود الواقعي المباشر.
21
ويضرب شيلر أمثلة بسيطة لهذا الفعل المختلف تمام الاختلاف عن الأفعال التي يقوم بها العقل العملي أو التقني من ناحية، أو يمارسها التفكير الاستدلالي غير المباشر من ناحية أخرى. فأنا أشعر مثلا بألم شديد في ذراعي، وتقرير مصدر هذا الألم أو علاجه والتخلص منه، أمر تقوم به العلوم الوضعية، كالفسيولوجيا والطب وعلم النفس، ولكنني أستطيع أن أقف من هذا الألم موقفا تأمليا عندما أعتبر تجربتي له مجرد مثل على ماهية موضوعية أشمل منها وأعم، عندما أقول إن هذا العالم في صميمه ألم، وإنه يقوم على العذاب والشر. عندئذ أطرح السؤال بطريقة أخرى عن: ما هو الألم في ذاته، وكيف تكون طبيعة «أصل الأشياء» التي تجعل مثل هذا أمرا ممكنا. والحكاية المأثورة عن الأمير بوذا، الذي حبسه أبوه سنوات طويلة في قصره؛ لكي يظل بعيدا عن كل ما هو سلبي وشرير، ثم شاءت الصدفة أن يتابع من شرفة القصر مرور إنسان فقير، ثم إنسان شديد المرض، ثم جنازة ميت، فأدى به التأمل لهذه الحالات الثلاث أن يجعلها مجرد أمثلة عارضة للماهية الحقيقية التي يقوم عليها وجود هذا العالم، وهي «الألم»، وأن يدعو بعد ذلك إلى فلسفته الروحية القائمة على الخلاص من الألم عن طريق إيقاف الرغبات وتعطيل الشهوات، بل نفي إرادة الحياة نفسها كما فعل شوبنهور في فلسفته المتأثرة به. كان من الطبيعي - كما سبق القول - أن يلجأ شيلر، وهو بصدد تحديد ماهية الإنسان ووعيه الذاتي، إلى كل ما توفره له العلوم الحديثة من معلومات. غير أن محاولاته الشاقة لإقامة بناء متدرج المستويات للعالم الطبيعي والعالم النفسي، يستقل فيه الإنسان عن بقية الكائنات بالعقل والوعي الذاتي، لا تمثل في الحقيقة الشيء المميز للأنثروبولوجيا عنده. إن ما يميزها حقا عن غيرها هو تلك البنية الثنائية التي تتألف من القطبين المتعارضين أو المتضادين، اللذين يكونان تلك البنية الموحدة التي لا ينفصم فيها قطب منهما عن الآخر: الدافع الذي يشعر الإنسان بالواقع من خلال تجربة المقاومة، والعقل الذي يتيح له التوصل للمعارف المختلفة، من خلال التجريد الماهوي للأشياء، والرؤية الحدسية للأفكار والماهيات المستخلصة منها. وينتج عن هذا في تقدير شيلر ألا يعود الإنسان كائنا مستقرا في ذاته أو مكتفيا بها، ولا تاجا للخليفة وللوجود كله كما يذهب القول اللاهوتي الشائع، ولكنه بالأحرى كائن «بيني» أو «معبر» في حالة صيرورة متصلة نحو ما يعلو على ذاته وعلى العالم بأسره؛ أي نحو المطلق وأساس الوجود وأصله. بهذه المثابة ينبغي التفكير فيه على الدوام: «إن الإنسان وحده، من حيث هو شخص، هو الذي يستطيع بوصفه كائنا حيا أن يحلق عاليا فوق ذاته، ومن مركز يمكن القول بأنه يقع وراء عالم الزمان والمكان يستطيع أن يجعل من كل شيء، بما في ذلك ذاته، موضوعا لمعرفته فوق ذاته، وفوق العالم جميعا. وبهذا أيضا يكتسب القدرة على الدعابة والسخرية والمرح، التي تنطوي دائما على نوع من الارتفاع أو العلو فوق الوجود العادي المألوف. أما هذا المركز الذي يحقق الإنسان من خلاله تلك الأفعال التي تمكنه من أن يجعل جسده ونفسه، بل أن يحيل العالم كله بتراثه المكاني والزماني إلى موضوعات لتفكيره، هذا المركز نفسه لا يمكن أن يكون جزءا من هذا العالم؛ أي لا يمكن أن يكون له «أين» ولا «متى»؛ إذ يستحيل أن يوجد إلا في الأساس الأعلى للوجود كله.»
22
هكذا يؤكد شيلر أن العقل نفسه لا يمكن أن «يموضع» أو يكون موضوعا؛ فوجوده قائم على التحقيق الحر لأفعاله؛ ومن ثم لا يكون «شخصا» إلا في أفعاله - المعرفية والقيمية والفكرية - ومن خلال تحقيقه لها أو مشاركته بقية «الأشخاص» في تحقيقها في الواقع. وهكذا نصل أيضا إلى نتيجة كانت متضمنة في المراحل المبكرة من فلسفة شيلر، قبل أن تتحدد في مرحلتها الأخيرة بصورة جريئة ومؤكدة: لم تعد هناك عوالم فاصلة بين الإله المشخص في العقيدة المسيحية وبين الشخص الإنساني. لقد سبق له - أثناء الفترة التي انضوى فيها تحت مظلة الكنيسة الكاثوليكية، وأصبح من كبار الدعاة لها، والمعبرين عن رؤيتها الفلسفية والأخلاقية - سبق له أن عرف الإنسان نفسه بأنه «حركة» متجهة نحو الإله المشخص، واقتبس لتأملاته حول الإنسان عبارة القديس أوغسطين التي وردت في اعترافاته: «قلقا سيبقى قلبنا، حتى يجد الراحة فيك.» فقد عمد في هذه المرحلة المتأخرة إلى دمج الإله المسيحي المشخص داخل الإنسان أو في كيانه الباطن. لم يعد الإنسان إذن مجرد «معبر» أو كائن «بيني» يتحرك دائما على الطريق إلى ذلك الإله المشخص، كما سبق القول، بل أصبح هذا الإله في تقديره «صيرورة» متصلة تتحقق، وتبلغ الوعي بذاتها داخل الشخص الإنساني الفرد والتاريخ البشري العام (وهي فكرة تأثر فيها بغير شك بفلسفة اسبينوزا وهيجل، وربما بصوفية يعقوب بوهمه وغيره). وكان من الطبيعي أن يستنكر العالم الكاثوليكي تلك النتيجة التي انتهى إليها بعد انفصاله المفاجئ عن الكنيسة، وأن يرجح الجميع خيبة أملهم في فيلسوفهم السابق لأسباب واضطرابات شخصية ألمت بحياته. كانوا قد عقدوا عليه الأمل في تحقيق نوع من التناسق أو الوفاق بين العقيدة المسيحية عن الإله المشخص ، وبين مستجدات العصر الحديث في الفلسفة والعلم، وكان هو نفسه بفلسفته الشخصانية قد أتاح للكاثوليكية أن تتمسك بعقيدة الإله المسيحي المشخص كما تبلورت في اللاهوت المسيحي، وجعلها تشارك في الوقت نفسه في تيارات الفكر المعاصر، التي لا تلتزم بالضرورة بذلك التراث الوسيط. وكان شيلر قد رجع إلى صيغة لاهوتية مدرسية معروفة، ومقررة لدى الكاثوليكية ذات التوجه للتراث الوسيط، كما وقف ديكارت أب الفلسفة الحدثية وقفة طويلة عندها، وهي صيغة الخلق الإلهي المتصل
23
للعالم ورعايته، وحفظه في كل لحظة من خلال الروح أو العقل الأبدي، وكان هدفه من ذلك هو الربط بين تلك الصيغة وبين المذهب الكاثوليكي. لكن يبدو أن النقلة إلى تلك النتيجة التي أشرنا إليها، لم تحتج منه إلا إلى تغيير طفيف في منظور الرؤية لكي يقفز إلى ذلك الاعتقاد الذي أغضب الكنيسة، ويصور «الخلق المتصل» على صورة صيرورة مشتركة للعقل والعالم معا، ويصل إلى تلك النتيجة التي انتهى إليها وظل متمسكا بها في سنواته الأخيرة عن صيرورة الإله المسيحي المشخص داخل الشخص الإنساني الصائر أيضا على الدوام (وهي في تقديري فكرة مخيفة ومرفوضة من كل مؤمن بالواحد الأزلي الأبدي، المنزه عن التحول والتغير، والذي ليس كمثله شيء، فضلا عن أن المجتمع الكاثوليكي نفسه قد أدانها بشدة، واعتبرها عقيدة ضالة وخاطئة).
والواقع أن هذا التطور الخطر لم يفاجئ المتابعين لفلسفة شيلر وبحوثه، التي نشرها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى في الأخلاق والقيم. إننا نجد في هذه البحوث المتنوعة إشارات دالة على تصوره للإنسان، كما سبق القول، كحد أو «بين» أو «معبر» إلى الوجود والعقل الإلهي المطلق، بل على اعتبار أنه «ظهور إلهي» في تيار الحياة، وتجاوز أبدي للحياة فوق ذاتها، حتى وصلت المبالغة إلى حد القول بأنه - أي الإنسان - إله مصغر (أو ميكروثيوس). لم يكن عنده مجرد كائن يصلي لله، ويبحث عنه على الدوام، وإنما هو الصلاة نفسها أو التعبد ذاته، أو هو الكائن المجهول (س)، الذي لا يفتأ باحثا عن الله. ولعله في تلك المرحلة السابقة قد اقترب من التصوف وشعرائه الكبار في الشرق والغرب، عندما عثر على هذه الصورة المعبرة عن علاقة الإنسان بالله؛ فهو كما يقول: «هو البحر، والبشر هم الأنهار، والأنهار تشعر سلفا ومنذ أن تنحدر من المنبع بالبحر الذي تسيل نحوه.»
24
ثم يصل بنا شيلر إلى تحديد أدق للفكرة المتجذرة في شعوره وإحساسه بالحياة، التي تقوم - كما رأينا من قبل - على الصراع الدائم بين قطبي الدافع والعقل؛ فالأقوى في نظره، والأشد قربا من الواقع المباشر، ليس هو الأسمى؛ أي العقل، بل هو الأدنى؛ أي الدافع. أما العقل فهو بالقياس إليه ضعيف عاجز؛ أي إن الأصل أن يكون الأدنى هو الأقوى، «والأسمى» هو الأضعف. والعقل لا يكتسب القوة إلا عن طريق عمليات الإعلاء التي يقوم فيها بإضفاء المعنى والقيمة على الدافع، وتقديم الأبنية الفكرية إليه؛ حتى يتسنى له (أي للعقل) أن يحاول ترويض جموحه الشيطاني الأعمى، وقيادته وتوجيهه وتعقيله؛ لأن القيادة والتوجيه والإعلاء من صميم الأفعال التي يستطيع العقل وحده تحقيقها؛ لأنه هو قائل «لا» الدائم للحياة والواقع، وهو - كما سبق - هو مجرد الواقع من الواقعية. وعلى ضوء هذه الفكرة المحورية يفهم شيلر التاريخ بوصفه عمليات إعلاء مستمرة؛ أي إنه على الدوام تاريخ الصراع الدائر بين الدافع الحيوي الأعمى من ناحية، والعقل الفاعل والمقيم والمفكر والرافض أو النافي لواقعية الواقع من ناحية أخرى، مع العلم بأن كليهما مندمج في الآخر وملتحم به على الدوام. ولولا هذا الصراع الذي لا يتوقف بينهما ما تقوى العقل الضعيف العاجز من الأصل، بل ما استمر على حيويته وفعله الإعلائي الدائب عبر تاريخ الشخص المفرد، والتاريخ البشري العام. ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن حياة العقل وقوته هما في النهاية الهدف الأخير من وجودنا المتناهي، ومن كل حدث تاريخي متناه. هكذا يرتبط كل من التاريخ الشخصي البشري، وينفتح أحدهما على الآخر
25
عبر صراع الصيرورة الأبدي. وهكذا أيضا نجد في كتاباته ورسائله المتأخرة إلى حبيبته وزوجته السابقة، ما يؤكد - على الرغم من انفصاله عن المؤسسة الكنسية، التي ظل مؤمنا بدورها الكبير في الحفاظ على أعز ذكريات التراث المسيحي الغربي، والتي اعتبرها آخر الأساطير الكبرى في ذلك التراث - نجد ما يؤكد طمأنينة وعمق إيمانه ب «إلهه الخاص»، الذي يصير في داخله مع كل نبضة قلب، وكل نفس يدخل أو يخرج من صدره. وهو يتمسك بهذا الإله، ويترك له أمر رعايته وهدايته، ويستمد منه ثقته وإيمانه بانتصار الخير، وذلك كما سبق القول على الرغم من استنكار المؤسسة الدينية
26
وسخرية أتباعها من الفيلسوف وتحوله المفاجئ.
كان من الطبيعي أن يحتشد شيلر لإتمام بنائه الفلسفي بالميتافيزيقا، أو الفلسفة الأولى بتعبير أرسطو، وكان من الطبيعي أيضا ألا تنفصل هذه الميتافيزيقا عن الحياة العينية، والصراع المستمر الدائر فيها بين الدافع والعقل. وها هو ذا بعد أن انتهى - ولو بصورة مؤقتة! - من أنثروبولوجياه الفلسفية، وبعد أن شهد طبعتها في الكتاب الصغير «وضع الإنسان» الذي في الكون، كتب مقدمته في نهاية شهر أبريل سنة 1928م؛ أي قبل موته بأقل من شهر واحد. كان من طبائع الأمور أن يبدأ في تدوين خواطره وتأملاته الميتافيزيقية، التي كانت بعض بذورها وخيوطها كامنة في نسيج المرحلة المبكرة من فلسفته في الأخلاق المادية والقيم. لم يسعفه الأجل لإكمال ميتافيزيقاه، وعثر راعيا تراثه، وناشرا أعماله الكاملة - زوجته الثالثة ماريا شيلر، والأستاذ مانفرد فرنجز - على شذرات ناقصة، وصفحات وتخطيطات متناثرة، رتبها «فرنجز»، ونشر مخطوطاتها الباقية سنة 1979م في المجلد الحادي عشر والأخير من الأعمال الكاملة.
وسوف نرى من العرض الموجز لهذه الميتافيزيقا أنها مرتبطة من ناحية أشد الارتباط بصيرورة الشخص الإنساني الفرد من ناحية (وقد عرفنا أنه هو الكائن المحب المتعاطف، وحده مركز أفعال الفكر والقيمة، وأنه كون مصغر ومعبر وطريق متجه نحو الأساس الأعلى للوجود المطلق من ناحية، ومن ناحية أخرى نحو التاريخ البشري العام، الذي يمثل مسرح الصراع المتصل بين قطبي الوجود، وهما الدافع والعقل، في رحلة درامية دائمة، وكفاح فردي وجماعي مستمر لانتصار العقل والخير، وسائر القيم المادية القبلية التي تقوم على أساس عاطفي وانفعالي).
كان آخر مقال كتبه الفيلسوف، ونشره بنفسه قبل رحيله ، وهو «الرؤية الفلسفية الشاملة للعالم»، أشبه ببرنامج يمهد فيه ل «معمار» الميتافيزيقا،
27
التي أراد إتمامها، وطالما شكا منذ سنة 1920م من صعوبة العمل فيها جنبا إلى جنب الأنثروبولوجيا. والواقع أن هذا المقال يؤكد الارتباط القوي بين الأنثروبولوجيا والميتافيزيقا، ويكفي لبيان ذلك أن نقرأ فيه العبارات التالية: «إن الانطلاق من ماهية الإنسان، وهو المبحث الذي تدور حوله الأنثروبولوجيا الفلسفية، هو الذي يجعل من الممكن، كامتداد لأفعال العقل التي تنبثق أصلا من المركز الإنساني، استخلاص حكم نهائي على الخصائص الحقيقية للمبدأ الأعلى للأشياء.»
28
وهكذا يعتمد الحديث عن الشذرات المجتزأة، والصفحات التي تركها وراءه، وضمنها الخطوط العامة للميتافيزيقا التي لم يسعفه الأجل المحتوم لإتمامها، يعتمد إلى حد كبير على النتائج التي توصل إليها من كتاباته عن الأنثروبولوجيا والتاريخ البشري العام، وغيرهما من البحوث المتصلة بالإنسان، بل يمكن أيضا - كما سبق القول - أن نرجع إلى الخيوط والبذور الكثيرة المنثورة في كتاباته المبكرة عن الأخلاق والقيم.
لم يكن إمكان بناء الميتافيزيقا، أو بالأحرى إعادة تأسيسها من جديد، في نظر شيلر مجرد مسألة أكاديمية خالصة، وإنما كان ضرورة ملحة تحتمها مآسي الحرب العالمية الأولى التي عاصرها، وعاين بنفسه مدى الفوضى الاجتماعية، وانهيار القيم الذي جرته ويلاتها على بلاده، كما كان بينا من ناحية أخرى ضرورة يحتمها تطور العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية، التي راح يتابعها بكل ما يستطيع من صبر وأمانة. وليس من المستغرب أن نجد الشخص الإنساني بوصفه نسقا منظما، ووحدة حية من الأفعال العقلية والقيمية، يحتل مكان المركز من الميتافيزيقا، ويصبح هو المدخل الأساسي إلى الوجود المطلق. لقد كان الإنسان عنده، إذا جاز هذا التعبير، نقطة عبور إلى المطلق، ومجرد كائن «بيني» على الطريق إليه، فصار الآن متجذرا بصورة مباشرة في هذا الوجود الأبدي، أو هذا الروح المطلق. والإنسان - ككائن حي تحركه الدوافع - متجذر فيه بصورة أصيلة، ومشارك في صيرورة العملية الكونية بأسرها نحو الله. ونحن ندرك وحدة التجذر لجميع البشر، بل للكائنات الحية بأكملها في هذا الاندفاع أو الدافع الإلهي، من خلال «الحركات الكبرى» للتعاطف والحب، وفي كل أشكال الشعور بالتوحد الكوني. ذلك هو الطريق الذي يسميه شيلر بالطريق «الديونيزي» إلى الله. ويترتب عليه أن الإنسان لا يمكن أن يكون «مجرد محاك بعدي» لبناء كوني مسبق، شيدته الفلسفة القديمة أو الفلسفة الوسيطة (كما نجد في نظرية المثل لأفلاطون، أو في نظرية العناية الإلهية)، وإنما هو مشارك في البناء والتأسيس والتحقيق لصيرورة مثالية متصلة وكامنة في العملية الكونية، وفيه هو نفسه.
وتأتي إلى العلوم الحديثة، وتقسيم شيلر السابق لها إلى ثلاثة أشكال أساسية، هي: المعرفة التي يوجهها النزوع إلى الهيمنة والسيطرة (وتمثلها العلوم الوضعية التي تقوم عليها الحضارة الغربية)، والمعرفة الثقافية (المتعلقة بالتثقيف والتهذيب، سواء في الفنون والآداب أو في العلوم الإنسانية)، والمعرفة الهادفة إلى النجاة والخلاص (وتقوم على أساس الإيمان في كل الأديان). ونلاحظ في هذه المرحلة المتأخرة من تفكير شيلر أنه يعدل في هذا التقسيم، فيجعل المعرفة الموجهة للخلاص معرفة ميتافيزيقية، ويدمج الفعل الديني - سواء في العبادات أو في الممارسة «العملية» - في ميتافيزيقا المطلق. وهذه المعرفة تتطلب في رأيه أو تتجاوب مع نوع من التفاني الديونيزي، الذي يتمثل في الشعور بالتوحد مع الدافع؛ أي مع القطب الأول لعملية الصيرورة الكونية والبشرية، المتجهة نحو المطلق، والمشاركة فيه؛ وبهذا يصبح المبدأ أو الأساس الكوني دينيا بقدر ما هو ميتافيزيقي.
بهذه النظرة الجديدة يراجع الفيلسوف تقسيمه للعلوم، فيضيف إليه معرفة جديدة يسميها المعرفة بالماهيات. وهي ليست معرفة جديدة على كل حال؛ إذ تشمل عند أرسطو الميتافيزيقا كلها، أو ما سماه بالفلسفة الأولى، بينما تشغل عند شيلر جزءا واحدا من الميتافيزيقا، كما تتصل اتصالا وثيقا بأسس العلم، وما يتعلق بحدوده وماهيته وغايته؛ أي باختصار بما بعد العلم.
والمعرفة بالماهيات لا شأن لها بالهيمنة أو السيطرة، التي هي هدف العلوم الوضعية. إن هدفها هو التوصل لماهيات الأشياء نفسها، لا السيطرة عليها كما دعا إلى ذلك بيكون مع بداية العصر الحديث، وتابعته الحضارة الغربية العلمية والتقنية حتى يومنا الراهن. فلسفة الظاهريات والهدف الأسمى من كل مناهجها الدقيقة، ليست سوى سلوك أو فعل يحركه الحب والتعاطف لإدراك ماهية العالم؛ أي الأفكار والمبادئ والظواهر الأولية التي تقوم عليها، أو تكمن فيها ماهيته.
29
ونحن حين نطبق هذه المعرفة الماهوية على العلوم الوضعية التي تسعى للهيمنة والسيطرة على الأشياء، فإنما نحاول معرفة الافتراضات أو المبادئ والمصادرات الأولية التي تقوم عليها تلك العلوم. بهذا نربط المعارف التي توفرها العلوم الوضعية والعقلية بوجه عام بالفلسفة الأولى ونظم القيم الأخلاقية؛
30
أي بالميتافيزيقا العامة التي تنصب في هذه الحالة على بحث حدود هذا النوع من المعرفة. هذه الميتافيزيقا يصفها شيلر بأنها تمثل المستوى الأول، ويتم فيها السؤال عن ماهية الحياة والمادة ... إلخ، ومن خلال هذه الميتافيزيقا وحدها تنتقل إلى ميتافيزيقا المستوى الثاني؛ أي ميتافيزيقا المطلق نفسه.
ولا بد من الانتباه هنا إلى وجود نسق فلسفي تزداد أهميته والاهتمام به في الوقت الحاضر، ويشغل مكانا وسطا بين ميتافيزيقا المشكلات الحديثة للعلوم المختلفة (كالرياضيات والفيزياء وعلمي الحياة والنفس والقانون والتاريخ) وميتافيزيقا المطلق. هذا النسق الهام هو الأنثروبولوجيا الفلسفية. إن سؤالها الأساسي هو السؤال الذي جعل كانط (في محاضراته عن المنطق) يلخص فيه بقية الأسئلة الفلسفية الكبرى (عن حدود المعرفة الممكنة، والأمل في الخلود، ومبادئ السلوك الأخلاقي)، بحيث تصب جميعها فيه وتلتقي عنده، وهو: ما هو الإنسان؟
31
هكذا يبدأ بناء الميتافيزيقا - إذا جاز التعبير - من أسفل؛ أي من التجارب الواقعية المباشرة، التي تحصلها الرؤية الطبيعية الشاملة للعالم، بالإضافة إلى المعارف التي توفرها العلوم الدقيقة بمجالاتها المختلفة، ثم يتناول التأمل الفلسفي فروضها وحدودها وغاياتها ... إلخ، فينشأ من ذلك العلوم البعدية التي تؤلف في مجموعها المستوى الأول للميتافيزيقا (ما بعد الفيزياء، ما بعد البيولوجيا، ما بعد الرياضيات ... إلخ). أما المستوى الميتافيزيقي الثاني؛ أي ميتافيزيقا المطلق، فينهض على أساس الأنثروبولوجيا الفلسفية وجميع العلوم البعدية ونظم القيم الأخلاقية، وذلك من خلال عملية منهجية يسميها شيلر بالاستخلاص أو الاستنتاج الترنسندنتالي (المتعالي)، وتقود كل إنسان إلى حقيقته الميتافيزيقية الخاصة به. من ثم يكون من الضروري أن يقوم مبحث الأنثروبولوجيا الفلسفية على مبحث الميتافيزيقا، وأن يهتم الفيلسوف بمستويات هذا البناء اهتماما متساويا، بحيث لا يقتصر على ذروة هذا البناء؛ أي على ميتافيزيقا المطلق وحدها. والسبب في هذا بسيط، فهو لا يقف جهوده على المنهجيات والتحليلات النظرية والمعرفية كما فعل هسرل، الذي اتهمه شيلر بأنه «يشحذ سكاكينه باستمرار دون أن يأكل شيئا!» إن المشكلات والمعارف والقيم المادية هي التي تعنيه بالدرجة الأولى، وهي التي يحرص على متابعة ظهورها في السياق التاريخي وارتباطها به، وبغير هذا لا يمكن أن نفهم طبيعة المستوى الأول من بنائه الفلسفي ولا ضرورته، ونقصد به مستوى معارف العصر وعلومه البعدية، بل جميع ألوان المعارف البشرية التي نهمل في العادة بحث «بعدياتها»، وإدراك أهمية أسئلتها ومشكلاتها. ولا يقتصر هذا الإهمال على العلوم الوضعية، كذلك على سائر العلوم الإنسانية التي لا تقف كثيرا عند هذا الجانب البعدي المتصل اتصالا مباشرا بالمستوى الأعلى للميتافيزيقا؛ أي بالمطلق وبالأساس الأول والأخير للوجود؛ ومن ثم تقصر في حق المعرفة الكلية الشاملة، أو الحكمة العالمية كما سماها القدماء.
يؤكد كل ما سبق أن الأنثروبولوجيا الفلسفية أو الميتافيزيقية، هي النقطة التي تلتقي فيها العلوم البعدية؛ ذلك أن الإنسان هو الموضوع الأول والأثير للتجربة الميتافيزيقية، وتحديد ماهيته وأصله هي القضية الأولى أو هي السؤال الأول والأساسي الذي تتلاقى عنده كل القضايا والأسئلة الميتافيزيقية الأخرى. فالإنسان «حالة» لا تنفك العلوم المختلفة تتناولها من زواياها المختلفة، سواء كانت هذه العلوم هي الميكانيكا والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو كانت هي علوم النفس والتاريخ والأثنولوجيا واللاهوت أو علم أصول الدين، وذلك بقدر ما في الإنسان من قبس إلهي أو من عنصر أبدي. فالإنسان - كما سبق القول - «كون مصغر»، أو هو بمعنى من المعاني كل شيء كما يعبر عنه المفهوم اللاتيني القديم. بهذا نستطيع أن نقول إن الدراسة الميتافيزيقية للإنسان لا تقتصر على الإنسان وحده، بل تمتد إلى الكون بكل دوائر وجوده ومستوياته، سواء كان هو الوجود «الفعلي» الذي ندركه في فعل المقاومة الإرادية المباشرة للواقع، أو الوجود «الكيفي» الذي نعيه من خلال الانفعال والمعاناة، أو من خلال ما يسميه شيلر - كما رأينا - بفعل الرد الماهوي المتسم بطابع الزهد في الواقع؛ أي الذي نضعه بين قوسين ونقول له «لا»؛ لنجرده من واقعيته، ونستخلص ماهيته؛ أو في الوجود القيمي؛ أي المحمل بالقيمة، الذي يتضح لنا كما سبق القول عن طريق الشعور، ومن خلال الحب والتعاطف؛ إذ إننا، كما قال القديس أوغسطين، لا نعرف إلا ما نحب.
وأخيرا فإن المشاركة المزدوجة للإنسان في أساس الوجود المتناهي ومبدئه نفسه، وفي الدافع الإلهي والروح أو العقل الإلهي، إلى حد التماهي معه في هوية جدلية دائمة، ذلك هو الذي يسمح بقيام الميتافيزيقا، ويجعلها ممكنة. لهذا لم يكن عجيبا أن يوصف الإنسان بأنه كون مصغر، وأن يشتط الفيلسوف في نزعته الوحيدية، فيزعم أنه - أي الإنسان - ألوهية مصغرة. وقد سبق أن ناقشنا هذا التعبير، وبينا بطلانه واستحالته من وجهة النظر الدينية نفسها؛ لأن أقصى ما يمكن قوله إن في الإنسان شعاعا من القبس الإلهي. أما القول بالهوية أو التوحد بالحلول - سواء من وجهة نظر صوفية موغلة في التطرف كما فعل الحلاج أو غيره، أو من وجهة نظر القائلين بوحدة الوجود كما نجد عند اسبينوزا على سبيل المثال لا الحصر - فذلك زيغ وضلال، لا يستقيم مع الرؤية الجدلية للمطلق التي تذهب على حد تعبير الفيلسوف نفسه إلى أن الإنسان على الطريق إلى الله، وأن سعيه متجه إليه وحده.
هنا ينبغي أن نوضح أن الإنسان الذي نقصده ليس هو الإنسان الفرد وحسب، وإنما هو الإنسان المنغمس في التاريخ، والإنسان الذي صنع التاريخ كما صنعه التاريخ. فالتاريخ هو العملية التي تقوم ب «فرز» وتحديد إمكانات «الدافع والعقل»، وتحقيقها خلال الزمن وعبر الحضارات المختلفة، غير أننا لا نستطيع أن نقول بأي نوع من الحتمية التاريخية، وتظل شوكة السؤال عبر الأجيال حادة بقدر ما هي مؤلمة: هل يتطور التاريخ البشري إلى الأفضل، وهل يمكن أن ينتصر فيه الخير ويتحقق العقل؟ ذلك للأسف شيء لا يقين فيه. كل ما نملكه هو أن نسعى إليه ونأمل فيه. ولو قدر للفيلسوف الذي عاصر مجازر الحرب العالمية الأولى أن يمتد به الأجل سنوات قليلة لكي يعاصر الجحيم النازي ورعيه وشره، ثم ما تلا هذه الحرب من مآسي الظلم والعدوان والهمجية والإرهاب باسم القضاء على الإرهاب! أقول لربما كان الفيلسوف قد هرب إلى البرية يصرخ فيها، أو رجع للكاثوليكية مرة أخرى، ولجأ إلى دير يتبتل فيه، أو كف على أقل تقدير عن التطلع إلى أي رجاء أو عزاء! لكنه مهما كان رد فعله على مآسي العصر ومجازره، ومقابر الجماعية وطغاته وسفاحيه الكبار والصغار، كان سينكر أي حتمية في التاريخ البشري، ولعله كان سيرجع إلى التزامه الأخلاقي السياسي الذي حرك إبداعه الفلسفي على الدوام، فيردد هذه العبارات التي دونها قبل رحيله بقليل في إحدى شذراته المتناثرة: إن قيمة التاريخ ومعناه لا يكمنان في حال البداية كما تصور الرومانسيون، ولا في النهاية الأخيرة، كما يحلو للمتنبئين والمتطيرين أن يتخيلوها! وإنما تكمنان في التعاون المثمر للأجيال والعصور والشعوب والأجناس والحضارات، خلال الأحقاب جميعا؛ التعاون على المشاركة في تحقيق الخير والقيم العليا.
32
وهي بطبيعة الحال مشاركة يحركها الحب والتعاطف مع البشر الذين نحيا معهم في زمن واحد وعلى أرض واحدة، كما يدفعها الإحساس بالمسئولية أمامهم وأمام العالم الذي هو في صميمه تاريخ، وتجاه التاريخ البشري العام بأسره، شريطة ألا تجف الآبار الحية - إذا صح هذا القول - من الخير والحب والتعاطف، وألا تملأها الأحداث والأزمات والتطورات السلبية المفاجئة، بأفاعي الكراهية وعقارب الحقد والشر وسوء الفهم، التي لم تتوقف وربما لن تتوقف أبدا عن نشر السموم، وإشعال حرائق الجحيم التي تلتهم العقل والقيم ودوافع الحياة المباشرة نفسها كلما استطاعت. وكل هذا يؤكد أن العوامل الواقعية والمادية والدوافع الحيوية، هي الأسس التاريخية التي يشيد عليها بناء الميتافيزيقا، وإن لم يكن في وسع العقل ونظم القيم إلا أن تحاول توجيهها نحو الخير ونحو المطلق، دون أن نستطيع أبدا أن نقلل من جبروتها وواقعيتها، ولا أن تكون بديلا عنها.
أنا أحيا ولا أدري إلى متى يمتد بي العمر، وسوف أموت وإن كنت لا أعلم متى، وأنا في سفر دائم ولا أعرف إلى أين، مع ذلك يدهشني دوما أني مبتهج وسعيد.
يقول مؤرخ سيرة «شيلر» إن هذه الأبيات فيما يبدو قد صحبته طوال العمر، وإذا كان قد كتب في رسالته المبكرة للدكتوراه هذه العبارة «لم يعد أحد يعرف أو يشعر بأنه سيموت لا محالة موته الخاص»، فالعجيب أن هذه العبارة إن كانت تصدق على غيره من الناس، فإنها لا تصدق عليه أبدا؛ ذلك أنه - فيما تقول زوجته الأخيرة وراعية تراثه الأمينة ماريا شيلر، في تقرير شامل كتبته في سنة 1947م - قد خالجه الحدس بموته الخاص خلال العام الأخير من حياته. يشهد على هذا اندفاعه المحموم إلى الكتابة، ولهاثه وراء تدوين أفكاره الكبرى عن ميتافيزيقاه التي لم يدون منها سوى شذرات مشتتة، وكأني به قد أحس - وقلبه دليله - أنه يحاول أن يبني عمارة ضخمة من بضع أكوام متناثرة من الرمال والأحجار والهياكل المبتورة.
ظل الفيلسوف يكتب ويكتب حتى فاجأته نوبة قلبية حادة، بعد منتصف الليلة الفاصلة بين الثاني عشر والثالث عشر من شهر مايو سنة 1928م، وفي مدينة فرانكفورت على نهر الراين، التي كان قد لبى دعوتها للتدريس بجامعتها قبل موته المباغت بشهور قليلة. كان طبيبه المعالج قد أسر في أن زوجته تنتظر طفلا منه، لكنه لم يعش حتى يرى الولد الذي طالما اشتاق لرؤيته؛ إذ شاء القدر أن يفتح ابنه - ماكس جورج شيلر - عينيه على نور هذا العالم في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر، من نفس العام الذي مات فيه أبوه ودفن جثمانه في مدينة كولونيا على نهر الراين.
وألقى صديقه الباحث الكبير وعالم الرومانيات «إرنست روبرت كورسيوس» خطبة الوداع على قبره، بالنيابة عن نفسه وعن أصدقاء الفقيد: «إن الأصدقاء لمحزونون على الإنسان الذي غمرت طيبته السخية حياتهم بثروة لا تقدر. نحن، أصدقاءه، نحفظ صورته في قلوبنا؛ فقد كان من حسن حظنا أن تدرك نظرته المتعاطفة كل ما يكمن في شخصياتنا من إمكانيات وقيم. لم يقدم تحليلا لنفوس أصدقائه، وإنما أعطاهم تفسيرا بناء لحقيقة وجودهم. وكل من اقترب منه ودخل معه في حوار، قد عرف نفسه بصورة جديدة، وشعر بأن هناك من يعرفه بطريقة مدهشة وغير مسبوقة، وأنه قد استنار بدفء موقده العقلي والروحي. بذلك اتسع أفق حقيقته واتضح، وارتفع وسما بفضل إشعاع عبقريته التي تجلت بقوة في إحساسه وفي تفكيره على السواء.»
هوامش
حديث معه
في الذكرى الثالثة لرحيل زكي نجيب محمود
تمهيد
لم يكن هذا هو أول ولا آخر حديث معه، وإن كان الوحيد الذي خطر لي أن أسجله على الورق. كنت أحس دائما منذ أن استمعت إلى محاضراته في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أن هناك شيئا حميما يقربني منه، وربما يميز صلتي به عن غيري من زملائي الكرام، ذلك هو الوصف الذي أطلق على أبي حيان التوحيدي، وعليه (وتعطف البعض، كرما منهم أو إشفاقا، فأطلقوه علي!) وأختزل في هذه العبارة المخلة التي تعجز عن الدلالة على عذاب الصراع المحتدم في كيان من قدر عليه أن يحاول التأليف بين الضدين، والسير على الحبلين الخطرين، ويجرب الحياة - كما تقول عبارة هيدجر - على قمة جبلين متجاورين ومنفصلين في وقت واحد: «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء». ولعل الأستاذ قد شعر منذ أن بدأ الفتى يقدم إليه بعض قصصه الرديئة وأشعاره الساذجة، أن مزاجه وتكوينه أقرب إلى الفلاسفة الشعراء والشعراء الفلاسفة منه إلى المناطقة والوضعيين، الذين كان يحاول ما وسعه الجهد والحماس والإخلاص أن يقنع بهم طلابه (إن أنس لا أنسى كيف كنت أقف أمام باب القاعة الصغيرة التي تعود أن يلقي فيها دروسه، وكيف كان يوقف عقارب الساعة التي لم تختل طوال ستين عاما من حياته وعمله المنظم لكي يناقش ويشجع الشاب - المتعثر في خجله الريفي ورومانسيته الخائبة - في الأوراق التي اهتم غاية الاهتمام بقراءتها له).
ومرت الأيام والأعوام، وأصبح الفتى أستاذا في نفس المكان الذي شهد كفاحهما العلمي وأحزانهما الشخصية (طعنني زملاء توهمت يوما أنها ذخر البقية الباقية من العمر، وعضني تلاميذ وأبناء أعطيتهم تعب العمر). في هذه الفترة من منتصف الثمانينيات كان من الطبيعي أن يسعى الفتى الكهل إلى أستاذه الشيخ، كما سعى الحواريون والمريدون إلى حكماء الشرق القديم، أو إلى أئمة العلم والفضل من أسلافنا؛ ليتبادل معه الحوار عن أزمة تعليمنا ومحنة وجودنا. وكان ما كان فاستجبت لدعوة كريمة من جامعة الكويت، وكان أول ما فكرنا فيه - مع زميلي العزيزين عزمي إسلام رحمه الله وأرضاه، وعبد الله العمر مد الله في عمره، وبرعاية كريمة من فؤاد زكريا - أن نحرر كتابا نكرم به - مع إخواننا وأبنائنا - أستاذنا المشترك وقدوتنا العليا، بحيث يكون - كما قلت في الكلمة التي صدرت بها الكتاب نيابة عن لجنة إعداده - زهرة حب وعرفان ووفاء من غرس يديه، نقدمها إليه في زمن عز فيه الوفاء والاحترام والعرفان. وظهر الكتاب بفضل جريدة «الوطن» تحت عنوان «زكي نجيب محمود، فيلسوفا وأديبا ومعلما»، وعندما سلمه إليه المرحوم عزمي إسلام - قبل أيام قليلة من وفاته المفاجئة في خريف عام 1987م - قال له المعلم مبتسما: «جاءت من الكويت، ولم تجئ من مصر.» لكن الكتاب نفسه ينطق بأفصح لسان: لقد جاءت من تلاميذك وتلاميذ تلاميذك العرب إلى «حكيم العرب».
توخيت في هذا الحديث أن يبتعد بقدر الإمكان عن التخصص الحرفي ومصطلحاته الفنية ومشكلاته العسيرة، وأن يتناول قضايا عامة تهم الرجل العادي الذي يعلم الجميع أنه يدين لزكي نجيب محمود - وبخاصة في مقالاته المتأخرة التي نشرها على مدى سنوات ب «الأهرام» - بفضل تبسيط الفلسفة وتقريبها منه، وإشاعة الوعي بإشكالاتها التي هي في النهاية إشكالات حياته العقلية وحياة مجتمعه وثقافته ومستقبله، وذلك بأسلوبه البليغ العذب الذي ينبض بالعاطفة الصادقة والوضوح الناصع والصور الفنية الحية، كما يشهد على تمكنه من تاريخ الفكر الفلسفي وأدواته المعرفية الدقيقة، وحرصه الدائم على إشراك قرائه في التفكير معه في أصعب قضايا فلسفة العلم ومذاهب المعاصرين ومقومات العصر الذي نعيشه؛ لعل ذلك يتمخض في النهاية عن «مشاركتهم» فيه بالوعي والنقد والإبداع، لا بالوقوف موقف المتفرج والمستهلك والمتباهي بأزياء يستعرضها دون أن ينسج منها خيطا واحدا! وقد اهتم الحديث بنقاط قليلة أستأذن القارئ في إلقاء شيء من الضوء عليها:
فهو يبدأ بالسؤال عن «المقال الفني» الذي ارتبط باسمه، وتفرد به، واتخذ على يديه شكلا يذكرنا من ناحية بنماذجه المكتملة منذ «مومنتني» و«بيكون» وكتاب المقال الإنجليز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما يدلنا من ناحية أخرى على مدى تطوره في أدبنا الحديث، من نظرات المنفلوطي ومقالات الرافعي والزيات والعقاد وغيرهم حتى المازني بوجه خاص. والجدير هنا بالتأمل أن المقال الفني - الذي أمتعنا به منذ أن بدأ في نشره في منتصف الثلاثينيات في مجلة «الثقافة»، واعترف بأنه يمثل «العصب» الحقيقي لفكره وأدبه - قد كاد ينقرض من حياتنا. لقد اغتصب مكانه المقال- البحث، والمقال-المعلومة،
اهتمام النقد الأدبي، وأولاها بالبعث والإحياء.
ويتطرق الحديث لصيغة «الأصالة والمعاصرة»، التي طالما اتهمت بالتوفيق أو التلفيق، وتعرضت لانتقادات عدد كبير من مفكرينا الذين نعتز بهم (مثل فؤاد زكريا وعابد الجابري ومحمود العالم وأحمد صبحي)، وتحولت في صورتها التعميمية المختزلة إلى أحد الأكليشيهات المملة، التي لا نسأم ترديدها وكأنها الخرزة السحرية التي ستجيب على كل الأسئلة، وتفتح مغاليق الأسرار الغامضة بمجرد أن تلوكها الأفواه. وفي ظني أن الإشكال الذي تتضمنه، والذي لم يتوان المعلم الكبير عن الخوض في تنويعاته التي لا حصر لها، ما فتئ قائما منذ عصر التدوين والترجمة، إلى بدايات نهضتنا الحديثة، وحتى اللحظة الحاضرة، لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه علينا هو: هل نحقق مضمونها أو مشروعها أو طموحها عن طريق التنظير والثرثرة والقواعد الهابطة «من فوق» على رءوسنا، أم عن طريق الفعل والتجربة المباشرة والإبداع (الذي لا نكف عن الكلام عنه)؟ وهل استطعنا حقا - أو بدأنا حقا - في معرفة تراثنا وفهمه ودراسته ونقده، لكي يتسنى لنا «تضفيره» في تراث العالم المعاصر، الذي عجزنا كذلك عن استيعابه وقراءته قراءة صحيحة، بدلا من الاستعراض والادعاء والانبهار به، أو نقله نقلا أعمى بغير نقد ولا تمحيص؟ إن المتفلسف العربي يمكنه أن يتعلم الكثير من زميله الفنان التشكيلي، ومن القاص والكاتب المسرحي، ومن عديد من «الأصلاء» في ميادين العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية، وفي العمارة - مثل حسن فتحي - والموسيقى وغيرها، في تجاربهم المستمرة - وربما العفوية - في إنتاج علم وإبداع فن، «يعصر» الأصيل و«يؤصل» المعاصر في عقولنا ووجداننا وتجربة حياتنا الواقعية واليومية. ويسري هنا ما يسري على شعار وجود فلسفة عربية أو عدم وجودها؛ فالأمر هنا وهناك رهن بالتجربة المباشرة والغوص في فعل الإبداع، لا التسكع على شواطئ الثرثرة وفوق رمال التنظير الأجوف. وعندما نبدأ في معرفة تراثنا وتراث الإنسانية معرفة علمية ونقدية دقيقة - هي السبيل الوحيد لإنقاذنا مما نحن فيه (فتكون لدينا طبعات نصوص محققة لتراثنا وتراث غيرنا، نتعلم منها كيف نقرأ ونحلل وننقد، مثل سلاسل النصوص الكلاسيكية والحديثة عند الغربيين؛ لويب وبيل ليتر وتوسكولوم وريكلام وإيفري مان وغيرها)، وعندما نسترد الثقة بأنفسنا، وننتقل من مرحلة رد الفعل إلى الفعل، ونضيق فجوة «الفصام العربي» بين السلوك والمعرفة، ونتخلص من آفة النقل والتكرار، ونغامر بالتفكير النقدي المستقل المتزن، وعندما تتم المراجعة الجذرية للتعليم الفلسفي وغير الفلسفي الذي أصابه التدهور والانهيار، وخرج جيوشا من الدكاترة الذين لا نفع فيهم ولا حظ لهم من أدوات المعرفة أو التفكير أو التعليم (وصدقت كلمة ماركس الشهيرة: المعلمون يحتاجون للتعليم، والمربون يحتاجون للتربية)، عندها يمكن أن نقول إننا بدأنا بالفعل لا بالقول الطريق الصحيح نحو تحقيق الهوية والخصوصية، ونحو تعصير الأصيل وتأصيل المعاصر حتى في أصغر البحوث الجزئية، وليس بالضرورة في أنساق أو «مشروعات» يعلم أصحابها قبل غيرهم أنها قصور وهمية معلقة في السحب والضباب.
لم يتسع المقام في هذا الحديث للتعرض للوضعية المنطقية التي تبناها المعلم الكبير، وتحمس للدفاع عنها في المرحلة الوسطى من تطوره الفكري - ربما إلى حد التزمت والتشدد الذي اتسمت به عند روادها الأوائل - دون أي محاولة جدية لنقدها من الداخل أو من الخارج. ويستطيع القارئ أن يتعرف على هذه المدرسة من الكتاب التذكاري السابق الذكر، أو من أي كتاب عن الفلسفة المعاصرة أو فلسفة العلم. ويهمني هنا أن أقدم الملاحظات المختصرة التالية عن هذا الموضوع :
أولى هذه الملاحظات أن صاحب الذكرى العطرة الطيبة لم يقدم إلا الجيل الأول لهذه المدرسة، التي انطلق أعضاؤها مما يعرف بحلقة فيينا، ومن فلسفة فتجنشتين الأول في رسالته المنطقية الفلسفية الشهيرة، ومن فلسفة رسل ومور التحليلية، كما اعتمد في البداية على كتاب «آير» المعروف «اللغة والصدق والمنطق»، الذي تعرف عليه وعلى صاحبه - كما يقول في «قصة عقل» - أثناء عمله في رسالته للدكتوراه عن الجبر الذاتي (التي تفضل بترجمتها للعربية الزميل الدكتور إمام عبد الفتاح إمام). ومعلوم أن الوضعية أو التجريبية المنطقية تطورت بعد ذلك تطورا كبيرا عند أصحابها أنفسهم - لا سيما كارناب في فلسفته اللغوية والمنطقية المتأخرة - كما تخلى عنها بعض أنصارها القداس من خلال مناقشتهم لمبدأ التحقق، مثل رايشنباخ وكارل بوبر. وغني عن الذكر أن المعرفة الدقيقة بهذه المدرسة أو غيرها مطلب علمي ضروري، مهما رفضنا الأسس التي تقوم عليها أو اتجه بنا الطبع أو الاقتناع وجهة أخرى؛ لذلك فإن من واجب الوفاء أن يواصل الأبناء دراستها في أدق تفاصيلها، ومن حقهم المشروع أيضا أن ينقدوها ويتجاوزوها. ولن يسعد المعلم الحقيقي شيء قدر سعادته باختلاف تلاميذه عنه، بل ونقدهم وتجاوزهم له، على أن يلتزم النقد بالشروط الموضوعية وبأخلاقية العلم وآداب الحوار، وهو أمر شديد الندرة في حياتنا النظرية والعملية.
وثاني هذه الملاحظات أن هدف الراحل الكريم الدعوة لمقولات هذه المدرسة، كان في المقام الأول هدفا تنويريا وإصلاحيا، تنوير «العقل العربي»؛ لكي يميز عبارات تستخدم في مجال العلم أو المعرفة الضرورية العامة الصدق - سواء كانت طبيعية وتركيبية تقوم أو يمكن أن تقوم على التحقق من صدقها بالتجربة، أو رياضية ومنطقية تحليلية تعتمد على صحة الاستنباط من المقدمات وفق قواعد محكمة ومتفق عليها - وعبارات أخرى تتعلق بالوجدان أو العاطفة، ولكنها في رأيهم فارغة من الإشارة إلى مدلول حسي؛ ومن ثم فليست صادقة ولا كاذبة، كالعبارات المستخدمة في مجال الأخلاق والدين والميتافيزيقا والأدب. والخلاصة أن الهدف من هذا التشدد الوضعي المبسط - الذي طالما تعرض للنقد، وثبت بعد ذلك خطؤه من وجوه لغوية ومنهجية وعلمية عديدة - لم ينفصل في النهاية عن هدف حياته ورسالتها الكبرى التي تمثلت منذ البداية في مقالاته الثورية المبكرة، ولم تخمد جمرات غضبها الكظيم في مقالاته وكتبه المتأخرة، بعد تراجع الحماس المبكر للوضعية المنطقية إلى الدعوة للتفكير العلمي وحضارة العلم ومنطقه وعقلانيته، مع التوسع في استخدام منهج التحليل اللغوي-المنطقي لتوضيح الكثير من مفاهيمنا وألفاظنا الغامضة المضطربة.
وثالث هذه الملاحظات أنه يحمد للمعلم الكبير - برغم ثقافته الموسوعية التي تأثر فيها بجيل الرواد وبخاصة العقاد، وبرغم اهتماماته المتنوعة بالفن والشعر والنقد والتاريخ والحضارة - يحمد له التركيز على مدرسة واحدة، والإخلاص العميق لدعوتها. وقد كان المأمول أن تتكون من ذلك مدرسة علمية تواصل جهود الرائد، لكن الرجل كان أكبر من أن يفرض معتقده الفلسفي على أحد من تلاميذه، كما يبدو أن حياتنا العلمية (مع استثناءات معدودة على أصابع اليد الواحدة في بعض العلوم الإنسانية والطبيعية) قد فشلت فشلا ذريعا في تأسيس مدارس واتجاهات محددة مستمرة، وانقطع الموجود منها أو انفرط عقده وهو لم يكد يتخطى مرحلة التأسيس. أقول هذا بعد أن رحل عن دنيانا أقرب وأخلص تلميذين لزكي نجيب محمود، وهما المرحومان عزمي إسلام ومحمود فهمي زيدان. كلاهما تعب في صمت وذهب، وكلاهما عاش متعففا في صمت وذهب، وكلاهما عاش متعففا عن إثارة الغبار والضجيج، مترفعا عن قرع الطبول والنفخ في الأبواق. وليتنا نتوقف هنا قليلا لنتساءل: أهي لعنة خرافية تحكم علينا بألا نواصل بناء أو نتضافر لإنجاز عمل مشترك؟ أم هو مرض قديم، تحمله مورثات خفية وخبيثة ربما منذ حرب البسوس، وتجعلنا نسيء لكل الأفكار العظيمة بمجرد أن تهبط على أرضنا، وتحاول أن تجد لها مكانا فوقها؟ (الاشتراكية حولناها إلى استبداد وتعذيب ونفخ وسجون ومعتقلات وطوابير محرومين مقهورين، والديمقراطية صارت لصوصية وسمسرة وشطارة وثرثرة إعلامية وفسادا وانتهازية على كل الأصعدة، حتى ما كان يعد حتى وقت قريب مقدسا لا يمكن أن تلوثه أو تمس طهارته تلك السموم والظلمات، والفلسفة استحالت لدى البعض سفسطة كاذبة وتجارة رخيصة وزعامة جوفاء وترديدا وتكرارا أعمى أو تخبطا عشوائيا وصياحا غوغائيا بكلمات وشعارات متضخمة تنتمي لأزمنة و«أيديولوجيات» وأفكار تخضع اليوم في العالم كله للمراجعة الشاملة، ويتم تجاوزه بمنهجيات وتقنيات ومقاربات علمية جديدة لم نكد نعرف حتى إلقاءها، حتى التدين السمح العميق الجذور لم يتورع ضعاف النفوس وطلاب الشهرة والسلطة، إما عن استغلاله في نفاق النظم وتبرير وتثبيت الأوضاع الفاسدة، وإما عن تشويهه بالتعصب والتطرف والتخبط في ظلمات الجريمة، والاندفاع المجنون إلى هاوية الكوارث الجماعية، حتى «الحداثة» في السنوات القليلة الماضية، وباستثناء قلة محدودة لا تزال لديها بقية من الضمير العلمي والتمكن المعرفي، صارت استعراضا مربكا للاتجاهات والأسماء والمصطلحات دون تأسيس فلسفي، أو علم بالجذور والأصول، أو محاولة حقيقية للنقد والتأصيل.)
إن ما جرى للوضعية المنطقية - التي انقصف عودها قبل أن تنضج وتثمر - قد ألم باتجاهات ومدارس وتيارات أخرى كانت حرية أن تنمو وتتطور، وينشأ بينها حوار يندي «أرضنا الخراب »، وينعش جونا الخانق المختنق بالسأم والركود والإحباط والجمود. (ولننظر ماذا آل إليه مصير البدايات المخلصة للظاهراتية والوجودية والشخصانية والحدسية أو الجوانية والماركسية والعقلانية النقدية والأرسطية والرشدية والمثالية المعتدلة. ألم تصبح اليوم كتبا تطل علينا من فوق الرفوف كبقايا أطلال، أو جذوع أشجار مقطوعة ومتناثرة في وحشة الخلاء والخواء؟!)
والملاحظة الرابعة والأخيرة هي أن الوضعية بأشكالها التقليدية أو الحديثة، قد ساءت سمعتها وقلت قيمتها في ساحة الفلسفة المعاصرة (وبخاصة في الظاهريات والفلسفات التي خرجت من معطفها)، لكن هل يعني هذا أنها فقدت الحق في دراستها، أو أنها اختلفت من الوجود؟ لا شيء يختفي في الفلسفة - كما علمنا هيجل - بل كل شيء يتحول إلى مستوى آخر أكثر غنى ونضجا. والدارس الجاد يحتاج لمعرفة الوضعية حاجته لمعرفة غيرها من المذاهب والمدارس والاتجاهات. والمهم أن يعمل في صبر ودأب على تربية حسه النقدي الذي لا تستقيم بغيره فلسفة ولا علم ولا حياة واعية، ويبقى النقد بمعناه الشامل هو روح الفلسفة، إذا خلت منه أصبحت جثة هامدة بلا روح، وتلقينا وركاما من المعلومات التاريخية والحقائق المذهبية ترددها الببغاوات الكبيرة والصغيرة ، ويرزح فوق صدور الجميع فيحبس عنهم أنفاس الحياة والتجربة العقلية الحية، ويزيد اغترابهم عن واقعهم واغتراب واقعهم عنهم. ويمكن للوضعية بأشكالها المختلفة أن تكون إحدى المدارس التي نتعلم منها النقد - أي التفلسف الحر - بممارسة التحليل المنطقي للقضايا والمفاهيم والقيم والأوضاع السائدة بغية توضيحها؛ ومن ثم تغييرها عن وعي (كما فعل الراحل العظيم مع كثير جدا من المفاهيم الشائعة في حياتنا)، كما يمكن أن تكون قيدا ونيرا يشل حريتنا ووعينا وتقدمنا؛ فالأمر يتوقف في النهاية علينا نحن. والمهم في هذا كله أن زكي نجيب محمود قد حقق بفلسفته العلمية والتحليلية قدرا لا يستهان به من المهمة التي ننتظرها وينتظرها كل حريص على حاضرنا ومستقبلنا؛ من «توظيف» الفلسفة في نقد واقعنا وتنبيه وعينا وتوطين العقل في حياتنا، بجانب متابعتها لتخصصاتها الدقيقة، وتطوير البحث في نظمها المعرفية المتنوعة؛ وبهذا تكون قد أدت دورها الاجتماعي على يديه «هنا» في مكاننا و«الآن» في لحظتنا التاريخية، وواجهت - بغير ترد في الإعلامية الفجة أو الغوغائية المرتفعة الصوت، وبغير أن نتنكر لحظة واحدة لعلمية الفلسفة ومنهجيتها الصارمة - أشكال «اللاعقل» و«اللامعقول» التي أدت في الماضي وتؤدي في الحاضر إلى تزييف العقل والمعقول، وإهداره وتغييبه أو سحقه وطمسه في بعض الأحيان. ولست أقصد بهذا ما جرى في تاريخنا القريب، في ظل نظم القهر والطغيان، للعقل والحرية والإنسان بوجه عام، بل أعني كذلك ما جرى للفلسفة نفسها على يد نفر تسللوا إلى حرم معبدها العريق بعقليات اللصوص والسماسرة والمسفسطين الجوف الذين أفرزهم زمن العسكر الأغبر، ثم عصر الانفتاح الفاسد واقتصاديات السوق المسعورة، التي تكتسح اليوم كل القيم التي تربت عليها وتشربتها أجيال يهال عليها التراب اليوم، وترجم بكل الأحجار، ولكن يقيني الذي لا يهتز في أقسى ساعات الشك واليأس، يؤكد لي أن آلاف المخلصين العاملين في صمت في كل أركان عالمنا العربي، سيعيدون الزمن المعوج إلى محوره، ويساعدون في صبر وصدق على تكوين الضمير الثقافي العام، الذي يضع «العلمية» الدقيقة والأمانة والجدية الصامتة كما وضعت «معات» ريشتها في كفة الميزان، فخسفت جبال الكذب والإثم والضحالة والغثاثة في الكفة الأخرى. ولا ننسى أبدا ما أكده أفلاطون في «الجمهورية» وفي غيرها من المحاورات، من أن عدم وجود فلسفة على الإطلاق أفضل بكثير وأكرم من وجود فلسفات أو بالأحرى سفسطات كاذبة.
ومع إنني لا أومن بأن الأخلاق وحدها تكفي لتفسير التاريخ، فإن الجميع يتألمون اليوم لغياب «القدوة» على كل المستويات. ومعلمنا الكبير - رحمه الله - قد كان - ولا يزال بعلمه وسيرته وتأثيره - هو «الضمير المجسد» لكل حريص على أن تكون لنا ثقافة تستحق الاحترام. وكلما ذكرت الضمير تذكرت حسرتي الدائمة على عجز جراحينا الممتازين عن إجراء عمليات زرع للضمير الغائب، بمثل ما مكنتهم براعتهم الفائقة من نقل القلب والكبد والكلى وبعض الأعضاء. إن عصور الانبعاث والتغيير الحقيقي قد حمل تبعاتها الجسام وجسدها رجال عظام. حدث هذا في فجر الإسلام وعصر الفتوح، كما حدث في بدايات المسيحية وغيرها من الديانات الشرقية القديمة، وفي بواكير عصر النهضة الأوروبية ومطالع نهضتنا الحديثة. وزكي نجيب محمود - في تقديري المتواضع - يستمد قيمته الباقية وإشعاعه الحقيقي من تجسيده للضمير العلمي والإنساني الحي الأمين. أقول هذا وأعتقد أنه لا بد أن يقوله كل من أسعده الحظ بالتتلمذ على يديه والاتصال به عن قرب (مهما يكن من الاختلاف بينهم وبينه في وجهات النظر الفلسفية والأمزجة الفنية والأدبية كما سبق القول).
وفي الختام يخيل إلي أن شخصية المفكر والأديب «المنقذ»؛ أي شخصية المعلم والمفكر والكاتب المنذر والمحذر والموقظ والمتنبئ والمنبه، تتمثل فيه، ولا تقل أهمية عن شخصية الأديب البليغ والمعلم الفذ والعالم المتمكن والمترجم الرائع والداعية، في إطار الثنائية العلمية والتنويرية التي تسود كل جهوده، وتتغلغل في كل كتاباته، كما سبقت الإشارة، إلى حركة أو مدرسة فلسفية بعينها. صحيح أن شخصية المفكر والأديب «المنقذ» التي أعتقد أنها تتمثل فيه صراحة أو ضمنا، لم تعبر عن نفسها في صورة شعرية (كما فعل على سبيل المثال لا الحصر شاعر مثل صلاح عبد الصبور على لسان النبي الذي يحمل قلما في مسرحيته ليلى والمجنون، أو كما فعل شعراء آخرون مثل خليل حاوي والبياتي وأمل دنقل في بكائه بين يدي زرقاء اليمامة)، ولا في صور قصصية وروائية (كما نجد لدى نجيب محفوظ في تحت المظلة والشحات والثرثرة وغيرها من روائعه)، أو أشكال مسرحية (مثل سعد الله ونوس في رأس المملوك جابر والمنمنمات التاريخية، ومثل كاتب هذه السطور في بعض قصصه ومسرحياته التي اكتشف في كهولته أن أحدا لم يكلف نفسه بقراءتها ولا نقدها، فحق عليه ألا يكلف نفسه بذكرها). والرأي عندي أنها (أي شخصية المفكر والأديب «المنقذ») قد عبرت عن نفسها في العديد من مقالاته المبكرة والمتأخرة، التي سيرد ذكرها في تضاعيف الحديث، كما أنها مبثوثة في ثنايا أعماله العلمية ودعوته التنويرية والإصلاحية، من خلال المدرسة الوضعية الحديثة والمنهج التحليلي اللذين تبناهما وطبقهما بصورة شاملة متسقة وشديدة الوضوح والقوة والصدق مع النفس. إن مهمة «المنقذ» - أي الكاتب والمفكر المحذر، والمبشر أيضا بمستقبل لن يقوم بناؤه إلا على عمودي العلم والعمل الصامت الجاد - تظل مهمة ملحة ومطلبا مستمرا، لا مجرد أمل رومانسي أو «يوتوبي» حالم يحركه التمني أو الغفلة، وحسن النية. ولا شك عندي أن قراءة تراث زكي نجيب محمود العلمي والأدبي، ومعاودة قراءته والتعلم منه، ثم نقده وتجاوزه أيضا، مع كل الاحترام له والاعتراف بفضله، يمكن من هذا المنظور، الذي حاولت تحديد معالمه وأبعاده، أن يعيد إلينا الثقة المفتقدة بالنفس - بلا غرور ولا تطاول على الآخرين - وأن يساعدنا على اكتشاف طريق الخلاص، وتحقيقه بالفعل المبدع لا بالكلام والأصوات العالية. وخطوات هذا الطريق تتلخص باختصار في الرجوع إلى رحاب العلمية الدقيقة، وإلى حمى الضمير الصادق الأمين.
في الطريق شعرت بالخشوع والرهبة التي تكاد أن تشل قدمي العابد قبل دخول المحراب، كما شعرت في الوقت نفسه بجناحين ينبتان في كتفي ويطيران شوقا ولهفة إليه. لم تكن هذه هي أول مرة أزوره فيها؛ فلقد طالما فتح لي أبواب بيته وعقله وقلبه، وأعطاني فأجزل في العطاء من نبع حكمته وفهمه وتعاطفه، لكن هذه المرة تختلف عن المرات الأخرى؛ فعلي اليوم أن أسأله وأدون إجاباته، وهو عمل لم أتعود عليه من قبل، ولعلي لن أحاوله أبدا من بعد.
قلت لنفسي: أيها العصفور التائه في سماء مصرية وعربية تلبدت بسحب المحنة، وحومت فيها غربان التمزق والضياع وتدمير الذات، إلى الحد الذي يذكرنا بالانقراض والانتحار الجماعي لبعض القبائل والجماعات القديمة أو لبعض فصائل الحيوان، وبالانتحار الحضاري لكثير من الشعوب والحضارات المنهارة؛ اذهب إلى النسر الشامخ الحكيم، واحمل إليه همومك القومية والفردية وجراحك الفلسفية. وعند من تلتمس الدواء إن لم تلتمسه عند «حكيم العرب»؟ ها هو ذا المفكر الجاد والمعلم الأمين - منذ أكثر من خمسين سنة من حياته الخصبة المنتجة - لا يتوقف عن الدعوة إلى الأخذ بحضارة العلم ومنهجه ومنطقه، والمشاركة في ثقافة العصر التي يرتفع بناؤها منذ عصر النهضة على أعمدة العقل والفعل، وحرية الفرد وكرامته وحقه المطلق في التساؤل والبحث والنقد، دون إهمال لقيم تراثنا «المعقولة» التي لا يستغني عنها الوجدان والإيمان، إلا إذا تخلينا عن ركن راسخ من أركان هويتنا، ولا تزدهر بغيرها شجرة العقل المنتج المستنير إلا إذا أمكننا أن نتصور شجرة معلقة في الفراغ بغير جذور. ها هو ذا في مقالاته التي نتابعها هذه الأيام يجدد وعينا بحرية الإنسان وقيمته ومسئوليته - على نحو ما فعل في مقالاته الفنية التي بدأ نشرها في منتصف الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات - دون أن تخبو جذوة ثوريته، التي لم تفلح قسوة الزمن والبشر، وتسلل العلل والوهن للجسد الفارع المتين البنيان، وشحوب الضوء في مصباح العين الوحيدة، في أن تنال من دفء حرارتها ونورها وصدقها. وها هو ذا يعيد نشر بعض جهوده العلمية التي كانت وما تزال علامات على طريق الفلسفة ب «نظرة علمية» والفكر التحليلي والمنطقي الدقيق، ويثبت لنا مع كل جديد يقوله أو يكتبه أن أعوص المشكلات الفلسفية يمكن أن تمر بقلب الأديب وقلمه فتخرج منه وهي تنبض بالحياة والذوق والجمال، والقدرة على التأثير في وعي العامة والخاصة على السواء.
وعدت أسأل نفسي: ما بالنا اليوم لم نتقدم خطوة واحدة على درب العقل والمنهج والحرية؟ كيف نحتمل الحياة في ظل شجرتنا العربية - التي تخنقها أعشاب التخلف، وتجففها رياح القهر، ويزحف عليها الجراد المتطفل - ناعمين بالغيبوبة في كهف كئيب تتلاطم على جدرانه أمواج العصر الزاخر بالحرجة والوعي والابتكار المتجدد؟ لماذا لم نتجمع حتى اليوم على طريق أو منهج أو نظرية أو مشروع أو ميثاق ... إلخ، يمكن أن ننطلق منه للخروج من المحنة، مع أن الرجل قد قدم «صيغة فلسفية عربية» تستحق الاهتمام مهما اختلفت حولها الآراء؟ وما بال جهودنا الفلسفية تفتقر في كثير من الأحوال إلى الأمانة والدقة المنهجية واللغوية، وتكاد أن تنعدم فيها الرؤية والتجربة والقضية والمشكلة، ويغلب على أغلبها النقل والخطف والقص واللصق من هنا ومن هناك؟ ولا يخرج - إلا في القليل النادر - عن كتب ركيكة ومذكرات رخيصة، تلقن أو تلقم لطلاب مساكين (لم يقبلوا على دراسة الفلسفة عن وعي واختيار، بل حشرهم «التنسيق» في متاهاتها كما يحشر المساجين معصوبي الأعين في مركبات مظلمة تتجه بهم إلى مصير مظلم!) ثم ما بال أعرق أقسام الفلسفة، الذي وهبه عرق ربع قرن من كفاحه العلمي والتعليمي، لا يجني منه بعض أبنائه إلا ما حصده هو نفسه في رجولته وكهولته من أشواك التآمر والافتراء والتجني والمرارة؟
أسئلة كثيرة، هل يتسع لها الحوار؟
وهموم أكثر، هل يقدرها إلا الحكيم الذي يطل على الساحة في غير قليل من الحسرة التي يشاركه فيها الحكماء الحقيقيون من كل العصور والحضارات؟
وبدأت الحوار بسؤال يمكن أن يشغل بال القارئ والمثقف العادي؛ لأتطرق منه للسؤال عما يهم المختصين. قلت: أستاذي الكريم، اسمحوا لي أن أبدأ الحديث معكم عن المقالة الأدبية والفنية التي ارتبطت باسمكم لدى الجمهور الواسع من القراء؛ فلا أظن أن قارئا عربيا مثقفا لم يطلع على بعض هذه الدرر النادرة من أمثال: جنة العبيط، وشروق من الغرب، وتجويع النمر، وظلم، وذات المليمين، وبيضة الفيل، وغيرها وغيرها من اللآلئ والعقود التي يزدان بها صدر الأدب العربي الحديث. ولا أعتقد أنه قد غاب عنه أنها قد بلغت على يديكم مرحلة مختلفة عما عرفه وتعود عليه، منذ المقامات والرسائل إلى مقالات المنفلوطي والرافعي والزيات والبشري وغيرهم؛ ففيها الفكاهة الحلوة والسخرية المرة والإطار الفني الذي يقربها من القصة القصيرة، أو الحكاية الخرافية على لسان الحيوان، أو «الحدوتة» والأمثولة والأبيجرام، كما فيها التجربة الشخصية، والتمرد على الأوضاع الفاسدة، وكل هذا مع اللجوء إلى الرمز والحلم والأسطورة والمجاز والمفارقة الذكية اللماحة والخيال الممعن في الغرابة والإغراب واختراق سطح الواقع المألوف إلى ما تحته وما فوقه. هلا حدثتموني عن وجهة نظركم فيها، ومدى تأثركم بالثقافة الإنجليزية التي اشتهرت - منذ فرانسيس بيكون (1561-1626م) - بترسيخ هذا الفن الأدبي، وعن أسباب ندرتها في حياتنا الأدبية؟
قال وهو يرجع برأسه إلى الوراء، ويسنده إلى ظهر المقعد المريح وكأنه يحاول أن يستعيد ذكرى عزيزة تأبى على الرجوع: إنك بهذا السؤال تلمس العصب من صميم حياتي وجهودي الأدبية. وأبدأ فأقول إن المقالة الأدبية، كأي جنس أدبي آخر من شعر ورواية وقصة ومسرحية، لها شرط يجعلها مقالة أدبية. هذا الشرط المشترك بينها وبين كل ما يندرج تحت عنوان الفن التشكيلي أو التعبيري، هو أن يكون هنالك شكل أو «فورم» يحمل الفكرة المراد نقلها. بهذا تنقل الفكرة بطريق غير مباشر؛ لأن الذي سوف يتلقاه الرائي أو القارئ سيكون «تركيبة» عليه أن يستخلص منها الفكرة المبثوثة فيها. والأديب يستعير الشكل المعين من أي جهة ليست مصدرا للفكرة نفسها، وإنما يرى أن هناك توازيا بين هذا الشكل المستعار والفكرة التي يريد أن ينقلها، ولتكن أسطورة أو حلما من الأحلام أو قطعة من التاريخ أو ما يشبه ذلك. والمهم ألا تظهر الفكرة المنقولة أبدا على السطح، بل تترك للقارئ وللناقد الأدبي أن يستخرجها فيما بعد. هذا هو شأن الأدب دائما على المستوى الرفيع. فلا بد أن يقدم شكلا يضمر فيه فكرة قد لا يكون الأديب نفسه على بينة منها. واستخراج هذا المضمون الفكري المضمر لا يجوز أن يكون واضحا في الأدب، وإلا أصبح وعظا. والنقاد الكبار يسقطون من حسابهم، أو على الأقل ينزلون إلى الدرجة الثانية أو الثالثة، كل قطعة أدبية يشتم منها الفكرة المنقولة. فالفكرة مضمرة وتحتاج لعملية حفر كما نفعل مع الآثار المدفونة. والناقد يحفر في القطعة الأدبية ليستخرج ما هو دفين فيها من فكرة رآها الأديب وقد لا يكون كما قلت على وعي بما رآه.
هذا هو الشرط في أي صورة أدبية كائنة ما كانت، بما في ذلك المقالة الأدبية، إلا أنني لم أعرض إلا قليلا من أمثال هذه المقالات الأدبية التي لا تصرح بالفكرة، ولا تحتاج إلى ناقد ليستخرجها من ثناياها. كتبت بالطبع مقالات مثل التي تفضلت بذكر بعضها، كجنة العبيط أو بيضة الفيل أو تجويع النمر أو قرصنة في بحر الثقافة، ولكن مقالاتي لم تكن كلها من هذا النوع؛ ففي كثير من الأحيان كنت أجد نفسي مضطرا إلى الإيماء الواضح بالفكرة التي أريد نقلها؛ لأنني آخر الأمر أريد للقارئ أن يفهمني، والقارئ اليوم ليس لديه في الغالب القدر الكافي من الوقت، ولا من التأني والصبر والشوق، إلى المعرفة الحقيقية. وبهذه المناسبة أقول إن هذا هو بالضبط المعنى الذي نقصد إليه حين نقول إن معظم الأدب العربي الذي ينتج الآن سطحي. ماذا نريد بقولنا إنه سطحي؟ نريد أنه يأخذ شكل الرواية أو شكل المسرحية أو شكل المقالة الأدبية أو غير ذلك، فإذا جاء ناقد وطرح شبكته التحليلية ليستخرج من القطعة الأدبية مضمونها أو مضمرها لم يكد يجد شيئا؛ لأن الأديب كان مباشرا أكثر من اللازم، ولم تكن لديه رؤية لحقيقة مبثوثة ودفينة في القطعة الأدبية التي صورها. وتسألني مرة أخرى عن غياب المقالة الأدبية بمعناها الفني الدقيق أو عن ندرتها، فأقول أولا إنها ليست جديدة في الأدب العربي، وإنما يجب أن نشير إلى صور كثيرة لها في تاريخنا الأدبي وإن تكن مختلفة عما نحاوله نحن الآن. فمثلا المقامات والرسائل هي من قبيل المقالة الأدبية، وبعض الحكايات التي تسرد في كتاب الأغاني أو غيره من كتب الأدب هي من قبيل المقالة الأدبية؛ لأن كل هذه الصور تنطوي على ما نريد للأدب أن يطويه في ثناياه، وغاية ما هناك أن الأشكال مختلفة ... نحن في الأدب الحديث، أو أنا على الأقل، لا أتبع مقامة ولا رسالة، وإنما أتبع الاستعارة من مصدر آخر غير مصدر الفكرة التي أعرضها. وكثيرا جدا ما ألجأ إلى الأحلام، ولكنها ليست بالضرورة أحلاما حقيقية، وإنما هي أحلام مصطنعة، تماما كما أتصور حديثا دار بيني وبين آخرين. والواقع أن مثل هذا الحديث لم يقع، وإنما أستحدث من أحدثه لأصب الفكرة في قالب معين.
وقد حاولت المقالة الأدبية من السن المبكرة؛ لأن أول مقالة أدبية في هذا المعنى كانت في أواسط الثلاثينيات في مجلة الثقافة، عندما نشرت «البرتقالة الرخيصة»؛ ومن ثم يمكنك مرة أخرى أن تقول على لساني: من أراد أن يلمس العصب من حياتي الفكرية والوجدانية، فليبحث عنه في مقالاتي الفنية قبل كل شيء.
كنت قد تعثرت كثيرا، وتعثر القلم معي، وأنا ألاحق الجدول المتدفق، وأحاول أن أقيد بالمداد تموجاته الفائرة. وأسرعت أسأله عن جانب من إنتاجه استأثر باهتمامي، وتمنيت لو شاركت فيه ذات يوم، فقلت له: أحب أن أنتقل من المقالة الأدبية إلى السيرة الذاتية. لقد قدمتم قبل حوالي العشرين سنة «قصة نفس»، قبل أن تعيدوا صياغتها في طبعتها الثانية، ومعها في الوقت نفسه على وجه التقريب «قصة عقل». والقصتان - ولا أقول الروايتان! - متفردتان في بنائهما والهدف منهما بين الترجمات أو السير الذاتية التي عرفها أدبنا الحديث. وتوشك «قصة نفس» في الجزء الأول منها أن تكون عملا روائيا بكل ما يحمل من مقومات ودلالات، ولولا الإشارات التي جاءت في الأجزاء الأخيرة منها إلى أحداث أدبية ووقائع ثقافية محددة، ارتبطت بشخصكم وسيرتكم العقلية والعلمية، ولولا بعض الخواطر والتأملات الفلسفية - وخاصة على لسان إبراهيم - لاحتفظت بالشكل القصصي والإطار الروائي حتى النهاية. أما «قصة عقل» فهي - إذا أذنتم لي - أقرب إلى التسجيل المجرد لتطور عقل فلسفي مر بتجارب مختلفة مع الوضعية المنطقية بوجه خاص، ثم اتسع أفق رؤيته مع تجربته الأخيرة مع تراثه العربي والإسلامي، فهل تسلكون هاتين «القصتين» في منظومة الترجمات والسير الذاتية المعروفة في أدبنا العربي الحديث؟ وهل توافقونني على أن العالم قد تدخل في أكثر الأحيان في عمل الأديب؟
قال بعد أن أطرق برأسه قليلا ثم رفعها، فلاحظت أن وجهه الطيب قد اكتسى علامات الجد، وربما طاف به طائف من الحزن أو الألم: الحق أنني صاحب «قصة نفس» وكاتبها، لكنني أعترف بأنني قلق جدا إزاء هذا النوع من الكتابة. فقد أخرجتها في الصورة الأولى سنة 1964م، وبعد عشرين سنة على وجه التقريب، أخرجتها في صورة أخرى تختلف اختلافا كليا عن الصورة الأولى. لماذا صنعت هذا؟ لأنني كنت قلقا وما زلت قلقا، حتى إزاء الصورة الثانية. ولماذا كل هذا القلق؟ وكيف نشأت الفكرة عندي؟ الواقع أنني عندما فكرت في أن أكتب تاريخ حياتي في المرة الأولى وفي المرة الثانية، صممت على أن تأتي حياة كما يراها صاحبها من الداخل، لا كما يراها الرائي من الخارج، أو الباحث العلمي الذي يفحص آثار الرجل ليكتب عن قصة حياته؛ ذلك لأن حياتي كما أراها ليست صوتا واحدا من الداخل، بل عراك داخلي أحس به باستمرار منذ طفولتي. أرى شيئا بعاطفتي وأرى شيئا آخر بعقلي، وأحس صراعا داخليا خفيا هو مكشوف لي بالطبع وإن لم ينكشف الرائي الخارجي. وأنا أعتقد أن كل إنسان هو عدة أشخاص في جلد واحد؛ لأنه عدة ميول واتجاهات؛ ففيه عاطفة وفيه غريزة وفيه عقل، وربما كان الفرق بين شخص وشخص هو في الزوايا التي تفصل كل جانب من هذه الجوانب عن الجانبين الآخرين. بيد أن الزوايا منفرجة جدا عندي؛ فالذي يرى جانبي العقلي لا يتصور إطلاقا غزارة الجانب العاطفي في حياتي، ومن يرى الجانبين لا يتصور إطلاقا مدى التزامي بالقوالب الاجتماعية التي أعيشها، ولا أرضى أن أعيش غيرها ما دمت بين الناس (مثل فوزي الراوي). وعندما شرعت في كتابة «قصة نفس» استحسنت ألا ألجأ أبدا إلى الاعتراف بأن هذه حقائق عن نفسي، أو حتى أن أظهر نفسي بالاسم، واكتفيت بإشارات خفيفة أحيانا وغليظة أحيانا أخرى، يستشف منها القارئ أن أصحاب الأسماء التي أعطيتها للأشخاص الثلاثة الذين يؤلفون التفاعل في هذه القصة، هي جوانب مختلفة من نفس واحدة. فرياض عطا هو الأحدب، والحدبة هنا حدبة نفسية وليست جسمية، بدليل أنه عندما كان يستريح نفسيا كانت الحدبة تختفي عن الأنظار. والطرف المقابل لهذا الإنسان المنفعل هو الإنسان العاقل والدارس إبراهيم الخولي (نسبة إلى قريتي التي ولدت فيها، وهي قرية ميت الخولي من أعمال محافظة دمياط). أما فوزي فهو الذي يروي، وهو الذي ينخرط في القوالب الاجتماعية، شأنه شأن سائر الناس (كان فوزي هذا هو اسمي المنزلي الذي لم يعرف أبي وأمي إلى أن ماتا اسما غيره. وقد سألت والدي مرة: فيم هذه الأسماء كلها؟ فقال: ماذا نصنع؟ عند ولادتك زارنا ثلاثة من الأعزاء من أقاربنا، كل منهم اقترح اسما؛ أحدهم اقترح «زكي» والآخر «نجيب» والثالث «فوزي»، ولإرضاء الجميع وضعنا اسمين في شهادة الميلاد، واستبقينا الثالث ليكون هو الاسم المتداول في الأسرة).
بعد ظهور الطبعة الأولى أحسست أنني لم أكن موفقا، وأن الرمز كان أكثف مما ينبغي، ويوحي بانعكاسات أو إشعاعات قد يساء فهمها. وهكذا أخذت على نفسي في الطبعة الثانية أن أكون أقرب إلى مراحل الواقع كما وقع، مع الاحتفاظ أيضا بالرمز بعد التخفيف منه، ولكنني - كما سبق أن قلت لك - ما زلت قلقا.
وأما عن «قصة عقل»، فلم يكن في نيتي أبدا أن أكتبها؛ لأنها بالفعل تسجيل - أقرب إلى الجرد! - للخط الفكري الذي سرت فيه منذ سنة 1940م، ولم أنحرف عنه مدة نصف قرن تقريبا. ولأن الكثير جدا من إنتاجي مقالات أدبية، أو مقالات تعرض الفكرة عرضا مباشرا، فإن كثيرا من القراء لم يستطع أن يستجمع لنفسه الخط المشترك. وقد حدث مرة أن جاءتني مذيعة لتأخذ مني حديثا، فقالت لي: على كثرة ما كتبت لا نجد لك خطا واضحا. قلت لها: وماذا أصنع إذا كنت لا تقرئين؟ هناك الخط المستمر، وقد جاءت دراستي في إنجلترا لتؤكده، لا لتخلقه أو تبدعه للمرة الأولى. ولكنني بعد ذلك اختليت بنفسي، وسألتها: ما هو هذا الخط؟ في هذه اللحظة فكرت أن أكتب عن نفسي، بدلا من أن يكتب عني أحد غيري، وقلت ماذا لو درست هذا الخط كما هو واقع فيما كتبت؛ لكي يهتدي به من يريد. لقد بدأ عندي - أي هذا الخط الفكري - وأنا في حوالي العشرين، وما زلت أتذكر كيف بدأ غامضا بعض الشيء، ثم ازداد مع الأيام وضوحا. وكان المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات، صاحب مجلة «الرسالة»، يخرج على عادته في كل عام عددا خاصا بمناسبة الهجرة، واستكتبني في هذا العدد الخاص الذي صدر في أوائل الأربعينيات، وجعلت عنوان مقالتي «هجرة الروح»، وقلت لنفسي فيها ما خلاصته: نحن أمام هجرة الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
وأنت محتاج إلى هجرة؛ لأنك ما زلت حتى الآن عارض أزياء الآخرين. ليست الأزياء أزياءك، لا أنت تملكها ولا أنت صنعتها. إنك تتحول شخصا بعد شخص، بانتقالك من رف إلى رف في مكتبتك. فإذا تصادف أن وجدت كتابا فيه «س» من الناس أصبحت «س»، وأنت إذا وجدت كتابا آخر فيه «ص» أصبحت «ص»، وكأنك دودة تتلون بلون أرضها؛ تصفر عند سيرها على رمال الصحراء، وتخضر عند سيرها على الزرع. منذ هذه اللحظة لا بد أن تكون أنت هو أنت. عليك أن تهاجر هجرة تشبه هجرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - من مكة إلى المدينة، وقد كان ... وجدت البداية التي اتضحت على مر السنين، والبداية كانت في هذا السؤال: ماذا تريد لنفسك أن تكون؟ والذي أردته لنفسي هو أن أسير على خطين في وقت واحد: خط عقلي وخط وجداني؛ لأنني أراني لا أستطيع أن أستغني عن أحدهما؛ فهنالك مسائل عقلية لا ينبغي أن يشوبها وجدان، وهنالك مسائل وجدانية لا ينبغي أن يشوبها عقل. والإنسان مؤلف من هذين الجانبين، ولكل منهما أداة إدراكية تختلف عن الأداة الإدراكية الأخرى. الوجدان أداة حدسية مباشرة، لا تقدم مقدمات تستدل منها النتائج، وإنما ترى رؤية مباشرة كما يرى الإنسان قيمة لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو قصيدة من الشعر، وكما يحب من يحبه أيضا بغير تحليل أو تعليل أو استنباط واستنتاج.
وأما الأداة الثانية فأدرك بها الحقيقة العلمية، سواء في مجال الرياضة أو مجال الطبيعة، وأطبق بها منهج التحليل المنطقي، مع الحرص على عدم الخلط بين هذا وذاك؛ لأن الإنسان من هذا وذاك معا. هذا هو الخط الفكري الذي التزمته وما زلت ألتزمه حتى اللحظة التي أتحدث فيها. و«قصة عقل» ترسم سيري في هذين الخطين، وكيف ازداد وضوحا وعمقا خلال قراءاتي ودراساتي وتدريسي أيضا. وقد حاولت فيها أن أبرز في الفصول المختلفة الحقائق الفرعية التي تندرج تحت كل خط على حدة.
لاحظت أمارات التعب والإرهاق على وجهه الذي يفيض بالرضا والسماحة، وإن بدا في بعض الأحيان كأن التجهم أو الذكريات أو خيبة الأمل أو السخرية قد حفرت فيه أخاديد متعرجة وغائرة. واسترحنا قليلا مع كوب جديد من الشاي الدافئ، مع قطع مستطيلة من الكعك المكسو والمحشو بالشيكولاتة. وتحرك في نفسي مع جرعات الشاي - الذي ارتبط دائما عندي بميل مفاجئ إلى التأملات المجردة! - سؤال عن مشكلة الميتافيزيقا، التي توهم كثير من الدارسين من عابري السبيل أيضا في طرق الثقافة، أنه هو عدوها «الكلاسيكي» في عالمنا العربي، وكيل له من الاتهامات والإدانات ما هو أفظع وأوجع بكثير مما أصاب «كانط» في زمانه، عندما شنع عليه البعض - ومنهم للأسف شاعر كبير وبصير مثل هيني - بأنه هو هادم معبد الميتافيزيقا وقاتلها السفاح؛ ومن ثم فهو عدو الدين أيضا؛ لأنه هو أبوها وهي ابنته العاقلة! وكانت قد صدرت في الفترة لأخيرة - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - طبعة جديدة من «خرافة الميتافيزيقا»، مع مقدمة جديدة وبعنوان جديد غير مثير، هو «موقف من الميتافيزيقا». وهمست لنفسي: أتراني أنكأ جرحا قديما لو وجهت إليه هذا السؤال؟ وإذا كنت أعلم - مع كل منصف - أنه فرق منذ البداية - على نحو قريب مما فعله كانط، الذي أهاب به بعض أصحابه من الوضعيين المناطقة - بين ميتافيزيقا مقبولة مهمتها النقد وتحليل العقل والمعرفة، وأخرى مرفوضة تقرر أقوالا عن العالم والوجود والجوهر والروح والحرية والخلود ... إلخ، مما يستحيل التحقق من صدقه أو كذبه في مجال الواقع، أو بأي سند من التجربة، ويخرج به عن دائرة القول العلمي. وإذا كنت أعرف كذلك أن موقفه هذا - كما أكد معظم نقاد الوضعية القديمة والحديثة - موقف ميتافيزيقي بالضرورة - مهما يكن من سلبيته أو عناده وانغلاقه! - وأنه لم يكف أبدا عن الاهتمام بالميتافيزيقا، منذ أن كتب في منتصف الأربعينيات رسالته - التي سبقت الإشارة إليها في التمهيد - عن مشكلة ميتافيزيقية عريقة، هي مشكلة حرية الإرادة بين الجبر والاختيار، تحت عنوان «الجبر الذاتي»، وحتى تحليلاته الأخيرة في أواسط الثمانينيات للمعاني المختلفة للحرية (التي ظهرت بعد ذلك في كتابه عن الحرية أتحدث). إذا كانت هذه الأصداء كلها قد ترددت في نفسي، فقد ترددت كذلك ترددا شديدا عن طرح السؤال، وخطر لي أن أعرف رأيه في مسألة أخرى يطرحها الناس في غير قليل من الحسرة، وغير قليل من اللهفة الساذجة إلى «العالمية» المفتقدة . ومع شعوري بفجاجة الكلمات على لساني، فقد حاولت أن أسوغه من وجهة نظر الرجل العادي، الذي صورت لنفسي أنني أنطق بلسانه، وأعبر عن رأيه: هل لدينا اليوم فلسفة عربية؟! وإذا كانت الإجابة بالنفي لافتقاد النسق الكلي المحكم، فما هي العقبات التي تحول دون قيامها؟ وإذا كانت لدينا - مع افتراض حسن الظن! - مشروعات واجتهادات مختلفة باختلاف الأوصاف التي تطلق عليها، والرؤى أو «الأيديولوجيات» التي تعبر عنها - من إسلامية ووجودية وشخصانية وجوانية وبراجماتية وعلمية وعقلانية ... إلخ - فما هو رأي الفيلسوف العلمي والوضعي فيها؟ ثم ماذا يقول هو نفسه عن «مشروعه»، وهو الذي يجاهد منذ سنوات طويلة لتأكيد صيغة ثقافية وفلسفية، توحد بين أصالة تراثنا ومقومات هويتنا، وبين ثقافة العصر وحضارته العلمية في عبارة «الأصالة والمعاصرة»، التي ابتذلها التكرار والثرثرة الإعلامية، وبرع الكثيرون في التهجم عليها دون أن يفكروا في تقديم بديل مقنع لها، أو يدخلوا في تجربة إبداع أصيل من أي نوع؟ وظلت الأسئلة تطن في رأسي حتى انطلقت في هذا السؤال المكرر الذي يردده كل من هب ودب: هل لدينا أو يمكن أن تكون لدينا فلسفة عربية؟
قال وهو يثبت في نظراته الأبوية، وعلى فمه ظل ابتسامة: لكي تكون الإجابة عن هذا السؤال واضحة للقارئ، يجدر بنا أولا أن نلقي الضوء على حقيقة الفلسفة؛ ما هي؟ قبل أن ندلي برأي في وجودها اليوم أو عدم وجودها لدينا. لكل عصر مناخه الثقافي الخاص الذي يدور حول محور الاهتمامات العقلية أو الوجدانية التي تسود ذلك العصر، ويمكن القول بأن اهتمامات العصر المعين الرئيسية إنما تتبلور عادة في فكرة واحدة كبيرة، أو في عدد قليل من الأفكار الأساسية. فمثلا كان اليونان الأقدمون يديرون اهتماماتهم العقلية حول الفكر الأخلاقي؛ بمعنى تحديد صورة السلوك التي تتألف منها الحياة الفاضلة. بعبارة أخرى كانت فكرة «الخير» - الذي هو غاية الغايات في حياة الإنسان من وجهة نظرهم - هي الأساس العميق والمضمر في كثير جدا من النشاط الفكري، الذي يطلق عليه اسم الفلسفة اليونانية، ثم انتقل التاريخ إلى العصر المسيحي والعصر الإسلامي من بعده، فتغيرت الاهتمامات الرئيسية التي تشغل الناس، وتنبع منها عوامل تكون المناخ العام للفكر والثقافة. كانت تلك الاهتمامات بالطبع هي أسس العقيدة الدينية في كلتا الحالتين؛ في المرحلة المسيحية والمرحلة الإسلامية على السواء. ولما كانت العقيدة الدينية تنزل من المؤمنين بها في أول الأمر منزلة الإيمان الصرف الذي لا يحتاج إلى تحليل عقلي للعناصر المكونة له، فقد كان من الطبيعي أن تمر فترة بعد كل ديانة منزلة يكون فيها إيمان بغير فلسفة، ولكن سرعان ما يقف الناس عند المفاهيم الرئيسية في ذلك الإيمان؛ ليوضحوها لأنفسهم توضيحا يقتضي تحليلها إلى عناصرها، وإرجاعها إلى مبادئها الأولى. ومن أمثال هذه التحليلات تكونت الفلسفة المسيحية، وتكونت الفلسفة الإسلامية.
لنلاحظ هنا أن الفلسفة الإسلامية مثلا كان هدف الفلاسفة بعد اطلاعهم على الفلسفة اليونانية، هو أن يبحثوا ليعرفوا إن كان هنالك فرق بينها وبين ما نزل في الكتاب الكريم، ثم وجدوا أن الحقيقة في المصدرين واحدة، وإن جاءت بلغتين مختلفتين، وأصبحت الفلسفة في هذه الحالة هي أن تكتب الفلسفة اليونانية بلغة إسلامية.
هذه أمثلة توضح للقارئ أن الفكر الفلسفي يأتي أساسا ليحلل مناخا ثقافيا قائما بالفعل؛ ابتغاء الوصول إلى الجذور والأصول المضمرة، التي هي منبع ذلك المناخ الثقافي الذي يعيشه الناس. ولو انتقلنا بعد هذا التوضيح إلى عصرنا الحالي في الوطن العربي، لوجدنا أن المناخ الثقافي الذي يعيشه عدد كبير من المثقفين هو في صميمه شيء منقول، وهو منقول إما عن التراث الماضي، وإما عن ثقافة الغرب كما هي قائمة، وفي كلتا الحالتين ليست هنالك إضافة كبيرة أضافها العربي المعاصر لعصره، وتأتي الفلسفة لتحلل هذا المناخ الثقافي كما هو شأنها دائما، فإذا بها إما أن تكون صورة من الفلسفة الإسلامية القديمة - وذلك إذا كان النظر منصبا على الجانب التراثي بيننا - وإما أن تكون فلسفة مأخوذة من فلاسفة الغرب، إذا كان النظر منصبا على الجانب الغربي من مناخنا الفكري. وبعبارة مختصرة نقول إنه حتى إذا سلمنا بوجود العقل الفلسفي، من حيث منهج التفكير النقدي والتحليلي عند بعض أبناء الأمة العربية اليوم، فلن يجد ذلك العقل موضعا لمنهجه يخرج منه شيء جديد لا هو مأخوذ من التراث فقط، ولا هو مأخوذ من الغرب فقط، لكن إذا نحن قلنا إنه على ضوء ما أسلفنا لا تقوم بيننا فلسفة عربية مبتكرة الآن، فلا بد أن نتحوط في هذا التعميم؛ حتى لا يغيب عن أنظارنا كثير جدا مما ينتجه أصحاب العقل الفلسفي من جزئيات يبدعون فيها فكرا عربيا جديدا؛ إذ يتناولون جوانب من هنا ومن هناك في حياتنا الفكرية، ولكن أحدا من هؤلاء لم يستطع حتى اليوم أن يقيم «منظومة متسقة» من الفكر الفلسفي يمكننا على ضوئها أن نقول: هذه هي الحياة العقلية للأمة العربية، أو جانب منها على الأقل، معبرا عنه بلغة الفلسفة. كما نقول بذلك مثلا عن برتراند رسل في إنجلترا، أو جان-بول سارتر في فرنسا، أو جون ديوي في أمريكا، أو هسرل وأتباعه في ألمانيا، أو غيرهم وغيرهم.
ابتسمت قائلا: لقد احتطتم فذكرتم «المنظومة المتسقة» التي نفتقدها، ولم تقولوا النسق أو المذهب الذي ينكر معظم الباحثين إمكان قيامه في العصر الحاضر، مؤكدين أن فلسفة الفيلسوف يمكن أن تتجلى في مبحث صغير، يتناول فيه بطريقته الكلية أصغر الجزئيات، وأنه قد آن للمشتغلين بالفلسفة - كما يقول رسل فيما أذكر في إحدى مقالات كتابه «التصوف والمنطق» - أن يتعلموا التواضع من أصحاب العلوم المتخصصة؛ فيعالجوا مشكلة مشكلة لينتقلوا منها إلى غيرها، صارفين النظر نهائيا عن محاولة بناء نسق شامل، أو تشييد مذهب يضم أطراف الوجود والمعرفة والقيم ... إلخ. قال والابتسامة ما تزال تضيء وجهه بالنور الخفي الذي يشع من باطنه: حقا؛ بدليل أنني استشهدت باسم سارتر.
قلت بعد أن أثارت عباراته في نفسي أسئلة واعتراضات عديدة، وجدت أن الوقت والمجال لن يسمحا بإبدائها جميعا، وأنني لا أستطيع أن أكتم عنه واحدا منها على الأقل:
إن كلامكم عن تحليل المناخ يذكرني بتعريف «هيجل» للفلسفة بأنها هي بنت عصرها، أو هي عصرها وقد تبلور في أفكار. وهو تعريف أومن بصدقه وإن كنت أعتقد أن المفارقة الكامنة في الفلسفة نفسها تقتضي القول بأنها لا تقف عند مضمون عبارة هيجل، وإنما تجاوزها - كما حدث في فلسفته ذاتها - طامحة إلى العام والدائم، أو الجوهري والمطلق، مهما تبين بعد ذلك من عجزها وقصورها عن بلوغه. والمهم - كما يفهم من هذا التعريف - أن أي فلسفة لا بد أن تنطلق من الواقع والحاضر الموجود هنا والآن؛ لكي تعود فتصب عليه؛ ابتغاء المزيد من الفهم والوضوح والوعي بالمواقف والقيم والأوضاع المختلفة التي يواجهها الإنسان أو يتحداها. وكل تحليل عقلي يتعمق جذور المشكلات والقضايا والأزمات التي يحياها الإنسان العربي اليوم، أو يشقى بها بالأحرى وتشقى به، لا يمكن إلا أن يكون «فلسفة» أو جهدا واجتهادا يمت بصلة للفلسفة. ولا يقلل من شأن هذه الاجتهادات أن تجيء من غير المشتغلين بالمعرفة الفلسفية بمعناها الدقيق، أو من غير القائمين على تعليمها. ولن يتسع المجال لذكر العديد من الكتاب والشعراء والمثقفين من مختلف البلاد العربية، الذين يحملون هموم الإنسان الحاضر هنا والآن، ويعبرون عنها في صيغ وأشكال ربما تظل بحاجة إلى الصقل والتحليل والتوحيد والاتساق واللغة المحكمة المحددة؛ لكي يسمح لها بالدخول من أبواب الفلسفة. ولكن لماذا أذهب بعيدا وأمامي أقرب دليل على ما أقول؟ فجهودكم التي أشرت إليها، والتي قدمتموها أخيرا في «ثلاثيتكم» (تجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، ثقافتنا في مواجهة العصر) بجانب عشرات المقالات التي نشرتموها في السنوات الأخيرة، ومن بينها المقالات التي تحللون فيها مفاهيم الحرية والتقدم والثقافة والعروبة ... قاطعني بإشارة حاسمة من يده، وقال بتواضعه الكريم وزهده وترفعه النادر: لا أنكر شيئا من هذا كله عندي أو عند غيري، لكنها جميعا قفزات مجزآت أو طرقات على باب الفلسفة. إنها تحليلات أقرب إلى التنبؤ والتمني منها إلى التحليل الدقيق للمناخ القائم بالفعل. ولو كانت لدينا وحدة ثقافية ...
قلت ضاحكا ومعتذرا عن مقاطعته: حتى تحليلاتكم الأخيرة لمعاني الحرية؟ إنني لا أجاملكم، وربما لا أعدو الصواب إذا قلت إنه سيكون لنا منها فلسفة في الحرية، كما كان للإنجليز فلسفتهم التي قدمها أمثال «لوك» و«مل» وغيرهما. رد على ضحكتي بتقطيبة حفرت خطوطها العميقة على جبهته، وشدت عضلات وجهه، ولم يلبث الصمت أن لفها في سحبه الكابية، فقلت مؤكدا اقتناعي بالضغط على كل كلمة أسدد حروفها إلى قلب الصمت: معذرة يا أستاذي إذا قلت - دون أن أخشى مظنة التملق الذي تعلمون أنني أبعد الناس عنه - إن التحليلات التي ذكرت القليل منها لا تستحق هذا الظلم. وأنا أعتقد مخلصا أنها تزيد عن كونها مجرد قفزات أو طرقات عابرة؛ فوراءها ركائز فكرية مغروسة في شتى جهودكم الفلسفية وكتاباتكم الأدبية والفنية، وهي كغيرها ما تزال تنتظر العقل الفلسفي الذي يستخرج مبادئها وأصولها، ويؤلف بين عناصرها في وحدة متسقة، ثم إنه الزمن وال... ولكنني وجدت أن صمته الذي طال وتكاثف يكاد ينطق بأن أتوقف، ولم أجد مناصا من الانتقال إلى آخر موضوع من الموضوعات التي كنت قد دونتها في ورقة أمامي:
دعوتم طوال أكثر من نصف قرن من حياتكم المباركة إلى الأخذ بمنطق العلم ومنهجه وحضارته، وكان ارتباطكم بالتجريبية أو الوضعية المنطقية وبفلسفة التحليل الإنجليزية تأكيدا لهذه الدعوة، التي ابتغت تخليص العقل العربي من الارتجال والفوضى، وتجنيبه الخلط بين مجال العقل ومجال الوجدان، وبين لغة العلم ولغة الدين، وحثه على الانتقال من عالم السكون والثبات والمطلقات الوهمية إلى عالم الحركة والفعل والإنجاز العلمي والعملي. هل ترون اليوم أن هذه الدعوة قد أتت بعض ثمارها؟ وهل تقدمنا على طريق التفكير العلمي والمنهجي في مواجهة مشكلاتنا وأزماتنا، أو حتى طريقة استخدام الكلمات التي لا ننفك نكررها ليل نهار بغير تمحيص ولا تحليل؟ وإذا كنا قد خطونا خطوة واحدة على هذا الطريق، أو عزمنا على وضع أقدامنا عليه، فلماذا تغص حياتنا العقلية واليومية بشتى صور اللاعقل واللاعلم؟ لا أكتمكم أنني أحس نغمة الحزن والحسرة والإحباط في بعض مقالاتكم الأخيرة، مثل «رسالة في زجاجة»، «أدرك السفينة يا ربانها»، و«مجتمع جديد أو الكارثة»، وغيرها. هل تعب الثائر الذي لم يكف عن تجديد ثورته من محاولة تغيير «أنوال الفكر العربي»، والخروج من عصورنا الوسطى إلى ثقافة عصرية تحترم العقل، وتتسلح بمنهج العلم، وتضع فردية الإنسان وكرامته وحريته في منزلة المبادئ والبديهيات والمسلمات؟ وهل يكفي في نظركم أن نطبق منهج التحليل المنطقي ونؤسس الفلسفة العلمية لتحقيق التغيير الذي نشدتموه، أم لا بد أن تؤازرها ثورة اجتماعية تقتلع جذور الفساد، وتحطم أصنام الاستبداد والتسلط والكذب والخرافة والتخلف؟
قال بعد أن سكت حتى خلت أنه غاب مني بعقله، وربما بسمعه أيضا: يؤسفني أن أقرر أننا لم نتقدم لا كثيرا ولا قليلا في الطريق الذي نتحول به إلى شعب يستخدم منطق العقل في المسائل التي هي بحاجة إلى منطق عقلي؛ فعلى الرغم من كوننا نقلنا كثيرا من علوم الغرب وأجهزة الغرب ونظم الغرب، إلا أننا نقلناها نقلا دون أن نتشرب التفكير والمنهج العقلي الذي أدى إلى إنتاج تلك العلوم والنظم عند أصحابها. لقد قطفنا الثمرة، ورفضنا أن نأخذ الشجرة بجذورها كي نزرعها نحن بأنفسنا ونجني منها ثمرتها. وسؤالك «ما الذي جعلنا نقبل ثمرات العصر ونرفضه من حيث المنهج العقلي الذي أنتج هذه الثمرات»، جوابه عندي أننا عندما رأينا أنفسنا خاضعين لمستعمر أجنبي أوروبي، تصورنا أن النهضة لا تكون إلا إذا استرددنا لأنفسنا هويتها العربية الإسلامية، ثم توهمنا أن هذه الهوية الأصيلة لن تتحقق لنا إلا إذا رفضنا المستعمرين جسدا وروحا؛ أي إلا إذا رفضناهم فكرا ووجودا وحضارة.
من هنا نجد التعليل لما حدث في منتصف القرن التاسع عشر وما بعدها، من حركات الإصلاح التي اتجهت نحو البدء بإحياء التراث والتراث الديني بصفة خاصة. كل هذا كان يصبح لا غبار عليه، بل ضرورة ملحة عند أي شعب يريد أن ينهض، لولا أننا لم نربط ربطا واعيا بين رغبتنا في أن نسترد هويتنا، وحاجتنا لأن نستبقي من ثقافة المستعمر ومن أصوله الحضارية ما يمكن أن يشتد به عود الهوية التي نحن بصدد إحيائها وحمايتها. لقد سرنا على العكس من ذلك تحت وهم أن استرداد الهوية يقتضي رفض الغرب. وعندما رأينا أنفسنا في الوقت نفسه مضطرين اضطرارا إلى الأخذ بعلوم الغرب وأسلحته وأجهزته ونظمه في التعليم والسياسة والاقتصاد وغيرها، نقلناها من حيث الصورة والقالب، ولم ننقلها من حيث الروح والمنهج؛ فنتج عن هذا كله الموقف الذي نحن فيه الآن من إحياء للتراث، وبجانبه قطوف قطفناها من ثقافة الغرب وحضارته، وأصبحنا في الواقع مثلا فريدا نستطيع أن نوضحه بالآية الكريمة:
كمثل الحمار يحمل أسفارا .
إن المفارقة هنا لا تكمن في أن الحمار يحمل ما ليس من طبعه حمله من أسفار كبيرة، ولكن في أن يحمل أيضا ما كان مضطرا إلى حمله. وكذلك نحن نحمل علوما وأفكارا نظرية اضطررنا اضطرارا إلى أخذها من الغرب، ورحنا نعلمها في جامعاتنا ومدارسنا، ونبني نظامنا السياسي وكثيرا جدا من بنائنا الاقتصادي على أساسها، بل الأغرب من ذلك كله نرفض أن نبث في أنفسنا روح الثقافة الغربية، وهو المنهج، والمنهج يعني المنهج العلمي بصفة عامة، بخصائصه النوعية ومقوماته الأخلاقية.
ولكي أزيد الأمر توضيحا أقول إننا عندما أحيينا تراثنا بالصورة التي أحييناه بها، وهي صورة من يحفظ هذا التراث حفظا أصم، كنا بالضرورة أمام ثقافة كلمة. أما حين نقلنا الغرب بغير منهج فقد نقلنا نوعا آخر من الثقافة، أوجد الحضارة بالفعل لا بالكلمة. فلو كنا نقلنا الغرب بمنهجه لتم لنا تطوير تراثنا في الوقت نفسه؛ لأننا كنا سننقل محورا جديدا هو محور الفعل لا محور الكلمة. من كل هذا نتج لنا الموقف الشاذ الذي نحياه اليوم. إنه مرة أخرى موقف إنسان يعيش في صميمه كلمات، ويستخدم في حياته العملية نتائج نتجت عن حضارة فعل، فأصبحنا نرتدي ثوبا مرقعا هو في نهاية التحليل ثوب لم نصنعه بأيدينا، وإنما استعرنا رقعا من ماضينا الذي لم نحسن فهمه ودرسه، ورقعا من حاضر الآخرين الذي لم نحسن كذلك استيعابه. ومن أجل هذا كان من الطبيعي ألا يكون لما كتبت أصداء ذات تأثير ملحوظ؛ لأنه يتلخص في الدعوة إلى منهج العلم. وطالما كان منهج العلم مرفوضا بالرغم من قبول نتائج العلم، فمن الطبيعي أن ترفض دعوتي. أما عن بقية السؤال الخاصة بحالة التدهور وعدم الجدية إلى آخر هذا الخط، فهي أيضا نتيجة طبيعية لإنسان يشتري العصر بماله، ثم يرفض أن يعيش هذا العصر نفسه في حياته، فيحدث بالطبع انفصام في الشخصية هو الذي نراه بكل وضوح في الازدواجية الرهيبة التي نعيشها، فلا مانع عندنا من أن تكون الواجهة نتاجا غربيا صرفا، ثم ندعي أنها ليست هناك كأنها ليست موجودة في حياتنا.
والعكس أيضا صحيح، وهو أن ندعي أننا إنما نعيش على قيم آبائنا التي ورثناها، ثم نكتفي من ذلك بمجرد القول. أما حقيقة حياتنا نفسها فلا هي من التراث ولا هي من العصر. إنها تتلخص في فردانية انتهازية. كل منا يشعر بأن البيت ينهار، فيخطب ما استطاعت يده أن تخطف لينجو به وبنفسه، وعلى الدنيا بعد ذلك السلام!
فكرت بعد هذا البيان المبين أن أطرد شبح اليأس أو الحزن الذي كاد أن يلقي ظله الثقيل علينا، وأن أقول إن دعوته لم تكن أبدا بلا ثمرة، لا على المستوى الجامعي ولا بالنسبة للقراء العاديين الذين يتابعونه بشغف، ويشعرون نحوه بالامتنان والاحترام. ولكنني رأيت أن أفضل ما أختم به الحديث هو أن أفتح باب الأمل على المستقبل رغم كل شيء، وأن أدعوه لتوجيه كلمة للشباب الذين عاش معهم ولهم طوال حياته. قلت له وأنا أهم بالقيام مستأذنا وشاكرا: من الطبيعي أن يشعر الشباب في هذا الجو الشاذ الذي وصفتموه بالتمزق والضياع والاغتراب، بصورة أفدح مما لاحظتموه على بعض الشباب من جيلنا، فهل أطمع في النهاية أن توجهوا إليه كلمة أخيرة؟
قال في صوت هادئ عميق، ومفعم بالثقة والرضا: أقول للشباب ما قلته طوال حياتي المنتجة: أن يعيش حياته في خطين ليشبع بهما جانبي الحياة الإنسانية. عليه أن يتقبل ما هو قائم على التفكير العلمي ثمرة ومنهجا؛ بمعنى أن يحاول أن يكون ذا منهج علمي، بالإضافة إلى تمتعه بثمرات العلم الغربي. ولكن عليه كذلك ألا ينسى لحظة أن هناك جانبا آخر لا ينبغي أن يغفله في أي لحظة، وهو الجانب الذي يتعلق بالذات أو بالهوية العربية المتدينة. في هذا الجانب لا مجال لمنهج علمي، ولكن المجال للإيمان كل الإيمان بالعقيدة التي نؤمن بها. ويصاحب هذا الاهتمام بجوانب خاصة كاللغة العربية، وصور البطولات العربية، وأركان الهوية الثقافية التي هي في الحقيقة جوهر العروبة. والحقيقة أن حياتي الوجدانية قد حافظت على الدوام على هذه الهوية، بقدر ما تمسكت في حياتي العقلية بالمنهج العلمي فيما لا يمس الهوية.
اعتذرت عن التعب الذي سببته له، وأبديت أسفي من أن أكون قد جرت على الموعد الذي يخلد فيه إلى الراحة، لكنه نهض قائما من مقعده كالعملاق المهيب، ومد يده فلمس كتفي، وربت عليه وهزه في حنان وكأنه يقول: وهل يتعب الأب من الحديث مع أبنائه؟ الأسئلة الحبيسة تتلاطم في رأسي وأنا أتجه نحو الباب الخارجي. رجوته بصوت مرتعش بالخجل والندم أن نستأنف الحديث مرة خرى، فلم يضن كعادته بالترحيب والتشجيع. وزرته بعد ذلك مرات، وخرجت وكأسي مملوءة بالشهد والرحيق. لكنني لم أكن أحمل قلما، ولم أحاول أن أدون حديثا، واكتفيت باختزان كلماته وأفكاره وتجارب حياته وحكمته ورحلته الطويلة مع الكتب والناس، تاركا إياها تهبط مع رنات صوته المميز الخارج من أعمق أعماقه؛ لتستقر في الطبقات التحتية للشعور، وتبقى زادا مذخورا للبقية الباقية من العمر. ألم أظلم نفسي بالتقصير في تسجيل الأحاديث التالية في جلسات لا أحصي عددها؟ ما من شك في ذلك، لكن عزائي أن صوت المعلم القدوة وصورته وحضوره القوي، ستظل ماثلة في كياني وأمام عيني وعيون أبناء جيلي والأجيال السابقة واللاحقة التي سعدت بسماع صوته والتعلم منه. ويقيني الذي يملأ نفسي أنه الآن في رحاب الملأ الأعلى يواصل الحوار - الذي تنبأ به سقراط في خطبة دفاعه - مع الحكماء الخالدين من كل العصور، وأنني ربما يسمح لي أيضا بالاشتراك في الحوار ومواصلة الحديث.
جلجاميش وجذور الطغيان
قراءة في نص قديم، وأسئلة تفرضها المحنة
موضوع هذا المقال هو «جلجاميش»، بطل الملحمة البابلية المشهورة باسمه، وطاغية مدينة أوروك (الوركاء) السومرية، الذي يرجح العلماء أنه عاش وحكم حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد (بين سنتي 2370 و2600ق.م). ولا بد منذ البداية من القول بأن أفكار هذا المقال لا تتحرك في دائرة اليقين العلمي أو ما يشبه اليقين، ولا تدعي القدرة على التوصل إلى نتائج قاطعة أو شبه قاطعة، وإنما تدور في مجال الإمكان والافتراض والتساؤل، وتتوسل بالرؤية الحدسية القائمة على التفهم والتعاطف والاستشعار، في محاولة لقراءة ذلك النص الجميل الجليل الموغل في القدم، وتفسيره من منظور ذاتي وتاريخي، وتجربته قبل كل شيء تجربة باطنة، وبذل الجهد للانصهار أو الالتحام معه، بحيث يتفاعل أفق الذات القارئة مع أفق الشاعر البابلي الذي حفظ لنا التاريخ اسمه (وهو «سين-ليكي-أونيني»، ويقال إنه عاش حوالي سنة 1200ق.م)، أو مع «آفاق» الكتاب والشعراء والنساخ المجهولين الذين بدءوا في تسجيل أجزاء ذلك النص مع العصر البابلي القديم (من 1984 إلى 1595ق.م)، قبل أن يعثر في منتصف القرن الماضي على نسخته الآشورية شبه المكتملة في أطلال مكتبة قصر الملك آشور-أنيبال (من 668 إلى 627ق.م)، في العاصمة الآشورية القديمة «نينوى». ولا مفر لمثل هذه القراءة أو هذا التفسير من توخي الدقة التامة في مراعاة «الشروط» التي أحاطت تدوين النص في صوره وصيغه العديدة، منذ أن تردد على شفاه الناس وفي أغانيهم وأمثالهم وحكاياتهم الشعبية، قبل تسجيله في صورته الأولية على شكل قصص سومرية خمس عن الملك الوسيم الحكيم والطاغية الجبار المخيف، وهي القصص التي اعتمد عليها البابليون في نسج خيوط الملحمة الرائعة.
1
ولا مناص كذلك من الوعي بالفروق الأساسية في الرؤية والأزمنة والتراكيب والسياقات التاريخية والحضارية والسياسية والاجتماعية واللغوية والدلالية ... إلخ، بين الذات الكاتبة والذات القارئة، مع التزام الحذر في كل الأحوال من التعميم والإسقاط وتحميل الملحمة وبطلها فوق ما تحتمل من همومنا وشجوننا، عند استكناه «الرسالة» التي أراد الكاتب القديم توصيلها إلى القارئ المعاصر له، ولم تزل قادرة على مخاطبة القارئ المعاصر في أيامنا، واستخلاص العنصر أو العناصر الثابتة في هذه «الرسالة» على الرغم من المحاذير والأخطاء التي يمكن أن يقع فيها القارئ والمفسر الحديث وهو يحاول أن ينطق بلسان الكاتب القديم، أو ينطقه بما سكت عنه، وعلى الرغم كذلك من الهوة الزمنية التي تفصل بين الاثنين - وتقدر بنحو أربعة آلاف سنة بالنسبة للنص البابلي القديم، وبما يقرب من ثلاثة آلاف سنة للنص الآشوري الأخير! - فضلا عن الانقطاع المعرفي والشعوري والحضاري الذي يباعد بينهما، وتراكم طبقات وطبقات من «البنى» و«النظم» العقلية والدينية والاجتماعية والفنية ... إلخ، فوق وعي المتلقين من ورثة حضارة وادي الرافدين القديم، وأبناء حضارة الشرق الأدنى بوجه عام. ومع أن المحاولة في ذاتها مغامرة غير مأمونة العواقب، وبخاصة حين يعترف القائم بها بمدى قصوره وجهله بعلم الآشوريات، وباللغة الأكدية التي كتب بها النص الأصلي للملحمة، وبأنه ليس من «أهل الاختصاص» ولا من المشتغلين بعلم التاريخ وعلم الآثار وفقه اللغات السامية القديمة، فقد يكون هناك ما يبررها من الناحية الفكرية الخالصة، التي تسمح للإنسان - بل تفرض عليه فرضا! - أن يتصل بتراثه القديم، ويعود إلى جذوره وينابيعه الأولى، ويتجه إليه بالسؤال - ولا أقول بالمحاكمة! - في أوقات المحن والشدائد.
وربما استأذنت القارئ أيضا في أن أضيف مبررا آخر قد يسوغ المحاولة، وهو أنني قمت بترجمة الملحمة العريقة عن الترجمة الألمانية، التي لمست تميزها من وجوه كثيرة من غيرها من الترجمات الإنجليزية والعربية التي تيسر لي الاطلاع عليها،
2
كما استوحيت الملحمة كذلك مسرحية طويلة في عشر لوحات درامية، جعلت عنوانها: «هو الذي طغى، محكمة جلجاميش»،
3
بالإضافة إلى كتاب كبير نقلت فيه - عن اللغات الحديثة بطبيعة الحال! - نصوص الحكمة البابلية، التي تعد الإطار الفكري والديني المحيط بجلجاميش، مع الاجتهاد في تفسيرها من خلال المنظور الذاتي والتاريخي (أو الهيرومينويطيقي) الذي أشرت إليه.
4
ليس الهدف من هذا المقال هو دراسة «جلجاميش» في ذاتها، وإن كان هذا لا يمنع من التعريف بهذا الأثر الأدبي والحضاري الخالدي، وبتأثيره على التراث الأدبي والفني القديم والحديث باختصار شديد بعد قليل. إن الهدف منه هو طرح بعض الأسئلة عليه، من خلال المحنة الأخيرة التي كانت صاعقة ارتجت لها سماء العرب ، وزلزالا ارتجفت منه أرض وجودهم الحاضر والمستقبل. وهذه الأسئلة التي تثيرها الملحمة والمحنة معا في وعي الذات الحريصة على استحضار تراثها ومعايشته حرصها على تجديده وتجاوزه، تنحصر في الأسئلة التالية: (أ)
هل كان جلجاميش مستبدا طاغية؟ وبأي مفهوم من مفاهيم الطغيان أو الاستبداد أو التسلط أو غيرها من المفاهيم التي تدور في دائرة هذه العائلة الجهنمية المشئومة؟ وإذا كانت الملحمة منذ العمود الأول من اللوح الأول تؤكد طغيانه وعسفه وجبروته، كما تشيد بجماله وحكمته وبطولته، فما هي طبيعة العلاقة بين الطغيان والبطولة في الإطار الأسطوري والديني الذي وضعت فيه الملحمة؟ (ب)
هل يمكن القول بأن جلجاميش قد تحول عن طغيانه بشعبه وحرصه الأناني على الشهرة والمجد والخلود، أو تطهر منهما بعد إخفاقه في التوصل إلى الخلود الإلهي، واقتناعه مع نهاية الملحمة بأن الخلود الوحيد المتاح للبشر الفانين هو العمل والبناء الحضاري والاجتماعي؟ وإلى أي حد يمكن تأييد هذا التفسير الذي أخذ به بعض الدارسين ولا فضل لي فيه؟ وهل نستطيع القول بأن الملحمة بمثابة «أمثولة» عن الطغيان وطرق التحرر منه في آن واحد؟ (ج)
هل يمكن القول - على لسان عالم النفس التحليلي «يونج» - بأن جلجاميش يعد «نموذجا أوليا» أو نمطا أصليا للطاغية الشرقي، وأنه قد تسرب في أعماق اللاوعي الجمعي وطفق يظهر بعد ذلك في صور وتعابير وممارسات مختلفة باختلاف النظم والعصور والسياقات؟ وما الذي يترتب على هذا الفرض أو الاحتمال من مهام البحث النفسي والاجتماعي والتاريخي للشخصية الطاغية في تاريخنا القديم والوسيط والحديث، وفي نصوصنا التراثية على اختلافها؟ (د)
إذا صح القول بأن تراثنا - على الأقل في الجانب السياسي و«السلطوي» منه أو من معظمه منذ عصور الانحطاط - هو تراث القهر والقمع، فكيف تتجاوز هذا التراث بتأسيس تراث التحرر والتقدم والعقل والاستنارة؟ ومن أين تبدأ البداية بعد محنة شاملة تفترض التصميم على المراجعة الجذرية والبداية من البدايات؟ وما دور العلم الإنساني في تحقيق هذه البداية التي لم تعد تحتمل التهاون أو التأجيل؟ (ه)
وإذا صح - أخيرا - أن كل فعل وراءه فكر، وأن الفعل العشوائي والهمجي اللاعقلي وراءه فكر عشوائي وهمجي ولا عقلي مثله، فما هي عناصر الأزمة أو الأزمات الفكرية التي كانت وراء العدوان، وكشفت عنها المحنة في أبشع صورها؟ وكيف السبيل إلى تكوين العقل العربي - إن صح هذا التعميم - وتربيته تربية علمية ومنهجية وعقلانية، تعصمه من السقوط في هاوية اللاعقلي واللاإنساني وجنونهما المدمر؟
يحسن بنا - قبل التصدي لهذه الأسئلة - تقديم تعريف شديد الإيجاز بالملحمة ومكانتها في التراث الإنساني، وتأثيراتها المؤكدة أو المحتملة على الوعي القديم والحديث. ولا مفر مع هذا الإيجاز الشديد من إسقاط حقائق وتفصيلات هامة يمكن أن يرجع إليها القارئ في مصادر و«أدبيات» عديدة تشكل مكتبة كاملة عن جلجاميش.
جلجاميش هي درة الأدب والحضارة البابلية، وأقدم ملحمة عرفها التاريخ (إذ سبقت الإلياذة والأوديسة، بما يزيد على ألف عام)، وهي جزء لا يتجزأ من الأدب العالمي. وضعت عنها، كما سبق القول، مكتبة من الدراسات، ومن أجلها عقدت مؤتمرات،
5
وترجمت إلى كل اللغات الحية (ولها في الإنجليزية وحدها حتى الآن عشر ترجمات، فضلا عن ترجمتها أو ترجمة أجزاء منها إلى لغات قديمة - كالحيثية والحورية - تعد الآن من اللغات الميتة )، وأصبحت منبعا لا ينضب لإلهام المبدعين في الشعر والمسرح والقصة والموسيقى والباليه. ولا يتسع المقام لتتبع أصولها السومرية والشعبية الشفاهية، أو قصة تدوينها، واكتشاف شذراتها المختلفة، وحل رموزها ونشرها. ويكفي القول بأن هذا القصيد الشعري الكبير المكون من أحد عشر لوحا ملئت سطورها بالثغرات والفجوات بجانب لوح ملحق بها، ويشك في نسبته إليها، والذي اشتهر باسم ملحمة جلجاميش، أو بأول شطر في أول بيت فيه وهو «هو الذي رأى»؛ هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين، وأن جلجاميش نفسه - كما سبق القول - هو ملك مدينة أوروك السومرية (الوركاء) إلى الجنوب من بابل، وقد ذكره ثبت الملوك السومريين - المدون في بداية الألف الثانية قبل الميلاد - بوصفه الملك الخامس في ترتيب الملوك الذين حكموا هذه المدينة بعد الطوفان ، ونسب إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت الملحمة بعظمته في بدايتها وخاتمتها، باعتباره أهم أمجاده التي كفلت له نوعا من الخلود المتاح للبشر بعد إخفاقه المأسوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتنع في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر. ويضيق المجال عن الحديث عن الملحمة من ناحية تكوينها الفني، ومضامينها الفكرية، والدلالات التي يوحي بها شعرها وأحداثها وشخصياتها - وبخاصة شخصية جلجاميش نفسه - على مأساة الإنسان في وجوده القلق، وبحثه عن المعنى والمعرفة، وسؤاله عن سر الحياة والموت، وتصوره لدنياه وآخرته أو للعالم السفلي المخيف الذي لا رجاء فيه ولا رجعة منه، وسعيه الدائب لمعرفة نفسه وتحديد حدوده، وصراعه الأخلاقي مع الشر ومقاومته للموت، ورؤاه ومواقفه التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها (على نحو ما تمثلها شخصية «سيدوري» ساقية حانة الآلهة)، والتصميم على تحقيق حلم «يوتوبي» يعرف في النهاية أنه في حكم المستحيل، وكل هذا بجانب الشواهد العديدة على تفكير السومري والبابلي القديم، وأوضاعه التاريخية والثقافية والنفسية والاجتماعية، وتقاليده وحكمته وأحلامه ورؤاه التي تتنبأ بسلوكه وتوجهه، كما تكشف عن رعبه من أرض «اللاعودة» وأهوالها ، وحياته اليومية المنغصة بالقهر والسخرة والطاعة المطلقة للحاكم الإلهي أو المتأله، وللكهنوت ومجمع الآلهة الذي يحكم الكون والمدن، ويعين مندوبين عنه من صغار الآلهة للتوسط بينه وبين البشر، وعلاقاته السياسية والاقتصادية بجيرانه، وتمتعه بنوع من الديمقراطية البدائية التي تمثلت في وجود مجلسين للشورى من شيوخ أوروك وشبابها (الذين رجع إليهم جلجاميش، وسألهم الرأي والنصيحة أكثر من مرة)، وصلته بالآلهة الذين كان يخشى غضبهم وانتقامهم (مثل إنليل إله العواصف)، والآلهة الذين نعم بعطفهم وتعاطفهم (مثل إيا إله المياه الجوفية العذبة، وشمس إله الشمس والعدل)، وبدايات زحف الحضارة والمجتمع الحضري (ممثلة في جلجاميش وبغي المعبد)، على البداوة والمجتمع البدوي (ممثلين في إنكيد ووحش البرية)، بجانب لمحات قليلة عن علوم الحكمة العملية، كالسحر والتنبؤ وتفسير الأحلام وطقوس العبادة والتطهير من الأرواح الشريرة، وغير ذلك من الشواهد الدالة على تصور الرافدي القديم للعالم والبشر والقيم المختلفة.
ونأتي الآن إلى النبذة الموجزة عن الملحمة نفسها، مع التركيز على الأحداث والمواقف التي تلقي الضوء على طغيان بطلها، ثم تطهره المحتمل من الطغيان بعد ضياع نبتة الخلود من يديه. يبدأ العمود الأول من اللوح الأول بذكر مآثر جلجاميش، والإشادة بمعرفته وحكمته وإنجازاته في البناء والعمران؛ فهو الذي «رأى كل شيء في تخوم البلاد»، وعرف البحار، وأحاط علما بكل شيء، كما نفذ ببصره وبصيرته إلى أشد الأسرار غموضا. ولم يقتصر الأمر على امتلاك الحكمة والمعرفة بكل شيء، والاطلاع على المكنون، والكشف عن الخفايا، فقد قطع طريقا بعيدا، وجلب معه أخبار العهود السابقة عن الطوفان. ولما أصابه التعب ونال منه الإرهاق، نقش على نصب حجري كل ما خبره وعاناه.
6
وتعزف الملحمة من السطر التاسع حتى السطر التاسع عشر لحن الاستهلال الذي سيكون كذلك هو لحن الخاتمة، ألا وهو التغني بمنجزاته الحضارية والعمرانية التي خلدت اسمه في التاريخ، وفي مقدمتها سور أوروك المنيعة، ومعبد إنانا المقدس (وهي نفسها عشتار آلهة الحب والحرب عند البابليين): أمر ببناء سور أوروك المنيعة حول معبد إنانا المقدس وحرمها السني. انظر إلى جدار سوره الذي تتألق أفاريزه كأنما صنعت من نحاس. تأمل قاعدته، فليس لها في أعمال البشر شبيه، وتلمس العتبة الحجرية، الموجودة في مكانها من أقدم الأزمان. اقترب من إنانا، مقام عشتار، الذي لا يماثله عمل ملك لاحق ولا يدانيه عمل إنسان. واعتل كذلك سور أوروك. تمش عليه، اختبر أسسه، تفحص لبناته، أو لم تصنع من آجر مفخور، أو لم يضع الحكماء السبعة أسسه؟ (ل1، ع1، س9-19).
ويستطرد النص في الكلام عن جمال جلجاميش وقوته المخيفة. لقد أكمل الآلهة خلقه فأضفى عليه شمش إله الشمس والجمال، وحباه أدد إله الرعد والبطولة، حتى لقد بلغ طول قامته إحدى عشر ذراعا، وعرض صدره تسعة أشبار. وهنا نصل إلى السمة الأساسية التي يبدو أنها زينت له الطموح إلى الخلود الإلهي، والقدرة على تغيير المصير البشري المحتوم، كما بررت له قهر شعبه ليل نهار: «فثلثاه إلهي والثلث الباقي بشري، وهيئة جسمه شامخة، وخطاه مهيبة كالثور الوحشي. إنه يوقظ رعيته على دقات الطبول. لا يترك الابن لأبيه، ولا العذراء لحبيبها، ولا ابنة البطل ولا زوجة المحارب؛ ولذلك يثور أهل أوروك ساخطين، ويجأرون للآلهة بالشكوى والضراعة أن تخلق نظيرا له في البأس والقوة، فينشغلا عنهم بالصراع المستديم، وتستريح المدينة وتهنأ بالطمأنينة والسلام. والغريب أن هذه الشكوى تعبر في نفس واحد عن الخوف والإعجاب، ويمتزج فيها الحب والرعب، وكأن الضحية المغلوبة على أمرها لا تملك إلا أن تمجد الجلاد الغشوم؛ فهو راعيها، وهو مع ذلك قاهرها الظلوم» (ل1، ع2، س25). وتستجيب الآلهة لتضرعات شعب أوروك، فتأمر الربة آرورو، بأن تخلق ندا لجلجاميش ينافسه في الصراع لتستريح أوروك. وتخلق وحش البرية إنكيدو الذي يرعى الكلأ مع الغزلان، ويتزاحم على موارد الماء مع الحيوان، بشعر كثيف يكسو جسده كله، وشعر رأسه كشعر امرأة، وهو كذلك لا يعرف البلاد ولا يعرف الناس. وتصادف أن رآه صياد وهو يرد الماء مع الحيوان، فتجمد وجهه من الخوف، وشل لسانه، وذهب إلى أبيه، وقص عليه قصة الرجل الذي هبط من الجبال وقوته الجبارة تشبه قبضة آنو كبير الآلهة، وكيف حال بينه وبين صيده ، فردم الحفر التي حفرت، وقطع شباكي التي نصبت، «ونصحه أبوه أن يمضي إلى أوروك لينبئ جلجاميش «الذي لم يفقه أحد في قوته» بنبأ ذلك الرجل القوي الجبار، وليأمر له الملك بإحدى بغايا المعبد ليصحبها معه، فتغوي وحش البرية بفتنتها، وتتمكن منه بقوة المرآة التي تفوق قوة الرجل.»
وفعل الصياد ما أمره أبوه، وأعطاه جلجاميش البغي فرجع معها إلى البرية، وراحا يترصدان عند مورد الماء. ولما أن جاء إنكيدو مع رفاقه مع الظباء وحيوان البر كشفت له عن نهديها ومفاتن جسدها. وسرعان ما انجذب البطل الفطري إليها، وانغمس في التلذذ بمفاتنها ستة أيام وسبع ليال، واستطاعت البغي أن «تعلمه صنعة المرآة». وما إن شبع من التمتع بها، وتذكر المكان الذي ولد فيه بعدما أنسته المرآة إياه، حتى توجه إلى إلفه من حيوان البر ، فلاذت الظباء بالفرار عندما أبصرته، وأنكرته حيواناته التي تربت معه في البرية، كما سبق أن أخبر الصياد بذلك أبوه وجلجاميش. وأحس إنكيدو أن أشياء تغيرت فيه ولا يعرف كنهها بعد؛ إذ خذلته ركبتاه، وخارت قواه، ولم يعد قادرا على اللحاق بحيواناته المذعورة، فقفل راجعا وجلس عند قدمي البغي، وأخذ يتأمل وجهها ويصغي لكلامها. بدأت مسيرته إذن من الوحشية إلى الإنسانية، واكتسب الفهم وسعة الحس، واستجاب لدعوة البغي له بأن تأخذه معها إلى أوروك ذات الأسوار، حيث يعيش جلجاميش الكامل القوة والبأس، «الذي يجرب كالثور الوحشي قوته العاتية على الناس» (ل1، ع4، س39 وما بعدها)، بل لقد تعجلها الذهاب إلى هناك بعدما سمعه عن ظلم جلجاميش وعتوه، وأعلن أنه سيطلب منازلته ويعنفه في القول، وسيهتف مناديا في أوروك: «القوي هو أنا! متى دخلت مكانا غيرت فيه المصائر (أو النظم والقوانين)! إن المولود في البراري لذو قوة وبأس عظيم.» وكأنما تحاول الملحمة أن تقول إن قانون الفطرة النقي أقوى من عسف الحكام الطغاة، وإن عدل الطبيعة سيغلب ظلم المدينة. وأخذت بغي المعبد أو بالأحرى كاهنة الحب
7 «شمخات» بيد إنكيدو كما تأخذ الأم بيد طفلها، وعلمته السير على درب الإنسانية والتحضر. ولعلها أن تكون قد علقت عليه الآمال في الانتصار للمظلومين، وإنصاف شعبها وبنات جنسها من عسف الجبار الذي داس بقدميه كل القوانين والأعراف. أخذته معها إلى بيت الرعاة، وعلمته كيف يأكل الخبز ويشرب الشراب، وكيف يغتسل ويمسح جسده بالزيت ويتعطر بالطيب، ويرتدي ملابس البشر بدلا من جلود الأسود والحيوان، حتى لقد دفعه إحساسه بالتضامن معهم في الإنسانية إلى مطاردة الوحوش التي كانت تهدد حياة الرعاة، فاستطاعوا أن يخلدوا إلى الراحة والأمان.
وصل إنكيدو مع راعيته كاهنة الحب إلى أوروك، بعد أن سبقته إليها هواجس الإحساس بقدومه في حلمين رواهما جلجاميش على أمه نينسون الحكيمة العارفة بكل شيء، فطمأنته أن النجم والفأس المطروحة على طرقات أوروك - اللذين رآهما في منامه، وانحنى عليهما كما ينحني على امرأة، وتزاحم حولهما أهالي أوروك - هما الصديق الذي سيفرح به قلبه المضطرب الذي لم يذق طعم الصداقة، والرفيق الذي سينقذه في وقت الشدة. وأخذ إنسان البرية يتجول في سوق المدينة، فتجمع الناس حوله وراحوا يطيلون النظر إليه. رأوا فيه ند جلجاميش الذي تمنوه، وتوسموا فيه القوة والشجاعة لمنازلة الثور الناطح والبطل الجميل الحكيم، وهللوا مستبشرين بظهور البطل الذي سيشغله عنهم ويريحهم من بطشه. وتلاقى البطلان عندما كان جلجاميش يهم بدخول بيت آلهة الحب أشخارا (عشتار) للقيام بدور الزوج الإلهي في الزواج المقدس، الذي كان يحتفل به إيذانا بحلول الخصب والرخاء وإنبات الزرع. واعترض إنكيدو البطل ليمنعه من دخول المعبد، وغضب جلجاميش وهجم عليه، واشتبك الاثنان أمام الناس. سد إنكيدو الباب بقدمه، ومنع جلجاميش من الدخول. هناك أمسك كل منهما بالآخر وتصارعا كثورين. حطما عمود الباب وارتج الجدار، وعندما ثنى جلجاميش ركبته، وقدمه ثابتة في الأرض، انفثأت ثورة غضبه، وأدار صدره (ل2، س215-229)، وانتهى الصراع بغلبة جلجاميش واقتناعه في الوقت نفسه بقوة خصمه، وأراد أن ينصرف فكلمه إنكيدو، وأشاد بشدة بأسه وجدارته بالملك، وقبلا بعضهما، وعقدا أواصر صداقة يندر أن نجد لها مثيلا في الأدب العالمي.
وذات يوم كشف جلجاميش لصديقه إنكيدو عن رغبته في السفر إلى غابة الأرز؛ ليقطعا الشجر، ويقتلا المارد خمبابا الذي يحرسها من قبل إله العواصف الغضوب إنليل؛ وبذلك يستطيعان «أن يمحوا الشر من الأرض»، ويجلبا الخشب الذي كانت بلاده في حاجة إليه لإنجاز أعمال البناء والعمران. ويحذره إنكيدو - العليم بمسالك الغابة وأخطارها - من مغبة المغامرة بتلك الرحلة؛ حبا فيه، وصونا له من هول النزال مع خمبابا الذي يزأر وزئيره الطوفان، ونفسه الموت الزؤام، وفمه ينفث النار (ل2، س113-114). لكن جلجاميش أصر على المغامرة حتى ولو ذهب وحده، وأكد لصديقه ولأمه التي حذرته كذلك من عاقبة المخاطرة بنفسه أنه يريد أن يرفع اسمه، ولو سقط في النزال فسيقول عنه الناس: «لقد تجرأ جلجاميش على منازلة خمبابا الرهيب» (ل2، س149). وتمت الاستعدادات الواجبة للرحلة، وصنعت السيوف والدروع والفئوس، وذهب جلجاميش إلى مجلس شيوخ المدينة ليستأذنهم في السفر، ويخبرهم بعزمه على لقاء خمبابا الرهيب «الذي تردد الأفواه اسمه في البلاد»؛ لكي يصرعه، «ويسجل لنفسه اسما خالدا، ويثبت أن ابن أوروك قوي وشجاع» (ل2، س180-187). ويرفض الشيوخ أن يوافقوه على رأيه، ويحذرونه من الأخطار كما حذره صديقه وأمه، حتى إذا فشلوا أمام إصراره اضطروا لمباركة سفره والدعاء له بسلامة العودة، وأوصوا إنكيدو أن يسير في المقدمة ويحميه، ثم ذهب الصديقان إلى أم الملك الطموح، إلى المجد والشهرة وخلود الاسم، وباركته الأم الحكيمة، ودعت له الإله شمش الذي أعطاه قلبا مضطربا، وحثه على الرحيل في سفر بعيد، والدخول في معركة لا يعرف عواقبها لكي يمحو من البلاد كل شر يكرهه (ل3، ع2، س10-18). ثم أوصت به إنكيدو كما فعل الشيوخ، وقلدته عقدا من الجوهر النفيس ليكون موثقا منه وعهدا.
وينخرم النص وتشوهه فجوة كبيرة أتلفت الأعمدة الخمسة الأولى من اللوح، الرابع الذي يرجح العلماء أن يكون قد تضمن الوصف التفصيلي لرحلة الملك وصديقه وتجاربهما في غاية الأرز. ومع ذلك بقيت شذرة صغيرة نفهم منها أنهما وجدا عند باب الغابة المسحورة حارسا فقتلاه، وأن إنكيدو قد أصابه الباب بشلل مؤقت جعله يتردد في التوغل في الغابة ومواجهة المارد المخيف، وإذا بجلجاميش - الذي لم تكتم الملحمة اضطرابه وهواجسه - يشجع صديقه، ويكرر عليه ما قاله من قبل: «إن القوي إذا سار في المقدمة وهو متأهب حذر، فقد حمى نفسه وحفظ صاحبه، فإذا سقط فقد خلد اسمه» (ل4، ع6، س37-39).
وتصف الأعمدة الثلاثة الأولى من اللوح الخامس استغراق الصديقين في تأمل جمال الغابة وقمم جبالها وذرى أشجارها، والأحلام الثلاثة التي رآها جلجاميش المضطرب القلب رعبا من لقاء المارد المخيف، وتفسير صديقه الطيب لها بما يحمل لقلبه السكينة والبشرى بالانتصار عليه، ودعاءهما لشمش بأن يؤيدهما ويقف بجانبهما. ولما بدأ جلجاميش في قطع الأشجار ببلطته سمع خمبابا الضجيج، فثار غضبه، وتوعد الطارق المجهول الذي تجاسر على تلطيخ أشجاره بالعار وهي ربيبة جباله. ويبدو أن الخوف اعتراهما، فسمعا شمش السماوي يأمرهما أن تقدما ولا تخافا. ولم يكتف الراعي الإلهي بذلك، بل سخر لهما الرياح العاتية على اختلاف أنواعها، فضربت خمبابا في عينيه حتى تعذر عليه التقدم أو التقهقر، فأسقط في يده واستسلم، وراح يتوسل لجلجاميش أن يطلق سراحه، وأوشك قلب البطل أن يرق له، فنصحه صديقه ألا يبقي عليه ولا يأمن شره، وحثه على أن يقطع رأسه بسيفه؛ وبذلك «محا الشر، واستراحت الجبال والمرتفعات» (ل5، ع4). ورجع الصديقان إلى أوروك وفي نية جلجاميش أن يحتفل بالنصر الكبير. نظف أسلحته، وغسل جسده، وأسدل جدائل شعره على ظهره، وارتدى عباءة فخمة مزركشة ربطها بزنار. ولما وضع تاجه على رأسه رفعت عشتار الجليلة الجميلة عينها، ولمحت جماله، وعرضت عليه أن «يمنحها فيض قوته»، ويصبح زوجها وتصبح زوجته، ولم تتردد عن إغرائه بكل ما يمكن أن يجذب الرجال من مظاهر الترف والشرف، لكن جلجاميش سخر منها سخرية مرة، وأخذ يعدد لها جرائمها في حق عشاقها السابقين الذين خانتهم وتنكرت لهم، أو مسختهم في صور بشعة. وغضبت عشتار، وآلمها جرح كرامتها إلى الحد الذي جعلها تصعد إلى السماء وتطلب من أبيها «آنو» كبير الآلهة أن يوافق على انتقامها من جلجاميش، ويسلمها مقود «الثور السماوي» ليفتك بأوروك وأهلها، وينشر الدمار في ربوعها. ونزل الأب على رغبة ابنته العنيدة المهانة، بعد أن اطمأن إلى أنها قد ادخرت من الغلال والعلف ما يكفي البشر والحيوان. واستطاع البطلان أن ينازلا الثور الجبار ويقتلاه، ورد إنكيدو على لعنات عشتار ونواحها على ثورها السماوي بانتزاع فخذ الثور الصريع وقذفه في وجهها! وبعد أن قرب جلجاميش لإلهه الخاص، وعلق القرنين العجيبين في مخدعه، انطلق موكبه المنتصر مع صديقه في شوارع أوروك وأسواقها، واحتشد الناس لتحيتهما، وراح البطل ينادي عليهم قائلا: من أروع الرجال؟ من أقوى الأبطال؟ فيرد الجميع في صوت واحد: جلجاميش أروع الرجال! جلجاميش أقوى الأبطال! (ل6، ع1، س182-185).
هكذا تصور جلجاميش أنه خلد اسمه وذكره بين الأبطال، وصرع المارد الذي ملأ البلاد بالرعب والشر، وقتل الثور في عرض رائع أمام جماهير الشعب في أوروك،
8
واطمأن إلى أنه لم يزل البطل القوي الجميل الذي يأسر قلوب الحسان، وفي مقدمتهن إلهة الجمال عشتار، ولكنه لم يفطن إلى أن إلهة الحب التي تيمها حبه هي نفسها إلهة الحرب، وأن نقمتها عليه ستحل على الإنسان الوحيد الذي أحسن بإنسانيته وخفق فؤاده بصداقته. ولقد رأى صديقه نفسه في الحلم بداية النهاية المأسوية التي جعلتها الآلهة من نصيب البشر ومن نصيبه، ألا وهو الموت الذي تدور حوله الملحمة، والذي بدأ إنكيدو يحس دبيبه في جسده المحموم وعقله الذي افترسه الهذيان، فلازم فراش المرض الأخير، وراح يصب اللعنات على رأس الصياد، وكاهنة المعبد، والحب، وكل من تسبب في انتزاعه من حياة الفطرة مع الظباء والأسود والحمر الوحشية. واشتد عليه المرض، ورأى في أحلامه المحمومة صورا مفزعة من عالم الموتى، «الذي حرم سكانه من النور، حيث التراب طعامهم، والطين زادهم، وتكسوهم ثياب من الريش كالطيور» (ل7، ع4، س36-39).
مات إنكيدو، فجن جنون جلجاميش ولم يصدق. ناداه فلم يرد عليه. وضع أذنه على صدره فلم يسمع خفقان قلبه، ورفض أن يواري التراب على أمل أن توقظه صرخاته من نومه، ولم يستطع أن يرضخ للحقيقة الأليمة إلا بعد أن وقع الدود عليه وسقط من أنفه. بكاه بكاء مرا، وجمع شيوخ المدينة وأخذ يرثي: «الفأس التي في جنبه، والسيف في حزامه، والدرع الذي يحميه، وفرحته وحلة عيده» (ل8، ع2، ص4-6). وراح يعدد مآثره وإنجازاته، والمشاق التي شد أزره في التغلب عليها وهو ينوح نواح الندابة: «أي نوم هذا الذي أطبق عليك؟ لقد طواك الظلام فما عدت تسمعني!» (ل8، ع2، س13-14)، لكن إنكيدو لم يفتح عينيه، فغطى وجه الصديق كما يغطى وجه العروس، وأخذ يحوم حوله كالنسر، كلبؤة اختطف منها أشبالها، وطفق يذهب ويجيء وينتف شعره المسترسل ويرمي به على الأرض، ويمزق ثيابه الجميلة ويلقي بها كأنها شيء بخس أو نحس لا يلمس (ل8، ع2، س18-22).
وبعد أن أمر الصناع بنحت تمثال لصديقه يكون صدره من اللازورد وجسمه من الذهب. لبس جلد الأسد، وغادر قصره ومدينته، وراح يهيم على وجهه في البراري والبوادي، باحثا عن جده الخالد - رجل الطوفان أوتنابشتيم - ليسأله عن سر حصوله على الخلود، مرعوبا من «حظ البشر» الذي أدرك أخاه ورفيقه في الشدائد والملمات، غير مصدق أنه يمكن أن يتحول مثله إلى تراب. وتسهب الملحمة - ابتداء من اللوح التاسع - في سرد الأهوال التي لقيها البطل المكتئب الطموح إلى الخلود، أو بالأحرى إلى الفرار من حظ البشر الذي لم يغب عنه، وكأنه يخوض تجربة البحث المأسوية بما هو إنسان ونيابة عن كل إنسان. ثم تصور الملحمة التي بلغت ذروة المأساة مراحل سعيه الخائب إلى الأمل المستحيل في الخلود؛ فهو يصل بعد مسيرة طويلة ومضنية إلى بوابة جبلي «ماشو» التوءمين اللذين تغرب فيهما الشمس وتشرق منهما، ويرق له قلب حراسها المركبين على هيئة رجال-عقارب، فيأذنون له بالدخول بعد أن يعرف كبيرهم وزوجته طبيعته المكونة من «لحم الآلهة»، وأن «ثلثيه إلهي والباقي بشري فان»، كما أكدت الملحمة منذ البداية. ودخل من البوابة الهائلة، فوجد نفسه في نفق مظلم طويل، وواصل سيره في ظلام حالك لا يرى من حوله شيئا، ثم لاح له بصيص من نور بعد أن قطع «ساعات مضاعفة» لا حصر لها، وخرج في النهاية من النفق ليجد نفسه في حديقة غناء تثقل أغصانها ثمار عجيبة من أحجار كريمة، تشع منها الأضواء الباهرة والألوان الساحرة، ثم واصل السير حتى اقترب من حانة منعزلة على ساحل بحر الموت والظلمات ، تديرها الساقية الشابة التي عينها الآلهة ليزوروها ويشربوا من يدها بين الحين والحين. وأبصرته «سيدوري» من بعيد، فأفزعها منظر وجهه الأشعث الأغبر، وظنته قاتلا أو قاطع طريق، وأغلقت عليها الباب فلم تفتحه إلا بعد أن هددها بتحطيمه، وأيقنت بعد أن أدركت طبيعته الإلهية، وسمعت قصة عنائه وسبب حزنه واكتئابه، أنه واهم يبحث عن الخلود. ولقد حاولت أن تخلصه من وهمه وتقدم له البديل، وهو خلود اللحظة العابرة، إلا أنه رفض اليد الممدودة بالكأس المشعشعة، ولم ينتصح بنصيحتها التي يصعب نسيانها: «إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، فعندما خلقت الآلهة البشر، قسمت للبشر الموت، واستأثرت في أيديها بالحياة. أما أنت يا جلجاميش فاملأ بطنك. متع نفسك، واجعل أيامك أعيادا، وارقص والعب ليل نهار. نظف ثيابك، واغسل رأسك، واستحم بالماء. احن على الصغير الذي يمسك بيدك، ودع الزوجة تفرح في أحضانك. هذا هو حظ البشر على الأرض» (ل10، ع3، س1-14).
قدمت سيدوري لجلجاميش الخلود البديل، أو لنقل نوعا من الخلود الزائل (إن جازت هذه المفارقة في التعبير)، ولكنه رفضه. هل دار في ذهنه أنه خلود عابر لا يدوم إلى الأبد كالخلود الذي انطلق بحثا عنه؟ ولو تصورنا أنه قبل لحظة الخلود العابرة - التي رفضها فاوست - ألم يكن معنى ذلك أن تفقد المأساة مبررها ومعناها، ويسدل الستار عليها وهي ما تزال في ذروة تأزمها؟ ألم يكن قبوله لكأس «اللحظة الخالدة» ليصبح نوعا من استسلام وإيثار الراحة والتخلي عن الحلم، مهما يبد له أو لنا أنه الحلم المستحيل؟! ثم هل قالت له ساقية الحانة شيئا جديدا عليه أم إنها في الواقع قد ذكرته بحكمة رافدية قديمة، وبما جاء على لسانه هو نفسه في حديثه مع صديقه إنكيدو: «من ذا الذي يستطيع يا صديقي أن يصعد للسماء؟ الآلهة وحدهم مخلدون على عروشهم مع شمش. أما أيام البشر فمعدودة، وكل ما يعملون ريح باطلة» (ل2، ع5، س140-143)؟ فليمض إذن في خوض غمار المأساة، وليواصل سعيه العبثي - كما نقول اليوم - إلى الخلود المستحيل، سواء تصورنا أنه أراد في هذا الموقف أن يحصل عليه إرضاء لطموحه الذاتي، أو تصورنا أنه بدأ تجربة التطهر الجزئي من «أناه» البطولية المتضخمة، والتحول إلى «النحن» التي تشاركه في هذا الخلود، أو تقتنع على الأقل بأنه غير مستحيل على بشر يخلص في مسعاه للحصول عليه.
واصل جلجاميش بحثه الذي لا نستطيع أن نقول إنه شعر في هذه المرحلة بأنه بحث عقيم. وقد أشفقت عليه سيدوري في النهاية، ودلته على ملاح اسمه أورشنابي يعمل في خدمة «جده الخالد»، بعد أن ألح عليها برغبته في الوصول إليه ليسأله عن سر الحياة والموت. وعبر جلجاميش مياه الموت بمساعدة الملاح الذي لم يأل بدوره جهدا في تثبيط همته، وثنيه عن المغامرة التي حذره من عدم جدواها. وبلغ جلجاميش «جزيرة الأحياء» التي خصصها الآلهة لإقامة جده الخالد فيها مع زوجه، جزاء له على إنقاذ الحياة والأحياء من فك الطوفان. وعندما يلتقي جلجاميش بجده الخالد، ويجيب على سؤاله عن السبب في ضمور وجهه واكتئاب فؤاده وذبول ملامحه وتمكن الغم من نفسه، وبعد أن يكرر عليه جلجاميش ما سبق أن قاله لساقية الحانة وللملاح عن موت صديقه الذي أصابه حظ البشر ومصيرهم، ورعبه - أو رعب الثلث البشري منه! - من أن يدركه المصير نفسه ويصبح ترابا ولا ينهض من نومه أبدا، نجده (في مطلع اللوح الحادي عشر الذي خصصه بأكمله لسرد قصة الطوفان بكل تفاصيلها المشهورة)، نجده يعبر عن دهشته أو خيبة أمله في هذا الجد الذي سعى إليه، وتحمل الأهوال والمشاق ليعرف منه سر الخلود. لقد تخيل أنه سيواجه بطلا جبارا، وهيأ نفسه للصراع معه، فإذا به يرى أمامه رجلا خاملا مستلقيا على قفاه كأنه جثة مخدرة، ويكتشف أن هيئته لا تخلف عن هيئته، حتى إن ذراعه لا تحرك ساكنا ضده؛ ولهذا يصيح به متعجبا قبل أن يستغرق في قصة الطوفان: «قل لي إذن كيف دخلت في زمرة الآلهة، ونلت الحياة الخالدة؟!» (ل11، س2-7). هل يمكننا القول بأن جلجاميش قد أدرك أن جده - حتى قبل أن يسمع منه قصة الطوفان - قد خلد خلودا خاليا من الحياة، أو أن بقاءه بقاء أبديا هو وزوجته لا يسبغ عليهما صفة الخلود الذي تمناه لنفسه، وتعب وشقي لكي يسأله عنه؟ إن هذا مجرد حدس لا نزعم له اليقين بحال من الأحوال. والمهم في هذا العرض الموجز المخل أنه استمع منه إلى تفاصيل قصة الطوفان التي تعرفها من سفر التكوين في التوراة ومن القرآن الكريم، كما كانت معروفة إلى حد كبير لدى السومريين والبابليين قبل أن يجمعها الكاتب البابلي، ويضيفها إلى ملحمته. لقد خرج الجد الخالد من السفينة بعد كل ما جرى وما شاهد من كوة قمرته، وقدم القرابين للآلهة التي تزاحمت عليها كالذباب، وجاء إنليل وهو يسأل في غضب: كيف نجت نفس واحدة من الهلاك وقد قضى بألا ينجو أحد؟ ولكنه انضم في النهاية إلى إجماع الآلهة، وصعد إلى السفينة، وأخذ بيد «أوتنابشتيم»، وأركبه هو وزوجه فيها، ولمس جبهتهما وباركهما قائلا: «لم يكن أوتنابشتيم من قبل سوى واحد من أبناء البشر، فليشبهنا نحن الآلهة من الآن، أوتنابشتيم وزوجه! وليسكنا بعيدا عند فم الأنهار.» ثم يختم رجل الطوفان قصته الطويلة المضنية بقوله: «لكن من يجمع لك شمل الآلهة الآن لتعثر على الحياة الخالدة التي تبحث عنها؟» (ل11، س189-198). وكأنما يخاطب الإنسان في جلجاميش بقوله لن تنال الخلود الذي نلته أنا إلا بذنب عظيم كالذي يثقل ضميري، وهو أن يهلك جنس البشر وتبقى وحدك حيا!
والغريب في أوتنابشتيم الذي ذكره في بداية لقائهما بفناء كل شيء، في سطور يصعب نسيانها كما يصعب تصور صدورها عنه (الموت القاسي لا يرحم. هل نبني بيتا لا يفنى؟ هل نختم عقدا لا يبلى؟ هل يقتسم الإخوة ميراثا يبقى؟ أيعم الأرض إلى الأبد الحقد، وتدوم مياه الفيضان إذا امتلأ النهر وتغطى؟ واليعسوب ... لا لم يتسن لوجه فان أن ينظر للشمس، ويحدق فيها دوما، والنائم والميت كم يشبه أحدهما الآخر! أولا يرتسم الموت على وجه النائم والميت؟ (ل10، ع4، س25-34))، أقول إن من الغريب حقا أن يصرفه الجد الخالد نفسه عن فكرة الخلود، ويبين له استحالتها من منظور بشري صرف، وأن يحذره من الثمن الباهظ الذي تكلفه - وهو هلاك البشرية - وكأنه يشعر سلفا بأنه لن يتحمل ذلك الوزر الفظي مهما أدى إلى التخلي عن طموحه، والتضحية بحلمه العزيز على نفسه. ولعل رجل الطوفان «الخالد» كان يفكر في شيء من هذا عندما وضع الحالم الطموح أمام امتحان سريع، يقوم على الحقيقة التي يقررها آخر السطور التي اقتبسناها قبل قليل؛ فقد طلب من جلجاميش أن يمتنع عن النوم ستة أيام وسبع ليال؛ إذ ربما استطاع من يقاوم النوم أن يقاوم الموت الذي يشبهه في الظاهر على أقل تقدير. ويكابر البطل الذي لم يتخل بعد عن طموحه ويقبل التحدي؛ أملا في كسب الرهان، والفوز بالخلود. وسرعان ما يغلبه النعاس، ويغط في نوم عميق. وعندما يفيق منه يكتشف أنه قد نام ستة أيام أشرتها زوجة جده على الجدار، وأحصتها عددا بأرغفة الخبز التي وضعتها عند رأسه وهو نائم.
ويبدو أن جلجاميش قد أدرك فشله في الصمود للتحدي واجتياز الاختبار. وإذا كنا لا نستطيع أن نقطع بأنه تخلى عن طموحه تماما، فيمكننا أن نتصور أنه وقع فريسة الحيرة والضياع واليأس والشك. لنستمع إليه وهو يقول لجده فيما يشبه الأنين: «آه! ماذا أعمل؟ وإلى أين أوجه وجهي؟ في مخدعي يقيم الموت، وحيث وضعت القدم يواجهني الموت!» (ل11، س30-233). ومع أن الموت يطارده ويلاحقه ويشمله من كل جانب، فلا نظن أنه قد رضخ له أو سلم بحقيقته. ومع أن حلم الخلود قد أخذ يتسرب شيئا فشيئا في الضباب، فإن تمسكه بطموحه إلى مقاومة الموت لا يعني أكثر من تمسكه بطبيعته كإنسان، وبشوقه المطلق والمشروع للانتصار عليه حتى ولو كان الانتصار جزئيا أو غير مطلق. ويركب جلجاميش السفينة بعد أن ينظف نفسه من الأوساخ التي علقت به، ويرتدي ثيابا جديدة لا ينالها البلى على طريق رجوعه لمدينته. هناك أشفقت عليه زوجة أوتنابشتيم، وطلبت منه أن يعطي جلجاميش شيئا يأخذه معه إلى وطنه؛ تعويضا له عن التعب والضنى الذي تحمله في سفره. ويبدو أن الجد الخالد قد تردد كثيرا قبل أن يفضي لجلجاميش بسر من أسرار الآلهة، ولم يكن ذلك السر إلا النبتة الشوكية العجيبة، التي تجدد شباب من يأكل منها، وترجع للشيخ صباه. وغاص جلجاميش في قاع البحر في الموضع الذي حدده له أوتنابشتيم، واستخرج النبتة السحرية، وفرح بها أشد الفرح، حتى لقد قال في غمرة نشوته إنه سيجعل أهل مدينته يأكلون منها ليستعيدوا شبابهم قبل أن يفكر هو نفسه في الأكل منها. وواصل مع رفيقه الملاح طريقهما إلى أوروك ومعه الإكسير أو الدواء الناجع للشيخوخة والفناء. غير أن الفرحة لم تتم - كما نردد اليوم ليل نهار - إذ نزل جلجاميش أثناء الطريق في بئر ليبترد من القيظ اللافح، وترك النبتة الشائكة على حافتها، وشمت أفعى شذا النبتة السحرية، فزحفت إليها وابتلعتها، وأخذت منذ ذلك الحين تجدد جلدها وشبابها من دون الإنسان! هنالك جلس جلجاميش وأخذ يبكي. جرت الدموع على وجهه، وكلم أورشنابي الملاح (ل11، س292-296): «لم يا أورشنابي كل ذراعي؟ ولم قد نزف القلب دماه؟ لم أجن لنفسي خيرا، بل قدمت الخير لأسد الترب (وهو الاسم الذي كان يطلقه البابليون على الحية).»
لو كان البكاء والحسرة والضياع الذي تردده الصرخات الأخيرة هي النهاية الطبيعية التي يفرضها التسلسل المنطقي لأحداث الملحمة، لقلنا إنها مأسوية فاجعة بكل معنى الجلمة. ولو كان جلوس جلجاميش وبكاؤه ودموعه التي جرت على وجهه تمثل المشهد الختامي، لقلنا إنه هو مشهد التسليم ب «حظ البشر» المحتوم. ربما أثر علينا الوجدان المعاصر ب «قلق الموت»، فتصورنا أن جلجاميش قد سبق فلاسفة الوجود والوجوديين في القرن العشرين - بما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة على أقل تقدير! - إلى الحقيقة التي لا ينفكون يؤكدونها وكأنها من أهم اكتشافات العصر ومقولاته الأساسية، ألا وهي «زمانية» الوجود الإنساني، وتناهيه، ومواقفه المترتبة على مواجهتها. وربما يزيد من تأكيد النهاية المأسوية للملحمة، والطبيعية «التراجيدية» للبطل المأسوي جلجاميش، أن هذا المشهد يفجر ينابيع المرارة السوداء في نفس البطل الذي تيقن من خيبة أمله، وفشله في الحصول على الخلود؛ هذا الخلود الذي علق عليه قبل ذلك بسطور قليلة كل آماله وآمال شعبه. ألم يكن هو الذي قال لأورشنابي الملاح هذه الكلمات التي تردد أنغام الفرح والتفاؤل والأمل والانتصار: «إن هذه النبتة تشفي من «الاضطراب»، وبفضلها يستعيد المرء حياته. سأحملها معي إلى أوروك ذات الأسوار، وأعطيها للناس ليأكلوا منها. إن اسمها هو «عودة الشيخ إلى شبابه»، ولسوف آكل منها ليرجع إلي شبابي» (ل11، س377-282)؟ لقد امتزج الأمل الذي لا تخفيه هذه العبارات بالعزم الثابت على أن يشرك معه شعب أوروك، وشيوخها بوجه خاص، في الأكل من النبتة، وأن يؤخر نفسه عنهم، لا بدافع الإيثار وحده، بل إلى حين بلوغه الشيخوخة؛ ومن ثم تكون الحسرة وخيبة الأمل مأسوية وفاجعة إلى أبعد حد عندما يكتشف أن الحية قد تسللت إلى «زهرة الشباب» فاختطفتها، وغيرت جلدها وحرمت منها الإنسان (وتغيير الجلد رمز أسطوري على الخلود وتجديد الشباب عند كثير من الشعوب القديمة، سواء نسب إلى الحية أو إلى حيوانات أخرى اكتسبت القدرة عليه، وأضاعها الإنسان بعد أن كانت في متناول يده).
9
كذلك تكون الصرخات المؤثرة التي أطلقها من قلبه، واقتبسنا عباراتها قبل قليل، صرخات لها ما يبررها، ويكون لمن يسمعها أو يقرؤها كل الحق في أن يقول بأنها تدل على عملية تطهير (كاثارسيس) للبطل وللمتلقي، بالمعنى الأرسطي الكامل للتطهير الذي تحدثه «التراجيديا»، وعندئذ يحق لنا أيضا أن نوافق القائلين بأن ضياع نبتة الخلود كان هو الفصل الحاسم والأخير الذي يختم فصول «مأسوية» جلجاميش، الذي تحول قبل ذلك إلى بطل تراجيدي عندما اكتشف إنسانيته الزائلة ووجوده الزماني المتناهي (وبخاصة عندما عرف الموت، وواجه حقيقته المؤلمة من خلال تجربة خاصة هي تجربة موت صديقه الوحيد،
10
وعندما مر قبل ذلك بتجربة فشله المتواصل في الانتصار على هذه الإنسانية أو تجاوزها، مع فشله في اجتياز امتحان النوم الذي عقده له جده الخالد أوتنابشتيم وزوجته).
ومع ذلك فهنالك من يجرد جلجاميش من صفة البطل التراجيدي، كما يرفض اعتبار الملحمة تراجيدية تسعى إلى تحقيق الشعور بالتطهير. والذين يقولون بهذا الرأي يؤكدون لأسباب مختلفة أن نهاية الملحمة ليست نهاية مأسوية بأي حال من الأحوال؛ فعالم الآشوريات الأمريكي ثوركلد جاكوبسون يقول: «إن ملحمة جلجاميش لا تنتهي إلى خاتمة منسجمة، بل تبقى عواطفها في احتدام، وليس فيها أي شعور بالتطهير كما في المأساة، أو أي قبول أساسي لما لا مرد له. وإنها نهاية شامتة بائسة لا تشفي العليل، فيظل اضطرابها الداخلي في غليان، ويظل سؤالها الحيوي بلا جواب.»
11
وعالم الساميات وتاريخ الأديان العربي محمد خليفة حسن أحمد، ينفي كذلك عن جلجاميش صفة البطل التراجيدي الذي سلم في النهاية بقدره الإنساني أو استسلم له، كما يرفض اعتبار البطولة في الملحمة بطولة تراجيدية. وهو يعلل هذا تعليلا يرجع فيه إلى طبيعة التفكير السامي القديم نفسه حيث يقول: «والحقيقة أن الملحمة لو انتهت نهاية تراجيدية لأتت متناقضة مع طبيعة التفكير السامي القديم، الذي يدعو إلى طاعة الآلهة والإيمان بتحكمها في المقادير الإنسانية، ويوجه العبادة إلى تحقيق رضا الآلهة، من خلال طاعتها وإرضائها بالقرابين وطقوس العبادة المختلفة.»
12
والواقع أن رأي العالمين لا ينفي عن جلجاميش أنه بطل مأسوي؛ فالعالم الأول يضع الصفحات التي كتبها عن جلجاميش (ضمن الفصل السابع من كتاب ما قبل الفلسفة عن الحياة الفاضلة في أرض الرافدين) تحت عنوان دال هو «الثورة على الموت». ونحن نجد هذه الثورة في ملحمة جلجاميش في صورة سخط مكتوم، وإحساس دفين بالظلم. وقد نشأ هذا الإحساس عن الفكرة الجديدة عن حقوق الإنسان ومطالبته بالعدل في الكون وفي المجتمع، باعتباره حقا وليس منة من الآلهة، وبخاصة بعد التطور في مفهوم العدل منذ الدولة البابلية القديمة وحكم حامورابي صاحب الشريعة المشهورة بوجه خاص؛
13
ولذلك واجه جلجاميش الموت - كما واجهه كثير من أدباء الحكمة البابلية بعد ذلك - بوصفه شرا أو عقابا أو ظلما، بل بوصفه الظلم الأكبر.
14
ومع أن حكمة الحضارة البابلية التي رددها جلجاميش نفسه في الملحمة كما رددها رجل الطوفان أوتنابشتيم، كانت تقول - على نحو ما رأينا - إن الموت لا بد منه، فإن هذا لم يمنع أن تكون جلجاميش بأكملها ملحمة مقاومة الإنسان للموت، ومحاولة الانتصار عليه. ومن هنا تأتي مأسويتها التي تتغلغل فيها، وتلمس قلوبنا حتى اليوم، كما تأتي مأسوية النهاية التي حاول جاكوبسون أن ينفي عنها التطهير الذي تحدثه المأساة، وإن اعترف بأن عواطفها تبقى في احتدام، وأن اضطرابها الداخلي يظل في غليان. وفي هذا وحده ما فيه من مأسوية سنرجع إليها بعد قليل.
أما العالم العربي فينفي الصفة التراجيدية كذلك عن نهاية الملحمة؛ لاعتقاده - الذي نشاركه فيه - بأن البطولة في جلجاميش قد وظفت توظيفا حضاريا جديدا؛ إذ لم تعد هي بطولة التحدي والمواجهة ضد الآلهة كلها أو بعضها، ولا ضد الكون والطبيعة وما يحتويان من مخلوقات، ولا ضد الإنسانية ممثلة في أعداء البطل من بني جنسه، والكائنات الأسطورية التي تتعداه في القوة والرهبة التي تثيرها. إن البطل قد أصبح هو الإنسان صانع الحضارة التي تمثل طريقه إلى الخلود.
15
من هذه العبارة نعيد النظر في النهاية المأسوية التي تحدثنا عنها، ولم تكن في الحقيقة هي نهاية الملحمة؛ فالقراءة المتأنية للنص ترينا بوضوح أن الملحمة تنتهي كما بدأت؛ أي تكرر البداية في النهاية. صحيح أن النص في الحالة الثانية قد ورد في صيغة خطاب إلى أورشنابي الملاح، يحثه فيه على أن يتأمل أعمال «المتكلم» جلجاميش العمرانية والحضارية (كالسور المشهور، ومعبد عشتار، والشارات أو مساحات الأرض المزروعة)، بينما ورد ذكرها - باستثناء الشارات - في بداية الملحمة بالإشارة إلى جلجاميش في صيغة الغائب، لكن المغزى في الحالين واحد، وهو أن الأعمال الحضارية الباقية هي الخلود الوحيد الذي يلائم البشر. وقبل أن نتطرق للكلام عن هذا المغزى الحضاري علينا أن نقف وقفة قصيرة عند النص نفسه؛ فبعد صرخات اليأس المفجعة التي رددها جلجاميش على أثر اكتشافه لضياع النبتة ومعها كل أمل في الخلود (ل11، س293-296)، نجد هذه السطور الثلاثة التي اختلف المترجمون في ترجمتها اختلافا يسمح بتفسيرها تفسيرات مختلفة. ها هي ذي الترجمة الألمانية تؤديها بصورة ربما تكون دقيقة، ولكنها لا تخلو من الاضطراب: «الآن يرتفع اليم مسافة عشرين ساعة مضاعفة، وقد تركت الأداة «؟» تسقط مني عندما فتحت قناة صغيرة، فكيف لي بمثلها لأضعها إلى جانبي؟ ليتني انسحبت وتركت السفينة على الشاطئ!» (ل11، س297-299). وتؤدي ترجمة فراس السواح السطور نفسها أداء لا يقل اضطرابا وغموضا: «عندما دخلت المجرى وفتحت القناة، وجدت شارة وضعت لي، وإني أعلن انسحابي، سأترك السفينة عند الشاطئ»
16 (ل11، 64، س298-300). أما ترجمة العلامة طه باقر - رحمه الله - فتعمد إلى الترجمة الشارحة، كما فعلت في مواضع أخرى عديدة، وتصوغها على النحو التالي: «وقد سبق لي أني لما فتحت منافذ الماء، وجدت أن هذا نذير لي أن أتخلى «عن مطلبي»، وأترك السفينة في الساحل.»
17
وفي كل الأحوال نجد البطل ينسحب أو يتخلى، فهل تم انسحابه أو تخليه عن مطلبه الذي نطلق بحثا عنه وهو الخلود، بعد أن تأكد له فشله الذريع في هذه المرة أكثر من أي مرة سبقتها، أم إن الانسحاب أو التخلي الذي تذكره السطور الغامضة يقصد به ترك السفينة، والسير مع الملاح على طريق البر إلى أوروك؟ أيا كان الأمر فلا بد أن نوعا من التحول والتطهر قد تم هنا بعد ضياع النبتة. وإذا جازت هذه القراءة فقد بدأ التحول أو التطهر على مرحلتين؛ ففي الأولى بكى جلجاميش، وصرخ، وأطلق حمم اليأس من قلبه الممزق؛ وفي الثانية مرت عليه فترة من الزمن سمحت بشيء من التدبر والتقاط الأنفاس. ولم تكن هذه الفترة الزمنية بأقل من «عشرين ساعة مضاعفة»، تناول خلالها القليل من الزاد مع رفيق سفره، وثلاثين ساعة أخرى مضاعفة، أي عدة أيام، توقفا بعدها لقضاء الليل قبل أن يستأنفا المسير ويصلا إلى مشارف أوروك. وهنا نجد الكاتب الشعبي (بما ألفناه منه على الدوام، من التبسيط والعفوية، والبعد عن التحليل والتعليل، واختزال الأزمنة والأحداث والوقائع وتركيزها ودمجها في بعضها، وإبراز جوانب أو أحداث معينة لها دلالات هامة ... إلخ)
18
نجد هذا الكاتب يقفز فجأة إلى خطاب جلجاميش لرفيق رحلته: أي أورشنابي! اصعد سور أوروك. تمش عليه. تفحص قواعده، وانظر إلى لبناته. أولم تصنع من آجر مفخور؟ أولم يضع الحكماء السبعة أسسه ... إلخ (ل11، س302-307). فهل نفهم من صيغة هذا الخطاب، في أفعال أمر كلامية تنطوي على الدعوة والحث والتحريض، وصيغ استفهام تنطوي على الزهو والافتخار، هل نفهم منها أن جلجاميش قد استخلص المغزى من ضياع النبتة، ومن كل تجارب الفشل السابقة، وأنه قد عرف ما لم يعرفه من قبل معرفة واعية ناضجة، وهو أن البناء والعمل الحضاري هو خلود الذكر البديل عن الخلود المستحيل الذي استأثرت به الآلهة من دو البشر؟ ألا يدل هذا الخطاب - الذي لا تستطيع أي ترجمة أن تكتم تعبيره الباطن عن الفرح والاندهاش والاقتناع والاطمئنان - على أن جلجاميش قد بلغ مرحلة «الاستنارة» بعد «دراما» البحث المضني، وتأكد من الحقيقة التي خاض التجربة ليتثبت من صدقها، وهي أن طريق الإنسان الفاني إلى الخلود هو عمله الحضاري الذي يحفظ اسمه بعد موته الحتمي؟ ثم ألم يكن ذكر أعماله الحضارية في مطلع الملحمة بصيغة الغائب تسجيلا لأمجاده الشخصية؛ بدليل أنها قرنت بأعماله التي تدل على طغيانه وبطشه، وبدأت بأمر واضح من أعلى، بينما جاء ذكر تلك الأعمال في نهاية الملحمة بصيغة الخطاب الذي يشي بالانتقال من الأنا إلى النحن، ومن تأكيد الذات على حساب الآخر إلى معرفتها في علاقتها التي لا تنفصم بالآخر؟ وأخيرا ألا يكاد هذا الخطاب أن يغفل فوارق المكان والزمان لكي يصل إلى كل إنسان؟
ونرجع إلى الموضوع الذي بدأنا به، وهو طغيان جلجاميش، فكل ما قلناه عن مأسوية هذا البطل بين الإثبات والإنكار، وعن احتمال تطهره من طغيانه واستبداده أو استبداد فكرة الخلود وتسلطها عليه، إنما يردنا إلى الموضوع الأساسي المسيطر على جو الملحمة منذ البداية، وهو طغيان البطل المتأله. وإذا صح ما قلناه حتى الآن عن تطهره، واحتفاظه بالطابع المأسوي حتى لحظة «الانفراج» أو الاستنارة الأخيرة، فإن هذه المأسوية وذلك التطهر قد ارتبطا في الوقت نفسه بتغير مفهومه عن البطولة، المرتبطة بدورها بمدى طغيانه المادي والمعنوي. ومعنى هذا أن تطهره أو تحرره قد تطور ببطء من مرحلة إلى مرحلة، بحيث اقترن التطهر من طغيان الأنا المستبدة بالتحرر من طغيان فكرة الخلود الشخصي المتسلطة عليه، حتى إذا ضاع الأمل الأخير في هذا الخلود مع ضياع النبتة، ومر بأقسى تجاربه، وتحقق له نوع من «العلاء» فوق الطغيان والخلود الأنانيين، وتطلعت العين والنفس إلى معالم البناء الحضاري، ورجعت إلى البداية التي لم تدرك معناها إلا بعد «ملحمة» التناقض والتمزق والصراع «الجدلي»، الذي فتح عينيه في النهاية على الحقيقة المباشرة البسيطة، وهي أن الخلود الوحيد المتاح للبشر إنما يكمن في العمل الجماعي والبناء الحضاري. وعلينا الآن أن نرصد هذا التطور البطيء بإيجاز.
إن قضية الطغيان من أولى القضايا التي تثيرها الملحمة؛ فعلى الرغم من أنها تبدأ بالتغني بمعرفة جلجاميش وحكمته وبصيرته، ثم تتجه للإشادة بأعماله النادرة، وإنجازاته في البناء والعمران، وتعود بعد ذلك مباشرة إلى تصويره في صورة البطل القوي الجميل، الذي يفوق في قوته وجماله سائر البشر، فإنها لا تلبث أن تقدم بعض الوقائع الواضحة الدلالة على «قهره لشعبه بالليل وفي وضح النهار» (ل1، ع1، س13)؛ فهو كالثور الوحشي أو النطاح؛ مهيبة خطاه، وبأس سلاحه ليس له نظير. وهو يوقظ رعاياه على دقات الطبول؛ مما يثير سخط أهالي أوروك. وهو لا يترك الابن لأبيه، ولا العذراء لحبيبها، ولا ابنة البطل ولا زوجة المحارب. صحيح أن كل هذه الوقائع والتفصيلات لا تقدم الطغيان في جوانبه الإرهابية والدموية التي نتصورها اليوم، بل ربما أمكن تبريرها على نحو أو آخر في الإطار الأسطوري والديني والاجتماعي والتاريخي الذي تدور فيه الملحمة؛ فتسخير الشعب الذي يوقظه على دقات الطبول يمكن تبريره على ضوء الأهداف العمرانية والحضارية، من خلال الأسس الاقتصادية التي اقتضت شكلا معينا من أشكال الإنتاج وعلاقاته في ظل الإقطاع القديم الذي ساد الحضارات النهرية القديمة؛ وأخذ الابنة من أبيها، والزوجة من زوجها، والعروس من خطيبها، يمكن فهمه من خلال طقس «الزواج المقدس»، الذي كان يسمح لبعض القبائل البدائية «بحق الليلة الأولى» قبل الزواج الشرعي.
19
ولكن هل تبرر هذه الوقائع شكوى الناس للآلهة واستجابتها لهم؟ ألا توحي بأن الكاتب أو الكتاب قد سكتوا عن جرائم أفظع وأبشع، مضطرين أو مذعنين للعرف والتقليد الديني الذي حكم بتأليه جلجاميش في حياته، وتوليته القضاء في أرواح الموتى في العالم السفلي بعد موته، ثم التغني بعدله ورعايته لشعبه وحب شعبه له على مدى مئات السنين (هذا إذا صح ما تقوله بعض المراجع وإن لم تستطع تأكيده)؟ ثم إن شكوى الناس للآلهة تأتي في نفس واحد مع تمجيد قوته وجماله؛ فهو راعيهم، وهو مع ذلك قاهرهم، وكأنما يضعون إكليل الغار وتاج المجد على رأس البطل الذي يقيدهم بالأغلال، أو يسومهم عذابا أشد، ويقدمون الدليل على حب الضحية الخائفة، وخضوعها للجلاد الذي تلمع السكين في يده. ألا يقوي هذا من احتمال بطشه وجبروته بصورة أكبر وأخطر مما ذكره كتاب الملحمة، ولا يقلل منه؟!
تبقى هذه الأسئلة في نطاق الحدس والتخمين بوجود «أعماق» أخرى للنص لم تسمح رقابة السلطة والتقاليد بالكشف عنها، وتفصيلات ومعلومات لم يتح للعلماء التوصل إليها، ولكنها تشير إشارة كافية - على الأقل في المرحلة المبكرة من سيرة جلجاميش - إلى وجه الحاكم الإلهي والأرضي المستبد «الذي طغى»، بجانب تمجيدها للبطل البصير الحكيم «الذي رأى».
بيد أن هذا الوجه لم يكن هو الوجه الوحيد، وملامحه الجامدة المرعبة لم تبق على جمودها ورعبها. لقد طرأت عليه تغيرات وتطورات مختلفة قبل أن يبلغ الاستنارة أو التجلي، اللذين بلغهما على أرجح الظنون في المشهد الختامي الذي تحدثنا عنه؛ فقد بدأ تغير مفهوم البطولة، ومن ثم مفهوم الطغيان، منذ أن التقى جلجاميش ب «وحش البرية» إنكيدو في الصراع البدني الذي لم ينته، كما رأينا، بفوز الأول فوزا حاسما على خصمه، وإن تمخض عن اقتناعه بمواجهة ند له في قوته، وعقد ختم الصداقة النادرة بينهما. ويبدو أن إنكيدو قد نسي وعده لبغي المعبد «بتغيير نظام المدينة» ومصيرها، أو نسيه كتاب الملحمة في غمرة اهتمامهم بالمغامرات البطولية المشتركة التي بدأها البطلان. والقارئ الذي تابع هذه المغامرات يتذكر بغير شك أن بطل الملحمة لم يتخل عن طموحه الشخصي إلى الشهرة وخلود الاسم، حتى في المواقف التي برع كتاب الملحمة في تصوير ضعفه الإنساني إزاءها، وتضرعاته لراعيه الإله شمش، وهواجس أحلامه التي كان يسارع صديقه الطيب الشفوق بتفسيرها تفسيرا يرد الطمأنينة إلى نفسه. ويبقى جلجاميش هو البطل الأناني المستبد بعد انتصاره مع صديقه على الثور السماوي (ولعله يرمز من الناحية الأسطورية للقحط واليباب وسائر الكوارث الطبيعية)؛ فقد خرج من هذا الصراع وهو أشد إصرارا على الظهور في مظهر البطل الذي لا يقهر، أمام شعبه الذي راح يردد الهتاف بأنه أقوى الأبطال وأروعهم ، بل إنه ليؤكد هذه البطولة السلبية قبل ذلك بتحديه لإلهة الحب عشتار، وإمعانه في إهانتها والتشهير بها. وهل يمكن أن يعني رفض الحب غير التشبث بعشق الذات، والتحجر في قوقعة الأناوحدية؟! وهل يصدر تحدي إرادة إلهة إلا عن متأله لم يبد عليه أنه اكترث لحظة واحدة بالخراب الذي جره الثور على المدينة، والمئات من البشر الذي صرعهم خواره، واللعنات التي راحت إلهة الحب الجريحة تصبها على رأس المدينة وسكانها؟ ناهيك عن ألوان أخرى من التحدي للقوى الطبيعية المختلفة، ولإرادة الآلهة الذين كان يعلم عنهم أنهم استأثروا بالخلود في قبضتهم. ومع ذلك لم يتخل عن طموحه إلى تخليد نفسه مثلهم؛ إذ ظل حتى ضياع النبتة السحرية الشائكة على اعتقاده بأن جسده من «لحم الآلهة»، وأن ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان.
ويمر جلجاميش - كما قدمنا - بتجربة الموت الحقيقية عندما يفاجأ بموت الصديق. ولا تأتي أهمية هذه التجربة فحسب من أنها حولت الملحمة إلى ملحمة فلسفية تدور حول مقاومة الموت، ومواجهة المصير الإنساني بالتصميم على الخلود الشخصي، وإنما تنبع قبل ذلك من تحول وعيه إلى حقيقته كإنسان، وبداية احتدام الصراع بين العنصر البشري الذي أصبح عرضة للفناء نزولا على قانون حظ البشر، وبين العنصر الإلهي الذي لبث معلقا بحلم الخلود الذي يضمن له تجاوز المصير المحتوم. ولولا مكابدة هذا الصراع لما أمكن أن يهزه مرض الصديق ثم موته، وأن يزلزل كيانه بكل العمق والتأثير الذي صورته الملحمة، ولما أمكن أيضا أن يكرر لكل من يقابله سبب ضمور وجنتيه، واكتئاب نفسه، وهيامه على وجهه في البرية مثل متجول تائه جاء من سفر بعيد. لقد استمر هذا الصراع محتدما في نفسه، حتى بعد لقائه مع جده أوتنابشتيم، وعلمه بالثمن الباهظ الذي يكلفه الخلود، بل واصل تأجج جمراته الحارقة حتى بعد إخفاقه في الانتصار على توءم الموت أو شبيهه (وهو النوم)، وصياحه اليائس بأن الموت يلازم خطاه، ويقبع في مخدعه. غير أن الوعي الكامل والصادق بحقيقته الفانية، وضياع الخلود عليه وعلى شعبه (وربما على البشرية كافة)، لم يدركه إلا بعد ضياع النبتة - الحلم - والإكسير. هنا تفجر شلال اليأس الأسود من تحقيق «الغرض» أو «الحكمة» أو «الشعار» الذي لقنه من موروثه الثقافي، وردده لسانه أكثر من مرة في الملحمة. وكأن ضياع الخلود وضياع النبتة والتسليم بحقيقة الفناء، هي «النتيجة» الحاسمة الأخيرة التي أدت إليها تجاربه المضنية، ولزمت عنها لزوما ضروريا، بعد أن كانت مجرد افتراض أو قول سائر يتمثل به كغيره من أفراد شعبه الزائلين.
وتتحول هذه النتيجة إلى ما يشبه القانون أو المبدأ العام عندما يأتي المشهد الختامي على نحو ما رأينا، ليعبر عنه في صورة حية بعيدة عن التجرد؛ صورة تكاد أن تكون إحدى معجزات الخلق الأدبي والفني؛ ذلك لأنها توحي بذلك المبدأ أو تدعو إليه في وقت واحد، حين تقول بإيجاز وبساطة وعفوية: إن كنتم تبحثون مثلي عن الخلود فها هو ذا أمامكم سور أوروك، ومعبد عشتار الطاهر، و«شارات» الأرض الطيبة، هي الخلود الوحيد المتاح لأمثالنا من الفانين. وأنا وأمثالي وملحمة صراعي مجرد «أمثولة» لهذا الخلود الوحيد.
تحدثنا مرارا عن طغيان جلجاميش، وعن احتمال تطهره التدريجي منه، وقد آن لنا أن نستدرك ما فاتنا، ونتوقف قليلا عند مفهوم «الطغيان»؛ لمحاولة تحديده وتمييزه عن غيره من المفاهيم، التي يتشابك معها وينتمي إليها كعضو من أعضاء تلك العائلة «غير المقدسة»، التي تضم معه الاستبداد والأوتوقراطية والحكم الفردي المطلق والهمجية والفوضوية والدكتاتورية والشمولية (في استخداماتهما ودلالاتهما الحديثة)، بجانب ما تثيره جميع هذه التصورات والمفاهيم من إيحاءات قوية بالقهر والقمع والتحكم، وما توحي به على العموم من تخلف - مقترن عند الأوروبيين منذ القدم بمفهوم الشرق نفسه! - في مستويات التحرر والتعقل والتقدم، إن لم يقترن بانعدامها أصلا في ظل الهيمنة المطلقة ل «السيد» الواحد على ملايين العبيد، كما عبر هيجل (1770-1831). والواقع أن مفهومي الطغيان والاستبداد يكادان أن يكونا متداخلين ومتعاصرين، ولا سيما حين نتأملهما من المنظور الشرقي الذي يعنينا قبل غيره في هذا السياق؛ فكل منهما يلقي على الآخر ظلاله السلبية السوداء، ويدل على السيطرة الشاملة من قبل نظام أو فرد مطلق السلطة، سواء انصرفت هذه السلطة إلى إساءة استخدامها لتحقيق مصلحة ذلك الفرد كما هو الحال مع الطاغية، أو إلى استخدامها للصالح العام، وبمقتضى القانون والدستور في أغلب الأحيان في حالة المستبد (وإن لم يمنع الأمر في بعض الظروف من تحول هذا الأخير إلى طاغية بالمعنى «الشرقي» أو «الآسيوي» السيئ). ولقد مر مصطلحا الاستبداد والطغيان بتاريخ طويل يشهد على تداخلهم إلى حد الاندماج والترادف، أو تغايرهما إلى حد التفرقة الحاسمة بينهما على أيدي فلاسفة الفكر السياسي الغربي، منذ عهد أرسطو ونظريته المشهورة التي قدمها في كتابه «السياسة» بوجه خاص عن الاستبداد، إلى عدد كبير من كبار المفكرين السياسيين، الذين ميزوا مفهوم الاستبداد تمييزا واضحا عن غيره من المفاهيم المرتبطة معه، ومن أهمها الطغيان. وقد كان مونتسكيو (1689-1755م) في طليعة هؤلاء المفكرين؛ إذ أعطى الاستبداد مكانة خاصة، وجعل النظام الاستبدادي أحد نظم الحكم الثلاثة التي اعترف بها، وساعد على أن يحل مفهوم الاستبداد في فرنسا القرن الثامن عشر بصفة نهائية محل مفهوم الطغيان؛ للدلالة على نظام السيادة والسيطرة المطلقة في مقابل إساءة استخدام السلطة من جانب حاكم فرد كما سبق القول، إلى أن عبر الفيلسوف الاجتماعي توكفيل (1805-1859م) في سنة 1835م عن رأيه في أن مسار السياسة والمجتمع الحديث بعد الثورة الفرنسية وعصر الإمبراطورية والطابع الذي اتخذاه، قد جعل كلا المصطلحين (الطغيان والاستبداد) غير صالح ولا كفء للاستعمال، حتى جاء العصر الحاضر فأصبحا مصطلحين عتيقين، وتركزت المناقشات عن نظم الحكم المطلقة، وأشكالها المختلفة حول مفهومي الدكتاتورية والشمولية.
مهما يكن الأمر من تصور الطغيان والاستبداد بوجه خاص في المقارنة بين نظم الحكم وتحليلها ، والتأريخ الاجتماعي لأشكاله وممارساته، وفي التعبير الضمني أو الصريح عن آراء القائمين بذلك التحليل والتأريخ وتحيزاتهم السياسية، فقد كانت صورتهما في الغالب الأعم صورة سلبية، وتحولت على مر الحقب والظروف إلى شعار يدل على التنظيمات والإجراءات المضادة للحرية السياسية، كما يدينها ويدمغها بالخروج على الطبيعة والعقل والقانون والحق. وكلما وصلت هذه الإدانة إلى أقصاها، لجأ المفكرون والمحللون إلى التذكير بنموذج الحكم الشرقي - أي الاستبداد الآسيوي بالدرجة الأولى - الذي وصل في رأيهم إلى أبعد مدى يمكن تصوره في العدوان على الطبيعة والعقل وخرق القانون والدستور. ومرجع ذلك إلى تسليم الحاكم «الشرقي» المستبد بعبودية البشر من رعاياه، وانعدام الوعي لديه بأن الإنسان كائن حر بالأصالة.
لا عجب بعد ذلك ألا نجد تحديدا كافيا لمفهومي الطغيان والاستبداد في علاقتهما الضدية بالحرية، وأن تعتبر أشكال الحكم التي تتعارض مع الحرية أشكالا بسيطة بالقياس إلى الأشكال المعقدة التي تجسد الحرية، وأن يسلم كل من أرسطو في دراسته للطغيان (التيرانيس)، ومونتسكيو في تناوله للاستبداد، بأن مثل هذه الأشكال لا تحتاج إلى مزيد من القول. وقد أدى هذا بمعظم فلاسفة الفكر السياسي الغربيين - كما ذكرنا - إلى ربط نظرتهم للاستبداد بأشكال الحكم وممارساته الآسيوية، كما حملتهم على الاعتقاد الضمني بأن الأوروبيين - من حيث هم أوروبيون! - أحرار بالطبيعة، وذلك في مقابل العبودية الطبيعية للشرقيين. وأدى بهم أيضا إلى التورط في مغالطات منطقية وإنسانية منافية لمفهوم الحرية نفسه؛ إذ طالما اتخذ الاستبداد الشرقي ذريعة للغزو والتوسع، ومبررا للعدوان والسيطرة الاستعمارية، بل إن إلصاق صفة الاستبداد بأي «عدو» - ولو كان أوروبيا! - بقي مبررا كافيا لتحريض الجماعة السياسية أو الدينية على شن العدوان عليه، وسحقه إذا لزم الأمر؛ ومن ثم دمغ الإغريق أعداءهم الفرس بالاستبداد، وألصق الكتاب المسيحيون نفس الصفة السلبية بالأتراك العثمانيين المسلمين. ومن سخرية الدهر أن أدعياء الحرية ضد الاستبداد، أو مؤرخيهم على الأقل، لم ينتبهوا إلى أن مثل هذه الحجج قد أصبحت - من أرسطو حتى هيجل وماركس وإنجلز! - هي الوسيلة التي يتذرعون بها لاعتداء «ورثة الحرية» على غيرهم من الشعوب التي لم تحظ في تقديرهم بهذه النعمة، واللجوء إلى استعبادهم بحجة تحريرها، كما كانت - في تقديري على الأقل - هي السبب الأساسي وراء نزعات التعصب الديني والعنصري، والتمركز الحضاري والثقافي على اختلاف صورهما عند الغربيين أو الشرقيين.
ويقسم بعض المحللين مراحل التطور والتنوع في مفهوم الاستبداد بوجه خاص في الفكر السياسي الغربي، إلى سبع مراحل متميزة. وربما يحسن بنا أن نشير لهذه المراحل باختصار، قبل الحديث بشيء من التفصيل عن النظرية الإغريقية التي تهمنا في هذا المقام:
20 (أ)
مرحلة النظرية الإغريقية التي تجعل العبودية الفطرية هي أساس الحكم المطلق للملك أو الحاكم الشرقي، كما تنظر رعيته إلى هذا الحكم المطلق باعتباره حقا مشروعا، وتوافق عليه برضاها. (ب)
نظرة العصور الوسطى المتأخرة إلى الاستبداد بوصفه نوعا من أنواع الحكم الملكي، الذي يفترق عن الأنواع الأخرى من الحكم الملكي وحكم الطاغية، أو بالأحرى بإساءته للحكم.
21 (ج)
الصورة الجديدة لهذه النظرية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهي التي بدأت مع جان بودان (1530-1596م)، وحددت الاستبداد بشكل الحكم الذي ينشأ نتيجة لحق المنتصر في حرب عادلة في السيطرة على المهزوم، بما في ذلك حقه في استعباده ومصادرة ممتلكاته، أو نتيجة لموافقة المهزوم على استعباده مقابل الإبقاء على حياته وحقن دمه (وقد وجد أصلها في القانون الروماني، وأثرت تأثيرا كبيرا على مفاهيم جروتيوس وبوفندورف وهويز لوك وروسو عن الاستبداد). (د)
كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر - الفرنسيون في الغالب - بدءوا بالتوحيد بين الاستبداد ونظم الحكم الشرقية، ثم غيروا بعد ذلك تصورهم للمصطلح، بحيث ينطبق على أشكال السيطرة الشاملة المطلقة في أي مكان وزمان، وكأن هدفهم في الحقيقة هو الاعتراض على تركيز السلطة في يد «الملك الشمس» لويس الرابع عشر، واحتكاره لها كما يفعل «السيد الكبير» أو السلطان العثماني المستبد. (ه)
تصور مونتسكيو (1689-1755م) للاستبداد بوصفه أحد الأشكال أو الأنماط الثلاثة للحكومة والحكم (بجانب الملكي والجمهوري)، وإدانته للرق والاستعباد بأي صورة من الصور إدانة حاسمة. (و)
الانتقادات التي وجهت إلى التصور السابق في القرن الثامن عشر، وتأثيراتها المختلفة، لا سيما على يد فولتير (1694-1778م) الذي سخر من نظرية مونتسكيو التجريبية عن الاستبداد، وإمكان تطبيقه على الإمبراطوريات الشرقية - والصين بوجه خاص - التي لا يعرفها حق المعرفة، وكذلك النقد الذي وجهه أنكيتيل ديبورون (1731-1805م)، الذي هاجم في كتابه «التشريع الشرقي» (1788م) نظرية الاستبداد الشرقي، وربطها بالدولة الأخيمينية التي قصدها أرسطو، وكان دفاعه عن الحضارات الشرقية القديمة، وفضحه لغرور الغرب وجهله وجشعه كما يقول، نتيجة إقامته بين المجوس في الهند، من سنة 1755م إلى سنة 1761م، وقيامه بترجمة «الأفيستا» (وهي النصوص المقدسة المنسوبة إلى زرادشت) إلى الفرنسية. (ز)
التطورات اللاحقة في استخدام المصطلح من قبل روبسبيير وسان جوست أثناء الثورة الفرنسية لتبرير استبداد الثورة ورعب الحرية والفضيلة، ثم عند الكاتبة مدام دوستايل وبنجامين كونستانت حتى هيجل وماركس، وأخيرا توكفيل الذي أكد - في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا الشمالية (1835م) - عدم كفاية مصطلحي الاستبداد والطغيان للتعبير عن المستجدات في القرن التاسع عشر، كما تصور إمكان قيام شكل جديد من أشكال الاستبداد التي تهدد المجتمع الديمقراطي، ويتمثل في طغيان رأي الأغلبية على رأي الأقلية، وفي تركيز كل قوى الشعب في قبضة فرد أو هيئة لا يحاسبان ولا يسألان عن أعمالهما، كما حدث أثناء رعب الثورة الفرنسية وفي عهد الإمبراطورية، على نحو ما ذكرنا من قبل.
وسوف نقصر حديثنا على النظرية الإغريقية، التي تلقي الضوء على مفهوم الاستبداد في علاقته بالطغيان الشرقي، وهو الذي يهمنا قبل غيره كما سبق القول.
تدل كلمة المستبد (ديسبوتيس
Despotes ) في اليونانية على ثلاثة معان، أولها هو رأس الأسرة أو رب العائلة، وثانيها هو السيد على العبيد، أما ثالثها فيمتد في المصطلح السياسي ليشمل نمطا من أنماط الحكم الملكي، تكون فيه سلطة الملك على رعاياه مماثلة لسلطة السيد على عبيده، وإن نظر إليها المحكومون باعتبارها مشروعة وتقرها الأعراف والتقاليد. ويقول أرسطو في هذا الصدد إن سلطة السياسي (بوليتيكوس) تمارس على الأحرار بطبيعتهم، أما سلطة السيد فتمارس على العبيد بالطبيعة (السياسة، 1، 1255ب). ومعنى هذا أن الاستبداد والعبودية ينطبقان على نموذج بذاته للعلاقة بين البشر، وأن هذا النموذج غير خليق بمجتمع الأحرار.
تصور الإغريق منذ بداية الحروب الطويلة التي دارت بينهم وبين الفرس، أن الاستبداد مجموعة من النظم والتقاليد الخاصة بالشعوب «البربرية» - أي غير الهللينية - الذين اعتبروهم عبيدا بالطبع، وأنه شكل من أشكال الحكم الملكي يمارسه الآسيويون، ويتمثل نموذجه الصارخ في ملوك الفرس الأخيمينيين (من 538 إلى 331ق.م). وقد كان الإغريق أثناء الحروب التي دارت بينهم وبين الفرس يشعرون بالاشمئزاز من صورة هؤلاء الملوك «الشمسيين» الذين يجسدون القانون الإلهي، ومن ثم الحكم المطلق، بينما يعتزون هم - كما يقرر هيرودوت - بأنهم أحرار لأنهم يخضعون لقوانين دولة «المدينة»، لا لأي حاكم آسيوي يسجد له رعاياه ويركعون؛ فالأحرار لا يسجدون لبشر فان، والمستبد الأرضي الوحيد الذي يمكن أن يعترفوا به هو «القانون» الذي وافقوا عليه بمحض إرادتهم (على نحو ما عبر سقراط في دفاعه المشهور وفي حواره مع كريتون). وهكذا اكتسب مصطلح الاستبداد معناه الرابع الذي نجده عند هيرودوت وأكزينوفون وأفلاطون.
وقد اهتم أرسطو، أكثر من أي كاتب إغريقي آخر، بشرح المصطلح، والمقارنة بينه وبين الطغيان، كما أثرت «نظريته» عن الاستبداد تأثيرا كبيرا على الفكر السياسي، حتى ليرد اسمه على الخاطر فور سماع الكلمة! إنه يؤكد أن الاستبداد الآسيوي لا يقوم على القوة، ولا يأتي من خوف المحكومين من حاكمهم المتأله. والسبب في ذلك بسيط، فهم يوافقون برضاهم على استعباده لهم. أضف إلى هذا أن الاستبداد شكل من أشكال الملكية الدستورية، التي تقوم في الأصل على احترام الملك للقانون السائد، لا على تأكيد إرادته التعسفية. ثم إن النظم الاستبدادية لا تعرف مشكلة الحاكم الذي يخلف المستبد في الحكم؛ لأنها تتميز بالاستقرار والثبات، على العكس من «نظم» الطغيان التي تواجه الانقلاب، أو لنقل التقلبات المفاجئة، وقد يلجأ الطاغية للاستعانة بقوات أجنبية لإخماد معارضة المحكومين (السياسة، 3، 9، 1286أ). والذي يهمنا في هذا السياق أن أرسطو قد ربط الاستبداد بالطغيان؛ مما جعل كلامه عنه (أي عن الاستبداد) يحمل معنى الإدانة والاتهام. فمع أن سلطة الملوك الآسيويين سلطة ملكية؛ لأنهم يحكمون طبقا للقانون، وبرضا المحكومين، إلا أنها كذلك سلطة طاغية؛ لأنهم يحكمون بطريقة مستبدة تعبر عن أهوائهم وأحكامهم الخاصة على الأمور (السياسة، 4، 8، 1295أ). ويصل أرسطو في ربطه بين الاستبداد والطغيان إلى حد تقرير التماثل بينهما عندما يناقش وسائل المستبدين - مثل بيرياندر حاكم كورنثه وأحد الحكماء السبعة - في مد فترة حكمهم، وهي في رأيه نفس الوسائل التي يلجأ إليها ملوك الإمبراطورية الفارسية (السياسة، 5، 9، 1313أ). ومع أن المستبد يحكم طبقا للقانون، فهو لا يحكم بما يتمشى مع الصالح العام، وكذلك فإن كل النظم والدساتير التي تستغل لمصلحة الحاكم «تحمل عنصرا من عناصر الاستبداد»، على حين أن البوليس (أي دولة المدينة الإغريقية) جماعة مشتركة من الأحرار الذين تربط بينهم أواصر الصداقة والعدل (السياسة، 3، 4، 7). بيد أن هذه الأواصر لا تقوم لها قائمة إذا انعدم العنصر المشترك بين الحاكم والمحكوم، كما هو الحال في ظل الطغيان والاستبداد، حيث تكون العلاقة بينهما (أي بين الحاكم والمحكوم) مثل العلاقة بين الصانع والأداة، أو بين النفس والجسم، وبين السيد (ديسبوتيس) والعبد. ومن المستحيل بطبيعة الحال أن تقوم صداقة أو عدل في علاقة الإنسان بالجماد، أو بحصان أو ثور، أو في علاقة عبد بعبد؛ ذلك لأن السيد والعبد لا يجمع بينهما شيء مشترك؛ فالعبد أداة حية، والأداة عبد جامد أو فاقد للحياة (الأخلاق إلى نيقوماخوس، 8، 9).
هكذا ربط أرسطو نظام العبودية بشكل الحكم الاستبدادي على أساس طبيعة العلاقات البشرية في كل منهما، وهنا يتحدد في رأيه الفرق بين الإغريقي والبربري (أي غير الإغريقي)؛ فالإغريق يملكون القدرة على أن يحكموا ويحكموا، أما البرابرة فجميعهم عبيد بحكم الطبيعة والمولد. ويستطرد أرسطو في حكمه المغرض، فينتهي إلى أن وضع العبد والمرأة واحد عند البرابرة (لأنهما يفتقران للقدرة الفطرية على الحكم، والزواج بينهما مجرد قران بين أمة وعبد!) وأن الإغريق الأحرار بالفطرة ينبغي أن يحكموا البرابرة (هو نفس ما أكده هيجل بعد ذلك، ودعا إليه) (السياسة 1، 1، 1252ب).
22
وأخيرا فربما استطاعت الشروح السابقة لنظرية أرسطو عن الاستبداد والطغيان، بجانب الإشارة إلى مراحل تطور المصطلحين في تاريخ الفكر السياسي الغربي والتعليقات عليها، أن تلقي شيئا من الضوء على موضوعنا الأساسي، وهو استبداد جلجاميش أو طغيانه بوصفه «نموذجا أو نمطا أوليا» للمستبد الشرقي في هذه المنطقة، التي ابتليت بنماذج وأنماط فرعية لا حصر لها من الطغاة والمستبدين. ولا بد من الاحتراس من محاذير المقارنة بين دلالة مصطلح نشأ في سياق حضاري وديني معين، ودلالته في سياق آخر بعيد عنه في زمانه ومكانه «وبناه» الثقافية والاجتماعية، مع العلم بأن الكلام يدور في دائرة الترجيح البعيدة كل البعد عن التزمت والقطع بالرأي، كما أن مفهوم الاستبداد والطغيان نفسه يعاني من ازدواجية مراوغة لم يستطع التخلص منه تماما في تراث الفكر السياسي بوجه عام.
نبدأ بالسؤال: هل يمكن أن نصف جلجاميش بأنه ملك حكم شعبه في أوروك أو تحكم فيه تحكم السيد في عبيده؟ هل رضي الناس بذلك لأنهم عبيد بالفطرة والطبيعة؟ وهل خلت العلاقة بينهم وبينه - كما يؤكد معظم المنظرين للاستبداد والطغيان - من كل علاقة بشرية توحي بوجود الحب والحرية واحترام العقل والطبيعة الإنسانية؟
23
الواقع أن الرد على هذه الأسئلة وأمثالها متضمن في الصفحات السابقة؛ فقد تحدثنا عن مظاهر الديمقراطية البدائية أو الأولية عند السومريين، وعن توجه جلجاميش بالخطاب إلى شيوخ أوروك وشبابها في مناسبات ومواقف عديدة، وتهليل الشعب له لانتصاره في مغامرات كان يعرف أو يحس على الأقل بأنه قام بها لتحقيق مصلحة عامة (مثل جلب الخشب الذي تحتاج إليه بلاده)، بجانب المصلحة الخاصة، وهي تحقيق المجد والشهرة وخلود الاسم. وكل هذا يؤكد وجود «الآخر» في حياة جلجاميش بصورة من الصور مهما تكن ضئيلة، وعدم إلغائه أو نفيه كما هو الحال في علاقة السيد بعبيده. ثم إن طاعة السومري والسامي القديم لحاكمه الديني والدنيوي، المكلف من قبل الآلهة بتنفيذ القوانين والألواح المنزلة من السماء، تستبعد أن تكون هي طاعة العبد لسيده الصادرة عن الخوف (الملازم لكل استبداد ممكن!) وترجح قيامها على أساس الإيمان المستقر بضرورة تقديم فروض الطاعة للآلهة في السماء، ولحكامهم وملوكهم على الأرض وفي مدن البشر، وإن لم يمنع هذا، كما تشهد نصوص الحكمة البابلية، من ارتفاع بعض الأصوات المحتجة أو المتمردة بالتساؤل والشك في جدوى الحكمة والتقدير الإلهي مع استفحال الشر والظلم في العالم، واقتراب أصحابها من هاوية التجديف، ثم تراجعهم عنها قبل السقوط فيها (ومعظم هذه النصوص يرجع للألف الأولى ق.م).
ولا بد في النهاية من النظر إلى مشكلة الحرية في إطار الحضارة البابلية - وفي غيرها من الحضارات العريقة في الشرق الأدنى والأقصى - نظرة مختلفة عن معانيها المجردة وتحققاتها المجسدة في الحضارة اليونانية - الرومانية - المسيحية، بحيث لا تدينها بصورة قليلة على أساس المقاييس العقلية ومبادئ الحرية الشخصية، التي تأصلت لأول مرة في فترة مزدهرة وقصيرة من حياة الديمقراطية في ظل مجتمع دولة المدينة. ولا ننسى أن وراء النظرة الغربية إلى الحضارة والإنسان في الشرق تاريخا طويلا من الحروب الطاحنة والعدوان الشرس، منذ الحروب الإغريقية-الفارسية إلى الصدام مع المسلمين، من عصر الفتوح إلى الحروب الصليبية، حتى العثمانيين والحملات الاستعمارية المتتابعة على الشرق. أضف إلى هذا أن طاعة الشرقي والسامي بوجه خاص لحكامه الإلهيين تختلف اختلافا جوهريا عن طاعة العبد لسيده؛ لأنها لا تنبعث من الخوف والرعب، بل من الرهبة والإجلال، كما أن الكلام عن طبيعة عبودية الشرقي يدين القائل به قبل كل شيء، ويدمغه بالجهل والتعصب وضيق الأفق، فوق أنه لم يعدم المنصفين الذين ما فتئوا يتصدون له على الأقل منذ عصر التنوير إلى اليوم.
24
لم استجار إذن شعب أوروك بآلهته من جلجاميش؟
إن القراءة المتأنية للملحمة - بجانب ما ذكرناه من قبل - تؤكد أن شكواهم كانت تعبيرا عن سخطهم على إساءة استخدامه للسلطة المخولة له من قبل الآلهة وشرائعهم المنزلة، وانسياقه وراء أهوائه ونزواته بما يتنافى مع هذه الشرائع.
ومعنى هذا أن الشكوى لم تكن تعبيرا عن رفضهم لتلك السلطة، ولا لشخص جلجاميش نفسه - بدليل أنهم يشكونه ويمجدونه في نفس واحد كما سبق القول! - وإنما «فاض بهم الكيل» - كما نقول اليوم - من مظالمه التي لا يقرها الآلهة الذين يسارعون إلى الاستجابة لمطلبهم؛ أي من استبداده بالمعنى السيئ للكلمة، أو بالأحرى من طغيانه.
وربما تشهد تضرعاته وصلواته لإلهيه شمش ولو جال بندا، بجانب التحذيرات التي كان يوجهها إنكيدو من إساءة استخدام السلطة، بوجود وازع خفي في نفسه يذكره بثلثه البشري، وبالتعهد أو العقد المبرم بينه وبين الآلهة بألا يشتط في تسلطه وطغيانه.
بيد أن جلجاميش قد تطهر من طغيانه على النحو الذي حاولت تصويره وتبريره على الصفحات السابقة. ربما لا يقتنع القارئ بهذه المحاولة، فيرد عليها بقوله: ولكن ما تسميه تطهرا هو في الحقيقة هزيمة وفشل وانكسار. والحقيقة أنني لا أتعصب لهذا الرأي ولا لرأي سواه؛ فالقراءة المتعاطفة مع النص، وتجربته من داخله، وفي إطار سياقه وشروطه المختلفة، تسمح بأكثر من قراءة، لكن معايشتي للنص قد كونت لدي حدسا يشبه اليقين بأن جلجاميش - مثل غيره من حكماء حضارتنا القديمة والوسيطة والحديثة وأصحاب البصيرة فيها - يقف هناك بعيدا، ويشير إلينا وسط المحنة وهو يقول: حذار من الطغيان! حذار من الطغيان!
25
ويبقى في النهاية أن نرجع للأسئلة التي طرحناها في البداية، والحق أنها لا تنتظر إجابات بقدر ما تفرض واجبات، لا على المثقفين المستنيرين والعلماء المختصين وحدهم من أبناء أمتنا، بل على كل منتم لهذه الأرض وهذه الحضارة، وكل من يشعر مع مآسي الطغيان المتكرر بأننا ننتحر - إذا جازت هنا صيغة المبني للمجهول! - أو نستدرج للانتحار بأيدينا. وهذه الواجبات تتمثل في أسئلة أخرى ربما تحفز الإجابة عليها بالمشاركة في أفعال لا في أقوال: فهل آن لنا أن نتجاوز تراث الطغيان في تاريخنا القديم والوسيط والحديث، بتراث آخر نتخلص فيه من الكابوس الذي جثم على الأنفاس آلاف السنين، ولم يزل يفاجئنا بين الحين والحين؟ وإذا كان جلجاميش يقدم المثل أو الأمثولة للطاغية الذي تطهر من طغيانه، فكيف يتم التطهر في ظروفنا وظروف عصرنا؟ وكيف ومتى يصح العزم على «البدء من بداية البدايات» وهي الحرية؟ وإذا كان الطغيان أو الاستبداد أو التسلط أو ما شئت من المسميات، بمثابة «بنية لا زمنية» - كما يقول علماء اللغة - خيمت على تاريخنا، أو «نموذج أصلي» ترسب في الطبقات الدفينة من «لاوعينا الجمعي»، وما فتئ يعلن عن نفسه على كل المستويات، ويطل برأسه حتى في سلوكنا اليومي، فهل من سبيل لرصده، وتعقب جذوره وفروعه وثماره المرة في مظاهره ونصوصه وتعبيراته عن «ذاتنا» التاريخية؛ تمهيدا لبتر ورمه الخبيث؟
أسئلة وأسئلة طرحناها في البداية، ويمكن أن نزيد عليها في النهاية. وإذا صح تفسيري فقد كان تطهر جلجاميش من طغيانه هو البداية القديمة التي تنتظر أن نجددها بلغة العصر وأدواته، وكان هو النبع الأصلي الذي يمكن أن نغرق فيه، ويمكن أن نغتسل بمائه من آثام الماضي ومحن الحاضر، ونخرج منه متطهرين لمواجهة المستقبل، فهل آن لنا أن نعقد العزم على التطهر، ونجاوز تراث الطغيان بتراث الحرية؟ هل نتعلم من المحنة فنبدأ من البداية ونحققها بالفعل، ونجسدها بالعمل والبناء الحضاري؟
هوامش
أحب الكتب إلى قلبي
الطريق والفضيلة (تاو-تي-كنج) الكتاب المقدس للطاوية
تعب المعلم والحكيم العجوز، ووهن عظمه، وسئمت نفسه. كان قد بلغ السبعين من عمره، وتاق إلى الراحة من هموم بلده وعصره؛ فقد غاب الخير، وضل الناس الطريق، ورجع الشر إلى سطوته، وغرقت الدويلات والإمارات الإقطاعية في بحور الفقر والجوع والدماء. ربط المعلم حذاءه، وحزم ما يحتاج إليه في طريق رحلته إلى منفاه في الغرب البعيد؛ الغليون الذي تعود أن يدخن فيه كل ليلة، والكتاب الذي تعود أن يقرأه، ومن الجبن والخبز على قدر النصيب. فرح قلبه برؤية الوادي لآخر مرة، ثم نسيه عندما اتجه لصعود الجبل، كما فرح ثوره الأسود بالعشب الندي، راح يمضغه والشيخ فوق ظهره، والغلام الصغير يسحبه على مهل من مقوده. وفي اليوم الرابع، عند أسفل الجبل، سد عليه الطريق عامل الجمرك النحيل الشاب، وسأله: هل من شيء يستحق الضريبة؟ - لا شيء.
وتكلم الغلام قائلا: لقد كان يعلم الناس.
عاد الشاب إلى السؤال: ماذا كان يعلم؟
وأجابه الغلام: أن الماء يفتت الصخر بمرور الأيام، وأن الضعيف يغلب القوي، والوداعة تهزم الصلابة والغرور، وتنتصر على المستحيل.
ولكي لا يضيع عليهما ضوء النهار الأخير، دفع الغلام الثور الذي يحمل العجوز على ظهره. وما إن اختفى الثلاثة وراء شجرة سوداء مظلمة الأوراق حتى أبصرا الشاب يعدو خلفهما، وسمعاه يصيح مناديا: أنت! قف لأسألك! ماذا تقصد بحكاية الماء أيها العجوز؟
اقترب الشاب اللاهث الأنفاس، وتأمل المعلم وجهه وسأله: هل يهمك هذا؟
قال الشاب: ما أنا إلا عامل جمرك فقير، لكن يهمني أن أعرف كيف ينتصر الإنسان. إن كنت تعرف الجواب فتكلم! اكتبه لي. أمله على هذا الغلام. مثل هذا العلم لا يستأثر به أحد. الورق عندنا والريشة والمداد، وعندنا أيضا طعام بسيط للعشاء. إنني أسكن هناك، في الكوخ القائم بالقرب من مخفر الحدود.
تطلع العجوز إلى الشاب؛ السترة مرقعة، القدمان حافيتان، وعلى الجبهة والوجه تجاعيد وأخاديد مبكرة. وتمتم المعلم: أنت أيضا تريد أن تعرف؟ حقا! من يسأل يستحق أن يسمع الجواب.
وأضاف الغلام: والجو سيبرد أيضا بعد قليل.
همس المعلم: حسن. فلنهبط هنا إلى حين.
نزل الحكيم من على ظهر دابته، وأخذ يملي على الغلام سبعة أيام، وعامل الجمرك الفقير يفتح الباب في هدوء، ويخطو على أطراف قدميه وهو يحضر إليهما ما تيسر من الطعام. وذات صباح ناول الغلام عامل الجمرك الشاب إحدى وثمانين حكمة كتبت بالشعر المنثور، وبعد أن شكراه على كرم ضيافته شدا الثور الأسود، وانعطفا حول الشجرة السوداء ثم غابا في حضن الجبل. هكذا تم تدوين الكتاب، وأملى الحكيم - الذي طالما أكد أن العارف لا يتكلم! - ما يزيد على خمسة آلاف كلمة ضمها هذا الكتاب العجيب من القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد. هل نشعر اليوم بواجب الثناء على الحكيم الذي يسطع اسمه على صدر الكتاب الشهير، أم ينبغي علينا أيضا أن نشكر عامل الجمرك البسيط الذي استطاع أن ينتزع الحكمة من فم الحكيم الصامت، كما عرف كيف يطلبها منه وينشرها من بعده؟
تلك هي حكاية كتاب «الطريق والفضيلة» (تاو-تي-كنج)، الذي أملاه المعلم العجوز «لاو-تزو» عند آخر حدود الصين أثناء رحلته الأخيرة إلى مهجره أو منفاه، استوحيناها من القصيدة التي عرضها بها الشاعر والكاتب المسرحي الأشهر «برتولد بريشت»،
1
معتمدا في ذلك على أول سيرة كتبت لحياة ذلك الحكيم كما دونها المؤرخ سو- ما-شيين تحت عنوان شيه شي؛ أي سجلات المؤرخ في العام الواحد والتسعين قبل الميلاد، وأحاطه فيها بهالة غامضة من الخرافات والخوارق التي ترقى إلى مصاف الأساطير. وقد آن أن نسأل عن هذا المعلم العجوز الذي لا يعني اسمه في الصينية - وهو «لاو-تزو» - غير المعلم الشيخ أو العجوز، كما نسأل أيضا عن كتابه «الكلاسيكي» الذي يعرف أحيانا باسمه، وفي أغلب الأحيان باسم «تاو-تي-كنج»؛ أي كتاب الطريق (التاو أو الطاو) والفضيلة أو القوة والحياة (تي) الكامنة في الطريق.
رغم أن الشك والغموض يحيطان بشخصية «لاو-تزو»، وتاريخ مولده ومماته، ودوره في تأليف الكتاب المنسوب إليه أو المسمى باسمه إلى حد التشكك في وجوده التاريخي نفسه، فيمكننا أن نبدأ بالمعلومات القليلة التي يتفق عليها معظم الباحثين. وتقول هذه المعلومات إنه ولد على أرجح الفروض إما في عام 63ق.م أو في عام 57ق.م (وإن لم يمنع ذلك من القول - على لسان جنتر ديبون مترجم الكتاب إلى الألمانية - بأنه قد ولد حوالي عام 300ق.م)،
2
وإنه مات في عام 517 قبل الميلاد، كما تقول إنه هو مؤسس «الطاوية» - نسبة إلى الطاو أو الطريق إلى الحقيقة والحياة الأبدية، والمبدأ والأصل الأول الذي تولدت عنه الكائنات أو الجواهر العشرة آلاف؛ أي كل الموجودات التي تتألف منها الطبيعة، والغاية الأخيرة التي ستنتهي إليها أيضا - وإنه ولد في مزرعة تابعة لمقاطعة هونان جنوبي بكين وعلى مسافة مقاربة من مدينة شنغهاي، ثم شغل وظيفة أمين مكتبة الوثائق والمحفوظات في بلاط مملكة تشو، في وقت ساد فيه الاضطراب السياسي والاجتماعي البلاد، وسبق مولده بقرنين. من هذه المعلومات أيضا ما يقوله المؤرخ السابق الذكر من القرن الأول قبل الميلاد، وهو أن اسمه الأصلي هو «لي-إر»، وأنه كرم بعد ذلك بتسميته «لاو- تان»؛ أي أكمل العجائز أو المتقدمين في العمر، وأن «كنج-فو-تزو» - وهو معلم الصين الأشهر كونفوشيوس - الذي كان يصغره في السن، قد سعى إليه والتقى به؛ ليسأله عن حقيقة الطقوس والشعائر التي كان يمارسها الحكماء والحكام القدماء، الذين لا يكف كلاهما عن الإشادة بهم والاقتداء بسيرتهم، والتغني بتمسكهم بالطريق ومحافظتهم عليه إلى حد الاندماج فيه والتوحد به، والتصرف في حياتهم التي اتسمت بالبساطة والتواضع والكمال بمقتضاه وعلى هداه.
3
لنقف وقفة قصيرة عند ذلك اللقاء الشهير الذي يمكن أن يبرز لنا بعض وجوه الاتفاق بين الطاوية والكونفوشية، اللتين نشأتا عن الاحتجاج الفلسفي على الظروف السائدة في عصرهما، كما يمكن أن يبين لنا كيف تطورت المدرستان بعد ذلك، وسارتا في طرق مختلفة ومتناقضة؛ إذ شددت الكونفوشية على خير البشر الأخلاقي، وضرورة اتباعهم للقواعد والتعاليم والواجبات باعتبارها مفتاحا للسعادة، وسبيلا للترقي والتهذيب وتطهير الباطن، بينما أكدت الطاوية على تجانس الطبيعة وكمالها، وضرورة التوافق مع طريقها الباطن أو مع «الطاو» الكوني الشامل، وذلك باتباعه ومحاولة التوحد معه، وبغير ذلك لن يصلوا إلى السلام والرضا ويتخلصوا من الشر والبؤس والنزاع والصراع والتعاسة.
سأله المعلم الشاب بعد أن انحنى أمامه انحناءة لائقة: سمعت من يقول على لسانك إن العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف. وقد عشت حياتي حتى اليوم لكي أعرف وأعلم، وأحاول أن أصلح بالكلمة والاسم. أفدني يا سيدي عن الطريق (الطاو). - الطريق يا بني لا اسم له. لو كان له اسم ما كان هو الطريق. عميق هو وبلا قرار. هو المنبع والأصل وسر الأسرار. - لكنه تجلى للحكماء والقدماء، وأنت تلازمهم، وتعرفهم، وتنطق بكلامهم، وتتقن طقوسهم وشعائرهم. - هذا صحيح يا بني، ولكن الذين تسأل عنهم قد تعفنوا، وصارت عظامهم ترابا. لقد اتحدوا بالطريق، فكانوا هم الطريق. تمسكوا به وحققوه بالبساطة والسكينة والوداعة، ولم يتكلموا عنه بالخطب والمواعظ، ولم يقيموا له الطقوس والشعائر. كانوا هم الطريق، فلم يحتاجوا لدق الطبول لدعوة الناس إليه. - لكنهم علموا مواطنيهم يا سيدي وأصلحوهم. حببوا إليهم الفضيلة، وعملوا على تهذيبهم بالخير والإحسان والصدق والمحبة، وأنا أيضا أريد أن أفيد مواطني ولا أضرهم. - إذا أردت أن تفيدهم فتخل عن غرورك الذي يزين لك أنك تفيدهم. وإذا شئت أن تغيرهم فابدأ بتغيير نفسك قبل أن تفكر في تغييرهم. - هذا هو الذي قادني إليك يا سيدي. علمني ماذا أعلم، وكيف أعلم؛ لكي تصلح المملكة، ويصلح حال الحاكم والمحكوم. - سمعت أن التاجر الناجح يحرص على إخفاء ثروته، وأن الرجل العظيم ينهض للعظمة عندما تحين ساعته، لكن قبل أن تحين هذه الساعة توضع العراقيل أمامه. اسمع نصيحتي يا ولدي. لا تضع العراقيل أمامك. - لم أفهم يا سيدي. - إن الحكماء القدماء الذين تتكلم عنهم قد عملوا بغير عمل، وعلموا بغير علم، وأصبحوا القدوة والمثل؛ لأنهم لم يدعوا الناس إلى الفضيلة والعدالة والإنسانية. لقد تمسكوا بالطريق، فسار الناس على الطريق. رجعوا للأصل والبداية، فأحب الناس السكينة والسلام، ورجعوا مثلهم للأصل والجذور. تخلوا عن أنفسهم، وتخلصوا من شهواتهم ورغباتهم، وتعففوا عن التعالي والظهور؛ فكف الناس عن التنازع والتصارع والتظاهر والحذلقة والخداع. لا تنس يا بني ما قلته لك. إنهم لم يتكلموا عن الطريق، ولم يسموه، وإنما اتحدوا به وكانوه؛ لذلك لم يفقدوا أنفسهم، ولم يفقدوه. وها هم أولاء اليوم يتصارعون، ويمزقون المملكة أشلاء، ويغرقون في الشهوات والرذائل، حتى احتاجوا لمن يصلحهم ويدعوهم للمعرفة والفضيلة. أتريد أن تغيرهم قبل أن تتغير؟ أن تعظهم باتباع الطريق قبل أن تسير أنت عليه؟ تخل يا بني عن تكبرك! تخلص من تظاهرك ومن طموحك العريض! ارجع إلى البساطة والسكينة قبل أن تجد نفسك يوما ما تنهض من مرقدك، وتتهدم كالجبل العظيم، وتنكسر. اذهب يا ولدي وغير نفسك. هذا هو كل ما يمكنني قوله لك. اذهب. اذهب.
ربما تكون وقفتنا قد طالت قليلا عند هذا اللقاء الشهير، لكننا قصدنا منه أن نوضح مدى الاختلاف بين الحكيمين والمدرستين في مفهوم «الطاو» وفهمه. إنه لدى متصوفي الطاوية هو الواحد الأبدي، وهو الطبيعي والتلقائي الذي لا يمكن تسميته ولا وصفه. أما الكونفوشية فتفهمه من ناحية الإنسان لا من ناحية الطبيعية والأسس المتعالية التي تقوم عليها؛ لذلك تحول عندها إلى نسق منظم من التعاليم والواجبات والوصايا الأخلاقية والاجتماعية. ومن الواضح أن المدرستين - شأنهما في هذا شأن الغالبية العظمى من المدارس الفلسفية الصينية - متفقتان في النزعة الإنسانية التي يتصفان بها، ويتحركان في إطارها بغية الارتقاء بالإنسان إلى مدارج العظمة والكمال، والحكمة والفضيلة، والنبل والصدق، وإن اختلفتا كما رأينا أشد الاختلاف حول مصدر هذه العظمة الإنسانية. فهو التوحد الصوفي بحقيقة الطبيعة أو الكون وقوانينه و«طاوه» الباطني عند الطاويين، وهو الارتقاء بإنسانية الإنسان من خلال تطهير الباطن، ومراعاة دستور كامل للفضائل الأخلاقية والتعاليم والطقوس الاجتماعية عند الكونفوشيين.
ونسأل الآن عن الكتاب الذي ذكرنا أنه سمي باسم المعلم العجوز «لاو-تزو»، وإن كان قد اشتهر بكتاب الطريق والفضيلة.
4
يرجح بعض الباحثين أنه ينتمي للقرن الرابع قبل الميلاد أكثر مما ينتمي للقرن الخامس أو السادس. وبصرف النظر عما يثيره هذا الرأي من اضطراب وتشكك في تاريخ الكتاب والمؤلف نفسه، فإنهم يؤيدونه من الناحية الفكرية والاصطلاحية بقولهم إن أسلوب القصائد النثرية المتبع فيه يختلف عن أسلوب المحاورات الذي كان سائدا في القرنين السابقين - أي الخامس والسادس قبل الميلاد - وإن بعض الكلمات الواردة فيه لم تعرف قبل القرن الرابع، كما أن نغمة الغضب والتحدي والاحتجاج التي تغلب عليه إنما تعكس اضطراب الأحوال السياسية والاجتماعية في القرن الرابع، فضلا عن أن بعض الأفكار، ومنها على سبيل المثال وصف الطريق (الطاو) بأنه هو الذي لا اسم له ولا يمكن تسميته، لم يكن في الإمكان أن يظهر في تاريخ سابق على ظهور مدرسة فلسفية شهيرة اهتمت بالمنطق واللغة قبل غيرها، وهي مدرسة «الأسماء» التي لم تزدهر قبل منتصف القرن الرابع. أضف إلى الصعوبات السابقة أن الكتاب نفسه لا يتضمن أي اسم علم، ولا أي حادثة تاريخية أو تاريخ يمكن أن يساعد على تحديد زمن تأليفه بصورة مؤكدة. المهم على كل حال أن الكتاب يتألف من خمسة آلاف كلمة صينية، وربما تزيد عن ذلك بمائتي كلمة واثنتين وعشرين، أو بسبعمائة واثنتين وعشرين كلمة، حسب اختلاف طباعته الأصلية. وهو مكون من قسمين، يضمان واحدا وثمانين فصلا أو مقطوعة من الشعر المنثور؛ معظم سطورها مقفاه، وبعضها قصير سهل على الفهم، وبعضها الآخر طويل وعسير، كما يتكرر فيه الكثير من المعاني والدلالات والكلمات بصورة حدت ببعض الدارسين إلى افتراض تدخل أكثر من يد في تأليفه أو في تدوينه على مدى قرون طويلة، حتى استقر على شكله الراهن في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو الشكل المعبر عن تعاليم المعلم العجوز «لاو-تزو»، وبعض تلاميذه بعد ذلك التاريخ بوقت طويل.
وتدور الأفكار الأساسية في الكتاب حول الطريق (الطاو)، وفضيلته أو قوته الكامنة فيه (تي)، وفي كل من تمسك به من الحكماء أو الحكام القدامى الذين اتبعوه واتحدوا به، ولم يكتفوا - كما سبق القول - بالسير عليه، بل جسدوه في أنفسهم وكانوه (ربما يكون هؤلاء الحكام والحكماء، الذين لا يمل الكتاب من الإشادة بهم، قد عاشوا بين القرنين الرابع عشر والحادي عشر قبل الميلاد). ولما كان «التاو-تي-كنج» هو الكتاب المقدس للطاوية، فمن الطبيعي أن يكون سجلا لتعاليمها الداعية إلى الحياة البسيطة المتواضعة، والاتحاد بالطبيعة، وإنكار الأثرة والأنانية، ولاندماج الصوفي في الحقيقة النهائية المطلقة. ويترتب على هذا أن يوصي الكتاب بالابتعاد عن المدينة والمدنية، والرجوع إلى الطبيعة الأصلية للتجانس مع «الطاو»؛ أي الطريق الأبدي والقوة العليا التي تهيمن على الكون وتتغلغل فيه.
ومن أهم أفكار الكتاب فكرة العدم - الذي يتساوى عند هيجل مع فكرة الوجود الخالص من كل وصف أو تحديد - فالطاو هو عدم الوجود (وهو شيء آخر غير اللاشيء!) وعدم الوجود أو السلب المطلق هو الأم التي تولد من رحمها - أو من وعائها الفارغ - كل وجود فعلي أو ممكن، كما تولدت عنه كل الموجودات. ثم إنه بلا اسم؛ لأنه أعظم من كل ما يسمى أو يوصف بسمة معينة؛ لأنه - كما سبق القول - هو الأصل الذي صدر عنه كل ما هو كائن، والغاية الأخيرة التي سينتهي إليها (تذكر «الأبيرون» أو اللامحدد واللامتعين الذي قال به الفيلسوف اليوناني أنكسمندروس في عبارته الوحيدة المشهورة، وفي نفس الوقت تقريبا وهو القرن السادس قبل الميلاد).
لنقرأ المقطوعة الأولى التي يتحدث فيها الكتاب عن طبيعة الطاو الذي لا يسمى، ثم لا يلبث أن يربطه بالإنسان الذي يتحقق به ويتوحد معه، فيتطهر من كل شهوة أو رغبة إلا أن تكون هي الرغبة في عدم الرغبة:
لو كان في استطاعتنا أن نسمي الاسم، ما كان هو الاسم الأبدي. الذي بغير اسم هو مبدأ السماء والأرض، والذي له اسم هو أم الجواهر العشرة آلاف. حقا، من كان إلى الأبد بغير شهوة، فسوف يرى سر الأسرار، ومن كان محكوما بالشهوات، فلن يرى إلا طرف ثوبه. هذان الاثنان (أي الوجود وعدم الوجود) شيء واحد، خرجا للوجود فاختلفت أسماؤهما. التوحيد بينهما نصفه بأنه صوفي، صوفي، ومرة أخرى صوفي. هو الباب الذي يؤدي إلى سر كل حياة. والطاو كذلك لا يفعل، وليس عدم الفعل (وو-وي) الذي طالما أسيء فهمه هو الخمول أو الجمود وانعدام الفاعلية، وإنما يقصد به عدم التدخل في مسار الطبيعة، وضرورة تركها لأفعالها التلقائية بغير اقتحام لها ولا عدوان عليها. والواقع أن هذه الفكرة لا بد أن تبدو غريبة، إن لم تبد مضحكة، لكل منتم للحضارة الغربية الحديثة، ولكل متأثر بنموذجها الطاغي منذ عصر النهضة الأوروبية (هذا إذا لم نقل منذ سأل أول الفلاسفة اليونان هذا السؤال الأصلي: ما هو الموجود تي-تو-أون، الذي يعد الجد الشرعي للعلم الحديث والتقنية التي ننعم اليوم بخيراتها، ونشكو ليل نهار من أخطارها ومصائبها، مثل التلوث وتدمير البيئة والاقتلاع من الجذور وقتل الخضرة ... إلخ؟!) وذلك عندما أعلنت هذه الحضارة «الذاتية» الحديثة على لسان ديكارت ثم بيكون، أن الإنسان هو سيد الطبيعة الخارجية والداخلية والمتحكم فيها والمهيمن عليها؛ أملا في تأسيس ملكه أو مملكته وجنته الأرضية. لكن الحكيم الصيني القديم يؤكد أن الطاو ومن يتمسك به لا يفعلان شيئا، ومع ذلك يفعل كل شيء؛ فالطاو يثبت كل الأشياء وينتجها، ولكنه لا يمتلكها، وهو يتركها تتغير وتتحول دون أن يتدخل في مسارها الطبيعي؛ وبذلك تكون هي نفسها، وتزدهر من داخلها، وليس على الإنسان إلا أن يحبها ويتجانس معها، أو بالأحرى يتجانس مع الطاو الذي يتحقق فيها، وينبغي على الإنسان أيضا أن يتحقق به إذا أراد أن يصل إلى الرضا والسلام والسكينة.
لأن العالم هو وعاء الله، فلا يجوز أن يعمل فيه شيء. من يلامسه بالعمل يفسده، ومن يتمسك به يفقده (...). لذلك يتجنب الحكيم التطرف، يتجنب التهور، يتجنب الخيلاء (المقطوعة 29).
الطاو لا يعمل أبدا، ولكن كل شيء يعمل من خلاله. لو استطاع الأمراء والملوك أن يحافظوا عليه لتحسنت من نفسها أحوال العالم (أو تفتحت الكائنات العشرة آلاف). البساطة القديمة التي لا اسم لها تحرر من الاشتهاء، والتحرر من الاشتهاء يؤدي إلى السكينة، وبالسكينة يصل العالم من تلقاء نفسه إلى السلام.
وتبقى كلمة «تي» التي تأتي بعد «الطاو» في عنوان الكتاب، والكلمة في رأي علماء اللغة الصينية مرادفة لكلمة أخرى تحمل نفس رسمها ونطقها، وتدل على الفضيلة أو قوة الحياة والكمال. وإذا كانت بعض المدارس الفلسفية الأخرى تفهم فضيلة «تي» بمعان أخلاقية واجتماعية تهدف إلى تحقيق القوة والعظمة والسلطة والمجد، فإنها في كتاب الحكيم «لاو-تزو» ترادف البساطة والتواضع والضعف الذي يوصف في عبارات متكررة بأنه هو الماء الذي يفتت الصخر، والوداعة التي تهزم الخشونة، واللين الذي يقهر الصلابة، والرضيع الذي يجسد الكمال الأصلي. بهذا يرجع الكتاب بالأخلاق والمعرفة إلى أصولها الثابتة وجذورها الميتافيزيقية والصوفية الأولى، بحيث ترجع قوة الحياة نفسها إلى طبيعتها الأصلية التي يشبهها الكتاب بكتلة الخشب الخام، التي لم تشكلها يد نجار ولا نحات.
لو كان «الطاو» مجرد رمز صوفي أو مبدأ ميتافيزيقي متعال على العالم والإنسان، لما كان هناك معنى لتأليف هذا الكتاب العجيب. ولو أراد له صاحبه أن يكون مجموعة من التأملات الفلسفية التي تستمتع بها نخبة من المثقفين المعتزلين أو المتنسكين المتوحدين، عن سخط أو يأس، لما احتفظ بقيمته ولا بسحره وتأثيره لأكثر من خمسة وعشرين قرنا. فالواقع أن المعلم الصيني العجوز قد عبر بالكتاب عن احتجاجه على الأوضاع الفاسدة في عصره، ولم يغب عن باله في أي قصيدة من قصائده أن يؤكد العلاقة الأساسية بين الطاو والإنسان، وأن يقول لنا في كل بيت من أبياتها على وجه التقريب إن هدفه هو تغيير العالم والطبيعة والإنسان قبل كل شيء بإرجاعها جميعا إلى الطريق الأبدي. وما الفضائل التي يلح عليها ويكرر الدعوة إليها إلا النتائج الضرورية التي تتمخض عن تصحيح العلاقة بالأصل والمبدأ بعد أن فسدت في عصره، وانحرف الناس إلى الوحشية والإفلات من كل الحدود، واستبدت بهم شهوة الظهور والتسلط والتعالي والادعاء والدق على طبول المواعظ والفضائل التي فقدت صلتها بالأصل والجذور، فسقطت في النفاق والشر والصراع (كما حدث في أيامه الأخيرة على أيدي الكونفوشيين، وانعكس على تعنيفه لمعلمهم الذي سمعنا حديثه الغاضب معه). إن كل ما نجده في الكتاب من إلحاح على البساطة والاعتدال ومقابلة الشر بالخير، ومن تحذير من الزهو والغرور والتهور والاندفاع وراء الغزو والحرب واستخدام الأسلحة في سفك الدماء، كل هذا الذي نجده فيه ليس سوى انعكاس لصحة العلاقة بالطاو، أو لفسادها واختلالها. وسوف نكتفي ببعض الأمثلة التي نقتبسها من الكتاب لتوضح لنا مفهوم الحكيم عن إنسانية الإنسان في وحدتها مع الأصل والحق الذي يسميه بالطاو، مع ذكر رقم المقطوعة وترتيبها عن الترجمة الاجتهادية التي قمت بها عن عدة ترجمات بلغات أوروبية حديثة؛ لجهلي باللغة الأصلية، وانعدام أي أمل في تعلم كلمة أو مقطع واحد منها.
عندما يختل كل شيء، وتفسد كل قيمة، ويتكالب الناس على الكسب والسلطة والجشع والمنفعة، فتشتعل نيران التباغض، ويتفجر الحقد والغدر والصراع على اللقمة والعظمة والفتات، ويضيع الإنسان إنسانيته (وهي «الين» التي لا يكف «لاو-تزو» ولا «كونج-فو-تزو» - كونفوشيوس - عن الحديث عنها بطرق مختلفة!) عندئذ يكون من الطبيعي أن يهب المثقف الأمين (لا التاجر، ورجل الأعمال الثقافية، وعبد السلطة الذي وجد في كل الأزمان، وأوشك في زماننا أن يكون هو الملك المتوج على عرش منصوب فوق قبور الصامتين واليائسين والمترفعين العاملين في الظل!) أقول من الطبيعي أن يهب ليصلح المعوج، ويبدد الظلمة، ويحذر وينذر، كالبومة الحكيمة الوحيدة، من مصير المدفونين تحت الأنقاض، وكوارث الفوضى والخراب والانقراض. كيف واجه الحكيم الصيني هذا الإعصار؟ وماذا فعل لوقف الطوفان؟
أكل ما استطاع أن يفعله هو التحذير والتبصير، كما فعل «أيب أور» في الأدب المصري القديم، و«المعري» في تاريخنا الوسيط، و«نيتشه» على مشارف القرن العشرين، و«صلاح عبد الصبور» و«خليل حاوي» و«أمل دنقل» وغيرهم في شعرنا الجديد؟! لا بد أنه رأى أن التحذير وحده لن يكفي؛ ولهذا عمد - ككل مرب أصيل - إلى تحويل الطبيعة الفاسدة، وإعادتها للأصل والجذر والمنبع؛ أي إلى الطبيعة البسيطة البريئة قبل أن يشوهها التمدن، أو ما نسميه اليوم بالتقدم؛ لهذا نسمعه يحرك أوتار القيثارة المنسية التي عزف عليها الحكماء القدماء؛ لعل الحكيم والخير النبيل والحاكم الحقيقي يستمع إلى صوته ويستجيب له. ها هو ذا يحاول أن يرجع أهله إلى البساطة الأولى التي لم تمسها أيدي التخريب والتشويه، فيقول:
ما من مصيبة أعظم من أن يستسلم المرء لشهواته. ما من ذنب أكبر من البعد عن القناعة. ما من عيب أخطر من أن يسعى الإنسان إلى الكسب. حقا! من وجد القناعة في في القناعة، فهو على الدوام قانع راض.
لكن هذا الحكيم القانع الراضي لا يريد أن يعيش حياة المفكر المكتفي بنفسه، التي قدم نموذجها الفيلسوف اليوناني القديم، ولا يرضيه أن يتوحد بعيدا عن الناس كما نصحنا «ديمقريطس» أن نفعل (عش في الخفاء! لاتي بيوزاس!)؛ فتواضعه وزهده الفطري في الشهرة والقوة والمجد وغيرها من الأوهام لا ينفصل عن حبه للناس، ولا عن نزعته الدائمة إلى العطاء والإيثار:
الحكيم يؤخر نفسه فتصبح في المقدمة، يطرد ذاته فتدخل من جديد. أليس هذا لأنه مجرد من حب النفس؟ من أجل هذا يصل بنفسه إلى الكمال.
ونحن نسيء الظن بهذا الحكيم لو تصورنا أنه حكيم ماكر، يظهر نفسه بمظهر المتواضع لكي يشده الناس إلى مقدمة الصفوف، ويعلن أنه لا يسعى وراء أي هدف شخصي لكي يحقق أهدافه الشخصية! كما أننا نظلمه أيضا إذا أسأنا الظن بدعوته المستمرة إلى عدم الرغبة حتى في الرغبة - وهي الدعوة التي لم ينفك المتصوفون في الشرق والغرب عن ترديدها والإلحاح عليها - وبنصحه للإنسان الحكيم أو النبيل أن يستغني حتى عن طلب المزيد من العلم والإكثار من المعرفة، اللذين طالما عرضا الإنسان للسقوط في هوة الفطانة والشطارة، وضيعا الحكمة والبصيرة، وتدنيا ب «العلم» إلى الادعاء والاحتيال، أو أوقعاه في التورم والتضخم. ويبلغ الأمر بالحكيم الصيني في إحدى مقطوعات الكتاب أن يقول قولته الشهيرة: «العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف.»
وأن يعلن في مقطوعة أخرى: «إن الكلمات الجميلة - ويقصد بها المزوقة - ليست صادقة، وإن الكلمات الصادقة ليست جميلة.»
ثم يكرر عبارة سقراط الشهيرة - دون أن يسمع عنه بطبيعة الحال! - في مقطوعة ثالثة يقول فيها إن الذي يعرف أنه لا يعرف، هو أرفع الناس شأنا؛ ومن يحسب أنه يعرف وهو لا يعرف، مريض بعقله. لكي ينتهي من القولين إلى أن الذي لا يعرف، هو الذي يعرف على الحقيقة؛ وأن الذي يزعم أنه يعرف، لا يعرف على الحقيقة.
كيف يمكننا اليوم - في عصر العلم وعصر الإيمان بأن العلم هو مكمن القوة والتفوق، وأمل البقاء الوحيد للأفراد والشعوب والحضارات - كيف يمكننا أن نأخذ بنصائح هذا المعلم القديم، الذي يحذر من النهم إلى الاستزادة من العلم، بل ينصحنا بأن نلزم بيوتنا، وسوف نعرف العالم دون أن نحتاج لأن نغادر عتبة دارنا؟!
لعل الرد على هذه الأسئلة الحائرة أن يأتي من إنصاف هذا المعلم القديم، ووضعه قبل كل شيء في سياقه التاريخي والثقافي قبل التسرع بإدانته، حينئذ نرى أنه كان يندد برذائل عصره، ويشجب الفضائل التي انقلبت على يد «العلماء» و«المعلمين» الداعين إليها إلى رذائل، عندما تحولت على يد بعضهم - وبخاصة أتباع كونفوشيوس - إلى آداب وقواعد محفوظة للسلوك، يقال إن عددها وصل إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة قاعدة، كان الصيني المهذب يلزم بحفظها عن ظهر قلب؛ حتى يعد إنسانا مهذبا، ويدخل في سلك الوظائف المرموقة في الدولة! زادت الثرثرة وفاضت. أغرقت كل الشواطئ حتى فقدت اللغة والكلمة والكلام معانيها، أو أفرغت منها. وغابت القدوة والنموذج اللذان نشكو مر الشكوى من غيابهما. فهل نعجب من قول المعلم لتلميذه أو قارئه «أن تعلم بغير أن تتكلم. أن تزداد غنى بغير أن تفعل. شيء في هذا العالم يندر أن يبلغه الإنسان»؟ وهل نستغرب منه أن يجعل وجود هذا الإنسان القدوة مرهونا بطبيعته الحقة ، أو بالأحرى باتباعه للطبيعة وتمسكه بالطاو؛ ومن ثم بالبساطة والعطاء والسكينة والتواضع والتعفف واطراح الشهوات؟! إنه يخاطبه بما يشبه الأمر الجازم حين يقول له: «عانق البساطة. تحكم في أثرتك، واقتصد في شهواتك.»
ثم يقول عنه في آخر مقطوعة يختتم بها كتابه: «إن الحكيم لا يجمع شيئا لنفسه؛ فهو بقدر ما يعيش لغيره يزداد غنى، وبقدر ما يعطي غيره من الناس يزداد نصيبه مما يملك.» ونسأله عن السر في هذا، فيجيب على الفور بأنه يسير على طريق السماء الذي ينفع بغير أن يضر. ولهذا كان طريق الحكيم أن يعمل بغير أن يتنازع مع أحد، وأن يتم عمله ويختفي. ومعنى هذا ألا يزهو بعمله، ولا ينتظر جزاء عليه، ولا يفكر لحظة واحدة في الإعلام أو الإعلان عنه، بل يهرب حتى من رغبة الناس في تكريمه أو الاحتفاء به كأنما يهرب من عار أو من وباء. وربما كان المثل الحي لمثل هذا الإنسان الحكيم هو ذلك القائد الطاوي «فان-لي» من القرن الخامس قبل الميلاد، الذي يروى عنه أنه حقق الانتصار على الأعداء ثم اختفى إلى الأبد. لقد وعدوه فيما يحكى عنه أن يقدموا له نصف المملكة هدية إذا رجع من المعركة منتصرا ومعه جيوش «يو-ويه» الظافرة. ولكنه انتصر ثم ركب مركبا خفيفا، وتوارى عن الأنظار، ولم يسمع عنه أحد بعد ذلك، بينما كان الشعب الذي بلغته أنباء الانتصار يقيم الأقواس والزينات، وينتظر القائد في لهفة لينثر عليه الزهور، ويضع على رأسه أكاليل الغار.
هذا القائد العسكري الذي حكينا حكايته ينطبق عليه ما يقوله المعلم الصيني العجوز عن الحكيم أو القديس أو النبيل، وما يصفه به من أوصاف لا تخرج في مجملها عن الفضائل «الصوفية» التي ألمحنا إليها في السطور السابقة، ويبدو أنها كانت قد اختفت من الوجود في العصر المضطرب الذي عاش فيه «لاو-تزو»، كما اندثرت أو أوشكت على الاندثار في زماننا ومكاننا. فالحكيم هو ذلك الذي يعرف طريق السماء كما يعرف نفسه، ولكنه لا يعرض أو يستعرض نفسه، وهو الذي يصون نفسه ويعرف قدره، ولكنه لا يكرم نفسه، ولا يتعمد أن يرفع من قدره أنه يفعل، ولكنه لا يفاخر بفعله ولا يكابر، وإذا أنجز الفعل - كما رأينا من القائد المنتصر الذي توارى عن الاحتفال بانتصاره! - لم يتلبث عنده، ولم يجن مصلحة من ورائه. إنه باختصار قد اتحد بالطريق حتى أصبح هو والطريق شيئا واحدا. ولأنه أحاط بالواحد، فقد صار نموذج العالم أو مقياس المملكة: «إنه يتجلى لأنه لا يكشف عن نفسه، ويعترف به لأنه لا يعطي الحق لنفسه، ويثق الناس به لأنه لا يدعي، ويمجده الناس لأنه لا يمجد نفسه، ولا يسعى أحد بشيء ضده لأنه لا يسعى إلى شيء.»
غير أن كل هذه الأوصاف والفضائل والأحوال التي ذكرناها عن الحكيم أو الإنسان الطاهر النبيل، ليست هي كل شيء في نظر حكيمنا الصيني، كما أن هذا الإنسان نفسه لم يكن هو غاية مطلبه من كتابه. قد يمكننا أن نضع كلمة «السالك» مكان كلمة الحكيم، أو نستبدل بكلمة الطريق (الطاو) اسم الجلالة أو الواحد أو الهو أو الحق (كما فعل أفلوطين الذي أكد عجزه عن تسميته لأنه لا يسمى)، دون أن نلاحظ اختلافا يذكر بين المعلم الصيني وبين أي متصوف إسلامي أو مسيحي، في الشرق أو الغرب على السواء؛ ذلك أن هدف المعلم الصيني كان أبعد من ذلك وأخطر، كما أن فساد الأوضاع واضطراب الأحوال في عصره لم يكن يسمح له بالاكتفاء بالدعوة إلى الحكمة وسائر الفضائل التي أوردناها للحكيم؛ ولهذا نجده يتجه بخطابه الحقيقي إلى الحاكم الحكيم الذي راح يعلق عليه آماله في الإصلاح، ويتعجل ظهوره لإنقاذ البلاد والعباد من الفوضى والبؤس والمجازر التي تردت بلاده في مستنقعها الدامي. ويكفي مصداقا لهذه الحقيقة أن نلاحظ نبرة الألم، بل الغضب المقدس، التي يتكلم بها عن الحالة التي وصلت إليها بلده وغيرها من البلاد نتيجة الحروب والصراعات بين الأمراء والحكام الإقطاعيين:
البلاط يعج بالأبهة، بينما الحقول تملؤها الأعشاب الضارة. كل شيء في القصر على ما يرام، بينما الحقول لا تجد من يحرثها. والموظفون (ربما يقصد رجال الحاشية) يتدثرون بالثياب الزاهية، ويتحزمون بالسيوف الغالية، ويتخمون بطونهم بالطعام والشراب، ولديهم من الثروة والمتاع ما يفيض عن حاجتهم.
ويمكننا أن نتخيل البقية الباقية: «الشعب تفترسه المجاعة، والأوبئة تستشري في كل مكان، واللصوص وقطاع الطرق ينهبون ويخطفون ويتجبرون، ويزيد عددهم كلما زاد عدد القوانين والتعليمات والنواهي والتحريمات (57)، كما يزداد الاضطراب كلما تكاثرت الأسلحة الحادة مع الناس، وثقلت أعباء الضرائب على ظهور عامة الفلاحين الفقراء.»
ما هي الصورة التي يرسمها المعلم العجوز لهذا الحاكم الحكيم؟ كيف يواجه الفوضى والاضطراب والحروب والنفاق الاجتماعي والشهوات الجامحة الكاسحة، التي انطلقت في بلده وعصره كالوحوش الكاسرة من أقفاصها، وخرجت من ظلمات غاباتها الدفينة في مجاهل أعماق البشر؟ وأي فعل ينصحه بالقيام به وهو الذي يدعو إلى رأيه المحير المشهور عن عدم الفعل؟ هل يمكن أن يأتي الإصلاح عن طريق الامتناع عن الفعل - أي عن التدخل في مجرى الطبيعة الكونية والإنسانية، كما قلنا، وإفسادها بالأمر والنهي والحظر والتسلط - بحيث يصبح الحاكم الملتزم بالطريق، أي بالصمت والسكينة والتواضع والتعفف والرضا ... إلخ، هو القدوة التي يهتدي بها الناس، ويتعلمون منها بغير كلام ولا لجوء إلى القوة والبطش؟
يفترض المعلم أن يكون الحاكم الحكيم بالنسبة لشعبه كالأم التي تحتضن الأبناء، وتحمل همومهم في قلبها وعلى كتفها:
من يتحمل قذارة العالم، فهو سيد المملكة. من يتحمل ذنوب العالم، فهو ملك العالم (...). إن فؤاده لا يطير من الرعب والفزع في أوقات المحن والكوارث والفوضى والاضطراب، وإنما يظل يدثر جسده بثوب الشعر الذي كان يلبسه فقراء الفلاحين، بينما يحمل بين ضلوعه جوهرة صافية كابتسامة الرضيع أو نظرة عينيه:
يحمل على جسده ثوب الشعر، أما في قلبه فيحمل الجوهرة.
هذا الحاكم الحكيم ليس له قلب خاص به، بل يعد قلب الشعب قلبه. إنه يقول لنفسه: «أنا خير مع الأخيار، ومع الأشرار أيضا خير. لهذا تصوب الأجناس المائة أبصارها وأسماعها نحوه، ويلقى الجميع كأنهم أطفاله.» وهو في هذا كله يقتدي بنماذج الحكام والحكماء الذين عاشوا قبله بقرون طولية، ولم يمل المعلم العجوز، ولا غيره من المعلمين - كما سبق القول - من تذكير الحكام بتواضعهم وقناعتهم وتمسكهم بطريق السماء:
حقا! الشرف جذره الاتضاع، والارتفاع كعبه الضعة. من أجل هذا يدعو الأمراء والملوك (القدامى) أنفسهم باليتامى والعجزة والفقراء. أليس هذا لأنهم يتخذون من الاتضاع جذرا لهم؟ حقا، من يبالغ في الترفع لا يرتفع إلا قليلا. لا تشته أن تبرق كالجوهرة، ولا أن ترن كالحجر الرنان!
وتتوالى الحكم في الثناء على الوداعة واللين والضعف التي تهزم التصلب والخشونة والعنف، وفي تمجيد البساطة والحب والسكينة والإيثار، والحض على تجنب التطرف والتهور، والالتزام بالحد والمقياس الأول والأخير، وهو اتباع الطاو والتجانس معه. فإذا سألناه: وكيف يحكم الحاكم شعبه، ويدبر شئون مملكته؟ وجدناه ينصح ب «عدم الفعل» في تنويعات وأشكال مختلفة؛ فالحاكم الذي يفعل عدم الفعل، ينتظم في بلده كل شيء. إنه يترك الشعب بلا علم ولا شهوة، يفرغ العقول ويملأ البطون، ينتج ولا يتملك، يدبر ولا يسيطر، وإذا فعل عدم الفعل، لم يبق شيء يستعصي على الفعل أو على الحكم.
لكن كيف يحكم بلده ويكسب شعبه عن طريق عدم الفعل؟ كيف يتحقق الإيجاب عن طريق السلب؟ إن رد الحاكم الحكيم بسيط، وهو يقوم من ناحية على نفي ما هو سائد، ومن ناحية أخرى على التمسك بالفضيلة الصوفية:
كلما زاد في المملكة الحظر والتحريم، ازداد الشعب فقرا. كلما زاد عدد الأسلحة الحادة بين الناس، ازداد الاضطراب في بيت الحاكم. كلما ازداد الناس مكرا ودهاء، ازداد الإخلال بالنظام.
كلما ازداد عدد القوانين والتعليمات، ازداد عدد اللصوص وقطاع الطرق. لذلك يتكلم الحكيم قائلا: أنا لا أفعل شيئا، والشعب يتحسن من تلقاء نفسه. أنا أحب السكينة، والشعب يهتدي بنفسه إلى النظام. أنا لا أمارس تجارة، والشعب يصبح من نفسه غنيا.
أنا لا أشتهي شيئا، والشعب يعود من نفسه إلى الفطرة.
ويبلغ أسلوب المفارقة ذروته حين يقرر المعلم الصيني أن الشعب يكون سعيدا وقرير العين عندما يكون الحاكم كسولا وضيق الحيلة، وأنه - أي الشعب - يقع في البؤس ويعلن السخط عندما يكون الحاكم نشيطا وحازما (أي بتعبيرنا الحديث عندما يكون طاغية ومستبدا، يرزح فوق أنفاسه، ويكلفه ما لا يطيق). وهكذا تكتمل النصائح بعدم الفعل في هذه الحكمة الشهيرة: «احكم البلد العظيمة كما لو كنت تقلي (أو تطبخ) سمكة صغيرة.» وحين لا يخشى الشعب قوتك، تكون قد بلغت أقصى قوتك. لا تضيق مساكنهم. لا ترهق عيشهم.
وإذا كان هذا الحاكم الحكيم يترك كل شيء يجري مجراه الطبيعي دون تدخل من جانبه، كأنما هو طيف مجهول يحرك الدمى في صمت وسكون من وراء ستار، فمن الطبيعي أنا يكون محبا للسلام، وألا يدخل حربا إلا لدفع عدوان عن بلده، حتى إذا أتم واجبه وانتصر على عدوه توارى عن الأنظار، كما فعل القائد الطاوي الذي عرفنا قصته. وطبيعي أيضا أن تكون الأسلحة هي أشد ما يكرهه، وأن يتحاشى ما استطاع أن يعيش بالقرب منها؛ لأنها في رأيه أدوات الشر، وليست أدوات الرجل الحكيم أو النبيل. وهو لا يلجأ إليها إلا مضطرا. وإذا انتصر لم يجد في الانتصار جمالا؛ لأن من يجده جميلا، يفرح بقتل غيره من البشر؛ ومن يفرح بقتل غيره من البشر، لا يصح أن يفرض إرادته على المملكة، ولا أن يحتفل بانتصاره إلا كمن يحتفل بجنازة.
مرت «الطاوية» بتطورات مختلفة لا يتسع هذا المجال المحدود للكلام عنها؛
5
فقد ارتفعت إلى مصاف الديانات بعد موت مؤسسها أو بعد اختفائه الأسطوري، واشتبكت في صراع دائم مع الكونفوشية ثم الكونفوشية الجديدة أشبه بالصراع بين قطبي الجدل الصيني المشهور، وهو الين (السلب) واليانج (الإيجاب).
وانهارت الطاوية بعد القرن الثاني الميلادي، وتردت في مستنقعات الدجل والسحر والشعوذة والتنجيم والعرافة وطرد الأرواح الشريرة من البيوت والأجساد وإطالة العمر والطيران في الهواء، ثم اندمجت بعد القرن الخامس الميلادي أو أدمجت فيها البوذية الهندية الأصل التي استقرت في الصين، وعرفت ب «التشان»، ثم انتقلت منها إلى اليابان، حيث تحولت إلى بوذية «الزن»، وازدهرت مدارسها المتنوعة إلى يومنا الحاضر. ولقيت - أي الطاوية - العنت والاضطهاد من الكونفوشية عندما أصبحت هذه هي الديانة والفلسفة الرسمية لأكثر من ألف عام، وانقلب الاضطهاد إلى الإهانة البشعة (لها ولسائر دكاكين العاديات القديمة!) في ظل الثورة الثقافية الفاشلة على أيام «ماو-تسي-تونج»، ولكنها بقيت على الرغم من كل هذا القهر الطويل كما بقي كتابها المقدس منبع إلهام لا ينفد معينه لأجيال من المتأملين الثائرين، وعباقرة فن الرسم الصيني الدقيق الرقيق، وملايين الفقراء البسطاء من الفلاحين والصيادين، ومئات الباحثين والدارسين والمترجمين، الذين ما زالت نصوصه الغامضة الغنية بالإيحاءات تجذبهم كالفراشات حول أنوارها وتجلياتها وألغازها الحافلة بالأسرار.
ويبدو أن المعلم الصيني العجوز نفسه قد أحس ببصيرته الملهمة أنه سيساء فهمه في عصره وبعد عصره؛ لذلك نسمع صوته خلال الكتاب وهو يبلغ كلمته، ويجردها ويجرد نفسه من الوقوع في أي وهم: «كلماتي سهلة جدا على الفهم، سهلة جدا على التنفيذ، لكن لا أحد في المملكة كلها يقدر على فهمها، وما من أحد في المملكة كلها يقدر على تنفيذها.» وربما استطعنا أن نقول عنه - بالرغم من ظلمات الخرافة التي أحاطت باسمه وحياته - إنه لم يكتف طوال عمره بالدعوة للطريق والاتحاد به، بل اتحد كذلك بأسلافه من الحكام والحكماء الذين لم يسأم الرجوع إليهم والإشادة بذكرهم. لقد كانوا مثله - كما يقول في المقطوعة الخامسة عشر - دقيقي الفكر، نافذي البصيرة، أغنياء بالأسرار، ولكنهم كانوا أيضا من العمق بحيث استعصى على الناس أن يفهموهم أو يستجيبوا لهم. والغريب أننا نجده يصف سلوك الحكيم القديم وكأنه يصف سلوكه هو نفسه: «متردد كأنه يعبر نهرا في الشتاء، خائف كأنه يخشى الجيران من حوله، متزن كأنه يجلس في حضرة مضيفه، متسامح كأنه الثلج عندما يذوب، أصيل كأنه الخشب لم تمسه يد، واسع الصدر كأنه وادي النهر، مضطرب كأنه دوامة من الماء العكر.»
والظاهر أيضا أنه لقي الأمرين من حاكم ولاية تشو التي عمل فيها أمينا للوثائق - كما سبق القول - وربما من غيره من الحكام وأمراء بعض الولايات الأخرى، الذين اعتاد حكماء الصين المصلحون أن يتوافدوا عليهم للنصح والتعليم والتهذيب، فيرحب بهم البعض، ويذلهم البعض الآخر ويطردونهم بعد أن يعاقبوهم أقسى عقاب. ولا نريد أن نسترسل في التخمينات التي تسبح كسحب الدخان في سموات العصور، وتلاحق كذرات الغبار مواكب الأجيال، ولكن ربما يشفع لنا الترفع الحزين الذي يسري في سطور الكتاب أن نقول إن المعلم لم يخدع نفسه أبدا عن المصير المحتوم الذي يلقاه المثقف الحقيقي الذي يرفض الواقع القائم، وينبض قلبه وقلمه بالحب الغامر لأهله الذين لا يلقى منهم إلا التجاهل والإهمال، وربما لا يبخلون عليه - كما هي العادة! - بالغدر والازدراء والإهانة. والحقيقة أن المقطوعة العشرين تنطوي - إذا صح حدسي الذي لا يدعي الصواب، ولا يجرؤ على الاقتراب من عتبة اليقين! - على ما يشبه أن يكون ترجمة ذاتية استطاع فيها المعلم العجوز أن يخترق حجب التحفظ والكتمان، وأن يهتف صارخا مع علمه بأن صوته سيضيع في البرية:
آه! ما أبعد الفجر! الناس جميعهم فرحون، كأنهم يشاركون في وليمة التضحية، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع. أنا وحدي أرقد في سكون، أشبه بطفل صغير لم يبتسم مرة واحدة في حياته. أترنح وأتمايل، كأنني أضعت وطني. الناس جميعا عندهم فوق ما يكفيهم. أنا وحدي تعريت من كل شيء (أو فقدت كل شيء). حقا! إن قلبي أحمق ومعتم ومضطرب. عامة الناس لامعون، وأنا وحدي مظلم. عامة الناس جادون واثقون من أنفسهم، وأنا وحدي متعب حزين الفؤاد، ثائر ثورة البحر، مضيع كأني بلا هدف. الناس جميعهم يتطلعون إلى المنفعة، وأنا وحدي عنيد كأني ابن الوحوش. أنا وحدي غير الآخرين، وأنا الذي لا يقدر شيئا لا يأتي من ثدي الأم المرضع.
هل يجوز لنا أن نفهم من هذه السطور المتأججة بجمرات الثورة والمرارة والألم، أن الناسك المصلح ينفس فيها عن غضبه المقدس على عصره ومعاصريه؟ هل يصح أن نستخلص منها الإيمان العظيم بالثقافة الحقيقية، التي تغير ولا تكتفي بالثرثرة النرجسية والزفات الكلامية التي طغى عليهما الإعلام والإعلان والادعاء والاستعراض؟
أسئلة أتركها للقارئ الذي «يتمسك بالطريق»، ويعلي من شأن الكلمة الراضعة من ثدي الأم.
وأخيرا، فقد طوفت بقدر ما استطعت بين عدد من عيون التراث الإنساني، من بابل والصين وحضارة الإغريق إلى أدب الغرب الحديث والمعاصر وفلسفته، مع الإلمام بعدد آخر - ربما يكون أقل - من عيون تراثنا الأدبي والفكري. ولقد تحيرت حيرة شديدة عندما فكرت في الكتابة عن هذا الكتاب، الذي أعترف بأنه كان وما زال أقرب الكتب إلى قلبي، وذلك منذ أن عشت نصوصه قبل أكثر من أربعين عاما، وتعاطفت مع مؤلفه المعلوم-المجهول، الذي آثر في نهاية المطاف أن يلجأ إلى منفاه الخارجي أو منفاه الداخلي. ومع أن قصتي مع هذا الكتاب لم تنته بترجمتي له، إذ ما زلت أقلب فيه الطرف من وقت لآخر، وأجمع ما يتيسر لي العثور عليه من ترجماته الجديدة في اللغات الأوروبية، وما أقع عليه من دراسات للفكر الصيني بوجه عام، وللطاوية بوجه خاص، وما زلت أرجو أن يتسع الوقت لي أو لغيري لإلقاء المزيد من الضوء على صورة الحكيم والناسك الصيني المصلح الثائر الذي اتحد بالطريق الأبدي، وحمل في قلبه هموم البسطاء والفقراء، وكافح بجهده في سبيل التغيير والإنقاذ، حتى ليبدو لعيني وكأنه طيف رقيق وشجاع يعيش ويتجول بيننا، ويحمل همومنا، ويشجعنا ويواسينا أيضا.
هوامش
عالم صوفيا
أو الزواج السعيد بين الفلسفة والفن
لفيلسوف التجريب الأسكتلندي الأصل ديفيد هيوم (1711-1776م) عبارة مشهورة، يذكرها مؤلف هذه الرواية البديعة في الفصل الذي عقده عنه، وتصلح لأن نبدأ بها هذا العرض النقدي لها: «إذا وقع بين أيدينا أي كتاب فعلينا أن نسأل أنفسنا: هل يحتوي على أي استدلال نظري عن الكم أو العدد؟ - لا. هل يحتوي على أي استدلال تجريبي عن مسائل تتعلق بالواقع والوجود؟ - لا. فليس فيه علم رياضي ولا علم طبيعي، ولا بد أن يكون كتابا في الميتافيزيقا أو في اللاهوت؛ إذن فليلق به في النار! لأنه لا يحتوي إلا على سفسطة وأوهام!»
والواقع أن العدد الأكبر من الكتب التي وضعت في لغتنا أو غيرها من اللغات عن تاريخ الفلسفة، ومعظم ما لدينا أو لدى غيرنا من مدخل إليها، لا ينجح إلا في شيء واحد، هو إخراجنا من عالم الفلسفة، والفرار بنا إلى مشاغلنا اليومية، مع التصميم الأكيد على عدم العودة إليها! ولا يرجع هذا إلى افتقار هذه الكتب للمعلومات الكافية عن قضايا الفلسفة وفروعها ومسائلها الأساسية، وتطوراتها المختلفة بين الاتجاهات والمدارس والمذاهب التي لا حصر لها، ففيها بحار زاخرة من المعلومات التي تغرق أمهر السباحين، ولا يرجع أيضا إلى خلوها أو خلو معظمها من العرض الواضح المبسط الذي قد يبلغ أحيانا حد التشويق المثير، وإنما يرجع إلى فشلها في إقناع القارئ بأن أسئلتها الكبرى عن الوجود والمصير والمعنى والحقيقة ... إلخ، هي أسئلته هو نفسه التي لا يتوقف في العادة عندها، ولا يهتم بالتفكير فيها كما يفعل الفلاسفة، وأن قضاياها ينبغي أن تكون بالنسبة إليه قضايا حياة أو موت، تبدأ من وجوده الخاص، وتمتد إلى لغز الكون الهائل العجيب، الذي هو جزء حي منه، ونبضة واحدة من نبضات قلبه الكبير الذي يدق من مليارات السنين، ثم إن هذه الكتب، التي تستحق أن تلقى في النار، لا تنجح في تعليمه ممارسة التفلسف - أي المشاركة في ملحمة التفكير العقلي - الذي بدأ منذ أكثر من ألفين وخمسمائة عام على أقل تقدير، ولن يتوقف أبدا ما بقي على الأرض إنسان قادر على التساؤل والاندهاش، وهي لا تأخذ بيده لاختيار الطريق الذي يسير عليه في حياته في هذا العالم، ومع الناس الذين يعيشون معه، أو الذين عاشوا قبله، وسألوا أسئلته نفسها وحاولوا الإجابة عليها، وهي في النهاية لا تساعده كثيرا على اتخاذ موقف نقدي مما يدور حوله من أحداث، وما يصادفه من أنماط الفعل والفكر والسلوك؛ ولهذا فهي تتركه يغوص في «فراء الأرنب الأبيض» الذي أخرجه حاو أو ساحر عجيب - كما سيقول المؤلف - من قبعة طويلة سوداء، ولا تعينه على الوقوف فوق شعرات هذا الأرنب ليطل على ما حوله، ويفكر فيه بنفسه تفكيرا مستقلا. وحتى الحالات القليلة التي لجأ فيها بعض الكتاب إلى وضع قصص فلسفية، أو تأليف روايات أو مسرحيات عن بعض الشخصيات المتميزة في تاريخ التفكير الفلسفي - سواء من الشرق مثل «بوذا» أو «كونفوشيوس»، أو من الغرب مثل «سقراط» أو «أفلاطون» وغيرهما حتى «نيتشه» - حتى في هذه الحالات القليلة لا يمكنا أن نقول إن القارئ - والقارئ الشاب بوجه خاص - قد استطاع أن يشارك في تلك المغامرة العقلية الكبرى التي نسميها تاريخ الفلسفة، ولا يمكننا أن نجزم بأنهم قد ساعدوه على توجيه حياته توجيها حكيما، أو إنارة باطنة بأنوار الحكمة، أو حتى على إيقاظه من نعاسه اليومي المضطرب؛ لكي يندهش من وجوده ووجود العالم، ويفتح عينيه ووعيه المغمض على تلك المغامرة العقلية المتصلة من ثلاثة آلاف سنة من عمر الحضارة والإنسان؛ ولهذا وفق المؤلف توفيقا كبيرا عندما استهل كتابه بسطرين استمدهما من المقطوعة الخيرة للقصيدة الثالثة عشر من كتاب «الضيق»، وهو أحد كتب الديوان الشرقي-الغربي للشاعر «جوته»، يقول فيها بالحرف الواحد ما ترجمته: «إن من لا يتعلم كيف يقدم لنفسه الحساب عن ثلاثة آلاف عام، فسوف يبقى مفتقدا للخبرة، ويتخبط من يوم ليوم في الظلام.»
ولا شك أن اختيار هذه الأبيات قد أعطى إشارة البدء للانطلاق في هذه المغامرة التاريخية الغامضة والمذهلة، التي استمرت كل هذه السنين وما زالت مستمرة، كما دعا القارئ للانخراط بدوره في هذا العالم العجيب الذي سماه عالم الحكمة أو «عالم صوفيا».
وأول سؤال يخطر على البال هو: من هي صوفيا هذه التي يريد المؤلف أن يجعل عالم الفلسفة وتاريخها هو عالمها وتاريخها الخاص؟
الكلمة اليونانية الأصلية تترجم عادة بالحكمة، ومحبة الحكمة (الفيلوسوفيا) هي الكلمة التي نسبت صياغتها إلى فيثاغورس أو هيراقليطس، واكتسبت معناها الإنساني - أي السعي إلى الحكمة لا امتلاكها - منذ سقراط، وترجمها العرب بالفلسفة، وعرفوها بأنها: العلم بحقائق الأشياء بقدر طاقة الإنسان. ولكن صوفيا هي تلك الصبية اللطيفة التي تعيش مع أمها وحيواناتها (القطة شيريكان، والسلحفاة جوفيندا ، والأسماك الحمراء، والعصفورين الملونين) في البيت رقم 3 ممر النرجس بإحدى المدن النرويجية، وكأنها تعيش في جنة عدن مليئة بالطمأنينة والصفاء والسلام. ولا تلبث الصبية - التي ستتم بعد قليل عامها الخامس عشر - أن تتلقى رسائل غامضة تعثر عليها في صندوق البريد، أو يحملها إليها بعد ذلك الكلب هرميس، أو تصادفها في أماكن مختلفة (على رصيف الشارع، أو في ذيل طائرة ورقية، أو على قاعدة نافذتها). وأول رسالتين تتلقاهما الفتاة، ويتكفلان بإخراجها من جنتها الآمنة، وإيقاظ الاندهاش في نفسها الصغيرة (والاندهاش هو أصل الفلسفة، كما قال أفلاطون وأرسطو، وكما تروي الحكاية المؤثرة عن طاليس أول الفلاسفة الإغريق الذي استغرق في تأمل السماء، والاندهاش لجمالها أو حتى لوجودها، فوقع في بركة ماء، ورأته خادمة أو إحدى الفتيات التراقيات، فاندهشت، وأغرقت في الضحك عليه!) وكانت أول رسالتين وصلتا إلى صوفيا تحملان هذين السؤالين الصغيرين: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟ وأثار استغرابها أنهما موجهان إلى فتاة اسمها هيلد مولر كناج/طرف صوفيا إموندسن، من الأب الذي يعمل ضابطا في الكتيبة النرويجية التابعة لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في لبنان. سؤالان يثيران الدهشة، واسم فتاة لا تعرفها تكتب الرسائل إليها من أبيها، وترسل إليها نسخا متتالية منها على زعم أنها توجد طرفها، وأنها ستوصلها إليها. وتتتابع الأحداث المشوقة، كما تتتابع فصول حكاية شعبية أو خرافية، ببساطة وتلقائية وعذوبة لا حد لها. ويستمر الاندهاش الطفولي، ويتصاعد مع توالي المشاهد والأحداث، وتوافد الشخصيات العبثية التي يعرفها ويحبها كل الأطفال من الحكايات الخرافية، وتزداد حيرة صوفيا حتى بعد أن يعرفها بنفسه معلم الفلسفة المجهول، الذي يبعث إليها فصلا بعد فصل من تاريخ التفكير العقلي - الغربي أساسا - في قضايا الوجود والنفس والعالم والمعرفة والأخلاق وحرية الإرادة والعلاقة بين الروح والجسد وطبيعة الإنسان والعالم الذي نعيش فيه ... إلخ، ولا تقل حيرتها حتى بعد أن تراه في شريط الفيديو الذي أرسله إليها، وظهر فيه بقامته المتوسطة، وذقنه السوداء المدببة، وهو واقف أمام معبد العذراء «البارثينون»، فوق قمة الأكروبوليس المطل على أثينا ، ولا بعد أن تلتقي به في كنيسة عتيقة من القرن الثاني عشر ليشرح لها فلسفة العصور الوسطى المسيحية، ثم في بيته في وسط المدينة، وهو البيت الذي يدلها عليه الكلب هرميس، وفيه تحاورت معه عن الفلسفة في عصر النهضة والباروك وعن ديكارت والعقلانيين ... إلخ. ولا يقل الغموض، ولا يفتر الحماس للكشف عن ألغاز الوجود والعقل والحياة والموت وأصل الكون ومصيره، ولا يرتفع الستار عن حقيقة صوفيا ومعلم الحكمة والشخصيات الخرافية البديعة التي تصطدم بها الفتاة أو تفاجئها من حين لآخر، حتى يتبين لنا - بعد رحلة شاقة، ولكنها شائقة في تاريخ التفلسف الغربي والعلم الغربي أيضا! - أن صوفيا ومعلمها ليسا سوى أفكار أو خيالات دارت في ذهن كاتب الرواية، وهو والد هيلد، الضابط ألبرت كناج، الذي كان يتسلى أو يستمتع بكتابة تاريخ الفلسفة لابنته على شكل رواية، أو مغامرة من مغامرات الأطفال في الحكايات، وأنه كان يهدف منها أن تكون هديته إليها في عيد ميلادها الخامس عشر، وأن تكبر معها شيئا فشيئا، وتساعدها على عبور سنوات التحول والنضوج، وتعلمها أن تختار طريقها في الحياة، وتقف موقفا نقديا من كل شيء؛ أي أن تقف على طرف شعيرات فراء الأرنب الأبيض، ولا تنزلق في أعماقه كما يفعل العاديون من الناس، الذين لا يستيقظون أبدا على الأسئلة الكبرى، ولا على السؤال البسيط: من نحن؟ وما هو دورنا في هذا العالم؟ ولا يثير فيهم شيء مما حولهم ذلك الاندهاش الذي حرك أول إنسان في الشرق أو الغرب، فتفلسف وسأل: ما هذا العالم؟ ولماذا نوجد فيه، ولا بد يوما أن نموت كما مات من قبلنا، كل الذين سألوه أو لم يسألوه؟
من المستحيل، بل من العبث، أن نحاول تلخيص رواية تقع ترجمتها العربية الموفقة (وقد وصفتها بالموفقة لأن لها ترجمة عربية أخرى لا يمكن أن تطلق عليها هذه الصفة!) في أكثر من ستمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير؛ فالعمل الفني يستحيل تلخيصه. إنه يطلب منك أن تدخل في عالمه، وتتجول في دروبه وغرفه ودهاليزه وأنفاقه، وتعاين بنفسك مناظره وصوره، وتجرب تجاربه ومواقفه، وتحاور شخصياته أو على الأقل تسمعها بنفسك، وتتأمل بناءاته، وتستمتع بإيقاعاته، وتعجب أيضا لحيله وأفانينه. ويكون نجاح العمل بقدر ما ينجح في إشراكك في عالمه؛ أي في قضاياه وإشكالاته وأسراره، بل إشراكك في «خلقه» أو إعادة إبداعه وإنتاجه على طريقتك كما يقول بعض نقاد هذا العصر. وأقصى ما نستطيع أن نفعله مع عمل ضخم ورائع كهذا (يقال إن الرواية ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وبيع منها أكثر من مليون نسخة!) هو أن نسأل بعض الأسئلة، ونحاول الإجابة عنها:
إلى أي حد وفق الكاتب في الحفاظ على التعجب والاندهاش الذي لا يستغني عنه التفلسف، والذي يبدأ به ويسيطر عليه في كل خطواته ومراحله؟
هل وفق في عرض تاريخ الفلسفة وأهم أفكاره وقضاياه على صوفيا الصغيرة؟ وهل ثمة انتقادات يمكن أن توجه إلى هذا العرض، أو إلى بعض الأفكار والهموم التي بثها المؤلف في روايته؟
أما عن السؤال الأول، فقد نجح المؤلف في إثارة ارتباك صوفيا الصغيرة - وارتباكنا أيضا، والارتباك أو الحيرة وراء كل تفلسف كما قال هيجل - بمجرد وصول الرسالتين الأوليين إليها وفي داخلهما السؤالان البسيطان: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟ فقد أخذت المسكينة تنظر إلى نفسها في المرآة، وتتأمل جسدها ووجهها وشعرها الأشقر، وتسأل عن طبيعة وجودها، هل لها نفس وعقل أم إن عقلها حاسب آلي كما قالت صديقتها نورا؟ هل هذه النفس خالدة كما تعلمت في دروس الدين؟ وما نوع هذا الخلود؟ ما العلاقة بين النفس أو الروح وبين الجسد الذي تراه في المرآة، وتحس بنبضاته ونموه المفاجئ؟ من أنا؟ ويا لهذا السؤال الذي لم يسبق لها أن طرحته على نفسها! ومن هي أمها التي يبدو أن لا شيء يدهشها أو يخرجها من حياتها المألوفة. ثم من أين جاء هذا العالم؟ هل انبثق في لحظة الخلق من العدم، أو وجد منذ الأزل (وهي مشكلة الحدوث والقدم التي شغلت المتكلمين والفلاسفة في تراثنا)؟ ومن الذي أوجده وكيف وجد؟ هل يشعر الله بها أيضا ويحس بحيرتها، أم له وجود من نوع آخر؟ ألا يمكن أن يكون حاضرا فيها وفي زهور حديقتها وحيواناتها الحبيبة إلى قلبها، أم هو هناك في السماء وبين النجوم، أو يسري مسرى الروح الخفيفة دون أن نستطيع معرفته أو تحديد طبيعته؟
وتكبر معها الدهشة والحيرة مع كل رسالة تصلها وفيها فصل جديد من فصول المغامرة العقلية الكبرى، لبشر مثلها لم يكفوا عن التساؤل ومحاولة البحث عن إجابة، في كل عصر وفي كل حضارة صنعها البشر، منذ عهد الفلاسفة الطبيعيين الذي ستعرفهم واحدا واحدا، إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وديمقريطس والرواقيين والأبيقوريين، إلى أفلوطين والأفلاطونيين الجدد، ثم من أوغسطين والقديس توما الأكويني إلى رواد العقلانية والتجريبية الحديثة، من ديكارت وأتباعه وبيكون ولوك وهيوم، إلى كانط وهيجل والرومانسيين، حتى داروين وماركس وكيركجارد وفرويد، وصولا إلى سارتر بوجه خاص، وإلى أحدث حقائق العلم الحديث عن البيئة والوراثة وعن أصل الكون والانفجار العظيم. ومع كل قراءة وكل حوار مع معلمها الفيلسوف المجهول - الذي تعرفت عليه بعد ذلك، واستأنفت معه المناقشة والتساؤل - لا تنقطع دهشتها، ولا تقل حيرتها أمام الألغاز الكثيرة التي تحركها وتحرك الرواية عن العالم والإنسان والإدراك والمعرفة والحياة والموت والأخلاق والجمال والخير والشر، وعن هيلد أيضا ووالدها الذي يؤلف هذه الرواية وتشعر أنه يراقبها ويحركها ويحرك معلمها.
صحيح أن من الصعب تصور قدرة فتاة صغيرة على استيعاب الكم الضخم الذي يقدم لها عن تاريخ الأفكار والإجابات الشديدة التنوع على الأسئلة الكبرى، ولكن التشويق المستمر، والتوتر المتصل، مع زيادة الألغاز والأسئلة غموضا، ولقاءاتها المتكررة في الغابة أو أمام باب شاليه الضابط المطل على البحيرة، أو حتى وهي تعبر الشارع والميدان، بشخصيات خرجت من كتب الحكايات الخرافية التي سبق لها قراءتها، كل هذا يجعلنا نعيش معها حكاية خرافية كبرى، مليئة بالعجائب والغرائب والمفاجآت التي تستفيد من فلسفة العبث والواقعية السحرية، وتتخللها فصول فلسفية تلخص أفكار أهم الفلاسفة تلخيصا أمينا منصفا ومبسطا بقدر الإمكان. ومع ذلك يظل السؤال ملحا: هل تقدر صبية صغيرة - سواء كانت هي صوفيا أم كانت هي هيلد التي تتزامن قراءتها لهدية أبيها المكتملة بمناسبة عيد ميلادها الوشيك مع قراءة صوفيا لها - أقول هل تقدر صوفيا الصغيرة على تحمل هذا الجبل الفكري الثقيل الذي ينهال عليها حجرا بعد حجر، على الرغم من مشاركتها المستمرة في السؤال والاستيضاح، ومن جهود معلمها الصبور في توصيل رسالة الفلسفة إليها، وإقناعها بأن تتفلسف بنفسها، وتساهم في صنع عالم إنساني خال من الصراعات والحروب والتلوث والإرهاب والتعصب ... إلخ؟
وقبل أن نحاول الإجابة عن السؤال الثاني المتعلق بعرض المؤلف لتاريخ الفلسفة، نجد لزاما علينا أن نتناول هذه الرسالة التي يسعى المؤلف لتوصيلها إلينا من خلال المعلم العجيب وتلميذته الحلوة البريئة (أم تراها قد خسرت البراءة بمجرد أن تفتحت عيون وعيها الصغير على أسئلة الفلاسفة وإجاباتهم التي لم تخل أبدا من التعقيد والخرابة؟) يشعر القارئ منذ البداية بأن المؤلف يحمل رسالة إليه، ويريد إبلاغها قبل كل شيء للملايين الذين غاصوا في «فراء الأرنب الأبيض»، فانطمروا كالنمل تحت أعباء الحياة اليومية، وأصبحوا أسارى المعتاد والمألوف والوضع القائم، فلم يتمكنوا من الصعود على أطراف شعيرات ذلك الفراء ليفكروا ويتأملوا ويسألوا، ويحاولوا تجاوز عالمهم المعتاد أو العلو عليه نحو «العالم» على إطلاقه، ولم يخطر على بالهم أن يوجهوا إليه النقد ابتغاء تغيير حقائقه المألوفة، وتحويله إلى عالم أفضل وأعدل وأكثر استجابة لإنسانيتهم ولأحلامهم بالمستقبل، أو على الأقل عالم أكثر وضوحا وأقل اضطرابا وتناقضا. والرسالة ببساطة هي تحقيق واقع إنساني آخر، تتحد فيه البشرية فوق هذا الكوكب الضئيل بالقياس إلى الكون الشاسع الممتد المذهل بروعته وغموضه ورهبته وجلاله وجماله (كما تدلنا الصفحات الأولى من الفصل الأخير)، فتتجنب الحروب والصراعات الدينية والعرقية، وتطهره من ضيق الأفق والتعصب والتلوث، وتحيا أخيرا في ظل السلام؛ لعلها تتعاون على كشف أستار الغموض المحيط بها من كل جانب. وإذا كان هذا حلما بعيدا أظهرت الأيام والتطورات التاريخية والعلمية والتكنولوجية أنه يزداد بعدا وخفاء، فلا أقل من التوسل بالوسيلة المتاحة لأي كاتب، ألا وهي إعلان كلمته التي تشيع التفكير الفلسفي في كل قارئ، لا في صوفيا وهيلد وحدهما، وتشجعه على التفكير بنفسه، وتكوين آرائه الشخصية، والإمساك بحقيقته الذاتية قبل الانتقال إلى التساؤل عن حقيقة الوجود وأصله ومعنى وجودنا فيه. ولا شك أن عمل المؤلف - ونقصد به الضابط الذي يبعث برسائله من لبنان حيث يعمل في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام - له دلالة واضحة على اقتناعه بضرورة توحيد البشرية بقيادة هذه المنظمة التي لم تتمكن حتى الآن من القيام بدورها؛ لنفس الأسباب التي تكرس تمزق البشرية، وتسلط الأقوياء على أقدار الضعفاء. ولا شك أيضا أن مؤلف الرواية مقتنع بأن حاجتنا اليوم إلى التفلسف قد اشتدت أكثر من أي يوم مضى (لسبب بسيط لم يصرح به؛ لأن الجميع يعرفونه، وهو أن أسلحة الدمار الشامل المتوافرة عند الدول العظمى وبعض الدول الصغيرة، تكفي لإبادة البشرية والحياة على الأرض آلاف المرات)، وهو يضع ثقته في الفلسفة، ويوحي إلينا بأنها هي التي ستساعد على إعادة الإنسان لإنسانيته، وتوحيد البشرية، وتجنب الحروب، وتنوير الشباب السادر في غياهب اليأس والتمرد العدمي والعنف العبثي والمخدرات المغيبة للوعي، فيحاول بكل وسيلة أن ينبهه ويوقظه. ومع تسليمنا بأن الإيقاظ وتنبيه الوعي الغافي (وكم ذكر خلال الرواية أن سقراط كان هو النحلة التي لا تتوقف عن لسع الحصان الأثيني الغافل المستسلم لزيف الواقع وتزييف الحق!) مع تسليمنا بهذا، فإن وضع الأمل كله في تنبيه البشرية وإيقاظها في كفة الفلسفة أمر لا يمكن أن يخلو من التفاؤل الشديد أو حسن النية، وربما يكشف عن «حلم مثقف» غاب عنه أن الواقع أشد تعقيدا مما يتصور، وأن التفكير النظري أو حتى النقد الفلسفي الذي يحرص على تعليمه لصوفيا ولنا، لن يستطيع وحده تغيير هذا الواقع المعقد بعناصره المختلفة، وتراكماته التي لا آخر لها، وأن ممارسة التفلسف حول وجودنا الذاتي أو وجود العالم، لن تستغني عن الالتحام بالعمل - على اختلاف تصوراتنا له - لتغيير الواقع البشري المتردي، ولا سيما واقع القسم الأكبر من البشرية الذي يعاني من الفقر والظلم والجوع والتخلف واستبداد النظم المتحكمة فيه، إلى آخر ما نعلم وما نعجز عن تغييره بأحلام المثقفين، مهما كانت عدتهم من الأفكار النقدية والتطلعات اليوتوبية والتنظير الفلسفي. وأحسب أن صوفيا أو هيلد المنعمة في جنتها النرويجية الصغيرة لن تستطيع، مهما تزودت بالعلم والنقد الفلسفي، أن تحس ببؤس الواقع البشري في أجزاء أخرى من «العالم الآخر»، الذي هو قطعة من الجحيم بالنسبة إلى جنتها السعيدة.
أضف إلى ما سبق قوله أن تحقيق رسالة المؤلف والرواية معا، كان يستلزم بالضرورة أن ينعكس على طريقة العرض نفسها للآراء والمذاهب والاتجاهات الفلسفية؛ لأن العرض المحايد لن يؤدي وحده - في تقديري على الأقل - لا إلى تغيير الوعي، ولا إلى تغيير الواقع، ولكننا قد وصلنا بهذا إلى العرض نفسه لتاريخ الفلسفة، ولا بد من كلمة عنه قبل محاولة نقده. إن الإنصاف يقتضينا القول بأنه في مجموعه عرض موضوعي منصف، روعي فيه التبسيط والتشويق بكل وسيلة معقولة أو لا معقولة، ومع ذلك لم يغفل «جوهر» المذاهب والمدارس والأفكار التي تناولها بالشرح والتوضيح والتقريب لفتاة صغيرة، ولم يترك أهم ما يجب معرفته عن كل مذهب أو فيلسوف على حدة، دون الإغراق بطبيعة الحال في التفصيلات والتفريعات التي لن يفتقدها إلا المتخصص في دراسة الفلسفة. وأحسب أن اشتغال مؤلف الرواية نفسه سنوات عديدة بتعليم الفلسفة للشباب في المدارس الثانوية، قد دربه تدريبا كافيا على تبسيط أعوص المسائل، وتحويل عرضه النابض بالحياة والحيوية إلى ما يشبه في بعض الأحيان أن يكون حكاية شديدة التشويق، أو قصيدة بل أغنية فلسفية طويلة ومثيرة للقلب قبل العقل في كثير من الفصول. وطبيعي أن يلجأ المؤلف إلى هذا؛ لأن المتلقي عنه ليس طالبا أكاديميا، ولا حتى جمهورا مثقفا في محاضرة ثقافية عامة، وإنما هي صوفيا الصبية التي يتفتح وعيها بالتدريج على أغرب الأسئلة وأغرب الإجابات، وكأن العرض قد أصبح بالنسبة لها - على الأقل في بعض الفصول وليس فيها جميعا - حكاية أخرى من نوع الحكايات الخرافية الشعبية أو الفنية التي قرأتها لهانز كرستيان أندرسون الذي ذكر أكثر من مرة أو لغيره. دع عنك الشخصيات العديدة التي تقابلها في الغابة، أو عندما تفتح باب شاليه الضابط، أو حتى عندما ينحشر جسدها الصغير بين الأغصان المتشابكة، فتأتي الأوزة التي تحولها بضربة من جناحها إلى عقلة الصباع، وتطير بها في السماء! وربما ساعد على حيوية العرض في معظم الفصول، وخلوه من أي أثر للجفاف المدرسي والجفاء الاصطلاحي والتعقيد والغموض اللذين يتصور الكثيرون أن لا فلسفة ولا عمق بغيرهما، ربما ساعد على هذا أن العرض يتم من الداخل؛ أي عن تجربة معيشة أتاحت للمؤلف أن يحيا الأفكار بكل كيانه، ولا يكتفي بفهمها واستيعابها بعقله، ثم إنه يتم بصورة مستمرة، ابتداء من الحاضر الذي تعيشه الفتاة وتعاصره؛ ولهذا تشارك فيه في معظم الأحيان بالتعجب أو الاستنكار أو السخط أيضا إذا وصل الأمر إلى حد ظلم المرأة وحرمانها من حقوقها السياسية والإنسانية. وقد نتج عن هذا أن صوفيا بدأت تعيش الأفكار - كما يبدو من أسئلتها الكثيرة لأمها المشفقة عليها من تلك الدهشة المستمرة التي لم تجربها هي نفسها أبدا - كما أن الأفكار تنعكس على بعض تصرفاتها، ولا تنزوي حبيسة رأسها فقط، وكأن كل ما تعلمته وتتعلمه درسا بعد درس هو جزء من لعبة أو مغامرة كبيرة بدأت تنخرط فيها، وهي لعبة فهم العالم والحياة والذات، وتكوين وعي نقدي يمكن أن يساعدها على إيقاظ النائمين من حولها «في قاع فراء الأرنب الأبيض»، أو على الأقل يساعدها على الوعي بروعة الحياة نفسها وغموضها، والمشاركة بدورها في جعلها لعبة أو حكاية أو مغامرة حية حافلة بالجمال ومتعة المعرفة، وحفزها على المشاركة في حل ألغازها وإضفاء المعنى عليها، قبل أن يحصدها منجل الحصاد المتربص في كل لحظة لهذه النعمة القصيرة العمر.
سبق أن قلنا إن المؤلف كان حريصا منذ البداية - بل منذ الشعار الذي استهل به الكتاب، واستمده من شعر جوته - على أن تعرف بطلته الجذور التاريخية الموغلة في أعماق تربتها الحضارية؛ لتصبح إنسانا حقيقيا، وتتطلع إلى مستقبل إنساني لنفسها ولغيرها من إخوتها في الشرية، وتعمل على التعجيل به بقدر استطاعتها. ومع ذلك يظل السؤال السابق ملحا: هل تقوى مثل هذه الفتاة الصغيرة على ابتلاع جبال المعلومات التي تنهال على رأسها الصغيرة؟ ألا نشعر أحيانا بالانفصام أو التباعد بين فصول حياتها والفصول الغنية بالمعلومات؟ وهل كانت هي الشخصية المناسبة للاضطلاع بالدور، أو حمل الرسالة التي أراد المؤلف توصيلها للقارئ؟ أم إن جهده اتجه قبل كل شيء إلى «إحياء» الفلسفة نفسها بعرض تاريخها بالصورة التي ذكرنها؛ لإغراء القارئ بإعمال عقله في الأسئلة الكبرى، واتخاذ موقف نقدي من حياته ومن الحياة بأكملها، بعد أن نجحت الرواية في إقناعه - أي القارئ العادي من أي سن أو جنس أو لون أو عقيدة أو لغة - بأن تاريخ التفكير الفلسفي هو في نفس الوقت تاريخه الخاص، وأن مغامرة العقل التي خاضها الإنسان الغربي والشرقي أيضا (وإن لم يذكره المؤلف إلا لماما!) كما خاضتها الصغيرة صوفيا هي أيضا مغامرته (وإن كان التعليم قد أخفق في إشراكه فيها، كما أخفق معظم مؤرخي الفلسفة ومعظم الفلاسفة أنفسهم في جذبه للانخراط فيها).
وقبل أن أتعرض لمسألة الشرق، وإغفال المؤلف له بوجه عام، أرى من باب الإنصاف أيضا أن أؤكد أنه نجح نجاحا فائقا في تقريب كل الفلاسفة والعلماء الذين شرح أفكارهم إلى القارئ العادي، الذي أظن أنه كان يقصده قبل غيره، ولا يعود هذا التقريب - كما سبق القول - إلى اقتصار عرضه على الحقائق الأساسية أو الجوهرية التي تهم كل مثقف حريص بطبيعة الثقافة نفسها على الاتصال بالجذور، بل إلى وصل هذا العرض بآخر ما حقق البحث الفلسفي والعلمي أيضا، سواء بالنسبة للفلاسفة أنفسهم أو للقضايا الكبرى في العلم، كالوراثة والتطور وطبيعة المادة وأصل الكون الذي أفرد له الفصل الرائع الأخير. ومن هذه الناحية يمكن القول بأن العرض كله يكشف عن سعة اطلاع المؤلف وتعمقه، ولا يقدر على العرض البسيط الحي لأعوص المسائل إلا متمكن واسع الاطلاع، فما بالك إذا كان إلى جانب ذلك روائيا واسع الخيال أصيل الموهبة، وواسع الاطلاع أيضا على الأدب الحديث والمعاصر وتقنياته وتجاربه ومغامراته، كما يشهد على ذلك استفادته من بيراندللو الذي عبر في مسرحياته - وبالأخص مسرحيته ست شخصيات تبحث عن مؤلف - عن خلود الشخصية التي يبتكرها خيال المؤلف الفاني. واستغلاله لتيار العبث أو اللامعقول وللواقعية السحرية عند ماركيز وغيره في كثير من المواقف والتصرفات، على نحو ما نرى في الفصل الثالث والثلاثين في حفل الحديقة، وفي الزج بعدد كبير من شخصيات الحكايات الخرافية الذين لا يقلون حيوية عن الأحياء من البشر إن لم يفوقوهم فيها. وساعد على حيوية العرض أيضا أن المؤلف قد حرص على اقتران الموضوع الفلسفي بالجو الذي يلائمه ويتساوق معه؛ ففلسفة العصور الوسطى تعرض في كنيسة عتيقة في الرابعة صباحا، والذي يعرضها هو معلمها الفلسفي المتنكر في ثوب راهب من رهبان تلك العصور (الفصل الخامس عشر)، وقصة أثينا ومجدها وازدهار الفكر فيها بالحوار السقراطي الحي، تعرض من خلال شريط فيديو لتعيش بطلته الأحداث وسط أطلالها، وفي أماكنها القديمة التي تتمنى أن تعيد الأمم المتحدة بناءها وترميمها؛ لتكون شاهدا حيا على حيوية الفلسفة وأهميتها (بحيث لا يقتصر الأمر على إحياء الألعاب الأوليمبية وحدها منزوعة من سياقها الثقافي والأدبي والمسرحي الذي كان يلازمها)، وعرض فلسفة عصر النهضة وعصر الباروك من خلال بعض التحف القديمة كالبوصلة والبندقية، ولقاء صوفيا للغني البخيل الذي يعد أمواله في الغابة، ويضن على الفتاة الفقيرة الحافية القدمين بشراء علبة ثقاب؛ ليكونا خير تمهيد للفصل الذي عقده عن ماركس وثورته على ظروف العمل البائسة في عصره، ثم ذلك الرجل العجوز الذي يطرق باب الشاليه، ويعطي صوفيا لوحة تمثل شجرة الأنساب لأنواع الحياة النباتية والحيوانية وصورة لسفينة نوح؛ للتمهيد للفصل العسير عن داروين ونظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، واختيار القهوة الصاخبة التي تلتقي فيها صوفيا مع معلمها ألبرتو لشرح فلسفة سارتر، التي ارتبطت أكثر من أي فلسفة وجودية أخرى بالمقاهي وحياة الناس العاديين.
وإذا جاز لي - كأستاذ سابق لتاريخ الفلسفة - أن أقول إن الكتاب لم يحمل إلي معلومات جديدة كل الجدة - باستثناء الفصلين المتميزين عن دارون وعن أصل الكون والانفجار العظيم - فيطيب لي أن أعترف بأن بعض الفصول قد قربت إلي عددا من الفلاسفة الذين كنت أتعرض لهم في دروسي بصورة عابرة، ولم يتسن لي التوقف عندهم أو البحث فيهم والكتابة عنهم، مثل بركلي وهيجل، بالإضافة إلى روعة العرض وشموله التاريخي والاجتماعي والفكري لعصور طالما قرأت عنها وقدمتها لتلاميذي - مثل عصر النهضة والباروك والتنوير والعصر الوسيط كله - ولكن لم يسبق لي أبدا أن عشت فيها بمثل هذه الحيوية التي لا تضارعها سوى حيوية لوحة رائعة بريشة فنان بارع ونافذ البصيرة.
وأرجع إلى المسألة التي أثرتها من قبل عن هذا العرض للفلسفة الغربية دون الفلسفة الشرقية، ومنها الفلسفة العربية الإسلامية إذا جاز أن نضمها للشرق أو نصفها بأنها شرقية. صحيح أننا لا نستطيع أن نلوم المؤلف لأنه اقتصر في عرضه لتاريخ الفلسفة على تاريخها الغربي، ولا أعتقد أن من الإنصاف أن نتهمه بالوقوع في شرك المركزية الأوروبية أو ما يشبه ذلك من اتهامات؛ فقد ذكر بوذا أكثر من مرة، كما تحدث حديثا عابرا عن تشوانج تزو، وهو من أهم فلاسفة الطاوية في الصين القديمة، وتطرق إلى التفرقة بين الحضارة الهندو-أوروبية والحضارة السامية، وذكر فضل العرب في نقل التراث اليوناني إلى الغرب دون الخوض في أية تفصيلات عن أي فيلسوف إسلامي. ورأيي باختصار أن هذه المهمة متروكة للشرقيين والعرب والمسلمين أنفسهم، وليتنا نحظى في المستقبل بعرض أو عروض تنافس في حيويتها وجاذبيتها الآسرة هذا العرض، لتاريخ الفكر الشرقي والإسلامي، أو على الأقل لأحد عصوره أو أعلامه، وأملي - إذا تحقق - أن يختار شخصية أو شخصيات يدير حولها هذا التاريخ، وتكون معبرة عن الإنسان المطحون المحروم من نعيم «الجنة البرجوازية» التي تعيش فيها صوفيا، أو يهيم فيها خيال الضابط النرويجي الذي نسج قصتها من خياله، وحكم عليها في النهاية أن تعيش حياة فانتازية لا أدري هل يوافق المؤلف وبيرانديللو أيضا على أنها أبقى وأخلد من حياة أمثالنا أم لا توافقهما.
بقيت في النهاية بعض الملاحظات النقدية السريعة التي لا تقلل من قيمة الرواية، ولا تؤثر أدنى تأثير على حيويتها وروعتها الفنية والفكرية معا:
فالمؤلف يقول (ص89) إن الفلاسفة الطبيعيين الأوائل (من طاليس إلى أنبادوقليس) قد نجحوا في تحقيق القطيعة بين الأساطير والدين من ناحية وبين الفلسفة من ناحية أخرى. والواقع أن هذه القطيعة لم تكن حاسمة ولا نهائية تماما؛ إذ بقيت آثار عديدة من التفكير الأسطوري والديني عالقة بأعظم فيلسوفين في العصور القديمة، وهما أفلاطون (الذي ظل تفكيره يعاني من التوتر الدائم بين الأسطوري والعقلي وبين الفن والفكر المحض) وأرسطو (الذي نسب الحياة والعقل للكواكب في السماء).
ليس صحيحا ما قاله المؤلف (ص126-127) من أن أفلاطون قد ساوى بين الرجل والمرأة في القدرات العقلية؛ فآراؤه عن المرأة مهينة لإنسانيتها وكرامتها، وقد اختزل وجودها إلى «ولادة» وربة منزل، وحرمها من المشاركة في المسئوليات العامة، ورؤيته لها بوجه عام ليست إيجابية أبدا كما ذكر المؤلف، حتى ولو زعمنا بأنه اختار امرأة - وهي الكاهنة ديوتيما - لتعلم سقراط معنى الفلسفة في محاورة المأدبة.
لا علم لي كذلك بأن العلماء العرب بدءوا يتوافدون على شمال إيطاليا بدعوة من نبلاء هذه المنطقة؛ وبذلك عرفت كتابات أرسطو وترجمت عن اليونانية أو من العربية إلى اللاتينية (ص236)، فمبلغ علمي أن الاتصال قد تم عن طريق قرطبة وصقلية والحروب الصليبية، ثم بعد هجرة علماء بيزنطة إلى إيطاليا بعد فتح القسطنطينية سنة 1453م على يد محمد الفاتح. والمراجع المتاحة بلغات مختلفة عن انتقال التراث اليوناني عن طريق المسلمين إلى الغرب المسيحي، أو عن تأثير العرب والمسلمين على الحضارة الغربية لا تؤكد كلامه.
يذكر المؤلف المثل اللاتيني المشهور، وهو
Carpe Diem ، وهو «تمتع بيومك.» لا، «عش يومك فقط.» كما نقله المترجم الفاضل (ص299) في سياق حديثه عن الاستمتاع بالحاضر الذي كان سمة ملازمة للحياة في عصر الباروك. وليت المؤلف تذكر أيضا أن هذه الدعوة كانت موجودة عند قدماء المصريين، وأنها كانت ملازمة للدعوة إلى تذكر الموت، وبخاصة في الموائد والاحتفالات التي يقيمونها، كما كانت أيضا هي دعوة ساقية الحانة للبطل جلجاميش السومري في طريقه إلى أرض الحياة بحثا عن الخلود.
يذكر جون استيوارت مل على أنه معاصر لجون لوك (ص353)، وأعتقد أن الخطأ هو خطأ المترجم، ولا بد أن يكون المؤلف قد قصد في النص الأصلي أنهما مواطنان إنجليزيان؛ إذ توفي الأول سنة 1873م والثاني سنة 1704م .
يذكر (في ص359) أن أفكار ديكارت المشهورة واضحة ومحددة، والأصح أنها «واضحة ومميزة».
يقول المؤلف (ص430) عن كانط إنه كانت لديه معرفة واسعة بالتراث الفلسفي. صحيح أنه - كما يقول - قد عرف عقلانية ديكارت واسبينوزا، كما عرف تجريبية لوك وبركلي وهيوم، ولكن الصحيح أيضا أن معلوماته عن تاريخ الفلسفة بوجه عام كانت - بالقياس إلى المعلومات المتوافرة اليوم - شحيحة ومحدودة. وهذا وحده يشهد شهادة بليغة على أن اتساع العلم والخبرة بتاريخ الفلسفة أو العلم أو الفكر عموما ليس هو الذي يصنع الفيلسوف أو العالم أو المفكر الأصيل، وإن أمكن أن يصنع معلما جيدا أو خبيرا واسع الاطلاع. وربما كانت آفة عصرنا هي جناية المعلومات على أصالة الفكر وقدرته على الإبداع. وترد في الفصل الخاص بهيجل، وفي الشعار الموضوع للفصل نفسه (ص473)، عبارته المشهورة: «المعقول هو الواقع، والواقع هو المعقول.» على هذه الصورة التي لا أدري مدى صحتها أو صحة ترجمتها: أن المعقول هو ما يكتب له البقاء. ومبلغ علمي أن العبارة قد وردت في المدخل إلى الظاهريات، وأنها من العبارات التي يستشهد بها كثيرا عند الكلام عن هيجل. وربما لا يمنع هذا من ورودها بالصيغة التي ذكرتها الترجمة العربية في بعض كتاباته. ولن يفوتني أن أشيد بهذا الفصل الرائع الذي لا يقل في جماله وإشراقه عن بقية الفصول، على الرغم من وعورة هيجل والتجريد الشديد الذي يلف أسلوبه في كثير من الأحيان في متاهات ضبابية محيرة.
وأخيرا ذكر المؤلف (ص651) أن الرؤية الدورية للتاريخ - في مقابل الرؤية الخطية المسيحية ابتداء من القديس أوغسطين - موجودة في الشرق. وقد فات المؤلف أنها موجودة أيضا عند اليونان القدماء، كما نرى مثلا في فكر الدورات الكونية عند الفيثاغوريين، وفي تصور مسار التاريخ على غرار المسار الطبيعي.
وأخيرا أجدني مدفوعا بكل الحب والعرفان للإشادة بالترجمة العربية البديعة لهذا الأثر الفني المبدع، ولا أملك إلا أن أزجي التهنئة القلبية الصادقة للأستاذ «أحمد لطفي»، الذي تصدى لهذا العمل الرائع، وأن أشد على يديه وأنا أهمس: شكرا لك، وشكرا باسم جميع القراء، على الرغم من بعض الهنات النحوية التي تؤكد سوء التفاهم بينك وبين خبر «كان»، الذي تنسى في بعض الأحيان أنه منصوب لا مرفوع!
1
هوامش
ثورة إلى الأبد، وتفسير لشذرة جوته المسرحية عن بروميثيوس
من منا لم يسمع أو يقرأ عن الجد الأكبر للثورة والثوار في الحضارة الغربية كما صورته أساطير الإغريق الفياضة بالذكاء والجمال والحكمة؟
ومن منا لم يصل إلى سمعه ويهز قلبه وعقله نبأ ذلك الثأر العنيد الذي تمرد على آلهة الأوليمب، وخدع زيوس نفسه، وسرق سر النار الذي حجبه عن البشر، فجعلهم يخطون الخطوة الأولى على طريق الحضارة، ومكنهم من ممارسة الحرف وسائر الصنائع والفنون، ومن بناء المسكن وإشعال المرقد، ووقاية أنفسهم من كوارث الطبيعة وعدوان الوحوش؟ إنه هو بروميثيوس صديق البشر المتعاطف معهم؛ لأنه (كما يقول المأثور الأسطوري) هو الذي خلقهم من صلصال، وسواهم على صورته، وجعل الإنسان يمشي منتصب القامة وقد رفع رأسه للنجوم، وذلك بعون من الربة أثينا أو مينرفا التي أرشدته إلى نبع الحياة، ودفعته بإذن من زيوس أو جوبيتر كبير الآلهة إلى أن يبث في صورهم وأشكالهم وتماثيلهم أنفاس الحياة؛ ليعيشوا ويعملوا ويحبوا ويمرحوا ويرقصوا ويتعذبوا أيضا، ثم يموتوا في النهاية، وهو المارد العملاق «الطيطان» أو نصف الإله، شيء وسط بين الآلهة والبشر، ورمز أبدي لتوهج شعلة الإبداع، وتفجر ينابيع الخلق عند الشاعر والأديب والفنان العبقري، الذي هو صورة مصغرة من الخالق والمبدع الأعظم.
تفيدنا المراجع الكلاسيكية أن أباه هو «الطيطان» أو المارد العملاق يابتوس، وأن أمه هي كلمينه، وأشقاءه هم إيميثيوس وأطلس ومينويتيوس. وتقول أيضا إنه خدع زيوس كبير الآلهة أكثر من مرة. احتال عليه في إحداها فأعطاه عظام الأضحية وذهبها، واحتفظ للبشر الذين يحبهم بلحمها الطيب، فما كان من زيوس إلا أن استأثر بسر النار الذي سرقه المارد الثائر من سماء الأوليمب، وهبط به إلى أرض البشر، فيما تقول إحدى الروايات المأثورة، داخل برعم نبته يجوف، فأسدى بذلك للبشر أهم وأجل صنيع في تاريخهم كما سبق القول. ويروى أن صناع الفخار في أثينا لم ينسوا له هذا الصنيع، فكانوا يحتفلون بذكراه في أعياد «البرورميثيا»، التي يطوفون فيها بشوارع المدينة في مواكب حاشدة من حملة المشاعل الذين يتغنون باسمه ويرددون سيرته.
كان جزاء أب الثوار أن أمر جوبيتر (أو زيوس) بصلبه على شفا هاوية سخيفة بحبل القوقاز، وأطلق عليه نسرا متوحشا ينهش كبده، وكلما طلع الصباح كساه كبدا جديدا ليطعم به النسر، كما أرسل وفدا من ربات الانتقام يعذبنه تعذيبا، ويفتحن في قلبه جراحا معنوية أشد فتكا بالأبطال من الجراح الجسدية. هل يسقط إمام الثائرين بسبب لعناته وحقده على الإله الأكبر سقطة مأسوية، أم ينتصر بسلاح الخير على الشر بعد أن صفت نفسه بفعل العذاب الذي تحمله؟ وأصاب الحكمة من طول هذا العذاب كما تصور شيلي في قصيدته المسرحية الكبرى، وتعلم الحب والغفران، فانتصرت قوة الخير، وهوى جوبيتر عن عرشه، وظهر هرقل رمز القوة، ففك أغلال رمز الحرية. إن التفسيرات مختلفة باختلاف الأدباء والعصور، وسنكتفي هنا بتفسيره شذرة جوته المسرحية ومصيرها المحزن (راجع لشيلي، بروميثيوس طليقا، ص110-120، ترجمة الدكتور لويس عوض، القاهرة، هيئة الكتاب، 1987م).
أنجز «جوته» هذه الشذرة المسرحية مع غيرها من الشذرات الشعرية والمسرحية المتنوعة، التي لم يقدر له أن يتمها خلال السنوات الأولى من شبابه الباكر، وهي التي قضاها بين لايبزيج وفرانكفورت قبل تلبية دعوة أمير «قيمار» وبداية إقامته فيها؛ أي بين سنتي 1772 و1774م، فهذه الشذرة نفسها التي ستطالعها كتب في صيف سنة 1773م، وتبعها أنشودة عن بروميثيوس صمتها بعض السطور من المسرحية القصيرة، وسبقها بوقت قصير «أغنية محمد» التي دونها في شتاء 1772 / 1773م. كان من المفروض أن تكون مع أنشودة صغيرة يناجي فيها محمد نفسه، وتكاد أن تكون ترجمة حرفية لعدد من الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت على لسان إبراهيم - عليه السلام - في سورة الأنعام، أثناء بحثه بين الكواكب عن الإله الواحد الخالق، وإدراكه بعد ذلك أنه لا يرى وليس كمثله شيء، كان من المفروض أن تكون بداية مسرحية عن محمد لم يستطع أن يتمها.
1
هكذا أتم جوته كتابة هذه الشذرات وغيرها تحت إلحاح جارف وكاسح بحتمية التعبير عن سورة رؤاه الجامحة، وطوفان مشاعره الجياشة كأمواج البحر العالية في صورة حية مباشرة، ومفعمة بالحوار والحركة التي يمكن أن يراها ويسمعها المتلقي. كتب يقول بعد ذلك عن تلك الفترة الفياضة بالإنتاج المذهل:
لو لم أكتب في تلك الفترة أعمالا درامية لحكم علي بالضياع. ولا عجب في ذلك؛ لأن تلك الفترة الزمنية كانت جزءا لا يتجزأ من مرحلة العصف والدفع، التي شارك أزماتها وثورتها جيل كامل من أدباء الشباب، بريادة الأديب وفيلسوف التاريخ يوهان جوتلوب هيردر (1744-1803م) الذي وضع شكسبير كالمثل الأعلى نصب عينيه، ولم يمل أو يكل من دعوة هذا الجيل لتمثل أعماله والتعلم منه؛ هذا الجيل الذي تميز بفورة الوجدان، وسورة العواطف والرؤى، واعتزاز المبدع بعبقريته، وإيمانه بعبارة الأديب الإنجليزي «شافتسبري» التي أثرت على الجميع: «إن الشاعر خالق ثان - أي بعد الخالق الأعظم جل علاه - إنه بروميثيوس حقيقي.» وقد سمي هذا العصر في أوائل القرن الثامن عشر بعصر العبقرية، وبأن عبقرية العبقرية أشبه شيء بظواهر الطبيعة أو كوارثها الكبرى، عندما تباغت الأرض والبشر ببراكينها وزلازلها وصواعقها المدمرة، وكذلك ببروقها الساطعة الخاطفة. وغني عن الذكر أن جوته وصديقه شيلر في شبابهما - بالإضافة إلى عدد كبير من الشعراء والكتاب - قد كانا من أهم الرموز على روح هذه الحركة القصيرة العمر، قبل انتقالهما بحكم التطور إلى مرحلة كلاسيكية أكثر اتزانا ونضجا واحتفاء بالشكل الصارم والبناء المحكم.
لنبدأ بالقصيدة التي تعد أكثر تكثيفا وجرأة وعنفا في التعبير عن التمرد والتحدي لآلهة الأوليمب وكبيرهم زيوس، وعن المعنى الذي كتبت في سياقه القصيدة والشذرة المسرحية، وهو الإعلان من شأن الأديب والمبدع بوجه عام، وتصوره على صورة البطل الأسطوري بروميثيوس. والقصيدة التي تتضمن - كما سبق - بعض الأبيات من الشذرة تدور على لسان بروميثيوس، وهي من أولها إلى آخرها مونولوج يخاطب به زيوس وآلهة الأوليمب وكأن كلماته صيحات أو اتهامات.
لقد خلق هذا البطل البشر وسواهم من الطين بمساعدة من أثينا أو مينرفا كما سبق القول، وسرق النار التي استأثر زيوس بكنه سرها، وضن به على البشر. وإذا كان قد عاقبه بأن أمر، كما هو معروف، بتقييده إلى جيل القوقاز بحيث ينهش كبده نسر عظيم بالنهار، وبعد أن تلتئم جراحه بالليل يعود فينهشه بالنهار. وإذا كان البطل هرقل قد فك قيده وقتل النسر الهائل بعد أن أذن له زيوس بذلك، بل سمح بحضوره إلى الأوليمب كمستشار للآلهة، فإن القصيدة كلها تضع التمرد في قلب الحدث، وفي صميم التناقض بينه وبين زيوس وبقية الآلهة وأنصاف الآلهة: غط سماءك يا زيوس، ببخار السحب، ومارس ألعابك البارعة، كالصبية الذين يقطفون فروع الأشجار الشوكية، على شجر البلوط وذرى الجبال، لكن دع لي أرضي واترك لي كوخي الذي لم تقم ببنائه، وموقدي الذي تحسدني على توهج نيرانه.
والواقع أن صيحات بروميثيوس ولعناته التي يطلقها على سماء الأوليمب وكبير الآلهة، لا تخلو من الشكوى المرة من تخليه هو وبقية الآلهة عنه، ومن نظرتهم إليه وهو العبقري نظرة السادة للعبيد. «لما أن كنت طفلا، لا أعرف يميني من شمالي ولا رأسي من قدمي، كنت أدير نظرتي الحائرة المضطربة نحو الشمس، متوهجا أن وراءها وفوقها أذنا تصغي إلى شكواي، وقلبا مثل قلبي يشفق على المكروب المنكود الحظ.»
ويواصل البطل المخدوع أو المظلوم تبرير اتهاماته لمن عاملوه معاملة السيد للعبد بتأكيد ذاتيته وشجاعة قلبه الذي تحدى الجميع: من الذي وقف معي ليرد عني غرور العمالقة؟ من أنقذني من الموت والعبودية؟ ألم تنجز كل شيء بمفردك يا قلبي المقدس والمتوهج؟!
وأخيرا يسوغ البطل المتمرد العنيد احتفاءه وعدم اكتراثه بآلهة الأوليمب، الذين لا حق لهم في الوصاية عليه، وأولهم كبيرهم زيوس: «أأنا أجلك وأوقرك؟ لماذا؟ وفي سبيل أي شيء؟ هل فكرت أبدا في تخفيف آلام المرهق من ثقل الأحمال؟ هل حاولت مرة واحدة أن تجفف دموع القلق الخائف؟»
مع ذلك فلم يقطع صلته تماما بالمقدس والإلهي الخالدة، ولم يمنعه تجديفه على زيوس وتحديه له من أن يظهر طاعته للقوتين الإلهيتين العريقتين اللتين تطيعهما آلهة الأوليمب نفسها، وهما «المويرا» (التقدير الأزلي الأبدي) وخرونوس (الزمن القهار الذي يبتلع كل الكائنات والموجودات). وإذا كان يحتفظ بأكثر ملامح وجهه الأسطوري الغاضب العنيد (تبدأ القصيدة بفعل أمر لزيوس: غط سماءك!) بتأكيد الأنا المتمردة الوحيدة العاكفة على خلق البشر؛ أي المعبرة عن صورة العبقري المبدع الذي قال عنه جوته إنه فصل ثوبه على قده، فها هو المقطع الأخير يؤكد عناد المبدع البطل والعبقري الوحيد: «ها أنا أجلس هنا، أسوي بشرا على صورتي، جنسا يشبهني، يتعذب ويبكي مثلي، ويستمتع ويفرح ولا يكترث بك كما أفعل أنا.»
إن بروميثيوس يؤكد ذاتيته الطاغية العنيدة في المقطع السابق والأخير من القصيدة بصورة فظيعة ومستفزة، غير أن تأكيد العبقري لذاته إذا كان يعبر من الناحية الدينية، أو من النظرة الشاملة للوجود، عن أن الخلق كله ليس ولم يكن أبدا غير نوع من السقوط، أو الرجوع إلى الأصل الأول (كما يقول جوته في نهاية الفصل الثامن من سيرة حياته شعر وحقيقة).
2
وكما قالت الشذرة الغامضة التي تركها لنا الفيلسوف أنكسمندروس، فإننا إذا كنا نضطر من ناحية لتأكيد ذواتنا، فنحن لا نتردد في أحيان أخرى، وفي نبضات منتظمة، عن التخلي عن ذواتنا والتجرد منها، في مرحلة متأخرة من حياته وإنتاجه، كما في الديوان الشرقي للشاعر الغربي، سيسمي القطبين المتضادين والمتلازمين لإيقاع الحياة بالقبض والبسط (السيستولي والدياستولي) كما يتضح في عملية الشهيق والزفير، لكن القصيدة كما لاحظنا من الأبيات المقتبسة، تصر حتى النهاية على تصوير الجانب الأول المعبر عن الذات المتضخمة المتمردة، تاركة الجانب الآخر للشذرة التي تضع في المشاهد التي يظهر فيها بروميثيوس الذاتية إلى جواز التخلي عن الذاتية في المشاهد التي تظهر فيها مينرفا في نهاية الفصل الثاني.
هكذا تتبدى صورة العبقري المبدع الذي يرفض أي وصاية عليه من أي نوع كانت، ويصر على العكوف في وحدته على إبداع مخلوقاته التي تنبع من أعماق ذاته الحرة المستقلة، ثم يتولى بعد ذلك رعايتها والأخذ بيدها لتأسيس أول مجتمع إنساني يعيش في ظل الحب والتكافل والقانون الأخلاقي، ويترفع عن ظلم الآخر ونهب ممتلكاته. يتجلى هذا في هذه الشذرة المسرحية المبكرة التي تركها جوته، كما ترك غيرها، قبل أن تكتمل وتتخلص من عيوبها الدرامية والتشكيلية الكثيرة. ويبدو أن همه الأول في تلك الفترة المبكرة التي اندفع فيها بصورة مذهلة إلى تجسيد أفكاره ومشاعره في فيض من الأعمال الدرامية المتوالية، لم يكن هو الكتابة الدرامية في حد ذاتها بقدر ما كان هو إثبات استقلال المبدع، الذي يفور باطنه بالصور والمشاعر والأفكار واستغنائه عن أي عون أو سند من الخارج، واعتماده في النهاية وبشكل مطلق على ذاته وحدها. يؤكد هذا ما يقوله في سيرة حياته بعد ما يقرب من أربعين سنة على اندفاعته الجامحة والمحيرة لتدوين كل تلك الأعمال الدرامية المبكرة: يبدو أن القدر الإنساني العام الذي يتحتم علينا جميعا أن نتحمل عبئه الثقيل، يكون أكثر من يتحمله هو الإنسان الذي تطورت قواه وآفاقه العقلية في مرحلة مبكرة من حياته، بحيث تصبح الغاية النهائية لهذا الإنسان هي الرجوع إلى ذاته والاعتماد عليها اعتمادا مطلقا. وكم جربت في شبابي أن الإنسان في أشد لحظات احتياجه إلى المساعدة كثيرا مما يسمع صوتا يناديه: «أيها الطبيب! ساعد نفسك بنفسك!» وكم تنهدت في ألم وأنا أهمس لنفسي قائلا: لا بد أن أتسلق السلم وحدي؛ ذلك أنني كنت كلما تلفت حولي بحثا عن شيء يؤكد استقلالي، كنت أجد أن الأساس اليقيني الثابت لهذا الاستقلال هو موهبتي المنتجة والمبدعة، التي لم تتخل عني لحظة واحدة منذ سنوات.
ويستطرد جوته في ذكرياته، فيقول: وعندما تفكرت في هذه الموهبة الفطرية ووجدت أنها شيء يخصني أنا وحدي، وأن ليس ثمة شيء غريب عني يمكنه أن يؤيدها أو يعطلها، آثرت أن أبني عليها وجودي الفكري كله. وتحول هذا التصور عندي، فتمثل في شخصية البطل الأسطوري القديم بروميثيوس الذي خطر عندئذ على بالي، والذي اعتزل الآلهة وراح من معمله يزحم العالم بمخلوقات من إبداعه . أحسست أنني لن أنتج شيئا له قيمة حتى أعتزل تمام الاعتزال، وأن أعمالي السابقة التي قوبلت بالترحيب والاستحسان كانت هي أبناء وحدتي، ومنذ أن توسعت علاقتي بالعالم المحيط بي، لم تنقصني القوة ولا متعة الابتكار، ولكن البناء المفصل كان يتعثر في يدي؛ لأنني لم أكن قد تمكنت بعد من العثور على الأسلوب الخاص بي، لا في النثر ولا في الشعر، بحيث كنت أبدأ مع كل عمل جديد، أيا كان موضوعه، في تحسس طريقي ومعاودة التجربة والمحاولة من البداية. ولما كانت في تلك الفترة قد عودت نفسي على رفض أي مساعدة من أي إنسان آخر، بل أستبعدها تماما من ذهني، فقد فضلت الاعتزال على طريقة بروميثيوس؛ لكي أكون أكثر استجابة لطبيعتي وطبعي ومنحاي الفكري الذي يقصر نفسه على إحساس، أو تمثل واحد يبتلع ويستبعد كل ما عداه. وهكذا عاشت حكاية بروميثيوس، وصارت في وجداني تجربة حية، وشرعت دون تردد في كتابة مسرحية تصور سوء العلاقة التي نشأت بين بروميثيوس وبين زيوس وبقية الآلهة عندما أخذ يخلق بشرا يسويهم بيده، ويؤسس بذلك دولة أخرى تقع بين الآلهة والعمالقة.
ويختم جوته هذه الذكريات بأن موضوع بروميثيوس قدم له مادة شعرية ملائمة، ولكنه لم يشأ أن يعالجه في صورة ثورية عنيفة وفجة، تصور هجوم العمالقة واقتحامهم العاصف للسماء، وإنما وجد من الأليق أن يصور عناد البطل ومقاومته بصورة سلمية مرنة وصابرة؛ حتى لا تتحول نيرانها التي ظلت مشتعلة تحت رمادها الشعري منذ كتابتها قبل خمسين سنة، كما قال لصديقه تسلتر في شهر مايو سنة 1820م، وهو يتذكر أنها لم تر النور منذ كتابتها إلى إنجيل ثوري للشباب الثائر بطبعه، فيؤلب عليه غضب المسئولين الكبار. ولعل هذا هو السبب في نسيانه لهذه القطعة المسرحية، التي كان من المفروض أن يبدأ الفصل الثالث فيها بالمونولوج المتفجر بالغضب والتحدي كما رأينا في تحليلنا لبعض مقاطعه، وكانت نتيجة ذلك عدوله عن إكمالها، بل عدم تحمسه لنشرها حتى بعد مرور ذلك الوقت الطويل.
3
لم تصل المخطوطة المنسية لهذه الشذرة المسرحية إلا في سنة 1811م، ثم تم نشرها في المجلد الثالث والثلاثين من أعماله الكاملة التي ظهرت سنة 1830م ؛ أي قبل رحيله بسنتين.
لنقف الآن وقفة قصيرة أمام هذه الشذرة قبل أن نستخلص منها المعنى الرمزي أو الحكمة الخفية التي يبدو لي أنها قصدت إليه، ولا بأس قبل ذلك من حديث مختصر بقدر الإمكان عن بعض مزاياها وعيوبها الفنية، التي ربما كانت هي السبب في تكاسل جوته عن إتمامها، بل نسيانها والتحرج من ذكرها طوال ما يقرب من خمسين سنة متصلة: (أ)
يكاد النقاد يجمعون على أن هذه الشذرة تتفرد بين كتابات جوته المسرحية المبكرة بتكاملها ووحدتها الشعرية والروحية واللغوية؛ فنحن نجد أنفسنا في جو أسطوري خالص - في سفح جبلي القوقاز والأوليمب - وتذهب وتجيء أمامنا شخوص عديدة نحس كأنها تنتمي لمجتمع بدائي أو يوتوبي، تشبع فيه البساطة والنقاء والحنان والبهجة التي تعبر عنها مخلوقات تشعر بأنفاس الحياة التي دبت فيها قبل قليل بالرقص والغناء وتسلق الأشجار وقطف الزهور، والرجوع في كل شيء إلى «الخالق» الذي سواها، وبدأ يأخذ بيدها ويربيها على الحياة في ظل القانون الأخلاقي والشريعة الإنسانية. غير أن معظم هذه الشخوص التي تتنفس هذا الجو الأسطوري الحميم تتسم بالسطحية، وتفتقر إلى التفرد والذاتية التي نتوقعها من شاعر لم يكتب شيئا في حياته إلا عن تجربة باطنة وحميمة، ومعاناة عميقة وأليمة. أما عن الحدث الدرامي فهو شبه غائب عن خشبة المسرح، وما يمكن أن يوصف بأنه حدث - مثل غضب مركور من رفض بروميثيوس لعرض الآلهة، أو بث أنفاس الحياة في التماثيل والصور التي صارت بشرا، وتجربة باندورا ... إلخ - إنما تروى سردا ولا تحدث؛ ولذلك بدت المشاهد المختلفة مفككة ومنفصلة ومفتقرة إلى الفعل الدرامي الذي يربط بينها؛ وبذلك يصعب علينا أن نصدق ما سبق أن نقلناه من سيرة حياته الدافع الذي ألح عليه لكتابة هذه الشذرة، وهو التعبير عن ذاتيته المستقلة كما سبق أن فعل في أعمال سابقة كآلام فرتر على سبيل المثال.
ولعله قد تصور خطأ أن ثورة بروميثيوس وغضبه على المسرح يمكن أن يكفي للتعبير عن ذاتيته المستقلة، وحماية وعيه الذي لا يريد له أن يمس بإعفائه من أحكام الترابط الدرامي بين المشاهد التي تتوالى دون جديد يذكر. (ب)
وتفاجئنا صورة بروميثيوس في حديثه مع مينرفا أنه هنا لا يتمسك بفرديته واستقلاله اللذين طالما دافع عنهما، ورفض أي مساس بهما، واعتبر أن معنى الوجود كله متطور فيهما. فنحن نحس في حديثه باحترامه لألوهيتها، وارتباطه العميق بها إلى حد تصوره أنه كثيرا ما يتحدث بينه وبين نفسه بحديثها، وأنها كانت دائما ملهمته بحكمتها وسموها وجلالها الإلهي. غير أنه يقع في التناقض أو في الضلال عندما يكرر في نفس الوقت رفضه للآلهة ككائنات غريبة عنه، وتأكيده استقلال عالمهم عن عالمه الذي يرفض كذلك أن يعترف بأن يكون لهم أي حق فيه. وعندما تدعوه برفق أن يتذكر قدرتهم وحكمتهم يعود لغضبه، ويؤكد أنه يساويهم ولا يقل عنهم، بل ويرفض عرض جوبيتر الذي جاءت تقدمه له بأن يقوم بنفسه ببث أنفاس الحياة في صوره وتماثيله التي أبدعها، ولكنه لا ينثني عن موقفه المتصلب حتى تعرض عليه أن تهديه إلى نبع الحياة الذي لا سلطان لأحد عليه إلا أمويرا؛ أي للقدر الأعلى الذي تخضع له آلهة الأوليمب نفسها. بهذا تكفكف من غلوائه، وتخيل له أيضا أن مخلوقاته التي ستنعم بالحياة لن تقل عن «خالقها» اعتزازا باستقلالها وحريتها، وربما لن تقل ألوهية عن الآلهة نفسها التي ما زال صانعها ومبدعها على موقفه المعاند والمؤكد لاستقلاله عنها. وأخيرا تأتي موافقة كبير الآلهة على لسان شقيقه إبيميثيوس الذي يبلغه مباركتها لبث الحياة في تلك المخلوقات، التي ستزيد من عدد عبيدها ومن عدد الأضحيات التي سوف يقدمونها لها. ولا شك أن القارئ أو المتلقي للعرض الدرامي سيفتقد هنا فعل الأحياء ل «مخلوقات بروميثيوس»؛ إذ كان يمكن أن يستغله الشاعر ويبرزه كموقف درامي هام، بدلا من إخفائه أو مجرد الاكتفاء بتقريره بصورة لغوية وحسب. (ج)
لم تخرج من الفصل الأول بأكثر من التعرف على بناء شخصية بروميثيوس الذي بقي على عناده ومساواة نفسه بالآلهة، ولم يدرك التناقض الذي وقع فيه عندما شعر، ولو بشكل غير مباشر ولا واضح، أن الألوهية تسري فيه هو نفسه وفي الطبيعة والوجود المحيط به، وتشمل الجميع بقوتها وحبها وحكمتها. ويأتي الفصل الثاني فنرى مخلوقاته تلتف حوله، وترجع إليه في كل شيء؛ ليوجهها ويبصرها بالمبادئ الأولى للحياة في مجتمع إنساني حقيقي، مجتمع يحيا كما نقول اليوم في ظل الحرية والقانون، ولا ينحرف أفراده إلى الفساد والاستبداد والسقوط ضحية شريعة الغاب. ويتردد في أنفسنا هذا السؤال مع بداية الفصل الثاني:
هل ستبقى مخلوقات بروميثيوس ملتفة حوله، أم ستتمرد عليه وتنفض عنه؟ هل هي حقا جزء من نفسه، أم إن هذا مجرد وهم يغشي عينيه؟ هل سينجح كما يبدو من تصرفاته في هذ الفصل في أن يؤسس اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة الأولى في تاريخ البشرية ويظلها برعايته، أم ستبقى هذه المدينة حلما مثلها مثل غيرها من الأحلام التي طالما داعبت خيال الأدباء والشعراء والفلاسفة؟
لن نستطيع بسهولة أن نجد الإجابة الواضحة على هذه الأسئلة فيما نقرؤه أو نشاهده على المسرح. إن كل ما يمر أمامنا هي صور رمزية تعبر عن الحالة الأولى للبشرية، أو الوضع الأصلي للإنسان في حضن الطبيعة والفطرة (وقد كان هذا هو الموضوع الذي شغل الأذهان في ذلك العصر تحت تأثير كتابات «روسو»، التي ربطت التمدن بالانحلال والتدهور، ودعت بقوة للرجوع للطبيعة والفطرة الأصلية).
وقد تأثرت بخيله الأدباء والشعراء تأثرا كبيرا بلغة روسو وصوره الشاعرية والعاطفية الموحية. وها نحن نرى في هذا الفصل الثاني ثلاث صور ترمز لذلك الوضع الأصلي الأول؛ فالأولى تصور بناء أول كوخ أو أول مسكن بشري؛ ومن ثم دخول ظاهرة الملكية في العالم. لقد كان بناء أول كوخ في نظر روسو لحظة درامية أو بالأحرى «ثورة أولى»، عرضها بأسلوبه المتوهج عرضا ثوريا في الجزء الثاني من مقاله الشهير عن المساواة، لكن هذا المشهد يخلو في الشذرة المسرحية من أي روح درامية؛ إذ يبدو بروميثيوس فيه متدثرا في ثوب المربي والمشرع الحكيم، والموجه إلى النظام الأخلاقي والقانوني الذي يحمي المدينة أو المجتمع البشري الأول من الوقوع تحت سطوة شريعة الغاب (وهذا هو ما يوضحه النزاع بين رجلين على ملكية عنزة أراد أحدها أن ينتزعها بالقوة من الآخر). وتأتي الصورة الرمزية الثالثة معبرة عن قدرة الطبيعة على الشفاء من الهم والسقم. والحقيقة أن بروميثيوس لا يلتف هنا في مسرح الساحر ولا في ثياب الطبيب، وإنما يوجه «مخلوقاته» إلى نظام أزلي سابق يكمن في قدرة الطبيعة على الإنعام على البشرية التي تنمو فيها وتجربها وتحبها بالخلاص من الأوجاع والآلام. لم تكن هذه البشرية إذن في حالتها «الأصلية» حرة ومتمتعة بالصحة وطيبة وسعيدة، كما زعم روسو، بل كانت نشطة وكسولة، قاسية ووديعة، كريمة وبخيلة.
كانت هذه البشرية الأصلية شبيهة بكل إخوتها الذي قدر لهم أن يتتابعوا في أجيال مختلفة عبر التاريخ. لم تكن إذن أفضل ولا أسوأ ممن جاءوا بعدها في أزمنة لاحقة؛ فالجميع تنطبق عليهم الأضداد التي عبر بها بروميثيوس عن نفسه في بداية هذا المشهد؛ يتعذبون مثله ويبكون، يستمتعون ويفرحون. وهكذا نجد أنه لم يخب أمله في مخلوقاته الحية التي جاءت على شاكلته، وتنطوي طبيعتها مثلما انطوت طبيعته على المتناقضات والأضداد المتعارضة، وكأني به يشير قائلا للفنان والمبدع الحقيقي وكلهم في النهاية بروميثيوس حقيقي: ترفقوا بمخلوقاتكم، ولا تسمحوا للصراع أو التناقض أن يوسع الهوة بينكم. إن طبيعتهم صورة أخرى من طبائعكم، وكلاكما ينمو بالضرورة داخل نظم حية متطورة تعمل على تكوينه على ما هو عليه. (د)
ويأتي المشهد الأخير من الفصل الثاني، فيقدم لنا بروميثيوس الثائر الغاضب المتحدي في صورة الحكيم المفسر للوجود والمبشر به؛ لذلك لا يدهشنا أن تتردد في الأجزاء الثلاثة لهذا المشهد كلمة «الموت» بظلالها الداكنة، وأصدائها الغامضة النابضة بالشجن والأنين.
والفقرة الأولى من هذا المشهد الأخير تقدم لنا ذهول باندورا وحيرتها أمام التجربة التي تصادف أن مرت بها دون أن تقدر على فهمها، ويأتي تفسير الحالة النفسية التي عانتها الفتاة، وعبرت فيها بصورة غير واعية عن حنينها الجارف إلى الحب ، واستعدادها للتضحية والعناء في سبيل المحبوب. ويكرر بروميثيوس كلمة الموت المظلمة بوصفها تعبيرا عن ماهية اللحظة الفارقة التي تحقق فيها ذلك الحنين إلى التضحية والفداء والفناء في المحبوب؛ أي لحظة الموت التي تعلو فيها الذات على ذاتها وهي تفارقها. وهكذا تفاجأ ببروميثيوس آخر غير الثائر والغاضب العنيد الذي عرفناه في كل من الأنشودة والمشاهد الأولى من الفصل الأول، وكذلك غير بروميثيوس المربي والموجه والحكيم الذي رأيناه مع مخلوقاته في المشاهد الأولى من الفصل الثاني. إنه الآن وجه «ديونيزي» تملؤه تباريح الألم من المصير المأسوي المحترم الذي ينتظر الإنسان، هو يقف على شفا الحفرة المظلمة، سواء فهمناها على أنها حفرة الموت أو حفرة الحب الذي شده نحو مينرفا أو نحو باندورا. (ه)
وتأتي الخاتمة معبرة عن تصور جوته للتجربة التراجيدية أو الأيونيزية للحياة: ليس الموت أبدا هو الهدف الأخير، ولا ينبغي أن يكون هو الهدف الأخير الذي تسعى إليه مخلوقاته الحية؛ فالموت تعقبه صيرورة جديدة يتحول معها البشر إلى حياة خالدة يستردون فيها قوتهم وعافيتهم وإقبالهم على الفرح والمسرة. أهو إيمان مبكر وغامض بخلود الروح الإنساني؟
ليس بإمكاننا تقديم تفسير أوضح لهذه الخاتمة المحيرة، لكنها تؤكد على كل حال أن الشاعر لو قدر له أن يكمل المسرحية لما استطاع أبدا - كما زعم أكثر من مرة بعد تقدمه في العمر - أن يبدأ فصلها الثالث بالقصيدة أو المونولوج الغاضب الذي سبق أن حللناه، ونشر مستقلا عن النص المسرحي.
4
والسبب في ذلك أنه كان في نهاية الفصل الثاني قد دخل عالم بروميثيوس آخر، تشع من جبينه وعيونه حكمة الكاهن أو العراف أو القديس الزاهد في الثورة بمعناها الغاضب والصارخ والمتحدي، الداعي إلى ثورة أخرى أعمق وأبقى وأقدر على إبداع «مخلوقات» يعجز الزمن الذي يبتلع كل شيء عن التهامها في جوفه. (و)
مع من إذن كان من الممكن أن تتصور الصراع الدرامي في الفصل الثالث أو في فصول أخرى محتملة؟ في تقديري أننا لا يمكن أن نتوقعه بينه وبين آلهة الأوليمب وكبيرهم، الذين أبلغوه على لسان مينرفا ومركور أنهم يباركون بث الحياة في أشكاله وصوره وتماثيله من منطلق نفعي بحت (وهو أن يزيد عدد عبيدهم والأضحيات التي سيقدمونها لهم كما سبق القول). هل نتصور أنه كان من الممكن أن يجعل آلهة الأوليمب تشن حملة عليه، وترسل من يقيده إلى جبل القوقاز، ويسلط النسر المخيف على كبده كما تقول المادة المأثورة للأسطورة، كما عرفها من المعاجم الكلاسيكية، ومن قراءته لمسرحية أيسخيلوس؟ ولكن هذا لم يكن ممكنا بعد أن باركت مخلوقاته وإبداعاته، كما أن الشاعر نفسه استبعد عن ذهنه فكرة ذلك العقاب، ونفر منها بطبعه.
هل يبقى أن نقول إنه كان من الممكن أن يدخل في صراع مع مخلوقاته، «التي سيجد مع مرور الزمن أن بعضها على الأقل قد انحرف عن الفطرة الإنسانية النقية التي فطرها عليها»، ومع تعقد الحياة الاجتماعية في مدينته الأولى التي رأينا كيف عامل أبناءها معاملة الأب الحنون والراعي الطيب؟
أحسب أن هذا كان أمرا ممكنا، ولكنه ربما لم يخطر على بال الشاعر؛ لأن الدفقة الشعرية التي قطرتها في قلبه المتمرد روح العصف والدفع والاعتزاز المفرط بالعبقرية الفردية، كانت قد انسكبت في رؤيته الشعرية والصوفية للعالم، وفي احتضانه للوجود الكلي واحتضان هذا الكل له؛ الأمر الذي أدى بالضرورة إلى تراجع الفردية المطلقة، وربما إلى بداية روح ثورية جديدة في عملية إبداعه المستمرة؛ روح ربما اتسمت بالنضج، والتحلي بالأناة والصبر، ومواصلة عملية الخلق في صفاء وابتهاج ونشوة. لست أدري مدى صحة ظنوني وتصوراتي، كل ما أدريه ويتمثل أمام عيني الآن بوضوح هو رؤيتي للبطل الثائر القديم وهو يقف وسط مخلوقاته التي أبدعها من صميم وجدانه الحر المستقل، ودون أي وصاية أو عون من الخارج، أقول إنني أراه واقفا وسط إبداعاته وهو يصيح هاتفا بما يحتمل أن يكون الشاعر قد قصد من شذرته المسرحية: «أيها المبدعون! يا من يسكن داخل كل منكم بروميثيوس حقيقي! تأكدوا وأنتم تبدعون أن إبداعكم هو الثورة الحقيقية؛ لأنها على الدوام ثورة قيم روحية وأخلاقية ومعرفية تصلح وتغير التاريخ والواقع التغيير الحقيقي، كما تحول المؤمن بها والأمين عليها في عمق وسكون التحول الكلي والجذري، ولا تفعل ما فعلته الثورات الكبرى المزعومة التي لم تجلب على البشر إلا الشقاء، ولم تترك وراءها إلا آلاف الرءوس المقطوعة وآلاف المقابر الجماعية وسجون التعذيب والتصفية ومعتقلات السخرة المهينة. كونوا بروميثيين بحق، آباء ومربيين وحراسا، ورعاة طيبين يحمون قيمهم الخالدة من الفساد والانحراف كما فعلت وأفعل مع مخلوقاتي، التي هي صور رمزية للقيم التي لا بد أن يستميت الثائر البروميثي الحقيقي، وكلكم هذا الثائر في الدفاع عنها، وانتشالها من السقوط، وإحيائها باستمرار. كونوا بروميثيين بحق! ولتكن ثورتكم الإبداعية ثورات إلى الأبد.»
هوامش
ثورة إلى الأبد: شذرة مسرحية لجوته «بروميثيوس»
الفصل الأول (بروميثيوس - مركور)
بروميثيوس :
لا أريد! قل لهم لا أريد!
وباختصار، لا رغبة عندي!
لتقف إرادتهم في وجه إرادتي!
واحدة ضد واحدة.
بهذا فيما أعتقد، تتعادل الكفتان!
مركور :
أيمكن أن أقول هذا لأبيك زيوس؟
أو أن أبلغه لأمك؟
بروميثيوس :
ما معنى أب؟! ما معنى أم؟!
أوتعرف أنت أصلك ومن أين أتيت؟
لقد وقفت على قدمي،
عندما لاحظت لأول مرة،
أن لي قدمين أقف عليهما.
ومددت يدي،
عندما أحسست بهاتين اليدين تمتدان بالعطاء.
ووجدتهما هذين اللذين تسميهما أبي وأمي،
يحتفيان بخطواتي.
مركور :
واللذان قدما لك العون والمساعدة،
وأنت بعد طفل صغير.
بروميثيوس :
وقدمت بدوري طاعة الصبي المسكين،
الذي راحا يوجهانه هنا وهناك،
كيفما شاءت رياح أهوائهما.
مركور :
وكم أسبغا عليك الرعاية والحماية!
بروميثيوس :
من أي شيء؟
من أخطار كانا يخشيان شرها.
هل خطر على بالهما أن يحميا هذا القلب
من الأفاعي التي كانت تنهشه في الخفاء؟
أن يقويا هذا الصدر؛
ليتحدى عماقة المردة «الطيطان»؟
ألم يكن ذلك الذي سواني رجلا،
هو الزمن الجبار المتجبر،
سيدي وسيدهما؟
مركور :
أيها التعس!
أأنقل هذا الذي تقول،
لأربابك الخالدين اللامتناهين؟
بروميثيوس :
أربابي؟ أنا لست ربا ولا إلها.
مهما تخيلت في أحيان كثيرة أني واحد منهم.
أتقول الخالدين اللامتناهين؟!
أصحاب القدرات والجبروت؟
ما الذي تقدرون عليه؟
أتقدرون أن تكوروا
الفضاء الشاسع للأرض والسماء
في قبضتي هذه؟
هل في وسعكم
أن تفرقوا بيني وبين ذاتي؟
أم تستطيعون أن تمدوا في كياني،
وتوسعوه حتى يصبح عالما بأكمله؟
مركور :
القدر!
بروميثيوس :
هل تعترف بقدرته؟
وأنا مثلك!
أتصرف الآن.
فأنا لا أدين بالطاعة للخدم والأتباع! (ينصرف مركور.)
بروميثيوس (يرجع إلى الأشكال والتماثيل التي سوتها يداه، والتي تتناثر في أرجاء المرج هنا وهناك) :
يا لهذه اللحظة التي لا تعوض!
أنتم يا أبنائي وبناتي!
انتزعني الأحمق من صحبتكم.
وأيا كانت العاطفة التي تجيش بصدري، (وهو يقترب من تمثال فتاة.)
فخليق بالصدر أن يتوثب نهداه أمامي!
إن العين لتنطق بالفعل الآن!
تكلمي أيتها الشفة المحبوبة! خاطبيني!
آه! ليتني أستطيع أن أشعركم
بحقيقة وجودكم، إحساسي بكم! (يدخل أخوه إبيميثيوس.)
أخوه :
شكا منك مركور مر الشكوى.
بروميثيوس :
لو كنت تحاشيته ولم تصغ إليه،
لرجع إليهم بلا شكوى.
أخوه :
يا أخي!
إن كل ما اقترحه الأرباب،
كان في هذه المرة عين الصواب.
إنهم يريدون أن يخلوا لك قمة الأوليمب؛
لكي تعيش وتسكن هناك،
ومن هناك تحكم الأرض!
بروميثيوس :
أيريدون مني
أن أكون حارس برجهم،
وحامي حمى سمائهم؟
إليك يا أخي اقتراحي الأصوب.
هم يبتغون أن يقتسموا «العالم» بيني وبينهم،
وأنا أزعم أن لا شأن لي بقسمتهم.
إن ما أملكه لا يمكنهم أن يسلبوه مني،
وما يملكونه من حقهم أن يحموه.
هنا ملكي، وهناك ملكهم.
وهكذا نفترق كل في طريق.
أخوه :
خبرني إذن عن مبلغ ما تملك؟
بروميثيوس :
هي الدائرة التي يملؤها فعلي ونشاطي!
لا شيء تحتها، ولا شيء فوقها!
أي حق لهذه النجوم العالية،
أي حق لها
في أن تحملق في من عليائها؟
أخوه :
إنك تقف وحيدا!
وعنادك يتجاهل تلك النشوة،
التي جعلت الأرباب،
وجعلتك أنت وأتباعك،
والعالم والسماء جميعا،
تشعرون بأنكم كيان واحد حميم.
بروميثيوس :
أعلم هذا.
أرجوك يا أخي العزيز،
افعل ما شئت ودعني الآن لحالي! (ينصرف إبيميثيوس.)
بروميثيوس :
ها هنا عالمان؛ كوني ودنياي!
هنا أشعر بوجودي،
أحس بأن جميع رغباتي
تجسدت في أشكال حية،
وبأن روحي توزعت آلاف المرات ،
واكتملت في أبنائي الأحياء. (تدخل مينرفا.)
بروميثيوس :
أتجرئين يا إلهتي
أن تحضري بنفسك
للقاء خصم أبيك وعدوه اللدود؟
مينرفا :
إني أحترم أبي وأجله،
وأحبك أنت، بروميثيوس!
بروميثيوس :
وأنت غالية على روحي التي تحبك،
مثلما تحب نفسها.
كانت كلماتك منذ البداية
هي النور السماوي (الذي يضيء حياتي!)
وكنت كلما سمعتهما،
كأني أسمع روحي تناجي نفسها،
وتردد الأنغام الفطرية التي تنبعث منها،
كذلك كانت كلماتك.
وكذلك كانت ذاتي تغيب عني،
ويخيل لي عندما أتكلم
أن أحد الأرباب هو الذي يتكلم بدلا مني.
وهكذا ضمتنا أنت وأنا
وحدة واحدة وحميمة،
وتأكد حبي الأبدي لك!
مينرفا :
وأنا أبدا حاضرة بين يديك!
بروميثيوس :
كما يسبح ضوء الشفق العذب
للشمس الغاربة هناك
فوق جبل القوقاز المعتم،
ويغمر روحي بنشوة السكينة،
فأغيب عن نفسي وأشعر بها على الدوام،
كذلك تفتحت وتطورت قواي
مع كل نفس كنت ألتقطه
من هوائك السماوي.
لكن أي حق لسكان الأوليمب المتكبرين
في التصرف في قواي؟
إنها قواي أنا، وأنا الذي أستخدمها كما أشاء.
لا لم أعد مداسا
لأعلى الأرباب الأعلين!
أأنا رهن مشيئتهم؟
أأنا عبد لهم؟
مينرفا :
هكذا تتوهم القوة.
بروميثيوس :
أنا أيضا أتوهم أيتها الربة،
وأنا أيضا أمتلك القوة والقدرة.
ألم تريني أكثر من مرة
عندما اخترت بنفس العبودية،
وحملت الأثقال التي وضعوها
بكل هيبتهم وجلالهم على كتفي؟
ألم أنجز كل عمل طلبوه مني،
وكل سخرة كلفوني بها؛
لمجرد أنني أعتقدت
بأنهم يرون الماضي والمستقبل
فيما هو حاضر،
وأن تعليماتهم وأوامرهم
أزلية ومنزهة عن أي غرض؟
مينرفا :
لقد أخلصت في طاعتهم لتكون جديرا بالحرية.
بروميثيوس :
ولن أتمنى أبدا، مهما كان الثمن،
أن أكون مثل طائر الرعد
الذي يزهو بأنه يقبض بمخالب العبيد
على صواعق سيده.
من هم؟ ومن أنا؟
مينرفا :
إن كراهيتك لهم بعيدة عن الإنصاف!
لقد كان الخلود من نصيب الأرباب،
ومع الخلود القوة والحكمة والحب.
بروميثيوس :
لكنهم لا ينفردون بهذا كله!
أنا أيضا مثلهم خالد.
نحن جميعا مخلدون!
وإذا كنت لا أتذكر بدايتي،
فليس في نيتي أن أنتهي،
كما أني لا أرى لي نهاية.
بهذا أكون خالدا؛ لمجرد أني كائن.
أما الحكمة ... (يقطع كلامه ويمر بها على الصور والتماثيل.)
انظري إلى هذه الجبهة العالية!
أولم يسوها بنائي؟
وإلى هذا الصدر القوي
ألا ترينه يتحدى كل الأخطار؟ (يتوقف أمام تمثال امرأة شامخة القامة.)
وأنت يا باندورا،
أيتها الوعاء المقدس الذي يحتوي
على أروع وأمتع الهدايا
تحت سقف السماء الشاسعة،
وفوق الأرض غير المحدودة.
كل ما أسعدني من مشاعر النشوة،
وكل ما أنعشني من نداوة الظلال،
من حب الشمس، وبهجة الربيع،
وموج البحر الفاتر،
كل ما جعل صدري يخفق بالرقة والحنان،
وكل ما ذقت في حياتي
من سطوع السماء الصافية،
ورضا النفس المطمئنة،
كل هذا، كله،
يا باندورا العزيزة!
مينرفا :
لقد صرح لك جوبيتر
بأن تبعث الحياة فيهم أجمعين،
وذلك إذا أعرته سمعك، وأطعت أمره.
بروميثيوس :
وهذا الأمر هو الشيء الوحيد
الذي جعل الشك يتسرب إلى نفسي.
ألم يشترط أن أكون عبدا له،
وإن اعترف كما يعترف الجميع هناك
بقوة رب الصواعق والرعود؟
لا، لا! ليبقوا هنا مقيدين بعجزهم عن الحياة؛
فهم بالرغم من ذلك أحرار،
وأنا أشعر بحريتهم!
مينرفا :
ولكن ينبغي أن يعيشوا وينبضوا بالحياة؛
فالقدر، لا الأرباب،
هو الذي يهب الحياة ويسلبهما.
تعال أرشدك إلى نبع الحياة كلها،
الذي لم يمنعه جوبيتر عنا،
ولم يمنعنا عنه.
ينبغي أن ينعموا بالحياة،
وبفضلك أنت!
بروميثيوس :
بل بفضلك، يا ربتي الحبيبة سيحيون،
ويحسون بأنهم أحرار،
نعم يحيون!
وتكون فرحتهم هي شكرهم لك،
وثناؤهم عليك! (نهاية الفصل الأول.)
الفصل الثاني (فوق جبل الأوليمب - جوبيتر ومركور)
مركور :
هول فظيع يا أبانا جوبيتر! خيانة عظمى!
إن ابنتك مينرفا تساند الثائر المتمرد،
وقد فتحت له نبع الحياة،
ونفخت أنفاسها الدافئة في ساحتها الطينية،
وعالم صوره وأشكاله
المحول من الطين.
وها هم الآن جميعا يتحركون مثلنا ويضطربون،
ويهللون له كما نهلل لك.
آه! أين رعودك يا زيوس!
جوبيتر :
هم الآن أحياء، وسوف يحيون،
وينبغي أن ينعموا بالحياة.
وفوق كل ما هو موجود،
تحت السماء الواسعة،
وفوق الأرض اللامحدودة،
يمتد حكمي وسلطاني،
فليضاعف نسل الديدان
أعداد عبيدي.
طوبى لمن يطيع منهم أوامر أبيهم،
والويل الويل لمن يجرؤ
أن يتصدى لذراع أميرهم.
مركور :
يا لأبوتك وطيبتك!
يا من تغفر آثام المجرمين،
ليكن الحب والحمد لك
من الأرض والسماء جميعا!
وليتك ترسلني لأبناء الأرض المساكين؛
لأبشرهم بفضلك ورحمتك وقدرتك.
جوبيتر :
لم يحن الأوان بعد!
إنهم في نشوة الشباب الوليد
تتوهم أرواحهم أنهم متساوون مع الآلهة؛
ولهذا لن يستمعوا لك
حتى احتاجوا إليك.
دعهم يعيشون حياتهم!
مركور :
يا لك من أب حكيم ورحيم! (واد في سفح الأوليمب.)
بروميثيوس :
أطل على عالمي يا زيوس!
إنه يموج بالحياة!
وقد سويته على صورتي
لجنس يشبهني.
يتعذب مثلي، يبكي،
يستمتع بالعيش ويفرح،
ومثلي لا يكترث ولا يأبه بك! (يرى حشدا من البشر المنتشرين في أرجاء الوادي، يتسلق بعضهم الأشجار ليقطف الثمار، ويستحم بعضهم في الماء، ويتسابق آخرون في المرعى، بينما تنصرف الفتيات إلى قطف الزهور التي تجدلن منها باقات وأكاليل.) (يتقدم رجل نحو بروميثيوس ومعه أشجار قطعت قبل قليل.)
الرجل :
ها هي ذي الأشجار كما طلبت مني.
بروميثيوس :
وكيف قطعتها من الأرض؟
الرجل :
بهذا الحجر المسنون الحاد
اجتثثتها من جذورها.
بروميثيوس :
ابدأ بالفروع والأغصان!
احزم هذه،
وضعها هنا على الأرض بميل،
ثم ضع هذه بحيث تواجهها،
واربط الحزمة من أعلى!
عليك بعد ذلك
أن تصف فرعين هنا في الخلف،
وتضع فوقهما فرعا آخر،
والآن تقيم الفروع
من أعلى حتى سطح الأرض،
وتربطها بحيث تصبح حزمة متشابكة،
ثم تسوي العشب حولها،
وتضيف المزيد من الفروع
بحيث لا ينفذ منها ضوء الشمس،
ولا المطر، ولا الريح.
هكذا يا ولدي العزيز
يكون لك كوخ يئويك ويحميك!
الرجل :
شكرا لك يا أبي، لك ألف شكر!
واسمح لي أن أسألك الآن:
هل يجوز لجميع إخوتي
أن يشاركوني السكن في هذا الكوخ؟
بروميثيوس :
لا يا ولدي!
لقد بنيته بنفسك وهو ملك لك.
في إمكانك أن تشرك معك من شئت،
لكن الواجب على كل من يبحث عن سكن
أن يبني كوخه بنفسه . (ينصرف بروميثيوس ويدخل رجلان آخران.)
الرجل الأول :
حذار أن تأخذ شيئا من غنمي؛
فهي ملكي وحقي !
الرجل الثاني :
من أين وكيف؟
الأول :
لقد ظللت نهار أمس وليله
أتسلق الجبل هنا وهناك،
حتى استطعت بالعرق المر أن أمسك بها حية.
قمت بحراستها طوال الليل،
وأحطتها بسور من الحجارة وفروع الشجر.
الثاني :
أعطني الآن إحداهما!
أنا أيضا قتلت بالأمس واحدة،
ثم أنضجت لحمها على النار،
وأكلتها مع إخوتي.
إن كنت تحتاج اليوم لأكثر من واحدة،
فسوف نخرج غدا للصيد.
الأول :
ابتعد عن غنمي!
الثاني :
بل آخذ ما أشاء! (يحاول الأول أن يمنعه، فيدفعه الثاني دفعة قوية في صدره، ثم يأخذ عنزة وينصرف.)
الأول :
عدوان وحشي! النجدة! النجدة!
بروميثيوس :
ماذا جرى؟
الأول :
خطف عنزتي!
وها هو الدم يسيل من رأسي
بعد أن رماني على هذه الصخرة.
بروميثيوس :
انزع هذه الإسفنجة من الشجرة،
وضعها على الجرح.
الأول :
نعم يا أبي الغالي!
الآن قد هدأ الألم.
بروميثيوس :
اذهب واغسل وجهك.
الأول :
وعنزتي؟
بروميثيوس :
دعها الآن!
إن كانت يده قد مدت على إنسان،
فستمتد أيادي الكل عليه. (ينصرف الرجل.)
بروميثيوس :
لم تفسد فطرتكم يا أبنائي بعد.
كونوا نشطين وكسالى،
قساة ووديعين،
كرماء وبخلاء.
تشبهوا بكل إخوتكم في الماضي،
وتشبهوا بالحيوانات وبالآلهة. (تدخل باندورا.)
بروميثيوس :
ما بك يا ابنتي؟
ما الذي أثارك إلى هذا الحد؟
باندورا :
أبي!
آه مما شاهدت،
ومما أحسست به يا أبي!
بروميثيوس :
والآن؟
باندورا :
حبيبتي المسكينة ميرا!
بروميثيوس :
ماذا أصابها؟
باندورا :
مشاعر لا يمكن أن توصف!
رأيتها سائرة نحو الغابة،
حيث تعودنا أن نقطف الزهور من دغل هناك.
تبعت خطواتها،
وبينما كنت أهبط من التل،
رأيتها في الوادي
وهي تسقط فوق العشب.
ولحسن الحظ تصادف وجود «أربار» في الغابة.
أمسكها بقوة بين ذراعيه،
وحاول أن يمنعها من السقوط،
لكنه، وا حسرتاه، هوى معها على الأرض.
تدلي رأسها الجميل (على صدرها).
فأخذ يقبلها آلاف المرات،
وألصق فمه بفمها؛
لينفخ فيه أنفاس روحه.
غلبني الضيق والألم،
فوثبت نحوهما وصرخت،
وما هو إلا أن نبهت صرختي حواسها.
رفع أربار يديه عنها، وإذا بها تقفز
بعيون مكسورة ونصف مغمضة،
وتلقي بنفسها على رقبتي .
كان صدرها يخفق مضطربا،
كأنما يريد أن يتصدع.
توهجت وجنتاها، وتلوى فمها،
كأنه يتحرق ظمأ،
وانهمرت من عينيها دمعات ألف.
أحسست بأن ركبتيها تترنحان،
فأمسكت بها يا أبي العالي،
وأنا أشعر أن قبلاتها
ووهج اللهب المنبعث منها،
يسكبان في عروقي
مشاعر غامضة مجهولة
جعلتني أرتبك وأرتجف،
ثم أتركها وأنا أنشج بالبكاء،
وأغادر الغابة والمرعى والدغل،
وأسرع إليك يا أبي الحبيب!
قل لي ما معنى هذا كله،
هذا الذي يزلزلها
ويزلزلني معها؟
بروميثيوس :
لعله الموت؟
باندورا :
وما هو هذا؟
بروميثيوس :
يا ابنتي!
قد أسرفت على نفسك
فيما ذقت من الأفراح.
باندورا :
وأي إسراف؟!
فلك الشكر على هذا كله!
بروميثيوس :
يا باندورا،
كم خفق صدرك وأنت تواجهين
الشمس الطالعة والقمر المتغير الأحوال!
وكم ذقت نعمة السعادة الخالصة
من قبلات رفيقات الدرب واللعب!
باندورا :
وبما يعجز عنه التعبير.
بروميثيوس :
وماذا رفع جسدك أثناء الرقص،
فارتفع خفيفا فوق الأرض؟
باندورا :
هو الفرج!
وبالغناء واللعب.
كم تأثر كل عضو في جسدي فراح يهتز وينتفض!
حتى سبح كياني كله
في بحر الأنغام.
بروميثيوس :
وفي نهاية المطاف
يذوب كل شيء في المنام،
وتتساوى الأفراح والآلام.
لقد طالما شعرت بوهج الشمس،
وبلهفة الظمآن إلى الماء،
والإرهاق يصيب ركبتيك،
كم بكيت على شاتك الضائعة،
وتملكتك الرعشة وأخذت تئنين،
لما كنت في الغابة ودخلت شوكة في كعبك،
قبل أن أخرجها من قدمك وأداويك!
باندورا :
آه يا أبي!
ما أكثر أسباب البهجة والفرح!
وما أكثر ألوان الألم والنزح!
بروميثيوس :
ومع ذلك تشعرين من صميم فؤادك
أن هناك الكثير من الأفراح
ومن الآلام التي لم تعرفيها بعد.
باندورا :
معك الحق يا أبي! معك الحق!
طالما حن هذا القلب للبعد عن أي مكان
في نفس الوقت الذي يشتاق فيه للذهاب إلى كل مكان.
بروميثيوس :
وعندها تأتي لحظة تستوعب كل شيء،
كل ما تقنا إليه وحلمنا به،
ووضعنا فيه الأمل وخفنا منه،
تلك هي لحظة الموت.
باندورا :
الموت !
بروميثيوس :
عندما تحسين من أعمق أعماق وجودك - بينما يتزلزل كل كيانك ويرتجف -
بكل ما سكبته الأفراح والأحزان في دمك،
وبقلبك وهو يغور ويمور في العاصفة،
وكلما أراد أن يتأسى بالدموع،
تضاعف وهج لهيبه،
وشعرت بكل ما فيك يدق الأجراس ويرتعش ويهتز،
وبأن جميع حواسك تخبو وتغيب عنك،
ويهيأ لك أيضا أنك تخبين وتغيبين،
ثم تسقطين ويهوي كل ما حولك في ظلمة الليل،
بينما تشعرين في صميم ذاتك
بأنك تحتضنين عالما (لا تعرفينه).
عندئذ، في تلك اللحظات،
يموت الإنسان.
باندورا (وهي تضع ذراعيها حول رقبته) :
آه يا أبي! دعنا نموت!
بروميثيوس :
لم يحن الموت بعد.
باندورا :
وبعد الموت؟
بروميثيوس :
عندما يقدر لكل شيء،
للرغبة والشهوة والفرحة والحزن،
أن يتحلل ويذوب
في المتعة واللذة العاصفة،
ثم يهمد وهو مغتبط راض في نشوة عابرة.
عندئذ تبعثين حية،
وترتدين مرة أخرى لعنفوان شبابك،
فتخافين من جديد،
ومن جديد تأملين وترغبين! (نهاية الفصل الثاني.)
هوامش
مركور:
هو عند الرومان مركوريوس، إله التجارة وتبادل السلع والأرباح، وقد أقيم له معبد مع ازدهار التجارة في القرن الخامس قبل الميلاد (حوالي 495ق.م)، وهو يقابل هرميس رسول - أو مرسال - الآلهة إلى البشر، وكان يصور وهو يمسك في يده عصا وعلى رأسه غطاء مجنح. ولد لزيوس كبير آلهة الأوليمب من زوجته مايا، ونسبت إليه مهام عديدة؛ فهو الرب الحامي للأنعام والقطعان، وهو رب الطرق وراعي الجوالين من التجار. اشتهر بسبب سرعته وحيويته بأنه رسول الآلهة إلى البشر. كان بالإضافة إلى ما سبق هو إله النوم والأحلام، بفضل القوة السحرية للعصا التي لا تفارق يده. والعجيب أيضا أنه كان إله اللصوص والنصابين في الوقت الذي كان فيه إله الخطابة واللغة والتفكير، وذلك بعد أن سوى الإغريق بينه وبين الإله المصري القديم توت أو تحوت رب الحكمة والكتابة. وأخيرا كانت إحدى مهامه هي قيادة المتوفين في سراديب هاديس أو العالم السفلي.
إبيميثيوس:
معناه في اليونانية هو المتأخر في الفكر. هو ابن يابيتوس وكلمينه، وشقيق بروميثيوس وأطلس ومينويثيوس. على الرغم من تحذير شقيقه بروميثيوس بألا يقبل أي هدية من زيوس، فقد اتخذ من باندورا التي خلقت بأمر من زيوس، زوجة له، فجلب كل الشرور الممكنة على العالم والبشر.
مينرفا:
إلهة رومانية للفنون والصنائع اليدوية الحرة، وحامية العمال الحرفيين والمعلمين والفنانين والأطباء، وتقابل أثينا إلهة الحكمة عند الإغريق. حصل الشعراء وممثلو المسرح في عام 207ق.م على حق التجمع في معبدها المقام فوق أحد التلال السبعة في جنوب روما، وكانت تعبد مع جوبيتر وجونو في المعبد المقام لهم فوق أحد التلال السبعة في روما.
باندورا:
ومعناها في اليونانية هي الممنوحة والمانحة كل شيء، وكلاهما صفة كانت تطلق على آلهة الأرض باعتبارها أم العطايا والعطاء. هي في الأساطير الإغريقية أول امرأة وجدت على الأرض. أمر زيوس كبير الآلهة هيفايستوس رب الحدادة بأن يخلق باندورا؛ لكي يعاقب بها أب الثوار بروميثيوس على سرقته للنار وإفشاء سرها للبشر، كما أمر أيضا جميع الآلهة بأن يزودها بكل المفاتن والمحاسن، ثم بعث بها كشر جميل إلى البشر. وقد فتن بها إبيميثيوس شقيق بروميثيوس، وتزوجها على الرغم من تحذير أخيه بروميثيوس بألا يقبل أي هدية من زيوس. قامت بفتح الصندوق الشهير الذي ارتبط باسمها، وأطلقت على البشر جميع الشرور التي كانت حبيسة فيه باستثناء الأمل. أنجبت باندورا ابنتها ييرا زوجة دوكاليون، وهما الوحيدان اللذان بقيا أحياء على الأرض بعد الطوفان الذي أهلك البشر.
معجم العصور القديمة، تحرير يوهانيس إيرمشر وزملائه، المعهد البيلوجرافي لايبزيج، برلين 1972م.
سيرة وحوار
سيرة البعد والخروج والتخلي عن كل العروش، وحوار الثقافة عطش حقيقي للحرية والعدل (1) سيرة البعد والخروج والتخلي عن كل العروش
لو سألت البذرة عن عناصر التربة والغذاء التي دخلت في تكوينها حتى أصبحت شجرة ثم أنضجت ثمرة لقالت لك: هي آلاف العناصر بل ملايينها، فما بالك بإنسان يحيا لكي يكتب ويعيش ويتنفس، ولكي يدون على الورق تجربته مع نفسه وعصره وواقعه؟
هي إذن عملية بدأت في مهد الوعي عندما أخذ يفتح عينيه ويتعلم الفن الأول والأهم لكل كاتب يستحق هذا الاسم، وهو فن الرؤية، ولن تنتهي إلا في أحد التلاشي والانطفاء؛ أي مع اكتمال التكوين بالموت. ولما كانت رحمة الله قد شاءت أن تمد في خيط العمر الواهي المحدود، وأن تحفظه وتجدده في كل لحظة، فمن الصعب أيضا أن أتحدث عن تكوين لم يزل عرضة للنمو والذبول، والتطور والتراجع، والتفتح على مفاجآت كل جديد يهزه ويزلزله، أو الانكسار والمرارة والإحباط مع كل مؤلم وموجع يدمره ويقتلعه من جذوره. أضف إلى هذه الصعوبة أن الذي يكتب هذه الكلمات لم يكتف بالكتابة، أو بالأحرى لم تقدر له نعمة التفرغ والتفاني لها؛ إذ اقتسمت حياته، ومزقتها أيضا، مهنة تعليم الفلسفة التي اقتضتها لقمة العيش (ونعمل اليوم أكثر من أي يوم مضى، كم هي مرة وقاسية!) لأكثر من ربع قرن اكتظ بالغصص والمنغصات التي حاول أن يتجاوزها ويسيطر عليها، في محاولات أدبية وفكرية مختلفة ما زالت مستمرة. وهو يقول تعليم الفلسفة لا الفلسفة نفسها؛ إذ أصبح التعليم في جامعات لم تعد تحمل من مفهوم الجامعة ورسالتها أكثر من الاسم. عملية تعذيب هائلة وعقيمة. أما الفلسفة نفسها فبقيت هي العشق والسند، ومن حكمتها وشمولها ودقة مناهجها في التحليل والتفسير والتغيير والتنوير انعكس ما انعكس على أعماله (أو هذا على الأقل هو ما يرجوه ويتمناه).
وأخيرا تأتي آخر الصعوبات؛ فالكتابة عن التكوين تنطوي بالضرورة على الكتابة عن المسيرة أو السيرة الذاتية، مع ما في الكلام عن الذات من خطر الوقوع في مهاوي التضخم والتورم وأعراضهما التي تفشت كالأوبئة في السنوات الأخيرة بين أكثر كتابنا ومثقفينا العرب، لا سيما بعد الهزيمة التي سميناها نكسة، ومع غياب الحريات الحقيقية، وتزايد الاختلال في علاقة الأنا بالآخر. ولذلك لا بد من الاستغفار لله، وطلب العفو من القارئ عن كل حديث عن الذات تهدده على الدوام مصيبة السقوط في تلك المهاوي والأمراض، خاصة حين تدفع للدفاع عن «ذاتها» من عوامل التدمير والإحباط التي تحاصرها، ومن كوارث الانتحار الحضاري التي انخرطت فيها الذات الجماعية. ولقد لمست أطرافا من سيرتي في «بكائيات» صدرت قبل سنوات قليلة، وفي أكثر ما كتبت من قصص ومسرحيات ومقالات، بل وفي معظم ما وضعت من بحوث ونقلت من ترجمات، ينطبق عليها ما يمكن أن يوصف بأنه اعتراف طويل، ويصدق عليها ما سماه الناقد المبدع الكبير «شكري محمد عياد» في عدد قريب من أعداد هذه المجلة ب «الخلاص بالكتابة».
ولما كنت أنوي أن أستكمل البكائيات بمشيئة الله وعونه، فلا أملك في هذا المجال المحدود إلا أن أذكر بعض «الثوابت» التي أتصور أنها قد ساهمت في تكوين لا يزال متجددا كما قلت ومهددا في آن واحد. (1-1) التخلي عن العرش
أول هذه الثوابت هو ما أحب أن أسميه «التخلي عن العرش». لا أدري أين ولا متى قرأت أن الكتابة نوع من التخلي عن كل العروش، ولا أعرف إن كان هذا مجرد اعتقاد نبع من طبيعتي ولازم تكويني. والتخلي هنا يوحي على الفور بحقيقة التصوف التي حددها أوائل الزهاد والصوفية المسلمين عندما قالوا إنه هو «ترك كل العلائق والتمسك بالحقائق»، كما يذكرنا بالكلمة نفسها التي تدور حولها أعمق التأملات والشطحات الروحية للمتصوف الألماني «إكهارت» من القرن الثالث عشر (1260-1328م)، وتتصل في لغته بكلمة أخرى تعني الرضا والسكينة والطمأنينة. ولا أقصد بالتخلي معناه الظاهري أو السطحي، من البعد عن السلطة والمنصب والشهرة والمال والأضواء والمنافع والمصالح؛ إذ ربما يكون هذا البعد - أو الابتعاد - تعبيرا عن فشل برر نفسه بحكمة عاجزة، إنما أقصد التخلي بمعناه الديني الأصيل، من الفناء والعبادة الخالصة، وبمعناه الفلسفي، من الاكتفاء والاستغناء الذي كان المثل الأعلى للفيلسوف والعالم القديم، وما يزال في رأيي جديرا بأن يكون المثل والقيمة العليا لكل كاتب حقيقي. لهذا لا ينقضي عجبي من تهالك بعض من يسمون أنفسهم كتابا أو مفكرين على الشهرة والوصول والضجيج «والفرقعة» والظهور في الصورة وفي أجهزة الأعلام، وحرصهم على أن تكون لهم «جوقات»، أو لنكن أكثر صراحة من واقع ما يجري حولنا فنقول «شلل» تدق لهم الطبول، وتدوي بالثناء والتهليل، وتبذل الجهود المستميتة في التقديم والتفسير والتحليل، لأعمال يشك في أن أكثرها يرقى أصلا إلى مستوى الفن أو الفكر، أو ينطوي على أية قيمة جمالية أو إنسانية حقيقية، وتظلم الأصالة كما تظلم الحداثة، وتكثر الثرثرة والهلوسة، ويجني جناية لا تغتفر على قديم ما زلنا نجهله، وجديد لم نحسن استيعابه، وتنضج أوعية السياسة الفاسدة سيول الاستبداد والتسلط والجهل والتخبط على بساتين الأدب والفن والإبداع الموحشة - إلا من بعض الأشجار النادرة والزهرات الوحيدة - وتزحف عليها مواكب غير مقدسة من جراد الجهال والأدعياء والانتهازيين والشطار والسماسرة والمتعهدين وركاب كل الأمواج، ويضيع الحقيقي في غمرة المزيف، ويغرق القيم في طوفان المطبوع والمنشور الذي لا يكاد يجد الناقد العالم والمنصف الذي يميز غثه من سمينه، ولو صحت عين النقد - العالم والمنصف والمبدع كما قلت - لأمكن طرد الجراد المتطفل، وتطهير البستان الذي أوشك أن يصبح جبانة كبيرة تنصب فوقها عروش كاذبة لملوك كذابين، ولأدرك الجميع أن حصان المجد هو الذي يسعى إلى فارسه الذي يستحقه، فيحني له رأسه الجميل، ويقدم له سرجه الذهبي. ولا داعي لذكر أمثلة من ثقافات وآداب أخرى؛ إذ يكفي أن نذكر في أيامنا هذه اسم زكي نجيب محمود ونجيب محفوظ بين أسماء أخرى ربما لا يزيد عددها على أصابع اليدين أو اليد الواحدة.
وأسترد الخيوط بعد هذا الاستطراد، فأقول إنني أومن بالعمل الصامت والصادق في الظل. وسواء جاء شيء من التقدير في حياتي أو بعد موتي أو لم يجئ على الإطلاق، فيكفيني أنني تخليت وعكفت وأخلصت على قدر طاقتي المحدودة. أقولها وليس في جدول النفس قطرة مرارة واحدة؛ فالتخلي قانون حياة ومبدأ تكوين، وليس أبدا - ولن يكون - علامة عجز أو مكر أو تواضع مغرور. ويبقى شعار حياتي - إن كان لا بد من شعار! - هو أن أحيا في هدوء، وأعمل في صمت، وأموت في صمت. ولكم يسعدني حصار التجاهل المضروب من حولي؛ لأنه يوفر لي الحرية الضرورية، والحرية هي قضيتي الأولى والأخيرة.
يرتبط التخلي عن كل العروش بشعور مزمن بالذنب يجعلني أحاسب نفسي مع كل شهيق: هل أستحق الهواء الذي أتنفسه؟ ومع كل إغماضة جفن: هل فعلت اليوم ما يسوغ لي أن أنام مرتاح الضمير؟ صحيح أنني أبيت كل ليلة وفي سمعي عبارة كانت ترددها أمي - رحمها الله: «يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم.» كما نطق بها سقراط في دفاعه الشهير عندما أكد أنه يفضل أن يتحمل الظلم على أن يوقعه على غيره. لكن من منا الظالم ومن المظلوم؟ وأين الحدود الفاصلة بين الذنب والبراءة؟ لا شك أن الشاعر بالذنب قد ارتكب ذنوبا أخرى في حق غيره، لكن ربما يشفع له أنه لم يتعمد الظلم، ولم يقصد إليه، وربما يسمح له القول بأن شعوره بالذنب، ومن ثم تعذيبه الدائم لنفسه، له أصل «بيولوجي»؛ فقد ولدت ثالث ثلاثة، وآثر ضلعا المثلث أن يتركا أضعفهما وأكثرهما هزالا بعد الشهر الثاني من ولادتهما. ولقد طاردني الشعور بالذنب نحو الشقيقين الغائبين، أو العاقلين، منذ أن سمعت القصة من فم أمي وشقيقتي الكبرى، وعرف عني التجول الرومانسي في صباي بين قبور جبانة البلدة؛ بحثا عن قبري الصغيرين المسكينين، وعن الشبر الباقي الذي أعده جارنا المقرئ واللحاد ليسع الجسد الثالث النحيل، فشاء حظه أو مكره - لسبب لا يفهمه ولا يستحقه - أن يبقى بعد المقرئ، والأم والأب، وشقيقين عزيزين، وشقيقتين أكبر منه، ولكم عوقب وضرب بسبب هذه الجولات الوحيدة! وكم تذكرها عندما كبرت به السن، وألف قراءة شعر المقابر وأدبه القاتم الحزين! ونشأ الصبي المدلل - الذي ارتبط مولده بمعجزة أو مفارقة ساخرة - في بيت ريفي رباه على قيم ازداد تحسره عليها بعد إقامته في المدن المعقدة الماكرة، وبعد الهجمات الشرسة ل «اللاقيم» على واقعنا ومجتمعنا وعلمنا وأدبنا وضمائرنا، إذا جاز الظن المتفائل بأن فينا اليوم من يتذكر الضمير. وبين أب تقي صارم، قاس على نفسه في التزامه بالاستقامة والواجب المطلق - وكأنه فيما عرفت بعد ذلك كانطي ريفي وإن لم يسمع أبدا عن كانط - وأم طيبة حنون تشقى من قبل طلوع الفجر إلى مغالية النوم مع صلاة العشاء، وتملك قدرة نادرة على الحب والعطاء بغير حدود - حتى لتستخسر في فمها اللقمة والهدمة - وعلى الدعاية والمرح وحكاية الأمثلة والحكاية ومحاكاة الآخرين. بينهما وبين أخوين يساعدان الأب - المتفرغ للعبادة وقراءة «الكتاب» الوحيد الذي قرأه في حياته في تجارته البسيطة - وأخوين آخرين يدرسان في المدن الساحرة البعيدة والمخيفة، ولا يظهران إلا في إجازة الصيف، بينهم تكون الحالم والمذنب الصغير، وبدأت تجاربه مع الشعر الذي أفلس منه تماما في العشرين وإن ظل وفيا للشاعرية فيما سود بعد ذلك من آلاف الصفحات عن الشعر نفسه، وفيما حاول من قصص ومسرحيات لا زال مصرا على ارتكاب ذنوبه فيها، بل فيما قدم من دراسات في الأدب العالمي والغربي وفي الفلسفة الشرقية والغربية؛ مما جعل أحد النقاد الصغار يجرب فيه ذكاءه، ويصفه بالوصف المشهور عن «التوحيدي» أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء؛ أي لا شيء على الإطلاق! (1-2) البعد والخروج
إذا كانت أول عبارة في سفر التكوين هي «في البدء كانت الكلمة»، وكانت أول كلمة معبرة عن حياة جوته - سيد شعراء الألمان - الذي سأتكلم عنه بعد قليل، هي «في البدء كان الفعل»، فيبدو أن الكلمة التي تصدق عليه هي «في البدء كان التعذيب». ترسب في وجداني منذ السنوات المبكرة أنني أختنق في عالم خانق هو الجحيم، واستقر فيه ضرورة الخروج من هذا الجحيم والوفاء له في الوقت نفسه والاكتواء بناره. خرجت منه كثيرا إلى بلاد وعوالم أخرى، لكنني كنت أحمله معي وفي أينما ذهبت، وعشت فيه وتلظيت بنيرانه وزبانيته معظم حياتي، لكنني لم أتوقف عن محاولة الخروج منه ورفضه والاحتجاج عليه وسلبه وأنا فيه. ربما كان اغترابا دائم البحث عن الانتماء، أو انتماء لا يجد نفسه إلا في الاغتراب. مهما يكن الأمر فقد سعيت باستمرار إلى آفاق وشواطئ أخرى، وتطلعت على الدوام إلى معرفة لغات وآداب وحضارات أخرى، حتى سماني صديق عمري صلاح عبد الصبور بالطلعة. أكثر مما تطلعت لتثبيت قدمي على أرضي، وتعمق لغتي وتراثي، غربت وشرقت بقدر ما أسعفني قاربي الوحيد وجناحاي الضعيفان؛ لكي أثوب في العقد السادس من عمري إلى حقيقة أصارح بها شباب الأدباء والعلماء: لن يعرف الإنسان تراث الآخرين إذا ظل يجهل تراثه، ولن يتقن لغات الغير حتى يتقن لغته.
ربما بدأت الرغبة في البعد والخروج في الثالث أو الرابع عشر من عمري بعد قراءة قادة الفكر لطه حسين، وزهرة العمر الحكيم، لكنها يقينا قد رسخت جذورها في تربيتي عندما قرأت «آلام فرتر» في ترجمة الزيات - رحمه الله - عن الفرنسية. كنت أيامها - مثل كل صبي مصري - لا أزال أعبر جسر الدموع المنفلوطية، وشاءت المصادفة أن أقع على هذا الكتاب الفريد الذي أصبح أول نص أدبي أعكف عليه، بعد أن بدأت بعد ذلك بداية جادة في تعلم الألمانية، كما قدر لصاحبه أن يصبح كوكبا هاديا لتفكيري وحياتي طوال ثلاثين سنة أو يزيد، وأن أعرف بأدبه وشعره، وأترجم له ولدرسه في ثلاثة كتب على الأقل. كنت في تلك المرحلة مفتونا ببلاغة الرافعي والزيات، متأثرا في ذلك بشقيقي الأزهري وزملائه الذين عودوني ضبط ساعتي البيولوجية الأسبوعية على يوم الثلاثاء الذي كانت تظهر فيه «الرسالة» فيما أذكر، وخرجت من الفتنة والافتتان بهما وبجيلهما من البلغاء - الذين ما زلت أحاول الخلاص من بلاغتهم إلى اليوم! - لأقع في سحر «جبران» الذي لف شبكته حولي حتى حصولي على التوجيهية. ومد لي الحكيم طوق النجاة، فنقلني فكرة المثالي وحواره الدقيق من البلاغة إلى الفن. وفي الجامعة عاودتني الرغبة في البعد والخروج. ومع الإصرار على إجادة الإنجليزية والفرنسية، وبرعاية كريمة من بدر الديب ومحمود أمين العالم ويوسف الشاروني الذين تعهدوني بحبهم وتوجيههم في سنواتي الأولى بالجامعة، اطلعت على ما أمكنني الاطلاع عليه من مسرحيات «ميترلينك» وقصص «كافكا»، الذي لم تفارقني كوابيسه إلى اليوم! وأشعار «رلكه» و«إليوت»، وشذرات متفرقة مما كان يكتب أو يترجم عن فلاسفة الوجود وأدبائه الذين بدأت أصواتهم تتردد بين المثقفين عامة، ودارسي الفلسفة خاصة، مثل كامي وسارتر ومارسيل وهيدجر وياسبرز. من الأول تشربت النزعة التراجيدية أو المأسوية، والعطش المتجدد للطبيعة والنور والحياة، ثم لازمتني عاطفة الحب له، والارتباط بتشاؤمه وبراءته وأمانته وتمرده، حتى إعداد رسالتي عن فكره الفلسفي بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات. أما الخامس «وهو هيدجر» فقد سيطر سيطرة المستبد على عقلي، وأغراني سحره الوهمي، وأرهقني فكره العسير وأسلوبه المعقد الركيك طوال السنوات التي قضيتها في جامعة ألمانية، خضع معظم أساتذتها وطلابها لطغيانه، وتمخض ذلك الانشغال الطويل عن كتاب أظنه من أردأ كتبي وإن لم يكن أقلها فائدة، وهو «نداء الحقيقة». ولا بد من القول هنا بأن الانجذاب للفكر والأدب الألماني قد بدأ منذ سني التحصيل في الجامعة، وبتأثير الرجل الذي ظل منذ ذلك العهد هو قدوتي في الدأب والجدية وفي التوحد والانفراد، من هذا الرجل العظيم - عبد الرحمن بدوي - سمعت أسماء لزمت أصحابها بعد ذلك، مثل شوبنهور ونيتشه وكيركجارد وهيدجر الذي سبق ذكره، وبه اقتديت في حب لغات عديدة حديثة وقديمة، وإن لم أبلغ بالطبع مبلغه، وبفضله اتجهت للاهتمام الأساسي بالفكر والشعر والمسرح الألماني وإن قصرت في متابعته على طريق بحثه وعلمه الواسع بالتراث الفلسفي والصوفي الإسلامي.
وإذا كنت أختلف عنه في مناحي تفكيري وتعبيري اختلافا بعيدا، فإن اعترافي بفضله وعرفاني لشخصه وعلمه يسري في دمي، ويكفيه فضلا علي وعلى غيري أنه سيبقى المثل العالي الذي نهتدي به في الخروج والتحدي.
هذه الرغبة في الخروج من الجحيم إلى آفاق وشواطئ أخرى، مع الإصرار كما قلت على الانتماء له والاكتواء بنار عشقه وعشق ضحاياه، قد انعكس فيما أعتقد على تفكيري الفلسفي وإنتاجي الأدبي؛ فمنذ سنوات غير قليلة، طغى علي الإحساس بمحنة الوجود العربي التي لم تعد خافية على أحد، وبدأت التخلص من تأثير فلسفة الوجود، والانتقال إلى نقد الواقع القائم وسلبه، ورفض «لاقيمه» التي أشرت إليها من قبل تحت تأثير فلاسفة الرفض والنفي من أصحاب النظرية النقدية الاجتماعية المعروفين باسم فلاسفة فرانكفورت. وإذا كان هذا النقد قد ظهر بصورة أولية في كتابي المتواضع «لم الفلسفة»، ولم يكتمل مشروعه بعد، فقد تجلى من الناحية الأدبية في «بكائياتي»، وفي عدد غير قليل من مسرحياتي (كالبطل ودموع أوديب وبشر الحافي يخرج من الجحيم والقيصر الأصفر)، كما تجسد قبل ذلك في أغلب شخصيات قصصي التي انتزعت من «الجحيم المحبوب » الذي صنعناه لأنفسناه، وتعددت صورها وأنماطها من الدراويش والممثلين الفاشلين والشحاذين والمجانين والنساك والمعلمين المجحودين والثوار المحبطين ... إلخ؛ أي من مساكين «وناس في الظل» يعترفون بفضل أقرب أدبائنا الكبار إلى قلبي، وهو شيخنا الرقيق الجليل صاحب العصا والقنديل.
الأموات - الأحياء.
والمعلمون - الأصدقاء.
ربما ارتبط كل ما سبق ب «ثابتين» آخرين لا أظن أن المقام سيسمح بالتوسع في الحديث عنهما: الأموات من الآباء الذي تعلمت منهم وعشت معهم أكثر مما عشت مع الأحياء، وأصدقاء العمر الذين صحبتهم وصحبوني أكثر من أربعين سنة، وكانوا وما يزالون هم الأحياء والمعلمين.
أما الأموات فأخطئ لو سميتهم الأموات. إن عيونهم ترمقني وتطل علي - وربما ترثى لي! - من طيات الكتب التي تحيط بي، وتحاصرني أنا وزوجتي وطفلي من كل ناحية، وهم يشجعونني ويردون على أسئلتي، ويقدمون لي الحب والوفاء والأمان كلما بخل علي بها أقرب الناس في هذا الزمان. والأهم من ذلك أنهم وحدهم يقفون بجانبي في هذا الوقت الذي اشتد علي فيه الشعور بالمحنة والأزمة؛ أزمة وطني وتاريخي وحضارتي، لا أزمة شخصي العرضي الزائل لا محالة. وهم في الغالب فلاسفة شعراء وشعراء فلاسفة، ألجأ إليهم دائما، وأنهل من منابعهم كلما جعت وعطشت للحكمة والسلوى والحب، وكلما ضعت في متاهة الواقع المتخلف، والتمست الخيط الهادي للخروج.
يخجلني أن أذكر أسماءهم، أو أحدث القارئ عن تجاربي معهم، لا سيما وأن هذه التجارب ما زالت قليلة الشأن ومتواضعة الحال. والأهم من ذلك أن لقائي بهم نابع من الأزمة، وأنني أزداد مع الأيام يقينا بأن التحولات والإنجازات والإبداعات الكبرى (في الفلسفة والأدب والفن والعلم) وراءها أزمات تاريخية واجتماعية ووعي أكبر بهذه الأزمات. وليتنا اليوم، ونحن في زمن المحنة، نتعمق هذه الفكرة، ونستمد منها الوقود الضروري للإبداع على كل المستويات! وليتها تعلمنا أن نراجع كل شيء، ونبدأ كل شيء من الصفر.
أما أصدقائي الذين كانوا وما زالوا أساتذتي، فيخجلني، وأنا واحد منهم، أن أتحدث عنهم بالتفصيل. وماذا أقول عن أصدقاء «الجمعية الأدبية المصرية» الذين شرفوني بالانتماء إليهم، وسكت النقد حتى الآن عن دراسة دورهم في حياتنا الأدبية دراسة جادة منصفة؛ ربما لأنهم غير أيديولوجيين - وإن لم ينغلقوا دون الأيديولوجيات - أو لأن الأغلبية الغالبة منهم قد تخلت كما قلت عن كل العروش. ومع ذلك لن أستطيع أن أمنع قلمي من تسجيل أفضالهم عليه وعلي. صلاح عبد الصبور الذي جرى شعره في عروقي مجرى الدم، وفتح القلب والعين على الزمن الجريح، وعلى رماح الاستبداد وفرسانه المهزومين. وفاروق خورشيد الذي علمني حب الأدب الشعبي واستلهامه، كما لقنتني شجاعته وكبرياؤه في مواجهة محنته دروسا في الصمود حتى تجلى الحق وتوج بالتقدير. وعبد الرحمن فهمي الذي نهلت من نبعه حكمة لم أجدها في كتب الحكمة، ولا عند أحد من أدعيائها الرسميين. وشكري محمد عياد وأحمد كمال زكي وعز الدين إسماعيل، الذين جسدوا المركب النقدي النادر من العلم والإبداع، وغيرهم من الزملاء والأصدقاء الذين لن يجحدهم غبار المعاصرة والمعاصرين مما يستحقونه في ميزان العلم والإنصاف.
وتبقى «البومة الحكيمة» - كما وصفت نفسها في مكان آخر! - شاهدة على خرائب العصر ومحتجة عليها، محاولة أن تقوم بدور النذير والبشير الذي قام به «المتنبئ» و«المنقذ»، والشاهد والشهيد من «أيب أور» إلى صلاح عبد الصبور، محذرة من «رعب أكبر من هذا سوف يجيء»، وواعدة بالنموذج الضد والبديل، لا في «يوتوبيات» حالمة ومستحيلة كثر عددها وخاب طموحها، من أفلاطون والفارابي وعصر النهضة إلى إرنست بلوخ في أيامنا، بل في «يوتوبيا» ممكنة ومعقولة، لا يزيد منتهى طموحها عن الحلم بمجتمع سوي يسترد وجهه الأصيل ممن شوهوه، وينتشل قيمه من مستنقع اللاقيم الذي فرض عليه التردي فيه، مجتمع يحيا فيه ويعمل ويأمل ويبدع إنسان سوي يجد القدر المعقول من الحرية والعدل، ويؤمن بأن القانون هو السيد - كما قال أرسطو - وليس هو القهر والغدر والتسلط والفوضى والجهل والهوان. (2) وحوار الثقافة عطش حقيقي للحرية والعدل
أجرى الحوار: جرجس شكري
هذا المتصوف الزاهد في محراب الثقافة، وهو يخطو الآن في العقد الثامن بعد أن ملأ خزانة المكتبة العربية بروائع الثقافة؛ فقد عشق الأدب، وتزوج من الفلسفة ، وتناسخت روحه في ترجماته الرائعة التي كانت وما زالت جسرا يصل الشرق بالغرب، فلن ينسى القارئ العربي أن د. مكاوي هو الذي قدم لنا برتولد بريشت، كاتبا مسرحيا وشاعرا، وكذلك جورج بوشنر الذي اعتبره شقيق روحه بالإضافة إلى هيلدرلين. أما «ثورة الشعر الحديث» (1972-1974م) فكانت حدثا كبيرا في ذاكرة الشعر العربي المعاصر من خلال المقدمة والنصوص. فمن أين أبدأ حين أحاور هذا الصرح الثقافي العملاق؟ من أستاذ الفلسفة ربيب أفلاطون وهيجل وهيدجر وكانط وهسرل ونيتشه وكامي، أم من الكاتب المسرحي والأديب والمترجم وكاتب القصة؟
سوف أبدأ من الطفل الذي كان يجوب المقابر بحثا عن أخويه؛ فقد ولد د. مكاوي ثالث ثلاثة، آثر ضلعا المثلث أن يتركا أضعفهما وأكثرهما هزالا بعد الشهر الثاني من ولادتهما. ولقد طارده الشعور بالذنب نحو الشقيقين طيلة حياته منذ أن سمع القصة من فم أمه وشقيقته الكبرى، فكان يطوف المقابر وهو لم يتجاوز العاشرة بحثا عن قبر الصغيرين المسكينين، وعن الشبر الباقي له هو والذي أعده المقرئ واللحاد ليسع الجسد الثالث النحيل (جسده هو)؛ إذ كان المقرئ يظن بأن الطفل الثالث سوف يلحق بأخويه. وشاء القدر أن يبقى بعد المقرئ والأم والأب، لكن الذنب الميتافيزيقي لم يفارقه، وظل يسأل نفسه: لماذا عشت أنا؟ بل وصار يكتب ويعمل ليبرر وجوده، ويطلب المغفرة منهما.
سألته في البداية عن هذا الطفل، وجولته اليومية في مقابر المدينة، وهل هي التي حددت طريقه إلى الفلسفة فيما بعد، وخاصة الفلسفة الوجودية؟
فقال: لازمني إحساس مزمن بالمأسوية وتراجيدية الحياة والقدرية، فأنا ريفي، والريفي مسحوق بالقدرية، وهي تحيط به كما تحيط «الخية» برقبة المشنوق، فما كنت أفعله في طفولتي كان نوعا من الإحساس التراجيدي المتمرد على الحياة، والثائر على الظلم وعلى مآسي الوجود وشقاء الإنسان، وأستدرك وأقول إنها ثورة إنسان مكتومة تفصح عن نفسها في بعض القصص والمسرحيات والكتابات النثرية فيما بعد، ورغم هذا ما زلت انطوائيا وسلبيا من ناحية الكفاح أو النضال الوطني. - سوف أختلف معك؛ فالإيجابية تتجلى فيما تكتب، أليس كذلك؟ - لكي أخرج من الاكتئاب كنت أكتب، وهذا نوع من العدمية؛ أقصد المعنى المباشر للسلبية، فلم أشارك في مظاهرة إلا كمتفرج، أو في الصفوف الأخيرة كمن يمشي في جنازة. لم أكن أيديولوجيا أو كفاحيا فعالا أو ثوريا، بمعنى الانخراط في منظمة. كنت وما زلت خجولا وبعيدا عن الكفاح المباشر. - بدأ د. مكاوي حياته شاعرا، وذلك خلال دراسته في المدرسة الابتدائية في «بلقاس» مسقط رأسه، وهي مدينة تتبع محافظة الدقهلية، وأيضا بعد انتقاله إلى المدرسة الثانوية في طنطا، وفي القاهرة قرر التوقف عن كتابة الشعر، والالتجاء لكتابة القصة القصيرة. كيف حدث هذا ولماذا؟ - في طفولتي بدأت بالتعرف على الشعر من خلال قراءة الرافعي وجبران والحكيم والمنفلوطي وغيرهم، ولكن حبي للشعر جاء من خلال بائع دخان اسمه رشاد. كان يطوف القرى هو وحماره لبيع الدخان. توطدت صداقتنا، وكان شاعرا جميلا، ويحفظ الكثير من الشعر العربي لشوقي وحافظ والمتنبي، وكنا نتطارح الشعر أنا وهو في المقابر، حيث كنت أطوف كثيرا هناك أو في الحدائق، وكان محصوله من الشعر أكثر مني، وفي تلك الفترة كتبت قصائد عارضت فيها شوقي والمعري، وهذا يدلك على عيب كبير في، وهو أني أتأثر أكثر مما ينبغي، وأعتقد أنني ظلمت نفسي حين قلت إني ظل ولست أصلا، صدى ولست صوتا. - سوف أعترض على هذه النقطة، وأقول لك إنه أمر طبيعي يحدث في البدايات دائما وسرعان ما ينتهي. وما أود معرفته لماذا قررت التوقف عن كتابة الشعر؟ - قررت هذا بعد علاقة حب فاشلة، فكنت أقرأ شعري للمحبوبة، وكانت لا تفهم شيئا. إن إيماني بعبقرية صلاح عبد الصبور، بعد أن عشنا سويا، جعلتني أعرف أنني لست شاعرا أصيلا. - وفي كتابة د. مكاوي بدا الحس الشعري موجودا بل وطاغيا في القصة والمسرح والدراسات الفلسفية، وحتى في الترجمة، وهنا يمكن القول بأنك تخليت عن الشعر في إحدى صوره؟ - بالفعل؛ فالشعرية تسكن الإنسان ولا تفارقه، بل هي تسكن اللحم والعظم وكأن هناك جنيا شعريا يسكن الإنسان كما قالوا قديما. ففي أحيان كثيرة أتهم بأنني أكتب الفلسفة بقلب شاعر، والقصص بروح فيلسوف. وقال أحدهم إنني أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ، وهذا يقلقني أحيانا. - لا أعرف لماذا القلق من هذه المقولات؛ إذ لا يوجد فصل حاسم أو حدود صارمة بين الأنواع الأدبية والفلسفة، فأنت تعلم أن سارتر في مسرحيته الشهيرة «الذباب» وضع منهجه الفلسفي بأكمله فيها، فهي على المستوى الفني والبناء الدرامي مسرحية مكتملة، وفي نفس الوقت طرح من خلالها رؤيته للوجود والدم، وهكذا فعل ألبير كامي في روايته «الغريب» والأمثلة كثيرة!
نعم هذا حدث، لكني أقول لك مع التقدم في السن اكتشفت أن الأدب لا يبدأ بالفكرة، وإنما بالصورة أو الموقف أو بالكلمة التي تهز الإنسان. الفكر يجب أن يكون أشبه بالدم الذي يسري في الكائن الحي، بحيث إنه موجود ولا نراه، مثلما كان يفعل دستوفسكي وتولستوي والمعري الذي ظل شاعرا ولم تفسده الفلسفة، فعبر عن الحس المأسوي بالحياة بلغة في بعض الأحيان تكون مجردة، ولكن لا تشعر أنك أمام فلسفة بل شعر، وذلك ينطبق أيضا على المتنبي. وأول من علمني التفكير بالصورة هو جبران خليل جبران، حين قرأت له الأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة، وأعتقد أنه لا شعر بغير صورة. - على الرغم من البدايات الرومانسية والحياة مع الأدباء، لماذا اخترت الدراسة في قسم الفلسفة؟ - كان من المفترض أن ألتحق بقسم اللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن الفضل يرجع إلى د. عبد العزيز المليجي الذي درس لي الفلسفة في المرحلة الثانوية (وفيما بعد أصبح من أبرز علماء علم النفس التحليلي في أمريكا)؛ فقد بهرني وسحرني في قدرته على توصيل رسالته. وفي تلك المرحلة بدأت علاقة حميمة بيني وبين أفلاطون حين قرأت «المحاورات». لقد كان شاعرا أكثر منه منظرا، وهو من الأدباء الفلاسفة، ويقوم في داخله صراع بين المنطق والأسطورة، بين الفلسفة والفن، وفي النهاية عبر عن نفسه في شكل محاورات. وكما قال شيشرون إن هذه المحاورات كانت تمثل أحيانا على خشبة المسرح.
لم أندم على دخولي قسم الفلسفة؛ فقد درس لي زكي نجيب محمود - يوسف مراد - مصطفى حلمي - أحمد فؤاد الأهواني - عبد الرحمن بدوي. وكان بدوي لا يسمح بالحوار أو السؤال، ومع هذا كان في أعماقه طفلا عنيفا متمردا، لكن هذا جزء من فلسفته التي طرحها في الزمان الوجودي، وهو أن يكون الانفصال لا الاتصال بينه وبين الآخرين؛ فهناك دائما فجوة بينه وبين الآخر. كنت أذهب إليه وكان يقرأ باهتمام شديد ما كنت أكتبه آنذاك، ولقد استفدت منه ومن زكي نجيب محمود وكل أساتذتي في تلك المرحلة.
ولم يستطع د. مكاوي أن يقتل الشاعر بداخله في تلك الفترة وأعتقد حتى الآن! فكان يتسلل من قسم الفلسفة إلى قسم اللغة العربية لسماع شوقي ضيف وأمين الخولي وهو يتحدث عن المتنبي، لدرجة أنه قال له: يا ولد، أنت ما جبتش البحث ليه؟ فقال له د. مكاوي: أنا يا مولانا في قسم الفلسفة. فدعاه لحضور ندوة الأمناء، ثم الجمعية الأدبية المصرية والتي كان من بين أعضائها صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن فهمي وشكري عياد وعز الدين إسماعيل وفاروق خورشيد، والذين صاروا أصدقاء العمر فيما بعد.
ثم سافر إلى إيطاليا في منحة ثلاثة أشهر لدراسة اللغة الإيطالية، وهناك تقابل والشاعر الإيطالي المصري أونجارتي (حيث ولد وعاش في الإسكندرية إحدى وعشرين سنة)، والذي ترجمه إلى العربية منذ سنوات قليلة، حيث تعلم هناك الإيطالية. ثم جاءت محطة هامة في حياة د. مكاوي، حيث تم تعيينه في دار الكتب في قسم الفهارس، ولم تكن الوظيفة هي الحدث، بل لقاؤه برئيس دار الكتب، وكان «توفيق الحكيم». وسألته: قرأ لك توفيق الحكيم في تلك الفترة قصتين، ونصحك بالابتعاد عن الجامعة والتفرغ لكتابة القصة، فلماذا لم تفعل هذا؟ - ربما لأنني شعرت بالاختناق والملل في دار الكتب، فما أبشع التكرار اليومي في فهرسة الكتب دون قراءتها. وفي تلك الفترة جاءت المنحة إلى ألمانيا بفضل أستاذي الذي رعاني وهو فرتس شتيبات، فدرست في جامعتي فرايبورج وبرلين الحرة، وكانت الدراسة الأساسية هي الفلسفة، أما المساندة فهي الأدب، وهناك تعرفت على عظماء أمثال هيدجر الذي سمعته يحاضر عن اللغة. وإلى جانب الفلسفة درست الأدب الألماني في العصر الكلاسيكي والمعاصر، وهناك تعرفت جيدا على توماس مان وبشنر وجوته وهلدرلين. - وفي طفولتك تعرفت على الأدب الألماني، وقرأت آلام فرتر، ترجمة أحمد حسن الزيات، وفي سن العشرين تعلمت اللغة الألمانية على نفقتك الخاصة، ثم غرقت في ألمانيا في بحور الأدب الألماني والفلسفة أيضا، ثم كانت أطروحتك في جامعة فرايبورج لنيل الدكتوراه هي المحال والتمرد عند الفرنسي ألبير كامي، كيف تفسر ذلك؟ - يبدو الأمر غريبا، ولكني كنت أتمنى أن أقدم هذه الرسالة إلى فرنسا، لكن المنحة جاءتني إلى ألمانيا، وكامي بالنسبة لي نموذج وقدوة للأديب الفيلسوف والمفكر الأخلاقي، وكنت قد درست في جامعة القاهرة على يد أستاذ درس لكامي في الجزائر، وهو جان جرنييه
Jean Grenier ، وكان مهتما بالوجودية، وحدثنا كثيرا عن هيدجر وكارل ياسبرز وكامي الذي درس له، وكنت قد قرأت معظم رواياته ومسرحياته قبل السفر إلى ألمانيا، ولم أجد ممانعة حين اقترحته، وخاصة أنه في أسطورة سيزيف وجه نقدا لاذعا للفلاسفة الألمان أمثال هيدجر وهسرل؛ لأنهم تجاوزوا أسوار المحال، وهو يرى أن الحياة ما هي إلا محال أو عبث. وكان نقد كامي للفلاسفة الألمان جزءا مهما في رسالتي، وهذه كانت أول رسالة بعد رسالة سابقة لها في فرنسا عن فلسفة كامي، وقد حاولت فيها بلورة اللحظات الفلسفية في أدبه من خلال المحال من ناحية وأيضا التمرد، وهما لا ينفصلان، ودائما في حالة جدل. - بعد العودة من البعثة قدمت للقارئ العربي كاتبين من كبار كتاب المسرح الألماني بل والعالمي، وهما جورج بشنر وبرتولد بريشت، وأيضا الشاعر هلدرلين، وكان بريشت ينتمي إلى التعبيرية في بدايته، فلماذا الانحياز لهؤلاء والتعبيرية؟ - أنا أحب التعبيرية، ونحن كعرب نميل دائما إلى المطلقات، ولم نتعلم بعد الاهتمام بالتفاصيل والدقائق إلا قليلا عند نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإدوار الخراط، فما زالت تغلب علينا التعبيرات اللفظية الرنانة المطلقة، وتغيب عنا التفاصيل التي يتعلمها الإنسان من خلال العلم والفن. فعلى سبيل المثال يمكن أن يصف توماس مان أو جونتر جراس بابا أو نافذة في صفحة، أو يصف ملامح وجه في صفحات، ونحن عندنا نكتفي بأن نقول وجه متجهم وكفى، فنحن لم نتعلم بعد كيف نبصر. وكلاهما، بريشت وبشنر، خاضا معارك حقيقية وثورية، وكنت قد بدأت قبل السفر إلى ألمانيا قراءة أشعار بريشت، وبعد أن سافرت ترجمت له عشرين قصيدة، وأرسلتها للدكتور حسين فوزي، ونشرها على الفور في مجلة «المجلة». ومن الطريف أنه عندما تحدد موعد الامتحان كان لا بد من اختيار العصر الكلاسيكي مع الإلمام بالعصر الرومانسي، وبعد مناقشات كثيرة اخترت كافكا وبريشت. - كيف وكلاهما يختلف عن الآخر تماما؟ - نعم، ولكن أحدهما يوافق طبيعتي الانطوائية وهو كافكا بكوابيسه، ولقد أحببت أسلوبه لموضوعي وكأنه أستاذ فيزياء وأديب في آن، على العكس من بريشت فهو بعيد عن الباطن تماما، ومهتم بإيقاظ الوعي والمسرح التعليمي وثورته على الأوضاع القائمة. فالطرفان جزء من طبيعتي الثورية والمحبطة، فتجدني الآن محبطا وغاضبا من كل ما يحدث لنا كعرب، فنحن نذبح مفتوحي الأعين، وفي نفس الوقت نسينا ما يسمى بالغضب، حتى المثقفين لا يمكن تبرئتهم، والشعوب العربية لا حول لها ولا قوة؛ فهي عجينة يمكن أن تتشكل من خلال الساسة. أسأل نفسي كثيرا أين الغضب وخنزير بري مثل شارون يذبح شعبا عربيا. هذا شيء مهين، وأنا كمثقف أشعر بالإهانة. لست من أنصار الثورة الفوضوية لأي غرض، فقط أومن برأي دستوفسكي الذي أكده كامي، وهو أن العالم كله لا يستحق أن يموت من أجله طفل بريء، والعالم العربي أصبح مقبرة جماعية؛ لأننا أصبحنا سماسرة لكل شيء حتى للعلم والفن. نحتاج علما حقيقيا وفنا حقيقيا. - قبل أن نترك جورج بشنر وبريشت لدي بعض الأسئلة، أولها: لماذا قلت في الدراسة التي كتبتها عن بشنر حول مسرحه إنه شقيق الروح؟ - لأنه ثوري محبط مثلي وعدمي. مات ضحية الثورة من أجل الشعب المسكين، وأدان المثقفين الذين يتحدثون عن الحرية والمساواة، في حين لا يجد الفلاح البطاطس ليقتات بها، ولا يجد اللبن لطفله، وكان يقول هؤلاء بعيدون تماما عن الشعب. وهنا أود أن أقول لكي نكون ثوريين بحق لا بد أن نهتم بالبنية التحتية؛ فمن الصعب أن يكون الإنسان ثوريا أو وطنيا وهو لا يمتلك قوت يومه. لا بد من تحقيق أدنى الشروط الإنسانية، ثم نتحدث فيما بعد عن الوطن. وهنا أتذكر ما قاله بشنر وهو على فراش المرض، في رسالة بعث بها إلى صديقه أوجست شتوبر يقول فيها: الظروف السياسية تكاد تصيبني بالجنون. الشعب المسكين يجر في صبر العربة التي يمثل عليها الأمراء وأدعياء التحرر ملهاتهم. - نعود إذن إلى بريشت، وأسأل د. مكاوي الذي قدم بريشت للقارئ العربي: لماذا لاقى مسرحه الملحمي والتعليمي صدى طيبا لدى القارئ والمثقف العربي، وتأثر به الكثير من كتاب المسرح العربي؟ - لأسباب عديدة، منها أن المسرح الملحمي أو السردي قريب من المأثور الشعبي العربي، ولأن بريشت يطرح من خلال المسرح الملحمي والتعليمي شكلا يتيح للكاتب الهروب من المسرح التقليدي، وهذا يعطي للكاتب حرية دون إعفائه بالطبع من المفردات الأخرى مثل الصراع والحدث، كما يعطي فرصة للخروج عن النص، وفرصة للعقل أن يكون نقديا، وكأنه يقول هذا الواقع الذي نراه لا يجب أن نرضى عنه، ويجب أن نثور عليه. - هل حقق بريشت هذا في كل مسرحه؟ - لا أعتقد ذلك. لقد حقق هذا في بعض المسرحيات مثل «الاستثناء والقاعدة» وغيرها، أعود إلى تأثيره على المسرح العربي؛ ربما لحاجتنا لشيء من النقد لظروف حياتنا وعدم الرضا عن واقعنا، وبريشت يلبي هذا. لقد حول الماركسية إلى فن، إلى مسرح، وجعل فلسفته تتخذ ثوب شخصيات مسرحية، وهو الذي تشرد كثيرا في المنافي، وحين عاد إلى ألمانيا كان يسكن في المسرح نفسه الذي كان يطل على مقبرة هيجل، وأوصى أن يدفن إلى جواره، وهذا ما حدث. وكان دائما يقول على الكاتب أن يسأل نفسه، ماذا سيكون رد فعل القارئ على هذه العبارة أو تلك؟ هل ستدفعه إلى تغيير الواقع، أو في أضعف الإيمان تغيير وعيه؟ فإذا كان الرد بالنفي فلا داعي لنشر هذه العبارة. - كتب د. مكاوي العديد من المسرحيات، ومنها: «الانتهازيون لا يدخلون الجنة»، «الموت والمدينة»، «المرحوم»، «الكنز»، «السيد والعبد»، «محاكمة جلجاميش»، «الطفل والفراشة»، وغيرها. وعلى الرغم من أنك قدمت بريشت ودرسته جيدا فلم يتأثر مسرحك به إلا في أحيان قليلة، لماذا؟ - على الكاتب أن يكون نفسه أولا. وربما يرجع هذا إلى حبي للمسرح الكلاسيكي مثل جوته وشيلر. وبالفعل أغرى المسرح الملحمي الكثيرين، مثل عبد الرحمن الشرقاوي وسعد الله ونوس وسعد وهبة ويوسف إدريس وألفريد فرج وغيرهم. وربما يرجع هذا أيضا إلى أنني رجل عاطفي، ومنابعي رومانسية، ولا أستطيع أن أتنكر لها. وأخيرا أنا أعيش في محيط اجتماعي، ولحظة تاريخية مختلفة؛ وبالتالي مسرحياتي ستكون مختلفة. - يبدو أنك لم ولن تتخلى عن الشعر، ويبدو أن شيطان الشعر الذي يسكنك لم ولن يفارقك؛ إذ تجلى هذه المرة في كتاب «ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى عصرنا الحاضر»، والذي كان بمثابة ثورة في الأوساط الثقافية، وخاصة بين الشعراء من خلال الجزء الأول الدراسة والثاني النصوص. ما أرغب في السؤال عنه هو أن ثورة الشعر الحديث في أوروبا ارتبطت بثورات أخرى في شتى مفردات المجتمع، فماذا كنت تتوقع بعد صدور الكتاب للشعر العربي الذي يعيش في واقع مختلف تماما؟ - في أوروبا كلمة التنوير أنتجت عصر التنوير، فحين حدثت ثورة الشعر في أوروبا سبقتها ثورات متعددة الجوانب؛ فمع الثورة الصناعية انهارت أنظمة ميتافيزيقية ومنطقية ودينية، بل وانهار نظام العقل نفسه، وخاصة بعد الحرب الأولى. نعم، حدث تنوير للعقل الأوروبي، وعرف مبادئ الحرية والمساواة، وإذا قارناه بعالمنا العربي سنجد أنه لم تكن لدينا ثورة صناعية، بل مصانع مستعارة، وقس على هذا في كل شيء. وأقول لك إن هناك ثورات شعرية فردية في عالمنا العربي، مثل الجواهري والبردوني والبياتي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش والسياب وغيرهم، لكنها كما ذكرت ثورات فردية. أيضا الاستجابة ضعيفة؛ لأن الأديب العربي يصرخ في البرية، وصوته لا يؤثر في بنية المجتمع، لماذا؟ لأننا دائما نصطدم بسلطة لا تحب التغيير ولا تريده حتى للأفضل ولمصلحتها، وهذا يعكس المصير الذي آل إليه الشعب العربي. - من الفلسفة الإغريقية إلى المثالية الألمانية مرورا بالوجودية، رحلة طويلة ممتعة وشاقة، قطعها د. عبد الغفار مكاوي تلميذا ومعلما وشارحا ومترجما ومحللا، فماذا فعلوا بك وكيف وجدتهم؟ فهل وجدت ثوريا محبطا اعتبرته شقيق روحك مثل بشنر، أو شبيهك مثل هلدرلين؟ - هيراقليطس هو الأقرب إلى قلبي، وأكاد أقول إنه هو نيتشه القرن التاسع عشر، ثم أفلاطون صاحب الشخصيات المتعددة؛ فهناك أفلاطون في محاوراته السقراطية وهي مرحلة الشباب، ثم أفلاطون الوسط والكهولة والشيخوخة؛ فهو نفسه تطور تطورا جدليا، وإذا صح كلام هيدجر عنه تمت على يده النقلة الصعبة من التفكير في حقيقة الوجود إلى العقل؛ أقصد إلى معايير العقل الإنساني الذي أصبح المحك في التمييز بين الصواب والخطأ، على أساس قياس كل شيء ناقص في عالمنا على الأصل وهو المثل. وقد عشقت أفلاطون؛ لأنه يمثل الصراع بين الفلسفة والفن؛ فالفلسفة عنده طريق وليست هدفا نهائيا.
وهناك نيتشه وكانط. أما هيدجر فلا أجد له نظيرا في استيعاب تاريخ الفلسفة، وأقول لك إنني لا أملك قدرة التنظير، فقط التعاطف مع النصوص، وشرحها للطلبة كيف يفهمون أسلوب التحول؛ فالفلسفة فن طرح الأسئلة. وأثناء قراءتي للفلسفة أفكر في تحويلها إلى أعمال فنية، والآن أنا مشغول ببعض القصص عن حياة ومواقف بعض الفلاسفة.
ليس غريبا أن يصف د. مكاوي علاقته بالنصوص الفلسفية بالتعاطف معها، أو التفكير في تحويلها إلى قصص تتناول حياة ومواقف الفلاسفة؛ فهو يعتبر أن الترجمة المبدعة الموفقة نوع من الفعل الصوفي أو التضحية بالذات في سبيل الآخر - وهو النص الأصلي وعالمه - وأنها كما يقول شوبنهور: نوع من تناسخ الأرواح. وسألت د. مكاوي عن المناهج الفلسفية الجديدة، والتي رفض أصحابها إطلاق صفة الفلسفة عليها، مثل البنيوية والتفكيكية وموقفه منه؟
فقال: بكل صدق أحسست أن البنيوية جاءت بعد أن كبرت في السن وتم تكويني، قرأت فيها ولم أتحمس لها. أما التفكيكية فقد راجعت بعض الأبحاث فيها، فوجدت أن جاك دريدا ربما يكون أديبا، ولكن بالنسبة لي فهو مخرب. وأنا لست ضد معرفة أي إنسان، ولكن علينا أن نحكم عقلنا النقدي. - سؤال قديم جدا، ولكن لا بد أن أسأله للدكتور مكاوي عن الفلسفة العربية التي لفظت أنفاسها الأخيرة في كتاب تهافت التهافت، فلماذا كان ابن رشد آخر الفلاسفة؟ - إغلاق باب الاجتهاد، وانهيار الدولة الإسلامية إلى دويلات، كان له التأثير الأكبر. وأنا لست مع هذا الرأي الوارد في سؤالك، فمن يسأل هذا السؤال يتوقع أو يتخيل فيلسوفا كبيرا بالمعنى الشامل، وهذا انتهى مع هيجل؛ فهذا النوع من الأنساق الشاملة لم يعد مطلوبا أو ممكنا، ولدينا اجتهادات كثيرة، فهناك فؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي والجابري والحبابي والعالم وغيرهم. - في ظل هذه الأوضاع كيف ترى مستقبل الثقافة العربية؟ - البداية الحقيقية أن نؤمن بضرورة الثقافة وأنها مسئوليتنا جميعا، وليست ديكورا أو ضوضاء ومؤتمرات كما يقولون ويفعلون أيضا. إنها عطش حقيقي وجوع حقيقي للحرية، والعدل والثقافة هي طوق النجاة الوحيد.
وأخيرا سألته: من هو الإنسان؟
قال لي: هذا سؤال الأسئلة. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت بكل أشكاله، وهو الذي يواجهه الموت بكل أشكاله المختلفة، فيتحداه ويؤكد مجد الحياة والعقل والحرية بما يبنيه من حضارة، وما يبدعه من فن وأدب، وكأنه كائن يتحدى الموت دائما، أو كأنه يقول للوجود إذا كنت سأنتهي للعدم فلست عدما، وسأترك بعدي ما يدل على وجودي.
অজানা পৃষ্ঠা