من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
والأرض قد أخذت زخرفها وآزينت، وبينت من حكمة الله سبحانه ما بينت ورباها قد تعممت بملونات الأزهار، وأراقم المذانب قد انسابت في مغائر الأنهار، والزمان قد استقبل اذاره، وخلع عذاره:
فالنور عقد والغصون سوالف ... والجزع زند والسرى سوار
رقص القضيب بها وقد شرب الثرى ... وشدا الحمام وصفق التيار
ثم جزنا الوادي الكبير وهو بحر عباب، وفي كل رقعة من أثوابنا ميزات. وسرنا والموج غمر، وذلك الماء على الأجساد ثلج وفي أكبادنا جمر، والريح ترمي بحاصب، والودق يأتي من كل جانب، والدوافع ترعب، والمذانب تتعب، والقطر قد ملأ كل خرق وسبسب، وورد آتيه من كل آتي ومذهب، وجاء بكل صبح وغيهب. ولم تزل الأمطار تتوالى وتنزل:
كأن السحاب دوين السما ... نعام تعلق بالأرجل
فادمعها سح وسكب وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان
فسرنا على تلك الحال، ونحن من طوفان تلك السحائب في أعظم الأوحال، وقد أعيا الركوبة ما أدهى حمله من مستنقع الأثقال، حتى وصلنا إلى) قسطنطينة (والركاب فاشلة، والنفوس ذاهلة، والتلاع سائلة، وجفون السحاب هاملة هاطلة، والشآبيب مستمرة، وحلاوة العيش ممرة، والأوحال تمنع من خروج يعيد الأبدان معفرة، والثياب معصفرة، فحللنا منها في حصن حصين، ومكان مكين، وربوة ذات قرار ومعين، وقاعدة أمن وتأمين، وتمهيد وتسكين، صحيحة الهوى، بعيدة المهوى وبسبب ذلك تنسب إلى الهوى المقصور، فيقال: قسطنطينة الهوى، ناهيك من مدينة تحوم حول سحاب القطر، وتسوم بارتفاعها مراقي الكواكب الزهر، وتصون بامتناعها من حدثان الدهر، وتصول ببساط الملك وبسيط الزهر، وتروق بناعم الروض وهامر النهر، وتفخر بجمال المحاسن كل الفخر، ويخترق بطاحها نهر ينساب فيها انسياب الأرقم، ويدور بها دور السوار بالمعصم، ويغوص ببعض حافاتها فيغيب عن العين، ثم يبدو بخارجها كأنه سبائك اللجين، فيسيل على تلك البطاح سيلا، ويتخللها جداوله فتجر بها ذيلا، وتعمها شربا، وتسقي منه بماء واحد ورياه تعود منه بما شئت من صلة وعائد:
نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر
ما آصفر وجه الشمس عند غروبها ... لا لفرقة حسن ذاك المنظر
بها تتوفر الأرباح، وبأعلاها تتبارى الرياح، وبشتى أقطارها يتلاقى التاجر والفلاح، ويعتز الساكن منها في الحصن الأحمى، والموطن الأسمى، والمحل الأسنى، والعيش الأهنى، ويمسك له في خزائنه الواسعة من ياقوت القوت ما يفنى الدهر وهو لا يفنى، تهابه النفس عند موافاته وتأوي الفتح الكواسر بأدنى حافاته، وتزل أقدام الصاعدين إليه على أكثر صفاته، وتعجز أوصاف الواصفين عن بعض صفاته:
يأوي إليه كل أحور ناعب ... وتهب فيه كل ريح صرصر
ويكاد من يرقى إليه مرة ... من دهره يشكو انقطاع الابهر
وبادرت فدخلناها في يوم الجمعة السادس عشر لرجب المذكور. وبادرت إلى لقاء الفضلاء، ومباحثة النبلاء، اجتلى واجتنى ولا اجتنب، وأنا والطرس في ملأ انتقى منهم وانتخب. فمما أنشدني المنزل، رب المنزل الشيخ الإمام الرواية الحاج الفاضل المتفضل: أبو الحسن علي بن عبيد الله لبعضهم:
ما رأينا ما سمعنا ... كزمان نحن فيه
كل من تلقى تراه ... يشتكي ما تشتكيه
وذكر لي قال كتب بعض السؤال إلى بعض أهل هذه المدينة يستجديه ويستحثه بقوله:
ماذا أقول إذا سئلت وقيل لي ... ماذا لقيت من الجواد المفضل
ان قلت: أعطاني، كذبت، وأن أقل: ... يخل الجواد بما له لم يجمل
فاختر لنفسك ما أقول، فأنني ... لا بد أخبرهم وان لم أسئل
فأجابه المسئول بقوله:
أعجلتنا، فأتاك عاجل برنا ... قلا، ولو أمهلتنا لم نقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تقل، ... ونكون نحن كأننا لم نسأل
وأخبرني قال: أقبل أعرابي إلى داوود بن المهلب فقال له: أني مدحتك فاسمع. فقال على رسلك، ثم دخل بيته وتقلد سيفه وخرج فقال: قل، فان أحسنت حكمناك، وان لم تحسن قتلناك فانشأ يقول:
أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المغشى والبؤس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان ان شددت به أزري
1 / 7