ثم بعد دقيقة صمت: والويسكي .. لا يجوز أن ننسى الوقود.
استرحنا في القصر الجمهوري ساعة. دعا الداعي إلى التسوق. ذهبنا إلى السوق كل يحمل بدل سفره، وتساءل صوت في براءة: أليس من الأفضل أن نحتفظ بالعملة الصعبة لوطننا؟
انهالت عليه مختارات من السباب شعرا ونثرا، تجولنا في السوق؛ الوجوه ناضرة جميلة، الحوانيت يديرها غلمان هم آيات في النشاط والذكاء. اخترنا محلا متوسطا فانقضضنا عليه كمجموعة من الفئران. زاغت الأبصار بين لعب الأطفال والساعات الأتوماتيكية والأغطية والمفارش والبلوزات والإشاربات والشالات، من جميع بلاد المعمورة. وابتاع كل حقيبة متوسطة ليودع بها هداياه. عدنا ولا عملة معنا صعبة ولا سهلة، ذهبنا - عقب الغداء - إلى ميدان الشهداء لشهود ندوة أدبية، استقبلنا بهتاف، واتخذنا مجالسنا وراء مائدة مستطيلة، ازدحم الميدان بالجمهور، استبق الشعراء إلى الترحيب بنا والإشادة بثورتنا، وألقى شعراؤنا قصائد عن العروبة والجهاد والثورة والاشتراكية. وجدتني طيلة الوقت أقارن بين أحاديثنا الفردية وكلماتنا أمام الجمهور، بين تجوالنا في السوق وموقفنا وراء المنصة. إن الصوت الذي يتحدث أمام الجماهير هو صوت الجماهير، وخيل إلي أنني أدركت شيئا مما ينقصنا. لعله محور التناقض بين ما يقال وما يجب أن يقال، أن نتبنى في خلوتنا صوت الجماهير. ها هي أشداق مستقبلينا متكورة بالقات؛ إذ قامت الحفلة في وقت التخزين. هكذا اجتمع خازنو القات بخازني الهدايا في سباق الحماس لتقرير المبادئ المثالية للأمة العربية. وعند إبداء ملاحظة من هذا النوع ستسمع من يرد عليك قائلا: «يا أخي .. نحن بشر .. لم نرتكب شرا .. ونحن مخلصون.» ولكن أين الروح التي تشعل القلوب؟ أين لحظات الانتصار على النفس التي تخلق المعجزات على مدى التاريخ؟ ماذا ينقصنا؟ لماذا نبقى كأننا متفرجون حسنو النية أمام فيلم يموج بجليل الأحداث؟ وخيل إلي أن شيئا يتحرك عند ساقي تحت المائدة. طويت طرف الغطاء، ونظرت إلى أسفل فرأيت صبية في الثامنة أو دون ذلك، متلفعة بشال أبيض، تتفرج على الحفل من تحت المائدة، شعرت بعيني فأدارت نحوي عينيها، فرأيت وجها صغيرا نقي البشرة يحدق في بعينين سوداوين كأجمل ما رأيت في حياتي من عيون؛ وجب قلبي ممتنا لرؤيتها، وفاض به نبع من الحنان والحب. ورفعت عيني إلى قطع السحاب الأبيض المشعشع بنسائم مخضلة برذاذ يجيء قليلا وينقطع قليلا فاطمأن القلب إلى وجود شيء صغير على هامش الجمع عند ساقي، ولكنه كامل الصدق والنقاء. وسهرنا في حديقة القصر حتى الهزيع الأخير من الليل؛ الهواء بارد دسم، ولكنه مفعم بالأمان، والسحب تبهر العين بضياء القمر. وقال محدثنا: المدن معنا، أما الجبال فمارقة ولا سبيل للتفاهم بين الاثنين.
وقلب عينيه في وجوهنا مستطلعا، ثم واصل: فإما أن نلتزم موقف دفاع إلى الأبد، وإما أن نبيد العدو إبادة.
وقال قائل: الإبادة!
وقال آخر: الحضارة .. نغزوهم بالحضارة!
وثالث قال: نعترف بالواقع!
وتواصل الحديث تحت ضوء القمر، وتجلت لنا الحقيقة صخرية صلبة مستقلة بذاتها عن الأحلام.
الجندي
إلى وادي نشوز.
অজানা পৃষ্ঠা