تابعت أخبار المعركة باهتمام لم أشعر بمثله من قبل، وكنت على يقين من الخسران الشخصي مهما تكن نتيجة المعركة، فلا مفر من أن أفقد أحد أحب رجلين إلى قلبي، وموقف الحياد بينهما لا يهضمه ضميري؛ فلا بد من الانحياز إلى عثمان، غير أن عواطفي تمردت علي واقتتلت بمرارة ومزقتني تمزيقا؛ فكلما أحرز رجال الأمن انتصارات حاسمة داخلتني كآبة، وأشفقت من خلو عالمي من رمضان ومرحه وأساطيره ومغامراته في دنيا الجنس والتحدي، وكلما فاز الرجل في مطاردة ونشر الرعب من حوله وهدد أخاه انقبض قلبي، واستشعرت خوفا من تسلط قوى الهدم والعربدة وتمكنها من تقويض دعائم الأمن والحضارة، وانبهم أمري على نفسي، ولم أعد أدري أي رجل أكون! ولا ماذا أروم؟ ولا كيف أبلغ التوازن المنشود؟ هكذا تابعت أنباء المعركة باهتمام وانفعال وخجل وحيرة. •••
وانتهت المعركة إلى خاتمتها المحتومة، وطلعت علينا الصحف ذات صباح بصورة رمضان وقد خر صريعا مضرجا بدمه. انقضت المطاردة الجهنمية وأيام القلق ولياليه، رنوت إلى الصورة طويلا حتى شعرت بالدمع يدب في أعماق عيني. وحنقت، امتلأت بالحنق، ولكني لم أدر علام أحنق، وازدحمت مخيلتي بالقوى الكونية المدمرة كالزلازل، والبراكين، والأعاصير، والشهب، والفياضانات، والجراثيم. ولم أدر هل أتذكرها على سبيل التشفي أو لأعرف موضعها بين الخير والشر؟
وزارني عثمان بعد ذلك بأيام، كان كل شيء في الدنيا قد انقلب رأسا على عقب، في دنياي على الأقل، وبخلاف العهد وجدت نحوه نفورا مرضيا بذلت قصاراي لأروضه وأهذبه. وشعرت في ذاتي بعديد من الشخوص تتصارع وتتجاذب بعنف جنوني، جلسنا على مقعدين متقاربين وهو يطالعني بنظرة ثقيلة تنم عن روح ميت. وفصل بيننا صمت غامض لا يريد أن ينقشع، وأخيرا تململ في مجلسه قائلا: إرادة الله، ولا راد لإرادته.
فقلت - أو قال لساني بلا وعي: إني أرمل وحيد، وقد امتلأ البيت بالأشباح.
تفحصني بقلق، ثم قال: إنك لا تبدو كما عهدتك. أأنت مريض؟! - لا أشكو إلا من الأشباح. - أنت لا تعني ما تقول!
فقلت - وأنا أضحك ضحكة رجل نسي تماما كيف يسيطر على نفسه: عشت عمري متوهما أن سلوكك كان المثل الذي قادني إلى طريق النجاح حتى تبوأت مكاني المرموق في عالم التربية! - لعلك تبالغ. - فعلا، إني نجحت بفضله هو، هذه هي الحقيقة. - هو؟ - الرجل الذي عبأت قوى الأمن لقتله! - حديثك يقلقني! - شبح من الأشباح أكد لي ذلك! - عزيزي! - صه ... وقال لي أيضا: إن رمضان انطلق من قاعدة لا يمكن الدفاع عنها، ولكنه اتبع أسلوبا رائعا، أما نحن - أنا وأنت - فلنا قاعدة لا يمكن الهجوم عليها، ولكننا نتبع أسلوبا سمجا ميتا. - لا أفقه لقولك معنى! - من العسير فهم لغة الأشباح. - صديقي .. إنك في حاجة إلى نوم عميق. - إني في حاجة إلى يقظة مجنونة. هكذا قالت الأشباح! - جئتك بعد أن أضناني الغم. - وسقوني جرعات ضخمة من شراب الأعاصير .. وقالوا: لي إن من يهدم مدينة خير ممن يحافظ على جدار قديم.
ونهضت فجأت ورحت أتمشى في الحجرة متوكئا على عصا، فهتف بي: إنك تعرج!
فأشرت إلى ركبتي، وقلت: التهاب أصابني صباح اليوم المشئوم! - زرت طبيبك؟ - كلا سأجد دوائي عند الأشباح.
اربد وجهه باليأس، فهتفت متشفيا: سأنبذ التربية والقواعد والطقوس، ابتعت لوحة وعلبة ألوان وأقلاما وفرشاة، سأعمل مصورا؛ مصورا أعرج، وقد جئت بامرأة عارية كنموذج!
وأزحت الستار عن باب الحجرة المجاورة فتبدت عارية، وهي تنظر إلينا بهدوء وتحد! ردد عينيه عثمان بينها وبيني في ذهول، فصحت ضاحكا: لعلك تسألني عما أدراني بقواعد الرسم وأصوله؟ حسن، لن يعرقلني شيء، سأقبض على الأدوات وأدمر كل شيء.
অজানা পৃষ্ঠা