على أن إنكلترا تستفيد من إخلاء مصر فائدة عظمى وهي خلاصها من مركز كاذب كثيرا ما وقف في طريق معاملاتها السياسية، وإنا لا نشك في أن إنكلترا اضطرت مرارا للإذعان لأعدائها خوفا من تهديدهن لها بمركزها الكاذب، وإننا لا نريد بهذا التلميح أن نلوث الاتفاق الودي بين إنكلترا وفرنسا أو نرميه بما يعد عارا، ولكننا لا نتمالك أنفسنا من السؤال الآتي، وهو: ما هي الفائدة العظمى التي عادت على إنكلترا من تنازل فرنسا عن حقوقها في مصر؟
رب مجيب يقول إن إنكلترا تنوي أن تحتل مصر احتلالا نهائيا جبريا فحصلت على هذه المعاهدة؛ لأنها لا تود أن يحرك عملها هذا غيظ فرنسا فتسعى هذه في وضع العقبات في طريق إنكلترا، على أننا قلنا وعززنا قولنا بالبرهان إنه لو تم لإنكلترا احتلال مصر بدون معارضة أو معاكسة من فرنسا فإن هذا الاحتلال لا ينفع إنكلترا أبدا؛ لأن محالفة باريس التي عقدت في 8 أبريل سنة 1904 تحرم علينا الظن بأن ساسة إنكلترا ينوون شيئا من هذا القبيل، فإن مواد هذه الاتفاقية توضح هذه النقطة خاصة توضيحا لا يحتاج إلى تفسير، وفي هذه المعاهدة تصرح إنكلترا بأنها لا تنوي أن تغير المركز السياسي الحاضر في مصر. فنسأل ثانيا: ما هي الفوائد التي استفادتها إنكلترا من تنازل فرنسا عن حقوقها في مصر؟ إن فرنسا استفادت فائدة كبرى بتصريحها بعدم تداخلها في المسائل المصرية في المستقبل وقد بالغ كتاب الإنكليز في تقديرهم أهمية المنافع الإنكليزية في مراكش، وقد رأى القارئ فيما تقدم أن ألمانيا هي الأولى بين الدول صاحبة المنافع والحقوق التجارية في البلاد المراكشية، ولا ننكر أن إنكلترا كانت لها منافع تجارية في مراكش أهم من منافع فرنسا، ولم يكن أحد يعرف الحد الذي تصل إليه هذه المنافع؛ لأن بلاد المغرب الأقصى لا تزال عذراء ولا يعرف أحد منابع ثروتها الحقيقية.
ونحن لا نعارض في رضاء إنكلترا بتضحية نصيبها في خيرات مراكش بانسحابها منها، وتصريحها لفرنسا بوضع يدها عليها كما وضعت يدها على الجزائر، إذا كانت إنكلترا ترى لنفسها نفعا في التساهل مع فرنسا في هذه المسألة؛ لأن الكرم في السياسة لا وجود له، فإن السياسة كلها في كلمتين «خذ وهات»، وإذا حدث أنك أعطيت أكثر مما أخذت فالويل لك، فيظهر من هذا أن إنكلترا بانسحابها من مراكش حيث كانت تعمل لمنافعها التجارية بجد واجتهاد قد أعطت لفرنسا شيئا عظيما وأخذت منها ورقة رسمية، وإذا أخلت إنكلترا مصر فإنها توفر على نفسها مثل ذلك الضعف الذي ألجأها لعقد المحالفة الفرنسوية الإنكليزية، ونحن لا نود أن نتكلم هنا عن المضار التي تعود على إنكلترا في السياسة الدولية من إشغالها المركز الكاذب، ولكننا سنتكلم عن المضار التي تعود عليها في مصر ذاتها، فنقول: من الواضح أن المستخدمين الإنكليز في مصر يملكون قوة عظيمة، ولكن من المحقق أيضا أن هذه القوة لا أساس لها، ومن الواضح أن تحققهم من ثبات مراكزهم يجعلهم على الدوام عرضة للضعف الأدبي الذي يلجئهم للانتقام من أي إنسان يبغضونه بحق أو بغير حق، وقد ثبت كثيرا أن بعض هؤلاء المستخدمين الإنكليز عجزوا عن تبرير أعمالهم عندما سئلوا أمام سلطة عليا.
وحدث كثيرا أن بعض المستخدمين الإنكليز أوعز لهم بالاستعفاء وبعضهم رفض طلبه لوظيفة في الحكومة المصرية رغما عما كانوا مزودين به من الوصايا العظيمة، وما أرغم هؤلاء على الاستعفاء، وما رفض طلب هؤلاء الطالبين؛ إلا للابتعاد عن المشاكل والمشاغب، وقد قلنا إن كل شيء في مصر سائر على محور السكون والهدوء، وما ذلك إلا لذكاء اللورد كرومر وحسن سياسته وبعد نظره، ولكن المركز الذي يعتمد على الذكاء والفطنة وحسن السياسة لا يعد مركزا ثابتا إنما هو مركز كما ذكرنا كاذب، فإن كل عاقل يفضل أن يتم كل شيء في المسائل السياسية باللين واللطف أحيانا، ولكن تحدث أمور تجعل التصريح والتأكيد والشدة ضرورية، فإذا حدثت مثل هذه الأمور في مصر واضطرت القابضين على زمام السياسة من الإنكليز إلى التصريح والتأكيد فإنها تختفي بسرعة غريبة، ويقول الذين كانت لهم علاقات خاصة بالحكومة المصرية إن هذه الظروف الحرجة التي تدل على سياسة خرقاء تحدث كل يوم.
ولا يخفى أن من يشغلون الوظائف في الحكومة المصرية من الإنكليز ما عدا من يشغل وظيفة المستشار المالي ليس لهم حق رسمي في مصالح الحكومة المصرية، ولا توجد وظيفة واحدة يجب فيها وجود إنكليزي، ومع هذا فإن الإنكليز سائدون تمام السيادة في مصالح الحكومة الكبرى، لماذا؟ إننا لا ندري وهم أيضا لا يدرون ...
لماذا كل هذا الحذر وكل ذلك الخوف من التصريح بالحقيقة التي لا تزال مكتومة؟ وكل هذا التردد في إيضاح حقيقة المركز السياسي؟ إن ذلك لا يليق بحكومة إمبراطورية عظيمة كإمبراطورية بريطانيا. لماذا كل هذه المواربة والمماحكة التي لا تعود في الآخر إلا بالكراهية والبغض والنفور وترمي أصحابها بما يفرون منه؟
وليت مضار ذلك المركز الكاذب تقف عند حد المقلقات الوقتية، ولكن للأسف نحن نرى أنه يعود بعواقب وخيمة مؤلمة دائمة، فإن هذا المركز كان سببا في اشتهار سياسة إنكلترا في مصر بالتردد الممقوت ووضعها في موضع كانت غير محتاجة إليه؛ نعم! إن ذلك المركز السياسي أسدل على إنكلترا شبكة من الريب والشك مع أنها بريئة طاهرة الذيل.
ونحن نشير بهذا الكلام إلى الرواية المحزنة التي مثلت على ملعب الخرطوم وذهب بطلها العظيم الجنرال غوردون شهيد سياسة خرقاء وعزة نفس شماء، ولقد أشار أعداء إنكلترا كثيرا إلى حادثة غوردون وكيف أن أهل وطنه هجروه مع علمهم بحرج مركزه، ولا غرو، فقد وجد الأعداء من ذلك الحادث المؤلم ما فتح أفواههم وحرك ألسنتهم بقولهم: «ليس هذا الحادث إلا نتيجة خيانة لا غفران لها»، وقد تطرفوا فقالوا: «إن إنكلترا غررت بغوردون وصنعت ما صنعت لتجد لها عذرا إذا أرادت فتح السودان.»
على أننا لا نتردد لحظة واحدة في تكذيب هذه الإشاعة التي ليس لها من الحقيقة مكان، لأن نجل مقام الحكومة الإنكليزية والمستر غلادستون عن مثل هذه الجريمة السوداء - هذا إذا صدقنا بأن غلادستون وحكومته قدروا على تدبير مثلها - ولكننا لا نستطيع أن نمدح سياسة أدت إلى مثل هذه النتيجة.
على أن مذكرات غوردون تلمح تلميحا بسيطا إلى حل هذه العويصة، فإننا نرى في مذكراته صورة الرسائل التي بعث بها يطلب المعونة وكأن الحكومة الإنكليزية وضعت أناملها في أذانها لئلا تسمع صراخ هذا البطل الشهيد، وما كان أسهل على الحكومة الإنكليزية أن تبعث بألفي رجل ينجدون غوردون من أسره ويخرجونه من غمرته؟
অজানা পৃষ্ঠা