Tahqiq al-Nusus wa-Nashruha (Text Editing and Publishing)
تحقيق النصوص ونشرها
প্রকাশক
مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع
সংস্করণের সংখ্যা
الثانية ١٣٨٥هـ = ١٩٦٥م
জনগুলি
مقدمات
إهداء:
...
إهداء:
إلى ذكرى هؤلاء العلماء المحققين
أحمد تيمور باشا
أحمد زكي باشا
محمد محمود الشنقيطي
كانوا سدنة هذه الثقافة العربية الخالدة
وعاشوا حياتهم في سبيل صونها ورعايتها
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى:
هذا التراث الضخم الذي آل إلينا من أسلافنا صانعي الثقافة الإسلامية الغربية، جدير بأن نقف أمامه وقفة الإكبار والإجلال، ثم نسمو برءوسنا في اعتزاز وشعور صادق بالفخر والغبطة والكبرياء.
إن هذه الصيحات التي يرددها دعاة الاستعمار الثقافي يبغون بها أن ننبذ هذا التراث ونطرحه وراءنا ظهريا، صيحة في واد. وكم لهم من محاولات يائسة يدورون بها ذات اليمين وذات الشمال، كي يهدموا هذا الصرح. ولكن تلك المحاولات لم تجد لها صدى إلا عند من أمكنهم أن يصفوا على أنفسهم ظل الاستعباد الثقافي، من ضعاف القلوب، وأرقاء التفكير.
حاولوا أن يقضوا على الكتابة العربية ليقطعوا ما بين حاضر العرب وماضيهم وألحوا في ذلك إلحاحًا متواصلًا فباءوا من بعد ذلك بالفشل. وجهدوا أن يحاربوا اللغة الفصيحة فنادوا أن ندع أهم خصيصة من خصائص العربية فنلغي إعراب الكلمات؛ لأن ذلك عبء ناءت به -فيما يزعمون- بعد القرون قرون! حاولوا ذلك فعادوا في خزي تعلوهم الخيبة!
أرادونا على أن نتخلص من مقاييس اللغة ومعاييرها فنقولها فوضى بلا نظام، فلم يستطيعوا أن يقسرونا على ذلك. وهم فيما بين ذلك يحاولون أن يضعوا من ثقتنا في هذا التراث الضخم، فلا يزالون يوجهون إليها المطاعن والمثالب، ويهونون من شأنه تهوينا.
1 / 5
إن كل فكرة علمية جديرة بالاحترام، ولكن الفكرة المغرضة التي يبعثها الشر أو المنفعة الذاتية الصرفة، فكرة لا تستحق الاحترام، بل يحب مناهضتها والقيام في وجهها. أرادوا كثيرًا فسمعنا وقرأنا كثيرًا، ولكن ثقافتنا الإسلامية العربية ليست من الهون بحيث تحني الرأس لأمثال هذا الضعف المتخاذل. فالشكر الصادق لهؤلاء القوم الذين أيقظوا فينا ذلك الشعور بالعزة، ووجهونا أن نفتح عيوننا على تلك الكنوز التي تكشف لنا ولا تزال تتكشف.
وما أجدرنا -نحن القومة على الثقافة العربية- أن ننهض بعبء نشر ذلك التراث وتجليته، ليكون ذلك وفاء لعلمائنا، ووفاء لأنفسنا وأبنائنا.
وقد ناديت في مقدمة إحدى منشوراتي١ أن تلتزم كلياتنا الجامعية ذات الطابع الثقافي الإسلامي تكليف طلبة الدراسات العالية أن يقوم كل منهم بتحقيق مخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة التي يتقدم بها فقلت: "وإنه لما يثلج الصدر أن تتجه جامعاتنا المصرية اتجاها جديدا إزاء طلابها المتقدمين للاجازات العلمية الفائقة، إذ توجههم إلى أن يقدموا مع رسالاتهم العلمية تحقيقا لمخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة. وعسى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه هذا الأمر ضريبة علمية لا بد من أدائها".
وإني لمؤمن أن سيأتي ذلك اليوم، فننعم بكثير من المتع الثقافية التي حالت بيننا وبينها هذه الحرب العلمية الظالمة.
وقد اختمرت عندي فكرة كتابة هذا البحث منذ خمس سنوات، وذلك حين ظفر كتابان من كتبي التي حققها بالجائزة الأولى للنشر والتحقيق العلمي سنة ١٩٤٩-١٩٥٠، فكنت من ذلك الحين أعاود الكتابة بين الفينة
_________
١ نوادر المخطوطات ص٣ من المجلد الأول طبع لجنة التأليف سنة ١٩٥١. وإني لأشعر الآن بالغبطة إذ وجدت لتلك الدعوة صدى عميقا في أرجاء الجامعات بين أساتذتها وطلابها.
1 / 6
والأخرى، إلى أن كان صيف هذا العام، إذ اقترح الزميل الجليل الأستاذ أحمد الشايب أن أقوم بإلقاء عدة محاضرات في هذا الفن على طلبة "الماجستير" بكلية دار العلوم، فكانت هذه أول مرة في جامعاتنا المصرية الحديثة يعالج فيها هذا الضرب من تلك الدراسة الفنية، وكان للأستاذ الشايب بذلك فضل كبير في أن ترى كتابتي النور.
وعلمت أنه قد ألقيت من قبل في كلية الآداب بجامعتنا القديمة محاضرات تدور حول هذا الفن، ألقاها المستشرق الفاضل برجستراسر "BERGSTRAESSER" فحاولت جاهدًا أن أطلع على شيء منها فلم أوفق.
وأما بعد، فهذه ثمرة كفاح طويل، وجهاد صادق، وتجارب طال عليها المدى، ساعفتها عين ظلمة ناظرة إلى ما يصنع صاحبها وما يصنع الناس، فكان له من ذلك ذخر أمكنة أن يفتشه ويبحث في جنباته، ليرى وجه الحق فيما يرى، وأن يؤلف من ذلك كتابًا يعتز به ويغتبط اغتباطًا، إذ هو "أول كتاب عربي" يظهر في عالم الطبعة معالِجًا هذا الفن العزيز: فن تحقيق النصوص ونشرها.
إني إذ أقدم هذا البحث الجديد، أعلم علم اليقين أنه جهد متواضع، وأن شأنه كل كتابة جديدة قد يخطئها التوفيق في بعض الأمر، ويعوزها الكمال فإنه لم يخلق للبشر! ولكني مع ذلك مؤمن أني قد بذلت فيه جهدا معبرا عن أسرة التحقيق التي أرجوا أن يكثر عددها، كما كثر في ميدان العلم نفعها:
ومن الله العون، وبه التوفيق.
مصر الجديدة في غرة المحرم سنة ١٣٧٤
٣٠ من أغسطس سنة ١٩٥٤
1 / 7
مقدمة الطبعة الثانية:
هذه هي الطبعة الثانية من "تحقيق النصوص ونشرها" أقدمها مغتبطًا بها وبما كان لسابقتها من صدى متواضع في أرضنا العربية بله بلاد المستشرقين الذين كتبوا إلى مهنئين، وإن كان بعض إخواننا الدمشقيين ممن كنا نتوسم فيه النجابة -زعم بضعف نفسه، وبما يشعر به أمثاله من ذلة علمية، أني لم أطلع على ما كتب المستشرقون، فوضع بذلك على هامتي إكليلا أعتز به، إذ أمكنني بعون الله وحده أن أضع علما متكاملا لم أسبق إليه، دون أن أتطفل على مائدة كثيرا ما وضع فيها للعرب صحافة مسمومة، وموائد أسلافنا العرب حافلة بالجهود الوثيقة، والأمانة العلمية المرموقة.
فمن تجارب هؤلاء العرب الأمناء في هذا المجال الأمين، ومن تجاربي الخاصة التي حاولت فيها ترسم خطاهم الطاهرة، زهاء أربعين عاما، ومما رأيت وسمعت في انتباه ويقظة، أمكنني في هذا المجال الذي حافظ على القرآن الكريم وهو ما هو، وأحاديث الرسول وهي ما هي، أن أتخلص من إسار سادة هؤلاء الضعفاء، الذين لا يضعون قدما على قدم حتى تصدر إليهم إشارة بإصبع من زعماء هذا الاستعمار الثقافي.
إن المستشرقين إخواننا وشركاؤنا، ولكن ليس من الحكمة ولا الكرامة في شيء أن تكون خطانا متأثرة بخطاهم في كل أمر من أمورنا الثقافية، وأن نستعير عقولهم في صغار الأذلاء، وقد منحنا الله القدرة وحسن الفهم والدرس لما كتب بلغننا وبوحي نفوسنا العربية.
وإن أعجب فإنه ليشتد عجبي ممن يتغنى بفضل سادته هؤلاء، وينكر فضل أخيه العربي، ثم يزعم لنفسه كتابا يستخلص مادته وألفاظه وتنسيقه من كتابي هذا!
عفا الله عنهن وألهمنا وإياه الهداية والتوفيق.
مصر الجديدة ١٩ من المحرم سنة ١٣٨٠
٢٠ من مايو سنة ١٦٩٥
عبد السلام محمد هارون
1 / 8
المتن:
كيف وصلت إلينا الثقافة العربية؟
...
كيف وصلت إلينا الثقافة العربية:
كانت الرواية الشفوية أول محاولة لنشر العلم، والرواية هي الطريقة البدائية للعلم عند جميع الشعوب، ولكن الرواية العربية اقتربت منذ اللحظة الأولى بالحرص البالغ، والدقة الكاملة والأمانة. كان هذا أساسها على الأقل؛ لأن الدين يدعو إلى ذلك؛ ولأن كثيرًا من نصوص الكتاب، وكثيرًا من النصوص السنة كان شاهدًا من شواهد التشريع، وآية من آيات الفتوى، فالتزم القوم الأمانة والحرص فيها حين يروون كلام الله وكلام الرسول، بل حين يروون أشعار الجاهليين والإسلاميين وأيامهم ووقائعهم إلى حد ما.
وكانت الكتابة شيئًا جديدًا، فالعرب كانوا قومًا أميين لم تنتشر الكتابة بينهم إلا بدعوة الإسلام وبصنع الإسلام، ففي أعقاب غزوة بدر كان من طرق مفاداة أسرى المشركين أن يعلم الأسير عشرة من المسلمين الكتابة، فكان "زيد بن ثابت" كاتب رسول الله أحد هؤلاء الذين علمهم الأسرى، تعلمها في جماعة من الأنصار الذين لم يكن فيهم من يحسن الكتابة، كما ذكر المقريزي١. وكان "أبي بن كعب" أول أنصار كتب للرسول، و"عبد الله بن سعد بن أبي سرح" أو من كتب له من قريش، وكان عدة من كتب لرسول الله زهاء أربعين كاتبا تكفل ابن سيد الناس٢ بذكر أسماؤهم، وفي صدرهم الخلفاء الأربعة الراشدون.
_________
١ إمتاع الأسماع ١: ١٠١.
٢ عيون الأثر: ٣١٥-٣١٦.
أول نص مكتوب: كان هؤلاء الكتاب يكتبون وحي القرآن، ولحق رسول الله بالرفيق الأعلى
أول نص مكتوب: كان هؤلاء الكتاب يكتبون وحي القرآن، ولحق رسول الله بالرفيق الأعلى
1 / 9
وقد كتبوا القرآن كله، لم يكتبوا من الحديث إلا قليلًا، استجابة لما ورد في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه". رواه مسلم في صحيحه.
والحكمة في هذا ظاهرة، وهي الخشية من أن يختلط الوحي بحديث الرسول في أثناء نزول الكتاب، فصدر هذا الأمر محافظة على هذا الغرض الكريم، وكان بلا ريب موقتا بنزول القرآن. على أن المحققين من المحدثين يرون أن هذا الحديث قد نسخ بأحاديث أخرى تبيح الكتابة١:
منها ما رواه البخاري ومسلم أن أبا شاه اليمني٢ التمس من رسول الله ﷺ أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام الفتح فقال: "اكتبوا لأبي شاه".
وروى أبو داود والحاكم وغيرها عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت يا رسول الله، إني أسمع منك الشيء فأكتبه؟ قال: نعم قال: في الغضب والرضا؟ قال: "نعم، فإني لا أقول فيهما إلا حقا".
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: ليس أحد من أصحاب رسول الله ﷺ أكثر حديثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب.
وروى الترمذي ظن أبي هريرة قال: كان رجل الأنصار يجلس إلى رسول الله ﷺ فسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه فشكا
_________
١ الباعث الحثيث ١٤٧-١٤٩.
ويقال إنه كلبي، ويقال إنه فارسي وهاؤه أصلية ومعناه الملك. الإصابة ٦٠١ من باب الكنى.
1 / 10
ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال: "استعن بيمينك". وأومأ بيده إلى الخط.
ولما ولي الخلافة أبو بكر وكان ما كان من قتل القراء باليمامة عمد أبو بكر إلى جمع القرآن من صدور الرجال، ومن العسب والرقاع واللحاف والأكناف والأضلاع، فحفظ القرآن بذلك، وكان عمر بعده أول من جمع القرآن في مصحف. وتعدت مصاحف المسلمين حتى جمعهم عثمان على مصحف واحد، بعث إلى كل أفق بصورة منه.
لذلك نستطيع أن نقول: إن القرآن الكريم أول نص إسلامي مكتوب وصل إلينا.
أوائل التصنيف: ثم استفاض الإسلام واتسعت رقعته اتساعًا ظاهرًا في زمان الدولة الأموية، وأدى ذلك إلى اختلاط العرب بالأعاجم، ففسد اللسان، وكان طبيعيًّا أن يؤلف النحو وتوضع فيه أوائل الكتب، ويظل الحديث منأى عن الكتابة، إنما تعيه صدور الرواة وتكتبه قلة قليلة منهم في خوف وإشفاق، وتثور الفتن وتتفرع المذاهب وتكثر الفتاوى الدينية، فكان لا بد للناس من كتب في الدين يرجعون إليها لتكون لهم إماما، خشية أن يكون عمادهم أقوال مختلف العلماء ومذاهبهم التي قد توجهها الأهواء ونوازع السياسية والعصبية. فيدونون الحديث. ويذكرون أن الخليفة عمر بن عبد العزيز ظل يستخير الله أربعين يوما في تدوين الحديث، وخار له الله، فأذن لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في تدوين الحديث، فدون ما كان يحفظه في كتاب بعث به إلى الأمصار. وكان أبو بكر قاضيا وواليا على المدينة سنة ١٢٠.
أوائل التصنيف: ثم استفاض الإسلام واتسعت رقعته اتساعًا ظاهرًا في زمان الدولة الأموية، وأدى ذلك إلى اختلاط العرب بالأعاجم، ففسد اللسان، وكان طبيعيًّا أن يؤلف النحو وتوضع فيه أوائل الكتب، ويظل الحديث منأى عن الكتابة، إنما تعيه صدور الرواة وتكتبه قلة قليلة منهم في خوف وإشفاق، وتثور الفتن وتتفرع المذاهب وتكثر الفتاوى الدينية، فكان لا بد للناس من كتب في الدين يرجعون إليها لتكون لهم إماما، خشية أن يكون عمادهم أقوال مختلف العلماء ومذاهبهم التي قد توجهها الأهواء ونوازع السياسية والعصبية. فيدونون الحديث. ويذكرون أن الخليفة عمر بن عبد العزيز ظل يستخير الله أربعين يوما في تدوين الحديث، وخار له الله، فأذن لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في تدوين الحديث، فدون ما كان يحفظه في كتاب بعث به إلى الأمصار. وكان أبو بكر قاضيا وواليا على المدينة سنة ١٢٠.
1 / 11
ولم تزل جمهرة التابعين متورعة عن التدوين والتصنيف في الحديث، حتى تقلص ظل الدولة.
وكانت تظهر جهود أخرى في التأليف المبكر، تتمثل فيما ترجم لخالد بن يزيد بن معاوية من علوم اليونان، وما ألف هو من كتب في الطب والكيمياء، وما ألفه عبيد بن شرية لمعاوية من أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها. وقد طبع هذا الكتاب في حيدر أباد سنة ١٣٤٧ من رواية يظهر أنها لابن هشام. وما ألفه وهب بن منبه المتوفي سنة ١١٠ من كتاب التيجان في ملوك حمير.
وقد طبع هذا الكتاب من رواية ابن هشام سنة ١٣٤٧ من سابقه.
كما أدت إلينا الأخبار أن زياد بن أبيه وضع لابنه كتابا في مثالب العرب، وأن يونس بن سليمان وضع كتابا في الأغاني ونسبتها إلى المغنين، وأن ماسرجوية الطبيب، ترجم كتاب أهرب بن أعين من السريانية إلى العربية.
ويذكر ابن النديم١ أن كتابا كان موصوفا بحسن الخط، واسمه خالد ابن أبي الهياج، وكان سعد قد نصبه لكتابة المصاحف، كان يكتب الشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك.
ثم تنهض الدولة العباسية وينهض معها التدوين، ويتحرر المحدثون من هذا الترمت، وتوضع مسانيد الحديث وكتبه في كل صقع: يؤلف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس في المدينة، وعبد الله بن وهب بمصر، ومعمر وعبد الرزاق باليمن، وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة، وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصرة، وهشيم بواسط، وعبد الله بن المبارك بخراسان، وتظهر الكتب في شتى الفنون الدينية مختفظة بالطابع الذي غلب على المحدثين، وهو إسناد الرواية إلى مؤلف الكتاب، وتسرى بين المؤلفين قواعد يلتزمونها في السماع والرواية، والقراءة على الشيخ والإجادة، والمكاتبة
_________
١ الفهرست ٩.
1 / 12
والوجادة١. تسري هذه القواعد التي تكفك كتب مصطلح الحديث فيما بعد بتفصيلها وبيان شرائطها.
كان هذا كله مقرونًا بالحرص على الضبط والتصحيح، يقول ابن خلدون٢ "٧٣٢-٨٠٨":
"وكانت هذه الرسوم بالمشرق والأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك. ولهذا نجد الدواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان والإحكام والصحة، ومنها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك، وأهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن ويشدون عليها يد الضنانة. ولقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله لانقطاع صناعة الخط والضبط والرواية، بانتقاص عمرانه وبداوة أهله، وصارت الأمهات والدواوين تنسخ بالخطوط اليدوية، وتنسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط، وكثرة الفساد والتصحيف".
ثم يقول: "ويبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق، وتصحيح الدواوين لمن يروم ذلك سهل على مبتغيه، لنفاق أسواق العلوم والصنائع كما نذكره بعد. إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للنجم وفي خطوطهم وأما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشد".
وهذا التسجيل يوضح ما كانت عليه الكتب إلى القرن الثامن الهجري، من الإسناد والضبط والتصحيح.
_________
١ الوجادة: أن يجد حديثا أو كتابا بخط شخص بإسناده، فله أن يرويه على سبيل الحكاية فيقول: وجدت بخط فلان، ويسنده. ولا تعد الوجادة رواية معتمدة، وإنما هي حكاية عما وجده في الكتاب. والعمل بها منعه طائفة كبيرة من الفقهاء والمحدثين، ونقل عن الشافعي وأصحابه جواز العمل بها. قال ابن الصلاح: وقطع بعض المحققين من أصحابه بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به. قال ابن الصلاح: وهذا هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة، لتعذر شرط الرواية في هذا الزمان. يعني فلم يبق إلا مجرد وجادات. انظر الباعث الحثيث ص ١٤٢.
٢ المقدمة ص٣٦٨.
1 / 13
الورق والوراقون:
يذكر ابن النديم١ أن العرب كانت تكتب في أكتاف الإبل اللخاف وهي الحجارة البيض العريضة الرقاق، وفي العسب عسب النخل، وأنهم بعد ذلك كتبوا في الجلود المدبوغة. ويذكر أن الدباغة في أول الأمر كانت بالنورة وهي شديدة الجفاف، ثم كانت الدباغة الكوفية تدبغ بالتمر وفيها لين، ثم كتبوا في الورق الخراساني، وكان يعمل من الكتابن وحدث صنعه في أيام بني أميه وقيل في الدولة العباسية، وقيل إن صناعا من الصين عملوه بخراسان على مثال الورق الصيني الذي كان يصنع من الحشيشن ويذكر من أنواعه: السليماني، والطلحى، والنوحي، والفرعوني، والجعفري، والطاهري.
ويقول ابن خلدون: "وكانت السجلات أولا لانتساخ العلوم وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات والصكوك، في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، لكثرة الرفة وقلة التآليف صدر الملة، كما نذكره، وقلة الرسائل السلطانية والصكوك مع ذلك، فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفا للمكتوبات، ميلا بها إلى الصحة والاتقان. ثم طما بحر التأليف والتدوين وكثر ترسيل السلطان وصكوكه، وضاق الرق عن ذلك، فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد وصنعته وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية وبلغت الإجادة صناعة ما شاءت".
ويسجل الجهشياري٢ أن الورق كان مستعملًا بكثرة في أيام أبي جعفر المنصور، وأنه كان يجتلب من مصر، إذ لم تكن صناعة الورق قد أقيمت بغداد.
_________
١ الفهرست ٢١.
٢ الوزراء والكتاب ١٣٨.
1 / 14
قال: ووقف أبو جعفر على كثرة القراطيس في خزائنه، فدعا بصالح صاحب المصلى فقال له: إني أمرت بإخراج حاصل القراطيس في خزائننا فوجدته شيئًا كثيرًا جدًّا، فتول بيعه وإن تعط بكل طومار إلا دانقًا -الدانق سدس الدرهم فإن تحصيل ثمنه أصلح منه.
قال صالح: وكان الطومار في ذلك الوقت بدرهم. فانصرفت من خضرته على هذا، فلما كان في الغد دعاني فدخلت عليه فقال لي: فكرت في كتبنا وأنها قد جرت في القراطيس، وليس يؤمن حادث بمصر فتقطع القراطيس عنا بسببه، فنحتاج إلى أن نكتب فيما لم نعوده عمالنا، فدع القراطيس استظهارا على حالها.
ويعين ابن النديم فترة من الزمن في أيام الدولة العباسية كانت الناس فيها ببغداد لا يكتمون إلا في الطروس -والطرس في اللغة: الصحيفة تمحى ثم تكتب- وهذه الفترة هي سنون تلت نهب الناس للدواوين في أيام محمد بن زبيدة، وكانت الدواوين في جلود فكانت تمحى ثم يكتب فيها.
والظاهر أن العرب كانوا يكتبون في كل من الجلود والأوراق في عهد الدولة الأموية، وصدر صالح من عهد الدولة العباسية، وأن الورق لم يستعمل بكثرة ظاهرة إلا منذ أشار الفضل بن يحيى البرمكي بصناعة الكاغد.
ومن النصوص النادرة ما وجدنه في ترجمة الشافعي، في سير النبلاء للذهبي، أنه كان يكتب في الألواح والعظام.
ويذكر القلقشندي١ تعليلا للكتابة في الجلود، وهو قوله: "أجمع رأي الصحابة على كتابة القرآن في الرق لطول بقائه، أو لأنه الموجود عندهم حينئذ،
_________
١ صبح الأعشى ٢: ٤٨٦.
1 / 15
وبقي الناس على ذلك إلى أن ولي الرشيد الخلافة وقد كثر الورق، وفشا بين الناس، فأمر ألا يكتب الناس إلا في الكاغد؛ لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة، فتقبل التزوير، بخلاف الورق فإنه متى محي فيه فسد، وإن كشط ظهر كشطه. وانتشرت الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار، وتعاطاها من قرب ومن بعد".
مع ذلك ظل عِلْيةَ القوم يستعملون الجلود ويأنفون من الكتابة في الورق. وقد سجل الجاحظ في رسالة الجد والهزل١ التي ساقها إلى محمد بن عبد الملك بن الزيات، نقد محمد له في استعماله الورق وإهماله الجلود، ورده عليه فقال: "وما عليك أن تكون كتبي كلها من الورق الصيني ومن الكاغد الخرساني؟ قل لي: لم زينت النسخ في الجلود، ولم حثثتني على الأدم وأنت تعلم أن اجلود جافية الحجم، ثقيلة الوزن، إن أصابها الماء بطلت، وإن كان يوم لنق استرخت ولو لم يكن فيها إلا أنها تبغض إلى أربابها نزول الغيث، وتكره إلى مالكيها الحيا لكان في ذلك ما كفى ومنع منها. وقد علمت أن الوراق لا يخط في تلك الأيام سطرا، ولا يقطع فيها جلدا ... وهي أنتن ريحا وأكثر ثمنا وأحمل للغش، يغش الكوفي بالواسطي، والواسطي بالبصري ... ولو أراد صاحب علم أن يحمل منها قدر ما يكفيه في سفره لما كفاه حمل بعير، ولو أراد مثل ذلك من القطني لكفاه ما يحمل مع زاده.
وقلت لي: عليك بها فإنها أحمل للحك والتغيير، وأبقى على تعاور العارية وعلى تقليب الأيدي، ولرديدها ثمنن ولطرسها مرجوع ... وليس لدفاتر القطني أثمان في السوق وإن كان فيها كل حديث طريف، ولطف مليح، وعلم نفيس. وقلت: وعلى الجلود يعتمد في حساب الدواوين وفي الصكاك والعهود،
_________
١ رسالة الجاحظ ١: ٢٥٢-٢٥٣ تحقيق عبد السلام هارون.
1 / 16
وفي الشروط وصور العقارات، وفيها تكون نموذجات للنقوش، ومنها تكون خرائط البرد، وهن أصلح للجرب، ولعفاص الجرة، وسداد القارورة. وزعمت أن الأرضة إلى الكاغد أسرع، وأنكرت أن تكون الفأرة إلى الجلود أسرع، بل زعمت أنها الكاغد أسرع وله أفسد، فكنت سبب المضرة في اتخاذ الجلود والاستبدال والكاغد، وكنت سبب البلية في تحويل الدفاتر الخفاف في المحمل إلى المصاحف التي تثقل الأيدي، وتحطم الصدور، ونقوش الظهور، وتعمى الأبصار".
ويقول الجاحظ في الحيوان١: "وقيل لابن داحة وأخرج كتاب أبي الشمقمق، وإذا هو في جلود كوفية ودفتين طائفيتين بخط عجيب، فقيل له: لقد أضيع من تجود بشعر أبي الشمقمق! فقال: لا حرم والله، وإن العلم ليعطيكم على حساب ما تعطونه، ولو استطعت أن أودعه سويداء قلبي أو أجعله محفوظا على ناظري لفعلت! ".
فهذا كله آية على أن الجلودكانت مستعملة في العراق وما جاوره في كتابة دواوين العلم، إلى القرن الثالث الهجري، ودليل على أن الورق لم يحل محلها بصفة قاطعة.
ويروون أن الشافعي كان كثيرًا ما يكتب الرسائل على العظام لقلة الورق٢. أما في مصر فإن ورق البردي كان هو المادة الشائعة في الكتابة إلى أن حلت الجلود ثم الأوراق محلها.
الوراقون:
فرغنا من الحديث في الورق، ثم نفرغ للكلام على الوراقين.
_________
١ الحيوان ١: ٦١.
٢ المطالع النصرية ص١٨.
1 / 17
وقد عقد ابن خلدون لهم فضلا في مقدمته١ بسط فيه صناعتهم فقال: كانت العناية قديما بالدواوين العلمية والسجلات في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط، وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة، وقد ذهب العهد بذهاب الدولة وتقلص العمران، بعد أن كان منه في الملة الإسلامية بخر زاخر بالعراق والأندلس، إذ هو كله من توابع العمران واتساع نطاق الدولة، ونفاق أسواق ذلك لديهما، فكثر التآليف العليمة والدواوين، وحرص الناس على تناقلها في الآفاق والأمصار، فانتسخت وجلدت، وجاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدواوين، واختصت بالأمصار العظيمة العمران".
ويفهم من هذا أن الوراقة جاءت تابعة لقوة الدولة واتساع الحضارة، وأن الوراقين كان لهم مكان في الأمصار العظيمة والبلدان الكبيرة، فهم بمثابة المطابع الحديثة التي تحتل أمصار بلادنا الآن. وكانت مهمتهم موزعة بين الانتساخ، والتصحيح، والتجليد، والتذهيب، وكل ما يمت إلى صناعة الكتب بصلة".
وكانت لهم أسواق في بعض الأمصار، كانت بمثابة المعاهد العلمية وجاءت في فهرست ابن النديم٢ عن ابن دريد قال: "رأيت رجلا في الوراقين بالبصرة يقرأ كتاب المنطق لابن السكيت".
وكانت صناعة هؤلاء الوراقين رائجة رواجا. فالجاحظ٣ يذكر أن يحيى بن خالد البرمكي لم يكن في خزانة كتبه كتاب إلا وله "ثلاث نسخ".
_________
١ المقدمة ٣٦٧-٣٦٨.
٢ الفهرست ص٨٢.
٣ الحيوان ١: ٦٠.
1 / 18
ويذكر المقريزي أنه كان في خزانة العزيز بالله ٣٠ نسخة من كتاب العين و١٠٠ نسخة من الجمهرة. وأنه كان في خزانة كتب الفاطميين ١٢٠٠ نسخة من تاريخ الطبري١.
وكان العلماء يستعينون بالوراقين في التآليف.
قال أبو بريدة الوضاحي٢: أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو، وما سمع من العرب، فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار، ووكل بها جواري وخدما للقيام بما يحتاج إليه، حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء، حتى إنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصبر له الوراقين يكتبون، حتى صنف كتاب الحدود.
وكانت ثقة القوم بالوراقين نازلة، لأنهم لم يكونوا في الغالب من العلماء أو من أهل الرواية، بل هم أهل صناعة وتكسب. وقد عرف الطعن فيهم قديما. قال ثعلب٣ في الكلام على كتاب العين: "وقد حشا الكتاب أيضا قوم علماء، إلا أنه لم يؤخذ منهم رواية، ت وإنما وجد بنقل الوراقين، فاختل الكتاب لهذه الجهة".
ومن أوائل هؤلاء الوراقين خالد بن أبي الهياج الذي سلف ذكره في فصل أوائل التصنيف، كان موصوفا بحسن الخط، قال ابن النديم: "وهو الذي كتب الكتاب الذي قبله مسجد النبي ﷺ بالذهب من: "الشَّمْسِ وَضُحَاهَا" إلى آخر القرآن. فيقال إن عمر بن عبد العزيز قال: "أريد أن تكتب لي مصحفا على هذا المثال". فكتب له مصحفا تنوق فيه، فأقبل
_________
١ المزهر ١: ٨٧.
٢ معجم الأدباء ٢٠: ١٢.
٣ المقريزي ٢: ٢٥٣-٢٥٥.
1 / 19
عمر يقلبه ويستحسنه واستكثر ثمنه فرده عليه.
ومنهم مالك بن دينار السامي، مولى بن سامة بن لؤي، أبو يحيى البصري الزاهد؛ كان أبوه من سبى سجستان؛ وكان يكتب المصاحف بأجرة ويتقوت بذلك.
وممن كان يتقوت بالنسخ من العلماء أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم المهندس البصري، نزيل مصر، المتوفى نحو سنة ٤٣٠. ذكر القفطي١ أنه كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب في ضمن أشغاله، وهي إقليدس، والمتوسطات والمجسطي، ويتكلم في مدة السنة؛ فإذا شرع في نسخها جاءه من يعطيه فيها مائة وخمسين دينارًا مصرية، فجعلها مؤونة لنفسه.
ومن العلماء الوراقين أبو موسى الحامض٢، أبو عبد الله الكرماني٣.
ومن طريف ما يروى عن أحد النحاة، وهو يحيى بن محمد الأرزني، ما ذكره ياقوت٤ في شأنه إذ يقول: "إمام في العربية مليح الخط سريع الكتابة، كان يخرج في وقت العصر إلى سوق الكتب ببغداد فلا يقوم من مجلسه حتى يتب الفصيح لثعلب، وبيعه بنصف دينار، ويشتري نبيدا ولحما وفاكهة، ولا يبيت حتى ينفق ما معه منه".
ويروى ابن النديم٥ في ترجمته ليحيى بن عدي المنطقي النصراني أن يحيى
_________
١ إخبار العلماء ١٥٥.
٢ الفهرست ١١٧.
٣ الفهرست ١١٨.
٤ إرشاد الأريب ٢٠: ٣٤-٣٥. وانظر البغية ٤١٦.
٥ الفهرست: ٢٦٩.
1 / 20
كان ينسخ كتب التفسير والكلام، مع أنه كان من النصارى اليعقوبية. وهذا أمر عجب. ويذكر أنه لقيه وعاتبه على كثرة نسخه، فقال له: من أي شيء تعجب في هذا الوقت من صبري. قد نسخت بخطي نسختين من التفسير للطبري، وحملتها إلى ملوك الأطراف؛ وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى، ولعهدي بنفسي وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة وأقل.
وهذا النص وسابقه يبين لنا قوة المرانة التي كانت لهؤلاء الوراقين في سرعة الخط.
وممن عرف بسرعة الخط هشام بن يوسف الراوي القاضي، قال عن نفسه: قدم سفيان الثوري اليمن فقالوا: اطلبوا كاتبا سريع الخط. فارتادوني فكنت أكتب١.
ومنهم أبو علي الحسن بن شهاب العكبري. قال
السمعاني٢:
كان حسن الخط يكتب بالورقة، وكان سريع القلم صحيح النقل وكان يقول: كتبت في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم راضية.
وقد عثرت في تاريخ بغداد للخطيب٣ في ترجمة الفراء علىنص يلقي ضوءا على الأجور التي كان الوراقون يتقاضونها في عهد الدولة العباسية. وذلك عند الكلام على كتاب "المعاني للفراء": أنه لما فرغ من كتاب المعاني "خزنه الوراقون عن الناس ليكسبوا به، وقالوا: لا تخرجه إلا لمن أراد أن ننسخه له على خمس أوراق بدرهم. فشكا الناس إلى الفراء، فدعا الوراقين فقال لهم في
_________
١ تهذيب التهذيب ١١: ٥٧.
٢ في الأنساب ٣٩٦.
٣ تاريخ بغداد ١٤: ١٥٠. ونقله عنه ابن خلكان في ترجمته. وذكر الخبر أيضا ياقوت في معجم الأدباء ٢٠: ١٢-١٣.
1 / 21
ذلك، فقالوا: إنما صحبناك لننتفع بك، وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من حاجة ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا نعيش به. فقال: فقار بوهم تنفعوا وينتفعوا فأبوا عليه، فقال: سأريكم، وقال للناس: إني ممل كتاب معان أتم شرحا وأبسط قولا من الذي أمليت. فجلس يملي فأملى الحمد في مائة ورقة، فجاء الوراقون إليه وقالوا: نحن نبلغ الناس ما يحبون. ننسخوا كل عشر أوراق بدرهم.
وهذا الأجر ينبئ في جلاء واضح عن كثرة الوراقين بالقدر الذي يهبط به لأجر إلى هذا المستوى.
وعثرت كذلك على نص نادر لابن النديم في الفهرست١، يذكر فيه مقدار الورقة التي يعنيها في كتابه، وهي الورقة السليمانية، قال:
"فإذا قلنا: إن شعر فلان عشر ورقات فإنا إنما عنينا بالورقة أن تكون سليمانية، ومقدار ما فيها عشرون سطرًا، أعطني في صفحة الورقة".
وليس معنى هذا أن مقدار الورقة في المخطوطات القديمة تعني هذا القدر فإن مقادير الأوراق تتفاوت بلا ريب بين المخطوطة والأخرى. وإنما ذكرت هذا تسجيلا لما يعني ابن النديم في كتابه.
ومما يعنينا تسجيله أيضا ما ذكر في تقدير "المجلد" قديما. جاء في ترجمة يحيى بن المبارك اليزيدي عند ابن خلكان٢ عن أبي حمدون الطيب قال: شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريبا من ألف مجلد، عن أبي عمرو بن العلاء خاصة، فيكون ذلك عشرة آلاف ورفة؛ لأن تقدير المجلد عشر ورقات.
_________
١ الفهرست ٢٢٧.
٢ الوفيات ٢: ٢٣٠.
1 / 22
فكأن المجلد أطلق قديما على ما يسمى بالكراسة، التي هي إلى وقتنا هذا تقدر بعشر ورقات.
أما تقدير المجلد حديثًا فليس له معيار معين.
وكان بعض الوراقين يتجازون مهمتهم الأصيلة إلى صناعة التأليف. قال ابن النديم١:
"كانت الأسمار والخرافات مرغوبا فيها مشتهاة في أيام خلفاء بن العباس وسيما في أيام المقتدر، فصنف الوراقون وكذبوا، فكان ممن يفتعل ذلك رجل يعرف بابن دلان، واسمه أحمد بن محمد بن دلان، وآخر يعرف بابن العطار، وجماعة".
وكما كان هناك وراقون قد نصبوا أنفسهم لهذه الصناعة في السوق، كن هناك وراقون خاصون. فمنهم دماذ أبو غسان٢ كان يروى عن أبي عبيدة، وكان يورق كتبه، وأخذ عنه الأنساب والأخبار والمآثر.
وكان لأبي عثمان الجاحظ أكثر من وراق؛ فمنهم أبو يحيى زكريا بن يحيى ذكره القالي في الأمالي٣، وياقوت في معجم الأدباء نقلا عن ابن النديم٤. ومنهم أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى، ذكره الخطيب لي تاريخ بغداد٥ والزبيدي في تاج العروس، وكانت وفاته سنة ٣١٩ فيما ذكره الخطيب.
وكان لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد وراقون٦ منهم ابن الزجاجي واسمه
_________
١ الفهرست ٤٢٨.
٢ الفهرست ٨١.
٣ الأمالي ١: ١٤٨
٤ معجم الأدباء ١٣: ١٠٦
٥ تاريخ بغداد ٥٦٩٥.
٦ تاج العروس ١٠: ١٠٨.
1 / 23