آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٢٩)
تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(٦٩١ هـ - ٧٥١ هـ)
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
مقدمة التحقيق
الحمد لله ولي النِّعم، وصلى الله على نبيه الأكرم، ورسوله الأعظم، وعلى آله وصحبه وسلّم.
أما بعد؛ فهذا كتاب «تهذيب سنن أبي داود» للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيِّم الجوزية، نقدّمه اليوم للقراء ضمن سلسلة مشروع «آثار الإمام ابن القيم»، وقد تغيّينا فيه إخراجَه على الطريقة التي انتهجناها في إخراج كتب الإمام ابن القيم، والعناية بها، بتحرير نص الكتاب كما ينبغي، والتعليق عليه بما يستحق.
وهذا الكتاب الجليل لم ينل حقَّه اللائقَ به من الإخراج والعناية، وانعكس ذلك على قلّة الإفادة من مباحثه وعلومه، ولعل السبب يعود إلى طريقة «تجريده» كما سيأتي، وإلى طريقة طبعه وإخراجه كما سنشرحه في المباحث الآتية.
ومهما يكن من أمر، فقد اجتهدنا في إخراجه بالطريقة اللائقة به من الناحية العلمية، ومن الناحية الفنية، ومن ناحية التكشيف والفهرسة، حتى يمكن الإفادة منه بأسهل سبيل.
وكتابنا هذا كتابُ عِلَل ونَقْد حديثي من طراز عال، وكتاب فقه واستنباط وغوص لاستخراج اللآل، يغلب على مباحثه وعلومه هذان الفنّان، مع مباحث في فنون عديدة في الأصول والقواعد واللغة والحديث والتاريخ، بلغ المؤلف فيها إلى الغاية، فكانت في سماء العلم آية!
وغالب تعليقات الإمام في هذا السفر يستفيد منها المتبحّر المنتهي، ولا يبلغ مداها الطالب المبتدي، فربما مرت على الطالب الفائدةُ النادرةُ لا
المقدمة / 5
يكشف لها سِترًا، في حين يراها اللوذعيُّ ذهبًا خالصًا وتِبْرًا!
وننبه في هذا التصدير أن كتاب ابن القيم لم يصلنا كما وضعه مؤلّفُه، وإنما وصل تجريده لمحمد بن أحمد السعودي، وقد جرّده على نهجٍ سديد حافَظَ فيه على فوائد الأصل، وترك ما كان اختصارًا لكلام المنذري، فلم يَفُتْه من كلام ابن القيم ــ في الغالب ــ إلا ما كان تهذيبًا لكلام المنذري، وذلك شيء يسير إن شاء الله.
قدّمنا بين يدي الكتاب جملةً من المباحث هي:
- اسم الكتاب.
- تاريخ تأليفه.
- نسبته للمؤلف.
- وصف الكتاب.
- وصف التجريد.
- ترجمة المجرِّد.
- أهمية الكتاب وقيمته العلمية.
- منهج المؤلف في كتابه.
- موارد المؤلف.
- أثره في الكتب اللاحقة
- طبعات الكتاب.
- مخطوطات الكتاب.
- منهج التحقيق.
المقدمة / 6
وقد اقتسمنا تحقيق الكتاب كالآتي: المجلَّد الأول حقَّقه علي العمران، والمجلّدان الثاني والثالث حقّقهما نبيل السِّنْدي، واشتركنا في مباحث المقدّمة.
ثم ختمناه بالفهارس التفصيلية الكاشفة عن محتوياته وعلومه، واشترك معنا في صُنع بعض الفهارس منها الأخ الباحث في المشروع: سراج منير، إضافةً إلى ما قام به من مقابلة نسختَي (ش) و(هـ) ومراجعة تجارب الطبع.
وقام بصف الكتاب وإخراجه النهائي، وعملِ فهرس الآيات القرآنية وترتيب بقية الفهارس الأخ الفاضل: خالد محمد جاب الله، فجزاه الله خيرًا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
٢١/محرم/١٤٣٧ هـ
المقدمة / 7
اسم الكتاب
جاء اسم الكتاب في المصادر على عدة أنحاء:
١ - «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته» هذا نص المؤلف في تسميته كما في «زاد المعاد»: (١/ ١٤٨) فإنه أحال عليه وقال: «وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته»، وبذلك سمّاه معاصره الصفديّ (٧٦٤) في كتابيه «أعيان العصر» و«الوافي بالوفيات» (^١).
٢ - وجاء نحوه في نسخة خدابخش، وعند تلميذه ابن رجب الحنبلي (٧٩٥) (^٢)، وتبعه العُلَيمي (٨٨٥) (^٣) بحذف وزيادة، ففيها: «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة».
٣ - وورد الاسم عند ابن ناصر الدين الدمشقي (٨٤٢) (^٤) كما عند ابن رجب مع تغيير في آخره: «والكلام على أحاديثه المعلّة».
٤ - وجاء الاسم مقتصرًا على مصراعه الأول «تهذيب سنن أبي داود» عند المؤلف في «بدائع الفوائد»: (٢/ ٦٦٨)، وفي «مفتاح دار السعادة»: (٢/ ١١٠٢)، وعند السيوطي (٩١١) في «بغية الوعاة» (^٥).
_________
(^١). «أعيان العصر»: (٤/ ٣٧٠)، «الوافي بالوفيات»: (٢/ ١٩٦).
(^٢). «ذيل طبقات الحنابلة»: (٥/ ١٧٤ - ١٧٥).
(^٣) «المنهج الأحمد»: (٥/ ٩٥).
(^٤). «توضيح المشتبه»: (٤/ ٢٨٩)، وتابعه الداوودي في «طبقات المفسرين»: (٢/ ٩٥)، وابن العماد في الشذرات: (٦/ ١٦٨).
(^٥). (١/ ٦٣).
المقدمة / 8
وأما ما جاء في نسخة الأصل الخطية من قول المجرِّد: «هذا ما منَّ به الرحيم الودود من تمييز زوائد حواشي مختصر سنن أبي داود التي زادها الشيخ الإمام الحافظ الحجة شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية» (^١). فنقول: هذه التسمية من مُجَرِّد الكتاب محمد بن أحمد السعودي لا من المؤلف، ذلك أنه لم ينسخ أصل الكتاب كما تركه المؤلف بل اختصره وتصرّف فيه ــ كما سيأتي مشروحًا ــ، ثم أطلقَ على تجريده هذا هذه التسمية.
وكذلك ما جاء على الورقة الظهرية من نسخة المدرسة العثمانية بالهند من تسميته «شرح سنن أبي داود»، فلا يعدو أن يكون تصرفًا من الناسخ أو من أحد مُلّاك النسخة لا تسميةً للمؤلف.
وعليه فيمكننا القول: إن أقرب اسم يصدق على الكتاب هو ما أطلقه المؤلف نفسه على كتابه، وهو الاسم الذي ذكره في «زاد المعاد» وسماه به عصريُّه الصفدي، وهو في الحقيقة لا يختلف كثيرًا عن إطلاق ابن رجب، ولا يختلف أيضًا عن التسمية المختصرة بالمصراع الأول (تهذيب السنن)، أما ما في نسخة الأصل فهو اسم لعمل المجرّد لا للكتاب كما سلف.
* * * *
_________
(^١). ذكر شيخنا العلامة بكر أبو زيد ﵀ في كتابه «ابن القيم: حياته آثاره موارده» (ص ٢٣٦) ــ تعليقًا على كلام الأستاذ محمود شويل لما ذكَر هذه التسمية ــ أنه لم يحصل الوقوف على سَلفٍ له في هذا. وصدق الشيخ في كونه لا سلف له في هذه التسمية، وأما عن وجودها فهي مكتوبة في صفحة عنوان النسخة الخطية للأصل.
المقدمة / 9
تاريخ تأليفه وما إليه
قد أحسن المجرِّدُ صُنعًا إذ نقل مقدّمة المؤلف وخاتمته دون تصرف، وكان مما في خاتمة المؤلف نصُّه على مكان تأليفه، وسَنَة تأليفه، وكم استغرق فيه.
قال المؤلف: «ووقع الفراغ منه في الحِجْر شرّفه الله تعالى، تحت ميزاب الرحمة في بيت الله، آخر شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان ابتداؤه في رجب من السنة المذكورة» (^١).
فأفاد هذا النص ما يلي:
مكان التأليف: بمكة المكرمة، في بيت الله الحرام، ووقع الفراغ منه في الحجر، تحت ميزاب الرحمة.
تاريخه: ابتدأ تأليفه في رجب سنة ٧٣٢، وانتهى منه في آخر شوال من السنة نفسها. وعمره واحد وأربعون عامًا.
مدة التأليف: بناءً على التاريخ المذكور فإن مدة التأليف لا تزيد عن أربعة أشهر.
أما هذا التجريد الذي وصلنا للكتاب فتاريخ كتابته في يوم الأربعاء منتصف ربيع الأول سنة ٧٩٠، كما نصّ عليه المجرّد في آخر النسخة، أي بعد موت المؤلف بتسع وثلاثين سنة، وبعد تأليف الكتاب بثمان وستين سنة. فهو تجريد قديم للكتاب، والظاهر أنه اشتهر أكثر من أصله، فكل النسخ التي وصلتنا منقولة من هذا التجريد.
_________
(^١). (ق ٢٧٤ أ- ب).
المقدمة / 10
أمَّا حجمه، فقد ذكر الصفدي في كتابيه «الوافي» و«الأعيان» أنه في «نحو ثلاثة أسفار»، وأما ابن رجب في «الذيل» ومن تبعه كالعليمي والداوودي وغيرُهم فذكروا أنه في مجلَّد.
فهل ما ذكره الصفدي وهم، أو يمكن أن يعود ذلك إلى اختلاف النسخ فبعضها في مجلد وبعضها في ثلاثة؟ وهل من الجائز أن يكون وصف الصفدي للكتاب الأصل قبل تجريده ووصف ابن رجب لـ «التجريد»؟ الاحتمال الأخير بعيد، لأن المجرِّد انتهى من تجريده سنة ٧٩٠، وتأليف ابن رجب للذيل سابق لهذا التاريخ. فالاحتمال الأقرب أن الاختلاف عائد إلى اختلاف النسخ، والله أعلم.
* * * *
المقدمة / 11
إثبات نسبته للمؤلف
الكتاب ثابت النسبة للمؤلف بالقرائن الآتية:
١ - ذكره المؤلف نفسه في عدد من كتبه، وأحال إليه لاستيفاء مباحث ذكرها في كتبه، فقد ذكره في «زاد المعاد»: (١/ ١٤٨) فقال: وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب «تهذيب سنن أبي داود. . .» عند رواية أبي إسحاق السَّبِيعي لحديث عائشة «أنه كان ربما نام ولم يمَسَّ ماءً» (التهذيب: ١/ ١٣٧ - ١٤٠).
وذكره في «بدائع الفوائد»: (٢/ ٦٦٨) وأحال إليه عند مسألة دخول الواو في قوله: «إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» وهل الصواب حذفها؟ (التهذيب ٣/ ٤٣٣ - ٤٣٦).
وذكره في «مفتاح دار السعادة»: (٢/ ١١٠٢) وأحال إليه عند مسألة المماثلة في القصاص بأن يُفعل بالجاني كما فَعل (التهذيب ٣/ ١٢٨ وما بعدها).
٢ - ذكره له مترجموه من معاصريه وتلاميذه ومَن بعدهم، مثل ابن رجب الحنبلي، والصلاح الصفدي، وابن ناصر الدين الدمشقي والسيوطي والداوودي وغيرهم.
٣ - ذِكره لشيخ الإسلام ابن تيمية ونقله عنه في مواضع عديدة، شأنه في باقي كتبه من الإكثار من النقل عنه وتهذيب كلامه، مصرحًا به حينًا، وغير مصرّح أحيانًا أخرى.
٤ - طريقته واحدة في بحث المسائل وبسط الكلام عليها في كتابه هذا وفي كتبه الأخرى، لا يستريب فيه من له فضل عناية بكتب الشيخ.
المقدمة / 12
٥ - تطابق عدة مباحث مع ما في كتبه الأخرى، كما في «رفع اليدين في الصلاة» (ص ٢٣٦ - ٢٥٢) في نقله لكلام ابن القطان بطوله والرد عليه «التهذيب»: (١/ ١٨٧ - ٢٠٣)، ومسألة الطلاق الثلاث، ومسائل أخرى.
٦ - نَقْل العلماء عنه وعزوهم إليه، فقد نقل منه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»، والسفّاريني في «كشف اللثام»، وغيرهما كما سيأتي عند ذكر أثره في الكتب اللاحقة.
وغير ذلك من القرائن التي تفيد ثبوت الكتاب لمؤلفه.
* * * *
المقدمة / 13
وصف الكتاب
كتابنا هذا تهذيبٌ لـ «مختصر سنن أبي داود» للمنذري (ت ٦٥٦). وذلك أن المؤلف إبّان إقامته بمكة المكرمة أتى على «مختصر المنذري» من أوله إلى آخره مهذِّبًا ومختصِرًا، ومضيفًا إليه ومستدركًا عليه.
ولم يقتصر التهذيب على مواضع من «مختصر المنذري» بل هذّبه كاملًا، وقد أبان عن ذلك المؤلف نفسه في مقدمة كتابه حيث قال: «هذَّبتُه [أي «مختصر المنذري»] نحو ما هذَّب هو به الأصل، وزدْتُ عليه من الكلام على عللٍ سكت عنها أو لم يكملها، والتعرُّضِ إلى تصحيح أحاديثَ لم يصححها، والكلامِ على متون مشكلة لم يفتَحْ مقفَلَها، وزيادةِ أحاديثَ صالحةٍ في الباب لم يشر إليها، وبَسْطِ الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه».
هكذا كان أصل الكتاب، لكن لم يصلنا كما تركه مؤلفه، بل الذي وصلنا منه هو تجريده الذي صنعه محمد بن أحمد السعودي، فإنه جرّد كلام المؤلف الذي زاده على كلام المنذري في «مختصره». وإليكم وصف هذا «التجريد»:
* * * *
المقدمة / 14
وصف التجريد
وضَّح المجرِّدُ طريقتَه في الكتاب غاية التوضيح في خاتمة عمله، ونحن ننقل نصه، ونقسّم كلامه إلى فقرات توضّح مقصده وعمله:
- طريقته فيه:
قال: «هذا آخر ما كتبتُه مما زاده الشيخ الإمام العلامة الحافظ الحجة إمام الدنيا شمس الدين أبو عبد الله محمد، الشهير بابن قيِّم الجوزيَّة، تغمَّده الله تعالى بغفرانه، وأسكنه بُحْبُوحة جِنانِه.
ولستُ أدَّعي الإحاطةَ بجميع ما كتبه، بل الغالب والأكثر. وقد سقط منه القليل جدًّا لتعذُّر كتابته، فعساه زاد لفظةً أو لفَظاتٍ في أثناء كلام، فلم يمكنِّي إفرادُها لاتصالها بكلام كثير للمنذري، ولم يمكن كَتب ذلك الكلام الذي للحافظ المنذري كله، فحذفت الزيادة قصدًا لذلك.
وكلُّ ما كان عليه علامة «م» فهو من كلام المنذري. ولا أذكر من كلام المنذري إلا ما قوي اتصاله بكلام الحافظ ابن القيم، فلم يمكن فهمه إلا بذكره عُقباه.
وكلُّ ما كان عليه «ش» فهو إشارة إلى الشيخ شمس الدين، لأنّ أول لقبه الشين، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لأعلمتُ له «ق»، إذ هو مشهور بأبيه، ولم أكتب هذا إلا في الجزء الثاني (^١) لمّا طال اسمهما وتكرَّر».
_________
(^١). في الجزء الأول كانت عبارته: «قال المنذري»، و«قال ابن القيم» أو «قال الشيخ شمس الدين» ونحوها.
المقدمة / 15
- غرضه من التجريد:
قال: «وقد تعبتُ في تجريد هذه الزوائد لكني استفدت بها مقصدَين من أعظم المقاصد، أحدهما: مطالعة الكتاب، والثاني: تسهيل هذه الزيادات على الطلاب.
واعْلم أنّ هذا التجريد أفاد أمرًا حسنًا وفضلًا بيِّنًا، وذلك أنّ الناظر في كتاب الحافظ المنذري لا يستغني عمّا زاده عليه الحافظ ابن القيم، والناظر في كلام الحافظ ابن القيم لا يستغني عن كتاب الحافظ المنذري، لأنّ الشيخ ابن القيم لم يكتب في كتابه جميع ما حشّى به الإمام المنذري، بل كثيرًا ما يحذف منه فوائد لا تُعَدّ ولا تُحصَى لكثرتها، فإذا كان عند الإنسان كتاب المنذري وهذا التجريد استغنى به عن طُول النظر في كتاب الحافظ ابن القيم. ثم ولو نظر في كتاب ابن القيم لا يقدر على التمييز بين كلامه وكلام المنذري حتى يقابل البابَين اللذَين ينظر فيهما معًا ــ كما فعل كاتبه ــ فتتبيَّنَ له الزيادة، فيحتاج إلى طول زمان، والعمرُ قصير، والشغل كثير، والأجل في مسير!».
ونقل المجرّد مقدمة وخاتمة ابن القيم لتهذيبه فحفظ لنا بذلك غرض ابنِ القيم ومنهجَه وطريقتَه في كتابه.
وقد كان يظن كثيرون إلى عهد قريب ــ وأنا منهم ــ أن ابن القيم في «تهذيب السنن» إنما علَّق حواشيَ على طُرَر نسخته من «مختصر المنذري» ضمّنها تعليقات وتعقيبات وشروحًا على أحاديث متفرقة في الكتاب، ولعل الذي رسّخ هذا الظنَّ هو نشرات كتاب «التهذيب» السابقة إذ كانت في هامش «المختصر» أشبه شيء بالتعليق والتنكيت والاستدراك على المنذري.
المقدمة / 16
فلما وقفنا على نسخة الكتاب الخطية، وقرأنا مقدمةَ المؤلف وخاتمتَه، وكلامَ المجرِّد والعنوانَ الذي وضعه، تبين لنا أننا أمام تجريد لزوائد كلام ابن القيم وليس نَسْخًا لكتابه كاملًا.
- مؤاخذات على التجريد:
وإن كان المجرّد قد بذل جهدًا كبيرًا لاستخلاص زيادات ابن القيم على كلام المنذري الممزوج به من «تهذيب السنن»، إلا أن عمله اعتراه إعواز في مواضع، من أهم ذلك:
١ - أن المجرِّد أخلَّ بنقل بعض كلام المؤلف مما أحدث خللًا في فهم باقيه، كما في باب في تسوية القبر (٢/ ٣٧٨)، وباب في تمرة العجوة (٢/ ٦٣٣)، وأحيانًا يشير إليه دون أن يسوقه، كما في كتاب المهدي (٣/ ٩٠) وإنما تبيّن كل ذلك واستُدرك الخلل من النسخة الهندية (هـ) التي عثرنا عليها بأخرة.
٢ - في أبواب كثيرة ذكر المجرِّد ترجمة الباب ثم ذكر كلام ابن القيم، دون أن يعيِّن الحديث الذي وقع التعليق عقبه ولا القدر الذي ساقه من كلام المنذري.
٣ - في مواضع نقل لنا بعض الأبواب التي ليس فيها زيادات للمؤلف، بل لا يزيد كلامُه على ما ذكره المنذري في «المختصر». انظر: باب في الكفن (٢/ ٣٤٨)، وباب في الأدوية المكروهة (٢/ ٦٣١ - ٦٣٢).
٤ - في آخر الكتاب أخذ المجرِّد يسرد تعليقات ابن القيم على بابين مختلفين أو على أحاديث متفرقة في الباب الواحد ويسوقها مساقًا واحدًا
المقدمة / 17
دون أي فصل بينه أو إشارة. انظر: باب في حسن الخلق (٣/ ٣٤٩)، وباب في تنزيل الناس منازلهم (٣/ ٣٥٦)، وباب فيما جاء في المملوك إذا نصح (٣/ ٤٣٠).
* * * *
المقدمة / 18
ترجمة المجرّد
جاء اسم المجرِّد على ورقة العنوان في نسخة الأصل وفي خاتمته: «محمد بن أحمد السعودي»، وفي الخاتمة أنه فرغ من تجريده في شهر ربيعٍ الأول سنة تسعين وسبعمائة. والمسمى بهذا الاسم في ذلك العصر ــ بحسب ما وقفنا عليه ــ اثنان اشتركا في الاسم واسم الأب والجد والشهرة، هما:
الأول: محمد بن أحمد بن عمر بن محمد بن عمر الشمس النحريري ثم القاهري الشافعي المؤدب الضرير.
يُعرف بـ «السعودي» نسبةً لقريب له كان يخدم الشيخ أبا السعود. قال السخاوي: ورأيت من قال ممن نسخ له شيئًا قديمًا: إنه يُعرَف بابن أخي السعودي، فكأنه ترك تخفيفًا. وُلد سنة ٧٥٦ بمصر وحفظ القرآن واشتغل في الفقه، وفي القاهرة واشتغل على السِّرَاجَين ابن الملقن (ت ٨٠٤) والبُلقيني (ت ٨٠٥)، ولازم الأخير منهما وخدَمَه وصار يجمع له أجرة أملاكه.
وسافر إلى القدس مرّتين ودخل الاسكندرية وحجَّ فأخذ عن جماعة هناك، قال ابن حجر: ولم يمعن في ذلك لأنه لم يكن من أهل الفن، ولا صَحِب من يدرِ به (^١).
ثم استوطن القاهرة وتكسّب بتأديب الأطفال في المسجد فانتفع به من لا يُحصى كثرةً، وذكر السخاوي منهم والدَه وعَمَّه وشيوخه كالجلال بن
_________
(^١). كذا ولعلها: «من يدريه».
المقدمة / 19
الملقن (ت ٨٧٠) والبهاء البالسي (ت ٨٥٩) في آخرين.
قال السخاوي: وقد جوَّدتُ عليه القرآن بتمامه حين انقطاعه بمنزله ودرَّبني في آداب التجويد، وقرأت عليه تصحيحًا في «العمدة» (^١) وغيرها. مات في رمضان سنة ٨٤٩ بعد أن انهشم وتحطم (^٢).
الثاني: محمد بن أحمد بن عمر الشمس أبو عبد الله القاهري السعودي الحنفي.
ناب في الحكم وتصدَّى للتدريس. قال السخاوي (^٣): ورأيت له كراريس من مصنَّف سماه «تهذيب النفوس» شبه الوعظ. وقد رافق برهانَ الدين سبطَ ابن العجمي الحلبي (ت ٨٤١) في السماع على الطبردار الحراوي (ت ٧٨١) صاحبِ الحافظ شرف الدين الدمياطي (ت ٧٠٥) في «فضل العلم» و«خماسيات ابن النقور»، فتوهّمه بعض أصحابنا فقيهَنا الشمس السعودي الماضي قريبًا لاشتراكهما في الاسم واسم الأب والجد والشهرة، وهو غلط فذاك شافعي تأخر عن هذا.
وذكر السخاوي إجازةً منه لأحد تلاميذه سنة ٨٠١ اطَّلع عليها، ووصفه بحسن الخطِّ والعبارة.
ومن مؤلفاته: «الدر الرصين المستخرج من بحر الأربعين»، له نسخة
_________
(^١). الظاهر أنه «العمدة في فروع الشافعية» لأبي بكر الشاشي (ت ٥٠٧)، وصفه ابن الصلاح في «طبقات الشافعية» (١/ ٨٩ - ٩٠) بـ «المختصر المشهور».
(^٢). انظر: «إنباء الغمر» (٩/ ٢٤١) و«الضوء اللامع لأهل القرن التاسع» (٧/ ٣٠ - ٣٢)،
(^٣). «الضوء اللامع» (٧/ ٣٤) بتصرّف يسير لتوضيح أسماء الأعلام ووفياتهم.
المقدمة / 20
في المكتبة الأزهرية برقم (١٦٠٠)، وهو شرح مبسوط، ذكر في مقدّمته أنه اعتمد في شرحه على شروح الأربعين لنجم الدين الطوفي، وتاج الدين الفاكهاني، وابن فرح الأندلسي، مضيفًا إليه فوائد من «شرح مسلم» للنووي، و«المفهم» للقرطبي، ومن كتب أخرى كـ «شعب الإيمان» للبيهقي، و«الاستيعاب» لابن عبد البر، و«الشفا» للقاضي عياض.
وله أيضًا: تخريج الأربعين النووية، ذكره السخاوي في ترجمته للإمام النووي (ص ٤٩ - مخطوط في مكتبة زهير الشاويش الخاصة) (^١).
ولم أقف على من صرّح بوفاته غير صاحب «هدية العارفين» فإنه ذكر أنه توفي سنة ٨٠٣. والذي يمكن أن يقال من خلال ما ذكره السخاوي أنه توفي بعد ٨٠١، ولعله لم يلبث بعده كثيرًا، فقد جاء على طرّة النسخة الأزهرية «للدر الرصين» بعد ذكر اسم الكتاب واسم المؤلف: «من علماء أواخر القرن الثامن، نبَّه على ذلك كاتبه: أحمد عمر المحمصاني الأزهري».
والذي يظهر أن المجرّد لتهذيب السنن لابن القيم هو هذا الثاني، وذلك لقرائن:
١ - عنايته بالحديث أكثر من الأول.
٢ - أنه عُرف بالتأليف، والأول لم يذكروا له أيَّ تأليف.
٣ - أنه كان له عناية بمطالعة الشروحات الحديثية والنظر فيها على اختلاف مذاهب مؤلفيها، كما يظهر جليًّا من شرحه على الأربعين.
_________
(^١). وطبع المخطوط كما هو في دار البشائر الإسلامية بتقديم الشيخ محمد بن ناصر العجمي عام ١٤٣٧ هـ.
المقدمة / 21
٤ - أن المجرِّد ذكر في الخاتمة أن من فوائد ما قام به من التجريد: «تسهيل هذه الزيادات على الطلاب». وهذا يوحي بأنه تصدَّى للتدريس، وهو ما ورد في ترجمة السعودي الحنفي، بخلاف الأول فإنه كان مؤدِّبًا للأطفال يُقرئهم القرآن ويعلّمهم التجويد.
٥ - أن الأول ترجمته مبسوطة عند السخاوي في «الضوء اللامع»، فقد أخذ عنه هو وكثير من مشايخه، وأيضًا ذكره ابن حجر في «الإنباء»، فلو كان التجريد له لما خفي عليهما ذلك ولا فاته ذكرهما. بخلاف السعودي الحنفي، فإن السخاوي لم يُدركه، وترجمته مقتضبة جدًّا عنده، ولم يذكر فيها شرحه على الأربعين، وهذا كلُّه يدل على أنه لم يعرف تفاصيل حياته العلمية، فلا غرابة أن لا يكون وقف على تجريده.
* * * *
المقدمة / 22
أهمية الكتاب وقيمته العلمية
يكفي الكتاب أهمية أنه شرح لأحاديث خير البريّة محمد بن عبد الله ﷺ، وأن الذي قام بشرحها عالم محقِّق متبحِّر في العلوم والفنون. ولمّا كان «مختصر المنذري» تبعًا لأصل «السنن» مشتملًا على أبواب متفرقة من العلم من فقه وعقيدة وسلوك مع الكلام على الأحاديث الدالة عليها تصحيحًا وتعليلًا، فقد كان كتابنا مشتملًا على ذلك كله وإن برز في جانب الفقه والحديث باعتبار الكتاب أصلًا فيهما. ويمكن إبراز بعض جوانب قيمته العلمية في النقاط التالية:
- ما احتواه من ذكر علل الأحاديث والكلام عليها تصحيحًا وتضعيفًا. وفيه مواضع جليلة في الانتصار لطريقة أئمة الحديث في النقد والتعليل والتصحيح مع التنبيه على خطأ طريقة الفقهاء المتأخرين في عدم التفاتهم إلى العلل، كقوله في باب القضاء باليمين مع الشاهد (٢/ ٥٦٨): «والصواب في ذلك طريقة أئمة هذا الشأن العالمين به وبعلله، وهو النظر والتمهُّر في العلل، والنظر في الواقفين والرافعين والمرسلين والواصلين: أيّهم أكثر وأوثق وأخص بالشيخ وأعرف بحديثه، إلى غير ذلك من الأمور التي يجزمون معها بالعلة المؤثرة في موضع، وبانتفائها في موضع».
- تحرير المسائل المختلف فيها بين الفقهاء وذكر مآخذهم ومناقشة أدلّتهم، وقد نبه المؤلف نفسه إلى ذلك حيث قال في ختام بعض تلك البحوث (٢/ ٤٣٧): «فهذه نُكَت في هذه المسألة المُعْضِلة، لا تكاد توجد مجموعةً في كتاب».
المقدمة / 23