Tafsir Surah An-Nur
تفسير سورة النور
জনগুলি
سلسلة تفسير سورة النور [١]
إن دين الإسلام أقوم الأديان، وشريعته هي أوسط الشرائع، فقد جاء هذا الدين باليسر والتبشير، والله ﷿ بحكمته وعلمه جعل في هذا الدين حدودًا تصون المجتمع، حتى لا يتعدى حماه.
وبحفظ الحدود تحفظ الأعراض والأموال، وإن من العقوبات والحدود التي أقرت حفظًا للأعراض حد الزنا، لما لانتشار هذه الفاحشة من هتك للأعراض واختلاط للأنساب، لذا فقد رتب الله لهذه الجريمة حدًا يتناسب مع عظمها وخطورتها.
1 / 1
علم القرآن هو أفضل العلوم وأشرفها
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [القرقان:١] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء:٣٠]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه فجعله بشيرًا ونذيرًا، ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب:٤٦]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: الحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك، والحمد لله الذي جمعنا في بيت من بيوته على أشرف كلام وأكمل نظام، جعله الله ﷿ نورًا وطريقًا إلى رحمته ودار السلام، الحمد لله الذي جمعنا على القرآن، وألف بين قلوبنا بالقرآن، وهدانا إلى رحمته بالقرآن، فليس هناك مكان أشرف عند الله ﷿ من مكان تتلى فيه آيات الله، ولا زمان أفضل من زمان يقضى في بيان كتاب الله.
لذلك فإن العناية بكتاب الله ﷿ ومذاكرته وتفهُّم معانيه وترسُّم هديه، نعمة من الله ﵎.
ولذلك اصطلح العلماء ﵏ على تسمية هذا العلم بعلم التفسير، وإن عمَّموه قالوا: علم القرآن، وأرادوا بذلك العناية بكتاب الله ﷿ بمعرفة حدوده، والوقوف عند آياته وعظاته.
ومن ثم كان أشرف العلوم وأزكاها وأعلاها: علم تفسير كتاب الله بمعرفة حلاله وحرامه، ووعده ووعيده، وبشارته ونذارته، والوقوف على أحكامه، وتبين مسائله وشرائعه، فالعناية بذلك كله توفيقٌ من الله ﵎، ومنحةٌ وعطيةٌ من الله ﷾.
إن كتاب الله هو حبله المتين، وصراطه المبين، وحجته على الجاحدين، ومحجته المفضية إلى رضوانه المبين، إنه كتاب الله الذي تنشرح به الصدور، وتستنير به القلوب، فكم أدمع لله عيونًا، وكم أسهر من خشية الله ﷿ جفونًا، وكم أخشع لله قلوبًا، وكم أقام بين يدي الله أقدامًا، وكم أصبح من أجله العبادُ صيامًا، إنه كلام الله الذي هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، بيَّن الله ﷿ فيه الحلال والحرام، وجعله السبيل الوحيد إلى دار الكرامة والسلام، إنه كتاب الله الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، من ارتوى منه فقد ارتوى من المعين الصافي، ومن ارتوى من ذلك المعين فلا يضل ولا يشقى.
قال بعض السلف: ضَمِن الله ﷿ لمن قرأ كتابه، فأحل حلاله وحرم حرامه؛ أن لا يضل ولا يشقى، قال الله ﷿: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه:١٢٣] .
1 / 2
حال السلف مع القرآن
هذا الكتاب هو الذي بيننا وبين الله، من أحب هذا الكتاب واطمأن لآياته وعمل بعظاته، ووقف عند حدوده، بلَّغه الله ﷿ سعادة الدارين، وأصاب الفوز في الدارين، ولذلك لما علم السلف الصالح رحمة الله عليهم حقيقةَ العلم، استعصموا بهذا الكتاب بعد الله، واستمسكوا به، فكانوا به رهبان الليل، وفرسان النهار، ظمئوا من أجله بالهواجر، وقطعوا به الليل تسبيحًا وقرآنًا.
فإذا أراد الله بالعبد السعادة، وأراد أن يبلِّغه مرتبة الولاية: شرح صدره للقرآن، ونور قلبه بالقرآن، وجعله محبًا للقرآن، محبًا لتلاوته، محبًا لمعرفة أحكامه وحدوده، محبًا للعمل بما علم من ذلك القرآن، وقد أشار النبي ﵌ إلى هذا الفضل العظيم والمقام الكريم، فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فشهد ﵊ بأن خير العباد مَن تعلم كتاب الله، وعمل بما علم منه، وكذلك علمه للغير.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم على وعي كامل بهذه الحقيقة؛ فكان الرجل منهم يترسم كتاب الله ﷿ في ليله ونهاره في غيبته ومشهده؛ ففي غيبته عن الأنظار -خاليًا وحيدًا- يتلو كتاب الله بقلب يتدبره، وعين تخشع لآياته وتدمع من عظاته، وكذلك في المشهد على ملأٍ من الناس يفجر حكمه وأسراره، ويبيِّن أحكامه وأخباره؛ فلما كانت هذه أحوالهم رفع الله ﷿ شأنهم، وقذف في قلوب العباد محبتهم؛ فكانوا أهل القرآن، وكانت حياتهم مع القرآن ليلهم مع القرآن نهارهم مع القرآن، وأبت نفوسهم الأبية أن تخلِّف هذا الكتاب وراء الظهور حتى لقنوه صغارهم، وأدبوا عليه أطفالهم؛ فنشأ الصغير محبًا لكتاب الله، وترعرع الطفل على محبة كلام الله؛ فأصبحت قلوبهم معلقةً بهذا الكتاب، وأصبحت مساجدهم تعج بأصواتهم تلاوةً للقرآن وتفسيرًا.
وكل ذلك يدلنا على منزلة كلام الله عند عباد الله الأخيار، وصفوته الأبرار من سلف هذه الأمة الصالح.
ومن هنا نقول: لا صلاح للخلف إلا بترسم منهج السلف، كما قال الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس ﵀: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) .
1 / 3
هجر القرآن سبب الهوان على الله
فلما تنكب العباد عن هذا الهدي القويم، وحادوا عن هذا الصراط المستقيم، وأصبح كتاب الله مهجورًا، وتلاوته غرورًا، وأصبح الإنسان لا يعرف القرآن إلا بلسانه، أما العمل والتطبيق والتحقيق للغاية منه، والسير على هذا المنهج -منهج النبي والصحابة- فغائب عن واقع حياتنا.
ولما أصبحنا بهذه المثابة وتنكبنا عن صراط الله، وذهبت حلاوة القرآن من القلوب، وأصبح كثير من الناس لا يجد لكلام الله أثرًا، ولا يجد له لذة وعظةً في قلبه وفؤاده؛ صرنا إلى ما نحن فيه الآن.
من هنا علمنا أن الداء كل الداء، والبلاء كل البلاء في إعراضنا عن كتاب الله، وصدق الله ﷿ إذ يقول في محكم كتابه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه:١٢٤-١٢٦] .
إن أحَبُّ المجالس إلى الله مجلس يُعْمَر بكلام الله، وأطيب الحديث حديثٌ يذكَّر فيه بكلام الله.
ومن هنا أحببنا أن يكون هذا المجلس في تفسير كلام الله ﷿، وفي بيان ما اشتمل عليه هذا الكلام من نَظْم بديع، ومعنى رفيع، يهدي إلى صراط الله ﷿ المستقيم، وسبيله القويم.
أحببنا أن نتشرف بالتأسي بالسلف الصالح، فنُبَيِّنُ -ويُبَيَّنُ لنا- ما في هذا الكتاب من عظات، علها أن تكون سببًا لنا في القُرْب من رب الأرض والسماوات.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا المجلس خالصًا لوجهه، نافعًا يوم لقائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يوفقنا فيه لصلاح القول والعمل.
1 / 4
تفسير سورة النور
قد كنتُ أحب أن أبتدئ مباشرة بتفسير هذه السورة التي اخترناها -أعني: سورة النور- ولكني نظرت إلى الجمع وعلمت أن الكثير يحتاج إلى شيءٍ نمهد به لبيان هذه السورة، وبيان مكانتها ومنزلتها، بعد أن نبين فضل القرآن وفضل العناية به؛ فلذلك أحببت أن أقدم بهذه المقدمة، وقد كان من المقرر أن نتكلم على بعض الأمور المهمة التي ينبغي لكل طالب علم أن يعتني بها في تفسير كتاب الله ﷿؛ ولكني نظرتُ إلى الجمع ووجدت أن بيننا أناسًا لهم حق علينا، وأن ذكر هذه المسائل قد يشوش عليهم، فآثرت أن يكون الكلام على قواعد التفسير ومسائله وضوابطه عند العلماء ﵏ هو خاتمة سورة النور إن شاء الله تعالى.
وبعد أن ننتهي من تفسيرها بإذن الله ﷿، سنتكلم بإسهاب في قواعد التفسير وضوابطه عند سلف الأمة وخلفها رحمة الله على الجميع.
ونسأل الله ﷿ أن يمن علينا جميعًا بالتوفيق والسداد.
وإنما قدمت بهذه المقدمة لما رأيت معنا الكثير من العوام، والذين يحتاجون إلى أن يُذكَّروا بهذه الذكرى، وإلا كان من المقرر أن نبدأ مباشرة في التفسير.
وأنبه هنا على أمر: وهو أني كنت أحب أن يكون التفسير بذكر القراءات، وأوجه اللغات، والبسط في الأحكام والمسائل الفقهية، ولكني أخشى أيضًا التشويش على العامة.
ومن هنا إن شاء الله سيكون تفسيرنا بإذن الله وسطًا لطلاب العلم بحيث يكون كالبداية لطالب العلم؛ لأننا لا نحب أن يكون فيه تشويش على العامة، كما ورد في الأثر: (حدثوا الناس بما يعلمون) .
فإن شاء الله سيكون في هذا القدر حظ لطالب العلم، وللعامي حتى تكون الفائدة للجميع.
وسنبدأ إن شاء الله بسورة النور، وسيكون منهجنا بإذن الله ﷿ التركيز أكثر ما يكون على بيان العقيدة والأحكام الشرعية وما يتبع ذلك من الآداب.
1 / 5
تسمية سورة النور بهذا الاسم
سورة النور، هذه السورة العظيمة سميت بالنور لقول الله ﵎ فيها: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النور:٣٥]، وهذه التسمية لهذه السورة الكريمة إنما هي من باب تسمية الشيء بما ورد فيه، فتسمية سور القرآن بما ورد فيها من الحوادث، أو بما ورد فيها من الأحكام المهمة؛ وهو منهج موجود في كتاب الله ﷿ وسنة النبي ﷺ؛ ولذلك سميت بهذا الاسم لشرف الآية المذكورة، قال العلماء: إن تسمية السور بما ورد فيها يعتبر من باب الدلالة على ذلك الجزء المسمى به، سواء كان حكمًا، أو كان قصةً، أو كان خبرًا.
وهذه السورة مدنية بالإجماع، نزلت على النبي ﷺ في المدينة، والسور المدنية التي تمتاز ببيان الشرائع والأحكام.
1 / 6
خصوصية سورة النور في استفتاحها
استفتح الله ﵎ هذه السورة بتنبيه العباد إلى فضلها، وعلو مكانها ومنزلتها.
فقال جل من قائل بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحَيْمِ ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور:١] قد كان من عادة القرآن أن تُسْتَفتح السور فيه بمقاصده، ويذكر الله ﷿ فيها ما يذكره، ولكن هذه السورة خاصة استفتحها الله ﷿ بتنبيه العباد على عظيم شأنها، ولذلك اعتُبر من خصائص سورة النور أن الله ﷿ استفتحها ببيان فضلها، فهذه منزلة لسورة النور لم تشاركها فيها غيرها من سور القرآن.
1 / 7
مجمل الموضوعات التي تناولتها سورة النور
1 / 8
التحذير من اتباع خطوات الشيطان
ثم انتقلت الآيات إلى بيان أسباب الشرور والفتن والمحن كلها، وذلك في آيةٍ مشتملةٍ على وصية من الله، يقول الله ﷿ فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [النور:٢١]، فرَدَّ الأمور إلى أسبابها، وأقامها في نصابها، وبيَّن أنها بسبب تتبع الشيطان، وأن الإنسان لا يُبْلى بفاحشة ولا منكر إلى من طريقه.
1 / 9
بيان عظمة الله بذكر آياته في الكون
ثم مضت السورة إلى ما يتبع ذلك من بيان عظمة الله ﵎ وجلاله، فتحدثت عن آيات الله في الكون، فذكَّرت بآياته على الأرض، وذكرت بآياته في السماء، وذكَّرت بآياته بين السماء والأرض، حتى ذكّرت بالطير صافات، تسبح بحمد ربها، وتذكر خالقها، فحركت هذه الآيات من المؤمن أحاسيسه ووجدانه في طاعة الله ﷿ وذكره.
1 / 10
بيان شروط الاستئذان وآدابه
ثم انتقلت هذه الآيات بعد ذلك إلى بيوت المسلمين، فأدبت الصغير والكبير في الدخول والخروج، وأثبتت وجوب الاستئذان، وبيَّنت حدوده وزمانه، وبيَّنت البيوت التي يجب الاستئذان عند دخولها، والبيوت التي لا حرج في دخولها من دون استئذان.
ثم انتقلت الآية من مَعْلَمِ خير إلى مَعْلم خير آخر، حتى خُتِمت بالدلالة على عظمة الله، وبيان جلال الله ﵎.
وهذا كله بأسلوب رفيع، ونظم بديع، يذكر بالله العظيم السميع.
وبداية ومع هذه السورة الكريمة نسأل الله ﷿ أن يفتح علينا فيها فتوح العارفين به، وأن يلهمنا سداد القول والعمل.
والله تعالى أعلم.
1 / 11
النزول ببراءة عائشة ﵂
ثم بعد ذلك انتقلت هذه السورة الكريمة إلى قضية عظيمة عاشها أصحاب رسول الله ﷺ وعاشتها أم المؤمنين في أيام عصيبة، وليالٍ مؤلمة، لا يعلم ما بلغ بها من الهم والغم غير ربها، فقد عانت ولاقت ما لاقت حتى جعل الله لها فرجًا ومخرجًا، فجاءت هذه الآيات سلوانًا للمؤمنات، إذا قُذِفت المؤمنة وأوذيت في عرضها تذكرت بتلك الآيات أمها، فصَبَرت، وسَلَت وتعزَّت.
1 / 12
الدعوة إلى إقامة الحدود
وهذه السورة بيَّن الله ﵎ فيها جملة من الشرائع والأحكام، وبيَّن فيها آداب شريعة الإسلام، إذ بيَّن في مطلع هذه السورة الكريمة فضلها، وبعد آية واحدة من مطلعها؛ إذا بآياتها تفاجئك بحد من حدود الله وعقوبة من عقوباته التي كسر بها شوكة الفسق، وقطع بها دابر الفجور والعصيان، هذا الحد هو حد الزنا الذي صان الله ﷿ به أعراض المسلمين، وحفظ به بيوت عباده المؤمنين، فبين ﷾ وجوب حد الزنا، وبين مقداره ولزومه، وأوجب على العباد أن يقوموا به، ولا تأخذهم في الله لومة لائم في أداء ذلك الحد والقيام به على وجهه، وبعد تلك الآيات القصيرة في بيان هذا الحد العظيم، إذا به يستفتح بحد آخر وهو حد القذف الذي أدب به ألسن عباده المؤمنين، فصانهم عن قذف المؤمنين والمؤمنات، والتعرض لهم بالبهتان والزور، ونسبتهم إلى الغي والفجور، فابتدأ بحد القذف، فبيَّن الله ﵎ عقوبته، وحذر العباد من إصابته، ثم بيَّن ﷾ بعد ذلك حكم قذف الزوج لزوجته وهي الحالة التي قد يبتلى بها العبد، فيرى من زوجه ما يسوءه لا ما يسره، فيقف ذلك الموقف العصيب بين خيارات مؤلمة، وقفها بعض أصحاب رسول الله ﷺ، فجعل الله ﷿ لهم من ذلك الغم فرجًا، كما في الصحيح من حديث عويمر العجلاني ﵁ أنه قال: (يا رسول الله! إن قتل قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ) فجاءت هذه الآيات مبينةً لهذا الحد، ومبينةً للّعان الذي به يندفع الشر عن الزوج، ويُصان فراشه، ونسبه وعرضه.
1 / 13
تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون)
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ.
بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحَيْمِ.
﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:١-٣] .
1 / 14
معنى قوله تعالى: (لعلكم تذكرون)
لأن الإنسان يمر بثلاث مراحل مع كتاب الله ﷿: المرحلة الأولى: سماعه والإصغاء إليه.
والمرحلة الثانية: تدبره وتفهم معانيه.
والمرحلة الثالثة: العمل بمقتضى ذلك التدبر.
كما أشار الله ﵎ إلى ذلك بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:٣٧] .
1 / 15
معنى آية
قوله: ﴿آيَاتٍ﴾ [النور:١]: جمع آية، والآية في لغة العرب: العلامة.
وقوله: ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ [النور:١]: أي: بينة واضحة، والبينة في لغة العرب: هي الحجة والدليل الواضح، ومنه قول زهير في قصيدته: أضاءت فلم تغفر لها خلواتها فلاقت بيانًا عند آخر معهد دمًا عند شلوٍ تحجل الطير حوله وبضع لحام في إهاب مقدد فقوله (بيانًا): أي: وجدت علامة واضحة على فقد صغيرها؛ لأنه يتحدث عن دابة فَقَدَت صغيرها الذي افترسه السبع، فالمراد أن البينة هي العلامة والحجة الواضحة.
وقوله تعالى: (بَيِّنَاتٍ) أي: لا لبس فيها ولا غموض.
قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور:١]: لعل حرف ترج، أي على رجاء أن تتذكروا، الذِّكْر ضد الغفلة والنسيان، وذَكَرَ الشيءَ إذا استقر في ذهنه وفي ذاكرته، والمراد بالذكرى تأثرُ الإنسان بما يتلى عليه من كتاب الله ﷿، والذكرى هي المرحلة الثانية الداعية إلى العمل.
1 / 16
معنى أنزلناها وبيان علو الله ﷿
وفي قوله تعالى: ﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾ [النور:١]: نزل الشيء إذا انحط من مكان عالٍ إلى ما هو أسفل منه.
وفي قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) إشارة إلى مَن أنزل وإلى الشيء المنَزَّل، فالمُنْزِل هو الله، وعبَّر بضمير الجمع إشارة إلى التعظيم والتفخيم، والعرب تستخدم أسلوب الجمع أو ضمير الجمع للمفرد على سبيل التعظيم والتفخيم، فيقول الرجل المفرد: نحن فلان، أو نحن فعلنا، أو نحن قلنا، كل ذلك على سبيل التعظيم، والله خليقٌ بذلك، فهو المنزِّل ﷾.
والضمير الأخير في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) عائد إلى السورة، وفي هذا دليل على علو الله ﵎ وفوقيته على خلقه خلافًا لمن زعم رد الفوقية، ومذهبُ السلف الصالح رحمة الله عليهم: إثبات الفوقية لله لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله ﵎: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل:٥٠]، وهنا أشار إلى ذلك ضمنًا في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا)، كما أشار إلى هذه الصفة ضمنًا في قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:١٠]، والأحاديث في الدلالة على هذه الصفة مستفيضة واضحة.
1 / 17
معنى: (فرضناها)
وفي قوله ﷾: ﴿أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور:١]: (الواو) للعطف، أي: كما أنزلناها فرضناها، وفَرَضَ الشيءَ بمعنى أوجبه، وقيل: فَرَضَ بمعنى قَطَع، ومنه فرضة السهم.
وقوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبناها، وهناك قراءتان: - (فَرَّضْنَاهَا): بالتشديد.
- و(فَرَضْنَاهَا): بالتخفيف.
واختلف العلماء ﵏ في المعنى: فقيل: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبنا على العباد تحليل حلالها وتحريم حرامها، وهذا هو قول مجاهد بن جبر ﵀ تلميذ ابن عباس ﵄.
والقول الثاني في قوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: بيَّناها وأوضحناها، وهو قول عبد الله بن عباس ﵄.
وفي قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) أي: فرضنا على العباد علمها، وقد اختار بعض العلماء ﵏ الجمع بين المعنيين، وهو قول الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه، فقد اختار أن قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) المراد كلا الأمرين: أي أوجبنا على العباد إحلال حلالها وتحريم حرامها، وبيَّنَّا لهم فيها الأحكام والشرائع.
1 / 18
الفرق بين قوله: (أنزل) و(نزّل)
وفي قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [النور:١]: تارةً يعبِّر القرآنُ بـ (أنْزَل) وتارةً يعبِّر بـ (نَزَّل)، قال بعض العلماء: هناك فرق بين قوله تعالى: (أنْزَل) وبين قوله: (نَزَّل)، فإن عُبِّر بـ (أنْزَل)؛ فالمراد به نزول الشيء كاملًا، وإن عُبِّر بـ (نَزَّل)؛ فالمراد به تجزئة الشيء ونزوله نجمًا نجمًا.
وهذا هو اختيار طائفة من المحققين ﵏.
وقد أشار الله ﵎ إلى نزول القرآن جملةً كما في قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء:١٦٦]، فعبَّر بـ (أنزل) في الجملة، وأما في التفصيل فقال: ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾ [الإسراء:١٠٦]، فدل على أن (أنزل) للجميع، و(نَزَّل) للمنجم، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:١]، أي: أنزلناه كاملًا إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وهو اختيار طائفة من العلماء والسلف ﵏.
يقول تعالى: (وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) .
1 / 19
معاني السورة
يقول الله ﵎: ﴿سُوْرَةٌ أَنْزَلْنَاهَا﴾ [النور:١]: السورة -في لغة العرب- للعلماء فيها قولان: القول الأول: أنها مأخوذة من الارتفاع، ولذلك سُمِّي السور سورًا لارتفاعه عن الأرض، قالوا: سميت السورة سورة لارتفاعها وعلو منزلتها، ولأن القارئ إذا قرأها وحصَّلها حصل مرتبة لم يكن أصابها من قبل، والعرب تصف بالسورة المنزلة العالية والمقام الشريف، ومنه قول النابغة يمدح النعمان بن المنذر ملك الحيرة في قوله: ألم تر أن الله أعطاك سورةً ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذب أي: أعطاك منزلة عالية ومقامًا شريفًا.
والقول الثاني: أن السورة مأخوذة من السؤر، وسؤر الشيء بقيته وفضلته، ولذلك يقال: سؤر الدابة، أي: بقية شرابها، وأصل السؤر في لغة العرب: القطعة من الشيء، قالوا: سميت السور سورًا من هذا الوجه؛ لأنها قطعة من القرآن، ولأنها تقطع عن غيرها، وتفصل عن غيرها بالبسملة، وتصبح منفردة.
1 / 20