[الأعراف: 172] وبعدما نقضوا العهد الوثيق الذي من شأنه ألا ينقض لم يفزعوا ولم يتوجهوا إلى جبره ووصله، بل { ويقطعون } التوجه عن امتثال { مآ أمر الله به } في كتابه المنزل { أن يوصل } به ما نقض من عهده، ومع ذلك لا يقنعون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم، بل { ويفسدون في الأرض } بأنواع الفسادات السارية من إفساد واعتقاد الضعفاء، والبغض مع العرفاء الأنساء - وفي نسخة أخرى: ا لأمناء - والمخالفة مع الأنبياء والأولياء { أولئك } البعداء عن طريق التوحيد { هم الخسرون } [البقرة: 27] المقصورون على الخسران الكلي الذي لا خسران فوقه، أعاذنا الله من ذلك.
ثم استفهم سبحانه مخاطبا لهم، مستبعدا عما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكا لحمية الفطرة التي فطر الناس عليها، وتذكيرا لهم بالعهود التي عهدوا مع الله في استعدادتهم الأصلية بقوله:
{ كيف تكفرون } وتشركون { بالله } الذي قدر وجودكم في علمه السابق أراد إيجادكم { وكنتم أموتا فأحيكم } أظهركم من العدم بمد ظله عليكم، وبعدما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الأولى بأنواع النعم؛ لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها { ثم } بعد تربيتكم في النعم { يميتكم } يخرجكم من النشأة الأولى إظهارا لقدرته وقهره { ثم يحييكم } أيضا في النشأة الأخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الأولى { ثم } بعدما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل { إليه } لا إلى غيره من الأظلال { ترجعون } [البقرة: 28] إذ لا وجود للغير ليرجع إليه، فلا مرجع إلا هو ولا مآب بسواه، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.
[2.29-32]
{ هو الذي } جعلكم خلائف في الأرض وصوركم على صورته، وصيركم مظاهر جميع أوصافه وأسمائه و { خلق لكم } أي: قدر ودبر لكم { ما في الأرض جميعا } ما في العالم السفلي من آثار الأسماء والصفات تتميما لجسمانيتكم؛ لتتصرفوا فيها وتتنعموا بها متى شئتم { ثم } لما تم تقدير ما في العالم السفلي ترقى عنها و { استوى } توجه { إلى السمآء } إلى تقدير جميع ما في العالم العلوي { فسوهن } فهيأهن { سبع سموت } مطبقات مشتملات على ملائكة ذوي علوم ومعاملات، وعلى كواكب ذوي آثار كثيرة كلها من مقتضيات أسمائه وصفاته { و } لا يخفى عليه شيء مما في العالمين؛ إذ { هو بكل شيء عليم } البقرة: 29] لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ثم لما قدر لنوع الإنسان جميع ما في العالم العلوي والسفلي أشار إلى اصطفاء شخص من هذا النوع وانتخابه من بين الأشخاص؛ ليكون مظهرا جامعا لائقا لأمر الخلافة والنيات، فقال مخاطبا لنبيه، مذكرا له، مستحضرا إياه بقوله: { وإذ قال ربك } أي: استحضر أنت يا أكمل الرسل فذكر ممن تبعك وقت قول ربك { للملئكة } الذين هم مظاهر لطفه ومجالي جماله، لا يظهر عليهم أثر من آثار الجلال والقهر { إني } أريد أن أطالع ذاتي وألاحظ أسمائي وأوصافي على التفصيل، فأنا { جاعل في الأرض } أي: العالم السفلي { خليفة } مرآة مجلوة عن صداء الإمكان ورين التعلق؛ لأتجلى منها بجميع أوصافي وأسمائي حتى تعتدل خليفتي بأسمائي أخلاق من عليها وتصلح أحوالهم، وإذا شاور معهم قالوا في الجواب على مقتضى علمهم { قالوا } في الجواب على مقتضى علمهم من العالم السفلي الذي هو عالم الكون والفساد ومنزل الجدال والعناد: ما نرى في العالم السفلي إلا اللدد والعناد والمخاصمة المستمرة بين العباد والخروج من حدودك من سفك الدماء ونهب الأموال وسبي الذراري { أ } ن سلم ونجوز لك أن { تجعل } بعزتك وكبريائك مع أنا ننزهك عن جميع الرذائل خليفة لك نائبا عنك { فيها } في الأرض { من يفسد فيها } بأنواع الفسادات { و } خصوصا { يسفك الدمآء } المحرمة، وليس في وسعنا هذا التسليم، ولا نرى هذا الأمر لائقا بجلالك وعصمتك، وإن شئت بفضلك وجودك أن تصلح بينهم { و } تدبر أمرهم { نحن } أولى بإصلاحهم وتدبيرهم وحفظ حدودك الموضوعة فيهم؛ إذ { نسبح } نشتغل دائما { بحمدك } وثنائك على آلائك ونعمائك { ونقدس } به { لك } أي: ننزه ذاتك عن جميع ما يشعر بالعلل والأعراض فنحن أولى بأمر الخلافة والنيابة منه { قال } تعالى بلسان الجمع في جوابهم؛ إرشادا لهم وامتنانا لآدم: { إني أعلم } من آدم الذي هو مظهر ذاتي وجميع أسمائي { ما } أي: شيء من الجامعية { لا تعلمون } [البقرة: 30] أنتم لعدم جميعتكم.
ثم لما ادعى سبحانه استحقاقه للنيابة ولياقته للخلافة، وأجاب عن شبههم التي أوردوها إجمالا وأشار إلى تفصيل ما أجمل عليهم إرشادا لهم على مرتبة الجمع، وتنبيها على جلالة قدر المظهر الجامع فقال: { وعلم ءادم } سبحانه؛ أي: ذكره { الأسمآء } التي أودعها في ذاته وأوجد بها ما في العالم من الآثار البديعة { كلها } بحيث لا يبقى من الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة المتضادة شيء إلا ما استأثر به في غيبه { ثم عرضهم } الأسماء المودعة باعتبار مسمياتها وآثارها الظاهرة في الآفاق { على الملئكة } الذين يدعون الأولوية في أمر الخلافة { فقال } تعالى لهم مخاطبا على سبيل الإسكات والتبكيت: { أنبئوني } عن روية وبصيرة { بأسمآء هؤلاء } المسميات، وبأسباب هؤلاء الآثار والمسببات { إن كنتم صدقين } [البقرة: 31] في دعوى الأولوية والأحقية للنيابة، محقين في الاعتراض على آدم لا عن علم بحاله.
{ قالوا } مستوحشين من هذه الكلمات، معتذرين متذليين خائفين من عتابه تعالى، متذكرين عن سوء الأدب مع الله، مستحيين عن سؤالهم من فعله الذي لا يسأل عنه قائلين: { سبحنك } ننزهك من أن يعترض عليك ويسأل عن فعلك، ذلك الحكم في ملكوتك والتصرف في مقتضيات أسمائك، وإنما بسطنا معك الكلام لا لانبساطك بنا؛ إذ { لا علم لنآ } منها { إلا ما علمتنآ } بقدر استعداداتنا وقابلياتنا { إنك أنت العليم } بجميع الاستعدادات والقابليات { الحكيم } [البقرة: 32] بإقامته ما ينبغي لمن ينبغي بلا علل واعتراض.
[2.33-37]
ومتى اعترفوا بذنوبهم واعتذروا عن قصورهم وإجرامهم قبل الله عنهم عذرهم وتوبتهم، ثم أظهر عليهم الحكمة المقتضية لخلافة آدم - صلوات الله عليه - جبرا لانكسارهم ورفعا لحجابهم وامتنانا عليهم حيث: { قال يآءادم } المستجمع لجميع الأسماء المتخالفة { أنبئهم } عن خبرة وحضور { بأسمآئهم } المركوزة في هويتك عن هؤلاء المسميات المسببات المعروضة عليك المعبرة عنها بالعالم، ثم لما سمع آدم نداء ربه بادر إلى الجواب بمقتضى الوحي والإلهام الإلهي { فلمآ أنبأهم } بتوفيق الله وإلهامه ووحيه { بأسمآئهم } على التفصيل الذي أودعه الحق في ذاته؛ لأن المرأة تظهر جميع ما في الرائي، فلما سمعوا منه التفصيل واستخرجوا بإنبائه، وندموا عما صدر عنهم في حقه، وزادوا الاستحياء من الله وتوجهوا نحوه ساكتين نادمين حتى لطف معهم وأدركتهم الرحمة الواسعة، تكلم سبحانه معهم وخاطبهم مذكرا لهم عما جرى بينه وبينهم، ومستفهما لهم على وجه التأديب؛ لئلا يصدر عنهم أمثاله ولئلا يغتروا بعلومهم ومعامالاتهم، ولا يستحقروا مظاهر الحق، ولا ينظروا إليها بعين الاحتقار بل بنظر الاعتبار، ولا يتوهم إخفاء شيء من علم الله المحيط بالأشياء إحاطة حضور حيث { قال ألم أقل لكم } إجمالا أولا: { إني أعلم غيب السموت } أي: ما غاب عنهم في علم السماوات التي ادعيتم العلم بتفاصيل أحوالها { و } غيب { الأرض } التي قلتم فيها كلاما على التخمين وبحسب الظاهر { وأعلم } أيضا { ما تبدون وما كنتم تكتمون } [البقرة: 33] تظهرون في حق آدم باللسان ودعوى الاستقلال فيها والانحصار عليها.
অজানা পৃষ্ঠা