357

ثم لما أرسلوا واحدا منهم إلى البلدة فدخل على السوق، ودار حوق الطباخين واختار طبيخة زكية، وأخرج الدرهم؛ ليشتري الطعام، وكان عليه اسم دقيانوس، فاتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك، وكان الملك نصرانيا موحدا، فقص عليه القصة عن آخرها، فقال بعض الحضار: إن آباءنا قد أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملك وجميع أهل المدينة مؤمنهم وكفارهم، فأبصروهم وتكلموا معهم، ثم قال الفتية نستودعك الله، ونعيذك من شر الجن والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا، فدفنهم الملك، وبنى عليهم مسجدا.

[18.21-27]

{ و } كما أنمناهم نوما طويلا شبيها بالموت، ورحمناهم بتقلب من جانب إلى جانب وحفظناهم من حر الشمس وأنواع المؤذيات، وبعثناهم من نومهم بعث الموتى للحشر؛ ليزدادوا بصيرة وثقة على الله { كذلك أعثرنا } وأطعلنا { عليهم } وعلى من شاهد حالهم، وشهد قصتهم من المؤمنين { ليعلموا } ويتيقنوا { أن وعد الله } القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة لكل ما أراد وشاء { حق } ثابت لائق له أن ينجزه بلا خلفه { و } يتيقنوا خصوصا { أن الساعة } الموعودة التي وعدها الحق بألسنة جميع أنبيائه ورسله آتيه { لا ريب فيها } وارتفع نزاع الناس فيها، ببعث هؤلاء بعد ثلاثمائة وتسع سنين.

اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } المتعلق بدينهم في المحشر والمعاد الجسماني ؛ إذ القادر على حفظهم ورعايتهم في المدة المذكورة، وبعثهم بعدها قادر على إحياء عموم الموتى من قبورهم وإعادة الروح إلى أجسامهم؛ إذ أمثال هذا سهل يسير في جنب قدرة الله وإرادته، وبعدما بعثناهم من مراقدهم وأطلعنا الناس عليهم، فمضوا وتكلموا معهم، وحكوا ما حكوا، وأخبر القوم بمدة رقودهم، واستودعوا مع القوم ورجعوا إلى المراقد فماتوا وانقرضوا، فاختلف الناس في أمرهم، فقال المسلمون: هم منا لأنا موحدون، وقال الكافرون: بل هم منا لكونهم أولاد الكفار.

وبالجلمة: { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا } قال المسلمون: نحن نبني عليهم مسجدا، وقال الكافكرون نحن نبني عليهم كنسية، وكلا الفريقين ليسوا عالمين بكفرهم وإيامنهم، بل { ربهم } الذي رثاهم بأنواع التربية ورحمهم بأنواع الرحمة { أعلم بهم } وبحالهم فأمرهم موكول إلى الله مفوض إليه، ثم لما تمادى النزاع بينهم وتطاول جدالهم { قال الذين غلبوا على أمرهم } بالقدرة الحجة، وهم الموحدون المسلمون { لنتخذن } ونبنين { عليهم مسجدا } [الكهف: 21] نتوجه فيه لله، ونتبرك بهم ونجعله محل الحاجات وقضاء المناجاة، فاتخذوه وجعلوه مرجعا يرجع إليه الأقاصي والأداني.

ثم لما اختلف الخائضون في قصتهم في عددهم، ذكر سبحانه أقوالهم أولا، ثم بين ما هو أولى وأحق فقال: { سيقولون ثلاثة رابعهم } أي: مصيرهم أربعة { كلبهم ويقولون خمسة سادسهم } اي: مصيرهم ستة { كلبهم } كلا القولين، الأول قول اليهود، والثاني قول النصارى صدر عنهم { رجما } ورميا { بالغيب } إذ لا مستند لهم من التواريخ وقول الرسل { ويقولون } هم { سبعة وثامنهم } أي: مصيرهم ثماية { كلبهم } والواو وإن كان مقحما، أفاد توكيد لصوق الصفة بالموصوف وشدة اتصاله به، ليدل على صدقه ومطابقته، ومثله في القرآن كثير، منه قوله تعالى:

ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم

[الحجر: 4] وغير ذلك، وهي مثل الواو في قولهم: جاءني زيد ، ومعه ثوب.

هذا قول المؤمنين أخذوا من رسول الله، وهو من جبريل، وجبرائيل من الله سبحانه، فإن شكوا فيه أيضا ونسبوه إلى الرمي والتخمين { قلا } لهم يا أكمل الرسل: { ربي أعلم بعدتهم } إذ لا يعزب عن علمه شيء من أحوالهم من أول أمرهم إلى أخره؛ لأن علمه بمعلوماته حضوري، لا يغيب عنه أصلا وهم { ما يعلمهم } من أحوالهم { إلا قليل } بالأخبار والتواريخ، وأكثرها غير مطابق للواقع، ولما كان قولهم وعلمهم راجعا إلى الرجم والرمي بلا مستند { فلا تمار } ولا تجادل يا أكمل الرسل { فيهم } أي: في حق الفتية { إلا مرآء ظاهرا } أي: جدالا خفيفا مقتصرا على ما أوحينا إليك، لا متعمقا غليظا بأن تجهلهم وتسفههم، وتضحك من قولهم، وتنسبه إلى الخرافة الخرق.

{ و } أيضا { لا تستفت } ولا تسأل { فيهم } أي: في حق الفتية وأمرهم { منهم } أي: من أهل الكتاب { أحدا } [الكهف: 22] يعني: لا ستفت أحدا منهم عن قصتهم وشأنهم بعدما ظهر عليك أمرهم بالوحي؛ لأن استفتاءك بعد الوحي، إما سؤال تعنت وامتحان، فهو لا يليق بمرتبة الرسالة والنبوة، بعدي عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم اللازمة لمرتبة النبوة، وإما سؤال استعلام واسترشاد، فهم قاصرون عاجزون عنهها، مع أنه لا معنى للسؤال بعد الوحي.

অজানা পৃষ্ঠা