{ ولكم } أيها الموحدون المكاشفون بسرائر الشرائع والنواميس الإلهية الموضوعة بين المؤمنين في هذه النشأة خصوصا { في القصاص } المسقط للجرائم الصادرة من جوارحكم البادية عليها { حيوة } عظيمة حقيقية لكم في النشأة الأخرى؛ إذ لا يؤاخذون عليه بعد مؤاخذتكم في النشأة الأولى { يأولي الألباب } الناظرين بنور الحق في لب الأمور المعرضين عن قشوره { لعلكم تتقون } [البقرة: 179] رجاء أن تتحفظوا عن مقتضى القوى البهمية، المنافية لطريق التوحيد المبني على الاعتدال والوفاق، المؤدية إلى أمثال هذه الخبائث.
ثم قال سبحانه: { كتب عليكم } أيضا في دينكم أيها المؤمنون { إذا حضر أحدكم الموت } أي: أسبابه وأماراته { إن ترك خيرا } مالا كثيرا يقبل التجزئة والانقسام المعتد بها بلا تحريم الورثة { الوصية } أي: الحصة المستخرجة منها لرضاء الله، للفقراء المستحقين لها، وأفضل الوصية وأولاها الوصية { للوالدين والأقربين } إن كانوا مستحقين لها، وأيضا أفضلها الاستخراج { بالمعروف } المعتدل المستحسن بين الناس، بحيث لا يتجاوز عن ثلث المال؛ لئلا يؤدي إلى تحريم الورثة، وما فرض في الوصية في دينكم إلا { حقا } لازما { على المتقين } [البقرة: 180] الذين يحفظون إيمانهم وتوحيدهم بمحبة الفقراء ومودة ذوي القربى عما يضاده ويخالفه.
{ فمن بدله } غيره من الأوصياء والحضار الشاهدين عليها { بعد ما سمعه } من الموضي صريحا { فإنما إثمه } أي: إثم التبديل والتغيير { على } المبدلين المغيرين { الذين يبدلونه } ظلما وزورا { إن الله سميع } بأقولهم الموصي { عليم } [البقرة: 181] بما صدر من المبدلين المغيرين، فيجازي كلا منهم على مقتضى علمه.
{ فمن خاف } من الأوصياء والوكلاء { من موص } حين الوصية { جنفا أو إثما فأصلح بينهم } ميلا بعض المستحقين، سألهم على مقتضى علمه بأحوالهم { فلا إثم عليه } أي: على الوصي في هذا التبديل والتغيير، بل يرجى من الله بإصلاحه الثواب له ولمن أوصى إليه { إن الله } المطلع بحالمها { غفور رحيم } [البقرة: 182] لكل منهما.
[2.183-185]
ثم لما نبههم سبحانه بنبذ ما يتعلق بتهذيب ظاهرهم، أراد أن ينبههم على بعض ما يتعلق بتهذيب باطنهم فقال أيضا مناديا لهم: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم } في دينكم { الصيام } هو الإمساك المخصوص من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس في الشهر المعروف بلسان الشريعة، والإمساك المطلق والإعراض الكلي عما سوى الحق عند أولي النهى واليقين المستكشفين عن سرائر الأمور، المتحققين بها حسب المقدور { كما كتب على } أمم الأنبياء { الذين } خلوا { من قبلكم } وإنما فرض عليكم { لعلكم تتقون } [البقرة: 183] رجاء أن تحفظوا أنفسكم عن الإفراد في الأكل المميت للقلب المطفئ نيران العشق والمحبة الحقيقية.
وإذ فرض عليكم صوموا { أياما } قلائل { معدودات } هي شهر رمضان { فمن كان منكم } حين ورود شهر رمضان الذي فرض فيه الصيام { مريضا } مرضا يضره الصوم أو يعسر عليه { أو } حين وروده { على } جناح { سفر } مقدار مسافة مقدرة عند الفقهاء فأنظر { فعدة من أيام أخر } مساوية للأيام المفطرة، يجب على المفطر بلا كفارة { وعلى الذين يطيقونه } أي: الصوم، فيفطرونه مع أنهم ليسوا مرضى ولا مسافرين { فدية } هي { طعام مسكين } أي: فدية كل يوم من الأيام المفطرة من رضمان طعام واحد من المساكين { فمن تطوع } زاد في الفدية { خيرا } تبرعا زائدا مما كتب له { فهو } أي: ما زاد عليها { خير له } عند ربه يجزيه عليه زيادة جزاء { وأن تصوموا } أيها المؤمنون { خير لكم } من الفدية، وزيادة عليها متبرعا { إن كنتم تعلمون } [البقرة: 184] سرائر الإمساك والفوائد والعائدة منها إلى نفوسكم، من كسر الشهوة والتلقي على الطاعة والتوجه مع الفراعنة، هذا في بدء الإسلام، ثم نسخ بالآية ستذكر.
واعلموا أيها المؤمنون أن أفضل الشهور عند الله وأرفعها قدرا ومرتبة: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } أي: ابتداء نزوله أو نزل كله فيه، بل الك تب الأربعة كلها تنزل فيه على ما نقل في الحديث وكيف لا يكون أفضل الشهور، والحال أن القرآن النزل فيه { هدى للناس } المؤمنين بتوحيد الله المتوجهين نحو جنابه يهديهم إلى مرتبة اليقين { وبينات } شواهد وآيات واضحات { من الهدى } الموصل للمستكشفين عن سرائر التوحيد إلى مرتبة عين اليقين { والفرقان } الفارق لهم بين الحق الذي هو الوجود الإلهي، والباطل الذي هو الوجودات الكونية يوصلهم إلى مرتبة حق اليقين { فمن شهد } أدرك { منكم الشهر } المذكور مقيما مطيقا بلا عذر { فليصمه } ثلاثين يوما حتى بلا إفطار وإفداء؛ لأن هذه الآية ناسخة للآية السابقة.
{ ومن كان مريضا } لا يطيق على صومه خوفا من شدة مرضه { أو على } متن { سفر } فأفطر دفعا للحرج { فعدة من أيام أخر } أي: لزم عليه صيام أيام أخر قضاء لأيام الفطر إنما { يريد الله بكم } أيها المؤمنون { اليسر } لئلا يتحرجوا { ولا يريد بكم العسر } لئلا تضطروا وتضطربوا وإنما رخص لكم الإفطار في المرض والسفر { و } ألزم عليكم القضاء بعد { لتكملوا العدة } المفروضة لكم في كل سنة؛ لئلا تحرموا عن منافع الصوم { ولتكبروا الله } وتعظموه { على ما هداكم } إلى الرخص عند الاضطرار { ولعلكم تشكرون } [البقرة: 185] تتنبهون بشكر نعمه الفائضة عليكم في أمثال هذه المضائق إلى ذاته، أو يشكر نعمه تتقربون إليه.
[2.186-187]
অজানা পৃষ্ঠা